رواية الحب اولا الجزء الثاني 2 بقلم دهب عطية

رواية الحب اولا الجزء الثاني 2 بقلم دهب عطية


رواية الحب اولا الجزء الثاني 2 هى رواية من تأليف المؤلفة المميزة دهب عطية رواية الحب اولا الجزء الثاني 2 صدرت لاول مرة على فيسبوك الشهير رواية الحب اولا الجزء الثاني 2 حققت نجاحا كبيرا في موقع فيسبوك وايضا زاد البحث عنها في محرك البحث جوجل لذلك سنعرض لكم رواية الحب اولا الجزء الثاني 2

رواية الحب اولا بقلم دهب عطية

رواية الحب اولا الجزء الثاني 2

استيقظت في الصباح تنوي شرب الماء والعودة للفراش لتكمل نومها…….. لكن أثناء ذهابها للمطبخ
انتبهت لوجود سلطان في ردهة الشقة……
نظر لها سلطان وعقد حاجباه متراقباً هيئتها
بدهشة… فكانت اشبه بـالداب…. الكسلان والذي يقضي ساعات يومه في النوم وان خرج من جحرة يخرج مضطراً للبحث عن طعام او ماء…..
كانت مزالت بالمنامة القطنية منذ أمس… لكن شعرها
الان مشعث ويلتف حول وجهها يكاد يرى عينيها
المنتفخة آثار النوم… بصعوبة من حول خصلاتها الطويلة…. كانت تسير ببطء شديد اشبه بساحرة مشعوذة…….
هل فزعت من الشبح في الفيلم ليلة أمس…
يجب ان تنظر للمرآة بهذهِ الهيئة لربما
اتعظت !!…..
“لا حول ولا قوة الا بالله……”
تمتم بها وهو ينظر لوجه داليدا التي القت عليه نظرة
قانطة ثم اتجهت الى المطبخ بخطى متعثرة بطيئة…
لحق بها سلطان قائلاً…..
“داليدا اسمعي…….”
اوقفته داليدا بيدها بحركة تعني….
(انتظر…… صبرك بالله…..)
سند بكفه على الرخامة مراقبا الخطوة القادمة
منها…..
فتحت داليدا المبرد واخذت أول شيء قنينة ماء مثلجة وارتشفت منها مرة واحدة…..
ضيق سلطان عيناه متابع مايحدث بارتياع….
فوجدها تغلق القنينة وتلقيها في الدرج بمنتهى الإهمال الفوضوي المعروف عنها…. ثم سحبت
قنينة من المياة غازية وارتشفت منها رشفة
كبيرة….. جعلت سلطان يجفل وهو يعقب
مستهجنا….
“على الفكرة الحاجات دي غلط على الصبح…..”
اغلقت القنينة ونظرت اليه بضيق…ولم تتحدث
بل اكتفت بنفس الحركة بيدها والتي تعني….
(انتظر… صبرك بالله…..)…
رفع حاجبٍ وبالفعل انتظر الخطوة التالية حتى تتعطف الأميرة المدللة عليه وتطربه بصوتها
المائع كمشيتها…..
فعادت داليدا للمبرد المفتوح امامها وبحثت بعينيها
عن الطعام لتجد غايتها فبدأت تمد يداها الاثنين
بعشوائية داخل المبرد وتاخذ مايقابلها وتضعه في فمها سريعاً…
حتى امتلأت وجنتيها من الناحيتين ومزالت
تاكل بنهم……. وكانها كانت تعاني من المجاعة
ليلاً…….
“دا انتي لو شايلة اللوز خالص مش هتعملي
كده…….”
قالها سلطان وهو يشيح وجهه خارجاً من المطبخ مكتفي بهذا العرض الجبار……..
عاد الى الردهة يسحب مقعداً ويجلس عليه منتظراً
معاليها……
خرجت داليدا من المطبخ بعد لحظات وقد بدات تفيق من النوم بتدريج بعدما أكلت مايكفيها…..
ارجعت داليدا شعرها الطويل للخلف ومزال بيدها
قنينة صغيرة من المياة الغازية تشرب منها على
مهل عندما رأت سلطان ابتسمت له قائلة
برقة بعيدة كامل البعد عن المرأة التي
كانت تفترس الطعام منذ دقائق…
“صباح الخير ياسلطان……..”
زم سلطان شفتاه وهو ينظر الى شكلها والى ما تشربه…….
“صباحوو…….”
جلست داليدا على أحد المقاعد وثنة احد ساقيها اسفلها وهي تقول……
“مالك قرفان مني كدا ليه……..”
ضرب سلطان على ركبته متشدقاً بسخرية
مريرة……..
“قرفان…..حد يشوف الخلقة دي على الصبح ويقرف…..دا انا يابختي بيكي…..لا بجد
يابختي بيكي….”
حركت داليدا حدقتاها مشككه…..
“شمه ريحة تريقة من بعيد….بس على فكرة…انا مبحبش اتكلم الصبح قبل ما اغير ريقي باي حاجة……”
اوما براسه سائلاً…… “وغيرتي على كده…….”
اخذت رشفة من القنينة ثم قالت بجذلاً…..
“آآه كده تمام……صباح الخير…..رد بقا خليك
جدع…….”
هز سلطان راسه امام سوداويتاها الراجية… فدللها قائلاً بحنان…… “صباح النور يادودا…..حلو كده……”
لم تفارق الابتسامة شفتيها وهي تسأله…..
“أحلى صباح……قولي بقا منزلتش الشغل ليه…ولا
انا اللي صاحيه بدري……”
اجابها بهدوء……
“هنزل كمان شويه….عندي شغل برا……..”
نهضت داليدا متسائلة باهتمام……
“فطرت……..اعملك فطار معايا… ”
أبتسم سلطان ساخراً بغلاظة…..
“هو لو فيه فطار بعد اللي عملتيه جوا ده…
يبقا الحمدلله………اعملي… “ثم استرد
حديثه متعجباً………
“بس هو كل ده انتي لسه مفطرتيش……”
اكفهر وجه داليدا بقنوط…..
“انت هتنق عليا ولا اي ياسلطان……لسه مفطرتش..
بقولك بغير ريقي بس بالقمتين كده….”
القى سلطان عليها نظرة شاملة ثم
عقب هازئاً……
“هنق عليكي ليه…. هو أصلا باين عليكي حاجه… اللي يشوف جسمك ميصدقش ان انتي بتاكلي كل ده……..”
رفعت كفها في وجهه واجمة…..
“الله اكبر…. دا انت بتقر مش بتنق بس…. هغسل وشي واعملنا فطار……..”
اوقفها سلطان وهو ينظر لشعرها المشعث
بنفاذ صبر…..
“وسرحي شعرك ده……. متبقيش منكوشة كده قدامي………”
استدارت اليه داليدا قائلة بضجر……
“واي فيها يعني…. لما أكون منكوشة مش لازم تشوفني بكل حالاتي….اغشك يعني…. ”
هز راسه مستهنياً معلقاً…….
“فات وقته الكلام ده…. انا كده كده مغشوش
فيكي من زمان……..”
رفعت داليدا حاجباها مشدوهة ثم رفعت
انفها تستعيد الثقة في نفسها وهي تقول
بترفع أهوج………
“مغشوش؟!… بذمتك فيه في جمالي وفي
حلاوتي…..”
هز سلطان راسه مجيباً وعيناه على شعرها….
“بنكشه دي مفيش………”
“ههي….ظريف……..”اخرجت لسانها بضيق شديد ثم
ابتعدت الى الحمام…..
فضحك سلطان من خلفها وهز راسه بقنوط….
بعد نصف ساعة وضعت الطعام امامه على السفرة
والذي اغلبة كان معلبات…..لكن كالعادة بعد أول لقمتين سالته بحماسية مفرطه…..
“اي رأيك في الفطار…….”
نظر سلطان للطعام ثم لعينيها وادعى السعادة
والرضا التام……..
“ماشاءالله على الفطار وجمال الفطار وحلاوة الفطار……لا لا بجد تسلم إيدك انك فضيتي الجبنة
من العلبة وحطتيها في الطبق…….”
امتعضت داليدا وهي تشير على الاطباق
امامهما……
“على فكرة قطعت خيار شرايح….. وعملت
اومليت…..”
نظر لها سلطان بعدم فهم…..
“طب مانا قولت تسلم ايدك…. اقول إيه اكتر
من كده………..”
رمقته بطرف عينيها وهي تمضغ
اللقمة بغضب….
“انت أصلا بتتريق……”
اشار على نفسه مؤنباً إياها…..
“بذمتك انا اقدر اتريق عليكي……بس انتي اللي اسالتك غريبة دا فطار يعني مش محمر
ومشمر…….”
لم ترد عليه بل اشاحت بوجهها تمضغ الطعام
على مضص…….فمد سلطان يده لها بلقمة
غمسة بالجبن وقربها من فمها….قائلاً بمزاح….
“يلا افتحي بؤك خلينا نشوف القطر رايح فين…”
لوت داليدا شفتيها من زاويا واحده ناظرة اليه بسخط……فعاد سلطان أمراً بخشونة…..
“افتحي بؤك واستهدي بالله……مش ناقصين
نكد…….”
اخذت منه اللقمة على مضض قائلة
بتبرم…..
“بطل تعاملني كاني عيله صغيرة……..”
ابتسم سلطان مداعباً اياها بعيناه…..
“كبرتي يعني……..الله يرحم زمان مكنتيش بتقومي من على رجلي…ولازم أأكلك بايدي…..فاكرة…..”
احمرت وجنتيها عند تلك الذكرى فقالت….
“وفاكره كمان انك كنت علطول بتغلس عليا وتاكل اكلي…….”
اشار على نفسه بصدمة……. “انا………”
ذكرته داليدا بتبرم وبنظرة نارية……
“آه…….فاكر رغيف الحواوشي……اللي اكلته
مني قال اي حراق عليكي……..”
اكد بضحكة خشنة….. “ماهو كان فعلاً حراق…….”
وضعت اللقمة في فمها ومضغتها بضيق….
“واي فيها يعني مانا باكل الحراق……انت غريب
أوي………”
هز راسه ضاحكاً باستمتاع…. “قلبك أسود أوي…….”
حركت كتفها موضحة…. “عادي انا بفكرك بس…….”
ثم وضعت لقمة أخرى في فمها…واتسعت عينيها
فجأه متلألأة بشكلاً أسحر حواسه فانجذب لها
اكثر ليجدها تنظر اليه قائلة بتقريع……
“وفاكر يوم خطوبتك…..وزعوا على الكل جاتوة ونسيوا يدوني…ولما قولتلك قعدت تبرقلي بعنيك…”
تعثر سلطان في ضحكة مفاجاة وهو يبراء
حالة…..
“مانتي جايه تقوليلي قدام ام العروسة وبنتها
عايزاني ارد عليكي إزاي…..”
ثم استرد حديثه متذكراً احداث تلك
الليلة………
“وبعدين واحنا راجعين جبتلك علبة جاتوة
بحالها وكلتيها لوحدك……..بتاكلي وتنكري ليه…. ”
اومات داليدا براسها مستعدة لاخراج
كل الملفات السوداء للإدانة به…..
“طب بلاش دي…..يوم ماخدتها وخرجتم روحت السينما….وانا وجنة كنا معاكم جبتلها البوب
كورن حجم كبير وانا وجنة حجم صغير…….”
رد ببساطه وهو يتابع تناول فطورة شاعراً
باللذة جوارها…..”عشان كنت باكل معاها……”
“يسلام…..عملي فيها رومانسي……”اسبلت داليدا
اهدابها مضيفة بنزق…….
“أصلا مكانتش حلوة ودمها تقيل……”
ضيق سلطام حاجباه مذكرها بلؤم…..
“تقريباً كانت صاحبتك وانتي اللي اخترتهالي…….”
ردت عليه بابتسامة متشفية……
“آآه انا اللي اخترتها…..بس انا من الاول عارفه انكم
مش هتكملوا…….”
وبخها سلطان بنبرة خشنة……
“واختارتيها ليه من الأول ….وعملتلي فيها الخطبة
ويبخت من وفق راسين في الحلال…… ”
ابتسمت داليدا بهزل وهي تنظر اليه……
“اللي حصل……شوف في الآخر بقيت فين
مراتك……..عمر جه في بالك اني اكون مراتك….”
هز راسه بنفي وهو يقول بصوتٍ أجش……
“ولا في احلامي……..حكايتنا دي بتحصل كل مية سنة مرة………”
اندمجت معه في الحديث مؤكدة بجدية…
“الحكايات اللي من نوع ده بتخوف صح…يعني
البداية مش بمزاجك…..بس ممكن النهاية تكون بمزاجك……….”
“مش فاهم……..”رفع راسه اليه منتظر توضيح….
فطرحت هي سؤالٍ يحير كلاهما منذ البداية……
“يعني……احنا هنكمل مع بعض صح…….هنكمل
كده علطول……..”
أجاب هو مؤكداً بنظرة قوية ونبرة
معبرة……
“اه احنا هنكمل علطول……بس اكيد مش هنكمل كده…….”
سالته داليدا بتردد….. “مش فاهمه……..”
بنظرة اشد خطورة اوقع قلبها اسفلها…..
“لا هي وصلالك…..بس انتي مش عايزة تفهميها….”
نهض سلطان من مكانه….. شاعراً بان معدته اكتفت
بهذا القدر من الطعام والحديث………
عندما ابتعد عدة خطوات امام عينيها الحزينتين
اوقفته مناديه……
“سلطان…..”
وقف سلطان يوليها ظهره ومالى للجهة الأخرى
ينظر لها من فوق اكتافه العريضة…….فقالت
هي بنبرة تقطر مراراً كالعلقم……….
“لو مع الأيام اكتشفت…. ان احنا مختلفين عن بعض في حاجات كتير…ومش قادرين نفهم بعض….بسبب
فرق السن والتفكير……..هتعمل إيه…. هتقرر تكمل برضو حتى لو احنا مش مبسوطين سوا……”
استدار عند تلك النقطة ناظراً لعمق
عينيها….سائلا بنبرة غريبة….
“انتي هيكون اي قرارك……… هتكملي…..”
هزت راسها سريعاً بحسم……. “أكيد لا……..”
اوما هو براسه مجيباً بحسماً يضاهيها…..
“بس انا بقا هكمل حتى لو انتي مش عايزة
تكملي…..”
تجمدت مكانها غير مستوعبة بعد وضعها
الحالي……..فاقترب هو منها مذكرها بمنتهى
القسوة………
“انتي ناسيه انا اتجوزتك ليه…… عشان تبقي تحت عيني…….مسئولة مني……..عشان احميكي من
نفسك…….”
خفق قلبها بوجع واهتزت حدقتاها وهي تقول
بغصة مختنقة……..
“قصدك اني مضطرة اقبل بالحياة دي…. حتى لو
احنا مش مبسوطين سوا…. ومش بنحب بعض….”
لماذا شعر بوخزة شديدة تداهم صدره بعد
اخر جملة لها وكانه سهم ناري أصابه……فاتكأ
على اسنانه يصرح بصعوبة…….
“ايوا ياداليدا مضطرة تقبلي…..انتي اللي اختارتي الحياة دي……. ”
رفعت سبابتها بتشنج امام عيناه
صائحة باهتياج…….
“غلطه واحده….. غلطة واحدة هدفع تمنها العمر كله……..غلطه واحدة…… ”
اظلمت ملامح سلطان وظل ينظر اليها بصمت ولم يبدي اي رايا في حديثها….فأحمر وجهها من شدة الغضب مضيفة
“طب بلاش…… انت إزاي هتكمل كده معايا….. يعني
انت راجل اكيد محتاج ست بجد تشاركك حياتك صح… وتديك حقوقك الشرعيه……وتكون ام
لاولادك…. ”
صحح سلطان بخشونةٍ……..
“وليه مخدشي حقوقي الشرعيه منك انتي…..”
انطلق رفضها في وجهه كرصاصة
طائشة…..
“مستحيل….. لاني مش بحبك…….”
بابتسامة باردة لم تصل لعيناه اجابها……
“عارف…. ولا انا بحبك…… بس الحاجات دي مش شرط خالص يكون فيها حب……”
عقدة ساعديها امام صدرها قائلة
بقوة…….
“آسفه وانا مقدرش اعمل كده من غير حب……”
سخر سلطان من تلك المشاعر الوردية
الحالمة….
“لسه بعد كله اللي حصلك بتفكري في الحب.. محرمتيش…….”
رفعت عينيها للأعلى بجزع….
“انت ليه مش فاهمني ياسلطان……”
هز هو راسه بملامح جامدة……
“انتي اللي مش فاهمه انتي عايزة إيه…..”
ثم بنظرة ثاقبة تابع بصرامة……
“بس انا هريحك….. بنسبة اني راجل ومحتاج ست في حياتي………وانك متقدريش تديني حقوقي الشرعيه……. فانا يوم ما افكر في ده…. هاتجه
لأبسط الحلول…… بنسبالي……..”
اعطاته كل تركيزها متوجسة… “اللي هي ؟…….”
بأجابة قاطعة…….. “اتجوز…….”
وكان دلوٍ من الماء البارد هبط فوق رأسها…فظلت
لفترةٍ تنظر اليه بعدم تصديق…….حتى تمتمت
متسائلة بعيون غير مستوعبه بعد………
“والله ؟!……تجوز !!…..”
هز راسه ببساطه…..وفي عيناه نظرة المتشفي
وكانه نال منها بهذا الجواب……..
فارة الدماء في عروقها…..وتوهجة سودوايتاها
ببريق مخيف نحوه صارخة باعصاب مشدودة……
“يعني انت تتجوز عليا….. وتعيش حياتك…. وتخلف
وتفرح وتنبسط….. وانا افضل كده..زي البيت الواقف
محبوسة بين أربع حيطان…. المهم اكفر عن ذنبي…”
جنت بشدة وعلى هدير انفاسها متابعة…..
“ذنبي اللي هو إيه….. اني هربت مع اللي بحبه…”
اشتعلت عينا سلطان فصرخ بها يرهبها…..
“اخرسي ياداليدا…..”
هزت داليدا راسها ونزلت دموعها ولا تعرف
لماذا كل هذا الغضب انتابها في لحظة بعد
تصريحة السخيف عن الزواج من أخرى….
“مش هخرس….. زي مانت بتكلم بكل بساطه
كده معايا عن جوازك من واحده تانيه….واني
هفضل في السجن ده مدى الحياة…. انا كمان هتكلم عن الظلم والافترى اللي بعيشه بس عشان هربت مع اللي بحبه…… انا مش ندمانه ياسلطان….”
لا تعرف ماذا تفعل انها تستفزة كي
يضربها……
تابعت داليدا وهي تبكي بحرقة…..
“لانه مأذنيش…….. انت واهلي اللي أذتوني….”
لوحت بيدها بعصبية والدموع تتسابق على
وجنتيها…..
“انتوا غصبتوني على الجواز……وبقيت معاك غصب عني…. قبلت وسكت وفضلت في السجن ده… أسلوبك معايا زي الزفت…….. تحكمات وشخط
ونطر….. دا ميتلبسش وده يتلبس….تبهدلني
وتزعقلي وتعمل مابدالك وفي الآخر ترضيني
بحاجة حلوة زي العيال………”
“داليدا…….”حذرها سلطان بعينين قاسيتين….فلم
تهابه وقاطعته وهي ترفع اصبعها بتهديد صريح
وعينين تشتعل بجنون……..
“أسمع…. لو في يوم فكرت تجوز عليا انا هقتلك
وهقتل نفسي بعديك سامع…..”
رجع سلطان براسه للخلف غير مصدقاً…..
فتابعت داليدا ببطئ شديد وهي تقترب منه خطوة أخرى وتشير له باصبعها مهددة…….
“مش انا اللي يبقالها ضرة…..وانسى ان حد يشاركني فيك…..ودا مش حب…. دي كرامتي وبحافظ
عليها…… منك…….”
لم يعقب سلطان بل ظل ينظر اليها عن كثب…….
انفعالها الظاهري المرسوم على وجهها….انفاسها المتسرعة من الغضب….ونظرات عينيها النارية..
ورغم الغضب المتأجج داخل صدره بسبب
حديثها……
مد سلطان يده ومسح دموعها قائلاً
برفق….
“اهدي…….كفاية عياط……..”
ضربة داليدا يده وهي تبتعد عنه بنفور قائلة
بدموع حبيسة في حدقتاها…..
“عايز تجوز الباب مفتوح روح اتجوز…….مش همنعك…… ”
ثم دلفت الى غرفتها تختبئ خلف بابها….فنظر سلطان لما حدث مرتابٍ…….تلك هي أول ساعات الصباح التي انتظرها معها !!…….
…………………………………………………………..
كانت تطهو الطعام بذهن شارد……تقلب الطعام في المقلى بالمعلقة الخشبية ثم تفرغ محتواه في أحد
الطواجن ولم تنتبه للمرة المائه وحرقة اصبعها
مجدداً….
فالقت المقلى في الحوض بضيق وهي تضع يدها تحت صنبور المياة الباردة متاففة بألم……..
اتت عليها خلود بعد ان انتبهت لما حدث فوقفت جوارها تسألها بحيرة….
“مالك ياشهد….. مش مظبوطه النهاردة يعني….”
هزت شهد راسها بنفياً….
“ولا حاجة ياخلود…… عادي……”
سالتها خلود بدهشةٍ….
“عادي ازاي انتي مش معايا……. علطول سرحانه حتى وانتي بتطبخي كام مرة حرقتي إيدك…..”
مسكت خلود يدها فوجدت حروق متفرقة في كفها
الأيمن وخصوصا عند الأصابع……..
“معندناش هنا مرهم حروق……..”
قالت شهد بتململ……
“مش مستاهله ياخلود………مش وجعاني…..”
نظرت لها خلود بحنق ثم عادت لكفها
المفرود……..
“ياشيخه اتقي الله…… ايدك كلها ملسوعة… شايفه
احمرت إزاي…….”
“شايفه…..بس مش وجعاني……”قالتها شهد بنبرة
غريبة تثير الشك مما جعل صديقتها تسالها مجدداً
بقلق ملموس………
“مالك ياشهد….انتي مش طبيعيه النهاردة…احكيلي
دا احنا صحاب……”
نظرة لعينا خلود ثم قالت بنبرة مثقلة
بالهموم….
“عاصم…….عايز يتجوزني ياخلود…….”
تهلل وجه خلود فرحاً…….
“ياختي ودا يخليكي تعملي في نفسك كده…
يا اختي يالف نهار أبيض…….”رفعت خلود يدها بجذلاً فاوقتها شهد بصدمة…….
“هتعملي إيه……”
اجابتها على الفور بسعادة بالغة….
“هزغرط…..دا يوم المُنى……..”
امتنعت شهد وهي تخبرها
بمخاوفها…..
“انا مش مطمنه ياخلود……مش مرتاحة……”
انزلت خلود يدها مستفسرة بحيرةٍ…….
“ليه بقا كفى الله الشر………هو المعلم عاصم يترفض..
دا بسم الله ماشاء الله…..جمال واخلاق ومال…عايزه
ايه اكتر من كده…….”
اجابة بتيه…… “شغلي ياخلود….. حياتي……”
لكزتها خلود موبخه إياها…….
“اي حياة دي….. متضحكيش على نفسك ياشهد…
دا انتي من يوم ماوعيتي على الدنيا… وانتي شايله
همك وهم اخواتك…….” ثم مصمصت بشفتيها
بطريقة شعبية اصيلة وهي تضيف بتحسر…..
“وبعدين شغل ايه اللي ماسكه فيه اوي ده…. هو المطعم بيجيب اي يعني……. اللي هتكسبيه من
المطعم بعد شقى ومرمطه هتلاقيها تحت
رجلك بعد ماتبقي مرات عاصم الصاوي…..”
تعجبت شهد معلقة باستهجان…..
“وانا بقا هتجوزه عشان فلوسه……انتي شيفاني كده…… ”
ارتفع حاجب خلود معارضة……
“امرك عجيب ياشهد….ياختي هي الواحده لم تجوز
واحد مقتدر تبقا طمعانه فيه وعايزة تسرقة……….”
تلجلجت شهد موضحة……
“انا مقولتش كده……بس انا مش عايزة دا يكون السبب اني اوفق عليها……..”
اكدت خلود بفطنة ضاحكة……
“دا سبب…والسبب الأهم انك ميالة ليه وهو كمان
شكله واقع لشوشته………ياختي انا مش عارفة
اي اللي قلقك اوي كده……”
افصحت شهد متوجسةٍ…….
“حاجات كتير……انا معرفوش ياخلود….معرفوش كويس……وحتة انه مستواه أعلى مني دي مش
مطمناني….. بالعكس دنيا جديدة وحياة جديدة
تخوف……… حتى طلقته واختها…… كل حاجة
حوليه مش مطمناني…..”
سالته خلود بدهاءٍ أنثوي…..
“طب و بنسبة لقلبك……مياله ليه ولا عادي……”
نظرة لخلود لبرهةٍ ثم قالت….. “مش عارفه……..”
ابتسمت خلود ساخرة…….
“إزاي مش عارفه بصي لنفسك في المرايه…هتعرفي
انك وقعتي…….وقعتي ياشهد……”
صمتت شهد من جديد شاردة…….فقالت خلود
بضحكة خبيثة……..
“الكلام خدنا….انا هروح اجبلك كريم للحروق…
عشان تعالجي ايدك دي……..”
خرجت خلود وتركتها في حيرتها….فوقفت مكانها للحظات…..هل حقاً وقعت في الحب….ام مزالت على
وشك السقوط……….هل هي على الحافة……ام انها
تتوارى عن الخطر………
حانت منها نظرة على مرآة الموقد الكهربائي…لتجد
وجهها شاحب ووجنتيها متوهجتين…….ام هاتين العسليتين هائمتين ضائعتين في عالم آخر….عالم خطفها اليه عنوة عنها ومزالت تأبى الاعتراف بانها أسيرة هذا العالم…….اسيرة عالمه !………..
……………………………………………………………
في المساء….تجمع الجميع على سفرة الطعام….
جلس والدهم على رأس الطاولة……..ام حمزة
بجواره على الناحية الأخرى وشقيقتيه بجواره
كذلك……وقمر تجلس وحيدة في الناحية الأخرى امام حمزة…………
نظر عثمان الى شهد عدة مرات…….فوجدها صامته
تقلب في طبقها بشرود…..
مضغ الطعام بقوة وهو يحرك حدقتاه الى كيان
التي تاكل بشكلاً طبيعي بهدوء….متجاهلة وجوده كالعادة….
رجعت عيناه الى شهد فوجدها على حالها فعاد
الى حمزة الجالس بجواره…..فوجده يقلب في
طبقه عابس الوجه شارداً الذهن…….
فحانت من عثمان نظرة أخيرة على قمر التي كانت
تأكل بحرج وعيناها في أغلب الأوقات تقع على
حمزة دون إرادة منها……
فابتسم عثمان ابتسامة سميكة….وهو يعود
بعيناه الى شهد من جديد قاطعاً الصمت
بسؤالٍ فاتر……
“واي اخبار المطعم ياشهد……..”
ارتفعت الأعين جميعها اليه محدقة به……حتى شهد نظرت اليه بتعجب…….فقال هو بإبتسامة حانية تتناقض مع شخصٍ مثله……..
“إيه….فكراني مش عارف انك فاتحة مطعم في شارع الصاوي……..”
بلعت شهد ريقها شاعره بشيء يطبق على انفاسها
يكاد يخنقها كلما نظرة لعيناه القاسية…..
انها ترى عزرائيل……مهما ادعى غير ذلك يظل
عزرائيل الدنيا بنسبة لها……
فإن العيون كالستار المكشوف….تكشف خواطرنا…
مهما أتقنا الدور……وهو بارع في الخداع لكن
عيناه متناقضتين فالقسوة تشتعل كالجمار
الملتهبة في حدقتاه……….
ردت شهد بهدوء…..
“المطعم شغال كويس الحمدلله…….”
سالها عثمان بنبرة تفوح منها
الحقد……
“وبتكسبي كويس على كده……..”
اومات برأسها وهي تشعر بالاختناق…..
“آآه…….لو دي بس البدايه يبقا انا بكسب كويس
اوي……الحمدلله……….”
لفظ عثمان بنبرة جافة…….. “وعاصم…………..”
نظر الجميع له بدهشة أكبر….وقد برزت خطوط الغضب على وجه حمزة وهو يضيق عيناه بشك
بعد سؤال والده………
رغم اضطرابها الظاهري الا انها ادعت
عدم الفهم……. “مش فاهمه……..”
فلانت شفتا عثمان بلؤم……….
“عاصم الصاوي اللي مأجرة منه المطعم…..اي اخباره
معاكي……..”
ردت شهد بسلاسة…..
“بنسبة للشغل تمام…….مفيش مشاكل…….”
سالها دون مواربة…….. “وبرا الشغل……….”
نظر حمزة لاخته بقوة فاهتزت حدقتيها مبررة
له………لتتابع الرد على والدها الذي يحدق بها
بهيمنة مهينة……..
“مفيش بينا كلام برا الشغل…….”
سالها عثمان بنبرة تفوح منها
الشك…. “متاكدة………”
قبض حمزة على كفه محاولاً تمالك اعصابة
حتى لا يقلب الطاولة عليهم جميعاً…….
فسالته شهد مستفسرة……
“في حاجة انت عارفها ومش عايز تقولها……”
عاد حمزة لوالده منتظر اجابته على أحر من
الجمر…..
فنظر عثمان لشهد للثوانٍ كانت أطول من عمراً
مر أمامها…… تشعر بالاختناق وألم يداهم
امعائها……
فابتسم عثمان ساخراً….وهو يبعد عيناه
عنها الى قمر التي كانت تتابع بصمت
واغلب تركيزها كان الى حمزة وانفعاله
الواضح……
“واي اخبارك ياقمر…..مرتاحة هنا…….”
اهتزت حدقتي قمر وقبل ان تبعد عيناها
عن حمزة نظر هو لها….وكانه انتبه لوجودها
بينهم الآن……فقالت بهدوء
“الحمدلله ياخالي….بس انا كنت…..عايزه اعرف هنقاعد امتى عشان نشوف موضوع الأوراق
والورث……..”
أردف عثمان بتفهم شديد……بنسبة لأبناءه
مريب !!…
“قريب…..حضريلي انتي بس صورة من الأوراق
عشان اوريها للمحامي بتاعي….ساعتها بقا هنقعد
معاه ونفهم كل حاجة……..”
قالت قمر بارتياح….
“تمام ياخالي……هبقا احضرهم…….”
نهض عثمان من مكانه امراً باحضر فنجان قهوة
الى غرفته فكانت قمر المتطوعة باعداده واحضاره له…….
زفرة شهد بعد ابتعد ابيها….وقمر…….فسالها حمزة
بشكٍ……..
“في اي ياشهد…..ابوكي يقصد إيه بالكلام ده…..”
هزت شهد كتفها…… “معرفش……..”
لم يقتنع حمزة بل سالها من بين اسنانه
المطبق عليها……
“شهد في حاجة بينك وبين عاصم……..”
امام نظرات اخيها الغاضبة…. ونظرة كيان التي
تتابع مايحدث بارتياب…… قالت مستسلمة لهذا
الخبر الحصري……….. “عاصم عايز يتجوزني………”
انقلبت ملامح حمزة بدهشة مشبعة
بالحنق الشديد…”إيه ؟!….. يتجوزك !!…….”
اما كيان فأنبسطت اساريرها هاتفه
بفرح…….
“بتهزري…..بجد هو قالك كده………”
………………………………………………………….
بعد مرور يومين………كانت تستلقي ليلاً على الفراش في غرفتها وحيدة……
تنظر للسقف في الظلام وعقلها مشغول به…… غيابة ليومين بعيداً عن عينيها أمراً مزعج يولد الشوق واللهفة اليه مشاعر لا تحبذها……..ومزالت تنكرها…
حتى الان لا تعرف هل هي موافقة على هذا الارتباط
ام انها ستقابل طلبه بالرفض…….
وماذا ان حزن منها وابتعد اكثر عنها ؟…..
يالهي !!…..
أصبحتِ تخشي عليه من الحزن……. او الغضب
منكِ……هل حقاً مازلتِ على الحافة ولم تنهاري
وتسقطِ ؟!……….
صدح هاتفها في تلك الأوقات فجن قلبها بين ضلوعها…..هو بدون شك……
وعدها ان يبتعد عنها ويعطيها فرصة للتفكير في ارتباطهما ثم يسمع ردها عبر الهاتف…. وفى بعهده
وها هو يتصل بها الان…….
اضاءة المصباح جوارها……. ثم نهضت عن الفراش
تغلق بابها بالمفتاح……ثم عادت للفراش جالسة
والهاتف في يدها والشاشة تنير باسمه…..
متردده بالرد……حتى انتهى الإتصال…فعضت على شفتها منتظرة مرة أخرى…..فلم يعاود الإتصال
فشعرت بالاحباط والقت جسدها على الفراش
زافرة بأسى……فعاد الهاتف ينير باسمه من
جديد….
فانتفضت جالسة تفتح الخط وهي تتنحنح
بهدوء قائلة…….
“السلام عليكم……..”
لم تجد رداً لم يقابلها الا الصمت على الجهة
الاخرى فبللت شفتيها مردده بهدوء…..
“الو……..عاصم…….”
(شــهــد………)
لحناً اخر يعزف على حروف اسمها عندما ينطقها
بهذا الشكل……كيف يشبع حروفها الثلاثة بتلك الطريقة المميزة…..وكانه يعرف اهميتهم معاً….
يالهي أرحم فؤادي ياسيدي…..فانا وقلبي عذارى
في الهوى………
اتى صوته الأجش مجدداً يطرب اذانها ويسرق
انفاسها……واخيراً يسلب قلبها…….
(وحشتيني……)
اغمضت عينيها ورجفةٍ لذيذة تتخلل اصولها……
(شــهــد……مش هتردي عليا……..ساكته ليه…)
وهل ان قادرة على مواكبة كلامك ورد بالمثل…..
“عامل إيه……..”
من الغباء قولها الآن لكن هي لا تجد غيرها بديل….
سمعت منه صوت تنهيدة خشنة…… وهو
يجيب بهدوء….
(الحمدلله…. وانتي عامله اي من غيري…….)
ضائعة…… وكأنك القيت عليا سحرٍ أسود جعل
مني أمرأه بلا مذاق من دونك……….
“الحمدلله….. تمام……..”
لم يعقب فهو يعلم انها اصعب أمرأه تعامل معها
يوماً والقدر جعله مغرماً بها……
(احكيلي……حصل اي معاكي في اليومين دول…)
رمشت بعينيها عدت مرات ظنت انه سيأخذ قرارها
الأخير في ارتباطهما…….لكنه قرر تأجيل الأمر
لذا ردت عليه بفتور…….
“عادي يعني……زي كل يوم شغل واردرات….
وزباين داخله وزباين خارجه….”
سالها بخشونة…….(حد ضايقك…..)
ردت بثقة…… “لا طبعاً…محدش يقدر……..”
سالها عابسا…….(ليه محدش يقدر…….)
رمشت عدت مرات جافلة وهي تردد
كالببغاء…. “عشان محدش يقدر……..”
اجاب عاصم بثقة وهو جالساً على الفراش
يخطط في دفتره بالقلم الرصاص…….
(هو فعلاً محدش يقدر……لانك بقيتي تخصيني دلوقتي……..)
احمرت وجنتيها وجف حلقها وهي تغير مجرى
الحديث…..
“وانت اي اخبارك في اليومين اللي فاتوا…شغلك تمام……..”
اجابها بلهجة معبرة…..
(كله تمام……الا حاجة وحده……)
ادعت الغباء……. “اي هي…….”
رد بحرارة وعيناه مثبته على الرسمة التي
يخطها بقلمه……..
(اني مكنتش بعدي عليكي زي كل مرة…..بدخل الصاغه علطول……..كنت حاسس ان نقصني حاجة
مهمة في يومي……..)
زاد خجلها فاصدرت همهمات……. “مممم….”
تعجب عاصم فابتسم معلقاً…..
(هو ايه اللي ممم……بكلمك انا……ردي عليا……….)
قالت بحرج صارخ…. “اقول اي بس ياعاصم…….”
لم يرأف بحالها فقال بحرارة تربك كيانها…..
(قولي انك موفقة……… قولي اني وحشتك زي
مانتي وحشاني………)
أرحم قلبي يامعذبي……….
كان قلبها يتجاوب معه بالفطرة لكن عقلها أملى
عليها الرد بصعوبةٍ….
“مش دلوقتي………. لما احسها……..”
لفظ عاصم بزفرة ثقيلة……(آه ياشــهــد…….)
خفق قلبها فنادت عليه بضعف….. “عاصم……..”
لاسمه مذاق كالشهد عندما تلفظه
بهذه النعومة……فرد عليها بحرارة…..
(قولي ياشـهـد……… قولي انا سمعك……)
عضت شهد على باطن شفتيها وهي
تخبره…….
“انا موافقة…….. موافقة نعمل فترة خطوبة
ونقرب من بعض أكتر…….”
تنهيدة اشد حرارة اخرجها وهو يقول….
(واخيراااا…… حنيتي عليا…….)
وبخته شهد على حين غرة……
“بطل كلامك ده…. ليه محسسني اني بعذبك….”
مط عاصم شفتيه ساخراً……
(بحسسك ؟!…..لا خليكي متاكده انك بتخلصي
ذنب ناس………)
“مين هم الناس دول…….” شعرت بنيران تندلع في صدرها…..
فرد عاصم مستهيناً…..(اهم ناس وخلاص……)
اعادت شهد السؤال بتصميم…….
“احب اعرف هما مين…….”
رد عاصم بصوت أجوف…
(ناس كانت بتجري ورايا وانا كنت مديهم الطناش………)
زمت شهد شفتيها مزمجرة……
“ممم ياحرام…. وليه ما ترجع ليهم…. بدل ما انا
معذباك اوي كده…….”
ابتسم منتشياً وهو يقول
ببطء….
(متقلقيش بكرة هيطلع عليكي…….)
سالته بحاجب معقود…… “مش فاهمه……”
اجاب بغلاظة……
(لما تحبيني……..انتي اللي هتجري ورايا ….)
“مستحيل…. حتى لو بحبك مش هجري وراك….” كانت اجابتها أسرع مما جعله يصمت…….وعندما
لم تجد رداً نادت عليه…..
“سكت ليه…… سمعتني……..”
رد مختصراً بمرارة………(ماعشان كده سكت………)
صمتا معاً وقد ضاع الكلام للحظات…حتى تذكر
هو شيءٍ هام فسالها…….
(أول امبارح كانت خلود بتشتري مرهم
للحروق……. كان ليكي……)
اكدت شهد تخبره……
“آآه….. اتلسعت كذا مرة وانا بطبخ……. فخلود صممت تروح تجبلي كريم………. ”
انزعج عاصم وهو يسالها…
(ومش تاخدي بالك…… اللي واكل عقلك…..)
هزت كتفها وهي توضح……
“الحاجات دي بتحصل عادي في المطبخ… وانا واخده عليها من زمان……”
(وتحرقتي في ايديكي الاتنين……)استفسر بملامح
واجمة……فاجابة شهد بهدوء…….
“اليمين بس……”
شاكسها قائلاً بجمود……..
(كده هنضطر نلبس الدبل في الشمال…..)
ابتسمت بدهشة…….. “يسلام……”
ابتسم عاصم كذلك مؤكداً باستراتيجية
شديدة…………(مفيش حل تاني صدقيني…..)
اومات شهد براسها تناكفة كذلك…..
“مصدقاك طبعاً…. بس انا عندي حل احلى… نأجل
الموضوع لحد ما ايدي تخف….. اي رأيك….”
هز راسه مستبداً…..
(لا مش موافق….. مفيش تأجيل……انا لولا الملامه
اجي اتقدملك دلوقتي…..)
ضحكت شهد فأشرق صدره مع رنة ضحكتها
المشبعة بالرقة والحياء…….. ضحكة خجولها
تتوارى بعيداً عنه كصاحبتها……
“انت رومانسي اوي على فكرة…….”
سالها وهو يبتسم……
(وياترى دي حاجه حلوة ولا وحشة……)
ردت رده التي تحفظه على ظهر قلبها…….
“في الحالتين ترجعلك……”
عبس وجهه سائلاً وهو يترك القلم قليلاً….
(يسلام……ازاي بقا……هو انا هبقا رومانسي مع
مين غير معاكي……)
اختلج قلبها فجأه.. لذا قالت هاربة….
“على فكره الكلام ده مش اوانه خالص……”
(امتى أوانه……..)سالها فلم يجد رد فقطب حاجباه
مردداً…
(سكتي ليه ياشــهـد…….)
كانت جادة تلك المرة وهي تخبره برقتها
المعهودة……..
“انت بتحرجني بكلامك ياعاصم…..وانا مش بعرف أرد على الكلام ده………فبلاش لو سمحت……”
أومأ براسه متفهماً وضعها وتسرعه
معها………
(بلاش ياشـهـد……قوليلي ايدك لسه تعباكي….)
اجابت بنفي مطمئنة اياه……
“لا الحمدلله أحسن…… كانت شوية حروق بسيطه والكريم هداها شوية…….”
امرها برفق…….(ممكن تاخدي بالك بعد كده……)
اتى صوتها الموسيقي……. “حاضر…..”
سالها عاصم بابتسامه حانية……
(كنتي بتعملي إيه قبل ما اتصل بيكي……)
كنت افكر بك…….فالحقيقة انتظرت اتصالك
بكل شوق ولهفة………..أردت ان أطلب منك
الا تحرمني من رؤياك…..فانت اصبحت مهماً
بنسبة لي……….مهماً جداً……
أرادت قول أشياء عديدة لكن حياؤها
والوقعية إمتناعا بشدة…….فقالت بهدوء….
“المفروض اني كنت هنام……انت بتعمل إيه…..”
رد بهدوء……(برسم……)
انعقد حاجباها سائلة…..
“بجد ؟!….انت بتعرف ترسم…….”
(يعني حاجات معينة……..بس أغلب رسوماتي بتبقا
تصميم للشغل…….)اجابها عاصم ببساطه وهو ينظر للرسمة التي لا ينقصها سواء الألوان حتى تزدهر
امام عيناه فتعطي له إلهامٍ لصنعها كما يريد…….
فسالته شهد بفضولاً…. “وضحلي ازاي يعني……”
اوضح لها عاصم بهدوءٍ…….
(يعني انا برسم تصاميم زي خواتم انسيالات
سلاسل حلقان….او مش شرط ممكن طقم كامل
فبعمل بقا ديزاين معين على حسب الزبون ماعايز……وبنفذه……)
سالته شهد مشدوهة… فتلك المعلومة جديدة
بنسبة لها…… “بتصنع الحاجات دي بنفسك……”
اوضح عاصم مجدداً ببطء…..
(حاجات و حاجات…. يعني مثلاً في حاجات بتيجي جاهزه بس معلهاش شغل….فانا بشتغل فيها وبشكلها زي مانا عايز….كده يعني….)
ابتسمت شهد باعجاب ….
“طب والله دي حاجة كويسة جداً…وعندك معرض
بقا باسمك…….”
ردد الكلمة بأستغراب…….(معرض…….)
اكدت شهد بإبتسامة مشجعة….وكانه يراها !….
“ايوا…تعرض فيه شغلك….ولا أكيد بتعرض شغلك
في محل الصاغة……”
نفى عاصم موضحاً الأمر…….
(لا طبعاً الحاجات دي بتاخد وقت وبتطلع بطلب…
وبعدين موضوع المعرض ده…مفكرتش فيه قبل
كده…….يعني ملوش لازمه……)
تلبسها هذا الطموح الانثوي الذيذ رغم سخافته
في عيناه………فقالت له بحماسية حالمة….
“إزاي يعني انت المفروض تبدأ تعمل كمية كويسه من تصاميمك وتعرضها للناس تشوفها وتتفرج عليها ولو فعلاً فيهم فكرة وابداع هتنجح…..وبعيداً خالص
عن الفلوس….بس انت ممكن مع الوقت يبقا ليك
براند خاصة بيك بأسمك ويبقا ليك زباين من
كل مكان في العالم……..”
رد عاصم بصوت أجش……
(ساعتها هسمي البراند شـهـد…….)
قالت شهد بنضالاً واضح……
“بتتريق صح……على فكرة بقا الانسان من غير احلام
ميقدرش يعيش…….لازم يكون عندك حلم وهدف
تعيش عشانه…..”
سالها عاصم بهدوء…..(انتي اي حلمك……)
تلألأت عينيها وياليته كان معها ليرى كم كان
يضوي كهرمان عينيها وهي تخبره بصوتٍ
حارٍ مشبع بالاماني…..
“انا….انا حلمي اني انجح في مجالي…..لأني
اشتغلت كتير على نفسي……..وتعبت كتير لحد ماوصلت للمستوى ده……..حلمي يكون عندي مطعم في احسن مكان في اسكندريه…..يبقا ليه كذا فرع
ويبقا عندي زباين كتير….بتحب تاكل من عندي….امممم……اي تاني ياشهد….اه اني اتعرف
وبقا مشهورة في مجالي……وطبعاً اتمنى
اطور من نفسي أكتر…… ساعتها احلامي
هتبقا أكبر وأكتر……… ”
صمتت قليلاً بحرج وهي توضح……
“بص يعني هي احلامي كتير بصراحة….بس كلها داخل اطار الطبخ…….لان دي الحاجه الوحيدة اللي بحبها وشاطره فيها……انت بقا اي احلامك بس من غير تريقه….. ”
اجاب عاصم بصوتٍ أجش……
(لحد دلوقتي…..انتي الحلم الوحيد اللي عايز اوصله………)
سلب قلبها وخطف انفاسها فسالته
بتردد……. “متأكد…….”
انعقد حاجباه بتساؤل…..(عندك شك……..)
قلبها سيتوقف أكيد…..الرحمة……….
هربت كالعادة قائلة بتلجلج…….
“عاصم……..انا لازم أقفل… ”
اوقفها عاصم قبل ان تغلق الهاتف…..
(شـهـد…..استني……..احنا لسه مكلمناش كلمنا….)
أحمر وجهها بشدة وهي تفصح
بخجل….
“انا مش هعرف أرد على الكلام ده……”
تحلى بالصبر بالقدر الكافي وهو يقول…..
(بلاش تردي على الكلام ده…ردي عليا…..هجيلكم
البيت امتى….)
سالته بصدمة…… “تجيلنا البيت……”
اكد متعجباً ردها……
(طبيعي….انتي مش قولتي انك موافقة…يبقا لازم اجي اتقدملك……..هاجي امتى…..)
قالت بصوت خافت…….
“لم اكلم حمزة الأول……عشان يكلم بـ….بابا…..”
هز عاصم راسه موضحاً بهدوء…….
(انا كده كدا…..هاجي أول زيارة لوحدي…اتعرف على والدك واخوكي….وبعد كده في الزيارة التانيه هجيب
الحاجة نصرة وعمي…ونقرا الفاتحة ونتفق على معاد الخطوبة….. اي رأيك…….)
ردت شهد بفتور…..
“تمام……اللي تشوفوا………اكلم حمزة الأول……”
(خدي وقتك……..)صمت عاصم قليلاً ثم
سألها…..(هتنامي……)
إجابة بسؤال….. “ايوا…….وانت……”
رد عاصم وهو ينوي الإغلاق معها……
(لسه شوية……هخلص الرسمة اللي في ايدي….يلا عشان مطولش عليكي…..تصبحي على خير…)
قادها قلبها لعنده فقالت باهتمام…..
“وانت من أهل الخير…..بلاش تطول في السهر….
عشان متتعبش…….”
بغلاظه ذكورية رد عليها مذعناً……
(حاضر ياماما……..تحبي اشرب اللبن واغسل سناني قبل ما انام……)
مطت شهد شفتيها متبرمة….. “غلس…….”
سالها عاصم بدهشة حقيقية….
(ايه قولتي إيه…..سمعيني…….)
كبحت ضحكتها بشقاوة….
“ولا حاجة متخدش في بالك…….”
ردد بشفاه مقلوبة……..(جبانة……)
سالته بحدة…….. “بتقول ايه…….”
اخبرها دون مواربة……
(احلى واحده جبانه قبلتها في حياتي…..)
قالت شهد بوجوم…..
“تبقا غلطان لو مفكر انك كده بتقول كلام
حلو……..”
احرجها بفظاظة……
(ومين قالك اني عايز اقولك كلام حلو…….)
اغاظها بشدة فنادت عليه……. “عاااصم…..”
قال هو بعذوبة وببسمة دافئة تشع جاذبية…..
(هتوحشيني ياشـهـد……هتوحشيني لحد بكرة…….)
كالطفلة هي يرضيها بقطعة حلوى……وكلماتهُ العاطفية تمثل حلوتها المفضلة مهما انكرت…..
بلهفة سألته…..
“هشوفك بكرة…….”
أكد عاصم بنبرة عميقة المعاني…..
(هعدي عليكي بكرة الصبح في معادنا الساعة
عشرة….. تكوني كلمتي حمزة……اتفقنا…..)
لم ترد عليه فقال هو بنبرة رجولية
عذبة……
(تصبحي على خير……..ياشـهـد..)
“وانت من اهله…….”
اغلقت شهد الهاتف متنفسة بصعوبة…..وضعت الهاتف على صدرها النابض بجنون…وانفاسها عالية متهدجة من شدة المشاعر المموجة بينهما……مابين شد وجذب وتحدي أحمق…..الى انسيابية ناعمة تختبرها لأول مرة مع رجل….. كانت معه تحلق
فوق سحابةٍ وردية ناعمة………تذوب داخلها كما
ذابت مشاعرها مع نبرة صوته المميزة………
………………………………………………………………
في صباح اليوم الثاني……
كانت تجلس على رمال الشاطئ ترتدي ثوب برتقالي اللون بشريطٍ ابيض حول الخصر…..ام شعرها
جمعته بلفةٍ أنيقة للخلف وربطته بوشاح من
اللون الأبيض تتناثر اسفله خصلات غرتها الناعمة السوداء مرتاحة على جبينها……وفي اذنيها
ارتدت اقراط مماثلة للون الثوب متدلية قليلاً
على شكل شريحة برتقال…..
كانت جميلة على نحوٍ خاص….رائعة ناعمة هادئة
هكذا هي دوماً تراها ترنيمة خالدة في الاذهان…
وردة نادرة الظهور………قطعة فنية ثمينةٍ لا تقدر
بمال……..
كانت امرأة قيمتها الحقيقية في صمتها……في
رقتها………في جمالها الهادئ……..
لطالما كان سحرها يكمن في عينيها يأسر
ضحاياها……..فكانت عسليتاها محور ايقاع
للكثيرين في الهوى لكنها لم تلتفت الى
أحد……لم يشد انتباهة غيره…..هو فقط
هو فقط……رأت في ظلام عيناه دفئاً يتسرب
إليها…….رأت في حضورة المهيب أمناً يستوطن
قلبها…….في صوته الخشن لامست الحنان……
ام في لمست يده استشعرت احتياج كلاهما
للآخر…..وكانهما اتخذا عهداً منذ زمناً بعيد…..
ضرب رذاذ الماء وجهها فابتسمت بحب تستنشق أكبر قدر من الهواء المنكه بالبحر المالح….. اترى صديقها بدأ يغار منه…….
نظرة للبحر تخبره انها ستاتي به يوماً الى مكانها المفضل كما احضرها هو الى مكانه المفضل
والذي كان أمام البحر كذلك باستثناء أماكنهما
المختلفة لكن يبقى البحر الحبل الموصل
بينهما ؟!…….
“انا جيت…….”
سمعت صوتٍ شقياً لشابٍ أصبح يتعامل مع الدنيا
وكانها صالة قمار………ام الفوز او الخسارة…..في
الحالتين سيظل يقامر مع الدنيا…..حتى تخضع
له !!……..
جلس حمزة جوارها ونظر للبحر لثانيتين ثم عاد
اليها متسائلاً…….
“كنتي عايزة تكلمي معايا في إيه……واي الموضوع اللي مش عايزانا نتكلم فيه في البيت….انتي
كويسة…….”
سحبت نفساً مضطرب ثم نظرة الى اخيها
وقالت بدفعة واحدة…….
“عاصم ………عايز يجي يتقدملي ياحمزة….”
نظرة غريبة ظللت عسليتاه
بتساؤل….
“آه………وانتي موافقة……….”
فركت شهد في يديها امام عينا اخيها الشاخصة
وملامحه الرصينة………
“هو شخص كويس………ومحترم و……….”
قاطعها حمزة بحزم……
“شهد….انا بسألك انتي موافقة عليه مقتنعة بيه…”
واجهة سؤال اخيها بأجابة واقعية…..
“انا موافقة عليه مبدئيا….انا معرفوش كويس…
فيمكن لو عملنا فترة خطوبة اقتنع بيه
أكتر………”
تصلب فك حمزة وهو يسالها…..
“يعني متفقين سوا على فترة خطوبة…..”
تهاب نظرة عيناه جداً عند الغضب فكان لها بريق إجرامي حادا يهدد بان العبث معه غباءاً….
“حمزة…….بلاش البصة دي……”لم يرد بل ظل
صامتاً بملامح متصلبة بينما الانفعال كله يصب
في عيناه المشتعلة……..
“انا هبقا صريحة معاك…..زي ماتعودنا من صغرنا نكون سند وضهر لبعض…….”
“انا اتكلمت معاه كام مرة في التلفون…..صدقني اغلبهم كان عن الشغل لكن اخر مكالمة كان مستني
ردي على طلبه……ردي مبدئياً قبل مايجي يتقدم…”
بللت شفتيها متابعة…..
“وانا اديته موفقتي………وهو عايز يجي يشوفك ويشوف بـ……بابا……ويتعرف عليكم…قبل ما يجيب اهله…….انت شايف إيه……”
رفعت عينيها على اخيها برجاء…..فلم يقسو
عليها اكثر في صمته بل أجاب…….
“شايف انك طالما موافقة وهو داخل البيت من بابه
يبقا يجي…وساعتها نشوف……..”
أرتاح قلب شهد لكن سريعاً تغضنت زاويا عينيها
مخاطبه اياه بقلق……..
“طب وابوك…..تفتكر هيوافق…..انا حتى لحد دلوقتي
مش عارفه هقوله إيه…….ينفع تمهدله انت الموضوع……..عشان خاطري ياحمزة…..”
تعجب من خوفها الملموس فقال
بيسرٍ…
“مش مستاهله كل ده….هكلمه حاضر…….”
ابتسمت شهد ممتنة له…..
“ربنا يخليك ليا ياحمزة….انا مش عارفه من غيرك كنت عملت إيه……..”
شعر حمزة بلسعة في عيناه فاطرق براسه
يسمح مابين عيناه سريعاً……قبل ضبطه
لكن شهد انتبهت له فلمست كتفه سائلة
بدهشة…..
“انت هتعيط……….حمزة…….”
رفع حمزة عيناه مبتسماً بسخرية….
“حاسس اني اناني…..مش عايز حد يخدك مني…
حاسس انك بنتي…بنتي الوحيدة اللي مش هقدر افرط فيها بسهولة………”
تلك المرة شعرت هي برغبة قوية في البكاء
وتماسكت مثله وهي توبخه بلكزةٍ حانقة….
“ومين قال ان حتى لو حصل واتجوزت عاصم او غيره هبعد عنك وانساك انت وكيان……في حد بينسى اهله….اخواته وصحابه…….انتوا كل حاجة بنسبالي ياحمزة……..انا اللي مستحيل افرط فيكم…..مهما خدتني الدنيا…….مستحيل تبعدني عنكم…..بس بقااا…….”
ضحك حمزة واشاح بوجهه ساخراً
بمرارة….
“حاسس ان احنا في فيلم عربي قديم…..”
اكدت شهد مبتسمة…. “قول لنفسك…….”
صمتا معاً والابتسامة لا تزال معلقة على
محياهم تابى تركهما…..
سالته شهد بهدوء….. “وصلت كيان للشغل……”
أجاب بفتور…….. “اه وصلتها…….”
عاتبته شهد بحزن……
“مش ناوي تراضيها ياحمزة….تهون عليك…….”
تعنت حمزة مجيباً….
“مش وقته ياشهد……..سبيها شوية…….”
نهضت شهد من مكانها قائلة بهدوء…..
“انا لازم اقوم أروح المطعم اتاخرت عليهم…وخلود
زمانها محتاسه هي والبنات…..ماتيجي معايا……”
نهض هو ايضاً يخبرها بنفي……
“لا انا هرجع البيت أنام ساعتين وانزل الموقف الضهرية…..وهبقا اعدي عليكي بليل عشان
اخدك…. ولو حصل معاكي اي حاجة ابقي رني
عليا….. ماشي….. ”
طمئنة اياه وهم يرحلا معاً……
“تمام………متقلقش لو في حاجة هكلمك……”
………………………………………………………………
عندما دخلت من باب المطعم……تفاجئت بعاصم
ينتظرها على أحد المقاعد امام الطاولة……
قد اتى مبكراً……..
حتى ان المكان كان فارغاً باستثناء خلود والفتيات
اللواتي يعملوا معها….وكانوا جميعاً في المطبخ
يباشرا اعملهن…
لانت شفتيها في إبتسامة ناعمة…..وتسلل الدفئ لقلبها عند رؤيته…….فكم اشتاقت اليه بشدة…لكنها
تنكر هذا الشوق……..
ام عاصم فقبل دخولها اخبرهُ عطرها المميز انها
اتيه……عطرٍ خفيفٍ على الأنف مسكر للحواس…
لم يتحرك من مكانه بل ظلت عيناه تناديها دون حديث………
لبت الطلب واقتربت منه بخطى ثابته…..ومع كل خطوة تخطوها باتجاه سيدها تتسع عيناه وكأنه يحاول ابتلاعها بنظراته المفترسة……..
كانت جميلة أليوم على نحوٍ جذاب….فتنة ناعمة
دون ان تعي تنجذب لها عن طيب خاطر…….ازدرد عاصم ريقه بتعب……وعيناه أسيرة الشهد…..وجمالها
الأخذ……….
تلونت عينيها وشفتيها بابتسامة مسكرة……وهي
تقول بنبرة مشرقة……..
“صباح الخير يا عاصم…….”
قلبه…….قبله ياعالم يضيع…….تلك التحية الصباحية الجميلة قاردة على ادخاله الإنعاش ؟!………
استغربت شهد صمته ونظراته الغريبة عليها…
هل هناك شيء يزعجه…….
“مالك……ساكت ليه في حاجة مضايقاك……”
حقيقةٍ انتِ الشيء الوحيد الذي يستفزني…ويختبر
صبري………
“ولا حاجة….اتاخرتي ليه…….”
عندما دخلت من باب المطعم……تفاجئت بعاصم
ينتظرها على أحد المقاعد امام الطاولة……
قد اتى مبكراً……..
حتى ان المكان كان فارغاً باستثناء خلود والفتيات
اللواتي يعملوا معها….وكانوا جميعاً في المطبخ
يباشرا اعملهن…
لانت شفتيها في إبتسامة ناعمة…..وتسلل الدفئ لقلبها عند رؤيته…….فكم اشتاقت اليه بشدة…لكنها
تنكر هذا الشوق……..
ام عاصم فقبل دخولها اخبرهُ عطرها المميز انها
اتيه……عطرٍ خفيفٍ على الأنف مسكر للحواس…
لم يتحرك من مكانه بل ظلت عيناه تناديها دون حديث………
لبت الطلب واقتربت منه بخطى ثابته…..ومع كل خطوة تخطوها باتجاه سيدها تتسع عيناه وكأنه يحاول ابتلاعها بنظراته المفترسة……..
كانت جميلة أليوم على نحوٍ جذاب….فتنة ناعمة
دون ان تعي تنجذب لها عن طيب خاطر…….ازدرد عاصم ريقه بتعب……وعيناه أسيرة الشهد…..وجمالها
الأخذ……….
تلونت عينيها وشفتيها بابتسامة مسكرة……وهي
تقول بنبرة مشرقة……..
“صباح الخير يا عاصم…….”
قلبه…….قبله ياعالم يضيع…….تلك التحية الصباحية الجميلة قاردة على ادخاله الإنعاش ؟!………
استغربت شهد صمته ونظراته الغريبة عليها…
هل هناك شيء يزعجه…….
“مالك……ساكت ليه في حاجة مضايقاك……”
حقيقةٍ انتِ الشيء الوحيد الذي يستفزني…ويختبر
صبري………
“ولا حاجة….اتاخرتي ليه…….”
ردت وهي تجلس على مقعداً امامه وبينهما
الطاولة المستديرة…..
“انت اللي جاي بدري…وبعدين انا كنت بكلم
حمزة……زي ماتفقنا…….”
بانت اللهفة في صوته…… “وقالك إيه…….”
خفق قلبها مع سؤال فردت والخجل
يفترسها…….
“هيمهد الموضوع لبابا………اي اللي جابك بدري…الساعة لسه تسعة……..”
اطرق بأصبعه على سطح الطاولة…
“اللي حصل…….”
سالته بحاجبين معقودين….. “مالك ياعاصم……..”
غير مجرى الحديث وهو ينظر لأقراط
اذنيها….
“حلو الحلق اللي في ودنك ده…….”
ابتسمت شهد باستياء….
“بتقلب الموضيع في ثانية…..شكراً……”
سالها وعيناه تطوف على وجهها المحمر
والمشرق كذلك…..
“مستغرب انك بتلبسي الحاجات دي…..”
ضحكت شهد وهي تلامس القرط باصابعها
قائلة بحرج……..
“أحياناً يعني بلبسها……بحب الاكسسوارات
البسيطه……”
سالها بانتباه….. “بتحبي الدهب ولا الالماظ……..”
رغم علمها بما يقصد الى انها ادعت
الغباء… “ليه السؤال ده……..”
هز راسه بفتور……… “عادي سؤال عادي…….”
عضت على باطن شفتيها وتلعثمت بخجلاً….
“مش عارفه بصراحه بس يعني عادي….كلهم عندي زي بعض……..مش حاجه معينة….على حسب شكلهم وذوقي…….. ”
لم يعقب عاصم بل ظلت عيناه تأسرها…. حتى
ارجعت خصلة خلف اذنيها قائلة بتوتر…
“مالك بتبصلي كدا ليه……”
لم يحيد عيناه عنها وهو يجيب
بخشونة…. “بحب بسطك دي……”
ابتسمت شهد…..ففرد عاصم كف يده على سطح
الطاولة ناظراً لعسليتاها قائلاً…..
“وريني إيدك اليمين……..”
رمشت بعينيها عدت مرات متوترة…….
“ليه…….”
قال ببساطه…. “عايز اشوفها خفت ولا لا…….”
قربتها منه قليلاً دون ان تضعها في
كفه….
“اهيه……مش لازم تمسك أيدي شوفها كده…..”
انبسطت ملامح عاصم بلمحة تسلية…..
“شهد ارحميني……مش هنقصك صوبع يعني….
وريني…….”
نظرت لباب المطبخ متوجسة….
“حد يدخل……… على فكرة خفت……..”
مسك طرف اصبعها ونظر لكفها بدقة مجيباً
بعد رضا……..
“لسه شوية……ادهني من الكريم عشان تخف….
وخدي بالك بعد كده….. ”
“خلاص ماشي…… سيبي أيدي بقا……”سحبت
طرف اصبعها من بيد يده……ثم نهضت شهد من مكانها قائلة بحرج………
“بما انك جاي بدري…. اي رأيك نفطر سوا……انا
لسه مفطرتش……تحب تفطر معايا….. ”
هز عاصم راسه موفقاً بترحيب……
“احب طبعاً……. بس لو الفطار من إيدك…….”
“اكيد هعمله بنفسي………استناني نص ساعة
بظبط…….”ابتعدت شهد بخطى واسعة مبهجة
الى مطبخها……..
فردد عاصم بعد ان اختفت عن مرمى
عيناه…….
“هستناكي………مفيش قدامي غير اني استناكي
ياشـهـد…”
بعد نصف ساعة تقريباً وضعت امامه
الفطور وتشاركا الطعام وسط ثرثرة من
كلاهما…
ثرثرةٍ هادئه كنسمة عابرة بين الزهور…….فكان
بينهما إندماج يفوق الوصف….يختلقا الأحاديث
دون شعوراً منهما…..
حتى إنتهى الفطور ولم ينتهي الحديث بل طال
وطالت معه نظرات أعينهما المتلألأة بالحب…..
……………………………………………………………
صف سيارته جانباً وصعد على السلالم بعدما اخبره
البواب ان المصعد في صيانة…..
عندما وقف امام باب الشقة يخرج المفتاح من جيبه فُتح الباب واندفع جسد انثوي في احضانه…….
مسك حمزة كتفيها وابعدها عنه قائلاً
بدهشة…
“في اي يابنتي ما براحه……..”
تراجعت قمر خطوتين للخلف بوجها متخضب بالحمرة ثم قالت بحرج وهي تمرر يديها على ثوبها……..
“معلش ياحمزة مخدتش بالي…….”
نظر حمزة الى ملابس الخروج التي ترتديه….ثم لشعرها الغجري التي تتركه حراً على ظهرها……ثم
لهاتين العينين البنيتين الكحيلتين…….ولشفتيها المكتنزة القرمزية دون حمرة…….لاحظ الآن
انها جميلة ؟!…..جمالاً شعبياً مغوي يجذب
المرء من الوهلة الأولى ان دقق النظر به….
تنحنح بخشونة وهو ينظر لعينيها
مشاكساً….
“راحه فين على الصبح كده…….”
اطرقت براسها مجيبة…… “هجيب فطار…..”
انعقد حاجباه مستفسراً…..
“ليه مفيش فطار في البيت……..”
هزت راسها وهي تخبره بخجلاً….
“لا فيه…بس انا نفسي اكل فول وطعمية…….”
مط شفتاه محاولاً مناكفتها
قليلاً….
“طعمية !!….اسمها فلافل……..”
زمت قمر شفتيها مكفهرة……
“ياسيدي على ثقافة……هتفرق يعني فلافل من طعمية ماكلها واحد…….”
اوما براسه بسماجة……. “تفرق معايا……”
ثم حانت منه نظرة على معصمها والاسورة
ذات الخرز الأحمر التي ترتديها اليوم……فعقب مستهجناً كلما رأى هذا اللون الذي يذكره بالخسائر الفادحة لفريقة المفضل في كرة القدم……..
“أحمر على الصبح كده…..انا مش بتفائل بيه…..اي البتاع اللي لبساه في ايدك ده…….”
نظرة قمر للسوار بتعجب…. “دا…..انسيال…….”
بان الإزعاج على وجهه مردداً…..
“اه انسيال جايباه أحمر ليه برضو…….”
زاد تعجبها مع هذا المختال….فردت ببراءة
مصرحة……
“اي فيها يعني…….الأحمر حلو…. ”
زفر حمزة قائلاً بوجوم…..
“بنسبالي انا مش حلو…..بيفكرني بحاجات مش
عايز افتكرها……..فيها إيه لو جبتيها لونها أبيض
مثلاً او اي لون تاني محبكش أحمر يعني…….”
“ليه يعني…….”نظرت اليه بحيرة…فزمجر
هو قائلاً…..
“متجدليش اسمعي الكلام……”
مطت شفتاها مغمغمة…..
“ربنا يهديك…حاضر المرة الجايه ان شاء الله……”
وضع حمزة المفتاح في جيبه وسحب الباب من خلفها قائلاً……… “طب يلا بينا……”
سالته بدهشة……. “على فين…..”
نظر لعيناها قائلاً ببساطه……
“مش عايزة تفطري……..فول وفلافل….هفطرك…”
برقة عينيها فرحاً وهي تساله…. “فين يعني…….”
اولاها ظهره وهو ينزل على السلالم…..
“في أحلى حته فيكي يا اسكندرية…حته مبيدخلهاش غير ولاد الذوات……..”
ضحكت قمر بتشكيك…… “يا سلام……”
نداها وهو يهبط درجات السلم
قبلها…..
“تعالي بس وهتشوفي……..”
هبطت على الدرج خلفه بدرجتين ثم سالته
وهي ترافقه للأسفل……..
“ليه مخدناش الاسانسير……”
رد حمزة عليها وهو ينظر
للأمام….
“الاسانسير متعطل في الصيانة……”
شعرت بنبضات قلبها ترتفع بشدة أثناء
مرافقته لها…فحاولت فتح حديث بدلاً
من هذا الصمت…….
“افتكرت انك هتطلع على الشغل بعد ما توصل كيان……”
نظر لها لثانيةٍ ثم عاد وهبط على الدرج بخطواتٍ
واثقه………
“كنت راجع أنام ساعتين……بس لما لقيتك خارجه تجيبي فطار قولت انزل أفطر برا معاكي…تغيير…”
صمت قليلاً ثم تابع وكانه يحدث نفسه…..
“هفطر بقا ووصلك وبعدين أروح الموقف…شكلها مفهاش نوم……”
ساد الصمت بينهما من جديد ومزالوا في رحلة
النزول على الدرج………حتى شاكسها حمزة
بسؤال مرح…….
“وانتي عامله اي ياقمراية…….مبسوطه معانا….”
اومات براسها مبتسمة بتأكيد…..فأردف حمزة
بغرورٍ………
“لازم تنبسطي طبعاً…..طالما انا موجود في حياتك…..”
لم ترد قمر بل امتعضت بقرف…..فأكد حمزة
بزهوٍ وهو يدير وجهه اليها…..
“ااه والله………بذمتك في زيي……”
تعثر حمزة وهو يهبط على الدرج وكاد ان يسقط
لولا انه تماسك في اللحظة الأخيرة………فضحكت قمر عليه بشدة وقالت بتشفي……..
“حاسب بس ياللي مفيش منك اتنين انت…لحسان
لو اتكسرت رقبتك مش هنلاقيلك للأسف قطع غيار…….”
