رواية وهم الرجوع كاملة جميع الفصول بقلم روما عيسي

رواية وهم الرجوع كاملة جميع الفصول بقلم روما عيسي

رواية وهم الرجوع كاملة جميع الفصول هى رواية من تأليف المؤلفة المميزة روما عيسي رواية وهم الرجوع كاملة جميع الفصول صدرت لاول مرة على فيسبوك الشهير رواية وهم الرجوع كاملة جميع الفصول حققت نجاحا كبيرا في موقع فيسبوك وايضا زاد البحث عنها في محرك البحث جوجل لذلك سنعرض لكم رواية وهم الرجوع كاملة جميع الفصول

رواية وهم الرجوع كاملة جميع الفصول بقلم روما عيسي

رواية وهم الرجوع كاملة جميع الفصول

لم تكن رحيل تشعر بالراحة منذ فترة. هناك شيء غامض في تصرفات يوسف، زوجها، شيء لم تستطع تفسيره لكنه يثير قلقها. لم يعد ذلك الزوج الحنون الذي يشاركها تفاصيل يومه، أصبح غامضًا، كثير الشرود، يتجنب الحديث معها لفترات طويلة، وأحيانًا يعود متأخرًا دون سبب واضح.
في البداية، حاولت إقناع نفسها أن هذا طبيعي، أن الزواج يمر بمراحل فتور، لكن إحساسها الداخلي لم يكن مقتنعًا. الشك بدأ يتسلل إلى قلبها كضيف ثقيل لا يريد المغادرة.
في إحدى الليالي، بينما كانت رحيل تحاول النوم، سمعت صوت الباب يُفتح بهدوء. نظرت إلى الساعة، كانت الثانية بعد منتصف الليل. يوسف عاد إلى المنزل متأخرًا مرة أخرى.
تظاهرت بالنوم وهي تراقبه من تحت جفونها نصف المغلقة. دخل إلى الغرفة على أطراف أصابعه، أخرج هاتفه، وفتح محادثة بدا وكأنه يراجعها مرارًا قبل أن يتنهد ويرمي الهاتف على الطاولة.
في اليوم التالي، حاولت أن تتجاهل إحساسها، لكنها لم تستطع. جلست معه على طاولة الإفطار، مترددة في سؤاله، لكنها جمعت شجاعتها أخيرًا:
رحيل (بهدوء مصطنع): “يوسف، حسّة إنك مشغول الأيام دي، في حاجة مضايقاك؟”
رفع رأسه من هاتفه ونظر إليها للحظة، ثم عاد إلى شاشته وقال بلا مبالاة:
“لا، مفيش حاجة، مجرد شغل وضغط.”
لكن رحيل لم تقتنع، شعرت أن هناك شيئًا يخفيه، وربما أكثر مما تتخيل.
في تلك الليلة، استيقظت على صوتٍ خافت…
كانت نائمة، لكنها شعرت بحركة يوسف في الغرفة المجاورة. فتحت عينيها قليلًا، لاحظت الضوء الخافت المنبعث من تحت باب المكتب.
تسللت بهدوء، اقتربت قليلًا من الباب المغلق، حتى سمعت صوته يتحدث في الهاتف. كانت نبرته هادئة لكنها مشحونة بشيء لم تفهمه في البداية.
يوسف (بصوت منخفض لكنه واضح): “إنتِ بتقولي إيه يا يارا؟ تتجوزي؟ لا، لا، مش هينفع كده!”
تسارعت نبضاتها، عيناها اتسعتا بصدمة، وكأن قلبها سقط في قدميها.
يارا (بحدة): “ليه مش هينفع؟ مش من حقي؟ ولا انت فاكر إنك هتفضل في حياتي حتى لو مش موجود؟”
يوسف (متوترًا): “يارا، استني… مش هو ده اللي اتفقنا عليه. إحنا قولنا نستنى شوية.”
يارا: “تستنى إيه بالظبط؟ تستنى لما تعيش حياتك مع مراتك، وأنا أفضل لوحدي؟ يوسف، لازم تقرر دلوقتي، يا أنا يا هي!”
رحيل وضعت يدها على فمها، تحاول كتم شهقتها. لم تكن تتخيل أبدًا أن خيانة يوسف لها قد تكون بهذه الطريقة.
يوسف (بتنهيدة طويلة): “يارا، الموضوع مش سهل… أنا محتاج وقت.”
يارا (ببرود): “أنا خلاص زهقت من وعودك، يوسف. لو مش هتاخد خطوة، متلومنيش لو مشيت في طريقي.”
ثم انقطع الصوت، وكأنها أغلقت الخط في وجهه. أما يوسف، فجلس في مكانه لا يتحرك، وكأنه غارق في أفكاره.
رحيل شعرت أن عالمها كله بدأ في الانهيار، كان قلبها يخبرها أن هناك شيئًا ما، لكن الحقيقة حين واجهتها، كانت أقسى مما تخيلت. 
– ليلة بلا نوم
أغلقت رحيل باب الغرفة خلفها ببطء، وكأنها تخشى أن يسمع يوسف ارتجاف أنفاسها. وقفت للحظة، تستند إلى الخشب البارد، عيناها شاخصتان في الفراغ، وداخلها عاصفة لا تهدأ.
كان قلبها ينبض بسرعة، وعقلها يرفض تصديق ما سمعته للتو. جلست على طرف السرير، عيناها مثبتتان على الظلام الممتد أمامها، بينما عقلها يعيد تكرار كلماته. هل كان يتحدث معها فعلاً بهذه اللهجة؟ هل كانت نبرة صوته تحمل حنينًا خفيًا؟ أم أنها تبالغ في تحليل الأمور؟
ad