عدل حمزة ياقة قميصة بتكبر يخفي الحرج
وهو يخبرها بخشونة…..
“حصل خير قعبلت السلمه…….”
فغرت قمر فمها ساخرة…..
“السلمه برضو اللي قعبلتها…..طيب……”
خطت درجتين وكانت ستقع هي الاخرى لولا انها سندت على ظهره……. “حاسب……..”
قالتها برهبة بينما هو كان قد استدار يراى مابها
وعندما وجدها تكاد تكون في احضانه بعد ان
تعثرت قدميها واندفع جسدها نحوه فألتقت
أعينهما ببعضها وكانت عينيها البنيتان لونهما
أقرب لفنجانين من القهوة يقدما في ليلةٍ شتوية
مشتعلةٍ بالحبّ……..
تسمرت عينيها عليه هي أيضاً بضياع فكم هي
معجبه بتفاصيل وجهه الوسيم وهاتين العينين
المحتالتين……..
فقطع حمزة وصلة التأمل بتعليق فظٍ…
“انا شوفت المشهد ده في كام فيلم قبل كده…..”
ذأبت لحظة الصدمة داخلها…فاعتدلت في
وقفتها أكثر قائلة بتردد……..
“فيلم ؟!…انا بعمل فيلم…..”
اوما براسه مضيفاً بفظاظة……
“وقديم كمان………امشي عدل وبطلي مرقعه… ”
أحمر وجهها بخجل أكبر… فهي لم تقصد كل
هذا … “انت قليل الذوق…. والأدب كمان……”
اكد ببجاحة وهو يتابع سيرة…..
“مانا عارف…… حد قالك اني امام جامع……..”
عندما وصلا لأحد الأدوار تعلقت عينا حمزة باب
شقةٍ معينة…. لاحظت قمر كم ان لون عيناه بات داكناً ووجهه متصلبٍ مظلمٍ…….. وكان حزن العالم
كله وقع فوق راسه فجأه فتبدل حالة…. للاسواء…
علقت قمر عينيها على الباب لتجد في اللحظة التالية
الباب يُفتح وتخرج منه شابة قصيرة القامة بشعر اسود ناعم….وبملامح انثوية رقيقة…ترتدي عباءة بيتي بنصف كم…….وبين يداها كيس من القمامة……
القته في السلة المجاورة للباب……
وهي أيضاً قد انتبهت لوجودهما فرفعت عينيها عليهما… نظرة نحوها لثانيتين نظرة مدققة مشبعة
بالغيرة…..ثم طارت نظراتها الى حمزة وقد تعلقت
به لوقتٍ أطول من الازم…….
نظرت قمر لحمزة والذي كان معلق عيناه عليها أيضاً
بنظرة مختلفة… نظرة لما تراها في عيناه أبداً… نظرة
خاصة…… نظرة العاشق لمعشوقته………
انها خطيبته السابقة….علمت منذ النظرة الاولى
انها هي دون شك…ونظراتهما المتبادلة أكدت…
تنحنحت قمر التي تقف خلفه عن بعد خطوتين
ام نجلاء فكانت تقف امامه على بعد خطواتٍ
بسيطة………..
نظر حمزة الى قمر بعد تلك النحنحة الخشنة……
فنظر لها لبرهة بصمت……
حتى لانت ملامح وجهه وتبسم لها وهو يمد ذراعه نحوها فارد كفه أمامها !!……
جفلت قمر من تلك الحركة لكنها لم تفكر مرتين وهي تخضع لطلبه…. وتضع يدها في كفه… ربما أرادت ان تساعده حتى يتخطى تلك الأزمة العاطفية…. او تلبستها روح شريرة فأرادت ان تكيد المدعوة نجلاء لسببٍ لا تعلمه ؟!……
اتكأ على يديها ساحبها معه برفق….حتى هبطا على الدرج سوياً امام عينا نجلاء الحارقة…والتي تكاد
تخرج من بؤرها من شدة صدمتها وغيرتها عليه
هل نساها بتلك السرعة….ثم من تلك التي يشبك يده
بيدها……من تلك القادرة على ان تكون دواءٍ لداء حبهما……..من؟!….
عندما اختفيا عن دائرة عيني نجلاء…ترك حمزة يد قمر بهدوء…….ثم تابع نزول الدرج بسرعة أكبر من السابق وكانه يهرب منها….او من نفسه……..
شعرت قمر بوخزة شديدة تداهم قلبها…..بعد تلك الحركة الجافة……..القاسية…….
يستغلها تعرف….ومع ذلك وافقت، ورغم ذلك انزعجت عندما ابتعاد عنها…..لماذا تهلك نفسها
في تلك القصة….ما دخلها هي به او بمن يحب….
يجب في أسرع وقت ان تنهي أمر الورث وتاخذ اموالها وتذهب الى حال سبيلها….هذا أفضل
للجميع ولها قبلهم……..
………………………………………………………………
الخيانة كالسم تظل تتوغل في العروق حتى
الموت…..الخداع كالسهم يخترق ظهر المطمئن المتغافل….اما الكذب فهو كقطعة رديئة مستعملة
في أيدينا……..
ظلت تطلع عليه من بعيد ، جالسة هي على أحد المقاعد البسيطه امام عربة خشبية بسيطه
تقدم فطور مصري أصيل……به كل مالذا وطاب
العربة كانت تقف جوار الرصيف تاخذ مساحة
بسيطه وامامها عدد قليل من المقاعد الخشبية
والطاولات البلاستيكية……..
لا يأتيه إلا أولاد الذوات !!……..
ابتسمت قمر بأسى…..هكذا هو حمزة مزاحة الثقيل ماهو إلا سخرية مريرة……ومقت غير قابل
للمراوضة داخله………
ظلت عيناها معلقة عليه للحظات…..قد طلب الفطور
من الرجل والذي يبدو انه يعرفه جيداً فقد رحب
به بحرارة وعاتبه على غيابة عن المكان…….
اتضح بعد السلامات المتبادلة انه كان يعمل معه
في صغرة….وان صاحب عربة شطائر الفول…يدعى
العم (عيسوي…..)وهو رجل كبير في عمر والده
لكنه بشوش و ودود جداً مع حمزة يعامله وكانه
أحد ابناؤه…..
قد طلب لهما الفطور ووقف جانباً يدخن بشراهة
تكره المدخنين……ولا تحبذ التعامل معهم….وحظها
السيء اوقعها مع ابن خال آله تدخين متحركة…..
زمت شفتيها تشيح عيناها عنه بضيقٍ لتجد ان البحر
قريب من هنا…..على مسافةٍ بعيدة قليلاً فابتسمت
وتعلقت عيناها في البقعة الزرقاء البعيدة لعلها
تشغل عقلها وقلبها بعيداً عنه…..
لكنه قد اتى بعد ان انهى السجارة الثالثة ؟!…..
“ساكته ليه يا قمراية….اوعي يكون المكان مش عاجبك……..”
قالها وهو يجلس على المقعد المقابل لها…..فعادت
بعينيها الكحيلة اليه قائلة بصدقاً……
“المكان حلو اوي….وعجبني…….”
ابتسم حمزة قائلاً بمزاح……
“مش قولتلك هوديكي مكان مش بيروحوا غير ولاد
الذوات……..”
زمت شفتيها باستياء….. “بطل تريقه……”
نظر للعربة ثم لعيناها قائلاً…..
“فين التريقه….تعرفي انا كنت شغال هنا وانا صغير…..تقريباً وانا عندي اربعتاشر سنة…..”
هزت راسها قائلة…..
“خدت بالي وانتوا بتكلموا……..”
شرد حمزة قليلاً وهو يخبرها بنبرة تقطر
شيءٍ مؤلمًا……..
“انا اشتغلت حاجات كتير أوي….نجار مسلح….
واشتغلت صبي في المحارة……اشتغلت مع كهربائي
وكمان وقفت في فرن عيش….. بس الحاجه اللي حبتها اكتر نجارة الموبيليا…..”
كانت كل حواسها منتبهة معه حتى انها حديثه
فسالته بتعجب……
“طب ليه مكملتش فيها طالما بتحبها…….”
اجابها بهدوءٍ…….
“عايزة صبر….وانا خلقي ضيق…..وبزهق بسرعة….
السواقة أحلى بنسبالي أسهل……”
قطبة حاجباها موضحة…. “بس ملهاش مستقبل…….”
يبدوا انه انزعج من تعليقها لذا رد عابساً…..
“ازاي يعني ناس كتير فاتحه بيوت من وراها…وفيه اللي عاش طول عمره فيها…..شغلانا زي اي شغلانه……”
وضحت قصدها بتمهل……
“عارفه بس انت ممكن تشتغل حاجة أحسن…مش شيفاها لايقه عليك…تستاهل الأحسن……”
غير مجرى الحديث قائلاً بصوتٍ أجش…..
“وانا شايف ان انا وعربيتي نستاهل بعض…..المهم
اي رايك في البحر…هو بعيد شوية بس الهوا من هنا
يرد الروح…..وفطار عم عيسوي يرم العضم……”
في اخر جملة قالها حمزة كان قد حضر العم
عيسوي بالفطور وبدأ يوزع الاطباق الصغيرة
على سطح الطاولة امامهما………لذلك رد عليه
الرجل بمحبة……
“ربنا يكرمك ياحبيبي……بالف هنا…..لو فيه اي
حاجة ناقصة ياقمر يابنتي قولي متكسفيش… ”
هزت قمر راسها بنفي وقالت بحياء…..
“لا ياعمو……كله تمام تسلم إيدك…الأكل شكله
يفتح النفس……..”
“بالف هنا يابنتي……”
قالها الرجل ثم أبتعد….. فمد حمزة يده ووضع امامها الخبز ثم اخذ حصته وبدا يأكل قائلاً……
“كلي قبل مالفلافل تبرد…. مش ببتاكل غير
سُخنه……..”
ابتسمت قمر وبدأت تاكل معه……..وكان الفطور في الهواء الطلق المفعم برائحة البحر يفتح الشهية
على الطعام ويزداد لذة………
“خدي دي……” مد حمزة يده لها بشريحة من البيض مسلوق وكانت مطبوخة ومتبلة بطريقة خاصة تسيل لعاب الجائع ولا يكتفي بشريحةٍ واحدة……….
فتحت فمها واخذتها من يده وقبل ان ترجع راسها للخلف في حركةٍ عفوية مسح أسفل شفتها السفلى
من قطرة من الفول…..
جفلت للحظةٍ ورمشت بعيناها عدت مرات وقد
خفق قلبها مضطرباً فنظرت اليه لبرهة فوجدته
ياكل بهدوء وكان شيءٍ لم يحدث…….
لماذا هي ترصد بعينيها وقلبها أقل حركة تصدر منه
سواء معها او مع غيرها وتدقق بها وتحللها ألف مرة
ام هو….. فلا يبالي……..صدقاً لا يبالي……
جزت على اسنانها تتغاضى عن هذا الأمر متابعة الأكل فالطعام شهي ويستحق ان تنسى كل شيءٍ امامه حتى ولو كان وسيم بعيون ضارية…….
وبريق اجرامي أخذ…………
انتهى الطعام وسط صمتاً من كلاهما… وقد اتت أجمل فقرة بنسبة لها الشاي بالنعناع بعد الإفطار……
مزيج من الحب مع القليل من الدفئ… يولدا كوب
شاي ساخنًا في منتصفه يقف عود نعناع أخضر
مترعرع يعزف لحنًا خاص معه…….
ارتشفت قمر من الكوب على مهل متلذذة بطعمه…
العم (عيسوي..)يجيد طهي أفضل فطور مصري
لكنه ممتاز جداً في إعداد افضل مشروب في العالم
الشاي بالنعناع…..
تنهدت قمر بسعادة وهي تخبر حمزة بجذلاً…
“حبيت المكان أوي…..أول مرة افطر وانا مبسوطه
اوي كده………”
مط حمزة شفتاه قائلاً بزهوٍ….
“عدي الجمايل عشان تعرفي قمتي……”
من زاويا واحدة ابتسمت هازئة….
“عرفاها طبعا متقلقش…..بأمارة السلمة اللي قعبلتها…….”
ضيق حمزة عيناه بخطٍ حاد….وقال بنبرة
متشفية…..
“ماهو عشان سواد قلبك اتقعبلتي انتي كمان وكنتي
هتكفي على وشك……”
تلونت شفتا قمر بابتسامة صفراء….
“بس انا قلبي مش أسود….انا قلبي أبيض وبيضخ
دم……”
“بيضخ تلج……..”قالها بغلاظة…….
فادعت هي عدم الاهتمام وهي ترتشف من
الكوب على مهل…….
“مش هرد عليك….مش هعكر مزاجي وانا بشرب الشاي……مش هعكر مزاجي…….”
شعر حمزة بالحنق فتشدق بجزع…..
“خلاص عرفنا انك مش هتعكري مزاجك…خلصي كوباية الشاي خلينا نروح……”
رفضت قمر وهي تنظر للمكان بحب…..
“لا انا قاعده شوية…لو انت عايز تروح شغلك روح….
انا قاعده شوية…….”
انقلبت ملامحه مئة وثمانون درجة…..فقال
بضراوة……..
“يعني إيه قاعده شوية انتي طالعة مع سوسن..
خلصي عشان أروحك……..وبطلي مرقعه وشربي
الشاي عدل…… مش بنصور إعلان هنا…..”
جفلت قمر من هجومة الضاري….. فامتقع وجهها
متبرمة….
“لا حول ولا قوة إلا بالله….هو انت يابني بحالات مرة
تهزر…. ومرة تتريق….. ومرة تبقا كويس… ومرة تبقا قليل الذوق وتتغاشم…..انت مين فيهم……..”
أجاب بجمود….
“انا كلهم…… خلصي عشان اروحك……”
زفرة مغتاظة من اوامره الغليظة……فقالت بقلة صبر….
“حاضر خمس دقايق ممكن……”
“ممكن…….” قالها بتهكم وهو يخرج علبة من السجائر
من جيبه…..وعندما لمحتها قمر قالت بحنق
شديد….
“بلاش تشرب سجاير بتخنقني……. وعندي حساسية……”
عند تلك النقطة تافف حمزة وهو يعيد العلبة
لجيبه قائلاً بسخرية سوداء…….
“لا إله إلا الله….. بلاش سجاير خالص… اهم حاجة سلامة الست قمر…….”
“شكراً…….”ابتسمت قمر ببرود قاصدة استفزازه…..
فقال هو بهماجية دون تردد وهو يجز على
اسنانه…
“وشك بيستفزني أوي ياقمر……حقيقي نفسي اضربك……”
لم تتراجع ولم تزول الابتسامة بل تابعت بها
مجيبة باسلوب أهدى…..
“نفس إحساسي والله من أول يوم شوفتك فيه…”
اسودت نظراته فذكرها بصوتٍ محتد
منفعل…….
“دا بجد من أول يوم…….. شكلك نسيتي اللي
عملته عشانك……..”
اسرعت قمر تقاطعه مكتفيه بهذا
القدر……..
“لا لا متبدأش…….. خلاص سكت…. سكت……”
رد حمزة بتشفي……. “ايوا كده……اتعدلي……..”
احمر وجهها بشدة وهتفت بصيحة
غضب ذاهلة…..
“اي اتعدلي دي شايفني معوجة…. لا بقولك اي ياحمزة إلا كرامتي……..”
سألها حمزة بعدم فهم…….
“هي فين كرامتك دي لمؤخذه……”
اتسعت عينيها وكانها تلقت اهانة
كبرى……
“إيه…. قصدك اني معنديش كرامة؟!…..”
كان دوره هو بان يندهش مصححاً……
“اي الهبل ده…. هو انا جيت جمب كرامتك أصلاً
انتي بتألفي…….”
قالت قمر بصرامة……
“لا مش بألف……. بس انا معدولة غصبا عن عينك……..”
اوما براسه مبتسماً وهو يراضيها قائلاً
بقنوط…..
“بهزر معاكي بلاش تقفشي كده……يلا بينا عشان نروح…..”
نهضت من مكانها حاملة حقيبتها على كتفها وهي تقول بحياء…….. “ماشي…… شكرا على الفطار……”
ادعى الدهشة مجيباً بمزاح……
“انتي لسه فكرة……. دا عم عيسوي بيلم العدة وماشي……..”
ضحكت قمر وهزت راسها باستياء من هذا الرجل والتركيبة الجبارة به…….استقلت السيارة بجواره
وانطلق حمزة بها عائداً الى البيت حتى يوصلها
ويتابع عمله……..
……………………………………………………………..
لم تصدق بعد انها اليوم تجهز نفسها لأجل استقبال
خاطب في بيتها……..آتى حتى يطلب يدها من أبيها….
استغربت جداً موافقة أبيها السريعة على الأمر
حتى انه بعد ان علم من اخيها لم يجلس معها
كي يستشيرها في الأمر او يستفسر منها عنه
كأي اب يفعل مع ابنته………بل بالعكس عجل في
طلب عاصم وطلب أيضاً منه ان يحضر اليوم ليراه ربما يتفقا ثم ياتي المرة المقبلة بباقي أفراد عائلته
لقراءة الفاتحة والاتفاق على الخطبة…….
رغم انها تشعر بشيءٍ مريب من ناحية أبيها إلا انها
ارتاحت من تسهيل أمر الزيارة…… فهذا أول شيءٍ
كان يقلقها….. لقاء عاصم بوالدها……
تتمنى ان يمر الأمر مرور الكرام….. طالما ان والدها
وافق سريعاً على طلب الزيارة……
يبدو انها بالفعل عائق كبير في حياته… لذلك يسعى
للتخلص منها مع أول خاطب يطرق بابه ؟!……
أسبلت اهدابها بحزن وخفق قلبها بوجع…….وهي
تقف متسمرة امام باب خزانتها تبحث عن شيءٍ مناسب ترتديه أليوم…….
فلم تلبث إلا قليلاً ووجدت من يقتحم الباب عليها
بالطبل والغناء والزغاريد…….مهللين بفرحاً…..
رفعت شهد عينيها مبتسمة….وهي ترى كيان تمسك
طبق بلاستيكي وتطبل عليه بينما قمر تطلق
الزغاريد وهي تغني مع كيان…..
(هو اللي خطبها، هو اللي نقاها
راح وقال لأبوها أنا دايب في هواها…..خد أبوه
وأمه وخاله ويا عمه والشبكة قدمها للي
بيتمناها…..)
ضحكت شهد بقوة وقد أحمر وجهها من شدة الخجل……..
اتجهت إليها كيان وقمر وكلا منهن سندت على
كتفيها من الجهتين…….
قالت قمر بمحبة وهي تقرص وجنتها….
“مبروك ياشوشو…….عقبال الفرحة الكبيرة….”
لم تزول ابتسامتها وهي ترد على قمر
بود….
“الله يبارك فيكي ياقمر…….. عقبالك ياحبيبتي……”
سالتها كيان بحماس…
“قوللنا بقا……قررتي هتلبسي إيه…..”
عادت شهد للخزانة المفتوح على مصراعيها….
“لسه بفكر………”
ابتعدت قمر عنها قائلة بتطوع وهي تلامس
اثواب شهد المعلقة والمرصوصة على
الشماعات……
“اي رايك اطلعلك حاجة على ذوقي……..”
جزت كيان على اسنانها بغيرة….
“نطلعلها سوا…..دي اختي برضو وانا عارفه هي بتحب إيه……..”
وقفت كيان جوار قمر بتحدي…..فاغاظتها
قمر بإبتسامة باردة…….
“ذوقي انا وشهد واحد متقلقيش…….”
رفعت كيان حاجبها ساخرة وهو تشملها
بنظرة مقيمة…….
“يسلام مش باين خلاص ان ذوقكم واحد…”
زفرة شهد الواقفة خلفهما بجزع……
“انتوا هتتعاركوا ولا إيه….بلاش صداع…هتساعدوني
ساعدوني بشويش……..انا لسه هطلع الهدوم وهكويها……”
اقتربت منها قمر تطمئنها بـ…….
“متقلقليش ياشوشو…..انا هكوي الفستان اللي هتلبسيه…….”
استحسنت كيان الفكرة لذا قالت هي
ايضاً……..
“وانا هفردلك شعرك بالمكوى……وهحطلك ميكب…”
هتفت شهد بجدية…..
“قبل ده كله…….حمزة جاب حاجة حلوى عشان
نحطها قدام عاصم…….”
ردت عليها قمر وهي تبحث عن ثوب
مناسباً…
“اه حمزة نزل من شوية……ربع ساعة وهيجي…..
وابوكي كمان زمانه على وصول…….”
ثم اخرجت واحداً ورفعته
امامها……
“يلا انتي بس عشان تجهزي……..اي رايك في ده… ”
رفضت شهد بحرج منها…..
“لا لا ياقمر…..انا عايزة حاجة هادية عن كده…”
ضحكت كيان ضحكة صبيانية خبيثة…..
“ذوقنا واحد…..باين أوي…..قولتلك انا عارفه ذوق أختي……شهد بتحب الالوان الهادية الرقيقة….”
اتجهت كيان الى الخزانة ودفعت قمر في كتفها
ثم بدات تبحث عن ثوب يليق باختها……فاخذت
واحداً منهم ورفعته امامهن قائلة بجذلاً…….
“اي رايك في ده ياشهد……”
رفضت شهد سريعاً مستهجنة…..
“لا طبعاً ياكيان…. دا هيبقا ضيق اوي عليا…..”
ضحكت قمر بشماته وهي ترمق كيان بطرف
عينيها……
“معلش أصل اخلاقه ضايقه زي ناس……”
هاجت كيان غاضبة…… “احترمي نفسك ياقمر……”
تخصرت قمر قائلة بمياعة
مستفزة….
“حد كلمك ولا اللي على راسه بطحه……”
اشتعلت فيروزيتاها فخطت خطوتين نحوها
تنوي العراك……..
“لا دا انتي عايزة تضربي بقااا………”
اتسعت عينا قمر وكانت سترد عليها باقذع الكلمات لكن صياح شهد القوي اوقفها…..
“بس انتوا الإتنين………بس……”
نظرا الفتيات لبعضهما ثم لشهد التي إشارة على باب غرفتها بنفاذ صبر……..”اطلعوا برااااا……..”
قالت قمر بدفاع…… “ياشهد هي اللي بدأت……”
اصرت شهد بصيحة قوية ووجهاً
مكفهر…..
“اطلعوا برااا انتوا الإتنين…….لو سمحتوا…..”
خرجت قمر سريعاً….ام كيان فاشارة على
نفسها بمسكنة….
“بتطردي اختك ياشهد من اوضتك……”
اومات شهد بصرامة ومزالت سبابتها معلقة على الباب في اشارة صريحة…….
“انا معنديش خيار وفقوس……براااا ياكيان……”
زمت كيان شفتيها وخرجت من الغرفة بغضب وهي تبرطم بكلمات غير واضحة…..
اغلقت شهد الباب عليها وزفرة بارتياح……مستحيل
ان يجتمعا سوياً انهما كالضرائر……..ومشاكلهن
معاً تافهة وتزعجها……..
وضعت يدها على راسها الصداع يتفاقم…يكاد يفجر
رأسها…..كثرة التفكير وقلة النوم اوصلها لهنا…..
اذا كانت اعطت كل هذا الوقت والتفكير والمجهود
في أمر الخطبة….ماذا عن الزواج……ان تم التوافق
بينهما بالفعل……هل ستتزوج فعلاً وتبقى تحت
رحمة رجلاً ؟!….
عادت الى خزانة الملابس وبعد لحظات اخرجت
ثوب انيق هادئ الالوان يليق بها وباليوم……
القت الثوب على الفراش فوجدت هاتفها ينير باسمه……. خفق قلبها وهي تمسك الهاتف
مترددة في الرد……
ماذا يريد…. هل هو قادم الآن….. مزال الموعد بعد ساعتين من الآن……..
قادها قلبها ففتحت الخط ووضعت الهاتف على اذنها……
(كنت هزعل لو مردتيش……)
ابتسمت وهي تشاكسه
برقة…….
“مكنتش ناويه أرد أصلا……..متصل ليه….خير… ”
اخرج تنهيدة ثقيلة وهو يدعي الحيرة…..
(اكيد خير…كنت محتار البس إيه بصراحة….فقولت اخد رأيك……)
نبض قلبها مستجيب له بكل
جوارحه…”في ايه بظبط……”
قال عاصم بصوتٍ رخيم مفكراً……
(يعني البس بدله كحلي ولا سوده…ولا رمادي….)
اقترحت بصوتها الموسيقي الناعم…..
“البس كاجول أحلى…..بلاش تكون رسمي اوي…”
لمعة عيناه على الناحية الاخرى
متسائلاً…..(انتي شايفه كده……)
اكدت بوجها متخضباً بالحمرة…..
“آه…..وطبعاً زي ماتحب….دا مجرد اقتراح…..”
هتف عاصم بمراوغة…….(حبيتوا أوي……)
ازدردت ريقها بتساؤل……..”اي ده…..”
ابتسم عاصم بخبثٍ…..
“الاقتراح طبعاً…….هيكون إيه… ”
عضت شهد على باطن شفتيها وتلألأت عسليتاها….فسمعت عاصم يخبرها بمرح….
(باقي من الزمن ساعتين إلا عشر دقايق….)
تلك المرة فلتت الضحكة من بين
شفتيها…..
“كويس يدوبك تلحق تلبس……”
لم يود الإغلاق معها الان لذا سالها
بتطفل….(بتعملي إيه……)
جلست على حافة الفراش جوار
ثوبها…. “ولا حاجة قاعده………”
صرح عاصم بصوتٍ أجش……
(تعرفي اني مبسوطه اوي اني باخد الخطوة دي ناحيتك……..)
ارتبكت وانعقد لسانها فلم تجد رداً إلا….
“آه……..”
هز عاصم راسه مستاءاً……..
(آه……..هو ده الرد……..ماشي….المهم تحبي اجبلك اي معايا وانا جاي…….)
رفضت سريعاً بخفوت…..
“ولا حاجة متتعبش نفسك…….”
سالها مستفسراً برفق……..
(بتحبي نوع ورد معين……يعني قصدي لون معين…)
لم ترد احراجه فقالت برقتها المعهودة…..
“جيب على ذوقك…..انا بحب الورود عمتاً…معنديش
نوع معين……….”
سالها مجدداً…..(طب بتحبي نوع شوكلاته معين……)
تلك المرة لم تجاريه في سؤاله بل قالت
بحرج…..
“عاصم…..قولتلك متتعبش نفسك بوكية ورد كفاية…….”
(تمام……هشوف الأول………..)
اغلقت معه الهاتف ثم رمته على الفراش وهي
ترجع خصلاتها للخلف بابتسامة تشع خجلاً
وسعادة………
ولم تمر الثواني وتاتيها مكالمة اخرى من رقم غريب
انعقد حاجبيها وهي تنظر للرقم قليلاً…..ثم فتحت
الخط ووضعت الهاتف على اذنها بتراقب…….
“الو…..السلام عليكم……..”
(انا مُهجة ياشهد……مراة ابوكي………”
نهضت من على الفراش واقفه وكان اصابها
ماس كهربائيّ…… شاعره بتشنج في اعصابها…..
وهي تسالها بحنق شديد…….
“جبتي رقمي منين…..وبتتصلي ليه أصلاً……..”
اتى صوت مُهجة بهدوء شديد….
(عيزاكي في موضوع مهم يخصك…….ويخص العريس اللي جاي يتقدملك النهاردة…….)
عبست شهد بنفور متمتمه بضيق …..
“انتي عرفتي منين….آه اكيد جوزك قالك…..انا مش عايزه اسمع حاجة معلش مش فاضيه…..”
قالت مُهجة بصلابة….
(الموضوع اللي هحكيهولك مهم…..مهم اوي ياشهد……….)
سخرت شهد وهي تقول بتبرم…
“مهم إزاي بقا………انتي تعرفي ايه عني…او عن العريس اللي هيتقدملي…….”
قالت مُهجة بلؤم…..
(أعرف انه عاصم الصاوي….وعرفت لما الهام جت شقة ابوكي التانيه انه ابن اخو جوزها…….)
لاحت التساؤلات على وجهها
الشاحب….
“الهام……جت عندكم…..إزاي وليه…….”
اتى صوت مُهجة بلهجة شديدة الخطورة….
(دا بقا اللي عايزة اعرفهولك………في حاجات كتير انا سمعتها بينهم…..وليكي حق تعرفيها……)
لم تطمئن شهد للامر بُرمتة لذا قالت
بتشكيك….
“وايه اللي يثبتلي ان كلامك صح…مش يمكن تكوني بتشتغليني………”
القت مُهجة اخر كارت رابح معها وقالت
بمكر…….
(براحتك انا عملت اللي عليا وحبيت احذرك من ابوكي…..لاني عارفه انكم كلكم على خلاف معاه..
ومستحيل تتفقي معاه على عاصم…….عشان تاخدوا فلوسه…….)
رمشت بعينيها مذهولة مما تسمعه……لذا تمتمت
بصدمة………
“إيه فلوسه……..اتفاق ايه وفلوس ايه….انتي بتخرفي يامُهجة……..”
زفرة مُهجة على الجهة الاخرى بنفاذ صبر……
(انا مستنياكي في *****….اكيد عرفاه…..نص ساعة
لو مجتيش انا همشي…….سلام….)
أغلقت الهاتف معها….فوقعت شهد على حافة الفراش
متسعة الأعين شاحبة الوجه…….لم تستوعب بعد
المخطط القائم من خلف ظهرها…….لذا سريعاً لم
تفكر مرتين اتجهت الى أقرب ثوب خروج من خزانتها حتى ترتديه وتذهب لمقابلتها… ربما
تفهم ماذا يحدث معها……
بعد دقائق خرجت شهد من غرفتها مرتدية ثوب خروج حاملة حقيبتها فوق كتفها….
ابصرتها كيان وكذلك قمر…..فاقتربت منها
اختها بتساؤل……
“في اي ياشهد…..راحه فين كده…….”
“مشوار…….ربع ساعة ورجعه…….”قالتها شهد وهي تتجه الى خزانة الأحذية وتخرج منها حذاءها…..
تدخلت قمر في الحديث مستنكرة….
“مشوار اي ياشهد….حمزة وخالي زمانهم على وصول…….افرضي جم قبلك…. ”
اتفقت معها كيان محذره شقيقتها…..
“ابوكي لو دخل البيت وملقكيش فيه… هيطربق البيت فوق دماغنا…….”
صاحت شهد بغضب…..
“قولتلك ربع ساعة مش هتاخر…..” ثم فتحت الباب وخرجت منه مغلقة اياه بمنتهى العصبية…….
فتحت كيان الباب خلفها ونادت
عليها بضيق…..”ياشهد….. شااااااهد……”
عندما لم تجد رداً زفرة بقوة وهي تدخل الشقة وتغلق الباب خلفها…..
“ركبت الاسانسير……. يومنا منيل بنيلة النهاردة……..”
قالت قمر بوجل….. “ان شآء الله ترجع قبلهم……”
هزت كيان راسها متوقعه الاسوء…..
“لا انا مش مطمنه ياقمر…. شكلها أصلا كانت معيطه……في حاجة وحشة حصلت.. انا مش مطمنه……..”
……………………………………………………………..
تحولت عينيها الى كورتين مشتعلتين من الجمر القاتم…..بينما تجلس امام مُهجة تسمع كل مادار
في زيارة إلهام….وكم ان والدها اخذها كطُعم لصيد الهام والوصول الى أهدافة من خلال مساومتها
بزواجها من عاصم………
أسبلت اهدابها بغضب وهي تسمع الكلمات تخرج
من لسان مُهجة كقذيفة من لهب تضربها بصدرها
بقوة…….أحمر وجهها من شدة الغضب…..
سالتها شهد بعد لحظات بملامح متجمدة…..
“واي اللي يضمني ان كلامك صح….يعني استفدتي
إيه انك قولتيلي…….”
قالت مُهجة بمسكنة…..
“استفدت اني احافظ على جوزي….ابوكي…..
وان اوعيكي…… برضو مهم كان احنا ولايه
زي بعض…. ”
لم تعقب شهد بل ظلت تنظر اليها بملامح
جامدة غير معبرة….مما جعل مُهجة تسألها
بلؤم…
“ساكته ليه……..ناويه تعملي إيه……”
نهضت شهد من مكانها قائلة بجمود…..
“ملكيش فيه بقا…..انتي مش قولتي اللي عندك….”
سالتها مهجة بقلق في جلستها……
“طيب يعني……..هتقولي لابوكي ان انا اللي قولتلك………انتي عارفه انه ممكن……”
أبتسمت شهد بببرود……مشمئزة من كل شيء
حولها ينتمي لعثمان الدسوقي……
“اطمني……….بس ياريت تكون اخر مرة اشوفك
فيها…….”
احتقن وجه مهجة وهي تنهض كذلك قائلة
بعتاب……
“بقا كده ياشهد…..دا بدال ما تشكريني…….”
فلتت ضحكة باردة من بين شفتي شهد….
وتكلمت بسخط……..
“أشكرك….هو انتي عملتي كده لله يامُهجة…مانا وانتي عارفين انك عملتي كده عشان تحافظي
على جوازك من ابويا وفلوسه……..”
لم ترد مهجة بل ظلت تنظر اليها بسوداوية…..مما
جعل شهد ترفع يدها مودعة اياها ببرود….
“سلام يامراة أبويا…….”
…………………………………………………………….
“يعني ايه خرجت……..هي مش عارفه ان عاصم
الصاوي جاي النهاردة….هي بتستهبل…….مشوار
ايه اللي تروحوا دلوقتي……..”
صاح حمزة في الفتيات بقوة……فجز عثمان كذلك على أسنانه وهو يتوعد لها بأشد العقاب……
صدح جرس الباب في تلك الأوقات….. فاشار حمزة
لهن بدخول الغرفة…….ثم نظر الى والده فاشار اليه
بعيناه القوية ان يفتح الباب……..
اتجه حمزة الى الباب بملامح مكفهرة… ليجد عاصم
الصاوي في وجهه متأنق بطاقم كاجول فخم… مصفف شعره الأسود للخلف…يقف امامه بوسامة وشموخ وهو يحمل بين يديه باقة من الزهور الجميلة المتنوعة وعلبةٍ من الشوكلاته الفاخرة………..
بلع حمزة ريقه بتوتر…….وحاول السيطرة على اعصابه المتشنجة وهو يقول بهدوء……
“أهلا يامعلم عاصم نورت…….”
تنحى حمزة جانباً وهو يشير له بالدخول…..ففعل
عاصم ودخل بهيئة الخاطب الوسيم……
وعندما أبصر عثمان ابتسم مرحباً به….فارتدى عثمان
هذا الوجه البشوش الودود مع كل الاغراب…….
واتجه اليه مرحباً به بحفاوة…..
“أهلا أهلا ياعاصم يابني…….نورت…..اتفضل اتفضل من هنا……….”
أشار على غرفة الجلوس فدخل عاصم ولحق به
عثمان… فوقف حمزة في منتصف الردهة لا يعرف
ماذا يفعل الآن… خصوصاً ان شهد لم تاتي وهاتفها
خارج التغطيه……….
خرجت قمر من الغرفة فوجدته يقف مكانه منحني
بغضب وكانه يحمل هموم العالم على عاتقه….
عندما ابصرها حمزة سالها بوجوم….
“مردتش عليكي برضو…….”
هزت قمر رأسها….وهي تخبره برفق…..
“زمانها جايه متقلقش………”
أمرها حمزة بصوتٍ أجوف……
“روحي اعملي قهوة ليهم……وخبطي على الباب وانا هاجي اخدها منك…..متدخليش…… ماشي……”
قال آخر كلمتين بتحذير وهو ينظر الى عينيها……
فهزت راسها خاضعة لأمره………
دخل حمزة غرفة الصالون وتشاركا بعض الأحاديث
مع عاصم…….حتى أتت اللحظة الحاسمة عند عاصم
ودخل في صلب الموضوع حيث قال بهدوء…..
“طبعاً انا جاي النهاردة عشان اتعرف عليكم…قبل ما اجيب عمي وجدتي عشان يطلبوا ليا ايد شهد رسمي منكم……”
نظر عثمان وحمزة لبعضهم بصمت….فتابع عاصم بصوتٍ خشن حازم…….
“طبعاً شهد شغاله في المطعم اللي اجره حمزة مني…
وحقيقي هي انسانة محترمة ومؤدبة…….وحاسس
ان ممكن يحصل نصيب بيني وبينها………”
اقتحمت الغرفة فجأه شهد هاتفها بصرامة
وعيناها المشتعلتين لا تحيد عن والدها في
نظرة متحدية…….
“للأسف ياعاصم بيه…..مش هيحصل اي نصيب بينا……..”
نهض عاصم من مكانه ونظر الى وجهها الباهت الحزين والى عينيها الحزينتين الحبيستين
بالدموع…. فعلم ان هنا ما يسوء… لذا لم يمنع
نفسه عن سؤالها امامهما بقلق……
“في اي ياشهد….. مالك……..”
انتفض قلبها بوجع وهي تعلم ان تهورها سيدفعها
للمزيد من الكوارث مع والدها….لكن لا بأس….ربما
اتى اليوم التي تقف فيه امامه وتخبره بـ(لا…)
حتى ان كان على حساب رجلاً تكن له القليل
من المشاعر………
تابعت شهد بنبرة باهته مهتزة……
“انا مش عايزة اتجوز…….طلبك مرفوض يا عاصم
بيه…….. انا آسفة…..”……
تعتذر؟!….
تخسف بكرامته الأرض امام عائلتها ثم تعتذر…. ترفضه بعد موافقتها…..ثم تعتذر ؟!…….
اي عبث هذا؟!….هل هي مختالة………
ظل ينظر اليها للحظات غير مستوعب بعد ما حل
بها….
كانت عينيها قاتمتين حادتين…..وكانها تحارب وحدها تحارب الجميع حتى تربح ؟!….
ماذا ستربح؟!….
ظلت النظرات النارية بينهما قائمة للحظات كانت تشتعل بحربٍ ضارية ، حرب من نوع آخر……ولكلا منهما وجهةٍ خاصة…..
حتى قطع عثمان الصمت قائلاً بحدة وهو يعنف
ابنته بقسوة…..
“اي قلة الادب اللي انتي فيها دي ادخلي على اوضتك………من امتى والحريم بتدخل في كلام
الرجالة………….وبعدين انا معنديش بنات تقول رأيها انا هنا اللي أأمر وانهي…..سامعه…. على اوضتك……”
لم تهابه بل وجهت نظراتها وحديثها نحو عاصم
قائلة بقوة بها لحمة من الجمود………
“انا قولت اللي عندي ياعاصم بيه…. ولو في اي حاجة تمت بعد ما اخرج من هنا….. هتكون غصب عني….. واكيد كرامتك مش هتسمحلك خالص
أمرأه جافة المشاعر مثلها……فاوما عاصم براسه
بملامح متصلبة مظلمة ونظرات خالية من الحياة…..
“عندك حق…. واضح اني غلط في العنوان……….”
حاول عثمان ايقافه بكل الطرق الممكنة لكن
عاصم اصر على المغادرة وخرج من غرفة
الصالون يتخطاها دون النظر اليها وكانها لم تكن !….
بعد رحيله اغمضت شهد عينيها وتركت العنان لدموعها وقد خارت قوتها فوقعت أرضاً ودخلت
في نوبة صامته من البكاء مرير…..شاعرة بانها
فقدت شيءٍ داخلها قيم…..
ذي قيمة منحهُ لها شخصٍ رائع كان بمثابة قارب
نجاة لها فبدلاً من الصعود إليه اختارت الغرق
فهُلكت مختنقة حتى الموت ؟!…وزال كل
شيءٍ حلوٍ بعدها…….
وقفت في صالة الشقة بمواجهة الجميع واولهم أبيها
الذي كان يشتعل في وقفته يحاول السيطرة على نفسه حتى يفهم أولاً لماذا رفضت عاصم الصاوي
بعد موافقتها عليه……بعد ان اتى عند بابها طالبا الحلال……..
“انا عايز افهم اي اللي انتي هببتي ده…..دانتي صغرتينا قدام الراجل…….اي اللي هببتيه ده…
انطقي….. ”
انتفضت شهد بعد صرخة تفوح بالكراهية والتوعد
لكنها لم ترتد للخلف بل تماسكت…وهي ترفع عينيها
المظلمة اليه قائلة بهدوء لا يوازي الموقف برمته…
“اي اللي انا هببته….مش عايزة اتجوز…. سهله يعني…..”
صاح عثمان بسوداوية وبملامح انقلبت
لشيطان لعين……..
“حد يرفض عريس زي ده….انتي كنت تطولي
واحد زيه يبص في خلقتك…..بوز فقر زي اللي جابتك….”
اسبلت شهد اهدابها ولم ترد……..فاقترب منها
عثمان يجذبها من شعرها فجأة صارخاً……
“اي اللي غير رايك يابت…. كنتي جايه منين… كنتي مع مين ردي……..”
تدخل حمزة حائل بينهما محاول ان يخلص
اخته من بين يدي والده…..وكذلك قمر وكيان
حاولوا التدخل وهم يصرخون بفزع……..
صاح حمزة بنفاذ صبر…….والهلع واضح
في عيناه القاتمة…….
“سيبها……… سيبها خلينا نفهم…..”
هدر عثمان بمقتٍ من بين تلك الدائرة
المكتظة بهم جميعاً…….
“اخرس مفيش حد فيكم محكوم…. كل واحد فيكم داير على حل شعره……..معرفتش تربيكم كريمة…
ماتت وسابتكم انجاس……”
شدد عثمان في مسكته على شعر شهد التي كاد
ان يقتلع بين اصابعه الغليظة…….شحب وجه
شهد وشعرت بان الهواء ينسحب من بين
رئتاها وقد خارت قوتها امام صلابته….
فلم تتحرك ذرة من الرحمة والانسانية بقلبه
عثمان بل تابع جذبها اكثر وهو يصيح
بغضب…..
“كنتي مع مين…….كنتي مع مين برااا…..”
خلصها اخيها باعجوبة من بين يده فاستقامت
تصرخ بعينين حمراوان من شدة الغضب
والبكاء…
“سيب شعري حرام عليك….سبني انا حُرة…..اتجوز ولا متزفتش…. انت هتغصب عليا… انا مش
صغيرة…….سامع…”
صاح عثمان يحاول الوصول لها……
“سمعتي الرعد يابنت الكلب…بتعلي صوتك عليا…
انطقي ياعرة كنتي تحت مع مين انطقي….”
تمردت شهد في رد عليه تلك المرة بطريقة
أحرقت الدماء في عروقة…..
“مش هريحك ومش هقولك حاجة ولي عندك
اعمله…وجواز مش هتجوز…….لا عاصم ولا غيرة……”
اندفع غضب عثمان دفعة واحده فصرخ
بمنتهى القسوة……
“مش بمزاجك ياروح أمك….دا انا ادفنك هنا…اللي بوظتي ده تصلحيه………ان شاء الله حتى تروحي لحد عنده وتبوسي ايده عشان يرضى يبص
في خلقتك العكرة دي تاني……….”
تسمرت شهد بعينين متسعتين بصدمة….وكذلك
الفتيات تلبسهن قناع الحيرة والدهشة…..ام
حمزة الذي كان يقف في مواجهة والده يمنع عن اخته البطش……فارة دماؤه صائحاً بغضب
ومروءة……..
“انت بتقول إيه….تبوس ايد مين…..مافي داهية….”
“اخراااس انت كمان….اللي بقوله يتنفذ…..سامعه…”
دفعهُ عثمان لكن حمزة لم يتحرك من مكانه….بل اظلمت عيناه واشتعل صدره شاعراً بان الخطوة القادمة لن تكون سالمة مع من يُدعى أبيه !!….
كانت أول شخصٍ لاحظ انفعالاته التي تنذر
بالخطر هي قمر فاقتربت منه ومسكت ذراعه
تترجاه بعيناها ان يتحلى بالصبر فالموقف لا
يحتمل كوارث أخرى……..
خلفهما صاحت شهد بعناد والدموع تغرق وجهها
الشاحب شحوب الأموات ترمقه بعينين
غائرتين بائستين…….
“لا مش سامعه….طلعني من حساباتك…..انا مش هتجوز لا عاصم ولا غيره….دور على طعم تاني
ترميه عشان توصل للي في دماغك……”
جفل حمزة من هذا الكلام المبطن فنظر لاخته ليجدها تتابع بكرهٍ شديد ها هو ينتشر في عينيها
بدلاً من الخوف…….الكره المخبئ في جوف
اعماقها…..
“انت اي ياخي….معقول تكون أبونا….بتستغلنا عشان
توصل للقرف اللي في دماغك…….ياخي ينعل ابوو
كده…….”
اتسعت عينا عثمان تليها الجميع فلم يتوقع احد
ان تلك الهادئة المتسامحة تحمل كل هذا الكره والغضب نحو من تسبب لها باذئ نفسي وجسدي عاشت به طوال عمرها صامته خانعة ناكسة
الرأس في حضوره !!……
هاج عثمان من تمردها وقلة ادبها
أمامه………
“يانعل ابو مين يابنت الكلب……”
لم يعرف الوصول اليها بسبب ثلاثتهما…فصاح
مهدداً اياها بشرٍ……..
“بطولي لسانك عليا…دا انا هقطعهولك….وهكسرلك رجلك اللي واقفه عليها دي قصادي…مش هرحمك لو منفذتيش اللي طلبته منك……مش هرحمك….”
عاد هذا الشعور الخطير يموج في حلق حمزة
بعد تهديد ابيه لاخته…….فاوقف والده بحزم
يهدده بالمثل……
“مش هتقدر تقربلها ولا هتقدر تلمسها……المرة اللي فاتت مكنتش موجود عشان ادافع عنها…لكن المرادي
على جثتي……سامع انا معاك هنا ياقاتل يامقتول…”
اتسعت عينا عثمان سريعاً ولم يفكر مرتين وهو
يهجم على حمزة من ياقة ملابسه صارخاً
بعدائية شديدة الخطورة……
“انت بتهددني…….انت عارف اني بمكالمة واحده اوديك ورا عين الشمس……اقول انك ارهابي….
وشغال مع جماعة متطرفة……ولو دخلت أمن
الدولة ياحلو مش هتشوف النور تاني…….”
ابتسم حمزة ساخراً مؤكد على الحديث
بالمثل……..
“اعمل كده….بس قبلها هكون موصلك للخلقك…..”
جز عثمان على اسنانه وهو يوزع نظرات
الكراهية على أبناءه الثلاثة…….
“عايز تقتلني……… اه ياولاد الكلب يا أوساخ….”
تلك المرة تدخلت كيان وهي تصرخ في ابيها
باكية بحرقة…….فقد تلفت اعصابه من هذه
الحياة وهذا المشهد المتكرر دوماً بينهما…
العراك الشتائم الكره……ورغبة في
القتل !!……….
“كفايه كفاية بقاااا…..امشي وسيبنا بقا…..كفاية االلي
بتعملوا فينا……كفاية حرام عليك…….”
تقدمت قمر أيضا تربت على صدرها راجيه
اياه بدموع……..
“علشان خاطري ياخالي…….سيبهم دلوقتي لحد مالنفوس تهدى………بالله عليك…..كفاية كده….”
أومأ عثمان براسه بعصبية وبوجهاً أسود من
شدة الغضب والضعف…..الضعف بعد ان فلت لجام ثلاثتهما….ابنائه تمردا عليه واصبحوا يتوعدا له بالقتل !….صاح بصوتٍ محترق وهو يكاد
يسحق أسنانه من شدة الانفعال…….
“ماشي ياحمزة…….ماشي ياشهد……حسابكم جاي…
اصبروا………..اصبروا ياولاد*****…..اصبروا
*****……”
سبهم باقذع الكلمات فاغمضت شهد عينيها بنفورٍ
وقد هبطت دموعها بحسرة مؤلمة على النفس…..
ام حمزة فوقف متشنج الجسد متصلب الملامح يشاهد خروج ابيه من باب الشقة بعينين شاخصتين ونظرات مجردة من الحياة……ام كيان فانحنت بضعف على الحائط تبكي بحرقة…..
اغلقت قمر الباب واستدارت تنظر اليهم….
فرأت مشهد لم تراه يوماً في حياتها…مشهد يحكي
عن انهزام حقيقي لثلاثة محاربين لم يحاربوا شيءٍ إلا أنفسهم……..هزيمة وحسرة محفورة بخطوطٍ
عريضة مؤلمه على وجوههم البائسة………ثلاثة اخوة لم ترى يوماً أشقاء يعيشوا معاً نفس الوجع والحب وأخيراً الهزيمة !!…..
……………………………………………………………
بعد ان ظل لساعات طويلة يدور بسيارتهُ عاد للمنزل مهموماً منهكاً من شدة التعب وكثرة التفكير بما حدث……مذاق كالعلقم المُر يموج في حلقه
يخنقه….
لم يتوقع ان تنتهي الزيارة هكذآ…..ورغم الغضب مزال يبحث لها عن الف عذر….ومن بين كل الأعذار
لا يجد عذراً يشفع لها ؟!…ويشفي غليلة…..
تم رفضة أمام الجميع…..
مزحة سخيفة ثقيلة ان كان أحد القاها عليه سابقاً
لكان سخر منه ضاحكاً بملء شدقتاه………
هل بكل ما يمتلك من مالاً وجاه ووسامة لا تنكر يُرفض بهذا الشكل السخيف ؟!….
ترفضة بهذا الشكل المهين….لماذا وافقت من البداية
ان كانت تنوي رفضه…..هل قصدت ان تهينه امام عائلتها……..
سينفجر راسه من كثرة التفكير…….الرفض وقع على
مسامعه كالسوط الحاد خدر حواسه و افقده جزءاً من ثقته في حالة ثم بها ؟!…
ماذا فعلتِ يا شهد…….هل لديكِ أسباب مقنعة…ام
ان أسباب رفضك واهيه لن تشفع لكِ عندي……
“انت جيت ياعاصم…….”
استدار الى جدته القعيدة بإبتسامة لا تمت
للمرح بصلة……”لا لسه شوية……..”
لم تبتسم الجدة (نصرة)بعد رؤية ملامحه الذابلة الحزينة….والفرحة المنكسرة في عيناه……..لم
يكن هكذا عندما خرج !!……..
كانت على علم انه ذاهب لمقابلة عائلة شهد والتعرف
عليهما قبل ان يلتقوا بهم في زيارةٍ رسمية…..
هزت نصرة راسها متسائلة…..
“مالك ياعاصم يابني…….اي اللي حصل…….”
لم يتحدث عاصم بل نظر للمكان الواقفين فيه…
فكانوا في الممر المتواجد به غرف نوم الجميع..
مما جعل نصرة تشير له بأن يسبقها على غرفتها وتحركت بمقعدها الكهربائيّ نحوها……
أغلق عاصم باب الغرفة خلفه وجلس على حافة الفراش ينظر الى جدته بصمت……
“احكيلي اي اللي حصل……..”
أجابها بوجوم…..
“مفيش نصيب ياحاجة………ماتوفقتش في مشواري…”
سالته نصرة بحيرة…….
“ليه….. ابوها رفضك هو مش عارف انت ابن
مين…”
لم يرد عاصم فقد شرد من جديد في كلمات الرفض
التي تلقاها منها كانت اشبه بسهام سامه تخترق
كبرياء رجولته……
فسالته نصرة بملامح
غاضبة…..
“اسمه إيه ابوها ده…….”
فاق من شروده ينظر الى جدته دون تعليق
فسالته نصرة مجدداً بنفاذ صبر…..
“ماتكلم ياعاصم اي اللي حصل في الزيارة دي….”
زفر عاصم وهو يخبرها بالهدوء المتبقي
داخله…….
“ولا حاجة اتكلمنا فا متفقناش…..فمحصلش نصيب….”
رمشت نصرة بعيناها بغير استيعاب……
“بالسرعة دي…..طب اتكلمت مع مين بقا……”
أجاب عاصم….. “مع أخوها وابوها….”
سالته بشك…… “وهما اللي رفضوك……”
زمجر عاصم قائلاً بصلابة…..
“محدش رفضني….انا اللي شايف ان الموضوع كله مش نافع……….”
لاح التعجب على ملامح نصرة….
“ليه بس يا ابني……دانت كنت ميال ليها اوي…”
اظلمت عيناه ثم اجابها بصوتٍ متحشرج….
“كنت بس دلوقتي…..لا……..”
سالته الجدة بمكرٍ…….
“يعني على كده…….هترجع بقا لـ……لرفيدة………”
اتى الرفض القاطع منه……
“لا رفيدة ولا غيرها….مش عايز خالص…….”
توجسة نصرة من ردة فعله المبالغة…فقالت
بعدم رضا………
“اي الكلام ده…..هتكمل حياتك كده……جرالك
اي ياعاصم……..”
يُشعر بالاختناق والصداع يتفاقم في راسه مما
جعله ينهض من مكانه قائلاً بصوتٍ مجهد….
“انا تعبان ياحاجه وعايز أرتاح في اوضتي……”
نظرت له نصرة بحزن وشفقة…وعادت تستفسر
منه بقلق الأم……
“انا مفهمتش حاجة برضو يا ابني…..انت ليه راجع
مهموم اوي كده……اي اللي حصل ياعاصم ريح قلبي…….”
رد عاصم بصبرٍ…..
“زي ماقولتلك ياحاجه…..ماتوفقتش……..”
ترقرقت الدموع في عينا نصرة فحاولت ان تراضيه
بحناناً قائلة بعطف……..
“طب ما تزعلش نفسك….هي اللي خسرانه……مع اني
شايفاها بنت كويسه ومحترمة…وتستحقك….لو بس تريحني وتقولي حصل إيه في زيارتك ليهم…..يمكن
يابني أصلح بينكم……..”
تقدم منها عاصم وانحنى يقبل قمة راسها قائلاً
برفق…….
“بلاش تتعبي نفسك الحوار انتهى من قبل ما يبدأ…
انا هروح ارتاح في اوضتي……تحبي انقلك على السرير ترتاحي……..”
رفضت الجدة نصرة وهي تمسح دمعة فارة
من عينيها…..
“متتعبش نفسك هنية طالعه دلوقتي بالعشا والدوا……اخليها تحضرلك العشا…. ”
امتنع عاصم قائلاً بخفوت….
“لا مليش نفس…..تصبحي على خير…….”خرج
من الغرفة مغلق الباب خلفه……..
تاوهت نصرة بحسرة على حياة حفيدها وعمره
الذي يضيع هباءاً بدون زوجة وأولاد يؤنسا
وحدته كمن في سنه……..
“آه ياحسرة قلبي عليك ياعاصم……ياترى اي اللي حصل قلب حالك كده……..”
عندما دخل غرفته بدل ملابسه سريعاً والقى نفسه على الفراش بتعب محاولاً النوم دون التفكير بها…..لكن كيف وعقله وقلبه يحترقا بسببها
هي !!……..
………………………………………………………………
دخلت الغرفة في الظلام واغلقت الباب سريعاً ثم تنفسة الصعداء……والابتسامة المتشفية مزالت
تزين ثغرها المنتفخ من كثرة حقن التجميل……
“كنتي فين يالهام……”قالها مسعد وهو يزيح غطاء الفراش عن وجهه……..
إبتسمت الهام وهي تقول بوداعة…..
“ولا حاجة ياحبيبي كنت بجيب مايه……..”
نظر مسعد ليداها الفارغة بشك….
“وهي فين الماية دي……”
نظرة الهام ليدها ثم لوجه زوجها الناعس
فقالت بمناورة…. “ها….آه شربتها…….”
زم مسعد شفتاه قانطاً……
“واضح انك مش معايا خالص…..انا هنام أحسن…”
عاد مسعد للنوم ودثر جسده ووجه أسفل
الغطاء….
رمقته الهام بقرف ثم غمغمت بضيق…..
“نام……..نام هو دا اللي انت فالح فيه……..”
ثم عادة تبتسم بانتصارٍ وهي تمسك هاتفها
وترسل رسالة مختصرة لاختها…..
(عندي ليكي خبر حلووو اوي يارافي……شهد
خلاص بقت بح…….)
اغلقت الهاتف وهي تزفر نفساً عميقاً بملامح
مرتخية سعيدة…..ثم حدثت نفسها
بصلف……..
“كويس انها جات منك بعدتي نفسك عن آذى
كبيييير أووي كان مستنيكي مني……برافوو ياشهد…..”اخرجت ضحكة رقيعة تليها ضحكات
أشد ميوعة وغرورٍ……….
…………………………………………………………….
كانت تجلس على الفراش تضم ساقيها الى صدرها
وترتاح براسها على ركبتيها وهي تنظر للبعيد بشرود
وحزن دفين…….
معدتها تتلوى من الوجع بينما صدرها يشتعل بقهرٍ وعقلها يحترق من كثرة التفكير به….نزلت دموعها
مجدداً بضعف شاعرة بطعم المذلة تشطر حلقها
لنصفين…..
يجب ان تفكر في مسكن اخر بعيد عن والدها…
حتى ان كان بالايجار……..عليها ان تتحدث مع شقيقيها عندما تهدأ الأمور….عليهما المغادرة
قبل ان تحدث كوارث آخر وفي لحظة تهور
فيضيع أحدهما بسبب رجلا لم ترى منه ذرة
أبوه بل كان دوماً متشبع بالقسوة والجفاء …
والمعاملة السادية وكانهما الد اعدائه…..
ارجعت راسها للخلف بتعب وبعينين غائرتين
بالحزن حاولة بجهد ان تتغلب على ذلك الألم
الذي ينحر في جوف قلبها…….
طرق حمزة على الباب ودخل عندما لم يجد منها رد
فوجدها جالسة على الفراش تضم ساقيها الى
صدرها في عناق مواسياً لمحنتها……
أغلق حمزة الباب واتجه اليها جالساً على حافة الفراش…. نظر لها بملامح متحجرة متجهمة…
ثم سالها أخيراً بصوتٍ غريب….
“فهميني ليه عملتي كده…. ابوكي للاسف عنده حق
انتي صغرتينا قدام الراجل……..”
همست شهد بملامح متجمدة…..
“اللي حصل……. غصب عني……..”
نظر اليها مقطباً الوجه ثم هتف بخشونة….
“إزاي….. انتي مش كنتي موافقة عليه ياشهد… دا انتي بنفسك اللي خلتيني اكلم ابوكي واقنعه يقابله…….”
لوت شهد شفتيها ساخرة…..
“أيوا…… بس مكنتش اعرف ان أبوك عاملني
طُعم عشان يوصل بيه لالهام……”
سألها حمزة بتعجب… “الهام ؟!…. الهام مين…….”
اخبرته بصوتٍ يقطر قهرٍ…….
“حبيبته القديمة……حبيبته القديمة تكون مرات
عم عاصم……..”
لم تتحرك عضلة واحده في وجه حمزة وكان
الخبر الحصري قديم بنسبة له !!……
“وعرفتي منين بقا…….”
اجابة بحرج….
“شوفتها يوم السنويه بتاعت جده….”
هز حمزة راسه مفكراً بصوتٍ عالٍ……
“يوم السنويه…. معنى كلامك انك عارفه كل حاجة من قبلها……”
قالت شهد بصوتٍ أجوف……
“عارفه ووفقت عليه ياحمزة….. بس مكنتش اعرف ان ابوك لسه بيفكر فيها… وان بيساومها بجوازي من عاصم……..يا يرفضوا ويبقوا سوا….. يا يقبلوا
ويقهرها خصوصاً ان عاصم كان جوز اختها…وطلقها من فترة…..يعني عاملني لعبه في ايده عشان يوصلها…. ”
ثم تابعت بغصة مختنقة …..
“انا مش عايزه اكون لعبة في ايده… ولا عايز ادخل
عاصم في كل العك ده…. رفضته لان ده أحسن ليا وليه……. مش عايزه اكون تحت رحمة ابوك… انا مضمنش اي اللي ممكن يعملو فيا لو الخطوبة
دي تمت……..”
عاتبها حمزة برفق وهو ينظر الى ملامحها
الحزينة…..
“بس انتي محكمتيش عقلك ياشهد….. مكنش ينفع
تحرجي الراجل قدامنا بشكل ده مهم كان….كان ممكن ترفضي بأسلوب أحسن من كده….. مش
على الملأ……..”
ثم لوى ثغره هازئاً مضيفاً بوجوم…..
“وبعدين الهام مرات عمه مش امه….. هو برضو ملوش ذنب…. ولا يعرف حاجة عن حكايتنا
القديمة… ولو كنتي فعلاً بوظتي الموضوع كله عشان ابوكي….. اسمحيلي اقولك…. انك هبلة……”
رفعت شهد وجهها مشدوهة مما
سمعت…..
“هبله؟!….بعد كل اللي حكيتهولك…بتقولي هبلة…”
وضح حمزة وجهة نظرة قائلاً بهدوء….
“طالما انتي مرتاحة لعاصم وشيفاه شخص مناسب
وهو طلع راجل وخبط على بابك طالب الحلال….
اي المانع انكم تبقوا مع بعض……”
حرك كتفيه مستنكراً……
“اي المشكلة ان الهام مرات عمه….. اي المشكلة ان ابوكي بيخطط عشان يوصلها…… خليه يخطط وانتي
كملي في حياتك وسبيهم يخبطوا في بعض….”
” طالما انتي مقتنعة بقرارك…… ومرتاحة ليه
وهو مرتاحلك ومتفاهمين ومع الوقت هتبقوا متمسكين ببعض اي اللي يمنع يابنتي…..مش
فاهمك…… ”
احتد صوتها وهي تخبره بملامح مرتابه من مجرد
التخيل………
” اللي يمنع اني مش عايزة مشاكل…. انا مش زيك ياحمزة…. انا مبحبش احارب عشان حد…. مش بحب المشاكل……. انا عايزة أبعد عن اي حاجة ممكن تأذيني…..انا مش حمل مشاكل واذى خصوصاً من ناحية ابوك والست اللي دمرت حياتنا زمان….
اللي انا عملته صح…….وكده أحسن لكل…..”
هز حمزة راسه متعاطفا معها فهي مرت بالكثير
في حياتها ولها الحق في ان تمنع نفسها عن
الأذى…….فربت على كتفها داعماً اياها
بمحبة………
“دي حياتك ياشهد…..انا مش هغصب عليكي في حاجة…..انا جمبك ومعاك في اي حاجة عيزاها
المهم تبطلي عياط وتهدي…..”
نزلت دموعها وهي تخبره بصوتٍ متعب…..
“انا آسفة ياحمزة حقك عليا انا عارفه اني السبب
في كل المشاكل اللي حصلت دي…. بس غصب عني
مقدرتش امنع نفسي……..”
القت نفسها في احضانه فربت على كتفها بحنان
وبعد لحظات من الصمت قفز سؤالٍ في
رأسه فجاة…..
“صحيح كنتي جايه منين وقتها……..”
اخبرته وهي تخرج من احضانه تجفف
دموعها….
“كنت مع مهجة مرات أبوك…. هي اللي حكتلي…
على كل حاجة……..”
أردف حمزة بسخرية قاتمة…..
“مش لله طبعاً….. أكيد خايفه يطلقها بعد ما الهام ترجعله…”
ضيقت شهد عينيها بتشكيك…..
“شكلك كنت عارف ان الهام تبقا مرات عم عاصم…”
أكد بابتسامة هازلة….
“عارف ومن زمان أوي……كمان…….”
تبدلا النظرات بصمتٍ حتى اضاف حمزة وهو
ينتصب واقفاً……..
“الفرق بيني وبينك انك بتدي الامور اكبر من حجمها
الحقيقي……..”
فغرت شهد شفتيها فأسترد حمزة حديثة بنبرة قاتمة….
“اصلها مش فرقه اتجوز مُهجة ولا الهام… مفيش
حاجة هتتغير في حياتنا….. احنا كده كدا لا طيلين
منه لا أبيض ولا أسود.. ومشاكلنا معاه مش بتخلص…..حسبتيها غلط ياشهد… كنت فاكر ان دماغك أكبر من كده بكتير…… ”
………………………………………………………………
خرج حمزة من الغرفة ورفع عيناه جانباً ليجد كيان
تجلس وحيدة على الاريكة…….حزينة الملامح شاردة
النظرات……..
زفر وهي يخفض اهدابه بتعب…..حتى لاحظ خروج قمر من المطبخ تحمل لهما اكوب من عصير الليمون
وعندما تلاقت عيناه بها اهتزت الصنية قليلاً بين يداها……..ثم تماسكت وتابعت طريقها امام عيناه النافذة حتى وضعت الصنية على الطاولة القريبة
من كيان…..فقالت لها برفق تحت انظارة…..
“اشربي ياحبيبتي كوباية اللمون دي هتهدي اعصابك..”
لم ترد عليها كيان بل ظلت ملامحها منكمشة
بالحزن…….
تناولت قمر بيدها كوب من العصير واقتربت منه بخطوات هادئة ثم وقفت امامه ناظرة لعيناه
وهي تقول بحرصٍ……
“أشرب دا ياحمزة……هيهدي اعصابك…….”
امتنع حمزة قائلاً…..
“مش عايز……دخليه لشهد……”
قربت منه الكوب مجدداً راجية…..
“عملتلها كوباية وهدخلها ليها دلوقتي أشرب
بس انت عشان خاطري……..”
نظرا لبعض بصمت وكم كانت بنيتاها الجميلة تبث مشاعر دافئة حنونة ربما لم يشعر بها يوماً إلا مع أمرأه واحده…. خفق قلبه بوجع واشتعل صدره فجأه فاخذ منها الكوب وتناولة دفعة واحده لعله
يطفئ ظمأ مشاعره……….
انزل الكوب واعطاه لها بملامح مبهمة
قائلاً….. “تسلم إيدك………”
تبسمت قمر بسمة لم تلامس عينيها وهي
تقول…. “بالف هنا……..”
اخذت قمر كوب العصير الثالث ودخلت به الى غرفة شهد امام عيناه….. حتى حانت من حمزة نظرة على شقيقته الصغرى كيان ليجدها في عالم اخر بعيداً
كثيراً عنهما باحزانها وافكارها…….
فأخرج نفساً ثقيلا وهو يتجه اليها جالساً بقربها
على الاريكة…….
ثم ساد الصمت بينهما لدقائق ومزالت هي تجلس كتمثال مجسم بلا حياة………فزفر حمزة وهو يناديها
بعطفٍ……
“مش واخدين عليك ساكت ياكيموو…..فين اللسان الطويل وخفة الدم اللي عمرها ما ضحكتني…”
لم تبتسم كيان ولم تنظر حتى اليه فلكزها حمزة
في كتفها عابساً…..
“اي تقل الدم دا ياكيموو….آآه انتي غيران من قمر….
تكونيش عايزني اجبلك بقلاوة زيها…..ليكي عليا
اجبلك علبة أكبر منها كمان….. بس فكي
التكشيره دي خلي الشمس تنور…… ”
أسبلت كيان اهدابها ونزلت دموعها بصمت….فعقد
حمزة حاجباه مبهوتاً لبرهة…..ثم حدثها معاتباً….
“انتي غلطي….وكدبك عليا استفزني وخلاني ارفع ايدي عليكي……..”
اكدت على كلامه بوجهاً منحني بحرج….
“عارفاه……”
مد حمزة يده ومسكها من ذقنها رافعاً
وجهها اليه ونظر لها بقوة قائلاً……
“وطالما عارفه مجتيش تعتذري ليه…….”
جففت كيان دموعها كالاطفال قائلة بشجن…..
“خوفت تتعصب عليا وتضربني تاني…. الفترة اللي فاتت دي حسيتك مبقتش بتحبني….. بقيت
بتكرهني….”
تعثر حمزة في ضحكة ذاهلة وهو يجذبها لاحضانه بعطف قائلاً……
“اكرهك….. ياعبيطة دا انا أكره الدنيا دي كلها ولا أكرهك….. انتي هبلة……تعالي في حضني وبطلي عياط……”
ارتاحت كيان على صدره واعتذرت
بخجلاً…..
“انا اسفة ياحمزة…..اوعدك مش هتتكرر تاني…”
اخرجها من احضانه قائلاً بحزم حاني….
“ياريت ياكيان….ياريت نكون صحاب بجد مش كلام……ولو في اي حاجة مخبياها عني تحكيهالي…
اتفقنا……..”
اومات براسها وهي تمسح دموعها بظهر
يدها….. “اتفقنا………حاضر…….”
ربت حمزة على وجنتها برفق مبتسماً وهو
يقول….
“متزعليش مني……تتقطع ايدي لو اتمدت
عليكي تاني…..”
“بعد الشر……..”صيحة أنثوية رنانة اخترقت
جلستهما فرفع حمزة عيناه على قمر التي تقف
عند باب غرفة شهد المغلق وكانت تتابع مايحدث
للتو……..ارتبكت قمر من نظراته المتعجبة فقالت
قبل ان تهرب الى المطبخ……..
“يعني….الحمدلله انكم اتصلحتوا……..ربنا يخليكم لبعض…….”
ابتعدت سريعاً عن انظارهما وهي تلعن غباؤها
فنظر حمزة الى اخته بتساؤل…..
“مالها دي…….”
برمت كيان شفتيها بغيرة….. “مجنونة…….”
صفعها حمزة على مؤخرة عنقها برفق موبخاً إياها
وهو يشير على كوب العصير……
“بس ياجزمه….دي عملالك عصير للمون حتى…”
عقدت كيان ساعديها امام صدرها…..
ممتنعة بحنق….. “مش بحبوا أصلا……..”
“قطعتي بعيشك…… انا عجبني أوي……”مسك حمزة كوبها وشرب منه على مهل متلذذاً بطعمه الغني الرائع………..
……………………………………………………………..
في منتصف الليل بعد ان دخل الجميع الى غرف
النوم….
كانت تستلقي شهد على الفراش وجوارها قمر نائمة
ام هي فجفاها النوم….ولم تعرف مذاق الراحة منذ
ان كسرة قلبها بيدها……..
لم تتوقع ان يعني لها اكثر مما ظنت…كيف ومتى استحوذ عليها محتلا قلبها ومستوطن مشاعرها……