كيف حدث هذا؟ كيف تحوّل الأمان إلى شك؟
أصوات يوسف في المكالمة لا تزال تتردد في عقلها، نبرته الخافتة، تردده، وحتى طريقة نطقه لاسمها… “يارا”
ذلك الاسم وحده كان كفيلاً بأن يمزقها من الداخل.
مرت دقائق، أو ربما ساعات، وهي على هذه الحال، عقلها يغرق في دوامة لا تنتهي من الأسئلة. هل أخطأت في تفسير الأمور؟ هل كانت مجرد مكالمة عابرة؟ لكن الطريقة التي تحدث بها… لا، لم تكن مجرد مكالمة عادية.
في تلك اللحظة، سمعت صوت خطواته في الخارج، ثم فتح الباب ودخل.
كان يوسف يسير بهدوء، وكأنه لا يريد إيقاظها، لكن عينيه كانتا تحملان قلقًا خفيًا، وكأن شيئًا ما يشغله. اقترب من السرير، انحنى قليلًا، وألقى نظرة على رحيل، التي تظاهرت بالنوم. بقي يتأملها لثوانٍ، ثم تنهد وألقى بجسده على الجانب الآخر من السرير.
استلقى على ظهره، عينيه مثبتتان بالسقف، ثم مدّ يده إلى هاتفه مجددًا، تصفحه للحظات قبل أن يضعه على المنضدة بجانبه.
رحيل، التي كانت مستلقية على جانبها، ظهرها له، أدركت جيدًا أنه لم يكن مرتاحًا. وكأن ما كان يدور في عقلها يطارد يوسف أيضًا، لكن الفرق أن يوسف وحده يعرف الحقيقة… أما هي، فما زالت تبحث عنها.
مرت الدقائق ثقيلة، سكون تام يسيطر على الغرفة، قبل أن يغفو يوسف أخيرًا.
أما رحيل… فظلت مستيقظة فالنوم هجرها تمامًا. ظلت تحدق بالسقف، عقلها غارق في دوامة من الأسئلة. هل ما زال يحبها؟ هل يخفي عنها شيئًا؟ ولماذا تشعر أنه أصبح بعيدًا عنها؟ ظلت على هذه الحالة حتى بدأ نور الفجر يتسلل عبر الستائر، لتدرك أنها لم تغمض عينيها ولو للحظة .
مع بزوغ الفجر، نهضت رحيل من سريرها ببطء، وكأنها تحمل ثقل العالم فوق كتفيها. شعرت بجسدها مرهقًا، لكن عقلها كان مستيقظًا أكثر من أي وقت مضى.
سارت نحو المرآة، حدّقت في انعكاسها. كانت عيناها متعبتين، مليئتين بالأسئلة. هل هذه هي المرأة التي كانت تعيش في راحة وثقة قبل أيام؟ أين ذهبت تلك الطمأنينة التي كانت تشعر بها؟
مرّرت أصابعها على شعرها، أخذت نفسًا عميقًا،ومسحت وجهها بيديها، محاولة إخفاء التعب الذي يثقلها. قررت ألا تتسرع في المواجهة، بل تبحث أكثر عن الحقيقة. إن واجهته الآن، سينكر بسهولة، ولكن لو انتظرت وجمعت أدلة كافية، لن يستطيع حينها المراوغة ثم ابتعدت عن المرآة واتجهت إلى المطبخ.
ad
سكبت لنفسها فنجان قهوة، جلست على الطاولة، وعندما دخل يوسف بعد لحظات، رفعت عينيها إليه.
كان يسير ببطء، يرتدي قميصه، وربطة عنقه في يده، لكنه لم يكن منتبهًا لها.
كان منشغلًا… بهاتفه.
جلس أمامها، أخذ رشفة من قهوته، وعيناه لا تزالان عالقتين على الشاشة.
“مشغول قوي كده الصبح بدري؟” قالتها رحيل، محاولة أن تُخفي مرارة كلماتها خلف نبرة هادئة.
رفع يوسف عينيه أخيرًا، وكأنه أدرك فجأة أنها أمامه. ابتسم بخفة، وأجاب: “شوية حاجات في الشغل، يومي هيكون طويل النهاردة.”
“آه… أكيد، الشغل.” ردّت، ثم ارتشفت من قهوتها، بينما كانت تراقب تعابير وجهه عن كثب.
كان هناك شيء في عينيه… شيء لم تفهمه.
أعاد يوسف هاتفه إلى جيبه، ثم نهض بسرعة. “أنا لازم أمشي، عندي اجتماع مهم.”
“إفطارك؟” سألته وهي ترفع حاجبها.
“مش هينفع، هاكل في المكتب.”
نظر إليها للحظة، وكأنه يريد قول شيء، لكنه اكتفى بابتسامة سريعة، ثم خرج.
بقيت رحيل في مكانها، أصابعها تدور حول حافة الفنجان، وهي تستمع لصدى خطواته وهو يغادر شاهدته وهو يخرج مسرعًا، وكأن البقاء معها صار عبئًا عليه. شعرت بوخزة في قلبها، لكنها حاولت تجاهلها. أمسكت بفنجان القهوة بين يديها، تفكر في كل ما حدث. لا، لن تتسرع هذه المرة.ستراقب، ستبحث، ستعرف كل شيء بنفسها… قبل أن تواجهه بالحقيقة.
لم تكن تعرف ماذا تفعل بعد، لكن شيئًا واحدًا كان واضحًا…
اليوم، لن تدع الأمر يمر مرور الكرام.
في مكتب يوسف
جلس يوسف في مكتبه بالشركة، يحاول التركيز على العمل، لكن عقله لم يكن هنا. كلماته مع يارا كانت لا تزال تتردد في ذهنه:
ad