زفرة بتعب وهي تحاول النوم حتى تتخلص من صداع راسها ومشاعرها المتضاربة….قد تلفت
اعصابها طوال ساعات اليوم وحتى الليل اتى
كي يهلك المتبقي منها………
بعد دقائق أضاءت شاشة هاتفها فجأه وكانت تضعه على الوضع الصامت……فالتقط الهاتف ونظرة اليها
لتتسع اعينها وتزدرد ريقها وهي تنهض جالسة
على الفراش تنظر للشاشة المنيرة بأسمه…..
أخر شخصٍ تتوقع اتصاله الآن….بعد كل ما حدث بينهما ؟!…
سحبت نفساً مضطرب لرئتيها…..ثم ابعدت الغطاء عنها…….وسارت لعند الباب بخطوات بطيئة حتى
خرجت من الغرفة واغلقت الباب خلفها بحرصٍ
ثم سارت نحو الشرفة على اطراف اصابعها حتى
لا تيقظ أحد…..
دخلت شهد الشرفة واغلقت بابها عليها وهي
تسحب نفساً بارداً لرئتاها….. ناظرة للهاتف مجدداً بحيرة فهذا الاتصال الثاني منه…. يبدوا انه مصر
على هذه المكالمة…………
تشبكت في سور الشرفة بيدها الحرة وفتحت الخط
ثم وضعت الهاتف على اذنها…….
ولم تجرؤ على التحدث ولو حتى بسلاما فاتر…
كان الأمر صعب ولم تاتيها الشجاعة بل على العكس
كلما حاولت تجد الكلمات عالقة في حلقها تأبى الخروج كما يأبى قلبها الخضوع للقرارات القاسية التي اتخذتها دون الرجوع اليه……فكان على غير هدى وهو يخفق في حضور الحبيب…
بلعت ريقها واغمضت عينيها وهي تترجاه بصمتٍ
ان يكون هو البادي بالحديث طالما هو من أتصل
في تلك الساعة المتأخرة………
(شــهـد……)
ستشتاق بشدة للفظ اسمها بهذا الشكل المميز الذي من شدة الإحساس به تستشعر بقشعريرةٍ لذيذة
تسير ببطء على عمودها الفقري يليها جسداً
باكمله في حالة إنهيار !!…….
عندما لم تتحدث سالها بصوتٍ غريب محمل بالكثير من الأسى……..
(ليه عملتي كده….طالما رفضة من البداية ليه خلتيني
اجي لحد عندك……)
أخيراً وجدت صوتها بين طيات الوجع فقالت
بصعوبة مبررة….. “اللي حصل كان غصب عني……”
على الناحية الأخرى… قطب عاصم حاجباه
متسائلا بخشونة….
(اي هو اللي غصب عنك……مش فاهم…..)
عضت على شفتها السفلى وهي تبرر الوضع
بوهن بينما قلبها يئن بوجع…..
“مش ضروري تفهم……عاصم انت تستاهل حد
أحسن مني……انا مش هقدر اسعدك…..انا حياتي متكعبلة وكلها مشاكل…..انت تستحق واحده تكون معاك طول الوقت بقلبها وعقلها…..تسعى انها تسعدك
وتبقا معاك…..لكن انا منفعش….صدقني منفعش…”
سالها عاصم بنبرة مظلمة المعاني….
(واي اللي غير رأيك……..)
هربت من سؤاله بعبارتها
الحمقاء…..
“ينفع مجوبش….. لو سمحت… ”
اندفع الغضب داخله فجأه فهدر متشنجاً….
(ينفع مجوبش ؟!!!….أمال مين اللي هايجوبني….انتي مش واخده بالك انك قليتي مني ازاي قدام اهلك…)
قالت شهد برفق…..
“عاصم ممكن تهدى صوتك عالي…….”
صك على اسنانه بغضبٍ متعجباً من وضعه الحالي
بسببها……..
(أهدى؟!… انتي مش عارفه انتي عملتي اي فيا….انا اترفض بعد ما جيلك لحد عندك……انا ياشهد…)
اغتاظت جداً من هذا الرد المتعجرف….فقالت
بصوتٍ حاد ولم تعلو نبرة صوتها عن الطبيعي..
بل كانت في أوج الهدوء عكسه تماماً……
“واضح انا الموضوع كله ملوش علاقة بيا…..كل
الحكاية ان ازاي الطباخة ترفضك…..ترفض عاصم الصاوي بجلالة قدره……إزاي.. واي واحده تتمنى
نظرة واحده من عنيه…..هو ده اللي فارق معاك
مش كده…. ”
سالها بصوتٍ قاتم…….(انتي شايفه كده…….)
لم ترد فأوما عاصم براسه غاضباً من نفسه بعد
ان انساق خلف قلبه وأجرى اتصال بها…….ليجد
الان ان هذا اغبى شيءٍ قام به …..
(تمام واضح اني غلط فعلاً اني أتصلت بيكي….مستكفتش بالكلام اللي سمعته في
بيتكم… حبيت اتأكد اكتر في التلفون…
تمام………)
“عااااصم…….”
قالتها بعد فوات الاوان فقد أغلق الهاتف سريعاً
دون ان ينتظر رداً منها……..
…………………………………………………………….
هبطت داليدا على الدرج ثم دخلت شقة عمها قائلة
“خلاص يامرات عمي حطتي للبط اكـ………..”
اتسعت عينيها بهلع وشحب وجهها متحولاً للون الرمادي وهي ترى والدة سلطان (حنان..) منبطحه
أرضا مصيبة بالاغماء………
وقع قلبها في قدميها وهي تهرول نحوها جاثية على
ركبتيها تديرها اليها وهي تحاول ايقاظها برهبة…
“مرات عمي……. يامرات عمي مالك فوقي……”
لكن لا حياة لمن تنادي…… نزلت دموع داليدا وهي تترك راسها على مهل وتتجه الى هاتفها وسريعاً اجرت اتصال بسلطان الذي أجاب بعد لحظات بملل……
(عايزه اي ياداليدا مش فاضي………)
اتى صوت داليدا متهدجاً وهي تبكي
بهستيريا……
“سلطان الحقني ياسلطان……امك واقعه على الأرض
ومش بتنطق………اتصل بدكتور وتعالى…تعالى بسرعة الله يخليك………”
بعد لحظات كانت كالدهر بنسبة لهم جميعاً فقد اتى سلطان سريعاً وعجل بالاتصال بالطبيب وكذلك
والده ثم نقل والدته الى فراشها…..
وعندما اتى الطبيب وفعل الازم استعادة امه وعيها بتدريج…..ثم عندما انتهى من فحصها…..سأله
سلطان باهتمام……
“خير يادكتور طمينا……..”
انتصب الطبيب واقفاً وهو يلملم اشياؤه
في الحقيبة قائلاً بعملية…….
“خير ان شآء الله الحاجة مريضة سكر وشكلها
لغبطت في الأكل والعلاج فعشان كده حصلها الاغماء
ولولا انكم لحقتوها كان ممكن ندخل في غيبوبة سكر لا قدر الله…………”
لاحت ابتسامة مجهدة على ثغر حنان وهي تنظر
الى داليدا بمحبة……
“الحمدلله داليدا لحقتني…….”
“كتر خيرك ياداليدا يابنتي….” قالها عبدالقادر بامتنان حقيقي وهو يتخذ مقعداً جوار فراش زوجته
ثم مسك يدها مربت عليها وهو يقول بعتاب
المحب……
“جرالك اي يأم أميرة…..احنا مش قولنا ناخد العلاج في معاده ونبطل لغبطه في الأكل……قلبي هيقف
في مرة بسببك……”
“بعد الشر عليك ياعبدو…..ان شاء الله انا وانت لا….”
لمعة عينا داليدا بسعادة وتخضبة وجنتيها بالحمرة
وكانها ترى مشهد رومنسياً مقتصاً من فيلمها المفضل……
فتنحنح سلطان بحنق شديد من عاطفية والديه
المتبادلة والتي لا تتوارى أبداً بينهما بل دوماً
تُكشف على الملأ……..
فاستدار سلطان للطبيب مشيراً له بالخروج قائلاً
بالباقة….
“خليني اوصلك لبرا يادكتور….وبالمرة اجيب العلاج
اللي انت كتبته……..”
“تمام……حمدلله على سلامتها…….”قالها الطبيب وخرج من الغرفة ولحق به سلطان……
فأخذت داليدا انفاسها بصعوبة وهي تحل وشاح راسها قائلة بحمد…..
“الحمدلله انك بقيتي احسن دلوقتي يامرات عمي
انا كنت هموت من القلق عليكي….ومكنتش عارفه
اتصرف إزاي….اول حد جه في بالي كان
سلطان……”
اومات حنان بابتسامة متعبة……
“طبعاً ياحبيبتي مش جوزك لازم يكون أول واحد تلجأي ليه……..الحمدلله انك عرفتي تتصرفي…
الحمدلله………”
حاولت حنان ابعاد الغطاء عنها باعياء… فمنعها
عبد القادر عابساً…….. “راحه فين ياحنان……..”
قالت حنان بخفوت……
“الاكل…….الاكل ياعبد القادر……….زمانه اتحرق…”
ردت داليدا سريعاً…….
“انا طفيت عليه يامرات عمي………هروح أكمل تسويته خليكي انتي مرتاحه…….”
زمجر عبدالقادر معنفاً زوجته…….
“أكل اي وشرب إيه…هو مش لسه الدكتور خارج من عندك وقالك ارتاحي……..انتي غاوية تعب…..”
قطبة حنان حاجباها كالاطفال معارضة…
“بس الدكتور مقاليش ارتاحي………”
احتد صوت عبدالقادر بحزم……
“اكيد نسي…..ادينا انا اللي بقولك اهوه….ارتاحي شويه ياحنان…….”
انزعجت حنان قائلة…… “هو انت دكتور…….”
“ااه انا دكتور عندك مانع…….”ثم استدار الى ابنة أخيه قائلاً برفق……..
“روحي ياداليدا انتي كملي سوى الأكل……”
نظرة حنان الى داليدا بحرج معتذرة بقلبٍ
طيب لم ترى يوماً حماة تضاهيها نقاءاً في
معاملتها الحسنة لها وللجميع !……
“معلش ياداليدا هتعبك معايا يابنتي…بس لو في اي حاجة واقفه معاكي تعالي قوليلي بلاش تكسفي…..
انا عارفه انك مش غاويه طبيخ زي بناتي….. ”
فتابعت حنان ترفع عنها الحرج…..
“تعرفي أميرة لحد دلوقتي بتتعلم مني وبتيجي تسالني كمان ……..”
تدخل عبدالقادر بالحديث بخوفاً
عليها…..
“ارتاحي ياحنان……..او نامي شويه………”
هتفت داليدا تؤمن على كلام عمها بمحبة….
“ايوا يامرات عمي فعلاً ارتاحي شوية وبلاش
تشغلي بالك بحاجة انا موجودة……..”
وقفت داليدا في المطبخ تتابع تطهي الطعام حتى شعرت بمن يدلف الى المطبخ بهمجيةٍ معروفة
عنه….ومن سواه……هذا الضخم الهمجي زوجها……
رفعت داليدا سودوايتاها عليه لتجده يفتح المبرد
ويسحب زجاجة من الماء يشرب من فواهة مباشرة
مرة واحده…..وكانه يطفئ نيران مستعارة داخله….
ثم انزل الزجاجة ووضعها جانباً وهو يحني راسه مخرجاً نفساً مضطرب يعبر عن مدى الهلع الذي أصأب قلبه في تلك المدة القصيرة……
عند انحناء راسه شعرت بألماً ينحر قلبها لذا اقتربت
منه بتراقب تلامس ظهره الصلب…….
“مالك ياسلطان انت كويس………”
مسح عيناه وانفه سريعاً ثم استدار لها يواجه تلك العيون السوداء الشقية مجيباً بخفوت…..
“مفيش حاجة ياداليدا……بتعملي إيه……”
قالت داليدا بهدوء……
“بسوي الأكل اللي مرات عمي كانت مولعة عليه….”
ثم استردت حديثها بعينين لطيفتين كالحمل
الوديع وهي تمرر كفها على ذراعه بحنو…….
“متزعلش نفسك هي كويسه والله……وانا بعد كده
هاخد بالي منها اكتر وهديها العلاج في معاده….
متخفش ياسلطان……”
مسك سلطان كفها الذي يتحسس ذراعه بحنان
ثم اتكأ عليه برفق هامساً بامتنان وهو ينظر
إليها….
“مش عارف اقولك إيه….بس لولا انك لحقتيها كان ممكن……”
اهدته أجمل ابتسامة حانية لديها وقالت
بمحبة……
“انا موجودة متقلقش……..المهم متزعلش نفسك
ولا تخاف……..”
ذابت عيناه وسلبت قلبه بهذه الكلمات البسيطة….
فرفع كفها الرقيق الذي يحتجزه بين قبضته الى
شفتيه وطبع قبلة ناعمة كالمسات آلورد داخل
كفها………حتى ذابت مفاصلها………
“سلطان…….”همست باسمه بضعف والشوق هدم
اي مقاومة تنوي فعلها الآن……هل اشتاقت لتلك الملمسات بينهما ؟……
اشتاقت بشدة….كما اشتاق هو بجنون…..وكلاهما ينكر حقيقية الأشواق المتبادلة بينهما……..
همس سلطان بصوتٍ أجش وهو يسحبها من
كفها لاحضانه…….
“محتاجلك ياداليدا……..محتاج لحضنك أوي….”
اغمضت عينيها وهي تسحق بين ذراعيه القوية شاعره بدفئا يسري في اعماقها….بادلته العناق
بحياء معانقه خصره الصلب بيديها…وكم كانت صغيرة كالدمية النحيلة امام ضخامة جسده
والقوة المشعة منه……
ابعد سلطان شعرها للجانب الآخر على كتفها
ثم مالى عليها ودفن وجهه في عنقها يشم
رائحة آلورد من خلالها…..يسحب أكبر
قدر من هذا العطر الزَكي……ملامساً بشفتيه
عنقها المرمري ولم يمنع نفسه من طبع عدة
قبلات رقيقة عليه……..
ضاعت في احضانه الدافئة ومن للذة الشعور
تأوهت هامسة بخجل………..
“سلطان………..حد يشوفنا……….”
رفع وجهه عن عنقها ناظراً اليها بعينين مظلمة ومشاعر محمومة من عناقاً كفيل بأثارة مشاعره
نحوها اكثر من ذي قبل…….
هبطت نظراته على شفتيها الحمراء والتي تعضها
بخوفا من ان يراهم أحد…….
فمالى على شفتيها محاولا سحقها بين أسنانه لكنها ارتدت خطوتين للخلف تأخذ انفاسها بصعوبة وهي تضع يدها على صدرها بوجل وخجل…..
“سلطان…… مش هينفع…. حد يشوفنا…..”
برقة عيناه وهو يسحبها من خصرها بكفيه القويتين
حتى وقعت على صدره شاهقة برعبٍ هامسة بتهدج
“سلطان…….. سلطان……..”
هسهس سلطان بخفوتٍ مهيباً بالقرب من وجهها المشع بخجل…….
“انا صبرت عليكي كتير ياداليدا… وانتي برضو مصممة تبعدي عني….. جوزنا مش هيفضل كده
كتير….. لازم تبقي مراتي بجد… وادخل عليكي
رسمي…… سامعة…. ”
اغتاظت من أسلوبه الفظ الخالي من اي عاطفه…وكانه واجب ويجب ان يؤديه…….
“احترم نفسك مش هيحصل……”
جرت عيناه على ملامحها الجميلة المشرقة
ثم هتف بتوله بينما يداه تتحسس خصرها
اللين ….
“هيحصل عشان انتي عيزاني…. زي مانا عايزك….”
باغتها بقبلة حارة سطحية على شفتيها المكتنزة… فتأوهت بتعب وهي تحاول التخلص من وثاقه المشدد فوق خصرها……
“سلطان ابعد عني….. وبطل تتحرش بيا….”
لم يبدو عليه انه سمع شيءٍ فقد مالى عليها
يقبلها من جديد لكنها ابتعدت مزمجرة
بحدة….
“هصوت…. والله هصوت اياك تكررها تاني…..”
تلك المرة تركت عيناه شفتيها وعاد لعينيها
يلقي واقع ينتظرها معه قريباً……
“هكررها بس في شقتنا… واحنا لوحدنا…. مش
هنا……”
فك وثاقها وظلا يتبادلا النظرات للحظات كانت
بنسبة لهما كالدهر… حتى رحم قلبها ناوياً المغادرة الآن فعدل ياقة قميصة أمام نظراتها المضطربة ثم خرج من المطبخ متنحنحاً بخشونة ينظف حلقه حتى لا يظهر على صوته اي آثر حميمياً مر به معها…….
انهارت كل مقاومتها فور خروجه فانحنت ساندة
على الرخامة جانباً بيدين ترتجفين…. شاعره بان ساقيها رخاوتين بينما انفاسها مسلوبة وقلبها
يؤلمها في خفقانه…….تحاول بصعوبة السيطرة على مشاعرها المنهارة وجسدها المحموم….. مجرد عناق
بينهما كان كفيل بان يخرج مشاعر رغم اللذة مرهقة ؟!…
……………………………………………………………..
بعد لحظات سمعت داليدا صوت ضوضاء بالخارج
فأطفأت على الطعام الذي نضج….واتجهت الى الخارج ترفع الوشاح على راسها بشكلاً عشوائي
عندما وصلت لصالون الشقة وجدت والدة سلطان
تجلس على الاريكة ترحب بـالجارة (أمال…)
الملقبة بأم دنيا والتي تجلس جوارها…..بينما
على الجهة الاخرى على المقعد يجلس سلطان….
عقدت حاجباها بحنق شديد مغمغمة
بالغيرة…..
“اي اللي قاعده مع الحريم ده ؟!…….”
اتكأت على اسنانها بقوة وهي تتقدم منهم بمشيتها
المائعة والتي لا أمل في تغيرها……تلونت شفتيها
بإبتسامة مصطنعة……
“انا طفيت على الاكل ياماما…..اي ده…..خالتي
ام دنيا….. اهلاً اهلاً وانا اقول البيت نور كدا ليه….اتاري خالتي ام دنيا عندنا…….”
جفلت آمال قائلة بدهشةٍ……
“خالتك ؟!!….اخص عليكي ياداليدا….دا كل الفرق اللي بينا سنتين…….”
جلست داليدا على مقعداً جوار زوجها……لتقول
بقلة تهذيب….
“إزاي سنتين….انا عندي عشرين وانتي بسم الله ماشاءالله داخله في الأربعين….تبقي خالتي
ولا مش خالتي………”
مطت امال شفتيها حانقة.. “ابقا ستك……”
ثم شهدت سلطان على الحديث بمسكنة……..
“اي رأيك في الكلام ده ياسي سلطان…..بذمتك
يبان عليا سن……..”
انتابه شعور شيطاني في اغاظتها فرد على
آمال باسلوب لبق سافر يتناقض مع أسلوبه
الفظ الذي يمطرها به دوماً…….
“الشهادة لله لا…… من يومك وانتي زي القمر….”
“والله………” رفعت داليدا حاجباها توزع نظرة
الاتهام عليهما بالتساوي……
ضحكت آمال بذهول….
“اي ده معقول……. انتي بتغيري………”
بنفس الضحكة والاسلوب المماثل اجابة
داليدا…..
“تصوري طلعت بغير على جوزي…….”
استلمت حنان والدته دفة الحوار فقالت
برفق…..
“داليدا بتهزر يا امال مانتي عرفاها…”ثم وجهت
الحديث كذلك لداليدا……
” وبعدين آمال مش غريبة ياداليدا دا هي
وسلطان متربيين سوا…..زي الأخوات…. ”
اكدت آمال على حديثها بلؤم وهي تنظر الى
داليدا…….
“آه اخوات…. لحد دلوقتي بس اخوات……”
لم يغلبها أحد في قصف الجبهات يوماً
لذلك كان ردها عليها قاطعاً……..
“وهتفضلوا اخوات بس اطمني…..”
ضحكت آمال بغل مكتوم وهي توجه حديثها
لسلطان كنظراتها……
“دمها خفيف اوي ياسلطان….. ماشاءالله عليها..”
أكد سلطان بابتسامة مبتذلة……
“من يومها دمها……. سُكر…….اهدى ياسُكر مش كده…….”همس باخر جملة بالقرب من اذنيها…
فالقت داليدا عليه نظرة نارية وهي تلكمه بغضب
في كتفه بقبضة يدها الصغيرة…….فبرق سلطان
بعيناه يحذرها إلا تتمادى عليه امام الناس فستكون العواقب وخيمة عندما ينفرد بها…….
بينما على الجهة الاخرى وجهة آمال حديثها
وكذلك نظراتها نحو حنان التي كان ظاهراً
عليها التعب والجهد…….
“انا أول ماعرفت انك تعبانه وان الدكتور لسه ماشي من عندك مكدبتش خبر وجيت علطول… الف سلامه عليكي يام أميرة……..خدي بالك من نفسك ياحبيبتي
وبلاش تتعبي نفسك…. وانا باذن الله هجيلك كل يوم اطمن عليكي وشوفك لو محتاجة حاجة…..”
تدخلت داليدا ترد بفظاظة مكتومة…..
“بلاش تتعبي نفسك ياخالتي…..انا موجوده معاها..
وهعملها كل اللي هي عيزاه…. مش عايزين نتعبك..”
بلعت امال هذا القب السخيف ثم ادعت الاهتمام وهي تنظر نحو سلطان بلؤم…..
“معلش ياحبيبتي بس اصل ام اميره غالية عليا اوي
قولها ياسي سلطان……. انا بعزكم كلكم قد إيه….”
أكد سلطان على حديثها وهو ينظر الى
داليدا……
“ام دنيا….. طيبه وقلبها كبير يساع من الحبيب
ألف……..”
صكت داليدا على اسنانه مبتسمة
بعصبية…..
“ياسُكر….وانت عرفت منين بقا ان قلبها كبير…..”
تنحنح سلطان وهو يبتلع الضحكة المتسلية بصعوبة…ثم وجه الحديث لامال وهو ينظر الى أكياس الفاكهة التي دخلت بها……
“احم….. بس ليه تعبه نفسك وشيله ومحملة…
هو احنا غرب……..”
ابتسمت آمال وهي تشير الى الاكياس بتملق
اشمئزة منه داليدا…….
“دي شوية حاجات بسيطه…. كام نوع فاكهة….ووانا بشتري الفاكهة لقيت عند الفكهاني خوخ……افتكرت
انك بتحبه فقولت اجيبلك معايا……..”
تدخلت داليدا في الحوار مردده وهي ترمقه
شزراً…. “خوخ…….. دا من امتى………”
أكد لعيناها المشتعلة بتسلية تلمع في عيناه
الماكرة….
“من زمان بحبه والله….. تسلم ايدك يام دنيا… بس
انا لسه واكل منه امبارح…….”
قالت آمال باهتمام مبالغ فيه……
“تاكل تاني ياخويا بالف هنا……. خدي ونبي ياداليدا
اغسليلوا منه وحطيهم قدامه…….”
مطت داليدا شفتيها…..
“مش وقته….. دا معاد غدى……..”
قالت والدته بمودة…..
“لازم تتغدي معانا يا امال……”
امتنعت آمال وهي تتبرم بحزناً دفين……
“كان بودي والله يا ام أميرة بس البت بنتي سيباها عند جارتي من الصبح…….. هروح اخدها واروح اكمل
اليوم عند اختي…… مانتي عارفة من يوم ما اطلقت وانا وحيدة في شقتي…… مليش حد يطل عليا…..”
قالت داليدا ببرود وبشفاة مقلوبة……
“طب ما تتجوزي بدل الوحدة اللي قتلاكي دي..”
“لسه ملقتش الراجل اللي يملى عنيا…..”قالتها
آمال وهي تنظر الى سلطان تلمح بخبثٍ……..
“عيزاه كده طول بعرض هيبة…..عضلات ماشيه على الأرض….. ابقى وانا جمبه كده حسى بالامان وراحة
يبقا ميتخيرش عن سي سلطان كده………”
فارة الدماء في عروقها أكثر…تلك المراة تستفزها بكل معنى الكلمة….الوقحة تتغزل في زوجها امامها ببجاحة وكانه حق مشروع ؟!…..لولا ذرة العقل المتبقية داخلها لكانت نهضت وجذبتها من شعرها لخارج البيت…….ورغم كل تلك المشاعر الهائجة
قالت ببرود مدعية الحسرة…….
“سي سلطان…..خسارة…. انتي كده هدوري كتير
اوي على ما تلاقي زي سي سلطان……”ثم عادت
بنظراتها النارية إليه……..
“ولا إيه ياسي سلطان ؟!…….”
ابتسم سلطان وهو يشيح بوجهه عنها ناظراً
الى آمال…….
“كلها هتيجي بتسهيل ربنا…..بس نتكا على الصبر…”
“ادينا صابرين……… ام نشوف……..” قالتها امال بتنهيدة حارة وهي تنهض عن مكانها قائلة…..
“طب فوتكم بعافية بقااا……”
قالت حنان بصوت متعب….
“يابنتي قعدي اتغدي معانا……”
“مرة تانيه يأم أميرة…. الف سلامة عليكي ياحبيبتي…..”مالت عليها لتقبلها….ثم
استقامت بعدها تأكد على زيارتها
القادمة……..
” هبقا اعدي عليكي تاني…….. أطمن… ”
ثم حانت منها نظرة على سلطان وهي
تبتعد…….
“سلام ياسي سلطان……”
ثم تجاهلت تماما داليدا عن عمد….فهم سلطان ناهضاً
من مكانه وهو يقترح ان يصطحبها حتى باب الشقة ذوقياً منه………
لكن داليدا نهضت خلفه وهي تقول بإبتسامة باردة……
“خليكي انت ياحبيبي….انا هوصلها بنفسي…..”
ثم نظرة الى امال الحانقة بعد تصريحها….مما
جعل داليدا تبتسم بتشفي……
“اصلك غاليه عليا اوي ياخالتي ام دنيا…تعالي تعالي……..”
اصطحبتها للخارج حتى باب الشقة…..فضحكت حنان
على تلك الشقية الماكرة…….فرغم صغر سنها والفرق الشاسع بينها وبين ابنها الا انها متأكده ان داليدا ستسعد ابنها وتحافظ على بيتها…….
فكيف تغفل عن حب ابنها لداليدا منذ ان كانت
ترقص وتتمايل في خطبته السابقة……
يومها نهض من جوار خطيبته وسحب ذراع داليدا
جانباً وظل يعنفها بالكلمات حتى سكنت ورضخت لأمره وتنحت جانباً تشاهد استعرض الفتيات بصمت
والتي كان من ضمنهن( جنة) ابنة اخته والتي لم يعترض أبداً على رقصها وصخبها وسط اصدقائها
كما فعل مع داليدا……
أسبلت حنان اهدابها مبتسمة وفي خاطرها تدعي لهما بقلب أم بأن تكون حياتهما مليئة بالرضا
وتدوم عليهما بسعادة الحب فما أجمل منها
سعادة….
ظل سلطان واقف مكانه غير مدرك بعد انه تأثر
كلياً……بكلمة فاترة خرجت من بين شفتي
غاضبة…..
حبيبي ؟!……
ولواقع الكلمة اثر جميل يستشعره فقط الظمأن
الى الهوى مثله تماماً………
………………………………………………………………
مر أسبوع عليها ولم ترى طيفه في اي مكان حولها…
يمر كل يوماً في العاشرة صباحاً بجوار المطعم بسيارته الفارهة ولا تراه ولا حتى من خلال
النافذة السوداء……….
أصبح قلبها يحترق كلما مر يوماً دون رؤياه…….
لا تفكر باي شيءٍ سواه منذ اخر اتصال بينهما
والذي لم يكرره أبداً….. حتى كبريائها منعها من
اعادة الإتصال به……..
الأمر خارج عن السيطرة هي من اختارت هذا
الوضع عليها ان تتحمل وكانه لم يكن…….
لم يكن ؟!!…..
كيف تقنع هذا القلب الملتاع شوقاً بان عاصم
الصاوي لم يكن…… كيف لم يكن وعقلها
مشغول به وخفقات قلبها تنتمي اليه…….
“شهد…… شهد انتي مش سمعاني…..”
رفعت شهد عينيها على خلود التي كانت تقف
جوارها تنظر اليها بحيرة عاقدة الحاجبين……
“بتقولي حاجة ياخلود؟…….”
لوحت خلود بيدها بتعجب…….
“بقول حاجة ياخلود ؟!!…. دا انا بقالي ساعة بكلمك… مالك…….”
هزت شهد رأسها بملامح
باهته….
“مفيش….. مفيش حاجة……”
جلست خلود امامها مستفسرة…..
“ازاي مفيش حاجة… بقالك أسبوع مش مظبوطه..
هو عاصم مجاش اتقدملك زي ما قولتيلي…..”
نفت شهد هاربة من عيناها……
“لا لسه…… لسه شوية….. كنتي عايزه إيه…..”
مطت خلود شفتيها قائلة……
“محتاجين كذا حاجة كده من السوبر ماركت…هبعت
حد من البنات يجبها………”
اومات شهد وهي تنهض من
مكانها…….
“تمام استني هجبلك الفلوس………”
“الله….. دا انا باجي على سيرتها بقا…….”هتف مرعي
بهذه الجملة وهو يدخل من باب المطعم بهيئةٍ غير
محببة للنفس…….حيثُ كانت نظراته كريهة ووقحة
وقسمات وجهه تحمل طابع همجياً خطر….ام ذراعه المكشوفة كثرة الوشوم بها كالندوب المعبرة عن حروبة الغير شريفة مع الغير…….
جزت شهد على اسنانها وهي تقترب منه بملامح
غير مرحبة بالمرة………..
“نعم عايز إيه…….”
رفع مرعي حاجبٍ متوجساً……
“لي الوش الخشب دا بس ياست البنات…..”
تدخلت خلود تقف جوار شهد قائلة بضيق
مكتوم….
“اخلص يامرعي عايز اي دا مكان اكل عيش
ومش ناقصين واقف حال……”
ابتسم مرعي هازئا ثم غمز بلؤم…….
“مش ناقصين….انتي بتبعدي العين عنك ولا
اي ياخوخه…. دا بصلى على النبي المطعم
شغال وزباين داخله وزباين طالعه……ودنيا
ماشيه معاكوا حلاوة……..”
صاحت شهد ملوحة له بنفاذ صبر……
“وانت مالك وعايز إيه أصلا…..انت مش بتاخد اللي انت عايزة كل أسبوع…..عايز اي تاني…….”
حك مرعي يديه ببعضها مبتسماً بطمع
وهو يقول….
“والله انتي وذوقك بقا….اصلي بصراحة شرقان..
ومش معايا فلوس لا انا ولا رجلتي…….”
رفعت شهد راسها اليه بحنق شديد……
“طب وانا مالي…..روح دور على شغلانه تاكل من وراها عيش بدل مانت داير تبلطج على الكل….”
اتسعت عينا مرعي قليلاً وهو يلوي شفتيه
محذراً اياها بشرٍ……..
“وليه الغبطه دي بس….انا من راي تدفعي وانتي ساكته…. عشان متخسريش اكل عيشك……..”
قالت شهد بغضب…… “انت بتهددني……..”
أكد على حديثها يتوعد لها بشرٍ…
“حاجة زي كده……بلاش تتعوجي عليا ياست البنات
عشان انا قرصتي والقبر………ما تقوللها حاجة ياخلوووود……..”
خشت منه خلود لذا ربتت على كتف شهد
تهدأها….”خلاص ياشهد……..ا.. ”
نفضت شهد يد خلود بغضب وقاطعتها
بصرامة…….
“لا مش خلاص……..مش خلاص……..”
ثم رمقته بشزراً متابعة بتجهم…….
“انا مش هديك فلوس تاني ولي عندك اعمله…فلوس
تاني مفيش…..وبيني وبينك بقا الحكومة…هي تعرف
تاخدلي حقي منك………”
رفع مرعي حاجباه بأقصى درجة بابتسامة
مستهينةٍ بها ثم سار خطوتين في صالة
المطعم يخبرها بتهديد صريح…….
“الحكومه…..دا انتي قلبك جمد اوي………ماشي
وانا معاكي…..تحبي بقا اقلبلك المكان دا على اللي فيه دلوقتي….عشان تبقا قضية كاملة من كله……..”
اغضمت شهد عينيها بقوة ثم فتحتهما وفي لحظة أقل من الثانية دخلت المطبخ وخرجت بسكيناً بين
يدها وقبل ان يلمس مرعي مقعداً كانت تشهر
السكين في وجهه دون سابق انذار…..
صرخة خلود بخوف…….”شهد……..”
لم تلتفت لها شهد بل هزت السكين امام وجه
مرعي بتهديد صارخة فيه بصرامة…….
“اطلع برا…….ياما اقسم بالله افتح كرشك دلوقتي…
واخليها قضية بحق وحقيقي…….اطلع براااا….”
رغم خوف مرعي البادي على وجهه إلا
انه ادعى العكس واستخف بالسكين بين
يدها………
“نزلي السكينة ياشاطرة لحسان تعورك…..”
هزتها شهد مجدداً بملامح متجمدة وعينين مشتعلتين خطيرتين………
“بقولك أطلع براااااااا…………..أطلع برااااااااا…….”
ابتعد مرعي خطوتين للخلف بظهره وبملامح تنبئ
بالشر توعد لها………
“ماشي……….بس مترجعيش تقولي ياريتني…انتي
اللي بدأتي…..والبادي اظلم……….”
خرج من المطعم ينوي اقتناص حقه منها….فالأول
مرة تجرؤ أمرأه على رفع السلاح في وجهه تهدد
بموته…….ستدفع الثمن غالي…….غالي…….
هتفت خلود بهلع…….
“اللي عملتي ده هيهد الدنيا فوق دماغنا وبكرة
تقولي خلود قالت……….”
تمتمت شهد بوجهاً أحمر من شدة الانفعال
وبانفاساً متسرعة….
“يعمل اللي يعملوا….المهم موطيش راسي لواحد
جبان زي ده………..”
غمغمت خلود بوجل…
“ربنا يستر……..انا مش مطمنة……..”
……………………………………………………………..
دخلت من باب المكتب امام عيناه المتربصة لها….
بخطوات مستقيمة تخطو على البساط… بل على
قلبه الذي يهفو اليها الآن كالمراهق الظمأن……
كانت مختلفة اليوم ليس لأنها جميلة… فكل يوماً
هي أجمل من سابقة بل لأنها حزينة….. وجهها رغم
انه طبيعياً إلا انه باهت قليلاً والهلات تحت عينيها تلاحظ من النظرة الأولى……حتى فيروزيتاها عند النظر كسيرتين شاردتين…..
ماذا بعصفورة الكناري الجميلة لم كل هذا الآسى..
اين صوتك المرح والثرثرة التي لا تنتهي….اشبه بزقزقةٍ صباحية مزعجة لكنها مقبولة للطافة
مغردها…….
اين حركاتك العشوائية هنا وهناك وكانك تملكِ
الكون دون قيود كعصفورٍ يحلق فوق الغيوم
يذهب أينما شاء……..
اين ابتسمتكِ ياصاحبة العيون الفيروزية…اين لطفاتكِ واشراقك الصباحِ مع كل ضحكةٍ منكهة
بالحياة تهديها إلي فـبها اتابع عملاً مضنياً ونهاراً
خانقاً……وحياة روتينية باهتة…….
هل سترحلين بعد اسبوعين فقط….لن أسمح لكِ
كيف تفعلي هذا بي……تعلقيني بكِ ثم ترحلِ
بهذه البساطه كالصوص سارقة جزء من قلبي
معك ؟!……..
كيف أهون عليكِ يا فيروزة العينين……عصفورِ الكناري اللطيف…..
عندما وصلت كيان إليه بالقرب منه بخطوةٍ مالت عليه تضع الملف قائلة……
“القضية اللي حضرتك طلبتها…..ولي بصراحة في حاجة فيها مش فهماها وعايزة اخد رأي حضرتك
فيها……..”
نزع سليم عيناه عنها بالإكراه عائداً الى صفحات الملف الذي صدقاً بقربها منه نسى أبجدية القراءة
فعلاً !!……
اغمض عيناه لثانيةٍ ثم سحب اكبر قدر من عطرها المميز…….الناعم كالياسمين……يذكره بأمه !!….
فهي كانت عاشقة لكل شيء مندمج بالياسمين
وهو مثلها !……
مالت كيان عليه تشير باصبعها المكتنز قليلاً شديد البياض على سطور عجزة عن فك شفرتها لذا تستشيرها بها وهي في حيرةٍ شديدة…….
وهو أيضاً في حيرة أشد عندما لمس وجهه شعيرات
بندقية اللون ناعمة الملمس عفوية القاء….. تسير على وجهه براحةٍ فيشم هو هذا البندق مكتشف عطره الزكي………
“ها يا استاذ سليم تتحل إزاي دي…….”
في ميلها الرقيق المفتقر لأي اغواء من اي نوعاً
مالت بوجهها نحوه فوجدته ينظر إليها بغرابة
اقرب للجمود وكانه عاد للتو من رحلة سافرة
أخذت منه الكثير…..وعاد فارغ الأيدي…….
“مش عارف…….”
نطقها وهو يبحر بين امواج عينيها الحزينة
الكسيرة……..
“امال مين اللي يعرف………دا انا قولت عندك الحل……”
ليس لدي الحل صدقيني فانا حتى هذه اللحظة
متخبط المشاعر مابين أمرأه أحبها بشدة وامرأة
اخرى منجذب لها بقوة تفوق الوصف !!…….
فأين الحل بين الحب والانجذاب……كيف اوفق
بين مشاعر تنتمي لأمرأتين ؟!……
“مالك يا استاذ سليم انت تعبان…. شكلك مش معايا…….”
افاق من شرده ناظراً الى عيناها ثم القى السؤال
في مرماها…….
“انتي إللي شكلك متغير عن إمبارح في حاجة حصلت معاكي…….”
ابتعدت عنه جالسة في المقعد المقابل له يفصلهما
المكتب الفخم……….
“عادي مشاكل في البيت….. متعودة على كده….”
تشنج فكه وهو يسالها…… “والدك……….”
تلونت شفتيها في ابتسامة
مضنية….
“اها…. والدي…. عثمان الدسوقي……….”
سالها بهدوء وكانهما يتبادلا اسرار حياتهما الشخصية منذ زمن………. “اي اللي حصل……..”
انعقد حاجبي كيان متمتمة…..
“ليه عايز تصدع نفسك بمشاكلي التافهة…..”
قال بنبرة حارة فضولية……
“اعتبريني صديق…… واحكيلي…. يمكن تلاقي
عندي الحل……..”
ابتسمت كيان ساخرة…….
“كنت حليت القضية اللي كلت دماغي دي…..”
تغضنت زاوية عيناه ليقول….
“بعدين ياكيان…… خلينا في المهم……”
ادعت الغباء…… “اللي هو…….”
“كيااان……” ناداها بحزمٍ حتى تريح قلبه المشغول
عليها……..فلم تتجاوب مع نظراته بل قالت……
“صحيح فاضل اسبوعين على وجودي هنا.. لقيت
حد يشيل الشغل مكاني…….”لم يرد سليم بل ظل ينظر اليها بملامح متصلبة….
“حاول تلحق…… الوقت بيجري…… وانا متفقه مع الاستاذ خليل اني هستلم الشغل في مكتبه أول الشهر الجاي……..”
سالها بلهجة غريبة… “يعني مصممه انك تمشي…….”
اكدت بإبتسامة جذل…..
“ايوا…… انا مش برجع في كلامي أبداً……”
أومأ براسه دون تعقيب وهو يفتح ملف القضية
ويفحصها بعيناه اما عقله وقلبه معها رغماً
عنه…….
“هو المستشار عامل إيه……..”
اتى سؤالها المتردد يطرب مسامعه فرفع عيناه عليها
مستفهماً بحاجبين معقودين……
فتابعت كيان ببسمة حياء……
“انا حبيتو اوي من أول يوم شوفته فيه…… هو كويس……..”
رد سليم بهدوء يرفع عنها الحرج…….
“الحمدلله بخير…….”
قالت كيان بابتسامة باهتة المعاني…..
“انت محظوظ اوي بيه يااستاذ سليم…..حقيقي
المستشار مصطفى اب بمعنى الكلمه…….”
أكد هو بإبتسامة مشعة بالحب والفخر لهذا الاب الرائع……..
“عارف…… على فكرة هو كمان بيسأل عنك أحيانا
وبيوصيني عليكي……..”
فغرت شفتيها بسعادة…… “بجد…….”
اكد مردداً…. “بجد……”
عضت على باطن شفتيها قليلاً ثم قالت….
“هو هيبقا طلب سخيف مني لو قولتلك اني عايزه ازور المستشار من تاني……..”
بابتسمة حانية كوالده تماماً عندما أستقبلها
أول مرة أجاب……..
“بيتنا مفتوح في اي وقت تعالي……هو كمان هيفرح
اوي بزيارتك ليه……..”
“شكراً……..”تألقت ابتسامتها بامتنان موجع للقلب
بينما فيروزيتاها تحتبس الدموع بأعجوبة….
فلم يغفل سليم عن تلك التغيرات كما لم يغفل عن حزنها ومزال هناك رغبة شديدة ملحة في معرفة
السبب…..لذا سألها مجدداً بلهجة رغم الهدوء
راجية………
“برضو مش هتقوليلي مالك…….”
“مشاكل في البيت…….” لم تمنع نفسها من
الاعتراف….لذا سالها هو بصبرٍ…….
“بسبب؟…….”
بعفوية مريرة افصحت عن الأمر……
“بابا عايز يغصب اختي على الجواز… فلما اعترضت
البيت ولع وكلنا مسكنا في بعض…….”
ارتفع حاجبي سليم بدهشة متشدقاً…..
“معقولة…….. يعني طالما أختك مش موافقة على العريس لي والدك يغصب عليها……”
قالت دون مواربة……..
“هو عايز يجوزنا على مزاجه للي يشاور عليه… من
غير ما نعترض…….”
عبس وجهه مستهجناً……
“وهو في حد لسه بيتجوز بالطريقة دي…..”
اجابت كيان بصوتٍ لا معالم له……
“أكيد مفيش……. بس كل بيت وليه قوانين… بتمشي على الكبير قبل الصغير……”
ضاقت عينا سليم ولم يمنع نفسه من السؤال…
“معنى كلامك انك ممكن تتجوزي غصب عنك
في يوم من الأيام……….”
“احتمال كبير……..”اكدت دون النظر اليه
ومن الأفضل انها لم ترى وجهه وهو يشحب
حتى قارب على الون الرمادي من مجرد تخيل
زواجها من أخر قسرا او حتى برضاها الأمر
يزعجه…. يؤلمه……. يشعله……
تابعت كيان بحاجب معقود بالألم وعينين
منكسرة وهي تنظر الى سطح المكتب باهتمام
شديد…….
“احتمال كبير انتحر….. قبل ما اسلم نفسي لراجل
مش مقتنعة بيه……..”
شعر بمخالب حادة مدببة نشبت في صدره
فجاءة وهو يقول……..
“افتكرتك هتقولي مش بحبه…….”
نظرت له كيان بمشاعر متبلده…..
“الحب اخر حاجة ممكن أفكر فيها…..”
“ليه……..” سالها باهتمام…….
فاجابت هي بمعادلة بسيطة……
“لانه مؤذي….. الحب بيأذي الشخص الضعيف…”
لم يعقب سليم فتابعت كيان بنفس المشاعر
المتبلدة………
“في كل قصص الحب هتلاقي شخص ضعيف قصاده شخص قوي…… الضعيف هو اللي بيتحمل بيكمل وبيصبر والقوي هو اللي بيقسى وبيعاند وبيقهر….
الحب مش بينصف…..الحب بيأذينا وبيكسرنا….. ”
قال سليم بخفوت دون ان تحيد عيناه
عنها……..
“لو كان الحب بالواحشا دي….مكنش ربنا زرعه في قلوبنا……..”
بايماءة بسيطه اكدت على كلامه بواقعية
شديدة……..
“صح بس البشر غيرو مفهوم الحب والحياة فبقت
كل حاجة يأما مؤذية بالمعنى الحرفي للاذى سواء
جسدياً او نفسياً……. ياما fake….”
ردد الكلمة مبتسماً بدهشة…”fake؟!!…””
بهزة بسيطه من راسها اضافت موضحة…
“تعاملتنا مع بعض… حبنا…. كلمنا…. نظراتنا…حتى تصرفتنا كل حاجة بقت fake يااستاذ سليم…
مش حقيقي……”
أطرق سليم بقلمه وهو يبتسم بتسلية مستمتع
بالحوار معها جداً……..
“مفهومك عن الحياة خطر على البشرية……”
نفت كيان قائلة بجدية……
“انا واقعية……..رغم اني بحب الهزار والضحك وواخده الحياة تخبيط الا اني واقعية وصريحة
جداً في تصريحاتي مع نفسي ومع غيري…
وهذا ما يسمى بالواقعية…….اللي للأسف
مفقوده عندك وعند ناس كتير…..”
قال سليم بفتور…….
“انا كمان واقعي بس مش لدرجة التشأم…….”
قالت بتحذلق مختصرة……
“التشأم بحد ذاته واقع ملموس يحدث بعد
ان نستشعر حدوثه…….”
اعجب بالجملة فقاده الفضول سائلاً…..
“عظيم… واي هي اكتر حاجة كنتي متشائمه منها وحصلت……..”
اندمجت اكثر بالحديث وهي تقول
بحزن….
“حاجات كتير………حسيت بيها وكنت متشائمه منها
وحصلت…..قبل ما ماما تموت بشهر كنت حسى انها خلاص هتبعد وتسبني……..فترة الثانوية والنتيجة
كان نفسي التنسيق يبقى في اي كلية غير حقوق
دخلت حقوق……”شردت اكثر وهي تتابع بندم
حقيقي……
“حتى نائل كان نفسي نفضل صحاب بس والموضوع
ميقلبش لحاجة اكبر من كده بينا لكن….قلب وحبني
هتف سليم بلهجةٍ خطرة…….
“حبك……..”
رفعت كيان وجهها مشدوهة من غباء
تصريحها…فسالها سليم بنظرات اشد
خطورة من اللهجة التي يتحدث بها..
“وانتي بتحبيه………”
نهضت عن مقعدها تقول بنبرة متعثرة
الاحرف….
“استاذ سليم احنا نسينا الشغل ونسينا نفسنا…انا هروح على مكتبي………عن اذنك… ”
فرت هاربة امام عيناه المشتعلة مريعة
النظرات كالتصريح الذي ليس له داعي
من قوله الآن…….غمغمت وهي تصل لمكتبها
لتلقي نفسها على المقعد بعنف مغمغمة من بين اسنانها المطبقة عليهم بانفعالاً…..
“اي اللي انا هببتو ده……..ليه وانا معاه بقول اي حاجة تخطر على بالي……..ليه مش حريصة في
معاملتي وكلامي معاه ليه….. ليه ؟!…….”
…………………………………………………………….
بعد بضعة ساعات دخلت الى المكتب من جديد تحمل صنية عليها قدح من القهوة….. تقدمت بخطوات شبه متعثرة وهي تحاول إلا تنظر
إليه…. وضعت قدح القهوة أمامه ثم الماء
ثم رفعت عينيها لثانية اليه تقول
بتهذيب….
“تحب اجبلك حاجة تاني يا استاذ…..”
لم تكن عيناه عليها منذ دخولها أساسا وهذا ما صدمها قليلاً ظنت انه مزال غاضباً…….لكن يبدو
انه نسى ماحدث وتجاهلها وهذا واضح وهو
يملي عليها تعلمياته……
“أجلي اي مواعيد بكره…..انا هقابل كام وكيل
وهمشي بدري……….”
سالته كيان في وقفتها المستقيمة….
“تمام اللي تشوفه……..بس خير يعني….أمورك
تمام….. “لم تمنع نفسها من الاطمئنان عليه
لذا رد هو بالامبالاة دون النظر إليها…..
“بكرة انا وايتن هنعمل بروڤل على البدلة
والفستان بتوع فرحنا………”
سقط قلبها مهشماً فألمها…..فقالت بغصة
مختنقة…….
” خلاص حددتوا الفرح……..”
اكد دون النظر لعينيها…. “آه آخر الشهر ده……..”
بلعت الغصة المسننة…..
“طبعتوا الكروت…….كروت الفرح……..”
رد وهو يترك القلم……… “قريب……..”
اغتصبت البسمة وهي تهنئة……
“مبروك يا أستاذ….أوعى تنسى تعزمني…….”
رفع عيناه عليها وها هو يواجه الوجع بوجعٍ
أكبر……….فرد بصوتٍ غريب……
“اول واحدة ياكيان…..انتي أول واحده……”
اهتزت الابتسامة على ثغرها بل ترددت
في صدرها بسخرية مريرة وهي تقول……
“دا العشم برضو…….تحب أعملك حاجة تانية
قبل ما أروح اكمل شغلي……..”
هز رأسه بنفي……فاولاته ظهرها سريعاً تجر ساقيها جراً عن الأرض….حتى ناداها هو سريعاً بصوتٍ متردد…….
“كيان……”
استدارت كيان اليه ووقفت أمامه بصمت منتظرة….
فبلع سليم ريقه بحرج وهو يرمقها بتمعن من أول
جواربها السوداء الشفافة الى التنورة السوداء التي
تصل لبعد الركبة بقليل والتي يعلوها سترة مماثلة أنيقة اسفلها قميص حريري أبيض….ثم جرت عيناه على ملامحها المشعة بالجمال دون ألواناً تحجب الرؤية……..حتى شعرها البندقي اللون جُمع على شكل ذيل حصان خلف ظهرها يتأرجح بدلالٍ………
كانت جميلة….. حقاً جميلة……انها أحد حوريات
البحر……سكنت الأرض ليحظا بها…..شخصٍ
رائع مثلها تماماً……..
ربما نائل….الذي اعترفت قبل ساعات انه مغرم
بها…….وهي لا تبالي ؟!!……
لن يلومه فمن الأحمق الذي تقع عيناه على تلك العيون الفيروزية البراقة ولا يكن أسير
الهوى…..
جميعاً يا نائل…..جميعاً أسرَى للهوى….وعذاب
الهوى………..
جلى صوته أخيراً وهو يقول……
“هي حاجة ممكن تكون قلة ذوق مني…بس انا مش قادر امنع نفسي عنها……”
رجعت خطوتين جافلة…….. “اي دي…….”
تحشرج صوته قليلاً وهو يتابع….فهو على دراية
انه يتمادى معها أكثر من الازم….
“هدومك…..خدي بالك من طريقة لبسك اكتر من كده……يعني شغلك في المكتب والمحكمة بيخليكي تقبلي ناس اكتر وتتعاملي معاهم…..وطبعاً الحشمه
مطلوبة طول الوقت……..”
نظرت كيان للزي بتعجب ثم لعينا
سليم قائلة……
“بس انا مش بلبس قصير ولا ضيق…….”
قال سليم بنظرة ضارية…….
“لا ضيق يا كيان….ضيق…….خدي بالك اكتر من كده……دي نصيحة من حد أكبر منك وفاهم عنك….”
انفعل قليلاً دون ان يطلع عن السبب الحقيقي
خلف هذا الانفعال كل ما يشعر به….نيران
تتوهج داخله تتغذى عليه بالبطيء….كلما
تصور ان هناك أشخاص غيره ستنظر
الى جسدها بشهوانية بسبب هذا
الزي الضيق…..
بصوتٍ كالجليد المسنن قالت كيان……..
“جربت تنصح الانسة أيتن نفس النصيحة دي وهي
مشيرا صورتها بالبكيني………”
رمش سليم بعيناه فجأه جافلاً فقد اصابت
الهدف ببساطه ونالت منه نيلاً عظيماً….ومع
ذلك كانت اشد ضراوة وهي تتابع……….
“طب دخلت على الكومنتس شوفت كام راجل
اتغزل في جمالها……….”
صاح منفعلاً عليها بقوة……. “كياااااااان…….”
لم تهتز من مكانها حتى بل اضافت بلهجة
شديدة التحذير………..
“ألزم حدودك يا أستاذ سليم….. مش انت اللي هتحدد البس إيه واقلع إيه….. كل اللي فضلي
هنا اسبوعين وهقدم استقالتي قبلتها او
لا…….. مش فرقه كتير…….”
“عن إذنك…..عندي شغل…….”وقبل ان تتحرك
من مكانها اضافت بهدوء عكس اشتعال عينيها
بالغضب…
“وطبعاً لو عوزت اي حاجة داخل أطار الشغل انا موجودة……..عن إذنك………”
خرجت من المكتب وتركت خلفها رجلاً يشتعل
بنيران مستعارة كبرياؤه محطم اسفل قدميه..
وقد نال درسٍ قاسي من فتاة حجمها أقل منه
بمرتين وتصغره بسنواتٍ عدة…وتتدرب على يداه……يالا السخرية فقط ببضعة كلمات واقعية قلبت كيانه وشتت أفكاره……
(جربت تنصح الانسة أيتن نفس النصيحة دي وهي
مشيرا صورتها بالبكيني………طب دخلت على الكومنتس شوفت كام راجل اتغزل في جمالها…….)
هل هو أعمى…..ام ان الحب الأعمى بداخله جعل
منه شبه رجل يتغاضى عن اشياءاً لا تغتفر ، لأجل الإستمرارية في زيجة نسبة نجاحها ضئيلة
كصلاحية حبها تماما ؟!….
…………………………………………………………..
أصبحت تدرك جيداً انها تكن له مشاعر تبغضها
كما تبغض تسلطه….والانانية التي يحيا بها…
كيف لرجلا محترم متعلم نشأ في بيئة نظيفة وتربى
بين واللدان سوياً فكراً ومضموناً وقلباً……..ان يكون
بكل هذه الانانية………يريد امرأتين في حياته…
حقيقية ملموسة منذ فترةٍ طويلة تحاول ان تتوارى عن عيناها لكنها مكشوفة….لذلك اتخذت قرارها
بالفرار….العمل في مكاناً اخر افضل من السقوط
في الهاوية دون رجعة…….
“اي يابنتي روحتي فين…….”
فاقت من شرودها على صوت صديقتها يارا.. والتي ترافقها للدخول الى النادي التي تاتي اليه بصحبة اصدقائها…. فهي للأسف لا تمتلك عضوية في
نادي فخم لا يتردد عليه الا صفوة المجتمع واولادهم…….
فـيارا فتاة مستواها أفضل بكثير منها هي وبعض الاصدقاء المقربين منهم والذين يحملون عضوية
هذا النادي وتاتي برفقتهم……..
“ولا حاجة يايارا…… مخنوقة…….”
تأبطت يارا ذراع كيان ومالت عليها
بمشاكسة….
“ماعشان مخنوقه جينا هنا… مالك ياكوكي…. حالك
مش عجبني…. اوعي تكوني بتحبي جديد…..”
مطت كيان شفتيها بمرارة……
“ولا قديم…. انتي عارفه رأيي في المواضيع دي…”
همهمت يارا تزم شفتيها باستسلام……
“مم…. ماشي اي رأيك نروح نشرب حاجة في الكافيه………”
تنهدت كيان بتعب……
” ياريت…….لحسان انا عطشانه أ…….”توقفت الكلمة في حلقها عندما خبطت بحاجز صلب…فرفعت عيناها
عليه بحنق شديد…….
“مش تحاسب انت إيه أعمى…..”
رفع الشاب نظارته السوداء اعلى رأسه معتذراً
برقة…….
“سوري جداً مخدتش بالي………”
رمشت كيان عدت مرات بعد ان نشط ذهنة سريعاً
وتذكرت ان هذا الاصطدام الثاني بينهما………
“هو انت…….”
ابتسم شادي بزهوٍ….. “معقول لسه فكراني…….”
لم ترد كيان بل تغضنت زوية عيناها بقرف…..
فمد هو يده لها معرفاً عن نفسه…..
“هاي انا شادي…. ابن خالة ايتن خطيبة استاذك…”
لم تضع يدها في يده الممدودة بل تظاهرت بالاشارة عليها وعلى صديقتها كتعريفاً……
“اهلاً وسهلاً تشرفنا…. انا كيان ودي صاحبتي يارا..”
“آه أهلاً يارا…..” قالها شادي وهو يوجه كفه المفرود
لصديقتها والتي بادلته السلام بابتسامة فاترة….
وعندئذٍ قالت كيان معتذرة وهي تخطو خطوةٍ للرحيل….. “تشرفنا يا استاذ شادي… عن أذنك…….”
اوقفها شادي وهو يختلق الأحاديث….
“استني ياكيان….. انتي عضوة معانا هنا في النادي.. أصلي أول مرة أشوفك……”
قالت كيان بنفي…….
“لا مش عضوة…… انا ساعات باجي مع صحابي
ومن ضمنهم يارا…… لي في حاجة……”
ارتبك شادي قليلاً امام نظراتها الحازمة لذا
قال بهدوء……
“يعني حابب اعزمك علي الغدى في مطعم هنا
في النادي يجنن……اهوه نتغدى ونتكلم شوية
سوا….. ”
احتدت نظرات كيان كحديثها…..
“نتكلم في إيه…. وبمناسبة إيه تعزمني على
الغدى…..”
تلبك شادي لوهلة من رفضها الغير متوقع…
فالأ احد يرفض عزيمةٍ منه…بل ان عرض
هذه العزيمة على اي فتاةٍ من محيطة
لكانت قفزت من شدة الفرح…….
ادعى اهمية الموضوع…..
“في حاجة مهمة جداً عايز احكيلك عنها……”
عقدت كيان ساعديها امام صدرها قائلة
بصرامة…..
“اتفضل احكي………انا سمعاك……”
نظر شادي لها قليلاً ثم لصديقتها التي توزع
النظرات عليهما كذلك لكن بحرج وتعجب….
فرفض شادي بصلف…..
“مش هينفع هنا ولا حتى دلوقتي لاني عندي
ميتنج مهم …….اكيد هقابلك تاني طالما بتيجي
هنا مع صحابك…..باي…….”
مطت كيان شفتيها بقرف بعد ان رحل
ثم تمتمت……
“وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته…..”
ضحكت يارا فجأه بقوة على نظرة صديقتها
وردة فعلها…… “انتي بتقولي إيه……”
قالت كيان بزفرة استياء…….
“النبي عربي…..مش ناقصة عوجت لسان……..”
ربتت يارا على كتفها قائلة…..
“طب خدي بالك بقا من نفسك… شكله عايز يوقعك……بيشقطك بالبلدي كده…. ”
اكدت كيان مستهجنة….
“واخده بالي حتى الشقط بتاعه قديم أوي… قفلني……..”
عادت يارا تضحك من جديد قائلة….
“والله انتي نكته……..مش قادرة… ”
تنهدت كيان بملل……
“بقولك إيه انا هموت من العطش…….”
رفعت يارا حاجباها قائلة…..
“انتي عندك املاح يابنتي…. كل ماتمشي شوية
تقولي عايزه اشرب……..”
سارت كيان برفقتها وهي تقول بأسى…..
“متفكرنيش يا يارا….. اخر مرة عطشت كده نيلت الدنيا……..”
سالتها يارا بمزاح…… “ليه شربتي خمرة……”
اتسعت عينا كيان بصدمة…. “عرفتي منين ؟!!…..”
“يالهووووي……” صاحت بها يارا بصدمة أكبر
فكمكمت كيان فمها سريعاً بيدها هامسة
بتوجش……
“هشش هتفضحيني……….. تعالي احكيلك واحنا بنشرب مايه….. ماية ها عشان انا عارفه دماغك
هتروح فين دلوقتي……..”
……………………………………………………………..
كيف تكون الحياة عند خصام الأحبة؟……..مضنية هي
بلا مذاق ايامها باردة والليالي حالكه……قلبٍ يحترق
شوقاً وكبرياءاً……مُنهزم هو في الفراق ويدعي الانتصار متأقلمٍ على الوضع…….
ومع مرور الأيام يزداد الحزن ويلتاع الفؤاد صارخاً
بأن الكتمان كسجن المشدد رغم الجوانب المظلمة
به تظل لديك رغبة قوية في العودة خارج الاسوار
من جديد……..
أسبلت اهدابها وهي تفتح أبواب المطعم صباح يوماً
جديد…….لأول مرة تدخل بمفردها……..فقد اتت مبكراً
وستلحق بها خلود والباقية……..
رفعت عسليتاها لتجد الاضاءة مشتعلة رغم انها تاكدت من اغلاقها أمس…….ولم تلبث كثيراً إلا
ووجدت عاصم جالساً على احد المقاعد بعينين
منتظرتين منذ مدة…..عينين شديدتين السواد
حانقتين غير متهاونتين في النظر لها……ووجهٍ
جامد متصلبٍ………
بلعت شهد ريقها وقد ذابت الصدمة من عليها
ولفظت اسمه بنبرة مشدوهة…….
“عاصم……..”
اهتزت حدقتاه قليلاً….باتت ترى تأثيرها عليه من خلال نظرة عيناه إليها……..فدوماً نظرات عيناه
نحوها استثنائية كـنبرة صوته تماماً معها……
(اشتاقت ياعاصم ولا أملك حق البوح….فلا تقسو
رجاءاً……لا تقسو أرجوك… فانا لن اتحملها منك…..)
رأى نظرة الترجي من عيناها فأخفض بصره يبحث
عن صوته بينا ظلام أفكاره……. وغضبه الذي لم
يقل بل يزداد بداخله مسبب فجوة في مشاعره نحوها….
نهض عاصم من مكانه يشرف عليها بطولة الفارع والهيبة المشعة من جسده الضخم الصلب…. كان يرتدي حلة انيقة فخمة تليق به بشدة ويزداد
وسامة بها….. ذقنة الكث غير مهندمة على
غير العادة….عيناه حمراوان قليلاً وكأنه لا
ينام لساعاتٍ كافية بادي عليه الارهاق
والتعب…..
اخرجت نفساً مضطرب…..وقلبها يخفق بوجع
لأجله……..
حالها لم يكن أفضل منه هي أيضا لا تنام جيداً
ومجهده وحزينة تشعر بالضيق بالحزن بالغضب
من أقل شيءٍ يقابلها في يومها وهذا فقط بسبب
انه اختفى عن محيطها لعشرة أيام كانوا بمثابة سنوات مضنية عليها….
بلعت غصة مختنقة وهي تسأله…..
“عامل إيه……”
اغبى عبارة ممكن ان تقال بعد ايامٍ من الخصام…
لذا ابتسم من زاوية واحدة بعصبية مكتومة ورد
بنبرة مظلمة….
“الحمدلله…..كويس أوي……”
اخر كلمتين كانوا بهم سخرية مريرة لذا نقلت الموضوع ببساطه لـ……
“مكنتش اعرف انك معاك نسخة من مفتاح المطعم…..”
رد عاصم بنبرة باردة…..
“طبيعي لاني هحتاجه كتير الفترة الجاية……”
توترت حدقتي شهد…..
“ليه يعني…….مش فاهمة…….”
دارت عيناه على المكان في لمحة خاطفة بينما لسانه يخبرها ببساطه…….
“انا هبيع المطعم….. اخر الشهر ده…..”
يبدو ان الصدمة كانت بمثابة لكمة جعلتها ترتد للخلف بعينين متسعتين قليلاً وبنبرة غير مستوعبة بعد……
“يعني اي تبيعوا….. مش فاهمة….هتبيعوا لمين…”
بصوتٍ قاسي دون النظر لعينيها…..
“لواحد محتاجة…… حاولي تلمي حاجتك دي وتشوفي مكان تاني تفتحي فيه…….”
تكاد تشعر بان اطرافها جمدت مع كلماته القاسية الجامدة مما جعلها تهمس بأسمه بعدم تصديق….
“عاصم انت بتقول إيه…….. امشي أروح فين
دا شغلي واحنا بينا عقد…….”
بنظرة مدققة اخبرها بفظاظة…..
“فسخته….. واي شروط في العقد انا هدفعالك.. خلاص……..”
اشتعلت عينيها من رده فقالت محتدة…
“مش مصدقة بجد…… ليه بتربط الأمور الشخصية بالشغل…. انت كده بتوقف حالي… وحال الناس اللي شغاله معايا….. قولي ألاقي فين مكان في الوقت القصير ده…….”
رد بغلاظة….
“مش مشكلتي يا آنسه اتصرفي……..”
فغرت شفتيها قائلة بذهول….
“اي القسوة دي…… معقول اللي بتقوله ده……”
ابتسم عاصم بسخرية……
“ليه مش معقول…. عادي جداً لما الواحد يرجع في كلامه من غير سبب….. دا انتي استاذه في ده…”
قالت شهد بحدة…..
“انت بتردهالي……. بتردهالي في شغلي فأكل عيشي………”
اظلمت عيناه وشعر بكبريائه يزأر…..فقال
بجمود……
“مش محتاج اردها….. ولا بقا الموضوع في
دماغي….. المطعم هيتباع…فبلاش توقفي حالي
بكلام لا بيودي ولا بيجيب….”
هوى قلبها ساقطاً اشلاء وهي تراه مصمم على
خروجها من المطعم بأسرع وقت….فلفظت شهد
بغصة مسننة في حلقها…….
“عاصم شهر قليل اوي…….. أصبر عليا شهرين
اكون شوفت مكان…….”
لم تلين ملامحه امام انكسار امالها وترجي
عينيها الحزينة بل اولاها ظهره قائلاً
بقسوةٍ….
“اخرك الشهر ده يا آنسة…..تفضي المكان
وتمشي…. ”
ذهلت من جمود قلبه والمعاملة التي انقلبت مائة
وثمانون درجة……هل هذا الشخص الفظ القاسي
كان مرجح في المستقبل ان يكون زوجها !!…
أشباه عثمان الدسوقي….لماذا ظنت انه مختلف
وأمن في الحب…….جميعهم مؤذون بأسم الحب
يلوثوا كل شيءٍ جميل بالفطرة……..وفي نهاية
يلقوا اللوم على النساء ؟!……
“استنا……”مسكت ذراعه بقبضتها الصغيرة
المرتجفة بالغضب ثم إدارته اليها بمنتهى العصبية…فنظر لها عاصم بدهشة بعد ان باغتت
بتلك الحركة….. فتابعت هي بصوتٍ جهوري غاضب لأبعد حد بينما وجنتيها وانفها عند الغضب تحولا
للأحمر القان…..
“انا كنت فكراك غيرُه…… بس طلعتوا كلكم عجينة واحده……. لا عندكم رحمة ولا ضمير……ولي يقف
قصادك رغباتكم تدوسوا عليه بأوسخ جزمه
عندكم……”
جفل عاصم بشدة ومزال ينظر لها بصمتٍ
غريب……فتابعت هي بثقة تنتقم منه…..
“انا هسيب المطعم….. وهسيب الشارع كله
وهريحك مني……وزي ما طردتني من مالك
حاول تطردني من قلبك وعقلك لو عرفت….”
سحبها لعنده فاطلقت شاهقة عالية واتسعت عيناها بغضب محاولة الفكاك منه……فهتف عاصم امام عينيها بشراسة……..
“مين قالك انك في قلبي وعقلي……جايبه الثقة
دي كلها منين……..”
اغمضت عينيها بخوف….شاعره بأنه سينطق الان شيء مهين في لحظة غضب عن اعاقتها لذا
قالت لنفسها بهمساً وصل لمسامعه ببساطه……..
“اوعي تهني…..حتى لو اللي قولتلوا مش حقيقي
اوعى تهني……….”
همسها الكسير وخز قلبه بشدة فتألم بصمت….عندما انتبه الى ما تعنيه…..شيءٍ لم يمر حتى امام عيناه
الغاضبه….
غبية……والاعاقة الحقيقية ليست في اذنها بل في عقلها…..وقلبها الفولاذي……….
ففتحت عينيها واخذت انفاسها بصعوبة وهي
تقول بسخرية سوداء……..
“صح مش انت اللي تعمل كده…. انت بس
بتطرد…….. مش كده…….”
لم يرد بل ظل ينظر اليها طويلاً ولمحاتٍ من الغضب
بارزة على وجهه الحجري……
فصرحت شهد بصعوبة…..
“انا همشي……..همشي ياعاصم….”
لماذا كان قرارها الآن مؤلماً على قلبه….فهو من
أراد هذا…….شعر بان الهواء انسحب من أمامه
وحل الجو أكثر قتامة واشد حزناً…..فارتسم
على محياة كآبةٍ سوداء وهو ينظر لعينيها نظرة اخيرة قبل ان يرحل قائلاً……..
“ياريت….. بيقوله البعيد عن العين بعيد عن القلب..
امشي… وقدري كل اللي كان بينا محصلش…..”
خرج امام عيناها الامعة بالدموع… تارك قلبها محطم
في محجرة…. شعرت بان الأرض تميد بها فانحنت جالسة على أحد المقاعد تضع يديها على وجهها باكية وهي تلعن تعلق قلبها به…… بل تلعن الحب الذي جعل
مشاعرها تنتمي لرجلاً يلجأ للقهر حتى يبرد نار
قلبه…..