ماينفعش نفضل كده يا يوسف، لازم تاخد قرار.”
لماذا وافق على الحديث معها؟ لماذا لم يقطع الأمر تمامًا؟ أم أن هناك شيئًا في داخله لم ينتهِ بعد؟
تنهد بضيق، ثم التقط هاتفه وفتح المحادثة بينه وبين يارا. تردد لثانية قبل أن يكتب:
“يارا، لازم نتقابل و نتكلم بوضوح أكتر.”
أرسل الرسالة ثم أغلق الهاتف بسرعة، كأنه يخشى أن يراه أحد. لكن أكثر ما كان يخشاه… هو أن يرى نفسه.
زفر ببطء، ألقى الهاتف جانبًا، وأسند رأسه للخلف.
– لقاء محفوف بالمخاطر
لم تكن رحيل تثق بمشاعرها، لكن عقلها كان واضحًا تمامًا: يجب أن تعرف الحقيقة بنفسها. منذ الصباح وهي تشعر أن يوسف يهرب منها، ومكالمته تلك الليلة مع طليقته لم يزدها إلا يقينًا أن هناك شيئًا يُخفى عنها.
مع حلول المساء، عاد يوسف إلى المنزل ليغير ثيابه. راقبته رحيل بصمت، تدرس كل حركة يقوم بها.
قعد قدام المراية يعدّل في شكله أكتر من اللازم، غير التيشيرت مرتين، وفضل ماسك موبايله كأن حياته متعلقة عليه.لم يسألها إن كانت تحتاج شيئًا، ولم يتبادل معها الحديث كعادته، فقط استبدل ملابسه على عجل وكأنه على موعد مهم… وهو بالفعل كذلك.
خارج؟” سألت وهي بتحاول تخفي نبرة الشك في صوتها.
— “آه… عندي مشوار مهم.” رد وهو بيحاول يبان عادي.
— “مشوار الشغل؟”
سكت لحظة، ثم قال:
— “أيوه… شغل.”
كذبة جديدة… وأسوأ ما فيها إن رحيل حسّت بيها فورًا.
لازم أعرف الحقيقة… بأي طريقة.
انتظرته حتى خرج، ثم التقطت مفاتيح سيارتها وتبعته.
في المقهى
وصل يوسف إلى المقهى الهادئ في زاوية المدينة، دخل بخطوات مترددة وكأن عقله يخبره بألّا يكون هنا، لكنه تجاهل ذلك وجلس عند الطاولة المعتادة. لم تمضِ سوى لحظات حتى ظهرت يارا أمامه.
كانت أنيقة كعادتها، نظراتها تحمل ثقة لم تتغير رغم مرور السنين، جلست أمامه بابتسامة خفيفة وهي تميل نحوه قليلاً.
“كنت متأكدة إنك هتيجي.” قالت بنبرة واثقة.
ألقى يوسف نظرة سريعة حول المكان، وكأنه يخشى أن يراه احد
ابتسمت يارا، ميلت ناحيته شوية وقالت:
— “وحشتني يا يوسف.”
اتوتر، بص بعيد عنها، شرب شوية من المية اللي على الترابيزة… لكنه في الحقيقة كان بيحاول يبلع التوتر اللي في حلقه.
— “يارا… قولتلك قبل كده إن…”
قاطعت كلامه بسرعة:

— “أنا عارفة إنك متجوز… وعارفة إنك بتحب مراتك… بس أنا متأكدة إنك لسه بتحبني.”
كلامها كان صادم… لكنه مش غريب، لأنه في مكان ما في قلبه، كان عارف إنها صح.
— “يارا… إحنا خلصنا الموضوع ده من زمان، و…”
— “أنا هتجوز.” قالتها فجأة، وهي عارفة إن وقع الكلمة عليه هيكون قوي.
رفع عينه ليها بسرعة، اتحرك في مكانه بانفعال واضح، حس بلسانه مربوط… كل كلمة كان بيخطط يقولها اختفت فجأة.
— “هتتجوزي؟” سأل أخيرًا، وهو مش مصدق إنه حاسس بالغيرة دي كلها.
— “آه… خلاص، لازم أكمل حياتي.” قالتها وهي بترقب كل تعبير في وشه.
يوسف حس بحاجة غريبة… إحساس خانق، كأن حد بيضغط على قلبه بقوة. هو المفروض يكون سعيد إنها أخيرًا بتبعد، المفروض يحس بالراحة… لكنه مش حاسس بأي حاجة غير الغيرة.
— ” بس إنتِ مش بتحبيه.” قالها فجأة، وكأن لسانه نطق قبل عقله.
يارا ابتسمت، قربت أكتر وقالت:
— “ولو؟ إنتَ بتحب مراتك؟”
اتسمر مكانه… مش عارف يرد، مش عارف حتى يفكر.
نظر إليها يوسف ولم يرد، لكن صمته كان يحمل أكثر من معنى.
في اللحظة دي… كانت رحيل واقفة قدام الكافيه، بتراقب من بعيد… قلبها كان بيدق بسرعة، وإيديها بتترعش. هي تبعته… ومش مصدقة اللي شافته قدامها.
زوجها، قاعد قدام طليقته… بنظرات مش ممكن تكون عادية.
عادت رحيل إلى المنزل وهي بالكاد تستطيع التقاط أنفاسها. لم تكن تعرف كيف وصلت، كيف فتحت الباب، كيف دخلت إلى غرفتها. شعرت أن كل شيء ينهار من حولها، أن الأرض تسحبها للأسفل بلا رحمة. جلست على السرير، تحدّق في الفراغ، بينما صدى حديثهما يتردد في أذنها.
في منتصف الليل، عاد يوسف إلى المنزل. دخل بخطوات هادئة، لم يكن يتوقع أن يجد رحيل مستيقظة. وقف للحظة يراقبها، لكنها لم تحرك ساكنًا. شعر ببعض التوتر لكنه تظاهر بالهدوء وقال بنبرة طبيعية:

— “لسه صاحية؟”
رفعت عينيها ببطء وحدّقت فيه للحظات قبل أن تسأله بهدوء:
— “كنت فين؟”
تردد قليلًا قبل أن يقول بصوت ثابت:
— “قلتلك… كان عندي عشاء عمل.”
— “كان يوم طويل جدًا في الشغل، وبعد العشاء العمل قعدنا نتكلم في شغل جديد، معرفتش أخرج بدري.”
نظرت إليه رحيل نظرة ثابتة، وكأنها تزن كلماته واحدًا تلو الآخر، ثم قالت بصوت هادئ لكنه حاد:
— “متعلّقش نفسك بالكلام، أنا خلاص… فهمت كل اللي كنت عاوزة أفهمه.”
تسمر يوسف في مكانه، شعر بالارتباك، سألها وهو يحاول أن يتماسك:
“قصدك إيه”؟
رحلة غامضة
“متعلقش نفسك بالكلام، أنا خلاص فهمت كل اللي كنت عاوزة أفهمه.”
شعر يوسف بوخزة قلق وتوتر ، واقترب منها قليلًا وهو يعقد حاجبيه:
“قصدك إيه؟”
نظرت إليه بابتسامة خفيفة لكنها خالية من أي دفء، وقالت بصوت هادئ لكنه قاطع:
“قصدي إنك مشغول كتيير… مابتفضاش.”
ثم نهضت بثبات واتجهت إلى غرفتها، تاركة يوسف واقفًا مكانه، يشعر بأن كلماتها تحمل أكثر مما تبدو عليه. لم يحاول إيقافها، لكنه شعر أن هذه الليلة لن تمر بسهولة على عقله.
في صباح اليوم التالي، استيقظ يوسف وهو يأمل أن يكون ما حدث مجرد لحظة عابرة، لكن الأجواء في المنزل لم تكن توحي بذلك.
دخل إلى المطبخ فوجد رحيل تحضّر قهوتها كالمعتاد. حاول أن يتحدث معها كأن شيئًا لم يكن، وقال بنبرة طبيعية:
“صباح الخير.”
ردّت دون أن تنظر إليه:
“صباح النور.”
جلس على الطاولة، يراقبها وهي تصب القهوة في الكوب وتأخذ رشفة، ثم قال بحذر:
“أخبارك إيه؟ شكلك مش نايمة كويس.”
هزّت كتفيها بلا اهتمام:
“عادي.”
لاحظ أنها تتجنب النظر إليه، وترد بكلمات مختصرة. حاول أن يفتح موضوعًا آخر، لكنها كانت ترد بكلمات مقتضبة أو تكتفي بالإيماء.
بعد لحظات صمت، وضع كوبه جانبًا وقال:
“أنا رايح الشغل، عندي يوم طويل.”
“تمام.” أجابته ببساطة، ثم حملت كوبها وخرجت من المطبخ، تاركة يوسف يشعر وكأنه يتحدث إلى جدار.
خرج من المنزل وهو يشعر بأن هناك شيئًا تغير. لم تكن رحيل تصرخ أو تواجهه مباشرة، لكنها كانت ترسل رسائلها بطريقتها الخاصة، وكان ذلك يقلقه أكثر من أي مواجهة مباشرة.
في مكتبه، كان يوسف يحاول التركيز على عمله، لكن عقله ظل مشغولًا برحيل وتصرفاتها الغامضة.