متنساش ان الرواية موجودة كاملة في قناة التلجرام والواتساب

للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا

صعد على الدرج بتكاسل بعد يوم شاق ومتعب في العمل…… واثناء صعودة للأعلى كان كل ما يستحوذ
على فكرة الان رؤية الأميرة المدللة……
اشتاق اليها أسبوع كاملاً تقضيه مع والدته بالاسفل
لا تصعد إلا ليلاً في وقت نومه ولا يراها إلا في الصباح الباكر عند ذهابة للعمل واثناء وجبة الغداء والتي يتشاركها وسط والديه ومعها……
لقاءتهما معدودة رغم انهما زوجين ولا يزالا في شهر العسل ؟!!….
مالت زاويتي شفتاه بسخرية سافرة……
فيبدو ان تلك المرحلة لن يصل إليها أبداً مع تلك العنيدة المخادعة الشرسة…….
على ذكرى الشراسة…….. لأول مرة يراها جبارة وكيادة لدرجة فاقت الوصف…. فكلما تكررت
زيارات (أمال..) الشهيرة بأم دنيا تنقلب من الداب
الكسلان الى نمرٍ متوحش وشتات مابين الوصفين
بات يحب رؤيتها تغار الأمر يثير بداخله مشاعر
كثيرة ويزداد أكثر تسليةٍ……..
فتح الباب بالمفتاح و وهو على دراية بانها بداخل…
بعد ان تأكد من أمه……
دلف من باب الشقة منبسط الملامح وعيناه تبرقان
بومضٍ خبيث لمناكفة الجميلة واثارت حنقها قليلاً
لكن سريعاً تبدلت قسمات وجهه وتشنج فكه وهو يرى الشقة منقلبة راسٍ على عقب…..
اتسعت عيناه ودارت حدقتاه في المكان… السجاد
منزوع عن الأرض وملفوف ويقف جانباً …..
والأرض ممتلئة بالماء ورغاوي سائل التنظيف والمعقم… الاثاث منقلب في كل مكان ومرصوص فوق بعضه بفوضوية متعبة للنظر وتليها الأعصاب……..
انعقد حاجبي سلطان بذهول وفتح باب الشقة من جديد ينظر الى السلم الممتد فربما يكون أخفق
في شقته….
لكن للأسف عاد من جديد واغلق الباب فلا مفر من مواجهة الحقيقة القاتمة تلك هي شقته لكن لماذا
هي بهذا الحال وكانها ضربتها عاصفة قوية فاطاحت
بكل شيءٍ أرضاً……
وما هذا الماء…….ماهذا الماء والصابون….من المختال
الذي ينظف بهذا الشكل في منتصف الليل !!…..
جز على أسنانه وشتم بصوتٍ خفيض وهو يتخطى الارضية المبللة بحرص حتى لا يقع على وجهه…
فوجد داليدا تظهر أمامه حاملة سجادة كبيرة وطويلة الحجم تكاد تختفي خلفها….نظرت اليه
بتشفي وقالت بتبرم……
“أهلا ياسلطان…… انت جيت…..”
جز على أسنانه قائلاً بعصبية مكتومة….
“لا لسه بفكر اجي…..اي اللي انتي بتهببي ده…”
وضعت السجادة جانباً بمنتهى البساطه وهي تمصمص بشفتيها بتعجب لتقول
“بنضف البيت…. إيه مانضفش…….”
لوح سلطان بيده بغضبٍ غير مستوعب
بعد…..
“لا ونبي….بتنضفي البيت الساعة حداشر باليل
انتي اتهبلتي ياداليدا……..”
تخصرت داليدا بضيق وهي ترتدي عباءة بيتي بنصف كم ملفوفه على جسدها المغوي كما تلف
فوق شعرها بوشاح معقود عند الجبهة بطريقة
شعبية اصيلة تعبر عن كفاح المرأه في طرد الاتربة
عن منزلها……..
“الله الحق عليا يعني….الشقة ريحتها مكمكمة…دي طلعت كمية تراب رهيبة….تصدق ياسلطن…..”
زم شفتيه بقرف وهو يرمقها بحنقاً….
“اسمي زفت سلطان…….”
ابتسمت بلؤم انثوي…….
“بدلعك ياغالي….احلى سلطن في دنيا……”
احتدت نظرات سلطان وبلهجة شديدة
الخطورة أمر………
“داليدا اتقي شري ولمي نفسك ولمي الدربكة
دي……”
حركت داليدا كتفها بدلال مستفزٍ…….
“الم نفسي سهلة….لكن الم الدربكة دي صعبة عليا…
ماتيجي تساعدني………”
تدفقت الدماء المغلية لأوردته فهدر بانفعال…
“اساعدك…..كنتي فين طول النهار ياهانم… لما جايه تروقي وتسايقي بليل…..”
رفعت رأسها بغرور….
“كنت فوق السطح بأكل البط… وامك خبزت النهارده وعملنا فطير مشلتات….. وانا فردت العجينة وحطيت السمنة جواها….. المرة الجايه هعمله بنفسي وهدوقك….”
كانت تتحدث بمنتهى السعادة منبهرة بانجازاتها
عن التقدم في الطهي…..
فقال هو بحنقاً غير مبالي……
“مبحبش الفطير……..لا المكرونة ولا الفطير……”
رغم غيظها والاحباط البادي على وجهها والذي انطفئ اشراقه فجأه…..قالت بتبرم تذكره…….
“آه نسيت انك بتحب الخوخ….هاا….. الخوخ……”
لم يرد عليها فتابعت وهي تتقدم منه بمهاجمة…
“من امتى وانت بتحب الخوخ….طول عمرك ملكش تقل على الفاكهة…….”
لمعة عيناه بالمكر فعقب
بخبثٍ…
“لا بس الخوخ حاجة تانية………”
أحمر وجهها من شدة الغضب وهتفت بغيرة…..
“تقصد ام أربعة واربعين صح…….طول عمرك عينك
زايغة على الأكبر منك تموت في الستات الكبيرة القرشانات…”
رد سلطان بزهوٍ…….
“على فكرة انا اللي اكبر منها مش هي……”
رقصة حاجبٍ مغتاظٍ وهي تستفسر….
“آه يعني في أمل….لا الف الف مبروك…ما وفق الا مجمع…. لايقين على بعض اوووي…. ”
سايرها سلطان في الحديث بتسلية وبلهجة
لعوبة….
“اي رأيك يادودا….. اهي آمال مننا وعلينا.. وسبق ليها الجواز يعني هتكون عارفه كويس احتيجاتي كراجل وهتعملها من غير ما أطلب…….”
اطبقت على اسنانها معقبة ببغضٍ…..
“كل اللي فارق معاك قلة الادب وبس…. بنسبة
للحب فين……..”
نظر لشفتيها سريعاً متذكر أول قبلة شهيه بينهما
فرد بحرارة صادقة….. “هيجي بعد اول بوسة…….”
“هي وصلت للبوس كمااان…….. “اشتعل صدرها كمرجل ناري وهي تتجه لاقرب زهرية وتلقيها في وجهه دون تفكير…….
تفاداها سلطان في لحظة خاطفة….ثم وجدها
تكمل طريقها مصطدمة بالحائط خلفه متحولة بعدها لأشلاء متناثرة…..عادت عيناه اليها صائحا بوجه
أنبئ بالخطر القادم…..
“يابنت المجنونة انتي اتهبلتي يابت تعالي هنا….”
ركضت داليدا من امامه تدور حول الاثاث الملقي
باهمال من حولهما…….وقد قالت له بعناد ومزالت مشاعر الغيرة تسيطر عليها……..
“مش جايه يارب تقع وتنكسر وافرح فيك… يبتاع
ام دنيا….. ياخاين…….”
كان يطاردها سلطان من كل الاتجاهات
محاول الإمساك بها لكنها كانت اشبة بفأر
صغير شقي صعب الإمساك به مهما كثرت
محاولاتك…..
“تعالي هنا ياجزمه انا لسه محسبتكيش على المرستان اللي انتي عملاه…. في واحده عاقلة
تقلب الشقة كده بحجة الترويق………”
لم ترد عليه داليدا بل كان كل تركيزها مصوب على
الافلات منه……..فتابع سلطان بغضب ومزال يحاول الإمساك بها……
“انا عارف انك قصداها….. عشان تقرفيني اكتر من قرفان منك……..”
وقفت داليدا مكانها وهو فعل المثل وانتبهت لها
كل حواسه…. فقالت داليدا بشفاة مقلوبة بسخرية
منه….
“وطالما انت قرفان اوي كده ياسُكر…. بتتحرش بيا ليه….. ها….. يبتاع الخوخ……..”
عض على شفته بغضب وهو يتحرك من
جديد للامساك بها…..
“تعالي وانا اقولك بتحرش بيكي ليه……”
عندما زاد اصراره على الحاق بها….صاحت
برعبٍ وهي تسير على الأرض المبللة…..
“كده هنقع وهنتكسر يخربيتك……..”
اتسعت عيناه وهو ياخذ انفاسه بعصبية شديد من منظر الشقة الذي يثير حنقه عليها أكثر……
“يخربيتي انا…. اه انا اللي عومت الشقة ماية وقلبت العفش على وطيه… انتي عارفه كل أوضة مصروف عليها كام ياحلوفه….”
برأت نفسها صائحة وهي ترفع كفيها
للأعلى….
“ما قولنا بنروق الشقة مكمكمة………”
هتف سلطان مستنكراً…..
“والله مافي حد مكمكم غيرك……”
وقفت داليدا مكانها ترفع اصبعها محذرة….
“عندك انا باخد شاور كل يوم بافخم وانضف الشامبوهات والعطور……”
مط سلطان شفتيه بجمود…..
“اهم حاجة نضافة القلب…. ودي بقا معدومة عندك…….”
ضحكت داليدا بعصبية…..
“حوش حوش انت اللي قلبك بفته بيضا يابتاع الخوخ……..”
طاردها مجدداً في أنحاء الصالة بين الاثاث الملقي
هنا وهناك…….
“تعالي بقولك هنفضل نلف حوالين بعض……”
من بين انفاسها وهي تركض قالت ببراءة…
“قول لنفسك انا كافية خيري شري….وبروق في امان الله……….”
احتدت نظرات سلطان وهو يهدر بصرامة….
“بتروقي دا ترويق ولا جر شكل تعالي بقولك الفازة
اللي رمتيها في وشي دي لسه هتتحاسبي عليها…”
قالت بعفوية وبنبرة اقرب للبكاء…..
“احسن عشان تحترم نفسك ومتبصش لواحده غيري……..”
رفع حاجباه متعجباً من أمرها……
“عايزاني ابصلك….مانا كنت من شوية قليل الأدب وبتحرش بيكي…..”
وقفت داليدا تاخذ انفاسها وهي تقول
بتقريع محركة ابهامها للخلف تذكره…….
“هو ياما تتحرش بيا…ياما تعاكس الستات قدامي
يبتاع الخوخ……خالتي ام دنيا ها….بتحب واحده
قد امك ياطفس……..”
“تعالي عشان اوريكي الطفاسه…تعالي بقولك….”
مسكها سلطان بقوة من ذراعها أخيراً وسحبها لعنده……
فقالت داليدا بخوف وهي تحاول الفرار
منه…
“عارف لو ضربت هصوت وهطلع اهلك على صوتي ساعتها هتبلى عليك وقول انك ملبوس وعايز تموتني……”
مسكها سلطان من عنق العباءة وكانه يمسك
شيء مقرف من شدة غضبه منها….
“اتوقع منك اي حاجة……بس برضو مش هسيبك اعملي اللي انتي عيزاه……بتحدفيني بالفازة ياداليدا
عايزة تعوريني……في وشي……وشي….”
نظرة اليه كالحمل الوديع محاولة ابتزازه
عاطفياً…….
“سلطان أهدى….دا انا مراتك…حد يعمل كده في مراته… ”
نظر لها سلطان نظرة السفاح الذي يفكر
في طريقة جديد لتعذيب ضحاياه……
“انتي خليتي فيها مراتي…..انتي عملي الردي في الحياة اعمل فيكي إيه…أعمل فيكي ايه قوليلي…..”
هتفت هي بوجوم….. “بطل تاكل خوخ……”
صاح بغضب أسود…..
“كرهته….كرهت الخوخ ارتاحتي……….”
تابعت هي ببراءة…..
“ولي جابتلك الخوخ كمان اكرها…….”
انتبه هو لما تقول….. فرد بنفياً قاصد
اغاظتها……”لا……”
صرخت داليدا في وجهه بغضبٍ هائل…..
“ليه عينك منها……تحب اخزالك عينك دي عشان تحترم نفسك………”
رفع حاجبٍ خطيراً…..
“والله خزئيها كده……يلا وريني شطارتك……..”
عضت داليدا على شفتيها وهي تشعر ان الغضب يتفاقم داخلها بدرجة لا تحتمل…….مما جعلها تميل
على ذراعه في لحظةٍ خاطفة وتقضم لحمه باسنانها
الحادة………
صاح سلطان وهو يبعد راسها
عنه……
“آآه يابنت العضاضة…….”ابعدها باعجوبة فنظرة
اليه بتشفي بعد ان نالت منه…….
“طب تعالي بقاااا……..”انقض عليها سلطان
وجذبها من شعرها…..ثم دفن وجهه في تجويف
عنقها وقضم هذ الجانب باسنانه بقوة
تضاهيها……..
بينما هي تحذره قبل ان يفعلها…….
“اياك تعض جسمي يبعلم ياسلطان………آآآآآي… ”
صرخت بها متالمة فابتعد هو عنها وكان رحيم
بها عكسها تماماً لم تتركه إلا عندما خلص ذراعه
من بين اسنانها بصعوبة وأعجوبة……
ضربته داليدا في صدره وهي تتحسس
جانب عنقها صارخة بعد ان تجمعت
الدموع بعينيها…..
“دا هزار بوابين…….هزار بوابين………”
قال سلطان بانفاساً عالية حانقة……
“روحي لمي الدربكة دي احسلك…وحضريلي عشا….”
ردت داليدا بوجوم وهي تزم شفتيها بقرف بينما
يدها تتحسس اثار الوجع…..
“معملتش عشا…….فيه فطير مشلتت……..”
اغمض سلطان عيناه لثانية ثم فتحها وهو ينظر
اليها بنفاذ صبرٍ………
“مش عايز اطفح مش عايز منك حاجة ياداليدا…
لمي الردبكة دي بسرعة….. منظر الشقة كده بيعصبني……..”
قالت داليدا بوجوم….
“دي نضافة……..نضافة على فكرة…..”
نظر للسقف بجزعٍ وهو في ذروة غضبة…..
“نضافة الساعة حداشر بليل معاد رجوعي من الشغل
ادعي عليكي بأيه…… روحي ياشيخة منك للي خلقك……. ”
قالت بضجر وهي تلقي عليه نظرة جافة….
“ماهو مني لربنا….. هيكون مني ليك…. يبتاع الخوخ……”
برق لها بعيناه لعلها تخشاه… “اتلمي ياداليدا…..”
لكنها لم تخشى شيءٍ وهي تتحداه
قائلة….
“ولو متملتش ياسلطان…… هتعمل إيه…….”
ابتسم بسادية مرعبة بعثت رجفةٍ باردة
لأوصالها…….
“اختاري انتي هتضربي بأيه…….وسيبي الباقي عليا……..”
جزت على اسنانها متاففة……
“همجي ومتوحش……..”
ضحك سلطان باستخفاف قائلاً
بهزل……
“وانتي ملاك نازل من السماء…..حاسب ياملاك الرحمة جناحتك دخلت في عيني……”
ادعت الضحك بسخط….”هاهاها خفيف اووي…..”
لم تلين ملامحه حتى الآن وقد أمرها بسطوة خطِرة………
“انجزي ياداليدا انا روحي بقت في مناخيري منك………لمي الدنيا وكل حاجة ترجع زي ما كانت…….”
غمغمت داليدا وهي تعود ادراجها
من حيثُ بدأت……
“ربنا على الظالم والمفتري………”
سالها سلطان بشك…. “بتقولي إيه……..”
“بقول لا إله إلا الله…….”ردت بإبتسامة صفراء…
فاشار هو لها بيده بغطرسة كي ترحل…..
“بطلي برطمه…… وشوفي اللي وراكي…….قدامك
ساعة وترجعي كل حاجة زي ما كانت….. سامعة…. ”
اومات براسها وداخلها تتوعد له بمكر
النساء…
(ماشي يابتاع ام دنيا…اما طلعتوا عليك خوخاية
خوخاية مبقاش انا داليدا بنت سهير……..)
……………………………………………………………..
جالساً على الاريكة بارتياح شديد كسلطان زمانه…..يشاهد التلفاز وهو يأكل من الشطائر التي اعدتها له سريعاً وباليد الأخرى يشرب من كوب الشاي بتلذذ…. أحياناً تحين منه نظرة عليها في الخفاء وهي تمسح الارضية في الصالة المفتوحة على الصالون……
فيسرق بعض النظرات الغير شريفة أبداً على مفاتنها المتمايلة مع كل حركة تصدر منها……وعندما تمسك به بالجرم المشهود يبتسم باستفزاز وتعود عيناه للتلفاز بالامبالاة فتزفر هي بوجهاً خجول غاضب متمتمه…….
“غض البصر يا محترم…….”
فيضحك بانتشاء دون تعقيب…شهيةٍ هي تثير مشاعره وقلبه…تحرك رغباته بنظرة واحدة…وتثير غضبة بعدة كلمات…….وتنعش خفقاتُ عند الاقتراب
وفي عناقها يحلق فوق السحاب يحيا في احضانها كما لم يحيا يوماً دونها !…….
كيف كانت في الماضي….. ومن اين بدأت قصة زواجهما……واين وصلت به المشاعر نحوها..
طريقٍ مسدود….
مزال يسأل نفسه هذ السؤال المظلم كالمشاعر التي تنتج من خلفه………
هل سيغفر لها خطيئتها ويتابع معها حياةٍ زوجية
طبيعية سعيدة…….
هل سيشعر بالراحة معها هل سيعطي لها الأمان
يوماً بعد ان خذلت عائلتها بفعلة مشينة لا تفعلها
فتاة في الخامسة عشر……وقد فعلتها في سن العشرون ولن نقول صغيرة فهناك نساء تنجب جيشٍ في هذا السن وتحمل مسؤولياتُ كاملة دون ان تمل او تكل
كيف بهذا السن ترتكب هذا الخطاء…كيف ازهدت
في ثمنها حتى باتت كفتاة تبيع الهوى…..
اغمض جفناه بقوة مؤلمة….ها هو يصل تفكيرة للظلام مجدداً…….
ان كان غير قادر على تحمل هذا الخطأ معها لماذا قبل بها زوجة…….ووقف امام والدها حتى لا
يقتلها…….
كان قتلها اهون وقتها…..لكن قلبه حينها عصى
اوامره وتمرد…….
نظرت اليه داليدا من بعيد وجدته يغمض عيناه بقوة
وجسده بأكمله متشنج وهذا ظاهر على قسمات وجهه المتصلبة……
فاقتربت منه بخطوات حريصة….ثم جلست جواره
تلامس كتفه وهي تسأله بقلق…….
“مالك ياسلطان انت تعبان………”
عندما امتزج عطرها الجوري بالهواء تضخم صدره
بمشاعر مختلطه مابين ظلام مخيف ورغبات ناهمة..
أبعد يديها وهو ينهض من مكانه مشتت في أفكاره
غارق في ظلامه وكبرياؤه الرجولي…وشيطانة الذي يوسوس لهُ بكل ماهو سيء نحوها……..
لحقت به ناهضة من مكانها……
“سلطان انت رايح فين……..”
نظر لها بعينين قاتمتين محاربتين لي هواجس
الماضي…….
“رايح أنام…..طفي الشاشة دي وادخلي اوضتك ارتاحي وسيبي كل حاجة لبكرا………”
قلقت داليدا عليه من هذا الانقلاب المفاجئ
فكان منذ دقائق فقط يداعبها بعيناه بغلاظة
اين ذهب هذا الجلف العابث…
“انت كويس…..مالك قلبت كده ليه…….”
لم يرد سلطان بل ظل ينظر لها طويلاً…فقالت
بوداعه معتذرة…….
“انت لسه زعلان عشان قلبت الشقة…….انا آسفه.. ”
نظر لها سلطان طويلاً جدا متأملها بصمتٍ
مبهماً ولسان حالة يقول….
(ليت كانت كل اخطائك تافهةٍ ما كنا وصلنا لهنا
يامدلله…)
هناك اخطاء حتى الإعتذار عنها يُعد ذنبٍ لا
يغتفر….
وللأسف ياصغيرة حتى الان تلومِ الجميع عن
ابعادك عن الخطر……
وان أتاكِ الخطر سترحبِ به من جديد وهذا ما يجعلني اقف على نصل السيف…..
فلا أعرف هل يجب ان اقترب منكِ ، ام أبتعد متوخي الحذر من طعنتكِ القادمة فأنتِ
والخذلان وجهين لعملةٍ واحدة…….
ابتعد سلطان عنها بملامح حجرية فنظرت داليدا لرحيلة بعينين حزينتين مشدوهتين…….
مهما اقتربا او تحدثا او حتى هدأت عواصف غضبة
نحوها تظل خطيئتها بينهما تموج في حلق كلاهما والألم بها اشبه بشفرةٍ حادة مسننة لا تزول !……
سارت داليدا لخارج الصالون حافية القدمين على الارضية الشبة مبللة بعد التجفيف….وللأسف في لحظة شرود منها فقدت توازنها ووقعت بقوة
مرتطمة بالأرض الصلبة
وكان آخر شيءٍ نطقت به قبل ان تفقد وعيها…..
إسمه هو…….. هو وليس من كانت تسعى للهروب
معه سابقاً ؟!……
…………………………………………………………….
تركت القلم من يدها وهي تشعر بتشتت قوي يداهم
ذهنها كلما حاولت التركيز في العمل يستصعب عقلها الأمر عائدا الى التفكير به……….
من آخر يوم تحدثا معاً وأوقفته بصرامة بان يلزم حدوده معها وهو انقلب عليها…….. بات صامت متجهماً….. بارد المعاملة والتي لا تتخطا حدود العمل…….
لماذا هي حانقة من انقلابه الجاد…. وكان الأمر
برمته يعنيها ؟!…… ما دخلها هي فكل ماتبقي
لها هنا ايام وترحل وتتركهُ للعمل وتحضيرات الزفاف……
شعرت بحرقة قوية في صدرها وكانه يحترق على ذكر زفافة الاسطوري الموقع حدوثه الأيام المقبلة…….. أسبلت جفنيها بآسى…….
تخشى ان يزيد هذا الشعور المؤلم داخلها فيكن الكتمان أصعب من البوح ……
رفعت فيروزيتاها البراقتين الى باب مكتبه المغلق…
خلف هذا الباب محتال لعين استحوذ على قلبها بقبضةٍ واحدة وبالحرة يحتجز قلب أخرى معلق خاتمها في اصبعه……
فكيف لها ان تقبل بمشاعرها ومشاعره الواضحة
وهي على دراية بانه يتلاعب بهن….. خائن…..
لعين….أشباه عثمان الدسوقي……… فماذا تتوقع
من معشر الرجال ؟!……
اخفضت عينيها على الملف من جديد تستعيد تركيزها بالاجبار…….
فلم تلبث الدقائق الا ووجدت شريكتها على قلب رجلاً نذل………تدلف الى المكتب بكامل اناقتها شعرها
القصير جداً بقصة شبابية وبنطالها الجينز الضيق مع
كنزة صيفية علوية تصل لنصف خصرها كاشفة عن الباقي فوقها ترتدي سترة زرقاء مفتوحة بشكلا عصري……..
زمت كيان شفتيها بسخرية ممتعضة عمن كان
يدعي المثالية امامها معلقا باستهجان على
ثوبها الضيق قليلاً بينما زوجته المستقبلية تسير
في الشارع شبه عارية………
وقفت كيان بأدب ترحب بها قائلة…..
“اهلاً يانسة ايتن……..”
رمقتها ايتن باتعالِ مشبع بالغيرة….فكم كانت فتاة بسيطه لا تفقه شيء في عالم الموضة…..وقصة شعرها سيئة كما ان لونه باهت….وبشرتها بيضاء
لدرجة مقرفة وكانها تنظر لوجه كوب لبن رائب
فاسد…..حتى ان ملامحها ليست مشدودة بل
مهرولة بوجنتين ممتلئتين قليلاً تليهم شفاه
مكتنزة ورديتان اللون وانف صغير ملائماً
وعينين فيروزيتان مريعتين…….
حتى ان عطرها رخيص الثمن كحذائها والحقيبة الشعبية البسيطة والتي لا تحمل اسم اية ماركة
معروفة حالياً…….
“هاي…..سليم موجود………”
كان قد تمكن الغضب من كيان بعد نظرات ايتن المتسلطه المدققة بتفصيلها وكانها تقيمها من
منظور حقير فكم كانت عينيها شديدتا الكره والحقد……على غير هدى…….
سحبت كيان نفساً طويلا وهي ترتب افكارها في خلال ثانيتين قبل ان تقول…….
“آآه اتفضلي هو مستنيكي جوا……. وبلغني بوصولك………”
“تمام ابعتيلي قهوتي……”
رفعت ايتن انفها بترفع شاعرة بلذة الانتصار وهي
تخطو بقدميها للداخل بمنتهى الصلف….امام عينين
باردتين في التعبير عن اوجاعها……فلا تملك الا وجهين للتعامل مع البشر وهما….. المزاح….. والصمت…….
فالان ستلجأ للصمت بنفساً منهكة… تركت جسدها يهبط على المقعد من جديد بقوة وعينيها محدقة في باب مكتبهُ المفتوح والذي دلفت من خلاله ايتن بمنتهى الهيمنة….
“هاي يابيبي…. معقول لسه بتشتغل….” نطقت بها ايتن وهي تدور حول مكتبه الخشبي ثم جلست بعدها بميوعة شديدة على ساقيه بمنتهى الاريحية وهي تميل عليه وتقبلها قبلة سطحية بينما يديها النحيلة تعانق عنقه……
“وحشتني يابيبي…….”
اتى صوت سليم من أعماق الظلام يبادلها الحب
دون الشعور به…..
“وانتي كمان………”
كان هذا الأمر مستجد داخله فمتى أصبح حبها سراب ومتى اصبح تبادل الكلام العاطفي بينهما مجاملة باردة منه…..
لطالما كان يهيم بها عشقاً وحباً ويشتاق لكل لحظة خاصة وكلمة تتسنى لها وحدها……
اين اختفت تلك المشاعر ومنذ متى اصبح متبلد الإحساس هكذآ……
وكأنها شعرت بما به فمسكت فكه تديره اليها وهي
تسأله باهتمام……
“مالك يابيبي……. مش في المود ليه…….”
هز راسه بنفي وهو يتحسس خصرها العاري من أسفل السترة الزرقاء المفتوحة……
“مفيش ينفع تستنيني ربع ساعة بس….هخلص الشغل اللي في ايدي ونخرج علطوا…….”
اومات براسها برضا تام وهي تبتسم بشفاة
قانية….
“اوكي…….تعرف اني متحمسة اوي للبروڤل….بفكر اعمل سيشن على دريسات الفرح اللي هلبسها…….”
سالها سليم متعجباً….
“وانتي ناوية تلبسي كام فستان…….”
اتسعت ابتسامتها وهي تجيب بغرور…..
“مم… 3 يابيبي…..3بس….”
ابتسم هازئاً معقباً…… “بس…. لا متخليهم دسته………”
نادته بحياء مصطنع….. “سليييييم…..”
هتف سليم بجدية معترضاً…
“انتي بتهزري يا ايتن….تلات فساتين يامفترية……”
قالت ايتن باستهانه وهي تلامس لحيته
باصابعها بدلالٍ……
“اي المشكلة يابيبي طب على فكرة بقا دي أقل حاجة…….”
ابتسم سليم بجفاء…….
“انتي عارفه الفستان الواحد متكلف كام…….”
عقدت حاجباها بدهشة معقبة بمسكنة…..
“من امتى وانت بتكلم في فلوس…..وبعدين مش خسارة فيا………”
سحب سليم نفساً طويلاً ثم حاول بعدها ان يوصل
وجهة نظرة والتي دوماً لا تتوافق معها مهما
استطال في الشرح…….
“انا مش بتكلم في فلوس…… بس انتي مش شايفه ان تلات فساتين فرح هتقعدي بكل واحد فيهم ساعة وهيتلبسوا كلهم في يوم واحد دا أوفر شويه…….”
هزت ايتن راسها بنفي معقبة بغرورٍ…..
“مش أوفر ولا حاجة….كل الناس بتعمل كده……..”
اهتزت ابتسامة سافرة بالضجر على محياه المتصلب…..مجيباً بعدها بأستنكار….
“كل الناس واضح انك مش عايشه في الدنيا…..من قريب جتلي قضية لواحده اتسجنت بس عشان معرفتش تدفع باقية إيجار فستان فرح بنتها ولي كان ايجاره يتخطى التلات تالاف جنية……….”
زمت ايتن شفتيها باشمئزاز…..تحاوره بمنتهى
التعالِ وهي ترفع راسها متباهية بالثراء التي
تنعم به……
“بذمتك دا كلام تقوله….وانا مالي ومالها انا ايتن الشهاوي فرحي لازم يكون اكبر وافخم فرح اسطوري تحكي عنه الناس كلها……. ومش هتنازل أبداً عن تلات دريسات لفرحي…….سوري ياسليم بس دي ليلة العمر……ولو مش معاك انا ممكن اتكفل بالموضوع ده…..متشغلش بالك………”
جز على اسنانه بغضب….. “ااااايتن….”
تراجعت للخلف وهي تحاول ان تتفادى غضبة
بابتزازٍ عاطفي…….
“اوكي أوكي بلاش تقلب عليا خلاص سوري…انا عارفه انك قدها….ومستواك يسمحلك باكتر من كده…بس برضو انا هستكفى باللي طلبته وبس………بحبك……”
اشاح سليم بوجهه عنها قبل ان تقبله….فادارت
وجهه لعندها تراضية بشت الطرق……
“سليييييم…….. ايتس أوكي…….ام سوري……..”
رفض سليم وأبعد راسه للخلف….. “ايتن……..”
فمالت على احضانه أكثر تحاول ان تراضيه هامسة ببحة مغوية لاي رجل…….. “ام سوري بيبي…….. ”
لصقت شفتيها بخاصته محاولة اغواءه بكل الطرق…حتى سلم هو حصونة لها وبادلها القبلة
برغبة باردة وكأنه يهرب من شيء مريع داخل احضانها……احضانها التي لم يجد به الدفء الذي شعر به في احضان أخرى…..
كيان؟!….
نطق الإسم في عقله وهو يحاول ان يسبح بقبلاته لنقطٍ بعيدةٍ كاملة البعد عنها…..لكنه مع كل لحظة يحاول بها يفشل فشل ذريع وتعود ذاكرته تتنشط
من خلالها وكانها اكسير الحيآة……
ويهيأ له انهُ يقبلها هي دون غيرها فيذوب قلبه وتزداد قبلاته نهم على شفتي ايتن التي كانت سعيدة بحميمية المشاعر المشتعلة بينهما ولم تكن تعلم انه يحيا مع أخرى في احضانها ؟!…..
تنحنح انثوي أوقف سيل القبل المتبادلة بينهما….
ففتح سليم عيناه ليجدها تقف أمامه عند الباب تحمل صنية عليها فنجانين من القهوة……
هنا الواقع…..وما عاشه كان خياله المريض
المقرف….
رفعت ايتن عيناها ونظرة الى كيان ببرود تقول بصلف دون ان تنهض من على ساقي سليم……
“مش تستأذني قبل ما تدخلي……هي وكالة……..”
بعيون باردة تلمع بومض غريب هتفت كيان وهي تتقدم منهما بخطوات مستقيمة ثم وضعت الصنية على المكتب قائلة بهدوء…….
“الباب كان مفتوح….ودي القهوة اللي حضرِتك طلبتيها….”
ابعد سليم ايتن فنهضت وهي ترجع شعرها المشعث بفعل يداه للخلف……..
رفعت كيان عيناها متبلدة المشاعر على كليهما ثم تسمرت نظراتها الساكنة على سليم…..الذي يبعد ربطة العنق عن عنقه بتوتر شاعراً بالاختناق والحرج وقد امتنع عن النظر إليها وكأنه محرج مما رأت……..
فلم ترحمه هي بل كانت اقوى منه وهي تحاول المواجهة بالنظرات حتى تعري له جانبة المقرف
فكلتاهما نزوةٍ لرجلا أناني……يتلاعب بهن…….
خطيبته نزوة مستمرة وهي نزوة مؤقته ومزال يسعى للوصول لها……وحمدا لله انها كانت أقوى في كبت مشاعرها وإلا كانت مكانها الان تجلس في احضانه يقبلها كما يحلو له على وعداً بالزواج عما قريب….
“عملتلك قهوة كمان يا استاذ سليم زي ما بتحبها……”
قالتها كيان وهي متسمرة مكانها تنتظر رده… بل تنتظر عيناه……
رفع عيناه بهدوء عليها فوجدها تبتسم بسمة باردة تعني….(ها قد انكشفت نواياك….)
اسبل سليم جفناه قائلاً بجمود……
“شكراً ياكيان…….”
شملتها إبتسامة مشرقة ماكرة وهي تقول لكلاهما
بخبثٍ…….
” العفوو يا استاذ….. هقفل باب المكتب ورايا عشان تعرفوا تاخدوا راحتكم أكتر…. ”
رفع سليم عيناه عليها مشدوهاً فوجدها تولي ظهرها له مبتعدة…….
وعندما تخطت كيان حدود مكتبه الخاص واغلقت الباب عليهما…. ركضت للحمام تتقيأ مما رأت…….
افرغت كل ما بمعدتها وهي تبكي بنحيب مكتوم حتي لا يسمعوها……..وصورت القبلات الحارة والاحضان المتبادلة تتحرك أمامها ببطء يتلف المتبقي من اعصابها………
فتحت صنبور الماء وبدأت تلطم وجهها بقوة بقطرات
الماء وهي تبكي…… تبكي بحرقة كما لم تبكي يوماً في حياتها…. الوجع اقوى من كتمانه مؤلم جداً ان يطعنك الحب فتجد نفسك تفتقر صلاحية العتاب
او حتى العقاب !…..
وهذا شعورها فلا يحق لها…..إلا الصمود والتجاهل فالامر لا يعنيها فليس بينهما شيءٍ واقعي مجرد أحاسيس ملموسة ونظرات مبهمة متبادلة ومراقبات واهية لا شيءٍ بهم يعني أبداً انه من حقها……..
وفي الحقيقة هي على درايةٍ كاملة انهُ ليس أبداً
من حقها…..والبكاء الآن ليس لأجل الخسارة فهي لم تراهن عليه يوماً….بل تبكي حزناً على حالها وعلى ما أوصلها له قلبها……
………………………………………………………………
خرجت من حجرة القياس بثوبٍ أبيض قصير مكشوف من عند الصدر والاكتاف ودارت حول
نفسها بحركة دائرية تشع اعجابٍ بالذات…..
“ها يابيبي اي رأيك……….”
نظر سليم للثوب نظرة مقيمة وسريعاً تجهم معترضاً بمروءة…….
“قصير اوي يا ايتن وعريان… مش هينفع…….”
زمت ايتن شفتيها بملل…..
“ليه مش هينفع هو موضة كده…….”
انعقد حاجباه متهجماً…….
“ايتن انتي عارفه رأيي وتحفظي من ناحية لبسك… فأرجوكي اسمعي الكلام وبلاش تقوحي……”
تاففت بوجوم وهي تحتد بتدريج….
“أوف أوف……..دا تالت دريس تشوفوا وتعترض عليه…كده كتير…….بجد كتير…..”
كان واقفاً بهدوء عن بعد خطوتين منها وهو يقول بخشونة… “لأن ذوقك غير ذوقي…..”
تاوهت ايتن بسخرية سافرة….
“أوه وانا لازم البس على ذوقك بقا…..”
رد سليم بصبرٍ وعيناه لا تبرح عيناها الحانقة…..
“دا شيء طبيعي لانك هتبقي مراتي فلازم يكون مظهرك الاجتماعي قدام الناس أرقى من كده…….”
فغرت ايتن شفتيها وهي تضيق عينيها في خطٍ مستقيم عابسة بريبة……..
“أرقى؟!…. سليم انت مش ملاحظ انك مزودها حبتين…من امتى يابيبي وانت بتعلق على لبسي….طول عمرك مديني حريتي من الناحية دي……..”
بلع غصة مسننة وهو يعلم انه تنازل كثيراً عن
حقوقه في تلك العلاقة حتى ترضى عنه…تنازل
كثيراً لأجل حبها وحاول الصعود اليها فكراً ومستوى
ورغم ان مستواه جيداً يضاهيها تقريباً إلا ان النشأه
والتربية تفرقهما…..فقال بعد صمتٍ…….
“بقيت بعلق يا ايتن….ولازم ترضي بده…..بدون اعتراض…..”
فغرت ايتن شفتاها مجدداً ويبدو انهُ يوم الصدمات
العالمي بينهما…
“بدون اعتراض….Oh my God…..هو احنا في زمن العبودية ولا إيه……فهمني…. ”
احتقن وجه سليم بالغضب قائلاً بصرامة…..
“ايتن دا نظامي واسلوبي…..مش عجبك بلاها فرح
خالص …….”
رغم صدمتها من حديثه إلا انها أخفت الصدمة ببساطه مبتسمة بعدها بهزل وهي تقول……
“أوكي ياسليم……..اوكي…….”
سالها بملامح جامدة…. “اوكي إيه…. مش فاهم……..”
بومضٍ ليس بريئاً أبداً اجابت…….
“هعمل اللي انت عايزة بس ياريت تقولي اي هو الدريس اللي ممكن يعجبك ويرضيك…….”
لانت ملامحه قليلاً وهو بخبرها
بهدوء…..
“حاجة طويلة ومقفولة…….ومحترمة…. ”
اغتصبت الإبتسامة وهي تدعي الجذل…..
“اوكي حلوو التغير ده…….بيـبين قد ايه انت بتحبني….وبتغير عليا………”
لم يرد عليها سليم بل ظل صامتاً ساكناً الملامح….فقالت ايتن وهي تبتعد عن مراى
عيناه…… “ثواني ورجعة………”
عند رحيلها أخرج نفساً مضطرباً متعباً شاعراً بانه بداخل دوامة عاصفةٍ اعلاها متسع واسفلها ضيق تسحبه اليها بقوة وهو فاقد القدرة على الحركة او المعافرة……..
……………………………………………………………..
كانا ثلاثتهن يجلسوا على الاريكة جوار بعضهن
امام شاشة التلفاز يشاهدوا فيلم درامي حزين كوري…..
وكان هذا اقتراح كيان التي اشترت من أسفل العمارة عدد كبير من الحلوى…كالشوكلاته… البسكويت
الكيك….بطاطا مقرمشة…… الكثير من الاشياء التي
تحتوي على نسبة سكر عالية تسبب الاغماء لشخصٍ
طبيعي….بأستثناء ثلاثتهن فهي تعلاج الاكتئاب الذي يحوم حولهن لأيام طويلة………
مسحت كيان بالمنديل الورقي متأثرة من هذا المشهد
والذي يروى عن بطل يقبل أخرى امام البطلة التي تحبه سرٍ……..
وضعت كيان قطعة كبيرة من الشوكلاته في فمها ومضغتها بتأثر وهي تبكي ……..
“ياواطي……بقاا دي تتخان….دي تتخان من اي زاوية يا حمار…..”
استلمت قمر دفة الحوار وهي تقول بتبرم وعيناها معلقة على الشاشة……
“معدوم الضمير والنظر……لسه معاها ويهمه أمرها
بعد كل اللي عملته فيه….”
“شوفتوا لما طردها من بيته…….”قالتها شهد بحنقٍ وكانت منفردة عنهن فكانت تشاهد دون بكاء بل كانت جامدة الملامح هادئة النظرات لكن يبدو عليها التأثر والانفعال المعقول مع الأحداث التي تروى…..
صاحت كيان وقمر معاً بحرقة…..
“ووووواطي…….”
هتفت شهد بنفسٍ غير سمحة……
“بس الحق عليها… اه الحق عليها…لو كانت حطت حدود بينهما في التعامل كان فكر الف مرة قبل
ما يطردها…….”
هتفت كيان بحرارة وهي تؤمن على كلامها…..
“عندك حق ياشهد…..طول ماهي مرمريه عليه….مش هتنفع…… لازم تركبله الوش الخشب…….”
سالتها قمر باهتمام….
“ودا بيجيب نتيجة يا كيان……”
اجابتها كيان بجدية شديدة……
“بيطفشه…….ولما يطفش هيرجع ويعرف امتها….”
عقبت قمر بريبة…. “طب وفرضي مرجعش……”
مطت كيان شفتيها بنفسٍ
راضية….
“يبقا كسبنا الصلاة على النبي…….”
ردد الجميع…… “عليه أفضل الصلاة والسلام….”
نظرت شهد للشاشة مجدداً ثم لم تلبث إلا وقالت
بامتناع……
“كيان كفاية المسلسل دا قفلني اكتر من مقفولة…”
رفضت كيان بتزمر وهي تقول بكوميديا
سوداء….
“لا ونبي انا مشغله المسلسل الحزين ده بذات عشان اعيط واكل…. اعيط واكل…. لحد متعمي أكل وعياط ودخل اتخمد مقومش…….”
رفعت قمر جاحبيها بصدمة…..
“ياساتر عليكي……. هاتي شوية فشار…….”
مدت لها كيان الطبق وهي تنظر لها
بحنق…. “اتفضلي….”
علقت شهد عسليتاها الحزينة على الشاشة وتصارعت من جديد الأفكار والاقتراحات داخل عقلها المجهد…..
ومزالت غير قادرة على ايجاد حلاً ناصفٍ لها….عليها
إخلاء المكان الأيام القادمة فما تبقى من الشهر الثاني الا بضعة ايام معدودة…وعليها البدء في المغادرة……
حتى الان لم تخبر حمزة عن الأمر…..ومزال لديها
أمل ان يتراجع عاصم عن قرارة ويتركها تتابع عملها
في المطعم……..لمدة سنة كما هو منصوب في العقد
ربما بعد سنة دبرت مكاناً قريب و……
بماذا تفكر اي سنة ستقضيها في مكاناً سيباع في نهاية هذا الشهر……..
ربما ان اخذت رقم هذا المشتري من عاصم ممكن ان تقنعه بأستثمار المطعم وبعمل عقد جديد بينهما….
ويحل وثاق آل الصاوي من على عنقها……وتنتهي الهيمنة والتربص للأبد…..ولن تخشاه بعدها من تهديداً او طرداً……..
ربما المحاولة الاخيرة التي يجب ان تعمل عليها هو التعرف على هذا المشتري الجديد حتى تعقد معه صفقة رابحة…….
(وإذا كان المطعم لم يباع ولم يشترى من الأساس
ومزال في حوزته…..وهذهِ مؤامرة لابعادك عنه….
هل من المفترض ان تجازفِ بكرامتك…….)
انبعث هذا السؤال داخلها… فعجزت عن الرد…..
تكره الفشل، الخسارة في حد ذاتها تقهر قلبها…
والغريب انها طوال عمرها تتخبط بينهما ؟!….
بلعت غصة مسننة وهي تنظر للسقف تناجي الله
سراً بقلبٍ ملتاع حزناً متمنيه أجاد حلاً عادلاً قبل نهاية الشهر……
وضعت كيان حبات الفشار في فمها وهي تشعر بانقباض حاد في قلبها….من كثرة البكاء ومن شدة
الضغط على اعصابها……سواء بالتصرفات الطبيعية
او المزاح……..وكل شيء مطصنع…..
حتى الان تشاهد وتبكي….تبكي دون توقف اقرب للهيستيريا ومزال مشهد القبلات يذبحها بسكين بارد…… حرارة مشاعرهما وهذا الحب الظاهر في اعينهما يحرقها على نيران باردة…….
فهي الطرف الثالث بينهما….الطرف التي تكره ظهورة
بين الثنائيات المميزة في مسلسلاتها…..أصبحت هي
هذا الطرف على أرض الواقع !!…..
لكنها تختلف عن هذه الفئة……هي لا تركض خلفه لا تحاول اغواءه……هو من يحاول لفت انتبها دوماً…
هو من يهتم…..يراقب…..يغار……ينظر….يتحدث…..
هو من يعبث بمشاعرها فأوصلها لهنا………
اسبلت اهدابها بحزناً…..شاعره بمشرط حاد يقسم
روحها لنصفين…..يجب ان تفكر بجدية في الإبتعاد عن كل شيءٍ يتلف اعصابها ويرهق قلبها…..
مسكت قمر هاتفه فوجدت رسالة من حمزة يخبرها
بإختصار بارد……..
(اعمليلي فنجان قهوة على الريحة…. انا قريب من البيت……..)
ابتسمت قمر رغم الجفاء والبرود المنبعث من هذه الرسالة والتي لا تحتوي حتى على( مرحباً…) او
(كيف حالك….)
على من تعقب……صاحب العيون العسلية الضارية
دوماً متقلب المزاج……. أحياناً يصعب عليها فهم
حديثه فتبدأ تصنفه….مزاح….. سخرية…..جدية….
لطف……..
تضيع مع هذا الوسيم صاحب الخصلات المتساقطه على الجبهة من شدة نعومتها… بومض عيناه الشقية المشعة بالخداع ، والحزن بها غير متورياً بل ظاهراً
ظاهراً وظهورة يؤلم قلبها ولا تعرف لما هذا الوجع ينحر في جوف الفؤاد …..
ليتها تهرب من هنا قبل ان تقع في الهوة فلا رجعت
بعدها ؟!…
سمعا بعد لحظات رنة سلسلة مفاتيحُ ثم انفتاح الباب
وحضوره……..
خفق قلبها بشدة وظلت عيناها مثبته على الشاشة..
أقترب حمزة منهن ووزع نظراته عليهن بتساوي…
فوجد ان الجو حزين كئيب……فجلس على مقعد
بجوار الاريكة الجالسين عليها على جانب قمر….
ونظرا اليهن مجدداً بتمعن قائلاً…..
“مالكم….. ليه قعدت المطلقين اللي تسد النفس دي
وبتعيطوا ليه….. يكونش ابوكم مات…….”
زمت كيان شفتيها بنفي قائلة….
“أبوك لسه حي يرزق…. البطلة هي اللي هتموت من القهر……..”
نظر للتلفاز الذي اشارت عليه كيان بعيناها… فأوما
براسه ببرود قائلاً بتأثر….
“لا حول ولا قوة إلا بالله…….واي اللي قهرها… ”
قالت كيان بحرقة متفاعله مع الأحداث
بروحها…
“بتحبوا ياميزو…. وهو بيحب غيرها…….”
انعقد حاجباه وهو يشاهد باهتمام
ساخر…..
“لا إله إلا الله…. طب ما تشوف غيره…….”
اشارت كيان سريعاً على أحد الممثلات في المسلسل
قائلة…….
“بص ياميزو اهي دي اللي سايب البطلة عشانها…”
أنتبه حمزة الى الممثلة التي تشير عليها كيان.. وكانت فاتنة من الدرجة الأولى جريئة العينين بملابس قصيرة شفافة لم تترك للمخيلة شيءٍ…..
فصاح بوقاحة……
“اوووبا…… طب والله عنده حق……..”
أدارت قمر وجهها اليه بدهشة فنظر اليها بسفالة متحدثاً…..
“بذمتك ياقمراية دي تتساب إزاي……دا لو انا كنت كتبت عليها وقتي……”
برمت قمر شفتيها قانطة…..
“طب ما تتفضل روح اكتب عليها اي اللي مانعك…..”
ضرب على ركبته بقلة حيلة….
“المسافات بس هي اللي منعه الواحد… يلا ملناش نصيب……..”
تغضنت زاوية شفتيها مستنكرة….
“على اساس انها هتوافق بيك يعني……”
رفع حاجباه بزهوٍ متشدقاً……
“ومتوفقش ليه….. بذمتك انا اترفض….. كيموو
انا اترفض……..”
وجه حديثه لكيان التي تباهت به قائلة بمحبة
مشبعة بالغرور…….
“مين دي اللي تقدر ترفضك دا انت احلى واجمل
من البطل اللي بيمثل معاها كمان…..ياميزووو ياجاااامد……”
لكز قمر في كتفها قائلاً بمناكفة…..
“شوفتي……. اتعلمي…. انا عايزك تتعملي منها…..”
سالته قمر ببرود…..”اتعلم إيه بظبط……”
اجاب غامزاً…… “فن التطبيل……”
ابتسمت ساخرة…… “كويس انك عارف……”
“بس بطبل على حق مش اي كلام….. عملتي القهوة……..” سالها وعيناه تجري على ملامحها
الجامعة مابين الجمال والشموخ……وأخيراً
لمحةٍ شعبية أصيلة من زمن ولى….
اجابت قمر بوجوم……
“معملتش حاجة قوم اعملها لنفسك……”
قطب مابين حاجباه متعجباً…..
“اي الوش الخشب ده……ماكنا حلوين سوا…..”
ببسمة صفراء قالت بقنوط……
“بقينا وحشين روح اعملها بنفسك مش بتقول ان
قهوتي وحشة ومتشربش…….”
أكد حمزة بفظاظة…..
“حصل وبعصر على نفسي لمونه عشان اشربها….”
فغرت قمر شفتيها مدعية التأثر….
“ياحرام….. وليه تعمل كده في نفسك….قوم اعملها
لنفسك أحسن…….”
تجهم حمزة منهي الحديث بحنق…..
“مش عايز منك حاجة هقوم اعملها لنفسي….”
ثم وجه حديثه الى شهد الصامته والتي تتابع
التلفاز باهتمام……..
“مالك ياشهد ساكته ليه……”
لم ترد عليه فناداها بطبقة صوتٍ
أعلى…..
“شهد……..شهد……”
افاقت شهد من شرودها وهي تنظر الى اخيها
التي تفاجأت بوجود بينهم……
“حمزة………انت جيت امتى……..”
لاحت الدهشة على وجهه سائلاً بقلق….
“بتهزري اللي واكل عقلك…مالك وراجعه بدري من المطعم ليه في حاجة حصلت……”
إجابة شهد بنبرة باهته……
“ولا حاجة تعبت شوية فرواحت…….هقوم اسخن
الأكل احنا مستنينك من بدري…….”
امتنع حمزة وهو يتحسس جبهته بتعب
حقيقي…
“مش هعرف اكل وانا مصدع كده….ينفع تعمليلي قهوة………..”
“حاضر ياحبيبي هعملك…..”قالتها شهد بحنو وهي
تنهض عن الاريكة……
لكن قمر قفزت قبلها وسارت خطوتين امامها قائلة
بسرعة…جعلت حمزة يجفل وهو ينظر اليها…….
“خليكي ياشهد…….انا هعملها….انا كده كدا داخله أعمل شاي……حد عايز……..”
ابتسمت بتفهم وهي ترفع عنها الحرج….
“تمام…… اعمليلي معاكي……”
سالت كيان كذلك….. “وانتي ياكيان……”
زمت كيان شفتيها ببرود….. “مبحبوش شكراً…..”
ابتعدت قمر بوجهاً محمر خجلا وغضبا من
اسلوب التملق أمامه…..عندما ابتعدت عقب
حمزة متعجباً…….
“مجنونة البت دي…….مش فاهمها…..”
قالت كيان بصيحة
ساخرة….
“وانت من امتى بتفهم…….”
صفعها حمزة على مؤخرة عنقها….فتحسست الصفعة ضاحكة وهي تتأوه بحنق…..
فبرمت شهد شفتيها سراً
هامسة…..
“كلنا فاهمين إلا انت……..”
بعد لحظات وضعت قمر المشروبات الدافئة امامهم
على الطاولة المستديرة……ثم عادت وجلست على الاريكة في مكانها بالقرب من الوقح….
والذي مسك فنجان القهوة وشرب منه متلذذاً بطعمه دون ان يصرح بذلك……
ترك الفنجان ثم مالى على قمر هامساً
بمشاكسة…
“عقبال ما نشرب شربات فرحك ياشابة…….”
امتقع وجهها قائلة بعنفوان…..
“انت الوحيد اللي مش هعزمه على فرحي…”
ناغشها حمزة قائلاً بتسلية…..
“ليه دا احنا هنشرفوكي حتى…..وهنرقصه بالعصيان
والمطاوي………”
جحظت عينيها بدهشة…..
“مطاوي؟!……لا شكراً مستغنيين عن الواجب ده…”
كان يشعر بلذة غريبة وهو يشاكسها…
“قطعتي بعيشك…..حد يرفض رقصة المطاوي…
دا مش اي حد يعرف يمسكها…..تعرفي
تمسكيها……”
امتقع وجه قمر قائلة باستهجان….
“كفاية انت بتعرف….هيبقا انا وانت……..”
ابتسم بخبثٍ قائلاً بمراوغة……
“اه صح بكره أعلمك إزاي تمسكيها وترقصي بيها…”
اتسعت عينا قمر…..
“ماشاء الله…..هتعملني كمان……..”
اشار على نفسه بحبٍ أعمى للذات….
“ومالووو……العبد لله استاذ في المعلمة……”
همست بالقرب من اذنه بقلق….
“هو انت فعلاً معاك مطوة…….”
نظر لها بجدية مؤكداً……
“آآه بس شايلها في اوضتي…….ليه عايزة تعوري
حد ولا هترقصي بيها……..”
ابتسمت شهد التي تتابع الحديث….فسمعت
قمر تهتف بهلع…….
“انت بتهزر ياحمزة…..هو في حد محترم يشيل
مطوة معاه……”
اكد حمزة ببرود مستفز…… “آآه انا…….”
مطت شفتيها باستياء….. “مفيش فايدة فيك…..”
نظر حمزة اليهم جميعاً موجه الحديث لهم…
“بمناسبة الافراح وليالي الملاح……انا عندي فرح واحد صاحبي بعد بكرة وبفكر اخدكم معايا…….”
امتنعت كيان سريعاً…..
“انا مش عايزة اروح اعفوني من الخروجة دي روحوا انتوا……”
ضيق حمزة حاجباه مستنكراً……
“غريبة ياكيموو دا انا قولت انت أول واحد شابط معايا………”
اخرجت كيان نفساً ثقيلا حاد وهي تقول
برفضٍ……
“مليش نفس لا النهاردة ولا بكرة ولا بعده……”
سالها حمزة باهتمام….. “ليه يعني….. مالك……”
هزت كيان راسها قائلة بوجوم….
“مفيش عادي مش عايزة اخرج مقفولة من الخروجات……..”
لم يضغط عليها حمزة أكثر فوجه حديثه
لقمر وشهد…….
“طب وانتوا معايا ولا أروح بطولي أحسن……”
قالت قمر بحرج وبنبرة متوهجة….
“لو شهد راحه انا ممكن أروح انا نفسي اخرج أوي …..اي رأيك ياشهد…”
نظرت لشهد التي بدورها هزت راسها
ممتنعه بهدوء…….
“مش عايزة……. مليش نفس للخروجات……”
تدخل حمزة مصراً عليها ان تاتي……
“لا تعالي معايا ياشهد….طالما قمر عايزه تروح…..”
بنظرة حزينة قالت بقنوط…..
“مش عايزه ياحمزة…..مش عايزة أروح في حته.. ”
ترجاها حمزة بعينين حانيتين……..
“عشان خاطري فكي عن نفسك شوية… واهوه كلنا هنبقا سوا……”
ربتت قمر على صدرها قائلة بأنين
الرجاء….
“عشان خاطري ياشهد…….خلينا نروح سوا….. ”
نظرت شهد لهما قليلاً ثم كورة شفتيها
بسأم……..
“خلاص هاجي معاكم….. بعد بكرة صح…..”
هز حمزة راسه بنعم…..فنظرت شهد لاختها
متسائلة…
“تمام…….. هتيجي ياكيان…….”
“لا مليش نفس اخرجوا انتوا وانبسطوا….”قالتها
كيان بنبرة متحملة ثم نهضت من مكانها مضيفة….
“عن اذنكوا بقا….. لحسان فصلت وعايزة انام….”
قالت شهد بتعجب……. “طب والعشا……..”
ضحكت كيان ساخرة وهي تنظر لسلة المهملات الممتلأه باكياس الحلوى المتنوعة……
“عشا إيه بعد اللي كلته ده….لا كده تمام اتعشت
اوي…… ” ثم اتجهت الى غرفتها قائلة بهدوء…
“تصبحوا على خير…….”
“وانتي من أهله………” قالها حمزة وهو يلكز قمر في كتفها هامساً…..
“في الفرح بقا هنرقصوا بالمطاوي انا وانتي…….”
انكمشت ملامح قمر بقرف قائلة…
“احترم نفسك ياحمزة……..”
ضحك حمزة بقوة والتسلية تبرق في عسليتاه
الجميلة بالخداع………
فتدخلت شهد تفسد عليه متعة التسلية بها
قليلاً………
“اللي بيكلمك عن المطاوي ده عمره ما شالها
عشان يرقص بيها….. بس لازم يروش عليكي…..”
في غمرة لانتشاء قال حمزة بعتاب….
“ليه كدا ياشهد كنتي سبيني اعيش الدور عليها شوية………”
عبست قمر بحنق شديد منه….. “يا سلام……”
لم تزول ابتسامته وهو يخبرها…..
“بصراحة الرقص بنبوت كده ليه هيبه تليق بالعبد لله… لكن المطاوي مش لوني…….”
عقدت حاجباها متذكرة فهمست له…..
“دا نفس النبوت اللي كنت بتضربهم بيه لم دفعت عني……”
اوما براسه وهو يمط شفتيه …..
“اه هو بس ياريتوا طمر فيكي…..اهوه الواحد بيعمل الخير وبيرمي للبحر…… ”
اغتصبت قمر الإبتسامة
قائلة بامتعاضٍ…..
“أصيل………والله………”
ابعد حمزة عيناه عنها وهو ينظر الى أخته……
“طب احنا هنأكل بقا ولا هنفضل نحرق…انا جعان…”
نهضت شهد قائلة بهدوء……
“هقوم….اسخن الأكل……..”
لحقت بها قمر بحياءٍ….
“خديني معاكي ياشهد………”
…………………………………………………………….
بعد يومين…..
تافف حمزة بحنق وهو يجلس على الاريكة منتظرهم
فيما يقارب الساعتين ومزالا لم ينتهيا……
“ما يلا ياشهد…….وانتي ياست قمر انجزي شوية….”
خرجت كيان من المطبخ بين يدها كوب من الشوكلاته الساخنة ترتدي منامة طفولية مطبع عليها رسمة طائرٍ من أحد الرسوم المتحركة يُدعى (تويتي..)…..سالته كيان قبل ان تذهب الى غرفتها …..
“انتوا ماشين دلوقتي…….”
مط حمزة شفتيه وهو ينهض من مكانه بطاقم كلاسيكي انيق عبارة عن بنطال رمادي وقميص أبيض ناصع فوقة سترة رمادية اللون دون تزرير……كان الطاقم جميل جداً عليه يبرز
جسده الصلب الرياضي بعض الشيء……تتناثر
الخصلات القصيرة على جبينه من شدة نعومة شعره..ذقنة مشذبة رائعة عليه………كان جذاب
بمعنى الكلمة…..
“المفروض نمشي من نص ساعة…..الهوانم لسه بيلبسوا…”
اتسعت عينا كيان وارتشفت القليل من مشروبها
قائلة بلؤم……
“كل ده……انا لو منك اخد بعضي وروح لوحدي……”
“انا بقول كده برضو……..”قالها حمزة وقد نفذ
صبره وهو يعلي صوته بلهجة صرامة لهما……
“سامعين قدامكم خمس دقايق لو محدش خرج همشي..”
هزت كيان راسها وبنظرة ثعبانية قالت……
“خمس دقايق كتير كفاية دقيقتين..دول من
بدري جوا…”
غمز حمزة لها صائحاً لهن
بتهديد…..
“سامعين دقيقتين وهمشي…….”
شنت كيان الحرب عليهن اكثر فقالت بلؤم…
“دقيقتين كتير برضو……كفاية عشر ثواني……..”
صاحت قمر متعثرة الأحرف من شدة
الحنق…. “كياااان اخرسي…….”
اطرق حمزة براسه ضاحكاً……فنظرت إليه كيان بعينين جاحظتين……..متمتمة بغضبٍ……
“أخرس !!……….انا تقولي اخرسي…..”
همس حمزة بخبثٍ…. “خدت عليكي أوي…..”
دبت كيان الأرض بقدميها وهي تتوعد لها في وقتاً
لاحق…..
“ماشي ياقمر…..انا بس مش فايقه….لو كنت فايقه كنت وريتك من فينا اللي هيخرس على ايد التاني……”
زمت شفتيها وقالت لاخيها بضجر…….
“انا داخله اتخمد……..خدوا المفتاح معاكم…….”دلفت
لغرفتها واغلقت الباب خلفها بقوة……
فتح باب الغرفة الأخرى وخرجت شهد امام عينا
حمزة الذي تاملها عن كثب بعينين حانيتن تشع
حب اخوي صادق……..
كانت متألقه في ثوبٍ من اللون الوردي الشاحب حريري مجسم على خصرها الناعم النحيف ينزل باتساع بسيط حتى آخر كاحلها….ترفع شعرها في
لفة انيقة للخلف وتزينة بدبوس شعر لؤلؤي
وردي اللون على شكل طاووس رقيق….تتناثر خصلتين ناعمتين على جبينها بدلال….وتضع القليل من الزينة بشكلاً رائع ومبهر….جعلها اشبه بأميرة ذات كبرياء عظيم ، أميرة متوجه برقتها وجمالها البري تتربع على عرش قلوب كل من لمح طيفها
الناعم….
“اي رايك ياميزو……..”قالتها شهد بنبرتها الموسيقية الرقيقة وهي تدور مرتين بمنتهى الأناقة……..
اخبرها حمزة بابتسامة مشاعبة…..
“جامد……ربنا بس يسترها ومتغطيش على العروسة…..”
ضحكت شهد وهي تقترب منه وتهندم ياقة
السترة بحنان قائلة……
“يا سلام عليك……بس اي الحلاوة دي…..”
رفع حمزة انفه بزهوٍ ….
“اخرسي….. انا طول عمري حلوو…….”
ضحكت شهد وهي تبتعد عنه…..
“طبعاً طبعاً حد يقدر يقول غير كده…….”
خرجت قمر من الغرفة كذلك وهي تقول
بابتسامة ناصعة الجمال……
“انا كمان خلصت……”
نظر حمزة اليها نظرة شاملة مدققة بكل تفصيلها….
فكانت قمر ترتدي ثوبٍ بقطعتين القطعة الاولى عبارة عن قميص أبيض فوقه ثوبٍ أحمر حريري طويلاً بحمالات رفيعة…. تترك شعرها المموج حراً طليق على ظهرها…
وتضع بعضٍ من الزينة المتقنة على وجهها الفاتن
فتزداد جمالاً وتألقٍ………
كانت جميلة مختلفة…..شامخة الجمال بلمحةٍ شعبية
اصيلة….عينين بنيتين كحيلتين بديعتين دافيئتين
شهيتين كقهوة تقدم في أصعب الأوقات توتراً وأرق
فيزول كل شيءٍ داخلك وقتها إلا مذاقها……
وها هو ينظر لبنيتاها فينسى الحروب المستمرة مع نفسه والحياة……….
عقب حمزة مستهجناً بعد لحظة تأمل
طويلة……
“أحمر تاني؟!……..انتي قصداها بقا……”
ضحكت شهد وضيقت عينيها بعبثٍ لذيذ
قائلة…..
“قولتلها كده واحنا جوا مصدقتش…انك زملكاوي..”
زم حمزة شفتيه وهو ينظر اليها
بعدائية….
“لي هي اهلاوية…….”
امتقع وجه قمر باستياء قائلة…..
“لا…. مليش في الكورة أصلا….ولا بحب اللي بيحبوا الكورة…..”
بلهجة تضاهيها امتعاضا قال……
“ومالوو…..انا بقا مابحبش البنات اللي مش بتفهم
في الكورة……….”
زمت قمر شفتيها قائلة ببرود….
“نبقا متفقين……تخليك في حالك بقا وانا في حالي
ومالكش دعوة باللي لبساه……”
استهزأ حمزة وهو يلوي فمه……
“انا مالي…..خليكي في برطمان الصلصة اللي لسه
طلعه منه…….”
احبطها بتعليقه الاذع لذا رفعت انفها
بتعالِ….
“ولا فرق معايا انا أصلاً قمر……..”
قلدها حمزة بصوتٍ بشع….. “انا أصلاً قمر…….”
احتقن وجه قمر بالغضب والحرج وهي تشير
على شهد بتزمر…….
“شايفه ياشهد أخوكي……”
تاففت شهد قائلة بجزع….
“ما خلاص بقا ياحمزة….. يلا عشان اتأخرنا……”
نظر حمزة لشفتي قمر المطلية بالاحمر
القاني…وقال بعدم استحسان…..
“مش قبل ما تمسح اللي في وشها…..”
انعقد حاجبي قمر…..
“اي هو اللي في وشي ان شاءالله…..”
رمقها ببرود ليقول بحزم……
“الأحمر….خففي الأحمر على شفيفك يامؤدبة……”
زفرة قمر متخصرة……
“أوف بقا…. على فكرة الروج مش باين اوي……”
احتد نظراته عليها….
“طب ماتحلفي انه مش باين……”
استنجدت بشهد قائلة…..
“ياشهد قوليلو حاجة ياشهد……”
زفرة شهد هي أيضاً بملل مبتعدة عنهما….
“أوف عليكم زهقتوني هروح البس الهيلز على متخلصوا منقرة……..”
شعرت قمر انها في ساحة الخطر خصوصاً مع اقتراب
حمزة منها بالمنديل بعينين تقدحان شرراً وبها لمحة ذكورية من التسلية…….تراجعت للخلف بقلب يخفق
بذعر وهي تحذره…….
“حمزة إياك……”
اقترب منها بخطوات بطيئة ثابته وهو يشير
للمنديل بصرامة……
“هتمسحيه ولا امسحه انا وبوظلك وشك خالص…
مانتي مش ماشيه مع سوسن……”
تلبسها التمرد فقالت ببسالة……
“مش مسحاه…….ولي عندك اعمله…..”
“بقاا كده…..طب تعالي……”انقض عليها حمزة لكنها افلتت منه في لحظة خاطفة قبل ان تصل يده
لها… فركضت بعدها باتجاه معاكساً له وهي
تستغيث بشهد قائلة وهي تحاول الافلات
منه…..
“الحقيني ياشهد…..دا مجنون…….”
ردت شهد بالا مبالاة وكان المشهد
طبيعي أمامها……
“خففي الروچ شوية يا قمر….وريحينا…….”
“هو مالوا أصلا…….آآه…….”صرخت قمر بفزع
عندما قبض حمزة على ذراعها وادارها إليه..
“مين دا اللي مالوا…..انت هتلبخي…..”
تاوهت هامسة برجاء….. “حمزة……دراعي… ”
مد لها المنديل قبل ان يترك
ذراعها….
“المنديل اهوه امسحي خلينا نمشي……”
اخذته منه على مضض….. “انت رخم…….”
عندما بدأت تخفف حمرة شفتيها همس حمزة
بنبرة غريبة المعاني….. “وانتي قمر…….”
رفعت قمر عينيها عليه وبدأ قلبها يخفق من شدة
تقارب وجوههما وشباك نظراتهما الغير مدركة
المعاني بعد….
قاطعة شهد اللحظة من خلفهما قائلة
بملل…
“هتفضلوا واقفين كتير…….يلا ياجماعة هنروح
امتى ونرجع إمتى………..”
رفع حمزة عيناه على اخته ثم تنحنح مبتعداً
واتجه الى الباب قائلاً……
“هستناكوا تحت في العربية….”
……………………………………………………………..
وصلا حفل الزفاف في أحد القاعات…..كان حفلاً رائع
ومنسقاً….. وقد بدا العروسان مناسباً لبعضهما وبينهما انسجام واضح….. والحب يشع في أعينهما….
هنأ حمزة العريس والذي كان من الاصدقاء المقربين ثم نظر للعروس والقى بالشفاه تحية مباركة لها
دون ملامسة…….
فهزت العروس راسها مرحبة به….. اتجه الى الفتيات
ووقف جوارهن قائلاً بخشونة……
“وقفين كدا تعالوا نقعد على اي طربيزة……”
القت قمر نظرة اخيرة على العروس قائلاً
باعجاب
“العروسة حلوة اوي ما شاءالله……”
جلس حمزة على المقعد امام طاولة مستديرة
مزينة….
“عقبالك ياقمراية…… هنعملك فرح احسن من كده..”
مطت قمر زاوية شفتيها….
“عقبالك انت الأول……”
“اخص عليكي دي دعوة تدعيها عليا…… انا كائن
بحري أحب البحر وسمك البحر…..”
قالها وعيناه الوقحة تتمعن في كل شيءٍ مؤنث يمر من جواره…..فيفتح شهيته على السفالة…..والكلام
الخارجِ…….وربما المخيلة تحتوي على الاصعب….
اسبلت اهدابها محاولة التغاضي عن الأمر…فالتذهب
عيناه اينما يشاء….الأمر لا يعنيها أصلا…..
غلبها قلبها فرفعت عيناها مجدداً تراقبه……لتجد أمرأه جريئة العينين تنظر اليه وتضحك
بمداعبة صريحة….
فالقى حمزة إبتسامة عابرة عليها من باب الذوق….حتى لا يكسر قلبها المسكين…..ثم
عاد بعيناه لهن…..فأول من واجهت عيناه
قمر فتشدقت ساخرة…….
“كائن بحري أحب البحر وسمك البحر…..”
مد حمزة يده ونكش خصلةٍ من شعرها للأمام
قائلاً بعبث…
“الحلو انك حافظه وفاهمه….استمري يانجيبه…”
رفعت الضحكة بسخافة….. “هاها..ظريف……”
برم شفتيه بقرف ولم ينظر لها…..فنهضت شهد معتذرة منهما وهي تمسك هاتفها…….
“انا هطلع برا أرد على خلود……. الصوت هنا
عالي……”
نهض حمزة خلفها قائلاً…..”استني اجي معاكي……”
امتنعت شهد وهي تفتح الخط وتضع الهاتف
على اذنها……
“خليك ياحمزة مع قمر… مش هتوه يعني…..”
عاد حمزة جالساً مكانه عندما وجدها تبتعد…. فنظر
لقمر بصمتٍ وبادلته النظرة بالمثل حتى شعرا ان هناك لغة أجمل من الحديث والاثر بها لا
يمحى ؟!….
“مش سمعاكي ياخلود…استني بس اخرج برا…..”
هتفت شهد بتلك الكلمات وهي تتخطّى سلم
القاعة الخارجي حيثُ الشارع…….
وعند هبوطها الدرج بتوتر بينما تصب كامل تركيزها
على المكالمة خبطت في كتف صلب يمر من جوارها
صاعداً…فمن من شدة الدهشة والاصطدام ترجت مفاصل ساقيها وكانت على وشك السقوط…….
لولا كف المصطدم الذي تلقف كفها في لحظة
هامساً بصوتٍ رغم حدتهُ حانياً…
“حاسبي……”
هل تحلم ام تتوهم……عاصم الصاوي….امامها الآن
هل هبط من السماء ام خرج من باطن الأرض ؟!…
صدمة ظهورة جمدت اعصابها….. فلفظت اسمه
وهي تستقيم واقفه…..
“عاصم…….”
تكاد تقسم ان حدقتاه اهتزت بعد لفظها
لاسمه….فسالها بخشونة دون مقدمات…
“انتي هنا بتعملي إيه……..”
ردت بهدوء وهي ترجع خصلة خلف
اذنها……
“انا……. العريس يكون صاحب حمزة… وانت….”
رد بهدوء وعيناه اسيرة الكهرمان…….
“العروسة ابوها من التجار اللي بنتعامل معاهم.. وعزمني على الفرح……..”
اتى حكيم من خلف عاصم
قائلاً…..
“واقف كده لي يا عاصم…….”
ثم انتبه حكيم الى شهد فمد يده مرحباً بابتسامة
عريضة تخرج للأناث فقط…..
“اهلاً اهلاً بالانسة شهد…. مش شهد برضو اللي مأجره المطعم من عاصم……”
اومات شهد براسها بإبتسامة ترحيب….فنظر
عاصم ليد حكيم الممدوده وقال بخشونة….
“شهد مش بتسلم يا حكيم….”
رفعت حاجبها بتمردٍ فمن هو حتى يقرر نيابة عنها…
تلبسها العناد والتمرد على قوانين ال الصاوي…
فوضعت يدها في يد حكيم بعناد قائلة
بإبتسامة مدعية الود…..
“لا بسلام……. عادي…….أهلا بحضرتك.. ”
جز عاصم على اسنانه وهو يلقي عليها نظرة حانقه قبل ان يغادر سريعاً لداخل القاعة تاركها خلفه……
غمغمت وهي تعاود الهبوط اخر
درجتين….
“كانت ناقصة اشوفك النهاردة كمان……”
وضعت يدها على صدرها شاعرة بحرقة قلبها
النابض بين ضلوعها…..ماذا تفعل وكان الصدف
والاقدار تتزامن ضددها حتى توقع بها في هوة
الظلام……ظلام بإسم الحب…….
وهي تخاف الظلام…..كما تخاف الحب…
اجرت مجدداً بخلود اتصالاً حتى تعرف ما سبب اتصالها المفاجئ فهي غادرت المطعم اليوم قبل ان يغلق لضيق الوقت وحتى تلحق حضور هذا
الحفل…
” ايوا ياخلود……. ”
بداخل هنأ عاصم العروسان مقدما بعدها للعروس هدية فخمة من الالماس والحجر الكريم…….
تنحى حكيم به جانباً يساله
بحيرة….
“مالك ياعاصم قلب وشك ليه…..”
رد بفتور…… “مفيش…….”
ضيق حكيم حاجباه مفكراً……
“تكونش شهد….. هي اللي…….”
قاطعها عاصم بصلابة……
“حكيم…. اقفل على الحوار ده دلوقتي…. خلينا نقضي واجبنا ونمشي…….”
صمت حكيم قليلاً ثم ربت على كتفه
مغير مجرى الحديث…….
“المرة الجايه عندك بقا…. احنا استنينا كتير……”
لم يرد عاصم بل ظل صامتاً يتابع الحفل
بعينين مظلمة التعابير…….فتابع حكيم
بهمساً سرِ…….
“بقولك المدام لسه بتزن عليا عايزة تعمل قعدة تعارف ليك عشان تشوف صاحبتها….. ويمكن
يحصل بينكم قبول…….”
اوما عاصم براسه…. “ربنا يسهل……..”
ظهرت شهد امامه وجرت عيناه على تفصيلها
متأملاً حسنها…….سيدة الحُسن كما يراها قلبه
قبل عيناه……….
كانت جميلة ناعمة الخطى والحضور كعطر مميز خفيف على الأنف أثره في الذاكره أطول من بقاءه على اليد !!……
وهي وجمالها البري النابع من روحها الرقيقة الهادئة
تظل في الأثر وفي القلب….شهد….فقط شهد……
هل تدري سيدة الحسن ان لعينيها سحرٍ لا يبطل
مفعولة….. النظرة الى عيناكِ تخلق فوضى غير قابلة
للاصلاح… فوضى رغم لذتها متعبة على النفس…..
نظر لعينيها الجميلة الكحيلتين الغاضبتين في
النظر اليه……..
سيدة الحسن غاضبة ؟!….
وماذا عني أنا ، فانا المتعب في هواكِ سيدتي… والغاضب في ابتعادك ، والقاسي في عتابك….
والملتاع عند لقاءك…..
مرت من جواره بهدوء مشع بترفع وكانها لا تراه…
مرت من جواره فأثقلت صدره بمشاعر قاتمة….
جلست شهد على الطاولة ونظرت لقمر التي
تجلس بمفردها……
“فين حمزة ياقمر……”
ردت قمر وهي تقرب منها طبق به قطعة من
الكعك…….
“حد من صحابه نداه……حلو الجاتوه ده كلي
منه…..”
امتنعت شهد وهي تشعر ان معدتها تتلوى من شدة
الاضطراب والخجل بعد رؤيته وتواجده في نفس المكان….
“مش عايزه………”
وضعت قمر قطعة صغيرة في فمها باستمتاع
قائلة……
“يابنتي كُلي….دا حمزة راح جبلنا من البوفيه مخصوص……”
رفضت شهد وهي تزيح الطبق عنها
قليلاً…….
“مليش نفس…….انا صدعت أصلا…….”
قالت قمر بهدوء…….
“شويه وهنمشي حمزة قال ان احنا مش
هنتأخر……”
فغرت شهد شفتيها بدهشة متسعة
الأعين……
“اي اللي حمزة بيعملوا ده…….”
رفعت قمر عينيها عليه لتجد حمزة يرقص بالعصا
امام امرأة ترتدي بذلة رقص خضراء اللون تكشف اكثر مما تستر مما لا يعطي شيءٍ للمخيلة….
احتقن وجه قمر وتسارعت انفاسها فبدأت النبضات
داخلها تزداد بوجع…..وهي تراه يرقص بعصا غليظة
امام المرأه التي تتمايل امامه بميوعة وعينيها تغوية
دون كلمات…..
فيضحك تارة ويغمز لها بعيناه تارة أخرى وسط صياح قوي من الشباب المحيطه بهما بتشجيع…..
واثناء رقصه معها كانت عيناه الوقحة تسير
باريحية على مفاتنها…..مما جعل قمر تشمئز منه وتشيح بعينيها نافرة……..
وعندما اتت عينا حمزة عليهن بالخطأ اشارت له
شهد بنظرة جادة بان يتوقف عن العبث…ثم
اشاحت بعينيها عنه فاصطدمت حدقتاها بموقع عاصم الذي كان يقف مع سيدة أنيقة الملابس
جميلة الشكل……يتبادلا الضحك والاحاديث
وبينهما الفه لا تنكر…..
فشعرت بصاعقة كهربائيّه تضربها في جلستها…
فتسمرت عيناها عليهما دون أرادة منها….وقلبها
وعقلها انتابهما شلل مؤقت…….إلا شعوراً واحد
الغيرة….الغيرة تموج بالحلق كعلقم المُر تخنقها….
شعر عاصم انه عرضة للمراقبة فرفع عيناه عليها..
فوجدها تنظر اليه بهدوء مبهماً…..اجفله لوهلة
وكانه يخشى ان تفسر الأمر بشكلاً خاطئ
وان يكن……فما دخلها……هي من انتزعت هذا الحق
بينهما……….فابعد عيناه عنها متابعاً حديثه مع المرأه……..
لم تستطع شهد التحمل أكثر من ذلك لذا انسحبت ناهضة من مكانها ثم اتجهت الى أحد الزوايا المنعزلة عن الضجيج…….وكانت شرفة واسعة أنيقه تحاط ببعض الأشجار المرتفعة من الأسفل……
قطفت ورق الأشجار وبدأت تقطعهُ بيديها بعصبية
مكتومة وعيناها تنظر خارج الشرفة للظلام واعمدة
الانارة البعيدة……وبعضا من سكون الجو والهواء البارد أراح اعصابها التالفه قليلاً…..
فسندت يديها على سور الشرفة ثم اغمضت عينيها
وقد انحنت شفتيها في زاويتان حزينتان…والصمت ساد لا يقطعه سواء صوت انفاسها الهادرة بغضب طفيف……..وقد تركت نفسها فريسة لغضبها والافكار
المتلاحقة……….
سعمت خطوات اقدام خلفها……فادراة وجهها تتطلع
عليه من فوق كتفها….لتجده امامها بحضوره المهيب
والوسامة التي تدغدغ اعصابها…..يرتدي حلة فخمة
انيقة تبرز جسده الصلب الرياضي وقامة طوله المهيبة كان مصفف شعره الغزير الأسود للخلف بجاذبية تليق به والحية السوداء المشذبة قليلاً….وكان يضع عطراً رائعاً غز انفها سريعاً…..
فعادت تنظر للأمام وهي تغمض عيناها باعصاب منهارة بعد رؤيته…….
وقف أمام سور الشرفة وبينهما مسافة متجاهل وجودها وهو يضع سجارة في فمه ويشعلها
بحدة واضحة………
عندما نفث دخانها الرمادي سعلت شهد عندما وصل إليها…. فحركت يدها امام وجهها قائلة بحنق مكتوم……
“ممكن تطفي السجارة………”
رد ببرود والدخان ينبعث من
فمه…..
“لم تخلص……..”
احتدت عينيها متشدقة…….
“والله…….. انت مش شايف انك كده بتخنقني….”
رد بجمود وهو يلتقط عيناها
بشوق….
“احنا في مكان مفتوح يا آنسة…..”
ردت رداً مماثلا له…
“بس الدخان خنقني يا أستاذ……”
لم يرد عاصم بل نظر أمامه بوجوم….والغضب نحوها يتفاقم كلما ابتعدت المسافات بينهما…….
انبعث صوتها فجأه بغضب مكتوم…..واعين
تلمع بدموع……..
“لحقت تخلص قعدتك معاها…….”
انعقد حاجباه سائلاً……. “مين دي…..”
قبضة على السور أكثر بانفعالاً قائلة
بتهدج دون النظر إليه…….
“اللي كنت واقف قدامها وعمال تضحك وتهزر….”
حك اصبعه في أنفه ثم قال بخشونة
وهو ينظر لجانب وجهها……
“آه……. طب وانتي شاغله بالك ليه…..”
رمقته بدهشة فبدلها النظرة بتجهم دون ان تلين ملامحه…..
فاشاحت شهد بوجهها المحتقن تبتلع غصة الاحراج وكسرة الخاطر……..
فساد الصمت بينهما وسط جوٍ معكر متبلداً….
فقالت شهد بصعوبة……
“انا كنت عايزة اطلب منك طلب أخير…….”
نظر لها بملامح واجمة غير متجاوبة…. قائلاً…
“خير……”
شعرت بثقلٍ في صدرها وهي تحاول ان تجلي صوتها بين تراكمات مشاعرها……
“انا عايزة موهلة بس شهرين….. عشان الاقي مكان
جديد انقل فيه العدة……”
تافف عاصم بجزع قائلاً بصلابة….
“وانا قولتلك اني محتاج المطعم آخر الشهر….عشان
ابيعوا….. وزبونه مستني…….”
استندت بجانبها على السور قائلة بصبرٍ….
“تمام مفيش اي مشكلة…. ممكن تديني رقمه وانا اتفق معاه……”
هز عاصم راسه جافلاً….. “رقم مين……”
سحبت شهد نفساً عميقاً ثم قالت بهدوء…..
“رقم الراجل اللي هيشتري منك المطعم…. انا هاتفق
معاه اني محتاجة المطعم شهرين بس وايجارهم
هدفعه زي ما كنت بعمل معاك…….”
زم عاصم شفتيه حانقاً…… “مش هينفع…..”
سالته بنبرة محبطة…”وليه بقا مش هينفع…….”
نظر عاصم اليها بمشاعر متبلدة وهو يقول
بفظاظة….
“عشان انا مش هبيع المطعم انا هقفله خالص… ارتاحتي……..”
وكانه صفعها على حين غرة فرفعت وجهها
بصدمة…. هاتفه….. “دا نظام عِند بقا……..”
أكد عاصم بمنتهى البرود المستفز
للاعصاب…..
“بظبط انا حُر……. كل واحد حُر في ماله…..”
اخذت نفسها بعصبية وسارت خطوتين في
الشرفة بتشنج وهي تستدير له هادرة……
“يعني تقطع عيشي وعيش الناس اللي معايا… وتقولي حُر في مالي….. انت فاكر بكده هتقدر
تذلني…….”
كان في أوج هدوءه وهو يجيبها…..
“حاشى لله…… انا وانتي مفيش بينا حاجة وحشة
عشان توصل للذل والمهانة……”
احتدّ صوتها بحمائية مفرطة…….
“ولا حتى حاجة حلوة…….ماشي هسبلك مالك تشبع
بيه…… ويارب ضميرك يرتاح بعدها……..”
لم يرد عاصم بل ظل واقفا مكانه صامتاً شامخاً
باستفزاز……..فغمغمت وهي تنوي المغادرة…….
“كلكم زي بعض…. مش فارقه كتير…….”
تدفقت الدماء الساخنة في عروقة…فسحبها
في لحظةٍ خاطفة من ذراعها يقربها اليه
حتى تواجه عيناه المتقدة بنيران الغيرة….
“مين دا اللي زيي…… دي تاني مرة تقرريها….”
حاولت الافلات منه بملامح تنزف
الماً….
“سيب دراعي ياعاصم…. سيب دراعي……”
احتد صوته بخشونة وهو يتكأ على ذراعها
بغضب هائل……
“مين دا اللي بتشبهيني بيه…. دا اللي رفضتيني عشانه….. انطقي……”
اتسعت عينيها بدهشة وقد أحمر وجهها من شدة الغضب والكره وازداد تهدج انفاسها…….وهي تهتف
بكبرياء……..
“انت اتجننت انت باي حق تكلمني كده… فوووق..
مش من حقك أصلا……..”
رد ساخراً بمرارة تموج في حلق كلاهما…..
“إيه هو اللي مش من حقي اعرفه…… رفضك ليا…
ولا السبب اللي رفضتيني عشانه…..”
جزت على اسنانها وهي تحاول التملص من بين
يداه القوية بعد هجومه الغير آدمي عليها……
“الإتنين…… سيب دراعي……..”
لم يرد بل اشتدت نظراته قتامة…
“عاصم سيب دراعي انت بتوجعني……”
ظل الصمت بينهما قائم يأبى ان يحررها حتى يعرف
سبب رفضها…..الرفض الذي لم يتقبله كبرياؤه…ولم
يزول صدعه حتى مع مرور الأيام……
صاح صوتٍ رجولي اجفلهما معاً…….
“عاااااصم……..”
نظرت شهد الى حكيم الواقف أمامها عن بعد خطوات……فسحبت ذراعها سريعاً من بين يدي عاصم التي ارتخت قليلاً بعد رؤية حكيم….ولم
تلبث إلا وغادرة مطرقة الرأس بغضب…..
تقدم منه حكيم ووقف أمامه…..
“اي اللي بتهببوا ده…… شهد……..”
أومأ عاصم براسه بغضب وهو يشعل سجاره
أخرى ويضعها في فمه ينفث بها بشراهة تعبر عن
إستنزاف مشاعره في قصص الهوى الفاشلة…
“ايوا شهد…. اللي خلتني اجي لحد بابها ورفضتني قدام اهلها من غير سبب… وفي الآخر زعلانه أوي
اني عايز امشيها من المطعم…….”
تعجب حكيم بشدة متسائلاً…..
“رفضتك…. والسبب……”
لوى عاصم شفتيه هاكماً…….
“السبب عندها هي…. دا لو كان حتى في سبب
يشفع لها عندي…….”
ربت حكيم على كتف صديقه مهون
عليه……
“روق يا عاصم…. خيرها في غيرها زي ما بيقولو..
هي اللي خسرانه……..”
……………………………………………………………
جلس حمزة جوار قمر متسائلا وعيناه تدور على الطاولة الجالسين أمامها…..
“فين شهد……..”
كتفت قمر ذراعيها امام الطاولة وهي تجيب
ببرود…. “معرفش والله…….”
انعقد حاجبين حمزة وهو ينظر اليها
عن كثب بحيرة…….
“مالك قلبه وشك كده ليه في حد ضايقك…….”
هزت راسها بنفي قائلة بفتور…..
“لا بس عايزة أروح ينفع نروح…….”
اكتفى بايماءة بسيطه وعيناه تدور في الارجاء
بحثٍ عن اخته……..
“هنروح ماشي…. بس فين شهد…….”
ظهرت شهد امامهما من احد الزوايا قائلة بصوتٍ
باهت واهٍ………
“انا اهوه ياحمزة…. كنت بشم شوية هوا بعيد عن
الدوشة….. مش يلا بقا ولا إيه..انا صدعت أوي…”
“ماشي يلا بينا…… كده كدا ماشيين……”
قالها حمزة ناهضاً من مكانه وكذلك فعلت قمر
والتي كانت ساكنة واجمة حزينة العينين
تتوارى خلف صمتها…….
سارا معاً للخارج….وقد انتبه حمزة لحزن شقيقته
فمالى عليها بالفطرة يسالها بقلق……
“مالك ياشهد وشك مخطوف كدا ليه……حد ضايقك…….”
نفت شهد وهي تبتلع غصة مسننة بالألم….
“لا هما شوية صداع لم أروح هاخد حاجة ليهم
وهنام….. والصبح هبقا كويسة……”
عندما وصلا للخارج القاعة أمامها تحديداً على احد الجوانب قال حمزة بهدوء…….
“طيب خليكم واقفين هنا….على ما أجيب العربية
عشان ركنها في الجراج………”
اومات شهد برأسها…… “تمام هنستناك…..”
وعندما أبتعد حمزة تطلعت شهد على قمر بحيرة مستغربة صمتها وعبوسها…….فسالتها……
“مالك ياقمر…….”
رفعت قمر وجهها مبتسمة
بفتور…
“مفيش ولا حاجة……..”
بادلتها شهد الإبتسامة من باب المجاملة…
قائلة…..
“اي رايك في الفرح انبسطي……”
مشهد رقصة مع الراقصة يثير حنقها وقرفها منه ويولد داخلها رغبة اجرامية شنيعة في تكسير
عظامه واحده تلو الأخرى……عادت الى أرض
الواقع تجيب على شهد بفتورٍ………
“آه انبسط أوي……….”
لم تزول إبتسامة شهد وهي تبعد عينيها عنها… حتى
انتبهت لعاصم يخرج من القاعة برفقة صديقه
حكيم يتحدثا سوياً اثناء سيرهما للسيارة التي
كانت قريبة من موقعها……
ظلت تتابعه بعينين حانقتين منه ومن الهمجية الغير اداميه والتي يتعامل بها مع كل شخصٍ يرفض تلبية رغبات معاليه !…..
اسبلت اهدابها شاعره بالغضب يتدفق داخلها كحمم
بركانية ثائرة……..
رفع عاصم عيناه عليها فوجدها تقف هي وشابة
جميلة بشعرٍ مموج وهذا اقصى ما لفت انتباهه….
بينما عيناه معلقة على سيدة الحُسن وقلبه طار
من موضعه اليها محطما قوانين العقل كما فعل
منذ قليل ولحق بها في الشرفة…….
ولم يجني إلا وجع قلبه وايلامها !…….
نداه حكيم بملل وهو يقف من الناحية الأخرى
نحو السيارة…… “يلا يا عاصم هنفضل وقفين……..”
نظر له عاصم ثم فتح باب السيارة من جهة
مقعد القيادة وقبل ان يستقلها نظر نظرة اخيرة
الى شهد فانتبه لهذا الرجل الملثم بوشاح صوف
يخفي به نصف وجهه و يقترب منها وبين
يده مدية صغيرة (مطوة)…..وعندما اقترب
من موقع شهد فتحها والشر يقدح في عيناه المظلمة……..
فسريعاً تحرك عاصم وعقله في ان واحد واقترب منها وقبل ان يمسها الملثم بأذى كأن يضرب
المدية بركلة قوية من قدمه…..
وقعت المدية أرضا فانحنى يجلبها الملثم…فلكمه
عاصم بقوة وركلة عدت مرات بوحشية…..
تحت انظار شهد المفزوعه عما يحدث حولها والذي لم يستغرق إلا ثوانِ وبدأ شجار عنيف بين رجلين
أحدهم يهمها أمره بشدة وكانت مرعوبة عليه
والقلق يحرق قلبها وهي تشاهد ما يحدث خوفاً
من ان يصاب بمكروه بسببها…….
تراجعت هي وقمر للخلف قليلاً يتابعا ما يحدث بصراخ حتى يتدخل أحد …….
في لحظة خاطفة واثناء الشجار والذي تدخل به حكيم كذلك يضرب مع صديقه……خطف الملثم
المدية عن الارض وشق بطن عاصم في لحظة
غدر فتدفقت الدماء منها…….
فوضع عاصم يده على بطنه متألماً فتجمع الناس وكذلك شهد التي صرخت بفزع وهي تركض
نحوه لتسنده على كتفها قبل ان يقع وبمساعدة حكيم أيضاً الذي شحب وجهه بهلع عند رؤية
دماء صديقه……
رغم مقاومته بإلا يغيب عن الوعي……
“عاصم…….. عاصم…….”
اسكتها عاصم وهو يتحمل على
نفسه…..
“انا كويس…..كويس ياشهد…… لمسك؟……”
كان سؤالا بسيط بكلمةٍ واحده احدث صدعا
وشقا مؤلما في قلبها……..فهزت راسها بنفي
والدموع تغرق وجهها الذي قارب على اللون
الرمادي من شدة الرعب عليه وبشاعة الموقف
الذي تعرضا اليه….
اما جسدها الصغير النحيل كان ينتفض أسفل
ذراعه شعر به بشدة رغم الإعياء البادي عليه
وتخدر جسده من شدة الوجع والنزيف………
واثناء ارتعابهم عليه وتجمع الناس على صوت الصراخ والعراك لم يرى أحد الملثم الذي استغل فرصة التجمع و الزحام ولاذ بالفرار بعيداً
عن الأنظار…..