رنّ هاتفه، فوجد اسم يارا يضيء على الشاشة.
“ألو، عامل إيه؟” جاء صوتها مرحًا كعادته.
“كويس، انتي أخبارك إيه؟”
“تمام، بس عندي فكرة ممكن تخلينا نكسر الروتين شوية.”
“إيه هي؟”
“أنا رايحة رحلة يومين في مكان تحفة، وحسّيت إنه هيكون ممتع لو كنت معايا.”
تردد يوسف للحظة، لكنه شعر برغبة غريبة في مرافقتها. جزء منه كان يريد الهروب من التوتر في المنزل، وجزء آخر كان يشعر بغيرة غير مبررة عندما سمعها تتحدث عن السفر وحدها.
“هفكر في الموضوع وأقولك.” قالها وهو يحاول أن يبدو متزنًا، لكنها فهمت تردده.
“يوسف، الدنيا صغيرة برضو، ممكن تلاقي نفسك هناك بالصدفة.” ضحكت، ثم أغلقت الخط.
ظل ينظر إلى هاتفه للحظات، قبل أن يتخذ قراره أخيرًا…
في المساء، جلس مع رحيل بعد العشاء، بدا متوترًا قليلًا، لكن ملامحه كانت هادئة بشكل مبالغ فيه.
“أنا مسافر بكرة.” قالها فجأة، وهو يتجنب النظر إلى عينيها.
“مسافر؟ فين؟” قالت وهي تضع كوب الماء على الطاولة، تحاول أن تبقى هادئة رغم المفاجأة.*
“رحلة شغل، بس يومين وراجع.”
“غريبة… مقلتش حاجة قبل كدا.”
“جت فجأة، رئيسي في الشغل قرر إننا لازم نحضر الاجتماع ده.”
لم تقل شيئًا، فقط راقبته بصمت. كان يوسف قادرًا على الكذب بسهولة، لكنه لم يكن قادرًا على إخفاء التوتر في يديه، كيف يمسك الهاتف بشدة، كيف يبتعد بنظره عنها.

في صباح اليوم التالي، كانت رحيل صامتة تمامًا، تراقب تحركاته بدقة. كان يتحدث على الهاتف بصوت منخفض في غرفة المكتب، بدا قلقًا ومتوترًا. عندما خرج، وجدها واقفة عند الباب، وكأنها تحاول أن تلتقط أي كلمة قد تكشف السر.
“هتسافر النهارده؟” سألته ببرود، رافعة حاجبها.
“آه، رحلة عمل، يومين بالكتير وهرجع.” قال بسرعة وهو يرتب أوراقه.
راقبته وهو يغادر، وشعرت أن هناك شيئًا غير منطقي في حديثه. لم يكن يوسف يسافر كثيرًا، وعندما يفعل، كان يخبرها بذلك قبل أيام. لكنها لم تقل شيئًا. قررت الانتظار
في مساء ذلك اليوم
كانت رحيل تجلس على الأريكة، تحتسي قهوتها بصمت، لكن عقلها لم يكن هادئًا أبدًا. منذ أن غادر يوسف في رحلته، كانت تحاول إقناع نفسها أن الشكوك التي تنهشها لا معنى لها… لكنه لم يتصل بها كثيرًا، وكانت رسائله مقتضبة وكأن شيئًا يشغله أكثر من العمل.
بتنهيدة ثقيلة، أمسكت هاتفها تتصفح بلا هدف، حتى توقفت يدها فجأة عند صورة مألوفة ظهرت أمامها على إنستغرام.
“يارا.”
فتحت الصورة ببطء وكأنها تخشى ما ستراه. ظهرت يارا في مكان فاخر بإضاءة دافئة، ترتدي فستانًا أنيقًا، وعلى معصمها أسوارة فضية بأحجار زرقاء. لم يكن هذا ما جعل قلب رحيل ينبض بعنف، بل الكلمات التي كتبتها يارا تحت الصورة:
“الأماكن تصبح أكثر جمالًا حين نكون برفقة من نحب.”
“ليس المكان هو المهم، بل من يرافقك فيه.”
شعرت رحيل بقشعريرة تسري في جسدها، وأخذت تحدق في الصورة، تبحث عن أي تفصيلة قد تؤكد أو تنفي شكوكها. لكن شيئًا ما في الخلفية شد انتباهها أكثر… المكان بدا مألوفًا، وكأنها رأته من قبل… أو بالأحرى، كأنها رأته في صورة أخرى، صورة أرسلها يوسف لها عندما أخبرها أنه في العشاء مع زملائه من العمل.
الصدف كثيرة… لكنها لم تعد تؤمن بالصدف.
وضعت هاتفها ببطء، نظرت أمامها بشرود، ثم عضت شفتيها وهي تفكر… هل يعقل أن يوسف كان معها هناك؟