متنساش ان الرواية موجودة كاملة في قناة التلجرام والواتساب

للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا

بعد ان سمح له الطبيب بدخول لها….. دلف إليها وهو يكبح ضحكته على عكس المتوقع كان يجب ان يكون أكثر تأثراً وحزنا عليها خصوصاً بعد ان تعرضت
لكسر بسيط في كاحلها والذي التوى بالخطأ أثناء سيرها وعدم الانتباه للأرض المبللة اسفلها……..
زمت داليدا شفتيها وعقدت ساعديها امام صدرها وهي ترمقه شزراً…. بينما ساقيها ممدده للأمام وكاحلها الأيسر مجبراً……..
علق سلطان وهو يتخذ مقعداً جوار فراش
المشفى…
“من أعمالكم سلط عليكم……”
جزت داليدا على اسنانها وزادت سرعة تنفسها
تشنجٍ وهي تقول بتبرم…….
“هي دي الف سلامة بتاعتك……..”
لم يرد سلطان بل مد يده يلمس باصبعه هذا الملصق
الطبي أعلى جبهتها فاثناء الوقعه القوية اصيبت
في قدم المقعد جوارها مما سبب لها اغماء وجرح سطحي……..
“بتوجعك……”
زمت داليدا شفتيها حانقة بشدة……
“آه بتوجعني… على اساس انك حاسس اوي بيا وخايف عليا……..دا انت داخل بتضحك…..وكانك فرحان باللي حصلي… ”
لم يعقب سلطان بل ظل ينظر اليها طويلاً…نظرة
شاملة…….. ثاقبة……مربكة……..
لم ينكر انها شخصية تبحث دوماً عن الإهتمام والحب بنهم……ظمأنه هي وتريد منه ان يسقِ
هذا الجزء داخلها ؟!….
عليه ان يذكر ان الساعتين الماضيين كانوا الاصعب والاشد عليه…. عندما خرج من الغرفة على صوت صراخها بأسمه انتفض من على الفراش اليها في
سرعة قصوى وعندما وجدها ملقيه أرضا وراسها
تنزف قليلاً وقع قلبه من موضعه رعباً عليها….
حينها جلس على عقبيه جوارها أرضا محاولاً ان يفيقها….. وعندما بدات تستعيد وعيها… صرخت
من كاحلها متأوهتٍ بشدة……
فقال وقتها بخوف وهو يحاول تهدأت بكاؤها الهستيري والذي اشبه بشخصٍ لدغته حيه
لا يقف عن البكاء والصراخ…….
(فين طيب…. وريني بتوجعك فين……)
صرخت داليدا بقوة وهي تضرب يده حتى
لا يمسها….
(مشط رجلي……. شكلها اتكسرت……اتكسرت…) اصدرت صرخة قوية كـ(العرسة) تماماً مما جعله
يجفل ويضع اصبعه في اذنه يرجها بعد ان تأذت
من صرختها…..
فلم يفكر قليلاً وهو ينحني عليها ويحملها بين ذراعيه القويتين وهي مزالت تبكي وتولول…
وضعها على الفراش ودلف الى الغرفة الأخرى واخرج عباءة لها ووشاح رأس واتجه إليها….ثم اقترب منها
وسحب غطاء رأسها عن شعرها……
فقالت بحدقتين مليئتين بالدموع…..
(بتعمل إيه……)
رد سلطان بجدية شديد وقلبه في حالة وجل مما
اصابها……
(هغيرلك هدومك عشان نروح المستشفى……نشوف رجلك ونعمل اشاعه عليها…..)
كانت هيستريا جداً وهي ترفض باكية
كالاطفال…..
(تغيرلي لا……اغير لنفسي….تغيرلي لا…..)
أومأ براسه بنفسٍ سمحة…….
(طب اتفضلي يام لسانين…..غيري لنفسك….)
نظرت داليدا بعجز لوضعها الحالي وكاحلها المتورم
والوجع الناتج منه وجرح راسها كذلك لذا قالت
بقهرٍ وعجز…….
(انت عديم الإحساس…اغير إزاي وانا رجلي مكسوره
وراسي متعورة……انت مش بنادم…….)
أطبق سلطان على اسنانه بقلة صبر ….يكره دلال الإناث يكره المدللات وقد ابتلى بمن تشربت
وتغذت على الدلال من صغرها !……
(الصبر من عندك يارب……)
نظرت داليدا الى وجهه المكفهر واستغفاره
المستمر……فمسحت دموعها بظهر يدها وهي تقول
بحسرة كأمرأه تخطت الستون……
(مش مستحملني صح……تقيله انا على قلبك ماشي…..نطلع من المستشفى على بيت اهلي…..هما ياخدوا بالهم مني ويخدموني……ولا الحوجه ليك…..)
لم تلين ملامح سلطان بل أمرها بنظرة
متجهمة….
(داليدا ارفعي إيدك…….)
برمت شفتيها هازئة…..
(ليه هتذنبني في العمر ده…….)
التجأ الى الحوقلة والاستغفار عدت مرات وهو
يكرر أمره بفظاظة….
(ارفعي ايدك ياداليدا……..)
فعلت وقتها على مضض وهي تتألم بشدة من
وجع كاحلها وراسها….
فرفع سلطان عبائتها بخفة عن جسدها….. وظهر أمام عيناه المظلمة جسدها النحيل ذو البروز الاثنوية الفجة بالاغواء…… كانت ترتدي ثوبٍ داخلي من
اللون الفستقِ الفاتح يغطى بطبقة اخرى من
التل….
بلع سلطان ريقه وهو يغض بصره عنها بصعوبة….بينما جسده اشتعل باحتياجات رجلاً
أعزب لم يمسس يوماً أمرأه !!…..
أحمر وجه داليدا حتى أصبح اشبه بثمرة طماطم ناضجة وهي تتنحنح بارتباك حتى يجلب شيء
تستر به جسدها…..
وفي سرعة بديهية وسط مشاعر ملحه وافكار شيطانية غير شريفة أبداً البسها عباءة الخروج
ووضع الوشاح على راسها بعشوائية…..ثم حملها
للأسفل……
وقتها انتبها لهذا الوضع والديه والذان لحقوا به على المشفى سريعاً……..
“حسى ان رجلي منمله……..”
فاق من شروده على صوتها المتألم….فاعطاها كامل
تركيزة قائلاً بحنو……
“يمكن من المسكن………”
هزت داليدا راسها بتساؤل وهي تدور بحدقتاه في
الغرفة باختناق….
“سلطان احنا هنخرج امتى من هنا…..انا بكره قاعده المستشفيات…. ”
تمتم سلطان وهو يسحب نفساً عميقاً
حاداً اوشك على ان يقتلع أزرار قميصه…..
“ربنا يبعدنا عنها……. شويه وخرجين……”
دلف والديه للغرفة وأول من صاح بلهفة كانت
حنان والدته التي اقتربت من فراش داليدا
تمسد على كتفها…
“داليدا….الف سلامة عليكي ياحبيبتي…..خضتيني
عليكي….. ”
ابتسمت داليدا بمحبة
مجيبة….
“الله يسلمك يامرات عمي…سلمتك من الخضه.. ”
ربتت على كتفها حنان ودمعت عيناها….فقال عمها
عبد القادر بحنية…..
“الف سلامة عليكي يابنتي….مش تاخدي بالك…”
ردت داليدا بهدوء……
“الله يسلمك ياعمي…… اهو اللي حصل…
..الحمدلله…. ”
وجه عبد القادر الحديث لابنه…..
“اي ياسلطان……الدكتور قالك هتخرج إمتى……”
هز سلطان راسه مجيباً على والده
بأحترام….
“اه شويه وهنمشي……هستناه بس يبص عليها
ويكتبلها العلاج اللي هتاخده…….”
…………………………………………………………….
عندما وصلا للبيت فجراً رفض سلطان مبيات امه الليلة معها بل أصر ان يساعدها هو بنفسه متكفلا
بخدمتها……
وحينما كثر الجدال بينهما وازداد تشدد ابنها على رأيه….وافقت على مضض واعده داليدا بأنها
ستحضر عند شروق الشمس لتكن بجوارها…..
ولم تكتفي امه بذلك بل بعد ان ساعدت داليدا على تبديل ملابسها…… احضرت أيضاً لهم وجبة عشاء
بها حساء دافئ خاص بـداليدا ……..
كانت بمفردها جالسة ممدده الساقين على فراش غرفة نومهما التي لم يتشاركا النوم بها سوياً منذ زواجهما……..
كانت تتأمل الحوائط السقف الاثاث البساط
بعينين شاردتين في مكانا آخر………
حتى صدح هاتفها معلناً عن اتصالا……..عندما مسكت
الهاتف وقرأت الإسم شملة الإبتسامة وجهها
المجهد…..ففتحت الخط سريعاً تهتف بلوعة
وعينيها تترقرق بالدموع……..
“ماما…..أخيراً سمعت صوتك……”
اتى صوت سُهير خافضاً حريصاً وهي تقول
بشجن…
(عامله اي ياداليدا….مرات عمك قالتلي انك وقعتي
على رجلك……طمنيني ياضنايا انتي كويسه…..)
مسحت داليدا دموعها وهي تخبرها بصوتٍ
مبحوح……
“لسه رجعه ياماما من المستشفى…كسر بسيط في مشط رجلي وجبسوه……هو انتي لي مجتيش……”
ساد الصمت متوتراً على الناحية الأخرى….
مما جعل داليدا تسبل اهدابها بكسرة نفس وهي تقول بيقين تتوارى خلفه حقيقة كالسياط تهبط
على قلبها…..
“بابا مرضاش….منعك….زي ما علطول بيعمل من ساعة ما جوزني لسلطان…..مش كده……”
بلعت سهير غصة مختنقة وهي تفهم ابنتها
برفق رغم بشاعة فعلتها……
(ابوكي مش وحش ياداليدا….بس اللي عملتيه
كسره قدام نفسه وقدام ابن أخوه اللي بقا
جوزك دلوقتي…..)
لم ترد داليدا ابتسمت بارهاق مضنٍ عندما اضافت
امها بتقريع قاسٍ مزدري…….
(عيزانا إزاي نجيلك ونزورك ونرفع عينا في عينيه بعد اللي حصل…….كتر خيره ان ستر عليكي…بعد
ما جابك من شقة واحد………)
اكدت داليدا بنبرة ساخرة مهتزة…..
“عندك حق كتر خيره فعلاً…….سترني……”
شعرت سهير بسوء نحو ابنتها فقالت
بتقهقر…..(يابنتي افهميني…….)
صاحت داليدا بعنفٍ و عينين حمراوين يمتزج
بهم الكثير من الألم….. والحزن والكرة عاصفاً……
“افهم إيه…انكم رمتوني هنا مفيش حد فيكم بيسأل
عليا……محدش بيرفع سماعة التلفون يطمن عليا…
وكاني موت بنسبالكم…….الفرق بس بدل ما تدفنوني
جوزتوني……..”
هاجت امها عليها بالكلمات القاسية……
(واحنا عملنا كده ليه…مش انتي السبب…مش انتي اللي خليتي عنينا وراسنا في الأرض قدام اللي
يسوى ولي ميسواش…..)
ثم تبرمت سهير مضيفة بتكبد……
(الله أعلم….جوزك قال لمين على عملتك السودة…)
ضاقت عينا داليدا بخوفاً وسريعاً
قالت…….
“مقالش لحد…….عشان دي حاجة متتقلش….”
تكاد تقسم ان امها ابتسمت بسخرية مريرة وهي
تعنفها……..
(كويس انك عارفه انها فضيحة……فضيحة وسترها
لحد دلوقتي كرم كبير من ربنا…….)
صمتت داليدا شاعره بمخالب حادة تنهش في
صدرها…..فقالت بصوتٍ حزين منهزم….يروي
شوق طفله لأحضان امها وتدليلها الزائد عندما
كانت تمرض….
“يعني مش هتيجي تشوفيني…..هتسبيني كده لوحدي……..”
قالت سهير بعد صمتاً بقلة حيلة…..
(هكلم ابوكي تاني واتحايل عليه لـو و…..)
قاطعتها داليدا صارخة فجأه بغضب
هائل…..
“يبقا مش هتيجي….. مش هتيجي…..اسمعي اعتبريني موووت بجد…. مش عايزاكي تكلميني
تاني……ولا حد من اخواتي يكلمني….. سامعه…
اعتبروني مت……. مت…….مت…. ”
اغلقت الهاتف في وجهها ثم القته بعصبية وهي
تدخل في نوبة بكاء مريرة…….بينما لسانها يعجل
بالموت داعياً……….
كان واقفاً امام الباب المتواري قليلاً يتابع ما يحدث
بعينين مظلمة…..انهيارها….شوقها….انهزمها…وأخيراً
عجزها………
عجز أصابه في مقتله…..فكم يكرهها ويكره نفسه
ويكره كل شيء اوصلهما لهنا…..
رغم انها تدفع فاتورة اخطاءها إلا انه تمنى في تلك اللحظة ان يُسددها عنها ولا تحزن أبداً !….
فعندما تحزن تحترق احشائه ويشعر بوخزة بالقرب من قلبه…….وخزة لا تهدأ إلا عندما ينقشع الحزن
من عينيها وقلبها…..عندها تعود لعهدها شقية
مُحتالة تسلب القلوب بضحكةٍ رنانة….
زفر بنفسٍ مهمومة وهو يفتح باب الغرفة اكثر ويدلف اليها بصنية الطعام التي احضرته أمه…….
عندما راته داليدا مسحت دموعها سريعاً وقالت
بصوتٍ مبحوح……
“اي الأكل ده….انا مش جعانه…….”
رد بهدوء مقترباً منها….
“لازم تاكلي عشان تاخدي علاجك…….دي شوربة خضار…. حاجة خفيفة…….”
اومات براسها بصمتٍ باهت المعاني…….فجلس جوارها على حافة الفراش ورفع الطبق إليها
قائلاً…..
“خدي كُلي………”
اخذت الطبق بهدوء ورفعت معلقة واحده على فمها
وظلت تمضغها لدقائق بعينين غائرتين بعيدتين عنه…….
فزفر مجدداً وهو ياخذ الطبق منها وينوي
اطعامها…فقالت معترضة….
“انا هاكل لوحدي ياسلطان…….”
لم يهتم سلطان بهذا الاعتراض الاهوج….بل قرب منها معلقة من الحساء وهو يسايرها قائلاً…..
“فاكره يا دودا وانتي صغيرة لما كنتي عايزة تطلعي رحلة تبع المدرسة في الأقصر والكل مرضاش خوف عليكي…..فاكرة انتي عملتي اي يومها…….”
اكلت من يده قائلة بحرج…… “هربت……”
سالها بعينين هادئتين…… “روحتي فين……”
ابتسمت بحرج مجيبة بخفوت….
“انت فاكر……عندكم فوق السطح في عشة البط…….استخبيت…”
مد لها معلقة اخرى من الحساء مندمج في تلك الذكرى الراسخة في أذهان الجميع…..
“تعرفي ان احنا لفينا اسكندريه شرقها وغربها..في سبع ساعات اللي غبتيهم……….”
ابتسمت بسعادة لكونها من صغرها محور اهتمام وحب لدى الجميع….تابع سلطان وهو يعطيها
معلقة أخرى………
“دورنا في كل حته……وسالنا قرايبنا.. وجيران
قرايبنا وصحابك واهل صحابك…لدرجة ان احنا شكينا انك تكوني روحتي الرحلة فعلاً من ورانا….”
ضحكت داليدا فجأه والحزن يزول بتدريج
وبريق الشقاوة بد بالظهور……..فهز سلطان راسه
مبتسماً بقنوط…….
“بتضحكي……مبسوطه بعميلك السوده….طول
عمرك منشفه ريقنا…….”
استلمت داليدا دفة الحوار بشقاوة
تذكره….
“يومها انت اللي لاقتني…..فاكر…….”
اعطاها معلقة أخرى وهو يقول بلؤم….
“فاكر……..كنت يأست اني الاقيكي…يومها طلعت اشرب سجارة فوق السطح في الخباثة من غير ما ابويا يقطع عليا……..”
فضاقت عيناه وهو يقول…….
“ساعتها طلعتي ليا من تحت الأرض تقوليلي اي بقا…….”
حرك سلطان اصبع التحذير مثلما فعلت وقتها مقلد صوتها وفي نفس الوقت لفظت هي الجملة معه بصوتها الرنان………..
“هقول لأبوك انك بتشرب سجاير…….”
انفجرت داليدا ضاحكة وكذلك فعل سلطان…..فمدت
لهُ كف يدها كنوع من المصافحة الودودة عند إلقاء
دُعابة او رؤية موقف طريف….وهذه لم تكون أول
مرة فقد فعلتها سابقاً وهما يشاهدان التلفاز….
فبادلها هذا المصافحة دون ان يندهش بل كان سعيد برؤية ضحكتها اخيراً…….
فتابعت داليدا والابتسامة تزين ثغرها…..
“يومها برقت بعنيك جامد لدرجة اني خوفت منك
لقيتك بعدها بترمي السجارة من إيدك وبتخدني
في حضنك……..”
أكد سلطان مبتسماً بشقاوة وهو يضيف……
“بعدها روحتك علطول….قبل ما ابوكي يروح القسم
زي ماقال لابويا…….”
لمعة عيناها قليلاً و الابتسامة تتوارى
امام عيناه……واردفت بشجن….
“يومها ضربني بالقلم…..وبعدين خدني في حضنه……وعيط…ساعتها حلفت اني مش
ههرب تاني وزعله……..”
قال بصوتٍ معاتباً……. “بس هربتي…….”
هزت راسها مؤكده بندم طفيف…….
“ساعتها نسيت يميني…….ونسيت اني كبرت على الهروب……..”
لم يعقب سلطان بل ظل ينظر اليها طويلاً بملامح رصينة وعينين راسخة المعاني ، بها ألف سؤال
صريح كل إجابة عنه تثبت أدانةٍ لا تغتفر ، اصاب
هذا الجو المتوتر رجفة في اوصالها……مما جعلها تهرب من محور عيناه الثاقبة………..
“انا شبعت……”
نهض من مكانه وهو يحمل الصنية
بعيداً….
“يبقا ناخد علاجنا ونام…….”
قالت داليدا بحرج……
“ينفع تساعدني أروح اوضتي…..”
رد بنفي…….”مش هينفع…….”
عقدت حاجبها…… “ليه بقا……”
اخبرها بخشونة وهو يهيئ الفراش للنوم
عليه…..
“لازم تباتي اليومين دول في اوضة النوم عشان محدش يشك في حاجة….امي هتطلع بكرة…..
واميرة اكيد هتيجي هي وجنة يبصوا عليكي
وعمتك وجيدة كلمتني وجايه بكرة هي
وهدى بنتها ……”
مطت داليدا شفتيها بقرف بينما قلبها انقبض فجأه على سيرة العمة….. “عمتك وبنتها……..ياساتر……”
حذرها سلطان بنظرةٍ جادة…..
“داليدا….احترام الكبير واجب وانتي مش صغيره عشان اعرفك بده……والضيف اللي يجي هنا لازم ياخد وجبه…. وزيادة كمان…… ”
تاففت وهي تغتصب الإبتسامة ممتعضة….
“تمام لم تيجي هقوم معاها بالواجب أطمن…..خلينا في المهم دلوقتي انت بقا هتنام في اوضتي……”
هز راسه بنفياً وهو يشاركها الفراش لأول
مرة………..
“هنام هنا جمبك عشان لو احتاجتي حاجة…..”
ارتبكت داليدا وتلعثمت الأحرف على
لسانها… “بس ياسلطان…….”
استلقى سلطان على ظهره جوارها بعد ان تناولت
من يده قرصٍ من العلاج المتبقي…….
“بلاش بسبسه السرير كبير….ولو ناوي اعمل حاجة هقولك انا مش هتكسف يعني……..”
ثم تثاءب قائلاً بتعب من تبعاب تلك الليلة المليئة بالاحداث المضنية…….
“بس انا تعبان وعايز انام……….”
ارتاحت هي ايضاً جواره قائلة
بتعب….
“وانا كمان…….تعبانه اوي ودماغي تقيله……”
سحبها برفقا لاحضانه وجعل راسها ترتاح على
صدره القوي النابض بشدة بقربها……
اما هي ارتجف قلبها بشدة وانهارت اعصابها بعد
هذا العناق الدافئ فهمست بخجلاً…..وقلبها
وجسدها في حالة ذوبان لذيذ بين ذراعيه….
“سلطان…….”
“هششش نامي…..”قالها بصوتٍ ناعساً ثم طبع
قبله على جبينها…….وبعدها سند خده على راسها
مستنشقاً بأنفه عبق الورد الجوري المنكه برائحة
جسدها المميزة………
فاستكانت راضية في احضانه….. وكانها
وجدت ملاذها اخيراً !…..
ام هو فظل يداعب شعرها باصابعه بحنان بحركة
أبوية جميلة جعلتها ترتاح وتغفو سريعاً….
وهو جفاه النوم وعقله يعيد عليه احداث الليله
بمقتطافات متباعده حتى رسخ في عقله الطاقم الفستقِ الفاتح الملتف حلو جسد انثوي مغوي بالحسن والدلال يفتن قديس…. فأبتسم وهو
يغمض عيناه على تلك الذكرى عالمٍ انه سيحلم بما هو عاجز عن تحقيقه على أرض الواقع !…..
……………………………………………………………..
فتحت عينيها منزعجة بعد سماع جرس الباب مما
جعلها تتمايل قليلاً حتى شعرت بكاحلها ثقيل ويؤلمها بشدة……
فانعقد حاجباها بوجع وهي تتصلب مكانها مستلقيه
على ظهرها بتعب……
سمعت من بعيد أصوات متداخلها من ضمنهم صوت سلطان المرحب بحفاوة …….
ففتحت عينيها ببطء تنظر لسقف الغرفة للحظات متذكرة نومهما سوياً على فراش واحد متعانقاً كالعشاق…..
توردت وجنتاها وخفق قلبها بحرارة فقد نامت بعمق وراحة في احضانه.. وذراعيه كانت تحتويها بدفءٍ يمشط شعرها باصابعه بحنية أب فشعرت وقتها
بانها ابنة وليست زوجة…..
دلف سلطان لداخل الغرفة واغلق الباب خلفه… ناظرا
اليها وهو يقترب منها…..
“كويس انك صحيتي…كنت لسه داخل اصحيكي…”
جلس على حافة الفراش وتلقائياً مالى عليها يقبل وجنتها… اتساعت عينا داليدا وهي تحاول تذكر
ما حدث لليلة أمس ليكن بكل هذه الاريحية
معها !…..
بلعت ريقها متوجسة وهي تنظر اليه بتساؤل…
“هو مين برا……”
اجابها وهو يقف أمامها مشرف عليها بجسده
الضخم وطوله الفارع……كان يرتدي طاقم بيتي
جميل يليق به……رمشت بعينيها عدت مرات وهي تسمعه يقول…….
“عمتك وبنتها…….. يلا عشان تدخلي الحمام تغسلي وشك وتطلعي تسلمي عليهم……”
وشى وجهها توترها وخجلها وهي
تسأله بعجز…. “مامتك مجتش……”
اخبرها برفق…..
“طالعه وراهم…… بتسالي ليه…….”
بلعت ريقها متلعثمه….. “عشان….. عشان…..”
قاطعها بهدوء…. “انا هساعدك…….”
أسبلت داليدا اهدابها شاعره بلسعة حارقة في
عينيها فلو كانت امها معها ما كانت احتاجت لأحد ؟!…خفف سلطان عنها الحرج قائلاً برفق
“مكسوفه من ايه…. انا جوزك ياهبلة… تعالي….”
نهضت معهُ بحرصٍ فعانق خصرها بذراعه يدعمها وجعلها تستند عليه كيفما تشاء……فسارت بعدها
معه ببطء شديد واثناء طريقهما للحمام سألته
بخفوت…..
“هو انت صحيت امتى…….”
رد سلطان بهدوء… “من ساعة……”
نظرة لعيناه قائلة بحياء…..
“وليه سبتني نايمه……. كنت صحيني…..”
رد بخشونةٍ…..
“تصحي تعملي إيه…. احنا نايمين إمتى……”
بللت شفتيها سائلة…… “هي الساعة كام؟……”
أجاب بهدوء… “حداشر…..”
برمت شفتيها متزمرة….
“وهما جايين بدري كده ليه…….”
ادخلها سلطان الحمام قائلاً بجزع……
“اطلعي اساليهم……..لو احتجتي حاجه نادي عليا….
هصب حاجة ساقعه ليهم وجيلك علطول ……. ”
تركها في الحمام حتى تقضي حاجتها دون
حرج……
ثم اتجه الى الضيوف بعد ان احضر لهم العصائر المرطبه…….وضع الصنية امامهما….
فقالت العمة وجيدة بتبرم…….
“تاعب نفسك ليه ياحبيبي….هو احنا غُرب…..”
كانت وجيدة أمرأه مكتنزة الجسد قصيرة القامة
ترتدي عباءة فضفاضة وحجاب كانت عينيها
قوية النظرات ومعاملتها صارمة وجافة
فتعامل معها صعباً جداً لسوء طباعها…..
ثم سألت بلؤم……
“الا داليدا فين يا سلطان…هي لسه نايمة ولا إيه…..”
اتخذ سلطان مقعداً جوارها……
“لا صحيت ياعمتي….هي في الحمام بس……..”
تطوعت (هدى) برد وكانت شابة في عمر الثلاثون
ولم يسبق لها الزواج….كانت ملامحها جميلة على نحو يميزها …..لكنها كانت سلبية فيما يخص
قرارتها المصيريه فكانت تتولى امها عنها ذلك !…
“لوحدها…….. تحب اقوم اساعدها……”
رفض سلطان بإبتسامة متحفظه…..
“لا لا يا هدى….انتي عارفه داليدا بتتحرج انا شويه وهدخلها……”
ثم وزع نظراته عليهن بالتساوي مرحباً…..
“وعاملة اي ياعمتي…..واي اخبارك ياهدى……”
هزت هدى راسها مبتسمة
“الحمدلله…..بخير……”
مصمصت وجيدة بشفتيها متحسرة باسلوب
مبطن المعاني……
“اخبارها لا تسر عدوا ولا حبيب….عيني عليكي يابنتي حظك في الدنيا قليل……اللي قدك ولي
أصغر منك اتجوزا……إلا انتي………”
أحمر وجه هدى بحرج بالغ
امام سلطان…..فقالت…
“يا ماما………دا نصيب……..”
تحسس سلطان ركبته وهو يقول دون
مواربة…..
“كل شيء بأوانه ياعمتي……بلاش تستعجلي…..
وبلاش الزيارات والاعمال اللي بتعمليها دي عند الدجالين….دا شرك بالله وانتي حجه بيت الله… ”
اتسعت عينا وجيدة ورفعت يداها تبرأ
نفسها….
“حد الله بيني وبين الاعمال…..انا بروح عشان افك نحس بنتي……ولاد الحرام كتير…وكذا شيخ قالي
ان بنتي معمولها عمل……..ولي عمله حد قريب مني
ومش بيحبني……..”
ابتسم سلطان باستياء وهو يجاريها في
الحديث……
“ومين بقا اللي عمله……”
قالت وجيدة بهمساً…..
“قالي أول حرف من اسمها سين……”
قالت هدى لأمها بحرج ……
“ياماما حرام عليكي…..بلاش تظلمي حد…”
لكزتها وجيدة بقسوة وهي تصرح بغل……
“اسكتي يابت…. طيبة قلبك دي هي اللي مخلياكي قعده جمبي…….شوفي بنتها عملت إيه عشان
تجوز سلطان………”
لم يعقب سلطان على حديثها احتراماً
وتقدير لوالده…….لذا قال بصبرٍ……
“عمتي……اشرب العصير واهدي…….”
نظرت اليه وجيدة بمسكنة قائلة بلوعة….
“انت مش مصدقني صح….طب والله قالي أول حرف
من اسمها سين…….ومين في عيلتنا أول حرف من اسمه سين غيرها……..”
نهض سلطان من مكانه يغلق هذا الموضوع
قائلاً بتحذير……..
“اشربي عصيرك ياعمتي….هروح ابص على داليدا……وبلاش الكلام ده قدامها عشان
متزعلش منك…… ”
عندما ابتعد سلطان عن مرمى اعينهم….عاتبتها
هدى بصوتٍ حزين يئن بالوجع والمهانة….
“ياماما اي اللي انتي بتقولي ده…. حرام عليكي
هو كل مرة تحرجيني كده….. قدام اي حد تقعدي تجيبي سيرة الجواز والزفت……الكلام ده بيوجعني……..”
لم ترحمها وجيدة بل قالت بحدة…..
“لازم يوجعك وصلتي لسن التلاتين وكل خطوبة
تتفشكل ومتكملش شهر حتى…..بصي وشوفي
عيله أصغر منك بعشر سنين عرفت توقع ابن
خالك على بوزه……ياما قولتلك ادردحي..
مفيش فايدة……..”
شعرت هدى بالكره والحقد نحو داليدا وكل فتاة تصغرها سناً ويسبق لها الزواج قبلها….فقالت بضجر…..
“عشان هو مش شايفني أصلاً…احنا طول عمرنا اخوات وانتوا ربتونا على كده……..”
زمجرة بها والدتها ساخطه…….
“ادي الحجج الفارغه مالسهونة اللي جوا دي…كانت بتقعد على حجره وهي صغيرة يأكلها…..واهي بقت مراته… مين يصدق…..لئيمه زي امها… ”
لوت هدى شفتيها بأسى مصرحة…….
“سلطان بيحب داليدا من زمان ومتعلق بيها….وكلنا
كنا واخدين بالنا من بصاته ونظراته واهتمامه…بذات
في خطوبته الأخيرة……..”
حركت وجيدة حاجبها الرفيع للأعلى قائلة
بحقد أسود………
“هو انا انسى….اكيد امها عملتله عمل عشان يسيب خطبته ويتجوز بنتها…..اه منك ياسهير….. مرا
قادرة بصحيح……ماهي وقعت اخويا بنفس الطريقة…… ”
هزت هدى راسها باستياء…….وداخلها تتمنى ان تتزوج وترتاح من كابوس امها وكلامها المحقن بالسموم….
كلاما جعلها تفقد ثقتها في نفسها نهائياً….وتكره
كذلك بنات عائلتها واصدقائها وتحقد على
الجميع مثل أمها ؟!….
………………………………………………………………
طرق سلطان على باب الحمام ثم دلف بعد ان سمحت له داليدا…والتي كانت تقف امام حوض الاغتسال في محاولة لغسل وجهها……
“خلصتي يا دودا……”
زمت شفتيها قائلة بملل…..
“هغسل وشي ولم شعري وطلع……”
احتوى خصرها بذراعه يسندها عليه وباليد الأخرى فتح الصنبور متطوعٍ بصوتٍ حاني……اصاب رجفة
في أوصالها……
“خليني اساعدك……..”
اغمضت داليدا عينيها باستسلام وجسدها ذأب
بين يداه… فغسل وجهها برفق وبحنان بالغ….
كما انها فرشة اسنانها بمساعدته وسط تعليقات طريفةٍ منه….ثم بدا يجفف وجهها…..وساعدها في تمشيط شعرها ثم أحضر لها عباءة إستقبال أنيقة تخرج بها للضيوف………
كان المشهد يوحي بأبٍ يجهز ابنته حتى تلحق بحافلة المدرسة…….كان مشهد دافئ معبر لمس
قلبها من شدة استشعرها به مما جعل الدموع
تتجمع في حدقتاها دون ان تعرف السبب
خلفها…..
شيءٍ دفعها للتأثر ربما لانها وحيدة ولم تاتي والدتها إليها….وتركتها هكذا شبه عاجزة تحتاج للمساعدة..
مما دفعها للبكاء بعد إهتمام سلطان بها وحنانه
الأكثر من المعتاد عليها………
“ليه بتعيطي…….رجلك وجعاكي…….”
سؤال سلطان سحبها من هوة الظلام المحيط
بها فنظرت اليه بعينين مندية بماء الدموع….
فعقد سلطان حاجباه سائلاً مجدداً وهو ينظر
للعباءة الجميلة الانيقة عليها و التي ارتدتها
فوق المنامة…..
“العباية مش عجباكي……..اجبلك حاجة تانية…”
هزت داليدا راسها بنفي بملامح متشبعه
بالحزن…….
فمد سلطان يده يمسح وجنتيها من الدموع
والحزن فبعد رؤية دموعها وكسرة النفس في
عينيها ها هو يشعر بوخزة في قلبه عائده لتؤلمه
بعد رؤية الأميرة المدلله تبكي…
همس وهو يقرب راسه منها قليلاً….
“طب مالك…….بتعيطي لي يا داليدا…….”
لم يتوقع ان تلقي نفسها في احضانه وتنفجر
في البكاء……حينها أغمض عيناه ببطء متأثراً
بقربها شاعراً بنشوة غريبة عند ملامست جسدها الناعم من جديد…فرفع يده ومسد على شعرها وكتفها مواسياً بكلمات متقطعة لم يجد غيرها الان…….
“اهدي ياداليدا…..بس… هششش….انا جمبك اهدي……. بطلي عياط…..عشان خاطري… ”
خرجت من احضانه تمسح دموعها……فقال سلطان
برفق في محاولة للسيطرة على نفسه معها……
“كفاية عياط…..اغسلي وشك تاني……ويلا بينا…
لحسان عمتك قاعده من بدري…….”
اومات براسها وسندت عليه وهي تخرج من الحمام……..محاولة التحلي بالصبر والهدوء خلال
الساعات القادمة والتي ستقضيها بصحبة عمتها
وابنتها حتى يرحلا…….
فالاحاديث مع العمة وجيدة تنقسم لجهتين….
اما ان تتحسر على حال ابنتها وعدم زواجها حتى الآن وان أصغر منها انجبوا أولاد في الثانوية !….
او التحدث عن الاعمال والدجل وهذه الخزعبلات الخرافية منهية الحوار بالتلقيح على والدتها بكلام خبيث مبطن…..
فهي تكرهها…..ومن يكره أمها تكرهه مهما كانت مكانته في العائلة……..
رحبت بهم داليدا التي دخلت مستندة على
ذراع سلطان…….
“أهلا ياعمتي…. عامله إيه…….”
وقفت وجيدة تبادلها السلام بجفاء
ملموس…..
“الف سلامة عليكي يابنت اخويا… ارتاحي…..ارتاحي…. ”
ساعدها سلطان على الجلوس على الاريكة وهو جوارها….فاقتربت منها هدى تسلم عليها……
“الف سلامة عليكي ياداليدا…….”
ردت داليدا بهدوء…… “الله يسلمك ياهدى……”
نظرة وجيدة لكاحلها المجبر……مستفسرة….
“وزي تقعي كده….مش تاخدي بالك……”
اجابة داليدا مقتضبة…… “نصيب…..”
اكتفت وجيدة بايماءة خبيثة…وهي تستفسر
بلؤم…….
“اه نصيب….وامك مجتش ليه….هي مش واجب تيجي تقعد معاكي اليومين دول وتخدمك لحد ما تفكي الجبس…….”
قالت داليدا بغصة مختنقة…..
“ماما تعبانه شوية……الضغط عالي عليها…. ”
ادعت وجيدة التأثر بحرفية…..
“لا لا الف سلامة……. على كده لازم ازورها……”
ثم تمعنت في النظر اليها بتطفل من أول رأسها
حتى اخمص قدميها وعلقت بحقد…..
“هو انتي وقعتي على رقبتك كمان….”
“لا ليه……”لمست داليدا تجويف عنقها مشدوهة
وهي ترفع عيناها على سلطان الذي بدوره
أبتسم بعبث وغرور بعد رؤية تلك البقعة الحمراء
اثار عضة أمس…….
فقالت وجيدة بتطفل…….”اصلها محمرة……”
أحمر وجه داليدا بخجل وقالت….
“اه……. اكيد حساسية……..”
أبتسم سلطان بانتشاء وهو يراقب خجلها
الذيذ…
بينما مصمصت وجيدة
بشفتيها….
“ممم حساسية……طيب…. ”
قال سلطان مرحباً بخشونة….
“منورانا ياعمتي…….”
ابتسمت وجيدة وهي تربت على ركبته….
“بنورك ياحبيبي…”
ثم وجهت الحديث الى داليدا….
“لو أمك مش هتيجي تخدمك…. اخلي معاكي هدى بنتي تاخد بأيدك…….”
صمتت داليدا وهي تنظر لسلطان بحزن…فهز سلطان
راسه وعيناه تراضيها…
ثم عاد لعمته قائلاً بهدوء…
“كتر خيرك ياعمتي عرفين اللي عندك…بس انا معاها
وامي موجوده….. واميرة وجنة كمان زمانهم على وصول….”
شعرت وجيدة بأنه صفعها بأدب فأغتصبت
البسمة قائلة…….
“اه ومالوا…..ربنا يديم المحبة بينكم…”
ثم نظرة الى ابنتها الجالسة جانبا في
مقعدها….فغمغمت سراً بغل……
“ويعوض عليكي يابنتي……..”
……………………………………………………………..
هذا المشهد مطابقا لمشهد قديم عاشته يوماً…
مشهد كانت به الأبواب مغلقة امام عينيها تقف كما هي الان في ممر المشفى الممتد تستند الى الحائط براسها فتنظر بعينين ساكنتين بالحزن فارغتين من الحياة……
كان هذا المشهد القديم يحمل صوت بكاؤها نحيب يكاد يقطع انياط قلبها…..وقتها خرج الطبيب
يخبرها بان والدتها توفت…..
كان الخبر كالصاعقة التي ضربتها فأطاحتها أرضٍ
في أشد واظلم بقعة منزوية في الأرض….وقتها
كانت اضعف من ان تقاوم تلك الصدمة……لذا انفردت بنفسها ونعزلت عن الجميع لأشهر…..حتى عادت للحياة بتدريج لكن جزءا منها مزال منعزل عن الحياة حتى الآن يحبذ الظلام عوضاً عن الخروج
الى النور……..
ورغم وحشة الظلام والوحدة القاتلة به إلى انه
كان ولا زال آمِناً !……
عاد هذا الشعور يستوطن قلبها المنهك من جديد
يرعبها و يشقيها…….فيجعلها تموت بالبطيء في وقفتها الصامدة…… فرغم الصمت والهدوء البادي عليها….. كانت عسليتاها مأساوية النظرات….
تكشف للمطلع حقيقةٍ تنكرها….
وقعت في الحب !…..
والخوف الآن ليس شفقة او إحساس إنساني ينتابها تجاه هذا الشخص القابع خلف الأبواب ، لا اطلاقاً
في الحقيقة هي مرعوبة بان تجرب مجدداً مرارة
الخسارة معه هو ؟!….
فهو يعني لها أكثر مما ظنت…..وكل يوم تتأكد بانها
متورطة في الحب…….
ويالها من ورطة ستشقيها وتعذبها أكثر معه…..
مزالت واقفه مكانها تنتظر خروج الطبيب حتى يطمئنها عنه….. فقد نزف دماءاً كثيرة اثناء
طريقهما للمشفى مما جعله يفقد الوعي
وقتها…….
اسبلت اهدابها بوجع وقلبها يتلوى داخلها بخوف عليه…..ولسانها يدعي له كل ثانية بان يخرج من
تلك الحادثة سالماً……فسلامته في عيناها الان
تساوي حياةٍ كاملة !…..
كان في الممر كذلك يقف حكيم بالقرب من غرفة الطوارئ المغلقة…..وحمزة وقمر يجلسان على أحد
المقاعد منتظرين……وعينا حمزة كانت لا تفارق
شقيقته…… ومن خوفها وهذا الاهتمام المبالغ
فيه والواضح من تصرفاتها دون كلمة واحده
بانها قد وقعت في حب الصائغ وانتهى الأمر !….
خرج الطبيب في تلك الاوقات فظلت شهد مكانها
متسمرة تتابع الحديث بعينين متلهفتين…….
فسال حكيم الطبيب بقلق…..
“طمنى يادكتور…….عاصم عامل إيه دلوقتي…….”
رد الطبيب بعملية …..
“الحمدلله بقا أحسن….الجرح بس احتاج تخيط فعملنا الازم……وهو شويه وهيفوق تقدروا تتطمنوا عليه……..”
زفر الجميع بارتياح فردد حكيم
بإبتسامة شكر…..
“الحمدلله…….الحمدلله……..”
ربت الطبيب على كتف حكيم قائلاً قبل
ان يبتعد….
“حمدلله على سلامته…….”
زفرة بارتياح وهي تشعر بانها تسترد روحها المهاجرة من جديد وقد زال أخيراً الحجر من على صدرها….
فبدات تاخذ أنفاسها واحداً تلو الاخر بصعوبة وكانها
لم تتنفس الساعات الماضية بشكلاً صحيح….وعندئذٍ شعرت بان الدموع تتجمع في مقلتاها بغزارة مما جعلها تستدير وتولي ظهرها للجميع متجهة الى الحمام…..
دفعت باب الحمام واغلقته خلفها فسندت على
الباب بظهرها ثم ارخت جفنيها تاركه العنان لدموعها ونحيبها بالبوح عن مشاعر عدة تخصه هو دون
غيره………..
وظلت على تلك الحالة لفترة طويلة ثم اتجهت بعدها
الى صنبور المياة وبدأت بغسل وجهها من اثار الدموع…..ثم بعد ان جففت وجهها….اخرجت السماعة الطبية من حقيبتها وارتدتها….ثم خرجت ذاهبه اليهم بهدوء……
فوجدت حمزة يخرج من الغرفة التي انتقل عاصم اليها في نفس الممر وكانت قمر منتظرة مكانها
على المقعد……..
عندما وصلت لعنده سالت عنه بهدوء……لكن
قلبها كان ملتاع…….
“شوفته ياحمزة…..عامل اي دلوقتي…….”
ظل حمزة ينظر اليها قليلاً ثم سالها بصوتٍ
رخيم…….”انتي كنتي فين…….”
ردت بصوتٍ شجي….
“في الحمام….. قولي هو عامل إيه…….”
اخبرها بهدوء…..
“كويس…..فاق وسأل عنك……..”
اهتزت حدقتاها بحرج من اخيها….فتابع حمزة
بنبرة غريبة……
“خايف يكون حصلك حاجة….بس انا طمنته انك كويسة…….”
ظلت مكانها صامته تشعر بان مشاعرهما مكشوفة
جداً امام اخيها مما يشعرها بالحنق الممزوج بالحياء…..فقال حمزة بلهجة متجهمة…….
“ممكن تفهميني….اي اللي حصل بظبط…….ولي
ضربُه بالمطوة ده…..كان قاصد مين فيكم……”
توترت شهد فهربت من نظراته
قائلة….
“مش وقته ياحمزة…..”
كان مصرا وهو ينظر اليها بقوة.. “لا وقته…….”
اشاحت شهد بوجهها تزفر
بجزع….
“لم نروح يا حمزة خليني اطمن عليه…….”
احتدت نظرات حمزة قائلاً بغيرة…..
“تطمني عليه ازاي تدخلي لوحدك يعني…..”
هتفت شهد بحنق شديد راجية ……
“وهو هياكلني ياحمزة….. الراجل تعبان…وبطنه مفتوحه……خليني اطمن عليه ياحمزة عشان خاطري…. ”
ظل ينظر اليها قليلاً ثم جز على اسنانه
قائلاً بضيق…….
“خمس دقايق وتطلعي…..مطوليش…….”
اومات براسها….. “حاضر……”ثم مرت من جواره
وفتحت الباب واغلقته خلفها……..
فزم حمزة شفتيه بعدم رضا….وهو يتجه الى قمر ويجلس جوارها منتظراً وقد حانت منه نظر عليها
ليجدها ساكنة صامته على غير عادتها ويبدو
عليها التأثر بما حدث لذا عقب ساخراً…….
“مالك انتي كمان قلبه وشك ليه…تعرفيه عشان تزعلي عليه……”
مطت قمر شفتيها هازئه بجفاء……
“مش شرط اعرفه عشان ازعل عليه….”هز حمزة
راسه وبرم شفتيه مدعي التأثر بعد جملتها….
فاضافت هي بنظرة مشفقة نحو الباب المغلق أمامهما…
“بجد صعب عليا اوي…..نزف كتير…..كله عشان
خاطر اختك لولاه كان زمان اختك مكانه….
احمد ربنا….. ”
انتبه حمزة الى حديثها بجدية شديدة….
فضاقت عيناه وهو يسألها….
“انتي بتقولي إيه…….”
نظرة اليه قمر ببراءة مصرحة عما رأت
بسلاسة…….
“مالراجل اللي ضربه بالمطوة ده….كان ناوي يضرب
شهد بيها لولا عاصم لحقوا……”
جفل حمزة لبرهة وهو ينظر لها ببلادة…ثم قال
بعدها ببطء شديد حتى يستوعب ما حدث لهن
في غيابه……
“لا لا براحه عليا….اهدي كده وحكيلي من الأول اي اللي حصل لما روحت الجراچ اجيب العربية…….”
………………………………………………………………
كان عاصم ممدد على الفراش بتعب…عاري الصدر
وحول خصره المنحوت توجد ضمادة طبية تغطي
الجرح……
ربت حكيم على ذراع صديقه قائلاً….
“الحمدلله انك بقيت كويس….دا انت نزفت يامه
اوي وعلقولك محاليل ودم وليله كبير ياحولم…..”
رد عاصم بخفوت… “الحمدلله…”
” الحمدلله طبعاً……بس معقول تعمل في نفسك
كل ده عشانها…..”ضاقت عينا حكيم بلؤم….
فرد عاصم بخشونة……
“مش عشانها….لو اي حد تاني كنت هعمل نفس
اللي عملته……..ولا انت أول مرة تعرف عاصم
الصاوي…….”
أكد حكيم بإبتسامة مشاغبة…..
“عارفه….وبذات لما يتحمق اوي للي يخصه…بيبقا يجبل ما يهزك ريح……..”
التوى ثغر عاصم بسخرية…..
“اهو هزني……وعلم عليا ابن ال…….”ثم صمت قليلاً…..واضاف بعينين ضاريتين…….
“انا عايز اعرف مين ده….وكان عايز يضربها ليه…”
طمئنه حكيم قائلاً بلهجة جادة…….
“متقلقش هشوفلك الحوار ده…وانت برضو استفسر منها…..يمكن تفيدنا بمعلومة نعرف نوصله…وياخد
جزاءه بالقانون……….”
ثم اردف متذكراً…….
“كمان المستشفى بلغت واكيد هيعملوا محضر وياخده اقوالك…….”
اجاب عاصم ساخراً…….
“دا لو كان عندي حاجة اقولها…..انا لحد دلوقتي معرفش هو مين……..”
“بكرة نعرف…..هيروح مننا فين…….”ثم اخرج حكيم
هاتفه قائلاً……
“انا لازم اتصل بعمك واعرفه باللي حصلك…دي حاجة متستخباش…..خصوصاً انك مطول هنا كام يوم زي مالدكتور قال…..”
اوما عاصم براسه يقول……
“ماشي طمنهم بس قولهم اني كويس والجرح سطحي…….”
مط حكيم شفتيه بغلاظة…..
“سطحي وانت مخيط كذا غرزة اتقي الله……”
أمره عاصم بصيحة حادة….
“اسمع الكلام ياحكيم…….”وضع عاصم يده على الجرح متألمٍ دون صوت….
عندما رآه حكيم هكذا قال برفق…..
“بلاش تكلم كتير اهدى على نفسك جرحك لسه مفتوح……هقولهم انه سطحي بس هما كده كدا هيعرفوا لما يسألوا الدكتور عشان يطمنوا عليك….”
كان ينوي عاصم الرد عليه لكن طرق انثوي رقيق على الباب اوقفه….ثم دخولها سمره مكانه.. فعلق عيناه المتجهمة عليها…….وقلبه مأخوذ بعد رؤيتها يشعر انهُ نسى كيف يخفق في العادة……..
تقدمت شهد منه بخطوات هادئة بوجهٍ شاحب وعينين حمراوين اثار البكاء……..
كانت مزالت بفستان الحفل…الوردي الفاتح….لكنه
الان مختلف فكان يحتوي على بقعة من الدم
الجافه عند الصدر موضع القلب دماؤه….لطخ بها
الثوب عندما وضعت جسدها أسفل ذراعه تدعمه
قبل ان يقع أرضاً…..كانت حركة غير متوقعه منها
قد جفل وقتها رغم أصابته ومع كل شيءٍ يحدث
حوله جفل ، ورغم ذلك لم يمانع بان تكون عكازة
وقتها ؟!…..
كان شعور رائع يبعث الدفء والنشوة اليه حتى خوفها وقتذاك كان افضل شيءٍ حي رآه منها
حتى الآن…..
“حمدلله على سلامتك….”قالتها شهد عندما وقفت بالقرب من السرير….. تطلع اليه بعينين حزينتين
ملامتين…….
رد بهدوء وعيناه عادتا تأسرها من
جديد…..
“الله يسلمك…… المهم انك كويسة……”
سبحة عيناها في ظلام حدقتاه وبنبرة
معاتبه……
“إزاي ابقا كويسه بعد اللي حصلك بسببي…..”
وزع حكيم النظرات بينهما بفضول وعندما
اتت عيناه على عاصم طرده بنظرة حادة
جعلته يتنحنح بحرج قائلاً …..
“طب ياعاصم…انا هطلع اكلمهم برا…..وهطمنهم متقلقش……..”
عندما خرج حكيم من الغرفة واغلق الباب خلفه…
اقتربت منه شهد وجلست على المقعد جوار
الفراش….هامسة بعينين لامعة بدموع……
“خضتني عليك ياعاصم…….”
ابتسم من زاوية واحده ساخراً……
“على اساس انك مهتمه حتى لو جرالي حاجة..”
هتفت بلوعة صادقة….. “بعد الشر……”
لم يرحمها فمزال غاضباً منها لذا عقب
بنظرة ساخطه… “خايفه اوي….”
مسحت دمعة فارة من عينيها وهي تهتف
منزعجة……
“اكيد خايفه عليك…. بلاش البصه دي يا عاصم..”
لم يرد عاصم ولم ينظر لها بل ظل صامتاً
بملامح متجهمة…..فقالت شهد بعذاب…..
“انا كنت مرعوبه لا يجرالك حاجة بسببي….”
نظر لها بجمود……
“ودا بقا اسمي إيه….شفقه مثلاً…….”
رمشت بعيناها عدة مرات تحاول تمالك
اعصابها المنهارة امام قساوة قلبه……ثم عقبت
عن الأمر بانكسار…..
“انت قلبتك وحشة اوي…..بتخوف……وانا شبعت خوف……..”
لم هزت الجملة قلبه فجعلته ينظر اليها لوهلة
جافلاً ثم استأنف حديثها…..
“مش فاهم……عايزه تقولي إيه……”
نزلت دموعها عنوة عنها…فكل هذه الضغوط
كانت أكبر من طاقة تحملها…..
“بلاش تقسى عليا…….انت بذات بلاش تقسى…”
بنظرة ثاقبة استأنف مجدداً….. “وليه انا بذات…….”
صمتت وهي تحني راسها بتعب…..تحجب عن
عيناه الدموع التي تهطل بصمت حزين كصاحبتها….
فحاول عاصم رفع يده لكن الجرح شد عليه فجز على اسنانه شاتماً بصوتٍ خفيض……ثم امرها
بخشونة حانية….
“ارفعي رأسك وكفايه عياط….انا مش قادر اتحرك حتى عشان امسح دموعك…….”
مسحت دموعها سريعاً وهي تحاول لملمت شتاتها فمنذ متى وهي حساسة بهذا الشكل بل وتبكي
أمامه أيضاً !!…….
سالته بقلق وهي تنظر للضمادة……وقد انتبهت
لصدره العاري الرياضي الجذاب فأحمر وجهها وحاولت التركيز على عيناه فقط………
“الجرح تعبك أوي………”
تنهد قائلا بوجوم….. “انتي شايفه إيه…….”
“اكيد بيوجعك……..انت خيط كذا غرزة…….الف سلامة عليك…….”قالتها شهد بصوتٍ حنون……
بعث الدفء لقلبه لكنه تماسك بقدر الإمكان
محاولاً الا يقع في سحرها مجدداً فلن تخدعه
مرتين……فرد بجفاء…….
“الله يسلمك…….”
بلعة غصة مختنقة وهي تقول…… “شكراً……”
بنظرة مهاجمة حذرها……
“مفيش بينا الكلمة دي…….اسحبيها…….”
قالت شهد بنفسٍ غير سمحة…….
“دي أقل حاجة اقدر اقولها في الوضع ده….انا مش قادرة اسامح نفسي…. ”
برم عاصم شفتيه وهو يلتقط شعور الذنب
بين ثنايا كلماتها…….فقال بهزل…….
“ليه انتي اللي عورتيني…..هوني على نفسك….يا آنسه……”
وكان الكلمة وقفت في حلقها…..فقالت
مستهجنة…..
“آنسة؟!…..تمام انا لازم امشي….الصبح من النجمة هكون عندك….. ”
نهضت عن المقعد واقفه بتردد في الرحيل……
فقال عاصم بجفاء……..
“وليه تتعبي نفسك……واجبك وصل خلاص….”
عضت على باطن شفتيها وهي تشعر بالحنق لتركه
هنا وحده…….
“على فكرة لو ينفع كنت فضلت معاك…..وسهرت جمبك بس……..”
قاطعها عاصم بخشونة وبنظرة غير
متهاونة بالمرة قال….
“دا لو كنتي مراتي……روحي يا شــهـد…….وبلاش تيجي هنا تاني…. واجبِك وصل خلاص…..شكراً… ”
قالت بحزم مماثل له……
“مفيش بينا الكلمة دي….اسحبها…….”
لانت شفتيه في إبتسامة لم تصل لعيناه….فهي
تجيد حفظ كلماته ولعب بها ضده…….
وجدها تخبره بنظرة معتذرة……
“هاجي الصبح من النجمة هتلاقيني عندك….انا آسفه…….”همست بها قبل ترحل……
فرفع عيناه عليها متسائلاً……
“اسفه على إيه……..”
تسربة كالماء من بين قبضته راحله….على أمل ان تعود صباحاً……..وهو ينتظرها بكل شوق حتى ان
انكر هذا امام عيناها !…….
………………………………………………………………
بعد مدة كانت الغرفة مزدحمة بأفراد العائلة….الجميع اتى على وجه السرعة قلوبهما بين ايديهم خوفاً ورهبة من ان يكون قد اصابه مكروه……..
وعندما اطمئنوا عليه اتخذ الجميع مقعداً وبدأت
الأسئلة عن الحادث ومن الفاعل…….
تافف مسعد غاضباً من مناورة ابن اخيه في
الرد….
“يعني اللي ضربك بالمطوة ده كان قصدك انت…”
رد عاصم مجدداً بمناورة……
“لو مش قاصدني هيخبطني بيها ليه……”
اشار مسعد على حكيم الواقف جانباً……
“بس حكيم قالي انكم كنتوا بدفعوا عن واحده
كان بيتعرض لها…. ”
نظر عاصم الى صديقه بسئم….فنظر حكيم للأرض
بحرج…….
فتدخلت الهام مندهشة بصيحة انثوية…
“معقولة…. ومين دي بقا اللي رقدت رقدتك دي عشانها…….”
لم يرد عليها عاصم بل ظل صامتاً بملامح
متصلبة…فتساءل مسعد مجدداً…….
“ما ترد ياعاصم ساكت ليه…… اتكلم خلينا نعرف نجيب حقك……”
هتف عاصم بخشونة……
“انا مش صغير ياعمي…. انا اعرف اجيب حقي كويس أوي….. بس اقف على رجلي الأول….”
تدخلت الجدة نصرة في الحديث بقلق….
“وليه يابني تعرض نفسك للاذى من تاني…. مشيها
قانوني أحسن……..”
هز راسه بالموافقة دون تعقيب…..فاقترب منه
يزن ومالى عليه يقبل راسه قائلاً بمحبة….
“الف سلامة عليك ياكينج….خضتنا عليك يا بطل…”
ثم استقام مضيفاً بحمائية……
“قولي بس مين اللي عملها وانا اكله بسناني….”
“شايلك لوقت عوزه يالمض……”كان رد عاصم مرحٍ…..لذا هتف يزن بجدية……
“بتكلم بجد ياعاصم……”
رد عاصم بفتور……
“لو اعرفه هجيبه بنفسي…..بس انا لسه معرفوش..”
حل الصمت من جديد في الغرفة فبتر الصمت
صوت الهام المتملق تقول……
“الف سلامة عليك ياعاصم…..”
هز عاصم راسه لها مغتصبا الإبتسامة على محياه…..فتابعت هي بخبث امام الجميع…..
“انا خوفت أقول لروفيدة لحسان يجرالها حاجة…
قولت امهدلها الموضوع الأول……مانت عارفها….”
انهى الحوار بجملة مقتضبة……..
“منجلكيش في حاجة وحشة يامرات عمي…..”
وكان دلو بارد من الماء وقع فوق رأسها….فاحمر
وجهها وهي تتراجع للخلف بحرج…..
فقال عاصم للجميع بهدوءٍ……
“انا من رايي تاخدوا بعضكم وتروحوا دلوقتي
وانا كلها يومين وهخرج……”
هتفت نصرة باستنكار……
“ونسيبك لوحدك……اي الكلام ده ياعاصم…..”
لانت ملامح عاصم عند النظر إليها فقال
برفق…….
“متقلقيش ياحاجه….حكيم موجود والدكاتره
هنا بيمروا كل شوية عليا……”
قالت نصرة بحزم….. “ولو هفضل معاك……”
رفض عاصم من أجل وضعها
الصحي…..
“مش هينفع ياحاجة…….”
دوى صوتها بصرامة توبخه……
“اسكت ياواد…هتكبر عليا ولا إيه….انا اللي هبات معاك….وهفضل جمبك لحد ما تخرج من المكان
ده…..”
نداها عاصم معترضاً…… “يا حاجة….”
رمقته نصرة بعتاب…… “هتكسر كلمتي يعني……”
هز عاصم راسه احتراماً…….
“لا عشت ولا كنت……. ربنا يخليكي لينا…….”
لمعة عينا نصرة بدموع فكلما نظرت الى الضمادة
التي تغطي جرحه يتهدل وجهها المجعد حزناً
عليه…….فقالت بخفوت متأثره…….
“ويباركلي فيك…وفي عمرك ويبعد عنك الأذى
وولاد الحرام…….”
ثم مسحت دموعها بيد ترتجف……فقال عاصم
بحنو…….
“كفايه عياط عشان خاطري…..مانا زي الفل أهوه.. ”
اتجه اليها يزن وربت على كتفها بحنان
وهو يخبر عاصم……
“دي اغمى عليها أول ما سمعت الخبر……”
اتسعت عينا عاصم ونظر الى يزن بحنق
بالغ…. “وجبتوها يا يزن…….”
هتف يزن مبرراً…….
“مرضتش تقعد……..وحلفت علينا…….”ثم مالى
على وجنة جدته وقبلها قائلاً…….
“انا كمان هبات معاكم….ومش هسيب الكينج لوحده……”
ثم رفع عيناه على عاصم غامزاً
بشقاوة….
“بس قولي الممرضات هنا حلوين ولا…….”
أبتسم عاصم ساخراً…..
“انت هتقعد معايا ولا هتقعد مع الممرضات….”
رد يزن بوقاحة ضاحكاً……..
“ومالوا ياكينج……..شبرقت عين بس مش أكتر….”
هتفت نصرة باستهجان…….
“اتلم ياواد يا يزن واحترم نفسك…..اي قلة الحيا دي…. ”
“حاضر يانصرة قلبي…”كبح يزن ضحكته ثم
همس لعاصم بزهو….
“بتغير عليا أوي…….واخد بالك…. ”
مط عاصم شفتيه وهز راسه ساخراً….
” واخد…..”
فأدعى يزن الاسى قائلاً…..
“بحاول اكل الجو منك….بس انت برضو اللي في القلب ياجدع……..قولي اعمل ايه……”
رد عاصم بغرورٍ…..
“متلعبش مع اللي أكبر منك…….”
ضحك يزن غامزاً له…..”ماشي ياكينج…..ماشي…….”
نهض مسعد عن مقعده قائلاً بهدوء…..
“خلاص ياجماعة سبوه يرتاح والصبح هنبقا
عنده….”ثم وجه الحديث لوالدته…….
“انتي بايته معاه يا امي……”
اكدت نصرة بهدوء……
“اه ان شاءالله…….روحوا أنتوا…..وانت كمان يا
يزن روح معاهم عشان جامعتك….. ”
هز يزن راسه مقتضباً….ثم خرج الجميع بعدها
وكان اخر شخصٍ حكيم الذي وقف عند الباب المفتوح يخبر صديقه……..
“انا برا يا عاصم…..عشان مينا زمانه جاي…..”
اكتفى عاصم بايماءة بسيطه فغادر حكيم مغلق
الباب خلفه…….
عندما انفردت به الجدة….اقتربت من السرير
بمقعدها المحترك….مستفسرة بسؤالاً……
“قول الحقيقة مين دي اللي دفعت عنها وخدت الخبطه مكانها……”
سحب عاصم نفساً طويلاً ثم أخرجه على مهلٍ
وهو يلفظ حروف إسمها على لسانه من
جديد…..”شـهـد……..”
هتفت الجدة بصدمة……… “تاني……”
تحدث معها باريحية عكس رده على عمه
والآخرين…..فالجدة دائماً لها مكانة خاصة في
قلبه عنهم جميعاً…..
“انا مخدتش الضربه مكانها……انا مسكت في الولا اللي كان ناوي يخبطها بالمطوة وساعة العركه معرفش اي اللي حصل لقيت نفسي بنزف….والناس
اتلموا وهو هرب في الزحمة……..”
اتسعت عينا نصرة بصدمة ممزوجة بالشفقة
نحو الفتاة………
“ابن الحرام…..وكان عايز يضربها ليه بالمطوة….عملت
اي لده كله……..”
زفر عاصم قائلاً بغضب مكتوم…….
“دا اللي لسه عايز اعرفوا منها…….يمكن تعرف هو مين……..”
هتفت الجدة بخوف عليه…..
“ماشيها قانوني يابني…..احنا ملناش في شغل البلطجه وقلة الادب دي ماشيها قانوني …..”
تزمت عاصم رافضاً بعينان تقدحان شرراً……..
“لا ياحاجه دا حقي…..وانا مش هسكت غير لما اجيبوا بايدي……..”
تلك النظر وهذا الوعيد المحتد في صوته….ارعبها
من القادم فهي تعرفهُ اكثر من نفسه….تمتمت
نصرة سراً….”استرها يا رب……..”
…………………………………………………………….
القت شهد جسدها على الاريكة بتعب وعينيها
المجهدتين تنظرا الى اخيها الواقف امامها على
غير هدى يحاصرها بالاسئلة عن الحادث…..
لو كانت تعلم من الفاعل لكانت ابلغت الشرطه على الفور…..لكنها تشك في عدة أشخاص……
ربما مرعي أراد ان ينتقم منها بعد ان تطاولت عليه
ورفعت السكين في وجهه فأرسل شخصٍ حتى يؤذيها…
او إلهام أرادت التخلص منها حتى تبعدها عن عاصم فاتى هذا المجرم عن طريقها…..
او أحد المنافسون في العمل كما حذرتها أحلام من قبل ان نجاحها في شارع الصاوي سيخلق اعداءاً
لها……
لاحت السخرية على وجهها…..
فاي نجاح هذا وهي على وشك ترك المطعم ؟!…
ايا كان في جميع الأحوال لن تتفوه بحرف لحمزة…هي تعرف جيداً تفكيره…….
حمزة كما تراه دوماً….رجلاً يتقامر مع الحياة…
لا يخشى شيءٍ….وليس لديه حدود عند الغضب…
لن تضحي باخيها يكفي ما حدث لعاصم بسببها…
حتى الآن مزالت تلوم نفسها…قربها منه يؤذيه
وها هو راقد في المشفى بسببها……
صاحت شهد بنفاذ صبر توقف اخيها عن الصراخ
في وجهها……
“قولتلك معرفش مين هو…وكان قاصد مين فينا معرفش ياحمزة……معرفش يااخي….”
أشار حمزة بعصبية على قمر التي تتوسط
الاريكة وهي تتابع ثورته بتحفز وصمت مبهماً……
“قمر قالت انه كان قصدك انتي……وعاصم اللي ادخل
ومنعه…….انت مخبيه عني اي فهميني…….”
نظرت شهد الى قمر بضجر بالغ لأول مرة تتلقى
منها قمر هذه النظرة فجفلت واسبلت اهدابها
بحرج……..فصاح حمزة مجدداً بحمائية…..
“هو انا مش اخوكي…..انطقي مين هيجبلك حقك غيري……خليتي الغريب يتصدرلك وانا زي الاطرش
في الزفة وسطكم……..”
رفعت شهد عيناها على اخيها بتهكم من المبالغة
في لوم نفسه عن حادث وقع لها في غيابة….
“يعني انت كنت موجود ووقفت تتفرج…. ماانت مكنتش موجود ياحمزة……”
هدر بصدر متضخم بالغضب….
“لو كنت موجود مكنش هرب ابن الحرام ده.. وكنت
خلصت عليه بايدي……..”
شاهقة انثويه عالية من خلفه صدرت من قمر التي
وضعت يدها على فمها بعدم تصديق……فبرمت شهد شفتيها موجه الحديث لها…….
“امال انتي مفكره لما تحكيله هيعمل إيه….. هياخده
يصلي بيه في الجامع……..”
توترت قمر وهي تقف قائلة بتلعثم…..
“انا….. انا صدقيني ياشهد انا مش قصدي اوقع بينكم…… الكلام جاب بعضوا و…”
اوقف حمزة قمر وهو ينظر الى
اخته بحدة…..
“ملكيش دعوة بيها…. كلميني انا…. مين ده…..”
قفزت من مكانها منهية الجدال بالقسم….
“معرفش…. معرفش ياحمزة… والله ما أعرف……”
نظر لها حمزة لبرهة ثم اوما براسه بملامح تنذر
بالشر……..
“ماشي ياشهد انا هعرفه وساعتها يبقا يقول على نفسه يا رحمن يارحيم…….”
ابتعد عنهن خارجاً من الشقة….فلحقت به قمر
محاولة ايقافه…….
“حمزة….. حمزة……..” لم يلتفت لها وهبط على السلالم دون انتظار المصعد………
عادت مثقله بالهموم وهي تغلق الباب خلفها….. واستدارت الى شهد التي مزالت تقف مكانها
تنظر لشيءٍ وهمي والدموع تتجمع في مقلتيها…
فاقتربت قمر منها بتردد قائلة بحرج شديد…..
“شهد والله انا مقصدتش كل ده…. انا حكيت بحسن نيه معرفش انه دمه حامي اوي كده صدقيني حمزة
الوحيد اللي متمناش ليه الأذى……..”
نظرت لها شهد قليلاً ثم قالت بصوتٍ غريب…..
“قمر نصيحه مني….حمزة بذات مش كل حاجة ينفع
تتقال قدامه….لان زي مانتي شايفه واخد الدنيا بدراعه….وأيده سابقه عقله……..مش بيفكر….”
ثم اتجهت شهد الى غرفتها مغمغمة
بتعب…..
“ربنا يستر من اللي جاي……..انا بجد تعبت……”
ظلت قمر واقفه مكانها بملامح حزينة وعينين غائمة
بالحزن والوجع……..
اضناها الحب…
لم يكن ينقصها وجع….. فاتى الحب لـينهي المتبقي
من روحها………
بان تقع في حب رجلاً شقي ولا يراها أبداً وله
سقطةٍ في الهوى غير موفقة الخُطى ، فهو أمراً
يشعرها بتعاسة حظٍ لا تتمناه لألد اعدائها…….
……………………………………………………………..
يبدو ان الليلة المضنية وتبعاتها لن تنتهي أبداً…
فها هي تدور حول نفسها في الصالة الفارغة
المظلمة……بعد ان نامت شهد وتركتها لضميرها……
عقلها بدأ يخرف مؤلف كل النهايات البشعة عنه….
كل دقيقتين تقف في الشرفة تنظر من الأسفل
لعلها ترى سيارته اتيه……
لكن لا ترى شيءٍ إلا الظلام الدامس……..سينفجر
عقلها وقلبها معاً……رفعت رأسها للأعلى وكانها
تحدثه سراً بلغة المحب……..
الرحمة….
(كن رحيم بي ياحمزة……كن رحيم بقلبي وعود
سالماً……..فانا لن اسامح نفسي ان أصابك
مكروة……..)
وضعت يدها على صدرها وانسابت الدموع على خدها بقهر……مزالت تسأل قلبها بحيرة من أمره……
(لماذا وقعت في حب رجلاً شقي…..شقاءك هو
راحته…. ودموعك هي سعادته……ولوعتك هي بهجته…..واشتياقك هو مجافاته…….لماذا ؟!..)
مسحت دموعها ومزالت تنتظر بالشرفة ظهوره..
حتى اتى أخيراً واثلج قلبها برؤية سيارته…..
ابتسمت بسعادة وهي تمسح دموعها بظهر يداها….
ثم تركت الشرفة ودخلت بانتظاره كي تطمئن عليه
ويرتاح قلبها…….
بعد دقائق قليلة فتح حمزة الباب بالمفتاح ودلف
الى الشقة الشبه مظلمة الا مصباح الصالة والتي كانت تنتظر عندها قمر مرتديه عباءة بيتي وتطلق
شعرها المموج حراً على ظهرها……..
رفع حمزة عسليتاه الضارية بالبريق الاجرامي
الأخذ نحوها وتبدال النظرات قليلاً….حتى سالها
هو بجفاء…….
“اي اللي مصحيكي لحد دلوقتي…….”
كانت صفعة شديدة القوَ تلقاها قلبها بشجاعة
فهذا المتوقع منه………فسالته…..
“انت كنت فين كل ده…….”
اقترب منها ورد بغلاظة وهو يلقي سلسلة
المفاتيح على الطاولة جوارها……
“وانتي مالك…..بتاع اي تسأليني……..”
قالت بلوعة……. “انا خوفت عليك…….”
تافف حمزة بملل……
“وبتاع اي تخافي عليا…..شيفاني عيل صغير…”
تجمعت الدموع في مقلتيها فقالت
بصوتٍ مبحوح…….
“عندك حق….انا آسفه……انا هروح أنام…. ”
عندما ابتعدت قمر مطرقة الرأس بخزي شعر حمزة
بالحنق من نفسه…لكن عاد هذا الشعور يتبخر سريعاً عندما اختلى بنفسه في غرفته……فكان هناك أشياء أهم تستحق حنقه ومقته…
…………………………………………………………….
تقف منذ اذان الفجر تحضر الطعام في مطبخها المتواضع….. هذا المطبخ وكل ركن منه يعبر عنها هي……
هنا وضعت علب البهارات المحمصة….. هنا وضعت موقد الغاز….. وعلى الرخامة في هذا الركن المنعزل وضعت المايكرويف….. عَلاَقَة الاطباق هنا في متناول يديها… وعلى يمينها دولاب المطبخ يحتوي على اغراضها
كنزها الثمين….. اواني الطهي الرائعة ، ومقلاتها المفضلة……
هذا عالمها….
في هذا المكان تجد نفسها بين اعداد الأطعمة تجد
الجزء المفقود داخلها…..
هذا المطبخ البسيط والمؤسس بحرافية من تحت يدها رأى جوانب كثيرة في شخصيتها ومزال يرى…. هنا بكت… وهنا انهارت… هنا صبت غضبها لاعنه الجميع…. وهنا ضعفت وانهزمت……هنا عاشت الخزي…. والملامة…
والان وهنا تحديداً تروى جانباً نادراً داخلها
الحب…
عندما تحب…..ها هي تخبر عالمها انها قُدر عليها الهوى فقبلت بقدرها على مضض !….
من الفجر وهي تقف في المطبخ تتحرك هنا وهناك
تحضر له عدة اصناف صحية حتى تاخذها معها
إليه…..
لم تذق النوم منذ لليلة أمس……ظلت مستيقظه في غرفتها حتى أذان الفجر وقد اطمئنت على حمزة بعد رجوعه… وعندما نام الجميع أديت فريضة الفجر ثم انعزلت عن العالم في مطبخها الصغير…….
اخرجت تنهيدة طويلة بعد ان اغلقت الإناء…ها قد انهت اخر صنف في الطعام…….
“صباح الخير……”
كان تنحنح انثوي متردد مع تحية الصباح….
استدارت لها شهد بإبتسامة صافية تدعوها
للدخول……
“صباح النور…….مالك وقفه كده ليه تعالي…..”
تقدمت قمر منها بحياء…..
“انا قولت انك لسه زعلانه مني……”
نظرت لها شهد قليلاً ثم اخبرتها بجدية…..
“عذرك عندي انك لسه متعرفيش حمزة كويس..فانا
قولتلك اللي عندي بليل….وحتى لو كلامي طلع عليكي بعصبية فده كان غصب عني…اعصابي كانت
تعبانه امبارح……..”
بللت قمر شفتيها بحرج قائلة…..
“انتي كان عندك حق وقتها…..مكنش ينفع اعرفه بطريقة دي……الاحسن تيجي منك….بس والله انا مش قصدي خالص اوقع بينكم…….”
اوقفتها شهد منهية هذا الجدال بهدوء…..
“خلاص ياقمر الموضوع انتهى مش هنتجادل فيه كتير……وانا والله مش شيله منك….حصل خير….
وياريت متزعليش….امبارح مكنتش في احسن
حال……عشان كده اضايقت منك شوية…..”
هزت قمر رأسها…. “ولا يهمك انا اسـ…..”
اوقفتها شهد وهي تفتح غطاء
القِدر…..
“كفاية اعتذرات….وقوليلي اي رأيك…”
تفحصت قمر القدر بعيناها ثم قالت مبتسمة….
“انا داخله على الريحه أصلا بجد تسلم إيدك…بس الأكل ده تبع مين…”
“الأكل ده لعاصم……”قالتها شهد بعفوية فنظرة
لها قمر بتعجب وحاجب مرفوع…….فأحمر وجه
شهد قائلة بتردد…….
” زيارة مريض يعني…مش معقول هدخل بايدي فاضية…..”
لمعة عينا قمر بشقاوة متشدقة……
“آه…..طب كويس…..ابقي طمنينا بقا….ربنا يقومه
بسلامة….. ”
هزت شهد راسها وهي تبتعد عنها وتفتح المبرد وتخرج منه قنينة ماء….وهي تخبرها….
“يارب….صحيح….انا كلمت أحلام ومعندهاش مشكلة خالص تبدأي تنزلي الشغل معاها من بكرة لو حبيتي…خصوصا ان البنت اللي كانت وقفه معاها سابت المكتبة عشان هتتجوز……”
اتسعت عينا قمر بسعادة……
“بجد يا شهد….هي وفقت……”
اكدت شهد وهي تسكب القليل من الماء في
الكوب زجاجي……
“وفقت….بذات لما عرفت انك كنتي شغالة في مكتبه قبل كده……”
اتسعت إبتسامة قمر وكانها حصلت على الجائزة الذهبية…….
“الحمدلله….دا انا كنت هطق من القعده لوحدي….
انا مش عارفه اقولك إيه…. ”
التقطت شهد هذا الامتنان في صوتها فقالت
بمودة………
“متقوليش حاجة…..دي أقل حاجة اقدمهالك طالما
رافضه تاخدي مني فلوس……”
قالت قمر بنفي موضحة…….
“ياشهد الموضوع مش بس فلوس لا والله…الفكرة
بس اني مش واخده على القعده دي…خصوصا ان
كلكم ماشاءالله في شغلكم….وانا بقعد وشي في وش الحيطان….دا حتى خالي مردش عليا في حوار الورث
لحد دلوقتي….ومن آخر مشكلة حصلت بينكم وهو
بطل يجي…..ومعرفش حتى رقمه وعنوان بيته التاني…”
انزلت شهد الكوب عن فمها وهي تقول
بعتاب…..
“انتي مستعجلة على الورث ليه…..خلاص
زهقتي مننا……”
لمعة عينا قمر بالمحبة قائلة بتأثر……
“مش القصد والله…….انا حبيتكم اوي وحبيت القعده معاكم….خصوصاً اني كنت قبلكم وحيدة بس انا طولت اوي هنا…….”
وبختها شهد وهي تقترب منها…..
“اي الكلام الاهبل ده…. ان شاء الله تقعدي العمر كله
انتي قاعده فوق روسنا…..يابنتي دا بيت خالك يعني
بيتك….ليكي فيه زي مالينا تمام……..”
مسحت قمر دمعة فارة من عينيها….ثم نظرة لشهد
التي ربتت على كتفها بود متابعة……
“سيبي الأمور تمشي ببساطه….واصبري لحد ما تشوفي حوار ورثك هيرسا على إيه……حفظي
بس على الأوراق اللي معاكي…وياريت تكوني
ضمنه المحامي اللي ماسكها…….”
هتفت قمر بعفوية…..
“متقلقيش دا صاحب بابا من زمان….وهو بيراعي
ضميره اوي في شُغله…وواعدني انه هيساعدني…لو
خالي مرضاش يديني حقي…….”
عضت على شفتها في اخر جملة…وقالت
بحنق من نفسها…..
“انا بلبخ في الكلام….انا مش قصدي حاجة…..”
اوقفتها شهد قائلة بجدية تدعمها……
“ولا قصدك……انا اللي بنصحك وبقولك متسبيش
حقك….وحفظي على الأوراق اللي معاكي…..”
رمقتها قمر بتعجب…فمن تحثها على الوقوف امامه
ان راوغ معها هو في الاصل والدها !…..
“انا هروح اغير هدومي…….عشان هنزل علطول….”
قالتها شهد وهي توليها ظهرها….فقالت قمر من
خلفها بلؤم……
“مش بدري كده ياشهد…..”
استدارت لها شهد رامشه بأهدابها عدة مرات
وكانها تجمع افكارها……
“لا يعني……يدوبك…….اكيد صحي من النوم……”
هتفت قمر بمرواغه…….
“مكالمة تلفون برضو ممكن تعرفك اذا كان صحي
من النوم ولا لا……..”
نظرت شهد للأرض وقالت بعفوية….
“فكرت فيها…..بس خوفت التلفون ميكونش معاه…وحد تاني اللي يرد…….”
ضحكت قمر قائلة بتنهيدة
حارة…..
“يا سلام على الحب……عقبالي…. ”
عنفتها شهد بصرامة……
“حب إيه…قولتلك دي زيارة مريض…وواجب عليا…
كفاية اللي حصله من تحت راسي……”
هزت قمر رأسها عدة مرات وهي تتخصر قائلة
بلؤم…….
“ايوا ايوا طبعاً……..انا لو مكانك مسبهوش ابداً….
خصوصا انه حلو كده زي تبوع السيما ومطمع للكل…..خصوصا بقا الممرضات والدكاترة الحلوين اللي بيمروا في نبطشية بليل يطمنوا عليه…….”
رمشت شهد بأهدابها واستأنفت
بصدمة……”يطمنوا عليه ؟!….”
اكدت قمر بجدية شديد ترسخ أفكارها
الشيطانية في عقلها…….
“ايوا طبعا مش ده شغلهم… واوقات برضو لما بيلاقوا المريض لوحده…. بيفضلوا جمبه يونسوا وحدته…”
تمتمت شهد خلفها بعدم تصديق وقد اشتعل
صدرها فجأه…… “يونسوا وحدته ؟!……”
أكدت قمر بنظرة ثعبانية…..
“اه مش لسه بقولك حلو ومطمع للكل……”
لم تعقب شهد بل اتجهت الى غرفتها سريعاً…..
عندما غادرت شهد من أمامها ضحكت قمر
بخبث وهي على يقين ان القليل من الملح
يساعد في نضج الطعام……وأحياناً الحب ؟!….
……………………………………………………………..
بعد لحظات كانت تقف قمر في المطبخ تعد الفطور للجميع بعد مغادرة شهد……
فشعرت بمن يدخل الى المطبخ متنحنح بخشونة
قبل ان يفتح المبرد وياخد زجاجة ماء يشرب من فوهة مباشرةٍ…….
نظرت اليه جانباً بطرف عينيها وهي تعد البيض
فوجدته يقف حافِ القدم يرتدي بنطال بيتي فوقه فنالة بحمالات سوداء عليه سترة قماش مفتوحة باهمال……شعره مشعث….فوضوي بجنون…..
جعلها تبتسم عنوة عنها……فالاول مرة تراه مباشرة
عند الاستيقاظ……رغم حنقها الشديد منه مزال هناك جزاءا يتمرد عليها ويذهب إليه دون إشارة مسبقة…..
سارت عيناها عليه مجدداً في الخفاء….فكان يضج بالعنفوان والقوة….بشرته السمراء المتشربة من اشاعة الشمس مع لحيته المشذبة السوداء وهذا الشعر الأسود الناعم الفوضوي مزيج رائع يجذبها….
فهو يحمل كل سيمات الوسامة المطلقة…..
ام عيناه…..تلك قصة أخرى تحتاج لقصائد من الغزل…….لم تكن من مغرمات بالعيون الملونه
خصوصا على الرجال فهي تراها تليق بالنساء
فقط..
لكن عندما وقعت عيناها على عسليتاه القاتمة…تلك
التي تحمل اشتعال رغم هدوء صاحبها…..تحمل الخطر رغم سلام صاحبها…….تحمل بريق الاجرام
رغم براءة صاحبها…….
عيناه كانت ولا زالت لغز يُحيرها….فالعيون كالستار
تكشف دواخلنا إلا عيناه كانت هي ألغز بعينه…..
ورغم ذلك سأنطقها وانا بكامل قواي العقلية…
(انت أوسم واخطر رجلا رأته عيناي ….)
همس بها قلبها سراً…….
ثم عادت للمقلاة بعيون هائمة فوجدت البيض احترق…..
اللعنة !!….
جزت على اسنانها وهي تتعجل في رفع المقلاة عن النار فقد تفحم البيض حرفياً دون ان تدري…..
فأثناء ذلك لسعة يدها بالخطأ….فالقت المقلاة جانباً
بقوة فانكسرت يد المقلاة سريعاً……..
فاتسعت عينا قمر بعدم تصديق….ماهذه
الكوارث المفجعة
هتف حمزة من خلفها ببرود والذي كان يتابع مايحدث وهو يقضم قطعة من الخيارة
التي في يده…….
“خليكي عارفه ان الطاسة اللي كسرتي ايدها دي
هتخليكي انتي وشهد تتقبلوا في المسامح كريم…”
سبته بكلمةٍ بذيئة لأول مرة تعرف طريق
لسانها….فاضاف هو بسماجة….
“دي من ضمن طقم الطاسات اللي بتحب تطبخ فيه……”
لم ترد عليه قمر بل فتحت الصنبور الماء البارد على اصبعها المصاب وهي تتافف متأوه بغيظ…..
فكل هذا بسبب الجلف عديم الإحساس…
الشيء الوحيد الذي انتبه له المقلاة المفضلة لاخته
وماذا عن يدها التي اصابة بسبب المقلاة….
حقير…….
اقترب حمزة منها عندما وجدها تتألم وهي تفرك بيدها بحنق……فسالها…..
“انتي اتلسعتي…..”
تقوس فمها هاكمة…….
“هكون رمتها كده ليه عشان اتلسعت وانا مسكاها…”
نظر حمزة ليدها تحت الماء ثم قال
برفق…..
“حصل خير…….هجبلك كريم للحروق……..”
ذهب امام عيناها الحانقة ثم عاد بعد لحظات….
واشار لها بيده كي تتقدم ففعلت بغيظ….ووقفت
امامه فقال وهو يفتح غطاء الدهان….
“هاتي إيدك…….”
مدت له كفها بحرج…..فنظر اليه بهدوء فكانت يدها بيضاء باصابع نحيلة طويلة ملتفه بجمالاً واظافر طويلة بيضاء………..
“اتلسعتي فين…….”
سالها حمزة بهدوء…..فاشارة على بقعة حمراء بداخل
كفها……
فاخذ القليل من الدهان ووضعه عليها ومرر اصابعه
فوقها بحنان……….
فبلعت قمر ريقها وقلبها جن بين ضلوعها….فاسبلت اهدابها بحياء وهناك رجفة دافئة تخترق جسدها
بعد تلك المسة البسيطه منه…….
رماها بتعليق لاذع وهو يتركها متجهاً الى
الصنبور لغسل يداه……
“طالما ملكيش في المطبخ…..داخله ليه…..”
زمت شفتيها منزعجة من هذه الغلاظة……
“مين قال اني مليش في المطبخ….انا بعرف اطبخ كويس اوي على فكرة…….”
التوى ثغرة في ابتسامة ساخطه……
“اه….ماهو واضح……..بامارة البيض المحروق..”
“رخم…..”غمغمت بها بانفاس متهدجة……
فقال حمزة وهو ينظر اليها…..
“سيبك من البيض المحروق واعمليلي قهوة…عشان
نازل…….”
قالت قمر بلهجة دافئه المعاني…..
“قهوة على الريق….مش هتفطر…….يعني بعيداً عن البيض اللي اتحرق… انا عملت فطار كويس على فكرة……لينا كلنا……..”
امتنع حمزة بتساؤل……
“مليش نفس..هي شهد راحت المطعم مش كده..”
اجابة بهدوء….. “اه راحت…….”
ضاقت عيناه سائلاً……. “وكيان…….”
اجابة بفتور…. “لا لسه هنا…..نايمه… ”
ثم استردت حديثها برجاء…..
“انا هحضر القهوة……بس اشربها بعد الفطار…..وانا هروح اصحي كيان تفطر معانا…….”
عندما اخذت خطوتين اوقفها حمزة منادياً… “قمر……..”
خفقة مؤلمه اصابة هذا القلب البأس….فوقفت
تنتظر باقي الحديث الذي اتى بنبرة اعتذار
تتناقض مع شخصه……
“إمبارح انا كنت ناشف اوي في الرد عليكي…
بس انا..”
بترت الجملة فهي مزالت تخفي أوجاع الليلة الماضية وجفاؤه حينها ، والذي كان أشبه بلدغة سامة تلقتها….
“حصل خير انا نسيت كل حاجة….هروح اصحي كيان…. ”
بعد فترة ليست بقليلة خرجت من غرفة كيان
قائلة بملل……
“بتقول مش عايزه تفطر……”
ثم تخذت مقعداً امام السفرة الموضوع عليها الفطور التي اعدته لهم…….نظر حمزة لساعة الحائط بأستغراب…..
“المفروض تكون راحت المكتب من بدري…..”
ردت قمر بهدوء……
“جايز معندهاش شغل النهاردة……”
“يبقا احسن وفرت عليا المشوار….يدوبك الحق أروح
الموقف احجز دوري…….”
لم تعقب قمر مزالت ترى انه يستحق عمل أفضل من هذا…..
بدأت تراقبه من أسفل اهدابها الكثيفة….. فرفعت
حاجبها عندما انتبهت انه يستعمل يده اليسرى
في الطعام بدلا من اليمنى……
انه أعسر…..
عقبت سريعاً بابتسامة شغوفة….
“انت اشول ليه بتاكل بايدك الشمال……”
وضع اللقمة في فمه قائلاً
ببرود… “تعود…..”
قالت وهي تغمس اللقمة في
الجبن….
“بس بيقولوا حرام……..”
اجابها بهدوء….
“مش حرام هي غير مستحبه…….”
مطت شفتيها بعدم رضا…..
“ربنا يجعلنا من اهل اليمين……”
ابتسم حمزة وهو يشاكسها بعيناه الجميلة…..
“تعرفي الناس اللي بتشتغل بايدها الشمال اكتر
من اليمين….ناس دماغها عالية…….”
تغضنت زاوية شفتيها ببلادة….. “ياسلام……”
اكد وهو يمضغ الطعام مشير على نفسه
بزهوٍ….
“انا اهوه مثال حي قدامك……”
هزت راسها ضاحكة فجأه برنة انثوية
فاتنه….
“انا هموت واعرف انت جايب الثقه دي كلها منين…”
ابتسم لأجل ضحكتها وغمز
بشقاوة…..
“بس عجباكي متكدبيش…….”
انتفض قلبها وهي تلوي شفتيها بانكار….
“مفيش حاجه فيك عجباني…..متحلمش……”
ضحك ضحكة باردة المعاني وهو ينظر للطعام قائلاً…. “متقلقيش انا بطلت أحلم من زمان…….”
تلاشت ضحكاتها بتدريج وهي تنظر الى صمته والخطوط المؤلمة التي برزة في زاوية عيناه
وكانه يحارب نفسه الآن………
فعقبت هي دون ان تمنع نفسها عن هذا السؤال المؤكد……
“بطلت تحلم عشانها صح؟!…….”
رفع حمزة عيناه جافلاً….. “مين دي؟……”
اتى صوت كيان من خلفهما وهي تمط ذراعيها
للأعلى بكسل……
“صباح الخير…….”
أسبلت قمر جفنيها وهي تلعن غباءها وهذا السؤال المتهور………
فمال حمزة بوجهه نحو اخته
قائلاً….
“صباح النور……تعالي افطري…..”
اقتربت منهم كيان واخذت مقعد جوار
اخيها….
“مليش نفس……هي فين شهد…….”
رد حمزة عندما وجد قمر صامته……
“نزلت المطعم……انا صحيت ملقتهاش….”
ارجعت كيان خصلة من شعرها وهي تساله
بتذكر…….
“انتوا كنتوا بتزعقوا ليه إمبارح…….”
ضاقت عينا حمزة ساخراً…..
“يعني كنتي سمعانه وكملتي نوم عادي…..”
ابتسمت بحرج……
“كسلت أقوم….هو في حاجة حصلت في الفرح…”
اخذ حمزة اخر رشفة من قهوته
قائلاً…..
“في حاجات……. قمر تحكيلك….”
عندما نهض من مكانه….
اوقفته كيان……
“انت نازل الشغل ولا إيه…….”
استدار حمزة لها قائلاً……
“آه…. لو نازله المكتب هستناكي…. هاخدك على طريقي…….”
هزت كيان راسها مصرحة بقرارها الأخير والتي وصلت اليه بعد سهرة طويلة مضنية بالوجع….
“لا لا انا مش رايحه المكتب ده تاني……”
انعقد حاجبي حمزة وهو يعود اليها ساندا بكفيه
على ظهر المقعد…..
“ليه بقا اي اللي حصل….هو المحامي اللي شغاله معاه عملك حاجة…”
نفت كيان سريعاً موضحة……
“دماغك متروحش لبعيد….انا بس جالي شغل في مكان تاني مع ناس صحابي من أيام الجامعة……”
سألها بإهتمام……. “شغل إيه…..”
قالت كيان بسلاسة…..
“مكتب محاماة برضو بس اكبر واحسن….لدكتور جامعي كان بيدرس ليا ايام الكلية اسمه خليل الصواح……”
سالها بنظرة جادة…… “وانتي هتروحي…….”
قالت كيان مبتسمة…..
“مانا بعرفك اهوه ياميزو اني ناوية أروح……”
امرها حمزة بخشونة…..
“اديني عنوان المكتب الأول اسأل عن الدكتور ده…”
فلتت منها ضحكة زاهلة وهي تنظر الى
اخيها….
“ياحمزة انت هتعمل زي ما عملت مع سليم الجندي…
طب سليم عشان شاب في التلاتين وكان عندك حق تقلق شويه من شغلي معاه…..بس خليل ده…دا قد
أبونا دا أكيد عنده احفاد……”
أكد حمزة بمروءة وعيناه طارت الى قمر التي
تجلس متحفظة الملامح تتابعهما بصمت……
“ومالوا اطمن برضو….وبعدين انا وفقت على شغلك مع اللي اسمه سليم ده لم عرفت انه خاطب والناس بتشكر في أخلاقه وان بيراعي ربنا في شغله……”
ابتسمت كيان ساخرة……
“وحتى لو مش خاطب هو هيبصلي انا يعني….”
رد حمزة بغيرة…..
“ومين قالك اني عايزة يبصلك….انتي الوحيدة اللي مش هفرط فيكي بساهل……”
وكانه سحبها من دوامة احزانها فضحكت بقوة
قائلة بمرح……..
“ياسلام ياميزو……وفرض اتجوزت بقا….”
“مش هتجوز متقلقيش….”قالها حمزة وهو يستقيم
واقفاً…….ثم أخبرها وهو يستدير مغادراً…….
“ابقي ابعتيلي عنوان المكتب في رسالة…. سلام…”
راقبت قمر ابتعاده عن دائرة عيناها بملامح
مكتئبة…..
فلكزتها كيان في كتفها سائلة بفضول……
“قمر…… هو اي اللي حصل في الفرح إمبارح…”
……………………………………………………………..
“حرما ياجدتي…….”
قالها عاصم بعد ان انهت الجدة نصرة صلاة الشروق
فاقتربت نصرة منه بمقعدها المتحرك….وبدأت
تحرك السبحة بين اصابعها بشكلا رتيب قائلة……
“جمعا ان شاء الله ياحبيبي…..”
ثم استردت حديثها باهتمام….
“هتفطر اي بقا…. لازم تفطر عشان تاخد علاجك…
هما شوية وهيجيبوا الأكل……”
انكمشت ملامح عاصم
رافضاً….
“بلاش اكل المستشفيات…..”
سالته نصرة بتعجب……
“مقلق من إيه يابني… دا المستشفى ماشاءالله شكلها نضيف ولي شغلين فيها كمان……”
نظرة نصرة لزوايا الغرفة المقمين بها والتي كانت تشع اناقة ونظافه تريح النفس خصوصاً هذه النافذة الانيقة المطلة على الحديقة بالاسفل والتي منها تدخل شعاع الشمس والنسيم الرطب….
امتنع عاصم قائلاً وهو يمسك
هاتفه…..
“انا أصلا مليش نفس……”
سالته نصرة مستنكرة….. “وعلاجك يابني……”
“السلام عليكم…….”
طرق بسيط على الباب يليه صوت انثوي مقتحم الغرفة هذا الاقتحام الراقي المشع بالاهتمام يشبه
زيارات الملكات للمرضى في العصور القديمة !…….
وهي كانت واحدة منهن…..
رفع عيناه غير مصدق انها اتت كما اخبرته وفي الصباح الباكر ايضاً……
إبتسمت شهد لهما مرحبة وهي تترك الاكياس على الطاولة جانباً وتتجه الى الجدة نصرة تسلم عليها
بحرارة…….
“أهلا ياحاجه نصرة…….وحشاني جداً…..”
قبلتها شهد وعانقتها بحرارة ملموسة جعلت قلب نصرة يلين لها وهي تبادلها السلام بشوق أكبر…
“وانتي أكتر…. عامله اي ياشهد……..فين من آخر
مرة شوفتك فيها….هو اللي بينا شغل بس….
اخص عليكي…”
استقامت شهد وهي تقول بابتسامة صافية….
“معلش انا عارفه اني مأثره في السؤال بس الفترة
دي كانت صعبة شوية…….”
قالت نصرة بمودة…..
“ربنا يريحلك بالك يابنتي……”
قالت شهد بحرج…..
“يارب………. الف سلامة على عاصم……..”
ردت الجدة وهي تنظر الى حفيدة بوله
الأم…….
“الله يسلمك يابنتي…. ربنا يحميه لشبابه…ومشوفش فيه حاجة وحشة……اهيه جت سليمة…..”
“الحمدلله……”
قالتها شهد وهي ترفع عسليتاها عليه فوجدته جالساً
على الفراش مرتدي كنزة سوداء بنصف كم… كان
ينظر لها كذلك لكن بنظرة تربكها جداً…تلك النظرة التي دوماً تشعرها بأنها أجمل نساء العالم………
ويالها من نظرة عندما تكون من رجلا مثله…
“عامل اي النهاردة…… كويس…….”
رد بهدوء وعيناه تأسر الشهد….
“الحمدلله…….. ليه جايه بدري كده……”
بللت شفتيها بحياء وهي تنظر الى نصرة ثم
إليه……
“كنت قريبه من هنا وقولت ابص عليك….”
أومأ براسه بملامح واجمه… فمزال الغضب يموج
بينهما رافض الخنوع……
عندما حل الصمت وظلت النظرات بينهما متبادلة سألت الجدة نصرة برفق…
“اي الاكياس اللي انتي جيباها دي ياشهد…..”
توترت قليلاً وهي تجيب
بحرج…
“دا اكل….. جيباه لعاصم…..”
انعبث هذا الدفء داخله فجأة….فظلت عيناه
معلقه بها بقوة تأبى تركها وكانها الحياة…….
نظرة الجدة لحفيدها بلؤم ثم عادت لشهد
مدعية الاسى……
“لعاصم……بس دا لسه قايل انه مش عايز ياكل….”
لاح الاحباط على وجه شهد وهي تنظر الى عاصم
ثم للاكياس……
“بجد….. دا انا بحضر في الاكل من الفجر…..”
كثر الدفء حتى أصبح شعاع متوهجاً داخله يبعث نشوة ليس لها مثيل…… فقال بصوتٍ عميق….
“طيب مش هتدوقيني……”
اتسعت عينا شهد وفغرت شفتيها….
“ها….”
لانت زاوية عيناه أكثر قائلاً بمرح…..
“جعان يا شـهـد…ولا الأكل دا ناويه تروحي بيه..”
هزت راسها بعفوية وهي تتجه
الى الطاولة……
“لا طبعاً انا عملاه عشانك…….”
ثم بدأت تفرغ العلب وهي تقول
للجدة…..
“تحبي اجبلك حاجة تاكليها ياحاجه…..”
“لا يا حبيبتي…. انا صايمة…….”ثم نظرة الى حفيدها
قائلة بابتسامة لئيمه…….
“عاصم انا برا شوية ورجعه…..”
سالها عاصم مقطبا جبينه….. “راحه فين…..”
قالت بهدوء وهي تتجه الى الباب بمقعدها المتحرك…. “هعمل مكالمة برا……”
اخذت شهد علبةٍ من الطعام واتجهت بها اليه…كانت
ترتدي ثوب أبيض تتناثر عليه ورود من اللون البني
ضيق قليلاً على خصرها النحيل و ينزل باتساع بسيط حتى اخر كاحلها……ترفع شعرها الأسود على شكل. ذيل حصان……والغرة الناعمة تغطي الجبهة الناصعة والملامح تزداد جمالاً رغم الحزن الساكن
بها…
وجدها تتخذ مقعداً جواره وتفتح علبة الطعام
فلم يمنع نفسه من تأملها عن كثب وقلبه يقص
عليها سراً……
قصة شعرك رائعة…..احبها بشدة كما احب كهرمان عيناكِ حين يضوي بحماسية كم اراكِ الآن وانتِ تتقدمِ مني بعلبة من طعام يفترض ان ينفر
الانسان من الاكلات الصحية خصوصاً الخضراوات
المسلوقة لكن هيهات معكِ انتِ الوضع مختلف
اتعرفين ياسيدة الحُسن ان رائحة خضرواتك المسلوقه فتحت شهيتي على الأكل….
هل لكِ مكون سري لا يطلع أحد عليه سواكِ…
ام انكِ تقومِ بقراءة تعويذة اثناء تحضيرة
ما سرك انتِ وطعامك البسيط تحدثا بلبلة غير
طبيعية داخلي……..
ماسرك ياشـهـد كي اتوخى الحذر منكِ…….
“اتفضل……..”
افاق من شروده بها الى يدها الممدودة بعلبة الطعام
ذات الرائحة والشكل الشهي…….
رفع يده في حركة مفاجأه جعلت الجرح يشتد الماً
عليه انتفضت شهد بقلق وهي تقول برفق…..
“بلاش تتحرك….طالما الجرح لسه شادد عليك….”
بللت شفتيها وهي تبتلع ريقها بصعوبة….
“انا هأكلك…….”
اسبلت جفنيها الى العلبة بين يدها…..فابتسم هو منتشياً فقد أستهدف مشاعرها الرقيقة بجسارة……
الأمر اخذ اكثر من دقيقة حتى لملمت شتاتها واستجمع عقلها القوة الكافية مسيطراً على
مؤاشرت قلبها الولهان في حضور سيده….
رفعت المعلقة اليه وهي تقترب اكثر منه… ففتح
فمه والتقط أول معلقة من يدها… من علبة خضروات
مسلوق اشتهاها من رائحتها فمابالك بالطعم….
لها نصيب من اسمها فيما تعد يداها ويتمنى بشدة
ان تأخذ حياتها من اسمها نصيباً لتحيا بسعادة
وتتذوق الشهد دون اية مرارة لاذعة……
“تسلم إيدك…….” قالها عاصم وعيناه لا تبرح عيناها
فقالت بابتسامة تقطر عسل…….
“بجد عجبك…….”
اكد بنظرة حانية…… “أوي……”
قالت بوجنتين حمراوان….. “بالف هنا……”
صمت قليلاً واعطتها معلقة أخرى فكانت ألذ من السابقة……هل يبالغ….ام هناك شيءٍ خطير في هذا
الطعام وصاحبته !……
“اي سرك……”قالها عندما ضاعت كل حواسه معها
ومع طعامها….
لم تتبع أسلوب المراوغه معه بل ردت
بابتسامة حزينة……..
“لو عرفته مش هيكون سر…..”
تافف عاصم بحنق شديد مصرحاً بتعب……
“انا مش فاهمك… مرة تقربي ومرة تبعدي…. مبقتش فاهم……. انتي عايزه إيه…….”
اتى صوتها بلهجة أشد عذابٍ منه…..
“انا كمان مش فاهمه انا عايزة إيه….. كل اللي بفكر فيه دلوقتي اني افضل جمبك لحد ما تقوم بسلامة..”
ضاقت عيناه متهكماً……
“وبعدين…..هتبعدي……انتي شيفاني صغير على اللعب ده……”
لم ترد فالتزمت الصمت بخجل فقال هو معنفاً
إياها…….
“انا لسه مش قادر اسامحك على اللي عملتيه… وانا
في بيتكم……”
رفعت عيناها الحزينة اليه…….
“حتى انا مش قادرة اسامح نفسي… بس كان غصب
عني…….”
تمعن في النطر اليها سائلاً
بحيرة….
“وانا عايز افهم ليه غصب عنك……”
انحنت زاويتين فمها بانكسار حزين…..
“هتفهم ايه…. في حاجات مينفعش تتقال…”
سالها بحيرة….. “زي إيه…….”
رفضت البوح بملامح شجيه…..
“عاصم ارجوك متضغطش عليا….. قولتلك مش
هينفع……”
هتف بوجوم…..
“وطالما هو مش هينفع ليه بتقربي مني من تاني…شفقه مثلاً……..”
رفعت وجهها مشدوهة…..
“شفقة؟!……اي التفكير ده…..”
لوى شفتيه بقسوة….
“السؤال ده اساليه لنفسك مش ليه……”
قالت بعينين راجيها ولهجة متوسلة تستهدف
قلبه……..
“ممكن نأجل اي حاجة مزعلاك مني اليومين دول
بس…بلاش تكسر بخاطري……”
تقوس فمه بسخرية مريرة……
“خاطرك؟!……بلاش تتكلمي عن كسر الخواطر…دانتي
استاذة في ده…….”
انحنى كتفيها بانهزام….فوجدته يسحب العلبة
من يدها بقوة قائلاً بضجر….
“هاتي انا بعرف اكل لوحدي….مستغني عن خدماتك…..”
رفعت شهد حاجبيها وهي تنظر اليه…..
“ماشاءالله…ما انت رفعت ايدك عادي اهوه…امال
ليه من شويه كنت………”
“السلام عليكم……”قاطعها صوت الممرضة التي القت
التحية وهي تدلف بصنية عليها فطور المشفى…..
وعندما انتبهت الممرضة للعلبة التي بين يداه
قالت بعتاب……
“اي ده يامعلم عاصم معقول كلت…دا انا عملالك الأكل بنفسي….دا اكل المستشفى حلو اوي وهيعجبك……”
تدخلت شهد في الحوار باسلوب جاف…..
“بس هو كل الحمدلله……تقدري ترجعي الأكل مكانه
يستفاد بيه حد جعان….. ”
توجسة الممرضة من هذا الهجوم
الغريب….فقالت بتردد….
“اه طبعاً….. ومالوا…….زي ماتحبوا…. ”
ثم اقتربت الممرضة من فراش عاصم تتنحنح
بحرج قائلة…..
“طبعاً يامعلم عاصم انت فاكرني…انا إجلال
اللي مرت عليك في نبطشية بليل….وكلمتك عن السلسلة المكسورة…. السلسلة اللي اشترتها من
محل الصاغه عندك من سنة……”
ضيقت شهد عيناها وهي تنهض من مكانها مراقبه الوضع بشكلاً اوضح من الإمام…..
ليلاً مرت عليه وتحدثا ؟!…..هذا يعني ان قمر كانت
محقة…….
غل الدماء في عروقها….واشتدت اعصابها بشكلاً
مبالغ وهي تراقب بصمت ما يحدث…….
فرد عاصم عليها بابتسامة اظهرت صف اسنانه
الأبيض……..
“اه فكرك يا إجلال…وقولتلك امبارح لو معاكي السلسلة هاتيها وانا اصلحهالك……”
سلسال ايضاً….يبدو ان الحديث كان طويلاً…ربما
تبدالا الهموم معاً……..
اخرجت المدعوة إجلال من جيب معطفها الأبيض
السلسال الذهبي وقالت بهدوء……
“آه جبتها اهيه…..ودتها قبل كده لواحد صايغ قالي ربنا يعوض عليكي ملهاش تصليحه وعرض عليه يشتريها….بس السلسلة دي غاليه عليا أوي….كانت أول حاجة اشتريها من أول مرتب شهري ليا في المستشفى هنا فمش قادرة افرط فيها بصراحه…..”
نظر عاصم بدقة الى السلسال والكسر به
فقال بعد لحظات…….
“سهله هي هتاخد وقت بس هتتصلح ان شاء الله..”
ابتسمت إجلال مبتهجة……..
“بجد……طب الحمدلله….انا قولت برضو محدش هيعملها غير المعلم عاصم….صحيح ادي العيش لخبازة……..”
بادلها عاصم الابتسامه قائلاً…….
“تمام يا إجلال……هاتي رقمك عشان اول ما اصلحها
اتصل بيكي تيجي تاخديها من محل الصاغه….”
لجمت شهد متسمرة مكانها رافعة حاجبٍ واحد
وهي تراقبهما بوجهٍ محتقن ……
لتجد إجلال تقول بحرارة…..
“اه طبعاً ومالوا اكتب عندك ٠١…….”
فسجل عاصم الرقم وعلى محياه ابتسامة
جذابة يخصها بالإناث جميعاً…فنفسها تماما
كانت لتلك المرأه التي كانت تقف معه في
الحفل مساءاً…….
دعت الممرضة له بامتنان قبل ان تغادر…..
“كتر خيرك يامعلم عاصم….والف الف سلامة
عليك….ربنا يكفيك شر الطريق وشر ولاد الحرام ….عن إذنكم…… ”
عندما خرجت واغلقت الباب خلفها عقبت
شهد بذلك الحاجب المرفوع……
“رقمها ؟!…..”
تمعن عاصم بنظر اليها في وقفتها البعيدة مكتفة
الايدي امام صدرها… وها هي اذنيها وانفها يزداداً احمراراً عند الغضب…….فاستفسر بمناورة…..
“في حاجة…..مالك مناخيرك وودنك محمرين كدا ليه………”
جزت على اسنانها بغضب هائل وهي تشعر انها ستنفجر……..فاستدارت هاربه……..
“لا أبداً شويه ورجعه……..”
ناداها عاصم وهي تغلق الباب بعد
خروجها….. “شــهــد……..”
ضحك منتشياً وهو يضرب كفيه بتعجب…..
“مجنونة…….ماحنا بنعرف نغيير اهوه….امال منشفه ريقي ليه….نفسي افهمك…….”
ارجع راسه للخلف ناظراً للسقف بحيرة……
زمت شفتيها منزعجة وهي تسير في الممر على غير
هدى…..مادخلها فاليضحك ويأخذ ارقام النساء
أيضاً….
ما شأنها…..ألم تنهي القصة منذ أيام واتخذت عهد على نفسها بانها لن تقترب منه مجددا…….
ماذا يحدث انها تغرق… تغرق في حب هذا المخلوق
هذا الرجل يلعب على أوتار مشاعرها….يضعف مقاومتها وينسيها عهودها…….
معه تحترق حبٍ ، وشوقٍ ، وغيرةٍ ، تضارب في المشاعر ليس لهُ مثيل يغلبها الحب وينتصر…
فتقع هي في كنفه منهزمة برضا…….
اغمضت عينيها وهي تعود ادراجها إليه…فحتى البعد عنه يصيبها بالجنون….ماذا ان دخلت أمرأه أخرى اليه
هل سيوزع رقم هاتفه على المشفى بأكملها ؟!…..
فتحت الباب دون استئذان على غير عادتها ربما
ارادت ان تمسكه متلبساً……
فوجدت الطبيب في غرفته يملي عليه بعد
التعليمات الطبية…..
وعندما فتحت الباب بهذا الشكل الغير آدمي بالمرة نظر اليها الطبيب بتعجب سائلاً بتلقائية…..
“افندم مين حضرتك……..”
نظرة شهد الى عاصم منتظرة تدخله في الرد….لكنها تفاجئت به يرفع راسه للأعلى متكبر عن التعريف عنها… منتظر ان تبادر هي بصفتها ……
عندما اتى الجواب في عقلها ابتسمت بوداعه
وكهرمانها كان يضوي بجنون…..
“انا أخته……”
فغر عاصم شفتيه واتسعت عيناه عندما وجدها
تغلق الباب وتقترب منهم قائلة ببراءة……
“طمني عليه يادكتور اخويا عامل ايه دلوقتي…”
“اخوكي…..” تشدق عاصم بها بوجه ممتقع….
ثم نظر الى الطبيب قائلاً بابتسامة باردة….
“معلش يادكتور…. اصل مراتي دمها خفيف….”
جفلت شهد والصفة الذي اطلقها بينهما جعلت
قلبها يخلتج بين اضلعها…..بينما هناك شيء
دافئ احتواها فجأه…..ففغرت شفتيها وأخذت
وضعية الصدمة بدلاً منه…….
وزع الطبيب نظراته عليهما بريبة….
لكن على اي حال ابتسم مرحباً بشهد دون
سلام….
“مراتك….تمام……. تشرفنا يامدام……”
امتزج حنقها مع خجلها
معترضة بشدة….
“انسه…….آنسه لو سمحت…….”
نظر الطبيب بتلقائية لعاصم….الذي حك في لحيته
بحرج مصرحاً……”كاتبين كتابنا…….”
اوما الطبيب بتفهم وهو ينوي المغادرة
قائلاً……..
“اه تشرفنا…..زي ماقولتك ياعاصم….. والف
سلامة عليك……”
عندما غادر الطبيب تشدقت شهد بحرج صارخ
والانزعاج مرسوم على محياها……
“مراتك ؟!……”
اوقفها عاصم باصبعه محذراً……
“ولا كلمة انتي اللي بدأتي استحملي بقا…..”
اقتربت منه بخطوات متشجنة….
“انت….. انت…….انت.. ”
اوقفها عاصم بابتسامة
رائعة……
“كان شكلك حلو وانتي غيرانه…..”
زمت شفتيها وهي تهز راسها
باستنكار…..
“مين قالك اني كنت غيرانه منها……”
رد بزهوٍ….. “مش منها…. عليا…..”
كانت بالقرب من الفراش وهي تهز راسها
بنفي……..
“يسلام على الثقة…… غلط…..”
أكد بحرارة…… “صح…..”
هزت راسها بعناد….. “غلط……”
“قولي انه صح……” سحبها فجأه من ذراعها
فمالت عليه وأصبحت وجوههما متقاربه من بعضها
وانفاسهما الدافئة تمتزج مع نسيم الهواء…….
رمشت بعيناها عدت مرات بتوتر بينما هو
يطوف في فضاء عيناها هامساً بصوتٍ أجش
عميق أذأب فؤادها…..
“شــهــد……انا معرفش اي هو السر اللي بيبعدك عني…بس دلوقتي عرفت السر اللي خلاكي ترجعي تقربي من تاني…”
عند هذا الحد من القرب والهمسات اغمضت عيناها بضعف بمشاعر متناغمة على أوتار كلماته وكانه يعزف مقطوعة شاعرية على اذانها……..
عندما اغمضت عيناها ذاب هو أيضاً في جمالها
فالصمت في حرم الجمال حمالاً فعلاً وهي في
صمتها وضعفها أمام الحب أجمل نساء العالم
في عيناه…….
مسك يدها بين يداه ورفعها الى فمه…وطبع قبلة
حانية طويلة ينبعث الدفء والحب من خلالها…
فتحت عيناها وهمست بخجل…..
“عـاصـم…….”
عاد يقبل يدها مجدداً برقة أذأبت مفاصل
يدها….هامساً وعيناه تأسرها بشوق العالم…..
متفاخرة……
لكن لم تدوم الابتسامات على محياهن فقد سقطت
سريعاً عندما وجداهما بهذا الوضع…..
بالقرب من بعضهما بشكلاً عاطفياً وعاصم يمسك يدها ويقبلها……..
اتسعت عينا رفيدة واندلع الحقد والغضب بداخلها…
عاماً مرا على زواجهما لم يفعلها يوماً…..لم يقبل
يدها لم ينظر اليها بهذا الحب…..
ماذا فعلت هذه الطباحة لتنال ما لم تناله هي من
قلب عاصم الصاوي !…..

متنساش ان الرواية موجودة كاملة في قناة التلجرام والواتساب

للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا

كان الجو مشحون بالغرفة وبد تبادل النظرات بين الشقيقتين نحوها اكثر صفاقة وشرٍ……
لكنها كانت هادئة لطالما كانت تجيد اخفاء ما يعتمل
في صدرها من مشاعر ناقمة تخص تلك المرأه الشقراء وربما شقيقتها كذلك فأصبح هناك شعور جديد يموج في حلقها كمرارة العلقم
الغيرة…..
هي شخصٍ رصين حتى في غيرته… لا تحبذ الانهيار
بهذه السهولة…..دوماً كان الانهيار ياتي عندما يفيض
الكيل بها…….
لكن كتمان الغيرة اشبه بجذوة ملتهبة بين قبضة
اليد مجبر على تحمل الوجع الناتج عنها كما
مجبر على الاحتفاظ بها هكذآ حتى تخمد !….
اقتربت رُفيدة من فراش عاصم امام عينا شهد
الهادئة والتي تنحت جانباً تراقب وقد تلى دخول الشقيقتين دخول الجدة نصرة التي رحبت بهما
بفتور ثم ظلت جوار شهد في مقعدها………
همست رُفيدة بصوتٍ مصبوغ بالحزن….
“الف سلامة عليك ياحبيبي….. خضتني عليك…..”
حبيبي؟!
لفظتها داخلها والجذوة تزداد توهجٍ والماً…. لكن الوجه الرصين والعينين الهادئة ظلا كما هما…
بانتظار الخطوة القادمة……
مالت رُفيدة عليه تحاول تقبيل وجنته وهي تمسح
دموعها لكن نظرة من عيناه المظلمة منعت الأمر
وكذلك إبعاد راسه عنها كان إشارة أنذار بان تلتزم حدودها….
فانتصبت واقفه اكثر وهي تنظر الى الجميع ثم لاختها تطلبها المشورة……فالهام ابتسمت بشفتيها
المصبوغة وقالت بلؤم……
“اعذرها ياعاصم من خوفها عليك…..اللي كان بينكم مكنش قليل ولا يتنسي بسهولة…….كفاية ابنكم
اللي متكتبلوش يشوف النور….انا واثقه انه لو كان
موجود مكنش قبل خالص يشوف امه وابوه بُعاد
عن بعض كده…….دا حـ……”
بترت نصرة الحديث بحزم……
“الهام……..ده مش وقته ولا مكانه……”
انطفأت ملامح شهد سريعاً وانقبض قلبها وهي
تنظر الى عاصم الذي بادلها النظرة بصمتٍ مبهم
يبدو انني لا أملك سواء سرٍ واحد وهو عقدة
الطفولة التي أدت لوكِف عمرٍ بأكمله…….
ام انت ففي خاطرك الكثير من الأسرار التي كلما خرج واحداً منها اطيح معها في العراء البارد لأشعر كم ان غريبة بان أقع في حب صائغ لا أعرف
الكثير عنه ، المعلومة المؤكدة هنا
انه محنكاً في صناعة الحلي….وماهر في تقيم
كل قطعةٍ على حِدا…… كم هو بارع في تعامل
مع النساء واقناعهن بذوقه ؟!….
كما اقنعها بالحب في عز بؤسها !…….
التوت شفتيها ساخرة عندما خرجت تلك الجملة
من ظلام افكارها…….
اقنعها بالحب نعم ، لكنها لم تسلم للحب بعد….
هذا يعني انها مزالت على الحافة ؟!…..
اما عاصم نظرتها المندهشة والتي تحمل نوع من الالم والعتاب جعلت لها صدى مؤلم في صدره…….
جعلته يشعر بندم !….
الندم انها لم تكن الأولى في حياته…..
تابعت الهام بنظرة حزينة……
“عندك حق ياماما…..انا بس بحسن صورة اختي اللي
بتعاني من ساعة طلاقهم….وكانت هتموت النهارده لما سمعت خبر الحادثة…….”
اومات نصرة براسها بتفهم وهي تنظر لرُفيدة
التي تقف بالقرب من عاصم ترمقه بنظرة
كسيرة………
“الحمدلله انها عدت على خير….اطمني يابنتي
هو كويس ارتاحي……”
جلست رُفيدة بالقرب من عاصم عن بعد
خطوتين…تقول بحنو…….
“واي اخبارك دلوقتي…….”
رد عاصم مقتضباً……
“الحمدلله مكنش لي لازمه مجيتك لحد هنا…..”
تدخلت الهام بخبثٍ……
“انت بتقول اي ياعاصم…هو اللي بينكم كان شويه..”
اوقفها عاصم بنظرة حادة متحدثاً بجدية
شديدة الخطورة……
“أم يزن…….ملوش لازمه الكلام ده…..احنا مش صغيرين……ومش هنتكلم في اللي فات…لانه
خلص خلاص…….اللي بيني وبين روفيدة انتهى
لكن اللي بينها وبينك دم….روفيدة هتفضل من العيلة…… زيها زيك تمام عندنا….”
اسبلت شهد عيناها شاعره بالم حارق في صدرها
ستظل من العائلة ، وانت واحد من تلك العائلة !..
ابتسمت نصرة برضا تام عن تصريحة الأخير
لتقول……
“كاني شايفه جدك قدامي….ربنا يرحمة…و يباركلنا فيك ياحبيبي……”
بنظرة حانية قال……
“تعيشي وتفتكري ياحاجة……”
ثم نظر الى سيدة الحُسن…..حتى في صمتها
بُرعم الرقي بها مُشع بجلالة سلبت قلبه وعيناه
هي ملكة العصور القدمية كما يراها…….
“شـهـد…….”
رفعت عسليتاها اليه واختلج قلبها بين ضلوعها
عندما نطقه بطريقتهُ المميزة……..
قال عاصم وعيناه تعانقها……..
“ممكن كوباية مايه………”
اومات براسها ومزالت نظرة العتاب تستوطن حدقتاها الحزينة…….. “ثواني……..”
سكبت له القليل من الماء في الكوب
التي احضرته معها….واعطاته له….
اخذه منها….وقربه من انفه قليلاً قبل ان يشربه
فابتسمت بأستياء…….تخشى ان تكون تلك الوسوسة
في حياته العامة وليس في الطعام والشراب فقط…
قالت يوماً بانها (تكره الموسوسين) فاخبرها بصلف
(انه ستحبهم)……ويبدو فعلاً انها أحبت واحدا منهم !…
اتى صوت الهام من خلفها مصبوغ
بالحقد……..
“صدفة غريبة…….اني اقبلك هنا ياشهد……”
ابتسمت شهد وهي تستدير لها قائلة بظفر….
“مش غريبة ولا حاجة……وجودي هنا شيء مفروغ منه……..”
انعقد حاجبي عاصم ولم يتوقع تلك الاجابة الغريبة
وكذلك تلونت نظرة رُفيدة بالغل ولولا تماسكها
في اخر لحظة لكانت قفزت على شهد وافرغت
احشائها بيديها……..
رفعت الهام حاجبٍ غاضباً…….
“وليه بقا……..”
اقتربت منها شهد خطوتين كانا كفيلين بشحوب
وجه إلهام وفزع قلبها وكانها……وكانها رأت كريمة
في عيناها فكانت عيناها نسخة طبق الأصل من
امها !….
والان انتبهت انها هي ابنة كريمة بالعيون الجميلة
لكن وهج الانتقام بهم كان أشد خطورة…..
فارعبها لوهلة….ثم تماسكت وهي تسمع شهد تقول
بإبتسامة خطيرة……
“كل حاجة في وقتها بتبقى أحلى…..صحيح عثمان الدسوقي……”
بلعت الهام ريقها بخوف….فضحكت شهد في وجهها
دون صوت…..ثم استدارت الى عاصم تبلغه بفتور…
“ناوي يجي يزورك ويطمن عليك……”
رغم انه يشعر ان هناك شيءٍ مريب بينها وبين زوجة عمه الا انه رد بهدوء………
“ملوش لازمة……بلغي ليه سلامي…..المرة الوحيدة
اللي قابلته فيها ملحقتش اتعرف عليه……”
“مصيرك تتعرف عليه….”قالتها شهد وهي تعود
بعيناها الناريتين الى إلهام تخبرها بحبور
وكانها تتعرف عليها…….
“صحيح عرفت ان ابنك هيبقا دكتور….دكتور ليه مستقبل……. افتكرت حمزة اخويا…. كان نفسه
برضو يبقا دكتور او ظابط او لاعب كرة…..كان
لسه صغير وبيدور على نفسه…… ”
شعرت الهام بالاختناق وتعرق جبينها بعد هذا الحديث فهي تعرف جيداً ما جناه عشقها السام
في نفس عثمان….وكان هذا يرضيها بشدة !…..
وجدت شفتي شهد تنحني بيأسٍ…….
“بس لما ملقاش نفسه ضاع حلمه…فبقا من دكتور
لسواق خط المنشية….. على البحر ياسطا……”
ضحكت ضحكة باردة خالية من المشاعر…….
التقط صداها عاصم فظل ينظر اليها طويلاً محاول فك الشفرات والنظرات المتبادلة بينهن……
قالت الهام بتوتر…. “واي دخلي بالكلام ده……”
ازدادت ابتسامة شهد اتساعاً مسترسلة
بتسلية…..
“مجرد دردشة….. اصلي ارتاحتلك…… قلبك أبيض
اوي… باين من عينك…… واضح انك عمرك مأذيتي حد……”
اهتزت حدقتي الهام وازدردت ريقها برعب….
فاستأنفت شهد حديثها برنة خاصة وعيناها
تتشفى بها…..
“وباين اوي انك كنتي وفيه مع كل صحابك…وعمرك
مابصيتي لحاجة غيرك……وواضح انك صفية النيه
عشان تبقا حماتك الحاجة نصرة…… ”
“محظوظه بيها حقيقي ام تانية…..” ببراعة خرجت
من الجحر الضيق التي القتها به……عندما نظرة الى الجدة نصرة التي ردت عليها بود……
“كتر خيرك ياشهد يابنتي……. كلك ذوق….تعرفي
اني حبيتك من أول يوم شوفتك فيه……”
سحبت نفساً عميقاً وهي تعود ادراجها اليهما
تاركه الهام خلفها تلملم شتاتها……
“انا كمان حبيتك أوي…… وحبيت السراية….”
هتفت نصرة بتعجب…..”السراية ؟!…”
بمهارة غيرت مجرى الحديث وبددت الجو
المتوتر قبل لحظات…….
“بيتكم شبه سراية المماليك……وكانه قطعة أثرية…
التحف والانتيكات حتى الديكور كل حاجة حساها أثرية اوي…. وغالية جداً وقيمة شكلا وموضعاً….”
ابتسم عاصم وقد لانت ملامحه قليلاً….لكن علامات الاستفهام مزالت تحوم حولها……..
“كل ركن في سراية المماليك زي ما بتقولي….
اختارته جدتي بنفسها……”
بادلته شهد الإبتسامة… “عارفه…. ذوقها هايل….”
ردت نصرة على المجاملة بالمثل……
“عينك بس هي اللي حلوه…. حبيت سراية المماليك ياعاصم…….” عقبت على اخر جملة بضحكة خافته……
اوما عاصم براسه مبتسماً وعيناه تأسر الشهد من جديد….
اقتربت رفيدة من اختها ومالت عليها بهمساً محتقن……
“مالها الطباخة دي شايفه نفسها كده ليه عليكي…وكانها ماسكه عليكي زله……”
نظرة لاختها بتمعن….”انتي تعرفيها يا الهام….”
لوت الهام ثغرها بتعالٍ……
“هعرفها منين….دي حتة جربوعه….انا هخلص منها
بطرقتي……”
عادت رُفيدة تنظر نحو شهد بشك…..
“متاكده يا الهام….انا حساها مش سهلة خالص..”
قالت الهام بنظرة شيطانية…….
“كل واحد وليه نقطة ضعف…..لازم تعرفيها قبل
ما تحاربيه…….”
مطت رُفيدة شفتيها بكرهٍ…….
“واي هي نقطة ضعف الحية دي….”
لمعة عينا إلهام بالشر هامسة بفحيح
الأفاعي…..
“مستقبلها………مستقبلها يارافي…….”
……………………………………………………………..
كنت اظن نفسي حصِنة من الهوى حتى قابلتك واكتشفت مع الوقت انني من أصحاب الهوى !….
دلفت الى غرفتها بعد يومًاطويل صباحًا في المشفى
معه وامس في المطعم الذي اهملت وجوده منذ ان تخاصما……..
وقعت على الفراش بتعب والساعة تشير لمنتصف الليل…….
نظرت جوارها لتجد قمر تغوص في نوما هنيئاً…
فرفعت عيناها على السقف شاردة في ذكرى الصباح
نظرات الهام النارية وحقد رفيدة الواضح…..وحنان الجدة نصرة الفطري…واجتياح عاصم المهيب….
مزالت تشعر بالغضب لكونها المرأه الثانية في
حياته وانه كان مقدر له انجاب طفلا من أخرى
لولا النصيب…..
بلعت غصة مريرة في حلقها وهي تزفر بتعب شاعره بحجر ثقيل فوق صدرها….فلم تقاوم كثيراً تلك الرغبة الملحه في الإتصال به الآن…
داخلها أسئلة كثيرة يجب ان يجيب عليها…داخلها نيران مستعارة يجب ان تخمد الان…
نهضت من مكانها وارتدت شال أبيض لفته حول كتفها ثم اتجهت الى الشرفة تقف بها وبين يداها
الهاتف تقاوم أوامر عقلها الصارمة….وتجري الإتصال
كما ترغب……
رفعت الهاتف على اذنها ولفح وجهها نسيم البحر
البارد فرفر خصل الغرة الجميلة عن جبهتها وملأت
رئتيها من عبيره المالح…..
فتح الخط بعد لحظات هامساً….
(الو……شـهـد………)
ازدردت ريقها بتردد قائلة…”عامل اي يا عاصم…….”
اتاها صوته متعجباً……
(الحمدلله….اي اللي مصحيكي لحد دلوقتي…..)
زمت شفتيها بعدم رضا وصدرها توهج
فجأه…….
“إيه اتصلت في وقت غير مناسب……”
اكد بنبرة مراوغة…..(بصراحة آه……)
قصف صوتها كالرعد…..
“والله…… ومين معاك….الممرضة صح…….”
كبح الضحكة الماكرة…….(أيوا…….)
انعقد حاجبيها بحنق……
“بتكلموا في ايه بظبط…….”
اجابها باستفزاز…..
(اهوه بندردش…..كنتي متصلة ليه……)
مطت شفتيها وهي تغلي داخلها….
“ولا حاجة كمل سهرتك… سلام……”
اوقفها وهو يضحك ضحكة رجولية
جذابة…..
(يامجنونة استني…..انا قعد لوحدي أصلا……)
عضت على باطن شفتيها
بضجر…..
“لوحدك؟!…..وليه قولت كده…….”
اتى صوته المتسلي……(انتي عارفه ليه….)
قالت شهد بغصة مختنقة……
“على فكرة انا مش غيرانه انا……”
قاطعها بلهجة عميقة…..
(كنت مراهن نفسي انك هترني……)
خفق قلبها وتوهجت وجنتيها وهي تقبض
بيدها الحرة على سور الشرفة أكثر…..
“ياسلام ولو مكنتش رنيت…..”
اتى صوته الرزين…….
(كنت هرن انا يا شـهـد…..عشان عندي كذا سؤال لازم تجوبيني عليه…….)
هزت راسها هي أيضاً وعيناها تحلق في
الأفق أمامها…
“انا كمان عندي أسئلة لازم تجوبني عليها……”
اتى صوته الخشن حاسماً…..(انا تحت أمرك……)
خفق قلبها ولم تصدق ان اعصابها ذأبت بعد
رده الخاضع لها….فقالت بنبرة مصبوغة
بالغيرة……
“كنت بتحب مراتك……”
عدل الجملة بنبرة محتده…
(اللي كانت مراتي……اه كنت فاكر اني بحبها…..)
انعقد حاجباها بتساؤل…. “مش فاهمه…..”
سحب عاصم نفساً عميقا ثم زفره على مهل
قائلا بخشونة……
(هحكيلك…..يعني بحكم انها اخت مراة عمي فكنا بنتقابل وبنقعد مع بعض كتير……كنت شايفاها
فرد من عيلتنا….لحد ماهي بدأت تقرب وتلفت
نظري اكتر ليها……بدأت تحلو في عيني اكتر
ضحكتها كلامها نظراتها…….)
اغمضت شهد عيناها بعصبية مقتضبة الوجه
وصدرها يشتعل كأتون حارق…..
فتابع عاصم بصوتٍ مغلف بكبرياؤه
المطعون….
(فبدات انجذب ليها….وعلى أساس الإحساس ده اتجوزتها…….ومع الوقت الانجذاب ده بدأ يقل
وبدأت اشوف الصورة كاملة ست جميلة بتهتم
جداً بشكلها ومظهرها قدام الناس…لم وفقت
على جوازنا كان السبب الوحيد اني هليق
أوي على الفستان والعربية بتوعها……)
(عريس لقطه زي مابيقولوا ……ليه ماتوفقش عليه
خصوصاً ان إلهام كانت بتخطط لكل ده من زمان
ضاقت عينا شهد بتساؤل….
“إلهام…….واي خططها……”
بعينين نافرتين ونبرة متهكمة أخبرها……
(الفلوس.. ثروة الصاوي….هي متجوزه عمي وام ابنه
الوحيد….. واختها تتجوز ابن اخوه الوحيد الوريث التاني….وبكده الفلوس متخرجش برا دايرتها…….)
تشدقت شهد بصدمة…..
“معقول…..كنت عارف كل ده وساكت……”
زفر نفسا ثقيلا وبلهجة غير سمحة…….
(كل ده اتعرف لما خسرت ابني……روفيدة كانت قبل
الجواز موديل إعلانات.. وطبعاً لما اتجوزنا رفضت
شغلها بعد الجواز…. فوفقت ولما عرفت انها حامل
كان وقتها مشاكلنا واختلافتنا كترت…لكن خبر حملها
خلاني اسامح في اللي فات واحاول أبدا معاها من الأول……..عشان ابننا….)
(لكن هي مكنتش مقدرة ده….وأول مازغلل عينها عرض كويس في شغلها راحت تعمله بكل انانية…فربنا عاقبها وحصل اجهاض وقت
التصوير……)
لاحت الصدمة على وجه شهد متأثره بتلك
الاحداث المتتالية…….فتابع عاصم ساخرا
بمرارة……..
(ساعتها قالولي انها وقعت من على السلم اتكعبلت
وقتها خوفي كله كان عليها هي لاني استعوضت
ربنا في اللي راح…….)
فضحك ضحكة هازلة تتناقض مع جدية
الذكريات وقواتم لونها…..ثم أكمل….
(لكن اكتشفت انها لعبة عملتها اختها عشان تداري عليها في عملتها السودة……فكانت النتيجة اني مقدرتش اسامحها ووفقنا على الطلاق بعد سنة جواز….. وانفصلنا وقتها وخدت كل حقوقها بدون شوشرة وبدون مشاكل….)
ثم صمت قليلاً وكانه يلملم اوجاعه منهيا
الحوار بـ…….
(دي كل الحكاية……عايزه تعرفي اي تاني……)
مسحت دموعها بظهر يدها….ولم تصدق انه
سيأتي اليوم التي تتشارك به وجع أحد آخر
غير شقيقيها !…
بكت لانها لمست كسرة قلبه وكبرياؤه المهشم
بعد ان قص لها تجربة زواجه السابقة من أخرى والتي لم تكن موفقة أبداً وتركت آثر في نفسه
تراه بوضوح…….
ولسوء حظه وقع مجدداً في تجربة جديدة شبه
حب يطرق باب كلاهما !…..البطلة أمامه ليست طامعه في مالٍ وجاه بل هي طامعه فعلاً بأخذ
الثأر عن طريقة هو ؟!…
سالته شهد بصوتٍ مختنق بالمشاعر الكثيرة….
“سؤال أخير يخصني أكتر….اللي حسيتوا معاها في
الأول نفس الاحساس اللي حسيته معايا….هو هو الانجذاب…….”
حل الصمت من الجهة الأخرى….فجلست على مقعد
خشبي متواجد في الشرفة…..هامسة بلوعة….
“رد يا عاصم….صرحني وانا هقدر صراحتك….”
رد عاصم بنبرة غريبة……..
(انتي مش روفيدة ياشـهـد…في فرق كبير بينكم..)
اكدت والغيرة تنبش في صدرها..
“عارفه… لكن مشاعرك ياعاصم……”
بإبتسامة لمستها مع نبرة صوته الواثقة….
(معاكي انتي عدت مراحل…… بقت أكتر من ست حلوة عجباني وعايز اوصلها….)
ذاب قلبها فاغمضت عيناها مستمتعه بهذا
الصمت بينهما فكان للجملة صدى كالحناً
رائع اطرب اذنيها…….
(مش هنكر انك حلوة وعجباني…..بس في حاجات
أول مرة بحسها…. بحسها معاكي انتي يا شـهـد…..)
فتحت عيناها البراقة وبلهفة سألت
برقة…. “زي إيه……”
لم يتابع اكثر يكفي هذا القدر……فهو أصبح لها
كتابًا مفتوح ماضية وحاضرة بين راحتيها….لكن
ماذا عنها….. لذا سالها بهدوء….
(انا جوبت على اسئلتك… ينفع تجوبيني انتي
كمان على سؤالي…….)
سالته بلؤم……. “اللي هو……”
بصبرٍ سأل……..(اي سرك……)
سمعت صوت نفسها المضطرب….
“صعب احكيلك……”
رد عاصم بجمود…..
(وانا ليه مقولتش كده مع كل سؤال كنت بجوبك عليه……)
ساد الصمت من جهتها….فقال بحسم…..
(اي اللي بينك وبين إلهام…… حاسس اني فيه بينكم حاجة نظراتكم مش مريحاني……تعرفيها قبل كده..)
اجابة بلهجة طلاسمها معقدة…..
“من زمان….. من قبل ما تولد……”
مطت عاصم شفتيه بعدم
رضا….
(إزاي يعني فزوره دي…….)
حاولت التملص من السؤال…..
“أجل الموضوع دلوقتي وطمني عنك…..”
اخرج نفساً مشحونا بالغضب……
(مش هتهربي مني كتير… مصيري اعرف كل
حاجه……صحيح عايز اشوفك بكرة…في
المستشفى قبل ما مشي……)
اتى صوتها بلهفة….. “انت هتروح امتى…….”
رد عاصم بفتور…..
(اخر النهار هكمل علاجي في البيت اليومين الجايين…..)
قالت بصوتٍ بائس.. “خسارة كده مش هشوفك…..”
ابتسم بمراوغه ذكورية……
(هتروحي مني فين هجيلك انا…..لسه فتحه المطعم مش كده……)
قالت بنبرة معاتبه…….
“فاضل يومين على الشهر وهسيبه زي ماطلبت…”
قال عاصم بصوتٍ رخيم……
(اجلي دلوقتي اي حاجة لحد ما وصل لابن الحرام اللي عمل كده……..)
(وياريت تاخدي بالك من نفسك الفترة دي……)
دق قلبها بتساؤل……”عرفت حاجة عنه….”
سالها عاصم بحزم……
(لسه بدور عليه……بس انتي متأكده انك متعرفيش عنه حاجة…….)
سالها في المشفى اليوم قبل ان تغادر وراوغة في الاجابة وهو يشعر بذلك لذا كرر اعادة السؤال
مجدداً……….فكانت اجابتها الان متناقضه عن
السابق….
“في حاجة هحكيلك عنها بكرة……يمكن تفيدنا..
وتلقيه بسرعة……..”
كانت متناقضة لكنها اكثر صدقا من الصباح ربما
لانها علمت اليوم ان مرعي مختفي عن الأنظار وهذا يثير الشكوك حوله ويبدو انه هو الفاعل……
لا تعرف لكن يجب ان يعرف عاصم بكل شيء….
حتى تحمي نفسها واياه من بطش هذا المجرم
الذي اختفاؤه يوحي بانه يدبر لهما مكيدة ما…..
اوما عاصم بتفهم دون ان يضغط عليها
أكثر….
(يبقا هستناكي بكرة…….هتنامي….)
رفعت راسها للأعلى تنظر للسماء القاتمة وهي
ترتاح على المقعد….”مش جيلي نوم….وانت……”
رد مقتضباً…..
(مبعرفش انام لم بغير مكاني……)
اومات براسها ضائقة العينين بعبس……
“اها…..يعني لم أقفل هتعمل ايه هتفضل
صاحي لوحدك…”
اتى صوته المراوغ يناكفها…….
(مش هفضل لوحدي كتير دلوقتي تدخل اي ممرضة تسليني…….)
احتد صوتها مصرحة بتجهم……
“وليه يعني انا هفضل معاك على الخط…… انا كمان
مش جيلي نوم…….”
ضحك عاصم ضحكة اصابتها في مقتلها
فاغمضت عيناها تشتم نفسها……..
(وداينا جربنا نار الغيرة……)
تقوس فمها بترفع…… “عقبالك…..”
رد بصوتٍ بين ثناياه شيءٍ مخيف تلحف قلبها فجأه….
(دي مش هتبقا نار….دا هيبقا جحيم….خافي على نفسك…..)
تلونت شفتيها بابتسامة واهيه…..
“قولتلك اني شبعت خوف ليه مش مصدق…..”
تابعا الحديث في أشياء عدة حتى غفت على
مقعدها في قلب الشرفة وهو غفى على فراش المشفى والهواتف بين أيديهما متعلقة ، كما علق
الحب قلوبهما من النظرة الأولى…….
………………………………………………………………
داعب انفه رائحة البُن المحمص الممزوج مع شيءٍ
اخر لم يتعرف عليه بعد….
فتح عيناه ورفع راسه على النافذة ليجد الشمس تتسلل من بين الفراغات بحياء…مد يده الى المنضدة
ونظر في الهاتف بعينين ناعستين فوجد الساعة تشير
لثامنة صباحاً….فاستيقظ ناهضاً عن الفراش بتكاسل
ومزالت رائحة البُن المحمص تداعب انفه تجذبه
إليها……
فأرجع شعره للخلف وبدأت بطنه تصدر أصواتٍ مزعجة معبرة عن حاجتها للطعام……
آخر مرة أكل بها كانت أمس وجبة الفطور التي اعدتها (قمر)لهم ثم عاد للمنزل في وقتٍ متأخر وسريعاً ألقى جسده على الفراش من كثرة التعب
والارهاق…..
خرج من غرفته يبحث عن آثر الرائحة الشهية والتي تاتي من المطبخ…….
كان يشبه الرسوم المتحركة عندما يتبعوا روائح الوجبات الشهية…….
وقف عند الباب يتابع ما يحدث ليجد قمر تنحني
على باب(الفرن)لتخرج منه صنية بسكويت
كان البسكويت اقراصه صغيرة من اللون البني على شكل حبوب البُن به رائحة زكية تجمع مابين القهوة
وعجينة البسكويت الهشة……
كان شكله يشهي خصوصاً لجائع مثله لم يأكل أمس إلا وجبة فطور من يدي نفس المرأه التي تخبز الآن بسكويت القهوة الذي ايقظه من نومه منادياً
عليه؟!…
“حمزة…… صباح الخير……..”
نظر حمزة الى عينا قمر التي القت عليه تحية الصباح
وهي منعقدة الحاجبين تستغرب وجوده الآن…فهذا ليس معاد صحوته……
تقدم منها ووقفا معاً جوار الطاولة المستديرة بقلب المطبخ وصنية البسكويت الساخنة موضوعه
عليها…..رد حمزة بتساؤل…….
“صباح النور…… بتعملي إيه…..”
بابتسامة مشرقة كبنيتاها المتلألأة قالت…
“بسكوت…. تدوق……..”
لم يقاوم اكثر فمد يده ليأخذ قرصٍ من البسكويت
ليتأوه سريعاً من شدة حرارته…..
هتفت قمر حينها بلهفة……
“حاسب د سُخن….” ثم اتجهت الى الرخامة
وجلبت طبق من البسكويت ووضعته أمامه
على الطاولة…….
“خد الطبق ده طالع من شوية……”
مسك حمزة واحده ووضعها في فمه ثم مضغها وكانت تحمل ثلاثة اطعمه يتنافسا معاً مابين القهوة
المُرة والسكر الحلو وعجينة البسكويت الهشة فصنعا معاً مذاقٍ رائع ليس له مثيل…….
ولانه من عشاق القهوة فكان البسكويت في القمة
الان بنسبة له…….
ابتسمت قمر وهي تساله بتراقب حماسي……
“اي رأيك……”
بأختصار أجاب وهو يأخذ واحدةٍ
أخرى… “حلو……”
شعرت بشمسٍ جديدة تشرق صدرها فأقترحت
بحنان….. “تحب أعملك لبن معاه……”
قال بأمر…….. “لا…..قهوة……..”
زمت شفتيها بعدم رضا…..
“ما كفايه القهوة اللي في البسكوت…..”
نظر اليها بعسليتاه تلك العيون المشتعلة بومضٍ
مخيف رغم سلام وهدوء صاحبها…….
“هتعمليها ولا اعملها انا…..”
نظرت اليه قليلاً ثم اومات براسها مقتضبة وهي تتجه الى الموقد لتعد له القهوة…….
جلس حمزة في المقعد امام الطاولة فبدأ ياكل
من طبق البسكويت عابساً الملامح ثم قال بعد
لحظات بصعوبة……”تسلم إيدك……”
ابتسمت بقلبٍ صافي وهي تنظر اليه من فوق كتفها…..
“بالف هنا……انا عملتوا عشـانك… قصدي عشانا كلنا…….” ادراة راسها وهي تعض شفتها بغباء…
أخذ واحدة اخرى ومضغها باستمتاع فكان حجم
البسكويت صغير قليلاً وكانه يمسك حبة بُن….
“حلو…… بس مين اللي علمهولك……”
ردت بعد تنهيدة شوق ….
“ماما…. كانت بتحب تعملوا لبابا…..وتعلمتوا منها…”
حاول مشاكستها فقال بمناكفة…..
“اه…. شكلك بتحسني صورتك بعد البيض المحروق……”
هزت راسها ضاحكة وهي تمسك الركوة وترفعها
على النار…. “مفيش فايدة فيك……”
نظر الى ظهرها قليلاً والعباءة الفضفاضة التي ترتديها وشعرها الغجري المتراقص خلف
ظهرها طويلاً جداً يلامس اخر ظهرها……
بدا بمناغشتها قائلاً…..
“مكملناش كلمنا إمبارح ياقمرايه……”
نظرة اليه بتساؤل…. “كلام إيه…….”
نظر لعمق عيناها قائلاً دون مواربة…..
“انتي عارفه.. مين دي اللي بطلت احلم عشانها؟…”
ردت هي أيضاً بصراحة
مطلقة……
“اللي كانت خطيبتك مثلاً…..”
اظلمت عيناه فجأه فعقب
بغلاظة…..
“وانتي اي دخلك بالموضوع ده…..”
اتجهت اليه ووضعت فنجان القهوة قائلة….
“بما اني بنت عمتك…. فمجرد نصيحة بلاش
توقف حياتك عشان حد…..”
نظر لوجه الفنجان ثم لعيناها المماثله بلونها البني
المميز…..فأبتلعهما الصمت للحظات حتى سألها
بفضول…..
“انتي حبيتي قبل كده ياقمر……”
جفلت قليلاً من بعد السؤال لكنها ردت
سريعاً…..
“آه…….. ولسه بحب……”
قطب حاجباه عابساً……
“بجد ؟!…. ومين ده اللي امه داعيه عليه…..”
رمقته بحنق شديد….فابتسم حمزة والفضول
يدفعه بمعرفة هذا المجهول التي تكن له
الحب……
“بهزر بلاش تقفشي كده…. هو من القاهرة…..”
اومات براسها مؤكده…..
“أيوا…..ابن عمي…… بيحبني وبحبه… بس…..”
عندما توقفت تابع حمزة بهزل مرير…….
“بس ايه…. مش معاه يجيب شقه ولا رجع لعقله…”
انها توقفت فقط لتألف السيناريو بحبكة مقبولة
كما يجب ان يكون… ففي الحقيقه هي لم تقع في الحب أبداً وليس لديها ابناء عم لانها ببساطه ليس لديها أعمام !….
وجميع اقارب والدها في محافظات متفرقه
والاغلبية لا تعرف عنهم ولا عن ابناؤهم شيءٍ
كنفس الحال مع ابناء خالها سابقاً…
ربما تألف قصة حب وهميه حتى ترفع السياج
على قلبها ….فقالت بتأثر …..
“لا معاه يجيب شقه طبعاً بس امه مش موافقة
ممم….اصل عمي الله يرحمه..وهي بقا مش بتحبني….فا لسه ابن عمي بقا بيحاول يقنعها
وادينا مع بعض….”
اوما حمزة براسه وهو يأكل غير مبالي…..
“ربنا يسعدك…بس هو بجد بيحبك ولا بيتسلى بيكي……”
“بقولك ابن عمي……”
جزت على اسنانها من برودة اعصابة….. هل كانت تتوقع رد فعل اخر ؟!….
لم يبتلى أحد بهذا الحب سواكِ يا غبية……
قوس حمزة شفتيه وهز راسه ساخراً…..
“واي يعني ابنك عمك شيخ جامع هو…صوابعك
مش زي بعضها… مش كل القرايب اللي ينفع يكون فيه بينهم نسب…عندك انا مثلاً مستحيل اتجوز واحده قربتي…….”
اتسعت عيناها وهي تردد بعفوية بعد ان القى سهام
سامة في صدرها….”مستحيل…. مستحيل……”
اكد حمزة مقتضباً……
“سابع المستحيلات….هي ناقصه وجع دماغ….”
اشاحت بوجهها دون تعقيب….فدفعه الفضول من جديد بسؤالٍ نحو هذا الحبيب الغامض والذي
خرج من العدم……..
“مقولتيش…. بيحبك على كده……”
اجابة بوجوم….. “بيحبني…..”
اجاب ساخراً….. “اه هو قالك كده…..”
اومات برأسها بتأكيد….
فسالها بهذا الفضول الغريب…. “وانتي……..”
نظرت لعسليتاه مصرحة بنبرة صادقة….
“انا كمان حبيته من أول ما عيني وقعت
عليه….”
اهتز قلبه فجأه بعد تصريحها فبلع ريقه
وهو يسألها….”وهو حلو…….”
اكدت وهي تسبل جفنيها بخجل…. “اه أوي……”
“شبه مين…..”فاجئها بسؤال…..فرفعت عيناها مترددة وتلعثمت وهي تفكر…..
“مش شبه حد…..هو شبه نفسه……اقولك شبه حسين فهمي…..عينه خضرة وشعره اصفر…..”
فغر فمه معقبا بتشكيك…..
“اه بدأنا كدب…….ابن عمك ها……”
بلعت ريقها بخوف من ان تنكشف
كذبتها….
“أيوا هو طالع لامه ملون…….”
أراد استفزازها بشدة فعلق بغلاظة….
“بلاش الجوازة دي لحسان انتي كده هتبوظي
النسل بتاعهم……”
أحمر وجه قمر من هذا المتنمر العين فقالت
بأنف مرفوع بتكبر……
“ياسلام طب دا كذا مرة يقولي انا نفسي عيالنا يطلعوا شبهك…….”
ضحك حمزة معقباً بوقاحة…..
“كدااااب دا بيثبتك….قولنا الكلام دا كتير قبل
كده…اسمعي مني…….”
اطبقت على اسنانها بحنق بالغ….
“قولته لمين يعني…. لخطبتك…….”
اكد بعبثٍ يفوح منه الزهوة…….
“لخطبتي وبنت الجيران وصاحبة بنت الجيران
وليله كبيرة ياقمراية…..”
أرادت قمر ان تضربه في مقتله فقالت بترفع….
“بس هو كذا مرة يقولي بحب ملامحك وشعرك….”
“ملامحك ؟!…لا إله إلا الله….هو مشافش مناخيرك
ولا إيه….”عقب حمزة بصفاقة قاصدا مضايقتها….
فأهتزت ثقتها بنفسها لوهلة وهي تلامس انفها
وعيناها ترمقه شزراً……
“مالها مناخيري دي منمنمه……”
“آه منمنه…….طيب “اكد بهزل مقصود وهو ينظر لوجهها الجميل وانفها الصغيرة المرفوعة بشموخ انثوي لذيذ……
“انت شايفني وحشة……”سالته بضجر…
فقال باستفزاز وهو يأكل من البسكويت
بتسلية تضاهي تسلية التلاعب بها…..
“وانا مالي هو انا ابن عمك……طالما هو شايفك حلوة وشاري خير وبركة…….اولعوا سوا…. ”
اصرت على السؤال وهي على وشك البكاء
كالاطفال……
” لا رد ياحمزة…. هو انا بجد مناخيري كبيرة……”
عندما اقتربت منه وجلست جواره على المقعد
مسك فكها وادارها اليه بمداعبة……
“وريني كده……”
نظر لعيناها قليلاً وهي كذلك وكانت لغة اعينهما
تعزف لحناً ثنائياً موحداً لا يعرف أوتار بل خفقات قلوبهما توحدة……
“لا تصدقي منمنه فعلاً…….”
ضربت كفه حتى يترك وجهها ثم نهضت من مكانها
تفرغ البسكويت من الصنية الى الطبق…..
“بس مقولتليش اي اللي عجبك في حسين فهمي بتاعك…..هو اسمه ايه صحيح…….”
“اسمه….اسمه أشرف…….”أول اسم اتى في
خاطرها قالته….
فبرم حمزة شفتيه مستهيناً……
“اشيف…..ماشي….و اي اللي عجبك في اشيف
ده…”
قالت سريعاً……. “مؤدب…..”
هتف حمزة مستنكراً بصفاقة…..
“دي مش صفه دا وباء !!….طالما مؤدب يبقا عايز كورس انحرف على ايد العبد لله……”
نظرت قمر اليه بنفور…….
“شكرا مستغنيين عن خدماتك….ابن عمي…. محترم……”
لوى حمزة شفتيه في ابتسامة
وقحة….
“ماهو المحترم ده مش هينفع معاكي……”
نظرة اليه بعدم فهم فتابع بلؤم…..
“انتي عايزة واحد زيي…يصبحك بعلقه ويمسيكي بعلقه…….”
وقفت متخصرة بتبرم……
“ياحلاووة….على اساسي اني هسكتلك….”
“هتعملي ايه يعني…….”نهض من مكانه ووقف امامها…….فقالت ببسالة……
“هضربك……”
أخذ خطوة اخرى بالقرب منها…….
“متقدريش……”
ابعدت عيناها عن وجهه بحياء.. “أقدر…….”
مسك وجهها من جديد ورفع راسها اليه حتى تنظر لعيناه مباشرة وعندما فعلت قال هو بثقة عمياء……
“مسافة ما هبص في عينك هتنخي….احنا جامدين أوي…. ”
زمجرة وهي تضرب كفه من جديد…”مغرور…..”
“بس يا بتاعت اشيف….”قالها وهو يبتعد عنها ضاحكاً…….فغمغمت من بين اسنانها…..
“بارد…….”
اشار حمزة على طبق البسكويت الذي إنتهى
منه للتو……..
“هاتي بسكوت كمان الطبق خلص…….”
وضعت الطبق الاخر امامه بجزع….
“اتفضل…..”
وضع واحده في فمه وهو يسالها
بفضول……
“هو اشيف بيحب البسكوت……”
ردت ببرور…… “مسالتوش والله…….”
قال حمزة بسماجة…….
“وإياكي تسأليه…..طالما مؤدب يبقا ملوش في البسكوت….. ناشف عليه…….. ”
لم ترد عليه قمر بل القت عليه نظرة حانقة وصمتت قليلاً…..ثم بعد دقيقتين اغلقت الموقد وقالت
وهي تغسل يديها تحت صنبور الماء……
“انا هروح البس بقا لحسان اتاخرت……”
قطب حمزة حاجباه متعجباً….
“اتاخرتي على إيه ؟!……”
نظرة اليه بتعجب…..
“على الشغل أول يوم ليا النهارده في مكتبة أحلام…..هي شهد مقالتلكش… ”
لوى شفتيه ساخراً…….
“هو حد يعرف حاجة عنكم برضو…..انتوا بتقولوا اللي يجي على هواكم بس……”
التوى ثغر قمر بنزق……
“على اساس ان سرك معانا يعني ما انت نفس الكلام…..”
نظر لها حمزة باستهانه….
“واقولك اسراري ليه….بمناسبة إيه……”
قالت قمر مقتضبة……
“وانا استأذنك ليه في الشغل بمناسبة إيه…..”
هتف حمزة بخشونة……
“مش بقول تستأذني بس على الأقل تعرفيني…انتي بنت عمتي ومسئوله مننا دلوقتي…لحد ما تاخدي ورثك وترجعي مكان ما جيتي……”
وكانه القى قذيفة فتاكة قصفت صدرها فتمزق
قلبها في لحظة…..فقالت بمرارة…..
“واضح انك مستعجل اوي على مشياني من هنا….”
اغتاظ حمزة منها قائلاً بخشونة….
“متغيريش الموضوع ياقمر….انتي هتنزلي الشغل ليه محتاجة فلوس……”
لم ترد بل اشاحت وجهها عنه بحزن….فتابع
هو بحمائية…….
“كذا مرة أقول لشهد تسألك لو محتاجة حاجة.. وانتي اللي مش بترضي……”
رفعت وجهها اليه قائلة بحزن…..
“لاني مش محتاجة فلوس ياحمزة…انا زهقانه ومحتاجة اشتغل واشوف ناس لحد ما خالي يرد
عليا في حوار الورث……وارجع مكان ما جيت زي
ما بتقول…”
رفع حاجباه بعدم فهم مزمجراً……
“ليه بتصطادي في الماية العكرة….مش فاهم اي الغلط في كلامي……”
“ولا اي حاجة…..شغلي مع احلام مؤقتا…وشغلي في المكتبة احسن بنسبالي عشان دي نفس الشغلانه
اللي كنت بشتغالها في القاهرة….”ثم اولته ظهرها
قائلة بهدوء…..
“عن إذنك هروح البس…….”
زفر حمزة بحنق بالغ وهذا الشعور السخيف يتغلغل
داخله !….
اتجه الى الشرفة وهو يشعل سجارته بضيق…وعندما
فتح باب الغرفة كانت شهد على وشك الخروج منها
تبادلا النظرات للحظات فكانت شهد يبدو انها قضت ليلتها هنا في الشرفة ؟!…..
فكانت عيناها ناعستين شبه مغلقتين…..تعانق نفسها بذراعيها الاثنين وتمسد على كتفيها شاعره بالبرد
يتخلل جسدها……تمسك الهاتف في يدها اليمنى
وتلتحف بشالها الأبيض…….
فكان أول سؤال قاله حمزة بعد هذا
المنظر…..
“انتي كنتي نايمة هنا ؟!….”
لم تجد مفر بعد هذا الموقف والسؤال من
بعده فقالت بصراحه…..
“ايوا…… راحت عليا نومه……”
ضاقت عيناه مستفسراً بشك…. “وليه بقا…….”
ارتبكت والسؤال الثاني يدفعها للكذب….
“مكنش جيلي نوم….وفضلت قعده شوية العب في التلفون وبعدين راحت عليا نومه وانا قعده….”
لم تلين ملامح حمزة وهذه الجلسة تذكره
بأحد الليلي العاصفة بالحب…..
فالمكالمات ليالٍ هي إكسير الحب بين العشاق
فهل سيغفل عنها….وعن ما مضى منها في
حياته !….. مستحيل….
لذا ازداد شكه فعقب…..
“تلعبي في التلفون… ولا كنتي بتكلمي حد….”
اهتزت حدقتاها….. انه يدفعها للكذب للمرة الثالثة
على التوالي……
“اه كنت بكلم خلود وبعد ما قفلت قعدت على النت
شويه اشوف الرسايل ولاوردرات وكده يعني فنمت……”
لم يعقب حمزة بل ظل ينظر اليها طويلاً…..فقالت
وهي تبعده عن طريقها برفق…….
“انا سقعانه اوي هدخل اوضتي……”
عندما ابتعدت شهد….تابع حمزة هروبها منه ولم يلبث
الا وناداها مجدداً بوجها مكفهر…….
“استني ياشهد عندك…..”
توقفت شهد في صالة المنزل تنظر اليه بتردد كالتلميذة المذنبة….. تدعي سراً ان لا تضطر
للكذب عليه للمرة الرابعة……
“في اي بس ياحمزة…… مالك…..”
قال حمزة بحدة….
“انتي اللي مالك… بتكدبي ليه عليا…..”
قالت شهد بخفوت….
“هكدب… هكدب في ايه……”
“انا خلصت……”
انطلقت هذه الجملة بعفوية على لسان قمر التي خرجت من غرفة شهد للتو مرتديه طاقم خروج
وكان عبارة عن بنطال من الجينز الفاتح عليه قميص أنيق من اللون السماوي….وربطت شعرها الغجري الطويل للخلف يتأرجح خلف ظهرها متراقصاً
بجنون مغوي…..تضع القليل من الزينة التي تناسب وضح النهار…. من ضمنها هذا الكحل الأسود المرسوم باحترافية حول حدقتاها فيجعل بنيتاها واسعتين جميلتان بديعتان عند النظر إليهم….
اسبل حمزة اهدابه بغضب….. ليست جميلة لكنه يبالغ في وصفها….. عادية ككل النساء…..حضورها جذاب وليست ككل النساء…… عيناها عادية ككل النساء….عيناها في الكحل آية من الجمال
فهي ليست ككل النساء !!…
تناقض رهيب يخضع له الان مابين شخصٍ يؤيد
واخر معارضا بشدة……
لكن المتفق بينهم انها الان مختلفة في عيناه…وكانه يراها من زاوية اخرى لم يقف بها يوماً !…..
سالتها شهد بلؤم…..
“اي ده انتي نزله لوحدك…..معقول…. ”
قالت قمر بتردد….
“انتي مش هتروحي الشغل…..”
هتفت شهد وهي توزع النظرات بينهما…..
“هروح كمان ساعة بشير وخلود هيعدوا عليا…”
نظر حمزة لأخته يشم رائحة غدر….فقالت
شهد بمكر…..
“بس انتي معادك دلوقتي في المكتبة….. احلام مستنياكي لازم تروحي……دا أول يوم ليكي.. ”
قالت قمر بحيرة….. “طب هروح إزاي لوحدي……”
“خلاص حمزة هيوصلك…..”اشارة شهد على اخيها الذي رفع حاجبه ذاهلاً….
“نعم يا اختي…”
ابتسمت شهد تستهدف قلبه الحنون….
“اي فيها يا حمزة ما انت كده كدا كنت هتوصلني
النهاردة للمطعم… قدر اني راحه وخد قمر معاك…”
“دا أول يوم ليها وهي عمرها ما دخلت شارع الصاوي……يرضيك تروح لوحدها… ”
جز حمزة على اسنانه وهو ينظر لاخته بتوعد..
فوجهت شهد الحديث لقمر قبل ان تبتعد…
“حمزة هيوصلك يا قمر وانا ساعة وهكون عندك.. وهعدي عليكي متقلقيش…..وكمان اخر النهار هنروح سوا…. مع حمزة……”
هتف حمزة.. “شـ…..”
بترت شهد الكلمة منهية الجدال…..
“انا هدخل اوضتي انا سقعانه أوي……”
تابعت قمر دخول شهد غرفتها فعادت عيناها
اليه لتقول بحرج…..
“لو مستعجل انا ممكن اخد اي موصلة…. توصلني لشارع الصاوي…..”
اظلمت عيناه وكانها قالت شيءٍ مشين…..فامتنع
عن الرد متجه الى غرفته……
خطت خطواتها خلفه بعدم فهم…..
“حمزة……”
توقف والقى عليها نظرة حانقة……
“هغير هدومي….. استني عندك…..”
توقفت مكانها كما أمرها…..وعندم اغلق هو الباب
على نفسه شتم قائلا بتهكم……
“واضح اني السواق بتاع الهوانم……”
………………………………………………………….
استقلا معاً المصعد بصمت واتكأ حمزة على الازرار للهبوط للأسفل….
بلعت قمر ريقها وهي تنظر اليه بين الحين والآخر
بقلب مغرمٍ بهذا الجلف صاحب السان السليط و العيون العسلية الذابحة……
فوجدت قلبها ينزف وجعاً هامسا سراً…….
(لو كان بيدي ماكنت وقعت في الهوى….. فهواك علة وقلبي عليلاً بها……)
اسبلت اهدابها سريعاً عندما رفع حمزة عيناه عليها وكانه سمع لعنات قلبها عليه…….
بنظرة شاملة مدققة رمقها ثم ابعد عيناه عنها حانقاً
“ياترى بقا اشرف بتاعك عارف بشغلك…..”
اومات براسها وهي ترمقه بأنتصار…
“أكيد….. استأذنت منه…..ووافق علطول…..”
سخر حمزة بقرف….
” وافق؟!….. عيني على الرجالة…..”
هتف قمر بوجوم….
“في مشكلة في شغل الست عندك…..”
رفع شفتاه للاعلى مشمئزاً وهو يقول بتجهم….
“لو فيه مشكلة مش هطلع اخواتي يشتغلوا ويشوفوا مستقلبهم….المشكلة ان سبع البرمبة بتاعك فاتح على البحري دا بدل ما يبقا معاكي هنا وياخد باله منك لا سايبك وزي ما تيجي…. تيجي…..”
قالت بمناكفة…..
“وانت اي اللي مضايقك اوي كده…..”
اندفع الغضب داخله دفعة واحده…..
“مانا اللي بشيل القرف في الآخر… وصلنا يا حمزة
روحنا ياحمزة… شغال عند اللي جابكم انا…”
اتسعت عيناها من هجومه المبالغ فيه فتشدقت
منزعجة……
“احترم نفسك وتكلم معايا عدل…. وبعدين قبل ما ننزل قولتلك لو مستعجل أمشي…..”
كان سيرد عليها يعنفها بالكلمات لكن فتح باب المصعد وانضم اليهما ثنائي اخر لكن كان اكثر
تجانسا و اندمج وحب…… فقد دخلا معا يدٍ بيد والنظرات متبادلة حتى…..
حتى انتبهت لوجه المرأه والتي لم تكن إلا (نجلاء)
خطيبته السابقة…. تجهم وجه الرجل سريعاً عندما رأى حمزة وكان ينوي الخروج من المصعد لولا إمتناع
نجلاء وتصميمها على استقلاله معهما…..
حل صمت غريب مشحون بالكثير من المشاعر
في تلك الفترة القصيرة…..
عيناها حصدت كل ردود الأفعال… بدايةٍ من اندماج
نجلاء مع هذا الرجل الذي اتضح انه يدعى سامح
من كثرة دلالها عليه ومنادتها باسمه امامهما بمنتهى الميوعة…
كانت حركاتها مكشوفة ومستفزة تحاول لفت
الانتباه أكثر حتى تشعل غيرة حمزة نحوها
وتحرق فتيل صبره فيعض اصابع الندم على
ضياعها منه…….
حانت منها نظرة على حمزة……
دوماً تسمع عن قهر الرجال لكنه لم يتجسد امامها
كالان…….
رغم ان ملامحه كانت متصلبة المعاني إلا ان عيناه
كانت مقهورة من الحب……قهرة تحتاج لمعجزة
حتى تتلاشى !……
كان يضع ذراعه جواره ويقبض على كفه بقوة مؤلمه
حتى ابيضت مفاصل يده بشدة……
ففصلت قمر الخطوة الوحيدة بينهما ومسكت
قبضة يده بين راحتي يدها الناعمة بحنان تتضامن
معه بكل جوارحها…..
فنظر لها حمزة بدهشة….فابتسمت وهي ترفع
وجهها اليه قليلاً……
“انت كويس…….”
مط شفتيه بسخريةٍ معتادة….
“ليه مش هبقا كويس…….”
نظر ليدها المعلقة بيده فأرخى قبضته بتدريج
وعانق اصابع يدها برفق قائلاً بمناغشة……
“بنسبة لأشرف اي نظامه بعد مسكت الايد دي…”
ابتسمت هامسة بمرح…..
“ماهو عارف ان احنا زي الاخوات……”
رفع حاجبٍ متعجباً…….
“انتي حكياله عني كمان…لا دا الموضوع كبير أوي….”
ضحكت قمر واطرقت براسها بخجل…فابتسم هو ورفع عيناه على نجلاء التي نسى وجودها للحظة
واحده….وعندما تقابلت أعينهما كانت ترمق كليهما
بعينين حاقدتين…….
بعد لحظات دلفت الى المكتبة بعد ان اوصلها حمزة…….
ابتسمت بسعادة بعد ان غمر انفها رائحة الكتب المميزة…..فدارت عيناها في المكان بلمحة سريعة
رأت مكتبة كبيرة منوعة بالكثير من الكتب..
آلة تصوير الأوراق…..ركنا خاص بالهدايا والاغلفة…..مجموعة متنوعة من أدوات
الدراسة…….
رحبت بها سيدة جميلة ترتدي عباءة ووشاح بهم طابع شعبي اصيل………
“أهلا وسهلا…. قمر مش كده……”
اكدت قمر وهي تقترب منها….
“أيوا أهلاً بحضرتك……”
مدت قمر يدها فبادلتها أحلام المصافحة قائلة
ببشاشة……
“بلاش حضرتك دي اسمي أحلام…أهلا بيكي..شهد
قالتلي انك كنتي شغاله في مكتبه قبل كده صح…..”
اكدت قمر بحرج……. “ايوا…..”
هزت أحلام راسها بتفهم وقالت برفق….
“ان شاءلله يعجبك الشغل معايا…زي ما انتي شايفه
هي المكتبة صغيرة لكن بيجالها زباين من كل
حته…ومتقلقيش كلهم ولاد ناس ومحترمين… ”
نظرت قمر لأنحاء المكتبة من جديد مستشعرة بالالفة
والسعادة في هذا المكان…….
فأستردت أحلام حديثها تطمئنها…..
“وانا باذن الله هفضل معاكي الفترة دي لحد ما تاخدي على المكان والناس……”
قالت قمر مبتسمة …
“ان شآء الله متقلقيش انا بستوعب بسرعة….”
إبتسمت أحلام أيضاً وقالت بود……
“ماشي ياست قمر….. تعالي بقا معايا اعرفك على
كل حاجة في المكتبة….”
………………………………………………………….
كانت تسير في ممر المشفى بخطوات هادئها يتأرجح
ثوبها الناعم الرقيق حول ساقيها بدلال…. تترك شعرها الأسود الناعم حراً يرتاح على كفتيها والغرة
الجميلة تتناثر على جبهتها……وعيناها العسليتان تظللهم بكحلاً أسود رفيع وأضافة بعضٍ من ملمع الشفاه كي يتوهج وجهها ولو قليل…..
لم تنام بشكلاً جيد فأرادت ان تخفي ارهاقها البادي عليها ببعض الزينة البسيطه……
رغم انها متعبة جداً ولم تنام سواء ساعتين وامامها يوماً طويل في المطعم وعمل متراكم….. إلا انها تغمرها سعادة جنونية تريد ان تقفز من شدة
الفرح…..
مبتهجة هي من مجرد أمسية كلامية في الهاتف
ماذا ان أقتربا اكثر فيما بعد وأصبحت الامسية الكلامية وجها لوجه…..
هل ستشعر بالسعادة، ام ستهرب كالعادة !…..
زفرة تنهيدة مثقلة بالهموم وشرد ذهنها اكثر معلقة يدها في حزام حقيبتها المرفوع على كتفها وهي تسير في اخر الممر حيثُ الغرفة الماكث بها…
وعندما اقتربت من الغرفة واثناء سيرها خبطت
في كتف صلب جعلها تهتز قليلا وهي ترفع عيناها
عليه جافله بهلع…….
ابتسم الشاب قائلا
باعتذر….
“انا اسف مخدتش بالي…….”
وضع الشاب هاتفه في جيب بنطاله وكان يبدو عليه انه مراهق ربما لم يصل للعشرون بعد….لكن يفوقها
جسداً وطولاً….بشعرٍ اشقر وعيون زرقاء…..
عند تلك الخاطرة اتسعت عينا شهد وهي تدقق النظر
به أكثر……عيناه تشبهها كيف تغفل عن هذا….وكانه
ورثهما منها…..
هل هذا هو ( يزن)……
رأى يزن تمعنها في النظر لعيناه فابتسم بزهوٍ…يعرف
ان عيناه جذابة توقع الإناث في حبه….لكن عليه ان
يعترف ان رغم جمال عيناه ولونهما المميز….إلا ان عسليتاها تفوز بجدارة دون وضع مقارنة حتى !…
صافيتين براقتين وفي العمق سرٍ جليل كالمغارة
تريد ان تكتشف دواخلها ، عفواً فكيف لا تفوز !…
وضع سحر في هاتين العينين يُلقى على كل
ناظراً……
ليست العينين فقط انها جميلة الكمال بشكلاً
مميز……
“ولا يهمك…..”
قالتها شهد وهي تنوي المغادرة فنظرت شهد الا اخر الممر المغلق والذي لم يبقى به إلا غرفة عاصم..
فسالها يزن بتعجب……
“هو انتي داخله لعاصم…….”
عادت اليه ورفعت عيناها
قائلة…..
“ايوا….هو جوا مش كده……”
اكد يزن قائلاً بهدوء……
“ايوا هيمشي كمان شوية……انا يزن ابن عمه…”
ابتسمت شهد بترحيب فاتر….
“تشرفنا….وانا شهد….معرفة قديمة…وجايه أطمن
عليه……”
انعقد حاجباه مستفسراً…..
“معرفة قديمة……بس انا أول مرة أشوفك….”
اكدت بوجه مبهم التعبير….
“مانا بقولك معرفة قديمة يمكن من قبل حتى ما تتولد……”
هز يزن راسه مستفهماً…..
“ازاي الكلام ده….انتي مش كبيره لدرجادي….يعنى
اديكي واحد وعشرين سنة مثلاً…….”
بنفي قالت بجمود… “لا… أكبر منك بسنين……..”
لاح الأحباط على وجهه فقال عابساً….
“بكام سنة يعني……”
عليك ان تأخذ الإجابة من ماما ؟!….
ابتسمت شهد بعصبية واضحة……
وقالت بملل…..
“عاصم جوا مش كده……”
أومأ يزن برأسه..
رأى يزن تمعنها في النظر لعيناه فابتسم بزهوٍ…يعرف
ان عيناه جذابة توقع الإناث في حبه….لكن عليه ان
يعترف ان رغم جمال عيناه ولونهما المميز….إلا ان عسليتاها تفوز بجدارة دون وضع مقارنة حتى !…
صافيتين براقتين وفي العمق سرٍ جليل كالمغارة
تريد ان تكتشف دواخلها ، عفواً فكيف لا تفوز !…
وضع سحر في هاتين العينين يُلقى على كل
ناظراً……
ليست العينين فقط انها جميلة الكمال بشكلاً
مميز……
“ولا يهمك…..”
قالتها شهد وهي تنوي المغادرة فنظرت شهد الا اخر الممر المغلق والذي لم يبقى به إلا غرفة عاصم..
فسالها يزن بتعجب……
“هو انتي داخله لعاصم…….”
عادت اليه ورفعت عيناها
قائلة…..
“ايوا….هو جوا مش كده……”
اكد يزن قائلاً بهدوء……
“ايوا هيمشي كمان شوية……انا يزن ابن عمه…”
ابتسمت شهد بترحيب فاتر….
“تشرفنا….وانا شهد….معرفة قديمة…وجايه أطمن
عليه……”
انعقد حاجباه مستفسراً…..
“معرفة قديمة……بس انا أول مرة أشوفك….”
اكدت بوجه مبهم التعبير….
“مانا بقولك معرفة قديمة يمكن من قبل حتى ما تتولد……”
هز يزن راسه مستفهماً…..
“ازاي الكلام ده….انتي مش كبيره لدرجادي….يعنى
اديكي واحد وعشرين سنة مثلاً…….”
بنفي قالت بجمود… “لا… أكبر منك بسنين……..”
لاح الأحباط على وجهه فقال عابساً….
“بكام سنة يعني……”
عليك ان تأخذ الإجابة من ماما ؟!….
ابتسمت شهد بعصبية واضحة……
وقالت بملل…..
“عاصم جوا مش كده……”
أومأ يزن برأسه…فقالت قبل ان ترحل……
“عن إذنك……..”
دلفت امام عيناه الى الغرفة…..تاركه اياه يتخبط بين
الجمل الغامضة و…..وعيناها……..
……………………………………………….
دخولها الى الغرفة كالنسيم معطر بكل ماهو طيب
ناعم على الانف……
أصابته نفحات من البهجة عندما رفع عيناه عليها وادرك وجودها بعد ان شم عطرها الزكي الطيب…..
رفعت وجهها الابي…بري الجمال والروح……قائلة
بابتسامة صافية…….
“صباح الخير………”
ومن جديد قص عليها بنظرة واحدة قصائد عن
الهوى قبل ان يجيب بابتسامة حانية……
“صباح الشهد…….اتاخرتي ليه….”
خفق قلبها فأسبلت اهدابها بوجها محمر خجلا
ثم قالت بخفوت…..
“يدوبك…..على مالبست……”
هيمن عليها بالنظرات والكلمات الكاسحة….
“تعرفي انا لحد دلوقتي قاعد مستنيكي…كان المفروض أخرج من نص ساعة…….”
“عامل اي النهاردة…….” قالتها شهد وهي تتمعن في النظر اليه فكان يقف بجوار الفراش يرتدي بنطال
جينز وقميص، مصفف شعره الأسود الغزير للخلف ولحية السوداء تعطي له وقر وهيبة…كان جذاب جداً وأنيق بهيئة لامعة تغطي على كل شيءٍ من حوله كما تراه دوماً……
“الحمدلله…..أحسن… ” رد بعينين تترصد لكل حركة بسيطة تصدر منها بداية من احمرار وجهها خجلاً للسؤال الهامس لنظرة عيناها المتفحصة له بحياء انثوي شهي…..
أرتاح على حافة الفراش مشيرا لها بيده بان تتقدم وتجلس على المقعد المقابل له……
فاقتربت بخطوات خرقاء شاعره بأسهم عيناه
تلاحقها……. جلست كتلميذة مهذبة امام استاذها
صاحب الحضور المهيب والعينين الحانية….
بلعت ريقها ورفعت عيناها عليه… لتجد عيناه تتوهج
نحوها…… توهج يشعل وجنتيها أكثر خصوصاً انه
كان ينظر لشفتيها دون ان يلاحظ على نفسه…..
“دا أحمر…….”
رفعت عيناها مصدومة من السؤال….ثم لم تلبث
إلا واجابت بحرج…….
“لا……. ليب بالم……”
عقد حاجباه بعدم فهم…فبلعت ريقها
موضحة…”زبدة كاكاو……..”
لم يمنع سؤال قفز في خاطره فجأة وهو يرى شفتيها مغوية بهذا الملمع الوردي…… “بطعم إيه……”
ردت بعفوية….
“العسـ…………….نعم…….” بلعت لسانها وهي تدرك
مدى غباؤها وتوترها أمامه…….
فنظرت اليه بحنق يمتزج بخجلها….فتخلل هو خصلات شعره باصابعه معتذراً بحياء ذكوري…..
“واضح ان قلة النوم أثرت عليا……”
اخرجت تنهيدة مضطربة وهي تسبل اهدابها
بعفو… فقال بمشاكسة لذيذة……..
“قولتي بطعم العسل صح…….”
رفعت عيناها بنظرة نارية حتى يتوقف عن
هذا العبث…….
“عاصم…… الزم حدودك…….”
بنظرة جامدة تساءل….. “لحد إمتى ؟!…..”
طالت حرب النظرات بينهما بتحدٍ حتى وجزة
عيناها منسحبة من أرض المعركة……
بينهما كيمياء غريبة من نظرة واحدة يلامس
اعماقها من همسة واحدة يزلزل كيانها…..
بللت شفتيها امام عيناه المظلمة ثم سحبت نفساً
مرتجف وقالت بايجاز….
“خلينا نتكلم في المهم….. عايزة اعترفلك بحاجة
تخص اللي حصلك يوم الفرح……”
اعطاها كامل تركيزة
بتساؤل…..
“شكلك عارفه مين هو……”
حسمت امرها معترفة…..
“مرعي الجن…. مفيش غيره اللي عملاها….”
تغضنة زوايا عيناه بعدم فهم…..
“إيه ؟!… مرعي وليه يعمل كده أصلاً……”
قالت شهد بتردد…..
“عشان انا رفعت عليه السكينة وهددته اني هقتله..”
اشتعلت حدقتاه وهو يساله بحدة…..
“انتي بتقولي اي ياشهد…. انتي مخبية عني إيه…..”
قالت شهد بحرارةٍ تسعطف قلبه بعيناها
الراجية…
“هحكيلك كل حاجة من الأول…. بس اوعدني انك هتصرف صح ومش هتوسخ ايدك في واحد زي ده
بلغ عنه وسيب القانون هو اللي ياحاسبوا…”
لم تلين ملامحه بل صاح أمراً…..
“انـطـقـي يـاشـهـد…..”
خفق قلبها بخوف تترجاه مجدداً…
“اوعدني…اوعدني ياعاصم وانا هحكيلك على كل حاجة….”
بصوت صلب جاف كرر…. “انـطـقـي يـاشـهـد…..”
اقتربت منه اكثر بمقعدها حتى اصبحب بالقرب
منه……وهتفت برجاء حاني……والخوف يتربع
قلبها الولهان……
“اوعدني ياعاصم وحياة اغلى حاجه عندك..”
فقد اخر ذرة صبرٍ فهدر باسمها وهو يمسك
ذراعها بغضب……
“شــهــد……..”
لفحت انفاسه الملتهبة بالغضب صفحة وجهها
الشاحب فأغمضت عيناها بضعف تترجاه بصبابة
الهوى……..
“لو بتحبني اوعدني انك مش هتأذي نفسك……”
ابتلعهما الصمت بعد جملتها ولم تسمع إلا صوت انفاسه المشتعلة غضبٍ وربما……
فتحت عيناها ترى أول انطبع بعد جملتها الغبية…
فرأت الغضب مرسوم على محياه وعيناه تتوهج
بشكلاً مريع……..فقالت بتخوف معدلة الجملة….
“قصدي عشان خاطـ…….”
قاطعها بصوتٍ خشن…..
“اوعدك……قوليلي مخبية عني إيه….وماله مرعي
بيكي……”
سحبت ذراعها من بين قبضته وتراجعت في مقعدها للخلف قائلة بصوتٍ متهدج…….. “هحكيلك……”
كل حقيقة كانت تخرج من فمها تنزل على اذانه كالسياط……اظلمت ملامحه بشكلاً مخيف وتصلب جسده بتشنج واضح والانفعال بد على عيناه المظلمة فبات يشبه القاتل المتسلسل الذي لن
يرتاح إلا بسفك دماء أحدهم…..فتسيل
الدماء أمام عيناه منتشياً بعدها !!….
رفع عيناه المحتقنة
بالغضب….
“كل ده مخبياه عني……”
قالت وهي تمكث راسها مذعنة….
“مكنش ينفع أقولك…خوفت تحصل مشاكل بسببي…”
هتف بنفسٍ غير سمحة وعيناه تقدحان شراراً….
“فتسبيه يبتزك وياخد منك فلوس….وفي الاخر يأجر
عيل ابن***يقتلك……كنتي هتعرفيني امتى ياشهد..
لم تبقي غرقانه في دمك……..”
رفعت عيناها مبررة الوضع…..
“عاصم مش انا لوحدي اللي كان بيعمل معاها
كده…. في ناس كتير كان بيشاركهم في رزقهم
لوي دراع…”
قاطعها بصرامة…. “يستاهلوا طالما قبلوا بده……”
نظرة اليه بدهشة….. “انت اللي بتقول كده…..”
قال عاصم غاضباً…..
“ايوا انا اللي بقول كده……طالما قبلوا على نفسهم يتذلوا من حتة عيل زي ده لا وبيعملوا كمان ليه
الف حساب يبقوا يستاهلوا…… ”
قالت شهد بشفقة…… “دول ناس غلابة…..”
بملامح نافرة ولهجة جامدة أخبرها…..
“دول ناس جبانة……مستنين البطل اللي يخلصهم منه….مع انهم لو اتحدوا سوا…..هما اللي هيطردوا
من شارع الصاوي مش العكس…….”
لم ترد شهد بل ظلت على صمتها…فهذا كان رأيها
من البداية لكن جبن خلود ومخاوفها أصابها فأصبحت لا تقل عنهم جبنا……
سحب عاصم نفساً متهدج وهو يقول
بصرامة….
“على العموم هو خلاص دوره انتهى لحد هنا….جاب
اخره معايا….وشكل القديم والجديد هيطلع عليه..”
نظرت اليه شهد مترجية بحنو…..
“عاصم انت وعدتني….أوعى تعمل حاجة تأذيك..”
بنظرة جادة تساءل…… “خايفه عليا…..”
اخرجت تنهيدة مضنية….”معقولة لسه بتسأل……”
لوى شفتيه ساخراً بمرارة…..
“على أساس ان في حاجة وضحة من ناحيتك تخليني ابطل اسألك……”
المها قلبها بعد تعليقه فقالت دون
تقهقر…
“أكيد خايفة عليك……”
تساءل…..”ليه؟….”
لعقت شفتيها وهي تقول بضعف….
“عشان انت عاصم….ومعنديش اكتر من كده
إجابة…. ”
ابتسم بحنق….. “لا كتر خيرك……”
نطقت اسمه بمشاعر متعبة من كثرة المعافرة
مع الحياة ومع نفسها في قصتهما المعقدة…
“عـاصـم………”
نظر لعيناها خاضعاً لعسليتاها الراجية
هامساً بصدق العالم……
“نعم ياست الحُسن…معاكي…..بقلبي وعقلي معاكي…”
انتفض قلبها بجنون فاغمضت عيناها تطلب الرحمة
منه سراً ولكن يبدو ان لسانها خانها فقالتها علناً……
“كده كتير عليا……..”
رد رداً زلزل القلب والمشاعر……
“يبقا لسه متعرفيش اللي جوايا ناحيتك…..”
لم تقوِ على فتح عيناها مما اعطى لضعفها امام تصريحاتُ منظراً شهياً جعله يتأوه عنوة عنه
هامساً…….
“آه يا شـهـد…….”
فتحت عيناها ونهضت عن المقعد
متقدمة منه بقلق…..
“سلمتك……الجرح بيوجعك…..”
فتح الباب سريعاً وهتف يزن……
“عاصم حكيم مستنيك في العربية مش يلا بينا…”
انتبه يزن الى هذا المشهد المتقارب نوعاً ما بين عسلية العينين وابن عمه……..
فتنحنح وهو يشعر بالحنق من هول المفاجأة….
هز عاصم راسه موجه الحديث
لشهد…..
“يلا انا جهزت….تعالي عشان اوصلك……”
رفضت شهد بحرج……
“انا مش هروح البيت…انا راحه المطعم عندي شغل هناك…….”
قال بهدوء….
“هخلي حكيم يوصلك على سكته…..”
رفضت شهد بارتباك…..
“لا ياعاصم….بلاش…..هاخد اي موصلة المكان
قريب مش بعيد……”
ناداها عاصم بجدية…… “شـهـد…..”
قالت بتصميم….
“عشان محدش يتكلم شكلها مش حلو…….”
اقترح برحابة صدر……
“مش هندخل الشارع هخلي حكيم ينزلك قبلي بشوية……..”
غمغمت بتردد….. “عاصم……”
اصر عاصم بصلابة…..
“اسمعي الكلام روح يا يزن……انا جاي وراك….”
نظر لهما يزن بصمت….فأشر عاصم عليه
بتعريف…
“يزن ابن عمي….يعتبر ابني انا اللي مربية…..”
رحبت شهد به بنظرة باردة…..
“اتعرفت عليه قبل ما ادخلك….أهلا مرة تانيه يا يزن…….”
انتظر يزن تعريف عاصم عليها لكنه لم يفعل فقال
هو ببرود….. “مش هتعرفني عليها……”
تولت شهد الرد ببرود……
“مانا قولتلك اني معرفة قديمة…ليه مش مصدق…”
انزعج يزن من ردها المبهم والفاقد للمصدقية وكانها
تحدث رضيع……..
بينما استأذنت شهد من عاصم
بهدوء…..
“انا اللي هستناكم برا…….”
عندما خرجت شهد امام ابصارهم سأله
يزن بتجهم… “مين دي ياعاصم ؟…..”
أمتنع عاصم عن الإجابة وهو يخطو بخطواته للخارج…. “بعدين يايزن.. بعدين….. يلا بينا……”
…………………………………………………………….
(يعني اي مش جاية تاني…..هو احنا بنلعب يا كيان…….) قصف صوته عبر سماعة الهاتف بنفاذ صبر…
فبلعت ريقها وارتسم على محياها كرها شديد نابع
من قلبٍ مجروح مفتقر صلاحية العتاب بما رأى…
ومع ذلك حفظت على نبرتها المبهمة قائلة…..
“زي ماقولتلك يا استاذ.. شغلي في مكتب خليل الصواح هيبدأ من بكرة ان شاء الله….”
سالها بنبرة عابسة حانقة…..
(يعني إيه…. مش هتيجي المكتب تاني…..)
سحبت نفساً مرتجفاً مجيبة بعدها…..
“القرار دا انا مبلغاك بيه من شهر فات….. واظن اني صبرت الفترة اللي فاتت دي كلها منتظرة حد يحل مكاني…..”
اخبرها بتلقائية خشنة
غاضبة……
(مين اللي يقدر يحل مكانك…….)
خفق قلبها بشدة فذاب الكلام على لسانها
وتسمرت للحظات من هول جمال الجملة
الكاذبة !….
أوضح هو متابعاً بتجهم عبر الهاتف…..
(شغلك في المكتب مهم….. انتي كده بتعجزيني….. والقضايا اللي ماسكنها….انا مش عارف انتي بتفكري إزاي….)
انحنت زاويتان من شفتيها بحزن وهي تقول
بصوتٍ كئيب…….
“أستاذ سليم احترم قراري لو سمحت…. انا مش هقدر إرجع الشغل تاني……”
سالها سليم بتهكم……
(اي اللي حصل…. اكيد في سبب….. لسه فاضل اسبوع على ما الشهر ينتهي…….)
ليتني قادرة على مصارحتك…. الغريب ان شعورنا
متبادل وتدعي العكس حتى يقع الذنب عليا وحدي
فأكون انا المرأة العقربة الصة التي تاخذ كل ما هو ملكا لغيرها ، وتبقى انت في الزاوية النظيفة رجلا مناضل في حب امرأته !….
هل تعرف عندما يصل لي هذا الشعور انفر منك ومن قلبٍ أحبك….لماذا انت…..حقاً لماذا انت…. هل أهوى عذاب نفسي ؟!…..
شيئين اذا اقترنا معاً تعد معجزة على المرء ونعمة من نعم الرحمن عليه هما الحب و النصيب….
فأنا أحببتك نعم واعترف بها ، لكن ماذا عن
النصيب ؟!… فحتى لا تدنس قدسية حبك في
قلبي سأحتفظ بحبك لعله مع الأيام يزول يوماً
فاشفى وأعود لعهدي أقوى ؟!……
(ساكته ليه يا كيان…….ردي عليا……)
تماسكت وهي تقول بجمود…..
“معنديش حاجة اقولها اكتر من اللي قولته… احنا
بقالنا اكتر من ساعة بنتكلم و بنعيد في نفس الكلام..
وبرضو اجابتي هي هي مغيرتهاش….”
حل الصمت من ناحيته فتوترت داخلين وانتظرت
قليلاً حتى اتى صوته الغاضب منهياً الحديث…
(واضح اني معطلك اوي تمام… براحتك ربنا يوفقك في مكتبك الجديد……)
قبل ان يغلق في وجهها هتفت كيان بصوتٍ
بارد…..
“متنساش تعزمني على الفرح….. سلام…..”
أغلقت الهاتف هي في وجهه شاعره براحة
سادية بعد فعلها……..
لكزتها داليدا في كتفها تزفر بتعجب شديد….
“اووف ياقلبك يا كيان….ازاي قدرتي تتكلمي معاه بكل برود كده….. بعد كل اللي قولتيلي عليه….”
نظرة كيان الى داليدا…وكانوا الاثنين يجلسا على الاريكة في الصالون بشقة سلطان….
فقد اتت كيان للاطمئنان على داليدا بعد معرفتها بكسر كاحلها…..فقالت كيان بسأم…
“كان سهل يعني….بس اعمل إيه….يستاهل اكتر من كده…….انا بكرهه ياداليدا…….”
كانت داليدا ممدة الساقين على الطاولة الاماميه
وتضع اسفلها وسادة ناعمة…….فعقبت بحيرة..
“مش شوية اعترفتي انك بتحبيه…ودلوقتي بتقولي انك بتكرهيه…..انا احترت معاكي……”
لم ترد كيان بل ظلت على صمتها بملامح
واجمه…..فاضافت داليدا بتذكر….
“بس اللي هيجنني….لي قلبك دق لده بذات….انا فاكرة انا كان في واحد اسمه نائل مش ده بتاع القُرص……”
تاففت كيان ساخرة….
“همك على بطنك دايما….اه هو……”
رفعت داليدا كاس العصير على فمها عابسة…..
“ليه محبتهوش….طب والله القرص بتاعته
كانت حلوة..”
زفر كيان مستاءة من تافهة صديقتها….
“اوف ياداليدا هحبُ عشان جبلي دونتس انتي هبلة……اوعي يكون سلطان بيعمل معاكي كده.. ”
سالتها داليدا بتراقب…. “بيعمل إيه……”
قالت كيان ببرود…..
“بيجبلك حاجات حلوة عشان تحبيه…..”
هزت داليدا راسها مندهشة تؤمن على
كلامها بعفوية… “مين قالك !……”
توسعت عينا كيان ذاهلة…..
“انتي هبله….. عيله انتي….هتحبيه عشان بيجبلك شيبسي وشكولاته……”
اكملت داليدا بحرج……”وجيلي كولا…..”
ضحكت كيان وهي تهز رأسها بسأم…..
“هبله انتي…. لا وياريت باين عليكي… مسلوعه….”
رقصة داليدا حاجبها بأسلوب
كياد….
“مسلوعه آه….. بس كلِ امكانيات……”
انفجرت كيان في الضحك وهي تضع يدها على بطنها……. “آه ياسافلة….يابتاعت الإمكانيّات… ”
اصيبت داليدا بعدوى الضحك فضحكت معها بقوة حتى قلت الضحكات بينهما بتدريج فقالت بود…
“ايوا كده اضحكي…….”
ثم اطرقت براسها وهي ترتشف من كوب العصير بتلذذ……مضيفة بحنو…..
“هو سلطان علطول بيعاملني بطريقه دي….من وانا صغيره لما يزعلني ويحب يصالحني بيجبلي حاجة
حلوة او يعملي حاجة بحبها….هو مش بيعرف
يعبر أوي عن اللي جواه…..”
هللت كيان بيداها بمكر….
“الله…..الله….ودا من امتى بقا…..”
توردت وجنتي داليدا… “هو اي اللي من امتى……”
بغمزة شقية سالتها كيان بمرح…….
“من امتى اشتغلتي محلله نفسية لسي سلطان…”
قالت داليدا بثقة…..
“من زمان انا عارفه سلطن……”
رفعت كيان حاجباها…..
“سلطن ؟!…انتي كده بدلعيه……”
قالت بشفتين ممطوطتين….
“الله بقا هو انتي وهو عليا……طب والله سلطن
أحلى من سلطان….”
هزت كيان كتفيها بفتور…..
“جايز دي مسائل عائلية مليش دعوة بيها….”
حاصرتها داليدا بسؤال
مجدداً……
“مردتيش برضو ليه هو……”
قالت كيان بنبرة مصبوغة بالوجع والخزي…..
“لو عندي اجابة هرد….. انا خدت قراري خلاص هبعد
عنه وربنا يوفقه مع خطيبته اللي كلها كام يوم وتبقا
مراته…. وربنا انا كمان يوفقني في حياتي الجايه…”
اومات داليدا براسها بتفهم…..
“انتي قولتيلي انك هتشتغلي في المكتب ده مع
نائل صح……..”
اكدت كيان بابتسامة ظفر…..
“ايوا… دا طاير من الفرحة…. مش مصدق اني هبقا معاه في نفس المكتب….. كمان يارا صاحبتي اللي
حكتلك عنها هتبقا معانا….شغاله في نفس
المكتب…… ”
ابتسمت داليدا لأجل فرحتها….فقالت كيان
بوهن…..
“انا مبسوطة اني هكون مع صحابي.. وهبعد عن ضغط الأعصاب ده…… انا لحد دلوقتي مش قادرة
انسى القرف اللي شوفته…..”
علقت داليدا بجفاء…..
“هوني على نفسك… لما يتجوزها هيعمل معاها اكتر من كده……”
رمقتها كيان بحنق بالغ…..
“وانتي كده بتريحي قلبي يعني……”
هزت داليدا راسها بجمود….
“لا انا كده بوعيكي…. فكري في حياتك وانسيه…”
سالتها كيان ببرود….. “انتي نسيتي عادل……”
جفلت داليدا بصدمة وبهت وجهها وهي تعقب بمرارة……
“علطول كنتي بتلوميني وتغلطيني في حبي ليه..
اي اللي خلاكي تساليني السؤال ده….”
ابعدت كيان وجهها عنها نادمة….
“عشان بقيت زيك دلوقتي محتاجة حد يغلطني ويلومني…….”
مسكت داليدا يد صديقتها تمدها بالقوة والأمل
التي افتقدتهما بعد زواجها غصباً……
“انتي مش زيي ياكيان انتي لسه عندك فرصة.. تختاري حد أحسن منه… قريب من سنك..
يفهمك وتفهميه يحبك وتحبيه…..لكن انا…”
سحبت داليدا كفها ومسحت دمعة خائنة
فارة من عيناها…مغيرة مجرى الحديث
“أنسي……قوليلي هتروحي فعلاً فرحة لو عزمك…”
رفضت كيان بشدة…. “لا طبعاً مش هقدر……”
قالت داليدا بقوة جبارة…..
“ليه لا…. لازم تعملي كده وتبصي في عينه بالقوي كمان… لازم تثبتي ليه انه مش فارق معاكي…..”
غامت عينا كيان وقالت بنبرة تقطر قهراً….
“بس هو فارق معايا ياداليدا…وصعب اعمل كده.. انتي بتحكمي على الصورة من برا لكن لو انتي
اللي جواها مش هتقدري تحكمي…….”
لوت داليدا شفتيها بالامبالاة….
“أشوف سلطان بيتجوز يعني… يااختي بركة اللي خدته الهانم تاخده مسحت السلالم……”
إبتسمت كيان بمرح زائف…..
“طول عمرك لسانك متبري منك…..قوليلي بقا
وقعتي ازاي……”
ضحكت داليدا بهزل…..
“هو على رأي سلطان… من اعملكم سلط عليكم..”
انعقد حاجبي كيان معقبة….
“إزاي يعني هو انتي قصده تكسري نفسك…”
قالت داليدا بنفي وهي تقص عليها ما
حدث….”لا مش كده…. هحكيلك…..
…………………………………………………………
كلما نظر الى ملفات القضايا يتشتت عقله….وكلما وقعت عيناه على سطور الاورق ينسى ابجدية
الكلمات……
ترك القلم الذهبي الخاص به على سطح المكتب بعصبية وسحب نفساً عميقا متهدجٍ كاد ان يقتلع ازرار قميصه……ثم فرق مابين عيناه باصابعه بآرق
رحلت !…
لم تعد تغرد بمرح ، وتزقزق بأزعاج…..وتحوم
حوله بجمالا مشع بالبراءة التي افتقد أثرها
في هذا العالم….
أين ذهبت عصفورة الكناري الصغيرة….. كانت في العَشَّ كان يحكم غلقه عليها ، كان العَشَّ ذهبياً باهظٍ
ألوانه زاهية تغري العين ، وقد حسدها كل من رآها بين قضبانه ؟!…
لم يصدق انها استغلت أول فرصة اتتها ورحلت من
مكتبه هو…. رافضة العمل معه ، الفرصة التي يتمناها
الكثير ولا ينالوها ولو بعد الأف المحاولات….
تاتي هي ببساطه وتضرب كبرياؤه عرض الحائط
مصرحة بكل صفاقة انها ستذهب للعمل مع غيره
جوار حبيب القلب…….
زفر بغضب يحدث نفسه بمنتهى التجهم…..
“تروح تشتغل مع اللي يعجبها… انا مالي بيها… الموضوع انتهى خلاص…..”
هل فعلاً الأمر انتهى بينهما هنا.. وان انتهى لما كل
هذا العصبية المبالغ بها ، لما التشتت والحزن على عدم رؤيتها كل صباح كما تعود…….
إرجع راسه للخلف وسند على ظهر المقعد وهو ينفث في سجارته بحدة والدماء تغلي بعروقة وراسه قارب على الانفجار…..
سيحظى نائل بقربها حوله ضحكتها الرائعة ثرثرتها الذيذة وخفة ظلها المنكهة بروح الأطفال…سينظر نائل لفيروزيتاها المضيئتين بألق الشقاوة كل
صباح !….
كل صباح ؟!..
كل صباح ؟!..
كل صباح معه هو ، يضحكا ويثرثرا وهو… هو
هنا كمن يحترق على صفيح ساخن… اللعنة….
أنبثق صوتٍ معارضاً داخله….
(هل نسيت انت أيضا ان بعد أيام قليلة ستستيقظ
من أحضان زوجتك صباحا ، بعد قضاء لليلة
حميمية طويلة معها…..)
(كن عادلًا يا سليم واعترف انك تلعب بمشاعرها وتظلم ايتن أيضاً معك……)
(ادخلتها الى دائرتك ، وخرجت هي منها الان
بأعجوبة… فأتركها تحيا مع من يقدر قلبها…
فهي تستحق الأفضل..)
عارض هذا الصوت اللعين وهو يهمس داخليا
مهلوساً….
«انها ملكا لي»
(لن تمتلك امراتين….كيف هو شعورك بينهن….)
شرد وهو يقارنهن وهو تحت تأثير الهلوسة
فهو يحيا حربٍ ضارية بينه وبين ضميرة…….
«ايتن المرأة التي يتمناها اي رجل انوثه طاغية
فتنة متحركة صاحبة الاصل والنسب الرفيع
العروس التي يتمناها اي رجلا ذي مستوى..»
توهجت عيناه بومضٍ خاصة للعصفورة
الهاربة……
«لكن (كيان) هي العصفورة الجميلة التي لا غنى عنها
انها بهجة الحياة… زهرةٍ ربيعية مزدهرة…انها الدفء
والحب الذي احتاجه……»
«لكن في النهاية تبقى في عيني مثل الكأس المحرم الذي أريد تذوقه…. ملامسته ، الغوص بالذاته…..»
«انها امرأة بروح طفلة… أمرأه ظمأنة الى الحب وتريد من يروي عطشها وانا هنا……وهي هناك…..»
«كلها اشياء تستفز رجولتي…جمالها…حديثها.. نظراتها.. اوجاعها.. ودموعها.. انهزامها.. وقوتها
واحتياجها ، كلها أشياء تحولني لشخصٍ..»
«خائن ، وغير متزن ؟!….»
«لأول مرة أرى نفسي بتلك الصورة لكن ماذا علي ان أفعل…..ليس بيدي كان علي ان أختار ،لكن يبدو انها
وضعت النهاية الحتمية بيننا وانتهى الأمر…..»
«وعلي الآن انا اخمد نيران أفكاري..واصمت واكتفي بهذا القدر واعود الى رُشدِ والى من أحببتها في البداية فهي لا تستحق كل هذا التخاذل !….»
أغمض عيناه بتعب محاولاً الهروب من صوت ضميرة
من وجع قلبه ، من حسابات عقله ، من احساسه
بالذنب……
فهو لم يظلم الإثنين فقط بل ظلم نفسه معهن….
…………………………………………………………….
انفجرت كيان في الضحك وهي تضع يدها على بطنها
بعدم تصديق بعد ان قصت داليدا عليها أحداث هذا
اليوم الذي انتهى بالتواء كاحلها وجبرة……
“انتي فظيعة…..بجد انا مش فاهمه هو صبر عليكي
إزاي……”
بادلتها داليدا الضحك فقالت كيان بغمزة ماكرة….”شكله بيحبك……”
تحولت ضحكات داليدا لسخرية مريرة….
“اه بيحبني أوي….بقولك بعد ما تجبست دخل عليا يضحك وبيقول من اعملكم سلط عليكم…امال لو بيكرهني هيقولي إيه……”
ارتفع حاجبي كيان بتعجب….
“مكنش باين خالص انه خايف عليكي…..”
بشفتين ممطوطتين
قالت…..
“أبداً كانه ما صدق…….”
تبسمت كيان برفق مصرحة……
“بس والله غلبان….انتي بتقولي انه علطول معاكي
واخته وامه مش بيسبوكي……”
تنهدت داليدا بعمق شاردة…..
“فعلاً اليومين اللي فاتوا دول عرفت قد إيه انا غالية عندهم…..دول عملوا اللي اهلي معملهوش عشاني…”
ربتت كيان على كتف صديقتها تواسيها…..
“هوني على نفسك ياداليدا معذورين لسه واخدين
على خاطرهم منك……”
نظرة لها داليدا بحزن ، فهتفت كيان مقترحة بفيروزيتين مضيئيتان…….
“أقولك كلمي سلطان واتفقي معاه على عزومة لأهلك هنا….. بعد ما تفكي الجبس يعني يمكن لم تشوفوا بعض وتتكلموا النفوس تتراضى…. اي رأيك…”
اسبلت داليدا اهدابها مفكرة بحسرة……
“وافرضي رفضوا…ومرضاش حد فيهم يجي خصوصاً بابا دا بقا بيكرهني أوي……”
هزت كيان راسها قائلة….
“معتقدش ان ابوكي وحش أوي كده….من كلامك عنه وعن مواقفة وتصرفاته معاكي بتاكد انه اب
حنين لكن شديد شويه في التعامل معاكي…وده
مش غلط….انتي كمان مش ملاك ياداليدا….انتي طايشة ومتهوره ومش بتسمعي لكلام حد….”
لمعة عينا داليدا بدموع…..
“بس الفترة اللي فاتت كان قاسي عليا أوي….دا غلب
ابوكي في القسوة والجبروت……”
ارتفع حاجب كيان بصدمة متشدقة
بسخرية….
“غلب عثمان الدسوقي !!……ياشيخة اتقي الله
مفيش حد يتقارن بعثمان……دا القسوة والجبروت
بنفسهم اتظلمه قصاده……”
ثم اخرجت ضحكة خالية من المرح
متابعة….
“انتي بس اللي عضمك طري….عشتي طول عمرك برنسيس… دلوعة العيلة ولما زعلوا منك وبعدوا
عنك شوية حسيتي انك مضطهده منهم……”
نظرة لها داليدا معتذرة…..
“شكلي قلبت عليكي المواجع……”
قالت كيان بنفيا……
“مش بظبط……انا بس عيزاكي تواجهي مشاكلك وتعترفي بغلطك قدامهم…..لو اعترافتي بغلطك
أكيد هيسمحوكي……”
شع التمرد من سوداويتين عيناها فقالت…..
“ومين قالك اني غلطانه….هما اللي غلطانين يا كيان
غصبوا عليا وخلوني اخد واحد مش بحبه بحجة انه
بيستر عليا….يستر عليا من أيه ان صاغ سليم…”
لوت كيان شفتيها مستاءة من غباء صديقتها…
وحدثتها بقسوة لعلها تعود لرشدها…..
“صح…….سلطان لحق جسمك وشرفك….بس قلبك
وعقلك عليه العوض ومنه العوض….لسه موجودين
في شقة الحشاش ده….مش كده…”
صاحت داليدا بحمائية…..
“مش حشاش ياكيان….هو بطل القرف ده…. ”
“وانتي عرفتي منين بقا انه بطل……”
لم يكن هذا صوت او سؤال كيان أبداً…بل كان صوتٍ
رجولي جهوري قصف من خلفهما فجأه فجعل كلتاهما ينتفضان في جلستهما…….
وجعل داليدا تنظر اليه بتخوف….وقد تجمدت الدماء
في عروقها فور رؤيته هكذآ….
فكانها ترى عزرائيلا وبالفعل كان أبشع مما تتخيل
عليه قابض الأروح….قد أسود وجهه فجأه واحتدت
ملامحه وعيناه في النظر مريعتين مشتعلتين كجمار اللهب تتقافز…. وقد جاشت مراجلة بالغضب الأسود وتناثرت من حوله مسببه رعبٍ دب في اوصالها
فانكمشت بخوف تلعن لسانها وعدم انتبها لدخولة
من باب الشقة للتو….
كرر السؤال بصوتٍ قوي مهيباً بد كقذيفة نارية
قصفت في احشاؤها فمزقتها إرباً…….
“انطقي عرفتي منين انه بطل…..”
بلعت داليدا ريقها بصعوبة ورفعت عيناها عليه
بتردد
تردد أصابه في مقتله… فجعل قلبه يهوى أرضا
بضعف ، فقد تحققت مخاوفة الآن مسببه أبشع
انواع الألم التي ممكن ان يحياها رجلاً في نفس
موقفه الحساس ؟!……
……………………………………………………………..
وجد نفسه امام فيلا( الشهاوي) حيث المنزل الفخم
الانيق التي تقطن به ايتن…….
أغمض عيناه بتعب وهو يغلق مقود السيارة ويترجل منها بملامح واجمه ونفساً مثقلة بالكثير من التعب والهموم…..
اتى اليها حتى يجد ملاذه بين ذراعيها كما كانت دوماً
له ، اتى حتي يكفر عن أخطاؤه في حقها…اتى كي يجدد الحب والود ويعتذر عن كل لحظة خانها باحساسه ومشاعره بنظراته وهمساته السرية…….
دلف الى الفيلا بعد ان سمحت له الخادمة وبعد دقائق ارشدته بالصعود لها في أحد الطوابق
الخاصة بممارسة الرياضة والمساچ….وهذا بعد
ان اخذت الأذن من ايتن التي تنتظره في أحد
الغرف……
صعد على الدرج وعيناه تدور في أركان الفيلا الانيقة
والتي تحمل طابع عصري في كل الزوايا بها…
أخرج تنهيدة حانقة جزء من هذه العصرية باهظة الثمن والمبالغ بها تم تطبيقها في شقتهما الجديدة على يد ايتن…..التي أثرت ان تصنع من شقتهما متحف فخم مرموق…. من كثرة غلاء الفرش
تخشى الجلوس عليه !….
إحساس غريب انتابه بعد إنتهاء فرش الشقة منذ أيام…بأنها غير مريحة ويشعر داخلها بالاختناق !…
كيف سيبدأ من خلالها حياة زوجية سعيدة…وهو
يشعر بعد الراحة داخلها…..
عاشق هو للبساطه وينتمي لكل شيء يعبر عنها……وعاشقة هي للثراء والنزاهة الفارغة……
فكيف سيصد فجوة الاختلاف بينهما..مزال يكابر
معتقد انه قادر على ردعها وتأقلمها على طباعة
وهي كذلك الأمر….والاثنين يحاربا على أرض
بور ؟!….
عندما فتح الباب كما ارشدته الخادمة وجدها مسطحه على بطنها بقلب الفراش الصغير شبه عارية تغطي جسدها بالشرشف وتعري جزءاً من ظهرها……
الصدمة لم تكن هنا بل بمن يقف جوارها يدلك ظهره
بيداه الإثنين وهي تتأوه بتعب هامسة له بأحد الكلمات الإنجليزية…….
مشهد جعل الدماء تغلي في عروقه وجعل النفور يتناثر على محياه وعيناه كانت متقدتين باللهب
الحارق……..صاح بعصبية…..
“اايتن……”
مطت شفتيها ببرود عالمة ما أزعجه… لتهمس لهذا العامل بالإنجليزية كي ينصرف.. فلبى طلبها مغادراً
نهضت من مكانها تلتف بمئزرا حريري…. ثم تقدمت
منه وهي تشعل سجارتها ببرود قائلة…..
“بتزعق كده ليه……. اي أول مرة تشوفني بعمل مساچ…….”
احتدت نظراته ككلماته…….
“من امتى بتخلي واحد هو اللي يعملك مساچ…”
ابتسمت بتشفي لرؤيته يغار …..
“تغيير يابيبي….. الستات ايدها تقيله اوي… ام الرجالة ايدهم خفيفه……”
صك سليم على اسنانه والغضب يتطاير من
عيناه…
“انتي بتستفزيني صح…….واي القرف ده… ” سحب
السجارة من فمها والقاها ارضاً بعصبية……
كشرت عن انيابها بغضب……
“سليم انت اتجننت…اي الأسلوب الهمجي ده…”
بنظرة ساحقة قال…..
“اسلوبي انا اللي همجي والقرف اللي بتعمليه
ده يتسمى إيه ياهانم…..”
“قرف؟!…..” اتسعت عيناها مرددة الكلمة بزهول
ولم تلبث إلا وضحكة بميوعة…….
“من امتى الكلام ده…. هي دي تصرفاتي من أول
يوم شوفتني فيه.. ومع ذلك عمرك ما علقت عليها…”
رد هاكما بصلابة….
“تقدري تقولي كنت اعمى وفتحت……”
مطت شفتيها ساخرة وهي تبتعد عنه توليه
ظهرها…..
“جديد الكلام ده…..بس واي نوت…. انا كده ياسليم هي دي حياتي ولازم تأقلم نفسك على كده…..”
صاح بانفعال خلفها….. “وان رفضت…..”
استدارت اليه بدهشة حقيقية…..
“مش معقول هتسبني بعد كل حاجة حصلت بينا…”
رد بنبرة خالية من المعالم…….
“وانا عمري ما جه في بالي اني اسيبك.. بس انتي اللي بضطريني لده…..ياتتغيري عشاني…. يا بلاش جواز من أصله…….”
ارتفع حاجبها بصدمة واشتعلت نيران الغيرة بصدرها فقالت بسخط….
“هتسبني عشانها مش كده… جاي تعمل اي حجة عشان تسبني… لا برافو يابيبي…..طب ماتقولي
إنك زهقت وعايز تغير…..كنت هوفر عليك…”
قطع سليم المسافة بينهم هاتفاً بحدة…..
“انتي اتجننتي انتي شربه ايه بظبط… مين دي
اللي هسيبك عشانها…..”
صاحت ايتن بغل وهي تدفعه في صدره….
“الزفته بتاعتك…..المقرفة اللي انت بتخوني معاها..
انا ايتن الشهاوي تخوني مع حتة جربوعة زي
دي…..”
فارة الدماء في اوردته وهو يسمع هذا الكلام
عنها مما جعله يغضب بحمائية……
“اخرسي يا ايتن متكلميش عنها كده….مفيش حاجة
بيني وبين كيان…..”
اتسعت عيناها بعدائية مريبة…..
“اوميجاد……كل ده ومفيش حاجة بينكم….انت نطقت إسمها ياسليم……ليه واثق اوي ان هي اللي اقصدها بكلامي….مش يمكن حد تاني……”
بلع ريقه وكانه وقع في شر بلية…..غامت عينا ايتن بالحزن وهتفت وهي تشير على نفسها بحرقة….
“بتخوني يا سليم بعد كل الحب اللي بينا….مش مصدقه…مش مصدقة بجد…….”
هتف سليم بنبرة غلبها الإعتذار…..
“انا عمري ماخونتك…..يمكن اتشديت لكيان لكن
عمري ماخونتك…….”
صاحت ايتن بوقاحة ونظرة عيناها الجريئة إليه
تقتل اي شعور بذنب نحوها……
“الخيانة مش بس علاقة جنسية يامتر….انت خونتني….خونتني بقلبك وبمشاعرك…..مش
شرط تنام معاها عشان تثبت خيانتك…”
لوت شفتيها بغل وهي تضيف بسفاهات…
“مع إنك لو كنت عرضت عليها كانت وافقت…
حقيرة ورخصية……..”
من جديد شعور بالغضب يندفع في دماؤه
كلما افترت عليها بالكلمات المشينة…..
“كفاية يا ايتن…كيان مش كده….كيان بنت محترمة
ومؤدبة….واحنا عمرنا مافكرنا كده……”
صرخت ايتن بجنون……
“قصدك ايه ببنت محترمة….. قصدك إني….”
اوقفها هو أيضاً بصرخة أعلى….. “ايتن……”
صاحت ايتن بعصبية وهي تشعر بامعائها تحترق من كثرة الغيرة والغل…….
“انا فعلاً عرضت عليك نفسي بس لاني بحبك..مش لاني رخيصة زيها….اللي زي دي طمعانه في أسمك
وفلوسك…..وأكيد بتعمل المستحيل عشان توصلك…”
هز سليم راسه مدافعا عنها بصرامة….
“مش صحيح….كيان معملتش حاجة…ايوا حسيت
من ناحيته بحاجات مينفعش احس بيها…كانت مختلفة…مختلفة عنك يا ايتن…ودا اللي خلاني
احس من ناحيته بكل ده……”
ابتسمت ايتن بمرارة وهي تتذوق مرارة
الهزيمة……
“مختلفة….زمان كان الاختلاف ده عجبك…ولا ناسي
انت عملت إيه عشان اوافق نكون سوا…..ناسي ؟!. ”
وضع يداه في جيبه مصراحاً ببرود…..
“قولتلك اني كنت اعمى وفتحت….ويمكن كيان
كانت السبب في اني اشوف الصورة كاملة…..”
سالته برعب بعد تلك الوقفة الهادئة والملامح
الرصينة……”اي صورة !… تقصد إيه ؟!……”
صرح سليم بحزم منهياً الأمر….
“احنا مش هننفع يا ايتن….مش هننفع لبعض…..”
ابتسمت بعصبية مرددة بقساوة…..
“واكتشفت اننا مش هننفع لبعض غير دلوقتي…”
سحب نفساً عميقا يليه صوتٍ في أوج العمق
والهدوء يبدو الان كمن يلقي كلمة شكر قبل
الانصراف……
“من فترة كبيرة….وكنت بصبر نفسي بانك ممكن تتغيري بس للأسف كل مرة احس اني انا اللي بتغير على إيدك… بقبل بحاجات ميقبلهاش راجل في طبعي….. بس لاني كنت بحبك كنت بقبل ده……”
نزلت دموعها متشدقة
بصدمة….
“كنت….كنت ياسليم…….”
اخرج يداه من جيب بنطالة مؤكداً بملامح صخرية كعيناه الان في النظر الى وجهها الباكٍ….
“دا اللي حاسس بي دلوقتي يا ايتن اني كُنت…ماهو
لو مكنتش فوقت من حبك وعلاقتنا دي..مكنش زماني واقف بقولك الكلام ده…….”
كان يجلدها ويجلد نفسه بنفس السياط ربما لانه
لم يتوقع تركها تحت اي ظرف كان، فهو كان يحبها بشدة كان كالمغيب في حبها……
كيف بدا حبها داخله يتلاشى؟!.. حتى الان غير مصدق انه يقف امامها بقوة جبارة منهياً
علاقتهما نهائياً ؟!…
لكن من يخدع….انهما غير مناسبين لبعضهما….ربما
فجوة الاختلافات بينهما وكثرة المشاكل جعلت حبهما يتلاشى مع الوقت…..
حدثها بواقعية كانت مغيبة عنه…..
“احنا مش شبه بعض يا ايتن…..وعمرنا ما هنعرف نعمل عيلة ويبقا بينا أطفال… احنا بين اختلاف السما والأرض لا انا عارف اطلع ليكي ولا انتي عارفة تنزليلي……يبقا كفاية……”
اتسعت عيناها المبللة بدموع…..
“انت اكيد اتجننت الفرح كمان يومين….عايز الناس تقول عليا إيه….انا هبقا مسخرة الكل……انت اكيد اتجننت….. ”
عايز كده…….عن إذنك…….”
قبل ان يرحل مسكت ذراعه تترجاه….
“سليم…….انت بجد هتسبني….انا بحبك….خلينا
نبدأ من جديد وانا اوعدك هتغير……”
ابعد سليم كفها عنه بحزم قائلاً
بنفور…..
“مش هينفع يا ايتن……كده أحسن.. ”
خرج أمام عيناها الذاهلة ولم تصدق ان القصة انتهت
بهذه السرعة والسهولة وكانها لم تكن…..صرخت كنمر
الجريح وهي تكسر كل شيءٍ توصل إليه يداها…
لاعنه اياه بوحشية…..
“انت ندل. وخاين…..وحيواااااااااااان…… “….

متنساش ان الرواية موجودة كاملة في قناة التلجرام والواتساب

للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا

بقلب غرفة نومهما الشاسعة تجلس على حافة الفراش مطرقة برأسها كالمذنبون ممن ارتكبوا خطاء
لا يغتفر….. خطأ كان كوصمة عار على جبينها يلازم
حياتها ليلاً ونهاراً…
تراه في العيون مترصداً لها.. تراه محقن بالكلمات
الموجهةٍ لها…. تراه في الصمت يقصف في الأذان
كالرعد !… سيظل الخطأ وصمة عارٍ تنغص حياتها الى الأبد……
لن يحبها أحد… لن يثق بها أحد…لن تحيا كاي فتاة
في سنها….ولن تعمر تلك العلاقة ستظل على
المحك !!……
اخرجت نفساً مرتجفا بالخوف وهي ترفع عينيها
الامعه بالدموع اليه……
قلبها يختلج بالرعب…..وهي تراه يوليها ظهره
المتشنج من شدة الغضب.. بين يداه يقلب في
الهاتف الخاص بها….والتي يتم مراقبة كل شيءٍ
به من خلال أحد البرامج الذي وضعها على هاتفه لزيادة حرصٍ !…..
فهو لا يثق بها….
لا أحد يثق بها….
اسبلت اهدابها مجددًا بصمت والدموع تسيل من عينيها بكثرة…مؤلم هذا الشعور والقلب لا يحتمل مرارته ، كيف لنا ان نحيا مع أناس يشككون بنا….ينتظرون طعناتنا القادمة…يرونا وحوشًا
سننقض عليهم في للحظة غدر…….
استدار لها سلطان بملامح سوداوية جامدة
مهيبة ومرعبة…….
“عرفتي منين انه بطل……”
كرر السؤال وعيناه تؤكد التهمة دون إجابة منها بل ان بعد التعمن في غضبه تراه يفكر كيف سيعاقبها على خيانتها له !……
نظرة الى نيران عيناه عواصف نشبت حربٍ ضارية
مواجهة لها وحدها…..
صرخ سلطان بنفاذ
صبر….
“انطقي ساكته ليه……”
فركت في يداها بعصبية جالسة بعجز امام
هجومة العنيف….
“كان رد غبي انا معرفش عنه حاجة….. انا معرفش
عنه حاجة والله…….”
قطع المسافة بينهما وجثى على ركبته يمسك
ذراعيها بين قبضتاه بغضب سافر صارخاً…..
“انتي كدابة انتوا لسه بتكلموا…. بتستغفليني..حتة
عيلة زيك غبية وتافهة….مش قادرة تفهم وضعها
دلوقتي إيه….مش قادره تفهم من غباءها ان
اسمي وسمعتي بين ايديها… حتى لو كنتي
مراتي بالاسم… انتي مراتي…..مراتي فاهمة.. ”
نزلت دموعها بغزارة وهي تغمض جفنيها بخوف
وجسدها ينتفض برهبة بين قبضتاه القويتان..
فصرخ هو بقساوة وعيناه كانت تشتعل بجنون
كمن فقد السيطرة على نفسه……
“عملالي فيها حبيبه….. بتكلموا من امتى وفين.. وازي…أكيد عمله حسابك ومكلمتهوش في التلفون عشان عارفة اني مراقبة…. مش كده بتكلمي إزاي…انطقي… انطقي…. ”
بدا يهزها بعنفاً ويصرخ فيها بجنون جعلها تهتف
بصوتٍ منتحب مهتز……
“اقسم بالله ما اعرف عنه حاجة… والله كان رد غبي
عارفه… واكيد مش مصدق اني مش بكلمه بس دي الحقيقه…… انا مش معايا تلفونات غير التلفون ده
وبكلمك انت وماما واميرة وكيان وجنة… والله
ما بكلم حد تاني غيركم…..”
فتحت عيناها الحمراون امام عيناه المتجهمة الغير
متهاونة والتي تشكك في كل حرف نطقت به…..
فاسترسلت بوهن معتذرة……..
“والله كان رد غبي عارفه…. والله ما اعرف عنه
حاجة من آخر مرة….والله ما خانتك….. والله…..”
انفجرت شفتيها بصرخة مرعبة عندما قبض
سلطان على فكها بقوة يعتصره بين قبضته
الفولاذية وهو يقول بصوت مهيبًا….
“في يوم من الأيام هتكون نهايتك على أيدي.. مش هرحمك لو اكتشفت انك فعلًا بتخونيني… مش هرحمك….. هقتلك……هتقلك ياداليدا سامعة…. ”
همست بغصة مختنقة ونصف وجهها بين قبضته
معتصرا……..
“لو موتي هيريحك…. اعمل كده وخلصني…”
ازدادت ملامحه حدة ونظراته خطورة …فقالت بعذاب وهي تبكي وسيل دموعها يهبط بخطٍ
مستقيم ينتهي عند قبضة يده متوارياً ، ملامسا قساوة لا تلين حتى برؤية دموعها !……
“انا مش مبسوطه في حياتي دي….مش مبسوطه..”
فور نطقها بهذا اتكا سلطان اكتر على وجهها بقسوة…..مهسهساً بشرٍ……
“ومين قالك اني متجوزك عشان ابسطك… انا متجوزك عشان ادفنك هنا بين الحيطان دي…. زي
ما ابوكي عايز…. وزي ما كلهم عايزين……”
زاد انكسار عيناها وحزنهما عمقاً..فظلت صامته رغم
الالم المنبعث من نصف وجهها الذي يقبض عليه
دون رحمة….هسهس مجدداً بنبرة أشد
خطورة…….
“مش هتخرجي من هنا غير على قبرك ياداليدا…”
تركها أخيراً فمسحت دموعها بظهر يدها
هاتفها من بين بكاؤها الهيستيري….
“انا بكرهكم……بكرهكم….وبكرهك…..”
لم يتحرك من مكانه بل كان هو وغضبه امامها
بالمرصاد وكذلك رد بنبرة تقطر ندمًا….
“مش قد الكره اللي في قلبي ناحيتك….انا قرفان
منك….وقرفان من نفسي اني قبلت أتجوز واحده
زيك……واحده …..”
اتكات على شفتيه حتى لا يخرج مايندم عليه
فيما بعد……لكن وسط دموعها قالت بجنون….
“كمل أيوا انا كده…وكلكم شايفني كده….يبقا انا
كده فعلًا….كمل وقولها….. قولها ياسلطان……اني
*… ”
ضربها سلطان على فمها عدة مرات
بعنفاً….محاولا اسكتها…..
“اخرسي….اخرسي……اخرسي بقولك…. ”
صاحت داليدا بعنفًا وهي تتفادى ضربات يده…
“دا اللي انت شايفه…..وكلهم شايفينوا….اني واحدة
****……انا كده طلقني وسبني أروح لحال سبيلي
لا عيزاك ولا عايزة أهلي……ولا عايز حد…..”
مسكها من ذراعيها وقربها منه فجأه
بجنون صارخاً….
“عايزاني اطلقك عشان تروحيله….دا انا قتلك ولا اسيبك ليه ياداليدا……اقتلك سامعة…..”
ابتلعت لسانها وهي ترى في عيناه ومضٍ مختلفا
جعلها تهابه اكثر من السابق……التوت شفتي سلطان
بسخرية هاتفاً وهو يشير على الباب المغلق عليهما حيث تنتظر كيان بالخارج رافضة المغادرة دون
ان تطمئن على صديقتها……عالمة ان سلطان لن
يتهور في وجودها……
“من غباءك…حاكيه لكيان عن كل حاجة…..مبسوطه
بعلمتك السودة….مش فارق حتى معاكي شكلي وشكل اهلي قدامها…….”
لم ترد داليدا بل بلعت غصة مختنقة منتظرة
الاسوء….. وبالفعل تابع بملامح واجمة وبنظرة
نافذة….
“أخوها صاحب عمري ميعرفش حاجة عننا ولا حتى
اتجوزنا ليه…وانتي بكل غباء حاكيلها…احكي…أحكي
للي يعجبك……
تعلم جيداً انه لن يضربها بوجود كيان لذا اختار ضربها بالكلمات…..وضرب بالكلمات يعني آلامًا
حتى الموت !!….
“قوللهم انك هربتي مع واحد صايع اهلك رفضوه..
فقولتي اكسر عينهم واتجوز من وراهم….ساعتها اخلي راسهم في الطين…..ميقدروش يرفعوا راسهم
في الحته…….قوللهم….انك روحتي معاه شقة مفروشة لوحدكم بشنطة هدومك….بعد ما هربتي
من بيتكم الفجر معاه……
أحنت داليدا راسها ودخلت في نوبة بكاء مريرة..
لم يرحمها وهو يتابع بصوت خالي من الحياة…
“قوللهم ان ابن عمي جالنا الشقة وشافنا سوا…وقرر
يستر عليا فأتجوزني وحبسني في شقته….قوللهم
انك مظلومة وان قسوة اهلك وبعدهم عنك ظلم
ليكي…..
بدأت تخرج الشهقات من بين شفتيها الحمراء
بعذاب..فاسترسل وهو يصب جام غضبه المتبقي عليها……
“وقسوة ابن عمك عليكي افترى….وازاي يحبسك
ويراقب تلفونك مستني غلطه منك…قوللهم ان احنا
وحشين وانك مظلومة معانا……”
وضعت يداها على اذنيها وهي تبكي بقوة
لا تحتمل القادم منه…..لكنه لم يرحمها وهو
يسحب يداها بعنف وداخلها رغبة شيطانية في ضربها حتى الموت….صاح بنبرة هازلة…..
“لو جدعه ارفعي ايدك للسما وادعي علينا…يمكن
ربنا ياخُدنا ونريحك بدري بدري…وتعرفي تمشي
على حل شعرك…….مع عادل او غيره……”
ازداد نشيج صدرها علوًا وبكت بعنف لم تبكِ به
يوماً في حياتها……فابتسم هو بسادية هاتفا
بقسوة…..
“عيطي…..عيطي ياداليدا….ياريت الدموع تقدر تنضفك……ياريت يابنت عمي……”
لم تشعر بانه خرج من الغرفة وتركها بعدها لدموعها
ومأسيها لم تشعر الى بصوت كيان الدافئ ينتشلها
من بئرها البارد……وينير ظلامها…..عندما سحبتها
الى احضانها وربتت عليها هامسة بقلق…
“داليدا……. داليدا…..”
لم ترد داليدا بل ظلت باحضانها تبكِ
دون توقف…….فظلت كيان تربت على كتفها
وتمسد على شعرها سائلة برعبٍ……
“اهدي……أهدي……ضربك؟…..ضربك؟…..”
لم ترد داليدا مجدداً لم تخرج الا شهقات متمزقة
ودموع متحسرة…….ومع ذلك ظلت كيان جوارها
تسالها كل دقيقة وتناديها بوجل كل ثانيتين….
ومع ذلك لم تتفوه داليدا بحرف ولم تهدأ الا بعد مدة طويلة…..
………………………………………………………………
زفرة كيان بحنق وهي تنزل الهاتف عن
اذنها…
“حمزة البارد…… مرضاش يخليني ابات معاكي…
مع اني قولتلوا ان جوزك مش في البيت….قالي
هاجي اخدك كمان ساعة…. ”
نظرة لها داليدا بوجها باهت وعينين حمراوين مبللتين بالدموع……ولم تعقب بل ساد صمتاً كئيبا
مجددا بينهما…
اقتربت منها كيان على مهل وجلست جوارها ثم مسدت على كتفها وظهرها قائلة باعتذار…..
“انا اسفه ياداليدا…..كل اللي حصل ده بسببي..
لو مكنتش اتكلمت……”
اطبقت كيان على شفتيها بغضب تلوم نفسها للمرة الألف…….
أسبلت داليدا اهدابها ونظرة الى الهاتف بين يداها
وعادة تتصل به من جديد لكن هاتفه مزال مغلق…
اخرجت داليدا تنهيدة مرتجفة وترقرقت عيناها مجددًا بالدموع قائلة بخوف…..
“تلفونه لسه مقفول……انا خايفه عليه أوي…..”
نظرة لها كيان متعجبة من ردة فعلها…فقالت بدهشة…..
“خايفه عليه؟!……بعد اللي قالوا ياداليدا…..”
سالت الدموع من عيناها الشاردة وقالت
بشجن يقطر ندم….
“عنده حق….انا فعلاً غلطانه….ومش مقدرة اني بقيت
مراته….لسه بتعامل معاه على اني بنت عمه الصغيرة
اللي يحق لها تكلم وتصرف زي ماهي عايزة….في حضورة او غيابة….هو عنده حق يا كيان…..انا غلطانه
من الأول……عنده حق يشك فيا…. ويقول اللي
قاله… ”
سالتها كيان بتريث…..
“قوليلي بصراحة ياداليدا هو ضربك…….مد ايده عليكي؟…”
هزت راسها بنفي والكلمات مزالت تخترق ثقب
اذانها كالسهام الحادة……
“ياريته عمل كده…..بس هو دبحني بالكلام…قال
كلام وجعني أوي……”
ربتت كيان على كتفها
بشفقة…..
“اهدي ياحبيبتي….. أهدي…..”
نظرت لها داليدا بقلق….
“انا قلقانه عليه اوي…. تفتكري حصله حاجه….”
انعقد حاجبا كيان فوبختها برفق….
“بلاش تشائم خير ان شاءالله….زمانه جاي…..”
نظرت داليدا للساعة التي تشير لنصف
الليل….وقالت بلوعة….
“اتأخر أوي….طب حتى يفتح تلفونه عشان اطمن…”
اتسعت عينا كيان وتشدقت
بتعجب…
“داليدا انتي بتحبيه ؟!….”
هزت داليدا كتفيها وهي تضع يدها على صدرها بوجع…….
“معرفش…..معرفش…….انا قلبي وجعني اوي و زعلانه اني زعلته….. زعلانه اني سمعت منه الكلام ده… انا خايفه يكون بيكرهني…مش هستحمل كرهه وبعده عني تاني…..مش هستحمله يا كيان……. ”
لمعة عينا كيان بدموع فزفرة بدهشة وهي تبتسم
بتاثر…….
“آه….. ياربي…..انتي بتحبيه…..بتحبيه ياداليدا….”
مسحت داليدا دموعها عاجزة عن إجابةٍ صحيحة فمشاعرها متضاربة الآن…..
“مش عارفه……مش عارفه…….”
سحبتها كيان لاحضانها تمسد على شعرها
و ظهرها بحنان بالغ تبث الطمأنينة بعدة
كلمات رقيقة…..
“اهدي ياديدا….اهدي زمانه جاي اطمني……مش هيقدر يبعد كتير….أكيد أول ما يهدى هيرجع…
هيرجع تاني…….”
“ياريت…” كان اخر شيءٍ تهمس به قبل ان تذهب
في ثبات عميق على الاريكة في أحضان رفيقتها…..
نظرت لها كيان بشفقة شاعره بذنب نحوها فلو كانت
مسكت لسانها السليط ما كان انفتح الموضوع من الأساس……
اخرجت تنهيدة مثقلة بتعب والهموم ثم حملت حقيبتها واتجهت الى باب الخروج من الشقة
تاركه داليدا نائمة على الاريكة بعد ان رفضت الدخول لغرفة النوم…مصرة على البقاء بانتظار
زوجها…… تركتها بعد ان دثرتها بالشرشف
واخفضت الاضاءة ورحلت…..
بالاسفل استقلت سيارة اخيها بجواره وقالت بتزمر…….
“كان فيها اي يعني لو سبتني ابات معاها بقولك تعبانه……”
زمجر حمزة وهو يلكزها في كتفها
بغضب….
“تباتي عند مين انتي اتهبلتي…..”
تحسست كيان كتفها وهتفت
بضجر….
“جوزها مش فوق ياحمزة……”
رد حمزة بخشونة…..
“زمانه جاي انا لسه قافل معاه……”
برقة عيناها وهتفت بلهفة…
“بجد هو كويس….”
ضربها حمزة على مؤخرة عنقها….
“وانتي مال أهلك…. ما تخليكي في حالك….”
كورة قبضة يدها ولكمته في فكه
صائحة….
“بسأل عشانها يا بارد…..”
صفعها بخفة على وجنتها هاتفاً ببرود…
“هي تساله السؤال ده لما تشوفه… وبعدين اتنين
متجوزين متخانقين شويه تحشري انتي نفسك بينهم ليه متخلي عندك شويه من الأحمر وسبيهم
يحلوا مشاكلهم على انفراد……”
ضاقت عينا كيان بشك قائلة…
“مين قالك ان هما متخانقين……هو حكالك.. ”
رد حمزة بصلابة…..
“ويحكيلي بتاع إيه… مشاكل عائلية مليش دخل
فيها هو مقالش حاجه باين على صوته…..”
زمت شفتيها بملل شديد…..
“طب اطلع لو سمحت انا جعانه وتعبانه وعايزة أنام….”
أدار حمزة مقود السيارة قائلاً بمرح….
“شهد كانت عامله حتة طبخة النهاردة حكاية..”
لمعة عينا كيان بابتهاج….. “افتكاسه….”
بادلها الابتسامة مؤكداً….. “احلى افتكاسة……”
انطلق بسيارة بعدها وسط تبادل من الأحاديث
والمناغشات بينهما……
………………………………………………………..
دخل من باب الشقة بعد صلاة الفجر…..فوجد الشقة مظلمة عدا نور الصالون حيثُ وجدها نائمة على الاريكة تندثر تحت الغطاء وينسدل شعرها الناعم
أرضا قليلاً بسبب ميل رأسها….
اتجه اليها بتنهيدة تحرق امعائه أكثر ثم مالى عليها
قليلاً وبدلا من عدل رأسها حملها سريعاً على ذراعيه
متجه بها الى غرفة النوم…بملامح أشد صلابة ونظرات أشد خطورة مراوضا شياطين غضبه
الان باعجوبة…….
وضعها على الفراش على مهل……ودثر جسدها بالاغطية برفق ثم القى عليها نظرة عابرة قبل ان يخرج لكنها اوقفت ابتعاده عنها بصوتٍ ناعس حزين……
“سلطان……امتى جيت…..”
توقف مكانه وتشنج جسده ودون النظر رد بخشونة……
“لسه دلوقت…..اي اللي نايمك برا…..”
ردت بحزن……. “كنت مستنياك…..”
لم تلين ملامحه فقال بخشونة….
“اديني جيت….. نامي…..”
تحرك خطوة فسالت بولة…… “رايح فين…..”
رد مجدداً دون النظر اليها بنبرة اشد صلابة….
“هنام في الأوضة التانيه..خليكي في السرير ده
عشان رجلك……”
لم تيأس وهي تترجاه بصوتٍ
ثملاً…
“ينفع تنام جمبي…….”
دون النظر رفض بجمود…..
“لا……نامي….ولو عوزتي حاجه ابقي نادي عليا…”
عندما خرج من الغرفة وتركها….نظرت للسقف في الظلام شاعرة بالحيطان تضيق بها من كل اتجاه
فاغمضت عيناها وتجرعت مرارة الكلمات مجدداً
ووجدت الدموع الطريق لعيناها…..
ام هو فالقى جسده على الفراش واغمض عيناه بأرهاق بعد قضاء لليلة مضنية بين شوراع الساحة
كالمعتوه….في محاولة أجاد راحة بعيداً عن مكان يحمل عطرها وانفاسها وصوتها…..
وفالنهاية إنتهى به الحال الآن في غرفةٍ متشربة
من عطرها وفراش حمل نعومة جسدها محتفظا برائحة انفاسها به…….
فاين الخلاص منكِ يا ابنة العم !!…
………………………………………………………….
في مكان مظلم ليس لهُ ملامح تبين لها اين هي
تقف بثوب قمري جميل يضوي بشدة تتألق به
تاركة شعرها الأسود حرًا طليق على ظهرها……
وقفت تراقب القادم عليها من بين الظلام بخوف حتى ظهر اليها وعرفته من ملامح تحفظها على
ظهر قلبها.. فضحكت اليه بخجل وسارت اليه
بخطوات سريعة ، تقطع المسافة بينهما لتكن
أمامه مباشرةٍ….
أبتسم لها بحب وافتنها بالكلمات ثم أحتوى خصرها
وضمها لأحضانه فتنهدت هي بارتياح هامسة بقلب
ولهان في الحب…..
(وحشتني اوي ياعادل….)
لم يرد فأنعقد حاجبيها وهي تبتعد عنه متزمرة…لتجد
وجه سلطان مكانه ينظر اليها بإبتسامة رائعة جذابة
جعلت قلبها يختلج بالخوف…..وقالت بوجها شاحب
قارب على اللون الرمادي من شدة الرهبة والصدمة من وجوده حتى انها ابتعدت عدة خطوات عنه
(سلطان…..سـ…سلطان انا…..)
اقترب منها هو عدد الخطوات التي ابتعدتها عنه ثم
حجز وجهها بين راحتيه بحنان بالغ…..
(مالك ياداليدا خايفه من إيه……)
همست بشفاه ترتجف بشدة….
(انا…..انا اسـ…..انا اسفه…..)
اتسعت عيناها بشدة وهي تنظر خلف كتفه لتجد عادل يشهر سلاحه على ظهر سلطان بابتسامة شيطانية في لحظة كان بها سلطان يصب كل
تركيزه عليها متغافلا عن الغدر القادم خلفه…..
صرخت وهي تبعد سلطان عن الهدف لتضع جسدها هو هدف طلقات النار التي اخترقت جسدها ولم تصبها بأذى رغم انها من تلقتها لكن سلطان هو من سالت دماؤه وطاح أرضا أسفل قدميها فتحول ثوبها القمري فجأة للأسود الحالك !!…..
نهضت عن الفراش شاهقة شهقة الغريق قبل ان تصرخ صرخة المغيث……فاتى سلطان الى الغرفة
سريعاً واضاء الأنوار سائلا برفق وهو يقترب
منها….
“مالك ياداليدا…..بتصوتي ليه……”
بدأت تاخذ انفاسها بصعوبة وهي تبكي ويداها الاثنين تتشبث به هاتفه وسط شهقاتٍ عالية
وأنين يقطع نياط القلب…..
“خليك جمبي….خليك جمبي ياسلطان…..”
كانت حالتها يُرثى لها مما جعله يقول بهدوء
وهو ياخذها في احضانه مشفقا عليها…..
“انا معاكي….أهدي….كان كابوس…..كان كابوس…”
كابوس ؟!….أخشى ان يكون جرس إنذار لنا
جميعًا..
هتف بها عقلها المرتاع في ظلام المخاوف……
…………………………………………………………..
كان يجلس في شرفة غرفته… ينفث في سجارته
بشراهة عيناها شاردةٍ وملامحه متشنجة تحمل
كم كبير من الانفعالات……
حتى الآن غير مصدق انه انفصل عنها… أخذ القرار
في خلال دقيقتين نقاش والقى الوداع ورحل..
كيف تلاشى حبهما بهذه السرعة… وكانه لم
يكن !! …..
وضع السجارة في مرمدة السجائر ثم رفع راسه للأعلى سانداً على حافة ظهر المقعد….ناظرًا بعيناه القاتمة لزرقة السماء الصافية والشمس الناصعة الحارة….
وللطيور المحلقة بالاعلى تهاجر من موطناً لاخر…..تبحث عن مأوى عن راحة عن حياة
أفضل….
مثل قلبه أراد ان يهاجر الى أبعد مكان…باحثا عن الحب الحياة الزوجية مع أمرأه تسعى لرضاه
وتذوب في هواه كما يذوب هو بين شفتيها
عندما تنطق إسمه…..
اتراه أختار شيءٍ كثير عليه…أكبر من المتوقع…
اتراه اخطاء عندما فكر في الزواج والاستقلال العائلي…
لماذا لم يكن كباقي اصدقاؤه يلهو ويلعب بالقمار
والنساء والخمر…مستغلا الثروة المهولة واسمه
الامع في إمتاع نفسه كما يفعل البعض……
ربما لانه نشاء بين عائلة سوية ،كانت تتمتع بالحب
والإحترام وصبر وأيضاً المعاشرة الطيبة…
لم يرى الحب نكرة والزواج تعاسة والأطفال هم
نهاية مأسوية للحب والزواج كما كانت تقنعة
ايتن دومًا بافكارها النشاز التي جعلت منه
نقيضا لشخصه……
كيف سمح لها ان تلعب بعقله وتغير مبادئه
وتلوث أفكاره وتمحي فطرة الأمان داخله…
أهو الحب الأعمى الذي يخشاه الجميع….ام انه شعار
المغيبون امثاله ممن يرفعوا الافِتات بفخر هاتفين
بأن(الحب أولًا..)والباقية تاتي مع الوقت !…
ليس الحب كافٍ..وان اتى أولًا هذا لا يعني أبداً انه كافٍ فلمعة الحب تنتهي حينما ننغمس في لذاتُ وعندئذٍ يترك أثر مؤلماً نفشل في مدواته بمفردنا..
فنظل ندور في دوائر صغيرة مغلقة حتى ننهزم ونحني رؤوسنا بأسف !…..
“دا شكل الموضوع كبير أوي……”
فاق من شروده على صوت والده الذي اتخذ مقعدا
مقابل له….ثم نظر له بتمعن وتراقب…
نظرة الآباء…تلك النظرة التي تجردنا فتكشف دواخلنا
دون بوح…….
“مالك يا سليم…من إمبارح وانت مش مظبوط…في إيه…انت متعارك مع خطبتك…..”
رد سليم مقتضبًا…. “مفيش عراك ولا حاجه……”
زم والده شفتيه بعدم رضا…..
“لو فيه بينكم اي مشاكل حاولوا تحلوها…مش معقول تبقوا بالمنظر ده يوم فراحكم….المعازيم
هيقولوا انكم مغصوبين……واحنا مصدقنا انكم
هتجوزوا…….”
قال سليم بجمود……
“مفيش جواز يابابا….انا وايتن سيبنا بعض…..”
ارتفع حاجب والده بصدمة…
“سبتها ؟!….ليه يا سليم…..اي اللي حصل……”
قال سليم بوجوم…..
“اللي حصل اني فوقت واكتشفت ان عندك حق…
ايتن مش شبهي ولا انا شبها…..”
عبس وجه والده معترضًا……
“وجاي تكتشف ده قرب فرحكم…..انت عايز الناس
تقول على البنت إيه…..سُمعتها يابني…..”
تذوق سليم الكلمة شاعرًا بقبضة نارية تداهم
امعائة……..
“سُمعتها ؟!….لا من الناحية دي أطمن خالص…”
نداه والده بضيق بالغ محذراً…”سليم…..”
تافف سليم متذمراً…..
“انا خدت قراري ومش هرجع فيه……”
عقد والده ساعديه امام صدره وضاقت عيناه
سائلا بشك……
“انت كبير وعارف مصلحتك فين…..ودي حياتك ومن حقك تختار الست اللي تشاركك فيها….بس فهمني
اي اللي خلاك تقرر فجأة كده تسبها…..”
نظر سليم لوالده لبرهة…..ثم اخرج تنهيدة طويلة وبدأ بالحديث بمنتهى الصراحة كما عوده والده
منذ الصغر……
“احنا طول عمرنا صحاب يابابا…وانت ربتني على الصراحة من صغري…..”استرسل الحديث بحرج….
“ايتن مش مناسبة ليا…..مش هنكر اني من سنتين بس كنت مهوس بيها…بنت جميلة وشيك… وخده
شهادتها من أحسن الجامعات في انجلترا….. باباها
رجل أعمال كبير…..مستواها كان مناسب ليا…فيها
كل الموصفات اللي بدور عليها كانت مناسبة
جداً….”
عندما توقف سليم عن الحديث….استلم والده
دفة الحديث مشيراً على عقل ابنه ثم قلبه……
“كانت مناسبة لده……. مش لده……”
هز سليم راسه متعرفًا….فقال والده بصوتٍ
رزين وكانه يقرأ المسطر في عين ابنه
الوحيد….
“افتكرت انك حبتها لما عقلك اقنعك بيها….ملت قناعتك و زاد غرورك بارتباطك ببنت زيها جمال وحسب ونصب ومستوى الإفرنج يحسدك عليه
الكل…..فنسيت قناعة قلبك…فأول ماقلبك دق
لغيرها اتقلبت كل الموازين…وبقيت محتار بين
انك ترضي عقلك وقلبك…..شويه تروح هنا
وشوية ترجع هنا……متحير بينهم…. ”
شحب وجه سليم فجأه…. فقاطع
والده…. “بابا……”
اوقفه والده باشارة من يده وهو يسترد حديثه
قائلاً بجدية شديدة…..
“سبني أكمل كلامي….كلنا بنحط مواصفات قياسية لشخص اللي هنرتبط بيه…بس لم بنحب.. بنحب حد عكس اللي خططنا له…. وعكسها هو اللي خلانا نحبه….”
شرد سليم وصورة كيان تداعب خيالة..ثرثرتها
ضحكاتها… بساطتها…خفة ظلها..جمالها وعيناها
الفيروزية البراقة.. كوبها الطفولي الأصفر…فطورها الغريب الذيذ…حبها النقي للغير وكرهها الشديد لوالدها….
تتفانى في العمل بجد….مخلصة في الصداقة…
رائعة في الود….اين ذهبت عصفورة الكناري خاصته…..اين ذهبت؟!….
تابع والده بهدوء وعيناه مثبته عليه…..
“الجمال مع الوقت بيروح..الفلوس ممكن كمان
تضيع الإسم المنقوش بالدهب ممكن تلاقيه دهب صيني مغشوش……حتى الشهادة مع شخص مش طموح معندوش أهداف لبكرة بتكون زي الشهادات
المتربة المتعلقة على الحيطان سنين بهدف المنظرة……”
اضاف والده برفق…..
“لو الحب عيب او حرام….مكنش ربنا جعله بينا..
من حقك تختار اللي يعجبك…من حقك تحط الموصفات اللي تناسبك…بس مش من حقك
تغصب قلبك على حاجة مش عايزها…ولا
تلومه على حاجة اختارها ليه ربنا…. ”
ثم غامت عينا والده بالحزن مضيفًا……
“الحياة يا ابني تجارب..مرة هتقع ومرة هتقوم…مرة
هتخسر…ومرة هتكسب….وعشان تتعلم في الدنيا
لازم تخسر حاجات بتحبها……يمكن بعد كده تعرف
تحافظ على غيرها……”
ابتلعهما الصمت للحظات كانت كالدهر بنسبة
لسليم الذي سأل والده بتردد……
“قصدك ايه بقلبي دق لغيرها……”
أبتسم والده بالؤم يذكره…
“دي الإجابة اللي مستنيها منك….من أول يوم شوفتها فيه…..وشوفت اهتمامك وغيرتك
عليها… ”
اشاح سليم بوجهه
قائلاً…
“انت فاهم غلط يابابا……”
دخل المستشار سريعاً في صلب الموضوع
دون مراوغة أكثر……
“كيان بنت جميلة وطيبة وبتفكرني بأمك وده
مقدرتش اشوفه في ايتن للأسف… كيان تستاهل تكون مرات ابني….انا معنديش مانع خالص بس قبل كل ده….تدي لنفسك وقت تخرج من الحالة اللي انت فيها…ساعتها انا معنديش مانع تاني اطلبها من ابوها بنفسي….”
اكفهر وجه سليم فقال بنفور من فكرة
الارتباط مجددًا…
“انا مش عايز لكيان ولا غيرها….كفاية كده….”
اوما والده براسه بتفهم قائلاً بحنو…..
“ادي لنفسك وقت….وحاول ترجع لمكتبك وللقضايا
بتاعتك…..شغلك هو اللي هيطلعك من اللي انت فيه…..”
أبتسم سليم مدعي المرح….
“ربنا يسهل ياسيادة المستشار……”
نهض والده عن مقعده وبابتسامة بشوشة ربت
على كتفه قبل ان يبتعد……
“تمام يامتر……انا هروح اشوف الأكل اللي في الفرن……وتعالى ورايا… عشان عندك مواعين.. ”
عندما ابتعد والده رفع سليم حاجبه
بصدمة متشدقاً….
“مواعين؟!…..ضاعت الهيبة……”
يبدو أن والده لا يقدر الحالة المزاجية
السيئة الذي يمر بها…وكأن غسل الأواني
قادر على إسعاده ؟!…..
………………………………………………………………
زفرة بانزعاج وهي تحك في راسها للمرة المائة لعلها
تستوعب ملف القضية امامها لعلها تفك شفرتها وينتهي هذا الضغط……
العمل في مكتب المحامي (خليل الصواح..)مرهق جداً…..خصوصا عندما تريد استشارة منه….
ترى القيامة في عيناه البغيضة وكانها تريد
سرقته…..ياالهي الرجل لا يطاق…والعمل معه
مرهق وشاق انه أسوء من سليم الجندي بمراحل….
ربما العمل مع رجلا وسيم كسليم كان يهون أفعاله
البغيضة والتسلط العين…..لكن ماذا عن خليل رجل في عمر الخمسون عام يتعامل مع الجميع وكانهم
أطفال في الروضة……
زفرة وهي تدقق النظر في سطور الملف
محدثه نفسها بنزق…..
“كان مالها فنون جميلة ياكيان…كان مالها يابومه…”
عضت على باطن شفتيها مؤنبة نفسها
اكثر…
“رفستي النعمة ياحزينة اشربي بقا…..ماله سليم.. ”
في نفس المكتب المشترك الذي يتضمن ثلاث
مكاتب بالمكتب الجالسة خلفه…ومكتب نائل
زميل الدراسة…..ويارا صديقتها والتي قالت
برفق تهون عليها….
“يابنتي أصبري بكرة تتعودي….طب والله بيعاملك
كويس….فاكر يانائل أول ما شتغلنا معاه…..”
مط شفتاه عابساً…… “وهو ده يوم يتنسي….”
ثم نظر الى كيان بنظرة تخصها وحدة وقال
بمرح……
“انتي في نعمة ياكيان…..”
زمت كيان شفتيها بقرف…..
“كل ده وفي نعمة دا ناقص يرميني من الشباك..”
“كيااااااان…..”
انتفضت كيان واقفه وكذلك فعل زملاؤها….احتراما
لرب عملهم الذي اقتحم المكان بملامح تنذر بالخطر
كعادته دوماً……..
سالته كيان بارتياب….
“ايوا يا أستاذ خليل…….خير… ”
نظر الى الملف امامها ثم سالها
باقتضاب…
“اي اخبار القضية اللي ادتهالك تدرسيها…..كتبتي
المذكرة….. ”
ارجعت خصلة من شعرها البندقي للخلف ثم قالت بتلعثم…… “لسه بـ بدرسها…..”
انفعل خليل مستنكراً اجابتها…..
“اي التهريج ده بقالك تلات ساعات بتدرسيها..ده تسيب……”وزع نظراته على ثلاثتهم قائلاً
بترفع….
“دا وانا في سنكم……”
تمتمت كيان بخفوت…. “بدأنا الفشخرة الكدابة…..”
تابع خليل قائلاً…..
“كنت بحل اجعصها قضية في عشر دقايق…..”
تمتمت كيان ببرود……. “وحياة أمك….”
نظر لها خليل بشك…..
“بتبرطمي تقولي ايه ياكيان……”
ابتسمت له بصفاء ثم قالت بنبرة مصبوغة
بالود فاح منها النفاق…….
“بقول طبعاً يا أستاذ انت مثلنا الأعلى من ايام الجامعة……دا انا مكنتش بشكر غير فيك..
رجل قانون بجد يستحق يعلم أجيال قادمة….
انت اضافة لينا….. ”
تنحنح خليل بحرج وتضخم صدره بفخرٍ
فقال وهو يعدل ياقة قميصة مخففا
من الحدة قليلاً….فقال…..
“لسانك الحلو ده ياكيان هو اللي مخليني صابر
عليكي….لكن انا مش عايز بس كلام عايز أفعال
ادرسي القضية دي كويس وبكرة القيكي على
مكتبي بالمذكرة سمعاني…..”
أكدت كيان وهي ترفع سبابتها واعده
بعدم التخاذل…….
“طبعاً دا انا مش هنام….هسهر عليها…أطمن…”
ابتسم خليل برضا تام فأشار اليهم قائلاً….
“تمام…… كملوا شغلكم……”
عندما خرج خليل القت كيان جسدها على المقعد بتعب هاتفها بمقت…….
“حسبي الله ونعم وكيل فيا…..”
نظر لها نائل قليلاً بحب ثم خصها بنبرة حنونة
مهتمة وهو يقول…..
“بلاش تضايقي نفسك ياكيان صدقيني بكرة تاخدي على المكان والناس……انا مبسوط اوي ان انتي معايا….قصدي معانا كلنا……ولا اي يا يارا….”
قالت يارا بإبتسامة جذل…..
“أكيد اتجمعنا من تاني سوا….وبكرة نخربها زي زمان……”
ابتسمت كيان بتلقائية محببة
للقلب…فقال نائل هائماً…..
“ايوا كده اضحكي…..خلي الشمس تنور….”
هتفت يارا بطمع وهي تنظر اليه….
“اديها ضحكتهالك اهيه اعزمنا على حاجة بقا
بعد الشغل……”
هز نائل راسه بالموافقة….
“انا معنديش مانع….اللي تطلبه كيان انا
هوافق عليه….”
حذرتها يارا بنظرة صارمة….
“إياكي ترفضي ياكيان……عايزين نخرج خروجة
حلوة وسريعة كده تطري على قلبنا بعد جلد
الذات ده…….”اشارة على الملفات بين
يداها….
فقالت كيان بعد تنهيدة ….
“اختاري انتي يا يارا وانا موافقة……”ثم نظرة الى ملف القضية من جديد……
فغمزة يارا الى نائل هامسة في
الخفاء…..
“اي خدعة……اتلحلح بقا.. ”
……………………………………………………………..
دخلت غرفتها ليلاً واغلقت الباب عليها تاركه شقيقيها
وابنة عمتها في الصالون يتابعا احد الأفلام……
استغلت انشغالهم في أحداث الفيلم الشيقة وقررت
ان تختلي بنفسها هنا تُجري مكالمة هاتفية تود فعلها
منذ الصباح لكن ضيق الوقت وكثرة الأعمال اعجزتها
عن فعلها….. لكن قلبها كان مشغول البال طول أليوم…. وشوق كان يحرق فتيل صبرها…..
وكلما حاولت يأتي ما يعرقل اتصالها فتغلق الهاتف
زافرة بضيق….
حتى يأست من اجراء مكالمة صوتية فارسلت رسالة
مختصرة…..تتناقض مع شوقها وقلقها عليه…..
(عامل اي دلوقتي……)
أرسل بعد لحظات…..(من غيرك أكيد مش كويس……)
كبحت على ابتسامتها الخجولة… فوجدت رسالةٍ منه أكثر حرارة….(شـهـد….عايز اشوفك…)
انعقد حاجباها وهي ترسل…….
(احنا كنا مع بعض إمبارح……)
أرسل بحب…….(ونبقا مع بعض النهاردة كمان……)
رفضت بجفاء مرسلة……
(بطل هزار انت لسه تعبان…..طمني عنك….لسه الجرح
بيوجعك……)
وقتها لم يرد وكانه غضب منها…..فقرر خصامها….
مطت شفتيها وقتها واغلقت الهاتف بيأس….لماذا رفضت مقابلته…كانت ملهوفة الى سماع صوته…
لماذا ترفع السياج مجدداً حولها…..هل هذا دلال ام انه الخوف الذي يأبى تركها تحيا كالبشر……
ارتاحت على الفراش ورفعت الهاتف على اذنها….ساحبة أكبر قدرٍ من الهواء قبل ان يُفتح
الخط كمن يوشك على خوض سباق قياسي في
كتم الانفاس تحت الماء…….
انتهى الاتصال دون الرد عليها مما جعلها تفتح عيناها
شاعرة بصفعة قوية في كبريائها جراء هذا التجاهل..
جزت على اسنانها بضيق والقت الهاتف جوارها ممتنعة عن الاتصال مرة أخرى……
وبعد دقيقتين تقريباً من جلد الذات أنار هاتفها باسمة
فالقت عليه نظرة حانقة…وحاولت مقاومة نفسها
وعدم الرد…….
لكن قادها قلبها وقبل ان ينتهي الإتصال فتحت الخط…. قائلة بعتاب وتملك لذيذ……
“ليه مردتش من أول مرة……”
رد بإبتسامة شغوفة……(كنت في الحمام……..)
سالتها مندفعة…….. ” بتعمل ايه….”
ازدادت الابتسامة تسليةٍ
فقال…..
(مستعده تسمعي يعني……كُنت.. )
اوقفته بوجه محمر خجلًا……
“بس.. بس.. مش عايزة أعرف….”
قال عاصم بوقاحة…..
(انتي اللي عايزة تستفسري……كنت باخد شور…انا لسه حتى خارج بالفوطة……)
اخرجت همهمات متوترة وهي تنهي
المكالمة…….
“ممم….طيب اسيبك انا دلوقتي…..”
ادعى البراءة قائلاً…..
(خليكي…..خليكي…انا بلبس أصلا حاطت السماعة…..)
عضت على شفتيها بخجل سافر وهي تشعر بانها
في مأزق…..ليتها لم تبادر بالاتصال…..غبية
غبية….غبـ
نعتت نفسها عدة مرات….حتى سمعت صوته يقول
ببراءة…….
(ساكت ليه ياعم الصامت….)
ادعت الجدية وهي تسأله بارتباك……
“إزاي تعرض جرحك للماية….كدا…كده غلط عليه……”
رد بخبثٍ…….
(ليا أساليبي الخاصة……مصيرك تعرفيها…..)
ابتلعت ريقها مغيرة
الحديث……
“ليه مردتش لما بعتلك الرسالة……”
رد بهدوء وهو يستريح على الفراش……
(في ضيوف جت تزرني…..فمعرفتش أرد عليكي….)
سالته بتملك…… “ولما مشيوا…….”
رد بصراحة…….(نسيت……)
شعرت بصفعة ثانية تطيح كرامتها
أرضا…..فقالت بغيظ……
“والله……كويس….طيب….عايز حاجة انا هقفل….”
اوقفها عاصم بصوتٍ حنون له سطوة على
قلبها الولهان…….
(اهدي ياست الحُسن……نسيت الرسالة….بس اكيد
منستش صاحبة الرسالة……)
مطت شفتيها متشدقة…..
“انا وهي واحد على فكرة……..”
اخذ نفساً طويلا ثم قال برزانة…..
(انا كويس يا شـهـد اطمني……بس انتي عارفه اني معجبنيش ردك…….)
خفق قلبها وهي تساله
بتبلد….
“ليه عايز تشوفني…….”
رد بجملة بها ترنيمة لحنها مقتطفٍ من
من قصائد الهوى………
(عشان وحشتيني….إيه مش كفاية……)
انها كافية لقلبي امطرني بهذا الحب رجاءا ولا
تبخل ، احتويني بعيناك المظلمة بالدفء وضمني بلمسة يداك الحانية…..انا أيضاً مشتاقة ياعاصم وبشدة لكن مخاوفِ تقيدني…….
فهل لي علاج عندك يمحي ندوب قديمة نابضة بالوجع الحي……هل حجاب الحب حرزًا منيعًا لمخاوف الماضي والحاضر المترصدة لي أينما ذهبت….هل لك ان تخفف عني سيدي أوجاعِ
وتروي قلبٍ بائسًا من الهوى…..
(ليه مش بتردي مش كفاية…..)
قالت سريعاً دون تراجع…..
“ينفع نتقابل على البحر…..في المكان اللي بحب
قعد فيه…..”
ابتسم عاصم بحنان سائلا بفضول…..
(قوليلي هو فين المكان ده…..عشان يبقا بتاعنا احنا الاتنين بعد كده……)
قالت بفتور….. “هقولك……”
عرقل المتبقي من الحديث قائلاً بنبرة
حارة المعاني……(قولي ياحبيبتي…….)
جن قلبها بين اضلعها وذابت مفاصلها
وهي تسأله بدهشة……. “قولت إيه…….”
أجاب عاصم بمرح لذيذ…..
(لو مضايقك بلاش…..لكن لو عجبتك وعايزة
تسمعيها تاني امضي الطلب ونبقا نشوف
الموضوع ده بعدين….)
هتفت منزعجة…… “عاصم…..”
رد بصوتٍ عميق……..(قلب عاصم…..)
اغمضت عيناها بضعف وهي تسأله
بصوتٍ متأثر…..
“ليه عايزة تقابلني بكرة……”
رد بصراحة….(عشان وحشتيني……)
لفت خصلة من شعرها حول اصبعها بتوتر
مستفسرة…… “وعشان….”
تماسك قليلاً وهو يحدثها بنبرة جادة لها
صدى مهيمناً على حواسها…….
(عشان نحط النقط على الحروف…..وتبطلي تلعبيني..ماهو يا نقرب يا نبعد خالص…..احنا الاتنين مش صغيرين على العب ده يـاشـهـد والا انتي شايفه ان سني وسنك يسمحه بده…)
مطت شفتيها ممتعضة شاعره
بالاهانة….
“انت ليه محسسني ان عندي اربعين سنة….”
قال ببرود يستفزها…..
(انا معرفش سنك لحد دلوقتي كام….بس ليه لا…شكلك قربتي على الاربعين……)
هتفت بغيظٍ…….. “فشرت…….”
ضحك بقوة وهو يردد الكلمة….
(فشرت؟!….ليه عندك كام سنة…من حقي أعرف
طالما داخلنا في الجد…….)
قالت بإباء….. “مش هقولك……”
ضحك مجدداً وهو يستهدف قلبها
مدللاً اياها……
(وانا قولتلك عشان خاطري ياشوشو……)
“شوشو؟!…..”تلك المرة ضحكت هي من أعماق
قلبها بصدق فتسمر هو فجأه مكانة مبتسمًا بعمق مفتوناً بتلك الرنة الانثوية الجميلة…..فقالت
شهد بعد ان خففت ضحكاتها قليلًا..
” هقولك بس بلاش شوشو دي….عندي سبعة وعشرين.. ”
عقب عاصم بشقاوة……
(مناسب لواحد قرب على الأربعين……)
بمشاكسة قالت… “بقيت في عمره جدو يعني….”
ارتفع حاجب عاصم بصدمة ثم تشدق متواعدًا بوقاحة…..
(هتدفعي تمن الكلمة دي غالي ياحبيبة جدو بس
بعد ما اتجوزك….)
تخضبة وجنتيها بحمرة الخجل فهتفت
معترضة….
“بطل قلة أدب……وقولي كلت وخدت علاجك….”
رد بمزاح غليظ…..
(الحمدلله بس لسه مغسلتش سناني…..)
زمت شفتيها مغمغمة…… “رخم أوي….”
صمتا قليلاً لتجده يهتف بشوق
العالم لها وحدها…
(عايز أشوفك أوي…..اوي يا شـهـد……)
لم تقاوم هذا الشوق فبادلته قائلة بروحٍ
متوهجةٍ بالحب…..
“وانا كمان يا عاصم…عايزة أشوفك واطمن عليك.. ”
خفق قلبه بشدة وظلل الشغف عيناه فسالها
سريعاً……
(معنى كلامك اني وحشتك….زي ما انتي وحشاني…)
هتفت شهد متقهقره…. “حمزة بينادي عليا……”
هتف عاصم عابسًا.
(شهد متهربيش……استني……)
قالت بسرعة قبل ان تغلق….
“هبعتلك العنوان في رسالة…..سلام…….”
بعد ان أغلقت معه وضعت يدها على صدرها النابض بجنون ثم ضحكت ضحكة سعادة تفوق الوصف ثم
لم تلبث إلا ووقفت على الفراش وبدأت تقفز بسعادة جنونية لأول مرة تفعلها….بل انها عانقة الهاتف وهي
ترتفع للأعلى كطيرٍ حرٍ سعيد…..وضحكة متلألأة كالنجوم تزين ثغرها الجميل…
دخلت قمر في تلك اللحظة بعد ان طرقت على
الباب لكن يبدو ان شهد لم تنتبه فظلت على حالتها تقفز وتضحك بخفوت يحمل صخب يبهج القلوب..
ضحكت قمر وهي تغلق الباب بحرص وتتقدم
منها…..
“الله اكبر…….وأخيراً شوفنا ضحكتك…فرحيني…”
عندما بدأت قمر في تعليق على قفزتها المجنونة
توقفت شهد بتدريج وبدات تتلاشى ضحكاتها لكن
توهج وجهها وبريق عيناها لم يزول….
فقالت قمر بعتاب وهي تجلس جوارها على
الفراش…
“ليه وشك اتقلب كده….معقول هكرهلك الخير….
انتي الوحيدة اللي بتمنالها كل خير…..”
هزت شهد راسها بحرج…..
“مش كده…..بس مش مصدقة اني عملت كده…”
قالت قمر بإبتسامة سعيدة….
“لم بنفرح من قلبنا….بنعمل اكتر من كده…”
قالت شهد بخجل…… “دا هبل…..”
اختصرت قمر بجدية….. “دا فرح….”
ضحكة شهد فسالتها قمر بفضول…..
“قالك إيه…..”
اغمضت شهد عيناها فاتحه ذراعيها وكانها
تستقبل روح جديدة اكثر حبٍ وعفوية…..
“كلام يدوخ….يضيع….يجنن…كلام يجنن يا قمر….”
ضحكة قمر لسعادتها وسألت…. “بتحبيه…..”
اومات شهد بحياء…… “شكلي كده……”
ازدادت عينا قمر إتساعٍ…. “وهو…..بيحبك……”
اكدت شهد بخجلا….. “شكله بيقول……”
ضحكة قمر معقبة بلؤم…..
“واضح ان احنا لسه في فترة التلميحات….”
قالت شهد بنبرة موسيقية رقيقة…..
“فترة خنيقة….بس لذيذة….على اساسها بتبتدي
كل حاجة حلوة……”
ربتت قمر على ركبتها قائلة بمودة….
“انتي تستهلي كل خير ياشهد…عيشي وفرحي
وحبي….الحب والحياة والموت بيجوا مرة واحده
بس…. والشاطر اللي يستغل كل لحظه حلوة في
حياته……”
سالتها شهد بسخرية…. “وان كانت حياتك مُره……”
قالت قمر بتوهج……
“احليها…أشوف ايه اللي يسعدني واعمله…ماهو ينعشها مبسوطين ياموكوسين…..”
عقبت شهد بفتور….
” واحنا تقريبا بنختار الوكسة عشان أسهلنا…”
هتف قمر تؤمن على الجملة
بحيرة….
“اه والله مش عارفة ليه بنتساهل أوي كده
وبنختار وجعنا بأيدينا…”
بللت شهد شفتيها ونظرت لقمر بتركيز
طالبة منها المشورة……
“هسألك سؤال لو جتلك فرصة إنك تعيشي مع شخص بتحبيه بس الظروف معنداكم حبتين
هتعملي إيه…..”
قالت قمر بحرارة صادقة…..
“هتبت فيه وهفضل معاه طالما بحبه…..وبدل ماهي اللي تعاندني انا اللي اعندها….والشاطر اللي يضحك في الاخر…”
ضحكة شهد غامزة….
“اللي قادرة على التحدي يعني…..”
اكدت قمر بإبتسامة واثقة…. “هو انا……”
……………………………………………………………
ترجل من سيارته الفارهة في حي شعبي عتيق…
يعج بالمارة ويشوبة الضجيج وصخب الأسواق….
رفع عيناه على أحد العمائر القديمة ليجد الشقة المنشودة في الطابق الثالث والتي دله عليها حكيم البارحة…. بان المدعو (مرعي..) يسكنها في الخفاء متوارى عن الأنظار بعد ما حدث معهُ…….
عدل السترة وتنحنح بخشونة وهو يدلف الى
البناية بمفردة….
بعد لحظات وقف أمام باب الشقة وطرق عليه منتظراً بصبر……
صاح مرعي من خلف الباب بتزمر
“ايوا جااااي…..”
عندما فتح الباب ورفع عيناه على الطارق وجد
عاصم الصاوي يقف أمامه في أوج هدوءه وهالة
من الهيبة والوقار تحيط به……
ازدرد مرعي ريقه بصعوبة وهو ينطق إسمه بدهشة فهو لم يتوقع ان يعثر عليه بتلك السرعة…وفي
هذا الحي العتيق البعيد…….
“عاصم…..”
أبتسم عاصم ببشاشة وهو يقول بمكر….
“اي مرعي…..فين كرم الضيافة هتسبني واقف
على الباب كتير…..”
من جديد بلع مرعي ريقه بتوتر…وللحظة فكر في الهرب لكن هدوء عاصم والابتسامة على محياه خدعاه….
فابتعد عن الباب وافسح الطريق له….
فدخل عاصم المكان بخطوات ثابته وعيناه تجول المكان ، شقة بسيطة الشكل خالية من الفرش عدا أريكة قديمة ومقعد خشبي متهالك…..
اتجه عاصم الى الاريكة وجلس عليها باريحية
ناظراً الى مرعي قليلاً نظرة ثاقبة غير متهاونة…
ثم أمره قائلاً……
“اعملي شاي يا مرعي…..”
أومأ مرعي براسه مذعنا….ثم اتجه الى موقد الكيروسين (بابور…)وبدأ بعمل الشاي…ساله عاصم وهو يتخلص من سترته ويلقيها جواره بأهمال….
“اختفيت فجأه ليه كده يا مرعي مش بعادتك يعني…”
اهتزت يدي مرعي وهو يضع السكر في الكوب
الزجاجي….”كنت تعبان شوية…..”
هز عاصم راسه متأثرًا وقال….
“لا لا الف سلامة….انا كمان كنت بايت في المستشفى اليومين اللي فاتوا……”
توتر مرعي قليلاً لكنه ادعى عدم
المعرفة…. “خير….اي اللي حصل…..”
ساله عاصم بإبتسامة
باردة….
“يعني مش عارف !…..”
اهتزت حدقتي مرعي برهبة وتلجلج صوته
مجيبًا….
“وهعرف منين انا بقالي فترة بعيد عن شارع
الصاوي ومشاكله……”
ضحك عاصم ضحكة مخيفة تنذر بالخطر وهو
يقول بصرامة……
“مشاكله ؟!….الشهادة لله الشارع نضف بعد ما سبته انت والعيال الصيع اللي كانوا مسكين في ديلك في الراحه والجاية..”
نظر له مرعي بحنق….
“ليه الغلط ده….. يامعلم عاصم….”
نهض عاصم من مكانه وقد اندفع الغضب فجأه
على قسمات وجهه وعيناه النارية…….
“طالما انت مش قد اللعب بتعلب ليه…..”
توتر مرعي أكثر….. “مش فاهم…..تقصد إيه….”
وقف عاصم امامه قائلا بنبرة صلبة…..
“لا فاهم ياروح أمك…اسمه ايه يالا ابن الحرام اللي اجرته يضرب شهد بالمطوة…..رد ياروح أمك……”
أنكر مرعي بجبن…
“انا معرفش انت بتكلم على إيه……”
“دلوقتي هتعرف…..”
قالها عاصم وهو يعكف ذراع قميصه…..ثم اقترب منه وفي لحظة خائنة لكمة أسفل فكه عدة مرات فطاح جسد مرعي الهزيل أرضاً…..ثم سحب عاصم الإبريق بماءها الساخن عن الموقد وصاح بصوتٍ جهوري
وهو ينزل جزءاً منه على ذراع مرعي…..
“أتكلم يالا محدش هيرحمك من ايدي النهاردة…يقاتل
يامقتول…….”
صرخ مرعي متألمًا…..
“هتكلم…..هتكلم بس إرحمني…….”
القى عاصم الإبريق أرضا مشيراً له بان ينهض…ففعل مرعي وهو يتأوه بوجع….وبمكر الثعالب عندما استقام مرعي لكم عاصم في معدته بقوة عند موضع الجرح…..فسب عاصم وهو يكتم تأوهة واضع يده على الجرح النابض بالوجع……..
اما مرعي فحاول انتهاز الفرصة بان يلوذ بالفرار مبتعداً….لكن عاصم منعه في آخر لحظة وكسر
المقعد المتهالك فوق رأسه ثم حجزه في الحائط وقيد عنقه بذراع وباليد الأخرى وجه له عدة لكمات قاضية بمنتهى الوحشية والغضب ….
حتى خارت قوة مرعى فهتف باعياء
مستسلمًا…
“هقولك على كل حاجة…خلاص هتكلم….”
دفعه عاصم في الحائط خلفه بقوة قائلاً
بخشونة مهيبة…..
“انطق عملت كده ليه…..”
أعترف مرعي بقسوة دون ندم…..
“رفعت السكينة عليا وهددتني….فحلفت اردلها القلم
اتنين….عشان هي واللي زيها يفكروا الف مرة قبل
ما يقفوا قصادي……الواد اللي أجرته يعلم عليها
إسمه منسي واحد من رجالتي…”
هتف مرعي باعياء وهو يمسح الدماء التي
سالت من أنفه……
“احنا مكناش نقصدك انت….انت اللي دخلت….”
قال عاصم بصوتٍ محتد…..
“وعشان كده استخبيت هنا…فكرت اني مش هعرف اوصلك صح……زي الشاطر كده…تعيد الكلام ده
قدام وكيل النيابة اللي مستنيك دلوقتي……”
اتسعت عينا مرعي بخوف….فقال عاصم
محذراً……
“وبلاش عواء…. عشان انا كده كده سجلتلك…..”
اخرج الهاتف من جيب بنطال وفتح مكبر الصوت
قائلا بخشونة……..
“سجلت ياحكيم ولا…..”
رد حكيم سريعًا…… “سجلت يا كبير أطمن…….”
لوح عاصم بالهاتف وهو يغلق الخط ثم أعادة
في جيب بنطالة…. قائلاً
“أهو سجل يعني مش مستاهلة بقا…خليك جدع وقر واعترف تاني… عليك وعلى الواد اللي عملها…..”
“انا كده هروح في داهيه….”هتف بها مرعي برعب وهو يجلس ارضاً بعد ان تركه عاصم وتنحى
جانبًا….
رمقه عاصم بقوة وهو يتهف بصرامة….
“ومالوا ماهو لو القانون مخدش مجراه معاك….انا هاخده بطرقتي….” ثم استرسل بسطوة عنيفة..
“وعزة وجلالة الله يامرعي لو كان صابها خدش
واحد بسببك ما كان هيكفيني فيك عمرك قصاده
أحمد ربنا…..انها جت فيا انا….وانا كده ومسامح
في حقي……بالك لو كانت جت فيها هي كنت
دفنتكم تحت رجلي…….”
نظر له مرعي بعجز ولم يقو على الرد…..
فاستأنف عاصم بجمود…
“خليك جدع واعترف مرة تانية قدام النيابة
وهما بقا يجيبوا ابن الحرام اللي نفذ عن طريقك….وكل
نظر له مرعي بعجز ولم يقو على الرد…..
فاستأنف عاصم بجمود…
“خليك جدع واعترف مرة تانية قدام النيابة
وهما بقا يجيبوا ابن الحرام اللي نفذ عن طريقك….وكل واحد يتحاسب وبالقانون ولا
إيه……”
شعر مرعي بمرارة الذل الذي أذاقه للكثيرين
من قبله جراء التهجم على الغير بالشتائم
والاعتداء بالضرب دون وجهة حق…..
تأتأ عاصم بشفتيه مضيفاً……
“مش قولتلك انك لعبت لعبة انت مش قدها…..
دي أكيد دعوات المظاليم…..اللي جيت عليهم
وكلت قوتهم بالبلطجه وفتحت الصدر…. ”
أطرق مرعي براسه لأول مرة ذليلًا ويبدو انها
النهاية الحتمية…….
……………………………………………………………..
أغلق باب الشقة والقى سلسلة المفاتيح على المنضدة باهمال… داخلا للمكان وهو يصفر مطلق لحنا شعبيًا قديمًا…..
فوجد ثلاثة نساء جميلات كل واحدة منهن تمتلك جمال وطباع تميزها عن الأخرى….كانوا يتوسطن الاريكة جوار بعضهن ومن ملامحهن المرتابة واعينهن المراقبة له باللهفة علم انه هناك ما يسوء….
فسحب نفساً عميقاً ثم زفر مرة واحدة وهو
يسألهن بملل…..
“خير…..عندكم مشوار مهم ومستنين الشوفير
يوصلكم…”
تطوعت شهد بالتحدث بنظرة نافذة
جادة…
“أبوك عايز يقابل قمر عشان يديها ورثها !…”
تسمر حمزة مكانه ورفع حاجبًا متعجبًا والشك
والقلق تسلل اليه فجأه…..
فمطت كيان شفتيها بوجوم….
“بيقول انه مستنيها في شقته….والمحامي هناك
والفلوس جاهزة تاخدها وتمضي تنازل عن
حقها في العمارتين….”
قالت قمر بصوتٍ متداعٍ….
“هو لسه قافل معايا…وقالي خلي حمزة يوصلك
ويستناكي تحت…..”
ثم ابعدت وجهها عن مجال عيناه بتوتر… حتى لا ينكشف خوفها…..
نعم خائفة من شخص من المفترض انه خالها شقيق أمها ، خائفة جداً بعد كل شيءٍ رأته في هذا البيت….
الخال لم يكن خال….فهو فشل في ان يكون ابا
وشقيق لأمها……
فالماذا تتوقع الجيد في هذه المقابلة المفاجأة.. ربما
هي مكيدة مدبرة لتقع بها…..
ليس معها أحد إذا كيف ستواجه رجلا ببشاعة عثمان الدسوقي ؟!….. هل سيكون رحيم بها بعد افعاله المشينة مع أولاده…. هل من المفترض الوثوق به
بعد ان خذل أولاده…هل سيرجع حقها بعد ان شن
حروباً شعواء ضد أولاده حتى لا ينالوا قرشاً واحد
من ماله ؟!…
كيف تصدق ان يفعلها…. وكيف لها ألا تخاف على نفسها منه…..
قبضة جليدية اعتصرت قلبها عندما قال حمزة
ببرود…….
“طيب اي فيها….أنتوا قلقانين كدا ليه….كويس انه
فاق لنفسه وناوي يرجع الحق لصحابه….عقبالنا..”
نظرت له شهد بعينين واسعتين تفضيان بالحنق
من تعليقه البارد….وكان الفتاة لا تعنيه بالمرة !..
“انت بتقول اي ياحمزة…..في حاجه غلط…انت
مش واخد بالك من كلام كيان بتقولك المحامي
هناك والفلوس كمان !!….”
وزعت نظراتها عليهم ثم استرسلت مستهجنة
“قولي ازاي…. دا تمن الشقة الواحده تساوي ملايين….لو قولنا ان حقها الشرعي هو تلت العمارتين احنا بنتكلم في رقم متتوقعوش…..إزاي الرقم ده مع أبوك دلوقتي وجاهز ؟!…….”
استلمت كيان دفة الحوار مقطبة
الحاجبين…..
“صح ياشهد…وليه برضو أبوك طلب من قمر في التلفون تطلع لوحدها….وامرها انك تستناها تحت العمارة…. أكيد في حاجه بيدبرها ليها…..”
زفر حمزة صائحاً في كلتاهما بقساوة كان له وقع كسياط على قلب قمر…..
“انتوا اي اللي جرلكم…..انتوا مالكم أصلا….هي صاحبة الشأن…وطالما جت لحد هنا لوحدها
تدور على حقها…. يبقا لازم تكمل للاخر ولوحدها…”
انتفض وجه قمر بصدمة ناظر اليه بعينين ازداد
عمقهما الاماً……..
هتفت شهد مشدوهة……. “حمزة…..”
مسكت قمر ذراع شهد توقفها عن المتابعة وقالت دون النظر الى عينا حمزة الباردة…..
“هو عنده حق يا شهد….انا فعلاً جيت لحد هنا لوحدي عشان ارجع ورث ماما…وهقابل المحامي
وخالي لوحدي واكيد هنتفق انا برضو مش صغيرة..”
هزت شهد رأسها تقول بتعاطف…..
“لازم حد يكون معاكي…انتي متعرفيهوش زينا…
عثمان مش بيسيب حاجة فيها التمن…..”
ابتسمت قمر لعينيها بحزن….ستظل دوما شهد تتجسد في صورة الملكة الكريمة صاحبة القلب الماسِ….
ستظل ملكة العصور القديمة بحنانها الفطري
وجمالها البري كما راتها أول مرة…وكما يراها
شخصٍ اخر غيرها ؟!……
أكدت كيان بسخرية محتقرة….
“بظبط تفتكري هو لسه بيجي ويروح علينا ليه
حُبنا فينا مثلاً.. خالص….هو شايف ان احنا…سلعة
مركونه….هيجي وقتها ويبعها….وياخد تمنها….”
صاح حمزة بغضب هائل…… “كياان…..”
بلعت كيان الباقي من الحديث مقتضبة
“سكت……”ثم نظرت الى قمر وقالت بصوت
منزوع منه الرافه……
“من رايي زي ما قال حمزة…لازم تواجهي…انتي
قبل ماتيجي هنا….عارفة انك مش هتاخدي ورثك
بساهل كان غيرك اشطر……دي ضريبة بيدفعها
الكل…..”
نهضت قمر من مكانها بصدر تضخم بمشاعر
عنيفه وعينين تفيضان بالعزم……
“يبقا هروح لوحدي…..ينفع توصفيلي العنوان
ياشهد….وانا هاخد اي موصلة توصلني ليه…”
رفضت شهد وهي تنظر لاخيها
برجاء….
“حمزة هيوصلك…..”
رفضت قمر بحسم….
“لا…. لا انا هروح لوحدي……”
التوى ثغر حمزة بسخرية سوداء ثم امرها
ببرود…..
“حلوة الروح الرياضية دي…..اتنيلي قعدي على ماخد دش واغير هدومي…وبعدين هوصلك لحد عنده….”
صاحت قمر بملامح متشنجة….
“ياريت تكلم بأسلوب احسن من كده…..”
رد ببرود مستهيناً…… “اذا كان عجبك……”
اوقفت شهد وصلة العناد تلك قائلة
برزانة….
“حمزة مش وقته الكلام ده…أسخن ليك الأكل
على ما تخرج من الحمام…..”
لوى حمزة شفتيه بقرف ثم اولاهم ظهره
قائلاً بتجهم……
“مليش نفس سدتوها بنشرة الأخبار الحلوة اللي سمعتوهالي…….”
التفت براسه الى قمر أمرا
بغلاظة…
“جاهزي نفسك عشان هننزل علطول……”
عندما أبتعد ربتت شهد على كتف قمر تراضيها
برفق…..
“متزعليش منه……شكل في حاجة مضايقاه في الشغل……”
قالت كيان بخبث…. “انا عارفه اللي مضايقه……”
سالتها شهد باهتمام…. “إيه هو…..”
قالت كيان بهمساً…..
“نجلاء فرحها اتحدد….سمعت
من جيران العمارة……”
نظرت شهد الى غرفة اخيها
المغلقة…. “تفتكري عرف……”
زمت كيان شفتيها…..
“هي في حاجة بتستخبة في العماره دي….”
غامت عينا شهد بالحزن وقالت بلوعة…
“عيني عليك ياحمزة……حظك قليل في الدنيا…”
هزت كيان راسها بحزنا اكبر على اخيها وكرها
أشد على أبيها……
“لا شهادة ولا شغل كويس….ولا عارف حتى ياخد البنت الوحيدة اللي حبها….من لله ابوكي هو اللي دمرنا..”
اشتعل صدر قمر بنيران من الغيرة والوجع من هذا الحب اللعين الذي نال منها في لحظة غدر فاضناها
معه……أغمضت عينيها تقاوم الألم ودموع الناتجة منه…….
نهضت كيان متجهة الى غرفتها….
“انا راحه اتخمد…..”
سالتها شهد بتعجب…. “لسه بدري يا كيان…….”
زمت كيان شفتيها قائلة بتزمر……
“ساعتين عشان هسهر ادرس القضية اللي كلت دماغي دي…اخلص من سليم الجندي وجبروته
يطلع ليا خليل الصواح وغتته……يا رب… ”
القت قمر جسدها على الاريكة جالسة وقد ابتلعتها هوة مظلمة من الحزن واليأس……
فانتبهت شهد لهذه الحالة فربتت على
كتفها برفق تسالها بقلق…..
“مالك ياقمر…….انتي كويسة……”
نظرت الى شهد ببطئ وقد انطفأت ملامحها فجأه
وشحب لونها بشكلاً موجع……لكنها تماسكت لأخر
نفس داخلها وقالت بهدوء……
“انا كويسه…….هروح اغير هدومي عشان الحق
أنزل……”
ابتعدت سريعاً عن شهد بخطوات متعثرة….وعندما
دخلت الغرفة وبقت بمفردها….انسابت الدموع من عينيها العميقتين المتألمتين بالندم.. وقد اشتدت
قبضة يدها فوق صدرها الموجوع …..وفي لحظة جنون لكمة صدرها عدة مرات تسأله مجدداً سؤال
لم تمل من طرحة بحيرة وغضب….
لماذا هو ؟!…هل تتفنن في عذابك ، تبحث عن العناء بملقاط !…..لماذا هو….. أخبرني لماذا ؟!…..
……………………………………………………………
كانت تستقل مقعد السيارة بجواره وامام عينيها الغائرتين يمتد الطريق بلا نهاية…..كانت تشعر ان
روحها خاوية من كثرة الألم كنبتة شعير خاليةٍ من الحَبّ……
حانت من حمزة نظرة عليها وعندما رأها على حالها
صامته واجمة لا تنوي التحدث.. عاد ينظر أمامه بملامح متصلبة…….قائلاً بغلاظة….
“شايله طاجن ستك ليه….مش هياكلك متخفيش…”
مطت شفتيها ببسالة….”مش خايفه أصلاً…..”
ابتسم حمزة ودللها وعيناه
للأمام….
“احبك وانت تقيل……”
خفق قلبها بضعف امام سلطان الغرام….. فتخضبة
وجنتيها بغباء…..واشاحت بوجهها للنافذة قائلة
بفتور……
“لسه فاضل كتير…….”
رد وهو يصب كامل تركيزة على القيادة….
“قربنا….. زهقتي؟…..”
هزت راسها بتأكيد…..فقال مصدومًا بهذا التصريح
المهين……
“انا يتزهق مني برضو إزاي….”
لم ترد بل ظلت عيناها تتأمل الطريق الراكض
أمامها…..فشاكسها حمزة قائلا.. “قمراية…..”
رفعت راسها تنظر اليه بتبلد فقال بنظرة
ساحرة تصب سائل وردي على قلبها….
“فكي التكشيرة دي…. وخلي القمر تنور….”
قالت بعتاب تنظر امامها….
“لما تغير طريقة كلامك وتكلمني عدل….. انت كل
شويه بحال… مرة كويس وعشرة قالب عليا وكاني
عدوتك….. بتعمل كدا ليه فاهمني……”
رد بفظاظة وهو يعود للنظر الى
الطريق عابسًا….
“انا كده……. اذا كان عاجبك……”
هزت كتفيها بوجها ممتقع…..
“ويعجبني ليه انا مالي أصلا….انا في الأول والاخر
بنت عمتك…. ضيفه مسيري امشي وارجع مكان
ما جيت…..”
غير حمزة الحديث بتذكر…..
“على سيرة المشيان….. هتديني عنوانك عشان اجيلك القاهرة……”
هزت راسها بنفي… “لا….”
عقد حاجباه مشدوهاً….
“ليه بقا…. اي قلة الاصل دي….”
قالت بنزق وهي تمتنع عن النظر إليه…..
“انسى ياحمزة… مسافة ما طلع من اسكندريه انسى
انك ليك بنت عمة…..وكأني مجتش….”
تشنج فكه وشعر بالغيظ منها فقال
بتهكم…….
“لدرجادي كنا وحشين معاكي…ولا هي قلة اصل
ورثاها من خالك…..”
هزت راسها بنفيا وقالت بكآبة نابعة
من روحها……
“لا هي قلة الاصل…. انتوا احسن ناس قابلتها..”
نظر لها حمزة بتعجب أكبر…..معقبا
بتجهم…….
“ناس ؟!…احنا ولاد خالك.. مش ناس….”
لم ترد عليه بل ظلت صامته دون تعبير…فقال
هو بعد ان عيل صبرُه منها…..
“شكلها هبت منك… انا هسكت احسن لحسان انتي بداتي تخرفي……”
وصلا بعد لحظات امام احد العمائر الانيقة… حي أكثر رقي وفخامة من الذي يقطنا فيه….
وعند أحد العمائر الشاهقة وقف حمزة اسفلها وهي معه….. فقال حمزة بعد لحظات من الصمت…..
“الشقة الدور التالت… هتلاقي يافته برا مكتوب
عليها إسمه…….”
اومات برأسها وهي تتجه الى بوابة العمارة الكبيرة
بخطوات مترددة مرتديه ثوب انثوي رقيق لائق في وضح النهار فكان ضيق عند الخصر قليلاً وينزل باتساع بسيط حتى اخر الكاحلين ومعه تاركة شعرها الغجري الطويل ينساب حتى اخر ظهرها بدلال حر……
أغمض حمزة عيناه محاولًا مقاومة هذا الشعور الملح والغريب الذي يدفعه باللحاق بها حتى صوت ضميرة الان يكاد يصم أذانه من شدة التأنيب…….
يخشى عليها بشدة…..كيف ستواجه شر عثمان الدسوقي وشيطانه (زاهر..)المحامي اللعين الذي يعرفه حق المعرفة……والذي ساعد والده في السابق بطرق خبيثه في نيل ميراث امهم بأكمله الى حسابة
وقد استثناهم من كل شيء دون الرجوع لهم….
لم يفكر أكثر اتجه خلفها بخطوات سريعة حاسمًا
وعندما دخلت المصعد وكانت الابواب على وشك
الإغلاق اوقفهما بيده واستقل معها المصعد بصمت
اتكأ على الازرار امام عينيها الجاحظتين من صدمة
وجوده هنا….. فلم تلبث إلا وهتفت بدهشة…..
“حمزة….. بتعمل إيه……مينفعش تطلع معايا…”
رد بخشونة وهو يقف امامها بجسارة ويداه
في جيب بنطالة……
“انا مش هسيبك ياهبلة….. ممكن ياخدوا امضتك
على الورق ومطوليش منهم حاجة..او ممكن يمضوكي على اي ورقه ويبتزوكي بيه….”
عقدت قمر ساعديها امام صدرها وقالت
بتهكم….
“وحتى لو دا حصل هيفرق معاك في إيه…. سواء نصبوا عليا او ودوني في داهيه…..اهم هيكونوا عملوا فيك جميل وخلصوك مني…..”
تشنج حمزة وهو يقطع الخطوة الفاصلة
بينهما……
“ويخلصوني منك ليه… قاعده فوق راسي ولا
بتاكلي من لحمي….اي الهبل ده…..”
رفعت اصبعها بوجهٍ أحمر تحذره….
“انا مش هبلة سامع…..واحترم نفسك وتكلم عدل..”
سالت الدموع من عينيها في لحظة خائنة
فمسحتها بظهر كفها…..
فنظر حمزة لسقف المصعد
بتململ….
“يادي النكد…..الرحمة يا رب…..”
عاد لعينيها وبنظرة نافذة ونبرة جدية
خطِرة هتف…..
“ممكن تهدي وتأجلي وصلة النكد والزن شوية..احنا
طالعين نتكلم في ورث وملايين مع ناس لو لقتك قرش أصلا هتاخدك….. فكبري مخك شوية وركزي معايا…….”
قالت بصوتٍ بارد…. “اراكز معاك إزاي…..”
قال بصوتٍ محتد…..
“عينك عليا علطول….لو فيه اي لبش…هغمزلك تفهمي وتقومي علطول وتقوليله انك مش موافقة….”
قالت بوجوم….. “ولو مفيش لبش…..”
امتقع وجه حمزة باستياء فقلب حدقتاه
بيأس قائلاً بصلابة……
“مفيش لبش؟!…كويس اني طلعت معاكي…اسكتي
ياقمر وسبيني انا اتصرف……لو حسيت باي حاجة
انا هرد بنيابة عنك……واثقة فيا ولا ؟….”
بعد طرح السؤال نظرت إليه للحظات كانت كفيلة
بان تمحي الندم من قلبها وتبعث شعاعٍ من الأمل… فقالت بصوتٍ اضناه الحب…….
“واثقه ياحمزة……والله واثقة……”
من جديد اهتز قلبه بشعورٍ غريب نحوها…فتحكم في نفسه واشاح وجهه سريعاً عند باب المصعد الذي فتح
ابوابه لهما……..
بعد لحظات وقف امام باب شقة والده الفخمة والتي
كانت اشد رقي ورفاهية عن الشقة التي يمكثوا بها
فتح الباب وظهرت امامهم أمرأه تقاربهما في العمر
شابه جميلة بنظرات…..جريئة…….لم ترتاح لها منذ الوهلة الأولى لذا اطرقت برأسها بتردد منتظرة
تدخل حمزة….
الذي بالفعل قال بصوتٍ خشن
بارد……
“أهلا يامرات أبويا…مهجة مش كده…..”
ابتسمت مهجة بزهوٍ قائلة بهزل…..
“اتقبلنا قبل كده…..لما جيت هنا وتعاركت مع أبوك
ولميت الجيران عليكم……”
ارتفع حاجب حمزة وابتسم غير
مبالي…..
“ماشاءالله الذاكرة حديديه……”
ابتسمت مهجة أكثر وهي تستند على حافة الباب
بيدها بميوعة قائلة بخبث……
“امال إيه……انا فاكره برضو ان كانت العاركة بسبب
انك عايز شقة تجوز فيها انت وخطيبتك…صحيح اتجوزت ولا……”
بهت وجه قمر وغللت عينيها بالحزن والهزيمة…بات سيرة حبه لاخرى تطاردها أينما ذهبت وكانها تسخر
من مشاعرها البائسة في هواه !…….
رد حمزة بصوتٍ مجرد من المشاعر….
“محصلش نصيب يامرات أبويا….راحت لحالها…”
ثم استرسل مضيفاً بصفاقة رامقها بنقم….
“هو مش من الذوق والأدب انك تدخلينا نقعد وبعدين ترغي زي ما انتي عايزة…ولا هنفضل واقفين على الباب كده تحشري نفسك وتسالي عن اللي
ملكيش فيه وانا اجوبك عشان محرج منك….”
نظرت له قمر بصدمة…فضحك حمزة ضحكة باردة
قائلاً بفظاظة…..
“مع اني مبتحرجش خالص…والمرة الأولى تاكدلك
ده……”
أحمر وجه مهجة بالحرج فابتعدت عن الباب
قائلة بضيق مكتوم……
“عندك حق…مخدتش بالي…اتفضلوا….سي عثمان
جوا والمحامي كمان…….”
دلف حمزة للداخل برفقة قمر ينظر للشقة نظرة
قاتمة ناقمة على كل زاويا بها ثم ارتدى قناع السخرية هامسًا لقمر التي تسير بجواره…
“سي عثمان ؟!…. دي لسه عايشة في جو الجواري….”
ابتسمت قمر رغما عنها ولم تعقب…فقال حمزة
بهزل لاذع وهو ينظر الى مهجة……
“معندكيش يامرات أبويا عروسة حلوة زيك كده تقولي ياسي حمزة……”
التقطت أذان مهجة السخرية والتحقير في كلامه
لذا قالت بتبرم…….
“ادورلك ومالوا……اتفضلوا هما قعدين هنا….تحبوا
تشربوا حاجة معينة….. ”
رد حمزة وهو يفتح الباب بجمود….
“بلاش تتعبي نفسك احنا مش مطولين…..”
دلفت الى الغرفة بقلب يخفق بزعر وكانها تحتضر
ثم ابصرت بعينيها خالها عثمان الدسوقي يتوسط الاريكة جالسا بمنتهى الارتياح لكن عندما أبصر
حمزة برفقتها تسمر مكانها متشنج الأعصاب
وقد انقلبت ملامحه مائة وثمانون درجة…
على الجهة الاخرى جلس رجلا ضخم الجسد من كثرة الرخاء والمال……يرتدي بذلة فخمة وامامه
كومة من الاوراق وقلم……ينظر اليها بقوة وكانه
يقيمها لا جسدًا بل عقلًا….يختبر ببساطه حدود
عقلها حتى يكن الإقناع بالقدر الكافٍ لها !..
كان كل شيئاً جاهز….ينتظر امضتها لكن ماذا عن الاتفاق هل سيكون عادلا لها……
ازدردت ريقها متوجسة من هذا الموقف ولو كان بيدها لتشبثت بذراع حمزة وطلبت منه الفرار
فهي تشعر بالخطر وان هناك حربا شعواء تقوم
في صمت من هذه الجهة…….
“اي اللي جابك يا حمزة……”
هتف بها عثمان ناهضا بملامح تنذر بالشر..
فابتسم حمزة ببرود مستمتع بهذه الحرب الباردة
فالأول مرة سيكون في مواجهة والده ومعه
سلاح !…..
قالت قمر سريعاً قبل ان تسوء
الأوضاع بينهم….
“انا…انا اللي طلبت منه يجي معايا ياخالي….”
نظر لها عثمان بقسوة قائلاً……
“وليه عملتي كده هو انا هسرقك.. مانا لو مش عايز
اديكي حقك كنت عملت كده من أول يوم جيتي بيتي فيه…….”
نظر لوجه حمزة الغير مبالي ثم عاد اليها
و استردّ بنفور…..
“لكن انا فتحت ليكي بيتي وقاعدتك وسط عيالي..
واديني جايب المحامي اهوه عشان اسلمك ورثك
وفي الاخر مخوناني……اخص…….”
قالت قمر بحرج….. “ياخالي افهمني….ا.. ”
قاطع وصلت التوبيخ صوت زاهر المحامي الذي
وقف امامهما قائلاً بعملية…….
“ارتاحي يا انسه قمر…..حصل خير…حمزة مش غريب
دا ابنك ياعثمان…ولازم يكون شاهد على الاتفاق…”
نظرت قمر للمحامي ثم لخالها… فعرف عثمان
عنه بنظرة حانقة…….
“المحامي زاهر العقاد…..المحامي الخاص بيا…وهو اللي ماسك كل شئوني القانونية…..”
قال حمزة من خلفهما بسخرية محتقرة…
“اه وهو برضو اللي كتب ورث امي كله لابويا بيع وشراء من غير ما يفتكرنا بحاجة…..”
انتفخت اوداج عثمان وازداد احمرار وجهه غضبا فاشار الى زاهر بسخط…..
“شايف يا زاهر اهو هو ده ابني…اللي لازم يبقا شاهد على كل حاجة……”
أبتسم المحامي وهو ينظر الى حمزة مقيمًا اياه بنظرة مهينة قبل ان يقول ببرود…
“منور ياحمزة…..كبرت ماشاءالله بقيت راجل…بس عقلك لسه محدود…….”
اتسعت عينا قمر وشعرت برغبة قوية بضرب هذا الرجل…..بينما أقترب حمزة منه يقطع المسافة
بينهما حتى أصبح أمامه مباشرةً….فقال بوجهٍ
حجري رغم اشتعال عيناه بشكلاً مريع……
“الحمدلله انه محدود يامتر….احسن ما بيع ضميري ومبادئي وانصب على الخلق……حساباتك كترت
اوي يامتر….خاف على نفسك من اللي عقلهم محدود……عشان دول مش بيفكروا مرتين هي مرة
واحده وبعدها عينك ما تشوف اللي النور….. ”
ترقع حمزة اصابعه في الهواء امام وجه زاهر
الذي جفل بخوف…ورجع خطوة للخلف مدعي
انه يعدل ربطة عنقه بعد ان تصبب وجهه عرقا
فجأة جراء تهديد حمزة ونظراته المرعبة…
“احم…انا من رايي نتكلم في الشغل اللي جينا عشانه……”
أومأ حمزة براسه بسطوة وهو يتوسط الاريكة
بمنتهى التعجرف وبجواره جلست قمر بتحفز
وتوتر بدا على وجهها الشاحب…..
“انا بقول كده برضوا بلاش نضيع وقت كتير..فين الفلوس……”
ساله عثمان بضجر…… “فلوس إيه…..”
تبادل حمزة وقمر النظرات قليلاً ثم تافف
هو قائلاً بنزق إليهم……
“بدأنا اللوع ورثها يابهوات من العمارتين…..هو انتوا مش جبتم سمسار وتمن العمارتين وطلعتوا تمن
ورثها منهم اللي هو التلت….فين بقا الفلوس…….”
قال زاهر وهو يخرج ظرف صغير….
“مش معانا فلوس كل اللي معانا تلاتين الف
جنية….”
فغرت قمر شفتيها بصدمة وهي تنظر الى الظرف
الصغير معقبة باستنكار……..
“تلاتين الف جنية ودول تمن العمارتين ياخالي..دول
ميجوش ربع تمن شقه فيهم…..”
زم عثمان شفتيه بجمود قائلاً
بملل….
“فاهمها انت يازاهر…..”
تنحنح زاهر يتحدث بطريقة مهنية مبسطه تبث الطمأنينة في قلوب الحمقى !……
“اسمعي يا انسه قمر… احنا مش معانا مبلغ بالسيولة
دي…… فخالك قرر يديكي المبلغ البسيط ده..ويكتبلك بقية فلوسك وصلات امانه تضمني بيها حقك لحد ما يسددهم ليكي على فترات… ”
قالت قمر بجدية دون النظر الى حمزة….
“انا معنديش مشكلة اخدهم على فترات…بس
انا مش همضي تنازل غير لما اخدهم…..”
نظر زاهر الى حمزة ثم لعثمان…..وعاد اليها
بابتسامة رزينة موضحًا بحزم…
“طبعاً مينفعش لازم تمضي تنازل العمارتين عليهم مشاكل في مكتب الضرايب واحنا محتاجين نخلص اوارق البيع عشان نتفرغ لمشاكلنا..وجودك كشريكة معانا معجزنا في اتخاذ اي اجراء قانوني دون موافقتك..”
لمعة عينا قمر بالحزم فقالت معترضة…
“انا مش موافقة…. مش همضي غير لما اخد حقي في ورث ماما الشرعي….انا مش شحاته هترمولي
قرشين وتقوليلي روحي الله يساهلك….. انا
صاحبة حق ولازم اخده…….”
توترت الاجواء في الغرفة فحاول زاهر
التحدث مجدداً يقنعها….
“احنا مش ممانعين…. بس…..”
حك حمزة جوار انفه ثم مالى للأمام والقى نظر
مستهينة على المحامي ثم قال بتجهم…..
“بس اي يامتر… ان كان اللي بيتكلم مجنون في
اللي بيستمع عاقل…. فجأه كده طلعت مشاكل مع الضرايب و فجأه وجودها بقا عاملكم عجز…. مانتوا كنتوا شاغلين من غيرها زي الفل….. هو اي كلام وسلام…. للأسف لا كلامك مقنع ولا انت ذات
نفسك مقنع….”
وقف حمزة سريعاً مشير لقمر بان تنهض من مكانها
ففعلت متضامنه معه…..
“قومي بينا يابنت عمتي….واضح ان الأستاذ مش دارس قانون كويس…..نتقابل في المحكمة يامتر… وساعتها ابقى أثبت على موقفك وقدم المرفعه
دي قدام القاضي…يمكن يقتنع….. ”
هتف عثمان بصوتٍ حاد……
“عايز تمشي اتنيل امشي لوحدك…. قمر قاعده احنا لسه مكملناش كلامنا…..”
نظر حمزة لقمر بطرف عيناه ثم تحرك خطوتين
قائلاً بصلابة……
“براحتها لو عايزة تفضل معاكم براحتها… بس انا
عن نفسي خارج من هنا……”
قالت قمر بصوتٍ مهتز وهي تلحق
به…
“لا انا هاجي معاك……”
ثم استدارت تنظر لخالها المشدوه من ملحقتها
لابنه بهذه السذاجة وكانه قام بعمل غسيل مخ
لها افقدها صوابها !……قالت هي بعد لحظات من الصمت وتبادل النظرات وكان حمزة يقف بجوارها متسمرًا مكانه منتظر رفضها على احر من الجمر..
فرفضها…يعني انتصارٍ له؟!….
“انا مش موافقه ياخالي….مش هتنازل عن حقي
بكام مليم… ولا عايزه امسك عليك وصلات أمانه….
انا كل اللي عيزاه حقي…..ورث ماما وبس…..”
خرجت مع حمزة امام عينا عثمان المتستعين بالقسوة والنفور كبركان يهدد بالانفجار….
تمتم عثمان وهو يضرب على ذراع المقعد
الجالس عليه بهيجان…..
“غبي….غبي…..غبي……”
ساله زاهر بدهشة….. “معقول ده ابنك….”
أطبق عثمان على اسنانه بغيظ مجيبًا
بكراهية……
“من حظي الأسود ان ابن الكلب ده من صلبي…..”
قال زاهر بملامح جامدة….
“من حظك الحلو انه من صلبك…..”
انتبه عثمان له رغم الغضب العنيف الذي يعلو
وجهه المجعد…. “تقصد اي يا زاهر…..”
قال زاهر بابتسامة لئيمة المعاني….وتعبيرٍ
مجازي……
“انت مخدتش بالك البنت واثقه فيه إزاي…وأول
ماقال همشي اتعلقت في دراعه وخرجت معاه..”
زفر عثمان صائحا فقد عيل
صبره…
“اخلص يازاهر انا مش ناقصك…..”
بنظرة وبنبرة تفوحا بمكر الثعالب أوضح….
“بما انك مش ناوي تديها حقها….وان اللي طالع من ذمتك المبلغ اللي حطيتوا قدامها… ليه متستغلش
ابنك وتخليه يجبلك تنازل رسمي منها….”
ضحك عثمان بعصبية قائلاً بنقم….
“حمزة؟!….انت بتحلم دا لولا الملامة يدفني بالحيا
مش يساعدني أخلص من قمر…..”
ضاقت عينا زاهر موضحًا
بسلاسة….
“ومين قال ان انا بقولك تخلص منها…..”
نظر له عثمان بتركيز اكبر…. فتابع زاهر بخفوت…
“البت شكلها متعلقه بابنك….فليه متلعبش على
نقطة ضعفها وتجوزها ابنك وتضمن ان فلوسك
مش هتخرج براك…ومع الوقت خلي ابنك ياخد امضتها على التنازل…”
هز عثمان راسه بوجوم واخبره سرٍ……
“مش سهله اوي كده يازاهر….ايوا انا معاك انها مياله ليه وده خدت بالي منه أكتر من مرة….ولما وافقت تعيش معاهم الكام شهر دول كان عندي أمل ان
حمزة يحبها وهي كمان….ساعتها هضمن ان فلوسي
مش هتروح للغريب…..لكن الواد زي مانت شايف..
مش فارق معاه حد بيعاند وخلاص……ولو عرضت عليه هيعاند اكتر ويمكن يرفض…اصل ايه اللي هيخليه يوافق يساعدني في حاجة زي دي….وانت
عارف اللي بينا….. ”
أومأ زاهر بتأكيد هاتفًا بثقة…..
“عارف وعشان كده بقولك من حظك ان البت
مياله لابنك…….”
نظر له عثمان بحيرة مفكراً في الأمر…فأسترد
زاهر الحديث بنبرة مقنعة كمن يدس السم
في العسل…….
“اسمع ياعثمان كل واحد وليه سعر….وابنك ليه سعر وعشان تشتريه رجعلوا ورث امه….بشرط انه يتجوز
قمر وبعد فترة يجبلك منها تنازل رسمي عن ورثها
في العمارتين…….اي رأيك……”
نظر له عثمان قليلاً بتشتت.. فابتسم زاهر بزهوٍ مؤكداً ان تلك الخطه افضل وانجح مما سبقت….
…………………………………………………………….
للبحر معزوفة مميزة تطرب الأذان ،ترنم القلوب
وتحنان…..
للبحر روح مبهجة… دواخلها مبهمة….سرادبها متعبه..
فهم تكوينها معجزة……
كالبحر انتِ حبيبتي لا تحتاجِ لبطل مغولِ بل لسباح
ماهر يسبح الى اعماقك مخرج جوهرك مكتشف خباياكِ…
جلس على رمال الشاطئ مكانها المفضل كما اخبرته وارسلت عنوانة في رسالة…….
احب المكان جداً ربما لانه يحمل روحها….جمالها و
رقتها اسرارها…..هذا البحر يعلم عنها الكثير مما يجهل هو معرفته وكلما تقدم خطوة منها للمعرفة أبتعد عشر خطوات محبطاً…
كان الجو رائع ونسيم يمتزج برائحة الماء المالح وشمس ساطعة على الرمال الصفراء المتوهجة بشكلاً ساحر وكانها التَّبر….اما الامواج تعلو ورذاذ الماء يضرب الوجوه باجتذاب……
أبتسم عاصم وعيناه معلقة على زُرقة الماء….بسمة تخص امرأة واحده القت سحر الغرام في قلبه عند أول لقاء بها وبنظرة من كهرمان عينيها الجميلة سلم للهوى ولم يقل لهُ سلاما !…
حتى الان يصعب عليه ان يودع هواها…رغم كل ماحدث بينهما….هناك شيء يرجعهُ لها….هناك شيء يشعرهُ بالمسئولية نحوها…. هناك رابط متين يأبى الفكاك معارضاً…
“اتأخرت عليك…..”قالتها وهي تجلس جواره برقة…
وعطرها الطيب يغزو انفه مداعباً حواسه……
“ربع ساعة….”قالها وهو يرفع عيناه عليها بشوق العالم وقصائد الهوى تحاكي قلبها سراً…..
فيذوب قلبها وعينيها معاً بضعف راجية اياه سرًا
ان يرحم ضعفها…..
اسبلت عيناها بخجل قائلة بتوتر…..
“يعني….ربع ساعة مش كتير…..”
“بنسبة ليا كتير….”قالها وعيناه تتأمل بهاء حُسنها
سبحان الخالق البديع…..جميلة التكوين ، جميلة الروح ، جميلة الطلة ، جميلة العينين ، جميلة الجميلات…
كانت عينيها العسلية كحيلتين جذابتين للمطلع… ترتدي بنطال من القماش بساقين واسعتين بُني
اللون يعلوه كنزة بيضاء صيفية محتشمة… ترفع شعرها بأكمله للأعلى في ربطه مهذبة تتأرجح خلف عنقها.. دون ان يتدلى منه خصلة واحده…..فكان وجهها مشعٍ وصافيا ومختلفا…وشفتيها المغوية تلمع بهذا المرطب الوردي ، مذاق العسل كما صرحت في غفلة……
انه يثير استفزازه بشدة ؟!…
انتبه للاقراط المتعلقة في اذنيها كان بنية اللون صغيرة جداً على شكل فراشة رقيقة……
“مالك بتبصلي كدا ليه..في حاجة فيا متغيرة……”
فاق من شروده بها على صوتها المتعجب….
فقال بنظرة ونبرة تثمل قلبها وعقلها معاً……
“كل مرة بشوفك فيها بحس اني بشوفك لأول مرة…”
خفق قلبها فعضت على شفتها
بخجل وسألته….. “إزاي يعني…..”
رد بصوتٍ أجش…..
“كل مرة بكتشف حاجة جديدة مشوفتهاش قبل كده…”
سالته بعينين متلألأة بالمشاعر….
“ودلوقتي اكتشفت إيه……”
رد بصدقًا وعيناه تأسرها….
“انك جميلة بشكل يحير……”
خفق قلبها بشدة فقالت مستنكرة….
“بلاش الكلام ده….انا مش حلوة لدرجادي….”
رد بهدوء……. “انا شايفك كده….”
صدقًا هذا كافٍ لعمر قادم !..
قالها قلبها الولهان….فنظرت للبحر لثانية ثم عادت إليه مغيرة الحديث سائلة باهتمام….
“طمني عنك….الجرح لسه بيوجعك….ولا بدأ يخف….”
رد عاصم بهدوء…… “يعني….بيخف…اطمني……”
اخرج عاصم شيءٍ من جيبه بنطاله ثم قرب قبضة يده المضمومة لها قائلاً……
“افتحي إيدك…..”
نظرت الي بتوجس لكنها ابتسمت بصفاء وهي تفتح
كفها الأبيض الصغير…….
فالقى في كفها بخفة شيءٍ يلمع صُنع من الذهب
لم تزول الإبتسامة عن وجهها الجميل وهي تتفحصه
بفضول لتجد (انسيال) ذهبي رقيق يلمع بشدة لم تجد ذهب يبرق بهذه القوة…..
حركته بين اصابعها متأملة بانبهار من لمعة الذهب
ورقة التصميم لتجد مكتوب عليه شيءٍ بالخط الفارسي الرائع(سيدة الحُسن….)
إبتسمت بدهشة ولمعة عينيها بتأثر…رقة الهدية
جمالها اللقب الذي يناديها به في بعض الأحيان
هل هي فعلاً سيدة الحُسن في عيناه ؟!…
ضحكت وهي تنادي باسمه مبتهجة.. “عاصم….”
ابتسم لجمال ابتسامتها وسالها وعيناه تطوف على ملامحها المتوهجة……
“عجبتك…..”
اكدت بإبتسامة حارة…. “جداً… انت اللي عمله….”
اوما براسه مبتسماً….. فسالته وهي تتأمل الحلي
الذهبي باعجاب…. “بمناسبة إيه…..”
قال بصوتٍ عميق…..
“نجاح مشروعك……مش قولتلك ان ليكي عندي
هدية…. ”
قالت شهد بجذل……
“متوقعتش ان الهدية تكون حلوة اوي كده….انت طلعت شاطر أوي….وذوقك حلو كمان…….”
ليس هناك شك بعد ان اختارك قلبي من بين
الجميع…..قال بصوتٍ أجش…..
“انا عملتها على حسب ذوقك…..”
انعقد حاجبها تساله
بتبلد….
“وعرفت منين ذوقي…..”
ابتسم عاصم نصف بسمة ونظر للبحر ممتنع
عن الرد…فأحمر وجهها خجلاً وقالت….
“بلاش السؤال ده…انت بتعمل كده مع الستات اللي بتطلب منك حاجات زي دي.؟……”
عاد لعيناها قائلاً بهدوء…..
“هما بيختاروا تصميم معين…وانا بشتغل عليه….”
ثم استرسل بزهو……
“وفي اللي بيبقا بقاله سنين بيتعامل معايا…وواثق
في شغلي……”
قالت شهد بخفوت….
“واضح انك مش سهل…..ممكن اعرف تمنها….”
انعقد حاجباه عابسًا….. “تمن إيه؟…..”
رمشت بعيناها عدة مرات وقالت
ببراءة…
“الانسيال ياعاصم……”
تافف بحنق بالغ…… “انتي واعيه للي بتقوليه…..”
اتسعت عيناها وهتفت بتحذير…..”عاصم…..”
لم تلين ملامحه وهو يقول
بعتاب…
“ماهو مفيش حد بيدفع تمن هدية جتله….”
قالت بحرج….. “ماهي شكلها غالية…..و.. ”
قاطعها وهو ياخذها منها قائلاً
بحنان….
“هشش…هاتي ايدك البسهالك….”
أحمر وجهها رافضة….. “لا انا هلبسها لوحدي……”
أبتسم عاصم مشاكساً… “مش هاكلك متخفيش……”
مدت يدها بخجل فالبسها السوار الذهبي
الرقيق….ثم حرك كفها بين يده يميناً ويساراً
متأمل السوار في رسغها…..
“كده زاد تمنها لما اتحطت في إيدك……”
سحبت يدها ولامست السوار باصابعها الرقيقة….
قائلة بسعادة…..فهي لم تحظى بشيءٍ من الذهب
الخالص يوماً !…..
“حلوة أوي……. تسلم إيدك……”
طالت النظرات بينهما قليلاً وابتلعهما الصمت لبرهة
كان يحمل ترنيمة رائعة موسيقاها صوت تلاطم
الأمواج وحفيف هواء البحر ، واخيراً خفقات
قلوبٍ تحترق صبابة….
حتى قتلت شهد الصمت
متسائلة بتوتر…..
“مفيش اخبار عن مرعي؟……”
رد عاصم بفتور……
“سلم نفسه…..وقريب أوي هنروح انا وانتي نأكد
على اقولنا في النيابة….مستني مكالمة من المحامي …”
تشدقت شهد بدهشة…..
“بجد سلم نفسه….أعترف بسهوله دي؟…هو كان مختفي فين أصلا ؟!……”
سحب عاصم نفساً طويلاً ثم سرد لها ماحدث على
مهل….ومع كل جملة عينيها تتسعان بدهشة وحنق
وعتاب في ان واحد…….عندما انتهى عاصم من
الحديث… قالت شهد متاففة بغيظ……
“ازاي تعرض نفسك للخطر تروح لواحدك مكان
زي ده..أفرض اذاك ولا ضربك بحاجة…دا بنادم
مجرم ومفيش في قلبه رحمة…”
قال عاصم بمنتهى الهدوء والثقة…..
“قولتلك ان حكيم كان معايا على الخط…وبعدين
لو كان فيه اي عواء كان طلع ليا…وبعدين انا مش قليل يعني….عشان اخاف من عيل زي ده…دا
مفهوش خبطه……”
هزت شهد راسها بعدم رضا…..
“ايوا برضو ليه تعرض نفسك للخطر انت لسه
جرحك مفتوح…ممكن بخبطه واحده منه لا قدر الله
يتفتح..”
ابتسم عاصم مؤكدا توقعها….
“ماهو عمل كده فعلاً وكان ناوي يهرب…..”
وضعت شهد يدها على فمها شاهقة بقلب نبض بالرعب…..ثم سريعاً وضعت يدها على ذراعه تنظر
لبطنه أسفل قميصه الأسود تتفحصه بدقة وهي تسأله باهتمام……
“حبيبي…..وحصلك حاجة……”
نظر لكفها الرقيق القابض على ذراعه ولعينيها
القلقتين في النظر اليه وللهمسة الملتاعة من بين
شفتيها الوردية…….
وخصوصاً (حبيبي) فعلت العجب به ؟!…
لم يقدر على كتم تأوه رجولي حار وهو
يقول بعذاب……..
“انا دلوقتي حصلي حاجات كتير…انتي قولتي إيه….”
أحمر وجه شهد بحياء انثوي لذيذ لكن عينيها
لمعة بدموع والخوف عليه كان مسيطر عليها
الان….فقالت بوله…..
“متهزرش ياعاصم….بقولك حصلك حاجه…اوعى يكون جرحك اتفتح……”
الا انه لم يتراجع بل سألها بحزم وهو يقبض
على كفها الصغير بين يده….
“انطقي ياشــهـد….انا على اخري منك قولتي
إيه……”
سالت مجدداً بقلب اضناه
الخوف…”ياعاصم رد……”
“ردي انتي قولتي إيه…..”
كان هو أشد عناداً منها لذا قالت هي بزفرة يأس وشعور الخجل يرهق قلبها نبضاً….
“مش قصدي كده بس اتخضيت عليك….”
ضيق عيناها بخطٍ عابس مشككا في
الأمر….
“هو انتي لما بتتخضي على حد…بتقوليلوا كده؟…”
“اه عادي الناس القريبة مني بس….”ردها البسيط أشعره بالاحباط لذا ترك كفها وطمئنها برحابة
صدر يحسد عليها…..
“كويس اني من الناس القريبة !… انا تمام
محصلش حاجة……اطمني… ”
سألته بقلق بالغ….. “بجد يا عاصم ؟!…”
رد عاصم بخشونة…..
“بجد ياست الحُسن…وإلا مكنتش جيت وفضلت قاعد معاكي لحد دلوقتي……….”
أسبلت اهدابها وأخذت انفاسها ببعضٍ من الراحة…
لكن قلبها مزال يخفق بجنون واعصابها كلها منهارة
من الخجل بعد تلك الكلمة ؟!….
اكنت فعلاً تلقائية على لسانها حينها….ام انها الملكية
الحصرية التي رغب بها قلبها !….
ساد الصمت بينهما قليلاً وكان كل شخصٍ
منهما يرتب أفكاره ويقاوم مشاعر ناهمة….
حتى سألها عاصم وهو ينظر الى وجهها الصافي
تحت أشعة الغروب الساحرة…..
“ينفع اسألك سؤال وتجوبيني بصراحة…..”
خفق قلبها مع نبرة الصوت الملامة في كلامه
متوقعة السؤال دون الطرح على الملأ….
لذا قالت بصراحة مطلقة….
“كنت مضطرة اعمل كده…..”
سالها بصوتٍ غريب…..
“ليه ياشـهـد…. فهميني يمكن اعذرك…..”
اظلمت عينيها للحظات بوجع ورذاذ البحر يصفعة
بخفة حتى تتشجع وتقاوم خزيها……وبالفعل
قالت بصوتٍ ميت وقلب كالثلج…..
“بسبب بابا……عثمان الدسوقي طمعان فيك… شايف
ارتباطي بيك وسيلة يحقق بيها اهدافه… واكتشفت
ده قبل ما تيجي بدقايق…. فمحبتش اورطك معايا
فرفضتك قدامه…. منها أثبت ليه اني مش سلعة يتاجر فيها….وان ارتباطي بيك مش لعبة ماريونيت يحركها زي ماهو عايز…..”
استرسلت بغصة كالجمر في جوفها….
“كان لازم اخد موقف ومسبهوش يتحكم فيا..عارفه
اني جرحتك وكسرت الثقة بينا….بس انا عملت دا
كله عشان مضحكش عليك…..مانا طالما عرفت حاجه
زي دي وكملت…..مش هفرق عنه كتير…..”
نظر لها عاصم بتمعن قائلاً بصوتٍ
أجوف…
“مش مهم ابوكي طمعان فيا ولا لا…في كتير
حواليا زي ابوكي وألعن….وبعرف اتعامل معاهم
كويس أوي…..مش حاجة جديدة عليا….المهم
عندي انتي شيفاني إزاي عريس لقطه وغني
فوافقتي عليا في الأول عشان كده….”
هزت شهد رأسها بنفسٍ قنوعة…..
“أكيد لا….الماديات آخر حاجة ممكن تفرق معايا…”
إلا ان عاصم اردف بفضول…
“واي اللي يفراق معاكي…..”
لمعة عيناها وهي تقول بإبتسامة خاصة
المعاني…….
“اني أحس بالأمان…..أحس براحة…وبسعادة مع الشخص اللي أتمناه قلبي…”
بنبرة حارة رغم رزانة
مقامها….
“وانا الشخص دا ياشـهـد ؟!…..”
نظرت اليه بعتاب.. وكان ما بينهما تخطى مرحلة الشك فيما تخصه به من كلام نابع من قلبها
المولع في حبه…”أيوا….عندك شك…..”
وكانها القت ألعاب نارية في حدقتاه المظلمة
فتلألأت بجاذبية…بينما عاتبها بالكلمات
قائلاً….
“وليه العذاب من الاول يابنت الناس….كان ممكن تخلي الزيارة تعدي على خير وبعدين تحكيلي
على كل حاجة ساعتها أختار أكمل ولا لا…..”
أسبلت شهد عيناها بحرج تعلم انها تسرعت
وقتها لكن غضبها وكرهها لابيها سيطر عليها ولم
تجد لهما ردعٍ………فاضاف عاصم بصوتٍ دافئا
يشع حبٍ أحتوى به قلبها فجأة…..
“وبعدين اللي ابوكي يطلبوا هعمله وبزيادة كمان
انا اتقلك بالماس ياشـهـد……انتي غالية اوي
عندي….وبكرة اثبتلك ده مع الأيام….. ”
رغم مشاعرها المتوهجة في حضور سيدها
وكلماته الساحرة إلا انها قالت بضيق…..
“انت كده هتخليه يستغلك…. أوعى تعمل كده…”
مسك كفها وحجزة بين قبضته مشدد عليه وعيناه تلقي الوثاق حول قلبها…..فقال بمرح…..
“انا هعمل اي حاجة عشان تبقي معايا… وبعدين
بصراحه هو عنده حق لو عندي بنت زي القمر كده
زيك مش هفرط فيها بساهل….”
إبتسمت شهد بسخرية مريرة قائلة…
“عثمان مش بيفكر كده…..هو مش بيحبني أصلا
عشان يمسك فيا ويتبت…….احنا مش زي اي عيلة
ولا ابويا زي كل الابهات…… ”
لم يترك كفها بل اتكأ عليه وهو
يسألها..
“في بينكم مشاكل……”
كان سؤال أشبه بحجر ثقيل وقع فوق صدرها
فتلونت نظراتها بغلالة من الحزن….وقالت بمرارة
كالعلقم تموج في حلقها……..
“في بينا كره…… في بينا ألف سور….. في بينا ايام
وحشة وسنين مُرة……. في بينا كل حاجة وحشه محدش يتمنى يعشها مع أبوه…..”
اتكأ على كفها مجدداً وكانه يدعمها بتلك
الحركة “هتحكيلي؟…..”
كان سؤال يحمل رجاءاً بأن تشاركه اوجاعها
واحزانها قبل فرحها…..فقالت وهي تحرك اصبعها
بين قبضته متجاوبة معه بمشاعر لا تحيا الا في حضوره…..فكيف ترد له طلب وهو إمتلك أغلى
شيءٍ لديها……قلبها !….
لذا قالت بخفوت……
“يمكن مع الوقت…. يمكن…..”
طلب ميثاق منها…… “وعد؟!…”
رفضت بملامح بائسه وهي تنظر للبحر وقت
الغروب……
“بلاش وعود…..محدش عارف بكرة مخبي إيه…”
قال عاصم بحسم…… “انا هتقدملك تاني…..”
إدارت وجهها اليه بسرعة مشدوهة….
“عاصم….”
قال عاصم بتملك وعيناه تأسر عسليتاها
وكلماته تلقي على قلبها سحرٍ لم تفلح في
الفكاك منه أبداً….
“هكلم ابوكي بنفسي… واخد منه معاد….. بس مش هاجي لوحدي المرادي….. هحطك قدام الأمر الواقع
وهجيب اهلي معايا…..قولتي إيه… ”
بلعت شهد ريقها بصعوبة ولجمتها الكلمات
والاصرار بهم…..هل مزال يريدها فعلاً ؟!..
هل سيتقدم لطلب يدها من جديد بعد
ما حدث منها….انتبهت كل حواسها اليه
عندما بدأ يتحدث من جديد في محاولة
لاقنعها……
“اسمعي ياشـهـد….. اللي هقوله ده مش تهديد.. بس انا مقدرش اكون معاكي غير في النور…..انا تاجر
ياشهد والحياة علمتني اكون دغري….وان عوزت
حاجة أروح لحد عندها واطلبها…. وانا عايزك يابنت الحلال….. عايزك كده زي ما انتي …. عايزك وناوي أنفذ شروط ابوكي كلها بس تكوني معايا…..قولتي إيه… ”
مجدداً الصمت كان حليفها…لذا تحسس
عاصم ظهر كفها بابهامه بحب…
“قولي انك موافقة…. وفرحي قلبي….”
ضاعت في جمال نظراته العاشقة نحوها بل ضاعت
في تفاصيله الرجولية الجذابة….ضاعت ضياع
مقبول في حضرة حضوره….يالهي هل هذا الرجل
مكافاة بعد صبر سنوات مضنية من العمر ان كان
كذلك علي ان أسجد شاكرة لله من الآن…..
سألته شهد بتردد….
“متأكد إنك عايزني بعد اللي قولتهولك…..”
ذأب قلبه وعيناه وهو يخبرها بشوق…
“عايزك معايا اكتر من الأول.. عايزك في بيتي…
في اوضتي على سريري وفي حضني….”
اتسعت عيناها وسحبت يدها وقد امتزج خجلها
مع حنقها….”عاااصم….. احترم نفسك…..”
تأوه دون خجل منها مصرحًا بوقاحة…..
“آه ياشـهـد واضح اني هعاني على ما وصل
للمرحلة دي…. ”
تخضبة وجنتيها بحمرة الخجل وذابت اعصابها عقب كلماته…..فاطرقت برأسها ولم تقوِ على ادعاء التبلد
الان….فقد فاز فوزاً عظيماً……..
فشاكسها بمكر…..
“يسلملي الخجلان…..”
صاحت منزعجة……. “بس بقا…..”
اراد ان يثير غيرتها قليلاً فقال بمناكفة…
“مردتيش يعني اي رأيك اجي ولا أروح أشوف العروسة اللي جيبهالي حكيم……بيقول انها صاروخ…….”
ازداد احمرار وجهها بالغضب وتشدقت
تدعي الا مبالاة…..
“يسلام واي اللي معطل جنابك…اتفضل روحلها.. ”
ضاقت عينا عاصم سائلا بغلاظة…
“أروحلها ؟!……”
اومات براسها ببرود وهي تنظر
للبحر…. “روح مع السلامة….”
لم يتحرك من مكانه بل أبتسم منتشياً وهو
يقول بمرح…..
“اخر الأسبوع كويس….اجيب الشربات معايا ولا عندكم……”
“مفيش صاروخ غيرك ياجميل……”
نظرة اليه بدهشة ولم تتوقعها منه ابدًا فضحكت بقوة تلك الرنة التي سمع صداها عبر الهاتف أمس…
ضحكة افتتن بها قلبه ، كانت جميلة تشع بالحياة كجمال عينيها وروحها…..
فلم يقاوم نفسه وهو يقول دون
وعي…..
“وبعدين في الضحكة دي…….”
بدأت تخفف ضحكاتها بتدريج ومسحت عينيها
بطرف اصابعها من دموع انسابت عندما ضحكت
بهذا الصخب…..”انت مش طبيعي النهاردة…….. ”
لم يرد بل ظل مبتسما بحب وعيناه تلقي السحر والقصائد عليها كعادته دوماً…… فقالت بخجل
توثق موافقتها أخيراً…….
“هستناك اخر الاسبوع…….”
رد بهدوء مدلل قلبها
بالكلمات….
“وانا هاعد الأيام من دلوقتي…..”
أرحم قلبي ياسيدي كفاك دلال وغزل فانا وقلبي
لم نعتاد بعد…..

متنساش ان الرواية موجودة كاملة في قناة التلجرام والواتساب

للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا

تشعر ان الأرض تميد بها وحوائط المصعد تطبق على انفاسها…..ونفس السؤال يتردد محتدم في نفسها
يخسف عزمها ويشتت أفكارٍ عدة خططت لها سابقاً….
مالخطوة القادمة؟!….
هل ستبدأ في إجراء قانوني لاستعادت حقها… ستقف امام خالها… والد حمزة…..
حانت منها نظرة خاطفة على حمزة الذي يقف شامخًا هادئا جوارها ينظر لأرقام المصعد المنيرة بوجهٍ حجري وعينين مشتعلتين من كثرة المشاعر
السوداوية داخلها أهمها
النقم على والده !….
شعرت بنبضة مؤلمه بين اضلعها جراء رؤيته بهذا الشكل….
تشعر بانه طفلًا صغير بائسًا كل ما يحتاجه القليل
من الرعاية والعطف…ليس طفلًا بل تراه طفلها هي….
شعور مرهق تجد صداه في نفسها كلما نظرت لعيناه وللأسى الكامن بهما……
نظر لها حمزة عندما طال تاملها له فسالها بصوتٍ
أجوف قاسٍ…..
“مالك بتبصي كدا ليه….لو عايزة ترجعي تاخدي الفلوس وتمضي على التنازل…..ارجعي انا مش مانعك…..”
همست بغصة خانقة….
“ليه عملت كده…..كان المفروض تكون في صف
أبوك مش في صفي……”
“ابويا…..”التوى فكه بصعوبة وضاقت عيناه بنظرة
ساخرة……ثم استرسل ببرود.
“انتي بتكلمي على اساس انك مكنتيش عايشة معانا الفترة اللي فاتت دي…….”
اطرقت قمر براسها تقول بخفوت…..
“اي بيت بيبقا فيه مشاكل……مسيركم ترجعوا احسن
من الأول……والامور تتصلح… فمش مستاهله تخسره
بسببي…… ”
لوى شفتيه متحدثا بنبرة باهتة…..
“بقالي تلاتين سنة عايش بسمع نفس الكلام من الجيران ومن القرايب…..ومن الصحاب….بكرة الأمور تتصلح… ومسير المشاكل تنتهي…. وابوك يعرف قميتكم وانتوا تعرفوا قيمته……بس مفيش حاجة بتنتهي هنا إلا عمرنا واحلامنا….”
صمت حمزة قليلًا وطال النظر لها حتى
قال بنبرة واهيه….
“اطمني ياقمر…..انا خسرت ابويا من زمان…ولو النصب عليكي هيخليني اكسبه…فالخسارة اشرفلي…”
صمتا قليلًا وتبادلا النظرات سويًا حتى فتح باب المصعد فخرجا معاً سارا جوار بعضهما في اتجاه سيارة حمزة الذي صفها جانبًا……قالت قمر قبل وصولهم إليها……
“حمزة انا لازم إرجع مكان ما جيت……”
توقف مكانه يسالها بتعجب…. “ليه بقا ؟…”
بلعت ريقها وهي تقف امامه تنظر لعسليتاه
المنتظرة…..فقالت بهدوء….
“مش هينفع امشي في اي اجراء قانوني…وانا عايشة معاكم……لازم إرجع القاهرة ووكل المحامي اللي معاه
الأوراق عشان يبدأ الاجراءات…….”
انعقد حاجباه سائلاً…. “وليه متعمليش دا هنا…..”
بللت قمر شفتيها شاعره بالوهن يدب في اوصالها
جراء نظرة الإهتمام منه …..
“مش هينفع وانا عايشة معاكم هنا…وبعدين على مالمحكمة تحكم ليا هيكون فات سنين !!….القضايا اللي زي دي بتاخد وقت كبير…على مابيصدر فيها حكم…. ”
اخرج حمزة مفاتيح السيارة من
جيب بنطاله…
“اجلي اي حاجة دلوقتي مش وقته…..”
رفضت بصلابة… “لا وقته…انا همشي بكرة…..”
نظر لها مبهوتًا فعقب عابسًا…. “قمر……اعقلي…. ”
هزت راسها وهي تهرب من
عيناه….
“انا همشي بكرة ياحمزة كفاية كده….”
زفر مستاءًا.. وهو يسير معاها لخارج العمارة….
“لما يجي بكرة يحلها ربنا….” ثم قال بمرح
طفيف…..
“خلينا في النهاردة انا جعان اوي اي رأيك ناكل سوا……”
رفضت بملامح واجمه….. “مليش نفس……”
ابتسم حمزة قائلاً بمداعبة….
“بتحبي الشاورما ولا البيتزا……”
نظرة اليه بدهشة
وهتفت….
“قولتلك مليش نفس…..”
تجاهلها عمدًا قائلا بنشوة….
“انا كمان بحب الشاورما….تعالي ناكل سوا…..”
احتدّ رفضها….
“حمزة قولتلك مش عايزة…..”
فتح باب السيارة قائلاً
بملاطفة…..
“جربي بس… على ضمنتي…”
زفرة عدة مرات مصممة…. “ياحمزة مش عايزة…..”
عبس حمزة قائلاً بقلة صبر….
“قمراية كفاية نكد واركبي…..”
استقلت جواره قائلة.. “حمزة……”
بتر جملتها قائلا…
“مش بتقولي انك ماشيه بكرة……”
اومات براسها بنعم فتابع بمناغشة….
“خلينا نقضي اليوم سوا…..عشان لما اجيلك القاهرة
تعزميني عزومة احسن من دي……”
اشاحت وجهها بعيدًا عنه وغامت عينيها
بالحزن…..فادار حمزة محرك السيارة
سائلا…..
“مش هتجيبي عنوانك بقا…..”
رفضت باقتضاب…. “لا….”
نظر للطريق قائلا بسطوة…
“براحتك…..منين ما انوي اشوفك هشوفك…..”
سالته دون النظر لعيناه وقلبها يجن بين اضلعها نبضا…. “وليه عايز تشوفني تاني…..”
رد مبتسمًا وهو ينظر لجانب وجهها….
“يمكن يوحشني فنجان القهوة من إيدك..والبسكوت
اللي بتعمليه معاه……”
زمت قمر شفتيها تمنع إبتسامة سعيدة بتصريح بسيط جعلها تحلق في سماء العشق…فاجابته مقتضبة…
“هبقا ادي لشهد الوصفة..وواثقه انها
هتعمله احسن مني……”
اوما حمزة براسه دون إنكار…..
“أكيد دي شُغلتها…بس من إيدك انتي يختلف….”
تسللت البسمة الخائنة من بين شفتيها فنظرة
له مستنكرة…..”بتعاكسني……..”
ضحك حمزة ضحكة رجولية خافته وجدت صداها
في قلبها المتيم به……فقال بغلاظة….
“مش لدرجادي….بقول شهادة حق….هو لا كده نافع ولا كده نافع……..”
صمتت قمر ولم تعقب…فوجدت نفسها بعد لحظات تساله بتردد…….
“تفتكر خالي هيعمل إيه…..”
لوى حمزة شفتيه هازئاـ……
“ميقدرش يعمل حاجة…انتي معاكي أوراق تودي ورا عين الشمس…..”
اسبلت قمر عيناها تفرك في اصابعها
بوجل…….
“عشان كده خايفه اكلم المحامي…..يبدا في الإجراءات..”
القى حمزة نظرة عليها ثم عاد للطريق
امامه ورماها بتعليق ساخر….
“انتي طيبه اوي….خايفه عليه بعد اللي حصل فوق…..دا كان ناوي ينصب عليكي……”
قالت قمر بملامح يعلوها الاستياء….
“مكنش قالي على وصولات الأمانة لو ناوي بالغدر…”
حانت منه نظرة عليها ثم قال بجفاء…
“تحبي نرجعلهم…..وتطلعي تكملي الاتفاق……”
نظرة اليه بحيرة وقالت بوهن……
“ياحمزة افهمني…..لو حصل لابوك حاجة بسببي
انت عمرك ما هتسامحني…….”
مط حمزة شفتيه ونظر للطريق قائلا
بجمود….
“وانتي شاغله بالك بمسامحتي ليه…دا حقك…خديه لو من عين التخين…..متخفيش…….طالما الحق معاكي….”
لم ترد بل ظلت صامته تموج نفسها بمشاعر عديدة…
اكثرهم المًا هو حبها الميؤوس من شخصٍ لا يراها
اكثر من ابنة عمة اتت باحثة عن ميراث أمها…..
“ساكته ليه؟!……”
سالها حمزة متعجباً فنظرت اليه بهدوء واجابت
بنبرة قاسية على قلبها…..
“ولا حاجة….. عندك حق……”
………………………………………………………..
في المدينة الساحلية وفي أحد الشوارع القديمة
والتي بها مباني تحمل الطراز (الفلورنسي) الإيطالي
بعضٍ من هذه المباني مزالت شامخة، نابضة بالحياة والبعض الآخر يعاني من اثار الدهر…..
كان المكان رغم الازدحام البسيط يحمل روحٍ عريقة
وكانك بداخل أحد المتاحف العتيقة والمفتوح ابوابها
لكل مطلع يحبها ويقدر قيمتها الجمالية…..
مباني ومتاجر راقية نسيم البحر ممزوج بالمكان
وكانهما كيانا واحد…..صوت التراموي الكهربائي
هنا وهناك يعطي جوٍ اخر للمكان……سيارات
الاجرة ، سيارات فارهة….متاجر مختلفة
لها واجهات رائعة تجذب المتفرج…..
كلها أشياء تجعلك تحدق هنا وهناك كالتائه من شدة
جمال وتميز كل زاوية بهذا الشارع المتفرع….
وطأت قدميها هذا الشارع الرائع وبنيتاها ترصد
كل زاوية منه…..قد صف حمزة سيارته في أحد المرأب المعروفة….واصطحبها في جولة في أحد
أجمل شوراع المدينة القديمة…….
بدأ يسيرا جوار بعضهما يأكلا الشطائر وهم يتحدثا
فكان حمزة الان يلعب دور المرشد السياحي…يحكي
عن هذا المبنى وتلك العمارة وذاك المسرح العريق
وهذه المحلات المستجدة هنا والتي في السابق
كانت اسامي لمتاجر عالمية معروفة قد اعلنت عن افلاسها منذ زمن بعيد……
ابن البحر ؟!….هكذا رأته وهو يحكي عن كل جزءا هنا وكانه يعيش هنا منذ الأزل…وكانه نام في شوراعها
اكثر من فراش بيته ؟!….
مؤلم ان يكون ما تشعر به حقيقي……
هل قضى طفولته في هذه الشوارع…وان كان اين
كان المأوى لطفلا مثله وقتها؟!…. السؤال الأهم كيف
كانت حياته…….
رأت بعيناها طفلاً ينام جوار أحد المحلات المغلقة
ملابسة خفيفة باليةٍ ومتسخة ووجهه ملطخ بالغبار وشعره مشعث……..
اغمضت عينيها بالم فقد اتتها الإجابة سريعًا كقذيفة مدمرة انفجرت في احشاؤها فمزقتها…..
لم تكن طفولته هينة ، لم تكن هينة ابدًا وقد تركت
اثر مريع يتوارى عن الجميع…..
هذا متوقع من شخصية متناقضة مثله…تضيع مع
شخصيته أحيانا تراه مرح وأحيانا حنون وسند
داعم للجميع…وفي اغلب الاوقات عابسًا باردًا وساخرًا….واخيرًا كارهًا للجميع !!…..
هذا يفسر انه عاش حياةٍ اصعب من شقيقتيه…
لانه ولد كان ينال الاصعب والاقصى المًا !…
رفع حمزة عسليتاه عليها يسالها وهو يقضم
قطعة من الشطيرة في يده…..
“اي رأيك في المكان…….عجبتك اسكندريه….”
أحببتها لانك منها…..فانت تشبها…..مالح المذاق
كبحرها مزدحم المشاعر ومتناقضًا كشوراعها
وناسها…..بك جانبًا غنيًا مزدهر بالحب والحياة
وجانب آخر يعاني من الأوجاع والفقر !…..
أراكم عملة واحدة وحبي لها يكمن في حبي
لك ؟!…
اسبلت اهدابها تقول بابتسامة فاترة….
“طبعا جميلة مين مش بيحبها…..دي مدينة الادباء
والفنانين ومقصد الشعراء……كفاية انك فيها….كلكم يعني…اقصد شهد وكيان وانت وكده…. ”
سالها بنبرة غريبة الإيقاع….
“يعني لو مشيتي….هترجعي تاني تزورينا…..”
نظرة اليه لبرهة وقالت بتوتر امام بريق عيناه الخطر…… “ليه لا….ممكن انا و……أشرف… ”
زم حمزة شفتيه ممتعضًا من اخر كلمة…..
“اشيف؟!….على سيرة اشيف بتاعك…اي وضعه في حوار الورث ده…….”
قالت بتردد….. “بنسبة لي إيه……”
اجفلها حمزة بصوته المحتد….
“بنسبة انه هيمشي معاكي في مسالة المحاكم دي ولا هيسيبك لوحدك…..”
قالت قمر بثبات….
“لا هيسبني……انا قولتله متدخلش…..”
قال حمزة مستهجنًا…
“وهو مصدق ولا إيه….المفروض يقف معاكي ولا
خايف من أمه……”
قالت ببرود…..”حاجة زي كده…..”
هتف حمزة بنظرة نافرة….
“انا مش فاهم بتحبي في إيه…..”
قالت بحماقة…..
“طيب وبيحبني…..انت شاغل بالك بيه ليه…”
أنقلب وجهه مستنكرًا…..
“وهشغل بالي ليه…. اولعوا فبعض……”
اتسعت عينيها غاضبة….. “تاني…تاني هتلبخ…….”
كان سيرد عليها لولا شيءٍ خبط في قدمه…
فنظر حمزة للاطفال الذين يلعبوا الكرة في
أحد الشوراع الصغيرة……
فانحنى يمسك الكرة بين يده قائلا للصبي الذي
تقدم منه بمشاكسة….
“اي يابو الكباتن مش تحاسب…”
قال الفتى بحرج….
“مخدناش بالنا معلش هات الكورة……”
ابتسم حمزة قائلا بمرح على مرأى عينا قمر
التي كانت تتأمله بحب….
“بشرط إلعب معاكم مين هنا زملكاوي…..”
قالوا الصغار بصوتٍ واحد محتد….
“كلنا أهلاويه…..”
لوى حمزة شفتيه مستهينا……
“ومالوا العبوا قصادي يا أهلاوية بقا…..”
بدأ إلعب معهم… وبدأ يمرر الكرة بين قدميه
بمنتهى السلاسة والحِذق ، يتخطى سيقان
الصغار ويحرث هدفا تلو الاخر حتى بدأوا الصغار
يشعرون بالحنق والاستياء منه…فبدأ بذكاء يقلل الفروهة أمامهم حتى بدأوا يسجلوا الأهداف وفي الأخير نالوا منه…..
فصرخوا جميعاً بانتصار ضاحكين بسعادة وهو
معهم…..كان سعيد بانه جعل للعبة صخب أكثر
من ذي قبل….
لوح لهم بيده مودعهم ثم سار جوار قمر بصمت…
يرفع خصلات شعره القصيرة للخلف و التي التصقت في جبينه من العرق اثار المجهود والركض فالصغار كانوا بارعون كذلك في اللعب أمامه….
اخرجت قمر منديلا ورقياً واعطاته له بصمت..فأخذه
منها وبدا يمسح وجهه وعنقه…..قائلاً بانتشاء…
“ولاد لذينه….فرهدوني…….”
قالت قمر مبتسمة بحب….
“شكلك كنت غاوي كورة….مش فرجه بس…”
اخبرها حمزة بفتور…..
“كنت بلعب في نادي وانا صغير…..بس بطلت…”
قالت قمر بتأثر…… “ليه….بطلت خسارة…..”
اوما حمزة براسه قائلا بوجوم….
“هي خسارة فعلا بس مش بمزاجي….النادي كان
محتاج فلوس….. وخالك كان بيأكلنا بالعافية..
اصله كان بيشتكي من الفقر طول الوقت….مع
انه كان معاه اللي يعيشنا في مستوى احسن من
كده…. دا ورث أمي لوحده يعيشنا بشوات… ”
“كان كتير…..”دفعها الفضول لهذا السؤال فأجاب
هو بخشونة تقطر قهراً……
“ابوا أمي كان طباخ وكان عنده مطعم في احسن مكان في اسكندرية…..لم تعب وقعد المطعم وقف
واضطر يبيعه وفلوس المطعم حطها باسم امي في البنك لانها كانت بنته الوحيدة…..”
علت ملامح قمر الدهشة فقالت مشدوهة…
“طباخ غريبة أول مرة أعرف…عشان كده شهد
بتحب الطبخ……”
رد حمزة بهدوء….
“شهد موعتش على جدي أصلا…..مات واحنا صغيرين امي حاكت لنا عنه……”
سالته قمر ببراءة….
“ولي باباك خد الورث ؟!…….”
ضحك حمزة دون مرح وقال
هازئا….
“فراغة عين…… سؤالك غريب….”
مطت شفتيها بوجها ممتقع وقالت وهي تنظر أمامها….
“خالي هو اللي غريب..وتصرفاته أغرب… هو ليه بيعمل كده…..”
رد حمزة بصوتٍ اشبه بجليد مسنن….
“مش أول واحد هيعمل كده في عياله ولا الاخير
الدنيا مليانه….”
نظر حمزة للتراموي وقال
بهدوء….
“تيجي نركب الترام……”
نظرت للقطار الكهربائي ثم إليه وابتسمت بالموافقة على استحياء….فمسك يدها وسحبها اليه برفق
حتى صعدا التراموي وجلسا جوار بعضهما فسحبت قمر يدها من بين قبضته بحياء…وقالت بوجها
متورد خجول…..
“هنروح فين ياحمزة….”
اضطربت خفقات قلبه متجاوبًا مع نبرة صوتها
الانثوية الخجولة….فطرد هذا الشعور سريعًا
ونظر اليها قائلا بمشاكسة…..
“في حلواني هنا في اخر الشارع ده…بيعمل لقمة القاضي بس إيه حكاية….. ”
إبتسمت قمر وقالت بجذل….
“ومين قال اني عايزة اكل لقمة القاضي…..”
تجاهل حمزة السؤال قائلا بهدوء وهو يحك
في لحيته…
“فكريني اجيب لكيان المرادي عشان متزعلش….”
بعد لحظات دخلا معًا احد المحلات التي تقدم
افخم والذ اصناف الحلويات الشرقية…..
فترك لها حرية اختيار ما تريد واتجه هو الى احد الاركان من الناحية الاخر يوصي احد العاملين
بتحضير علبة من (البقلاوة) لياخذها الى كيان…
كانت بجواره تقف فتاة جميلة جسدها مكتنز ومفاتنها طاغيه على ملابسها الضيقة والتي
كانت عبارة عن بنطال جينز وكنزة صفراء
تشف ما تحتها ببساطه…..
رفع حمزة عيناه عليها بنظرة خاطفة تحجب وساوس الشياطين داخله….فوجد الفتاة عيناها عليه وبسمة مغوية موجهة له وحده…..
فلم يقاوم كثيرًا وابتسم لها غامزًا بمداعبة صريحة
فضحكت الفتاة مرحبة بميوعة…..
“هاي……انا نارين……”
أبتسم حمزة بجاذبية تخطف قلوب العذارى وقال
بهمساً أجش… “وانا ناري من جماله….حمزة 0…”
اوقفته الفتاة بتكبر……
“اي الثقه دي….هتديني رقمك…مش لدرجادي…”
ابتسم حمزة بانتشاء قائلا بمراوغة….
“اوعي تفهميني صح دا احنا هنتكلم واتس بس
وفي سريه تامه……. موبينيل ولا اورنچ… ”
انطلقت ضحكة رقيعه من بين ثغر الفتاة المطلي بالحمرة النارية….وقالت باغواء….
“على فكرة دول نفس الشركة…..”
رفع حاجباه مدعيا عدم الفهم وعيناه
الوقحة تسير على جسدها بنهم تكاد
تاكلها……
“يا راجل…مش متابع اصل انا إتصالات…..”
قالت الفتاة بتغنج……. “وانا فودافون……”
زم شفتيه عابسًا لوهلة..
“أحمر !!….ومالوا….هاتي الرقم…..”
رفعت الفتاة حاجبٍ بغرور وعيناها منتشية
بالقرب من هذا الوسيم العابث….
“دا انت مصمم بقا…..”
رد بعبث وعيناه الجريئة تعرف مسارها
جيداً…
“مانا مش هسيب البطل يعدي من غير ما اهدي…
رقمك كام يا بطل……”
زادت ابتسمت الفتاة رضا.. فمدت يدها قائلة
بتغنج…….. “هات انا اكتبهولك……”
“ومكتبهوش انا ليه يا حبيبتي…..”
هتفت بها قمر التي وقفت بينهما بوجها مكفهر غاضب وعينين حمراوان كالدم من شدة الغضب
والغيرة فهي تراقب ما يحدث منذ البداية…
وكلما حاولت مقاومة مشاعرها واخماد النيران بصدرها يأتي هذا الوقح بكلماته ونظراته الجريئة
ويشعلها كالجحيم……
قالت بعينا متقدة من شدة الغيرة والنقم
على قلبها وحالتها الميؤوسه مع هذا
الجلف…….
“قول الرقم يا حمزة…..0كام…..”
لم يتجاوب حمزة معها بل قال
عابسًا…..
“خلصتي الحاجة اللي عيزاها…..”
صاحت قمر بعنفًا والغيرة تحرق قلبها…..
“انا مش عايزة حاجة انا عايزة أروح…روحني…”
ثم نظرت الى الفتاة التي ترمقهما بدهشة….
فقالت قمر بنزق……
“ولا أقولك….انا هروح لوحدي شكلك مش فاضي…”
عندما ابتعدت لحق حمزة بها متجاهلا الفتاة
خلفه……
“استني يابت….قمر…. قمر……”
عندما اصبحت خارج المحل وجدته يطبق
على رسغها مديرها اليه بتجهم هادرًا….
“هو انا مش بنادي عليكي انتي اتهبلتي…اي اللي حصل لده كله……”
نظرت اليه قمر بغضب يتضاعف
بجنون…..
“انت بجد مش واخد بالك اي اللي حصل؟!..”
عيل صبره منها فقال بتعجب….
“لا مش واخد بالي في إيه…..بتكلم مع البت عادي
اي فيها……”
هتفت بوجها ممتقع…
“وانك تاخد رقمها عادي….”
لوى حمزة شفتيه قائلا ببراءة علت الضغط
الدموي لديها….
“هي اللي عايزة…..يرضيكي اكسر بخاطرها….”
جزت قمر على اسنانها تقاوم شعور واحد تود فعله
الآن وهو صفعة عدة مرات حتى ترتاح اعصابها
النافرة…….
“لا طبعا….مينفعش….ممكن تروحني….او تسبني اتنيل أروح…..”
أشار للمحل متعجبًا… “طب ولقمة القاضي……..”
هتفت قمر من بين اسنانها…..
“مش عايزة…مبقتش بحبها…..خلاص كرهتها….”
“استغفر الله العظيم.. حد يكره النعمة…..”عقب بها حمزة بهدوء استفزها…مما جعلها تسخر منه
قائلة…
“كفاية انت بتحبها……”
انقلبت ملامح حمزة فقال بضجر…..
“لا حول ولا قوة إلا بالله…دا انتي نكد…تعالي اروحك أحسن……قفلتيني…….”
عقدت ساعديها امام صدرها وقد تركت نفسها فريسة للغضب والغيرة….
“معلش ما احنا ما نشبهشي الاشكال اللي بتعجبك……”
هز راسه مؤكدًا….
“دي أحلى حاجة انك مش شبهم….”
لم ترد بل ظلت عابسة غاضبة… فناداها حمزة بعد لحظة تأمل……. “قمراية…..”
صاحت مستهجنة….. “اسمي زفت الطين قمر……”
ضحك حمزة قائلا بغلاظة……
“زفت الطين قمر….الله اسم مُركب لايق عليكي.. ”
جزت على اسنانه بعنف…
“ممكن كفاية هزار….. روحني……”
سالها حمزة مستفسرًا بعدم
فهم….
“مالك بس انتي ملبوسه……”
اكدت بنظرة شرسة…..
“آه ملبوسه… تحب اطلعهم عليك…..”
هز راسه ببرود قائلا باستهجان….
“لا وعلى إيه خليهم مستريحين مكانهم….يلا عشان اروحك قفلتيني من اليوم كله……دا انتي نكد…. ”
…………………………………………………………….
يقولون ان العطور تصنف شخصياتنا.. فهناك عطر شديد الخطورة عندما يصادفنا يتعلق بنا رغم نفورًا
منه ، وأيضًا هناك عطر رغم خفة عبيرة يلازم ذاكرتنا لأمد الحياةِ……وهناك عطرٍ آخر نحبه ونبحث عنه بين الارجاء بشوق العالم فلا نجده فهو ممحى كصاحبه؟!..
وأخيراً عطرٍ اردنا نسيانه بشدة وتطرقنا لأساليب
عدة حتى ننجح في الهجر…وعندما ظننا اننا منتصرون ، غلبنا ظهور شذايا العطر فانكمشت مشاعرًا في أحد الزوايا تئن متعبه وبين الشوق والوجع تحتضر آلروح….
فعطرك الآن كان يشكل كلاهما ؟!….
اخبرني لماذا عودت….ولماذا تظهر الان بعدما ظننت انني نسيت وتعايشت مع حقيقة الواقع……
دلفت الى داخل مكتب استاذها (خليل)بخطوات واثقه ثابته بطاقم كلاسيكي انيق وشعرٍ ملفوف للخلف في ربطة مهذبة…داعب انفها شذايا عطره المميز اخبرها بما لا يقبل الشك انه هنا قد اتى…
عطره دل عليه دون ان يستدير لها حتى…
بلعت ريقها بتوتر وشعرت ان ساقيها تلتف حول
بعضهما اثناء السير خصوصًا بعد قول الأستاذ
خليل بنبرة فخورة وهو ينظر نحوها…..
“ادي المحاميه كيان وصلت….مش عايز أقولك يا أستاذ سليم كيان من اكفاء المواظفين عندي حقيقي..شاطره ومهذبة وبتراعي ضميرها في شغلها…..”
“أكيد انا واثق في اختيارك يا أستاذنا…. ”
دون الالتفات لها أجاب بها سليم بصوتٍ رخيم
مخمر بالثقة وزهو…. هكذآ هي نبرة صوته فطرتها الجذابة مغلفة بالثقة والغرور…….
اشتاقت لنبرة صوته… اشتاقت له كله دون استثناء
شيئاً معين….حتى العنجهية والتجبر الكارهة لهما اشتاقتهم……
مشاعر تكره وجودها… وتسأم من قلبها عندذاك……
وقفت عند المكتب تجلي صوتها باحثة عنه في بؤرة مظلمة كمن يبحث عن صيدة في بحرٍ ميت……
“اوامرني يا أستاذ……”
أشار لها خليل بإبتسامة هادئة…
“الامر لله وحده يا كيان… اقعدي…..”
رمشت بعينيها عدة مرات وقد تمرد عليها جسدها
وأبى التحرك من مكانه…. فظلت متسمرة مكانها متردده.. وفيروزيتاها البراقة معلقة على سليم الجالس على المقعد بهدوء يحتسي من فنجان
قهوته…
فنظر لها خليل بتعجب وكرر طلبه….
“اقعدي يا كيان… واقفه كده ليه…..”
قالت كيان بنبرة ثابته قوية….
“عندي شغل كتير….. وفي وكيل حضرتك كلفتني
أقبله و……”
أشار لها خليل بنفاذ صبر….
“أجلي كل حاجة واقعدي…. دا برضو شغل مش بنلعب……”
اسبلت اهدابها وأخيرًا استجاب لها جسدها وجعلها
تقوده الى المقعد جالسة بهدوء وتهذيب راقي…
قائلة بثبات…..
“خير يا أستاذ……”
“الأستاذ سليم عايز محاميه شاطرة تساعده في القضايا اللي ماسكها…..وانا رشحتك ليه….”
رفعت حاجبها ونظرة الى سليم بدهشة…
فواجهها بعيناه القاتمة… وهيهات النظرة اليها الان كانت مختلفة صافية هادئة وكانها…كانها تجردت
من اي شعورٍ بذنب نحوها……
نظرت الى يده اليمنى وعند الاصابع تحديداً بحاجب
معقود فلم تجد الحلقة الفضية حول بنصرة….
هل تركها…. وما السبب ياترى…. ماذا عن الحب..
وسنوات الارتباط والوعود بينهما…. والقبلات الحارة المتبادلة….
لم تشعر بالفرحة او لذة الانتصار بعودته إليها… فهي
لم تنتظرة وهذا ما يوجع قلبها….كيف لها ان تنكر الهوى وقلبها متشرب منه حد النخاع !…
انه التناقض المؤلم….الغير مرحب به مطلقًا
رغم حفاوة الإحساس……
“آسفه يا أستاذ بس انا مش موافقة…حضرتك عندك
يارا….او نائل…..الاتنين اشطر من بعض و…..”
القت رفضاً وقع عليه كقذيفة من لهبٍ….فنظر
اليها بصمتٍ غريب بينما ازداد ثقل صدرها…..
فصاح خليل متعجبًا من رفضها القاطع….
“مش انتي اللي تحددي انا اللي أحدد مين يشتغل
ومين يفضل في المكتب…….وبعدين في حد يرفض
شغل مع سليم الجندي……”
قالت كيان برجاء اليه…..
“انا….. لو سمحت يا أستاذ خليل اعفيني انا من الشغل ده……”
زأر كبرياء سليم فقال بخشونة….
“خلاص ياخليل بيه….سيب الانسه براحتها…ممكن
أشوف الانسة يارا…..ونتفق على مواعيد تجيلي
فيها المكتب…….”
داهم قلبها شعور الغيرة فقالت بحنق بالغ….
“يارا أجازة اليومين دول……مش شرط يعني يكون
المساعد ست…ليه ميكنش راجل مثلا….مالهم الرجالة……”
نظر لها سليم نظرة رجلا اضناه الشوق ومع ذلك
حدثها بأسلوب لاذع متناقضًا مع نظراته…
“انا اللي احدد يا آنسه مش انتي…وبعدين انتي لسه
رافضه الشغل معايا…يبقا ملكيش انك تدخلي في
مين يشتغل ومين لا……”
نهضت كيان وهي تصك على اسنانها
بغضب هائل…..
“خد اللي يعجبك انا مالي أصلا…..انت حُر….عن اذنكم….”
بعد ابتعادها عنهم خطوتين اقترح خليل باسلوب
متملق حتى يكسب ود رجلا مهمًا في مجالة
كسليم الجندي…….
“تحب اكلم يارا تقطع اجازتها وتكمل معاك شغلك..”
التفتت لهم كيان قائلة بدهشة…
“يارا مامتها تعبانه يا استاذ وهي حكيالك ظروفها الفترة دي……”
عند ذكر تلك النقطة تافف خليل بضجر
قائلا….
“ماهو انا برضو مقدرش استغنى عن نائل دا معايا من اول ما تخرج وفاهم الشغل اكتر منكم انتوا الإتنين…….”
تدخل سليم يلقي قراره بلؤم….
“يبقا الحل ان الانسة كيان تشتغل معايا اليومين
دول لحد ما صاحبتها يارا تطمن على مامتها وترجع من الاجازه……”
هتفت كيان بصرامة….
“مستحيل…….مش ممكن…….”
تدخل خليل مزمجرًا بها…..
“ليه مش ممكن انتي بتقفليها ليه ياكيان….قولنالك لحد ما يارا ترجع من الإجازة……يعني أسبوعين
بالكتير وهترجعي لشغلك تاني…..”
رد سليم بخشونة……
“ان