بعد يومين عاد يوسف من السفر متأخرًا، مرهقًا من الرحلة، لكنه لم يكن يتوقع أن يجد رحيل مستيقظة، جالسة في غرفة المعيشة، وكأنها تنتظره. كان ضوء خافت ينبعث من المصباح الصغير بجانبها، ينعكس على ملامح وجهها التي بدت هادئة، لكن في عينيها بريقًا لم يستطع تحديده… كان أشبه بمزيج من الفضول والترقب.
ابتسم لها وهو يخلع سترته ويضع الحقيبة بجانب الباب.
“لسه صاحية؟ المفروض تبقي نايمة دلوقتي.” قالها بنبرة هادئة وهو يحاول أن يبدو طبيعيًا.
رفعت رحيل عينيها إليه، تأملته للحظة قبل أن ترد بصوت ثابت:
“وأنت المفروض تبقى راجع بدري.”
توقف لبرهة، ثم اقترب منها وجلس على الكرسي المقابل. شعر بشيء غريب في طريقتها، لكن قرر أن يتجاهل ذلك.
“كانت رحلة متعبة، شغل… اجتماعات، تعب، حاجات مملة.” ، بس خلاص، رجعت.” قال وهو يمرر يده بين شعره بتوتر خفيف.
رحيل لم تقل شيئًا للحظات، ثم نهضت بهدوء، ومرت بجانبه متجهة إلى الغرفة، لكنها قبل أن تختفي عند الباب، ألقت عليه نظرة جانبية وقالت ببرود:
“أكيد استمتعت بالسفر… المكان واللي في المكان كان حلو، صح؟”
شعر يوسف بشيء ما في كلماتها… وكأنها تخفي وراءها شيئًا، لكنه قرر ألا يفتح أي نقاش الآن. تنهد ببطء وهو يراقبها تختفي داخل الغرفة، بينما بدأ القلق يتسلل إلى داخله، دون أن يعرف السبب الحقيقي لذلك
في صباح اليوم التالي، وبينما كان يوسف في الحمام، دخلت رحيل إلى الغرفة لترتيب أغراضه بعد عودته من السفر. اعتادت على فعل ذلك دائمًا، لكنه اليوم بدا مختلفًا، إحساس غريب كان يراودها، وكأنها على وشك اكتشاف شيء لن يعجبها.
راحت ترتب الملابس بلا اهتمام حقيقي، وعندما مدّت يدها إلى الحقيبة لإفراغها، شعرت بشيء معدني بين الثياب.
إسوارة فضية…
توقفت يداها عن الحركة، حدّقت فيها للحظات قبل أن تلتقط هاتفها بسرعة، وبتوتر، فتحت حساب يارا على إنستغرام. قلبت الصور بسرعة حتى وصلت إلى الصورة التي نشرتها أثناء الرحلة… كانت يارا تضع نفس الإسوارة!
وكأن الهواء اختفى من الغرفة للحظات… شعرت بوخزة في قلبها، بعاصفة تدور داخلها، وكأن كل شيء أصبح واضحًا فجأة. يوسف كان معها… ليس مجرد صدفة، بل شيء أكثر من ذلك.

وقبل أن تستوعب صدمتها بالكامل، سمعت صوت الباب يُفتح.
استدارت ببطء، لترى يوسف واقفًا عند باب الغرفة، يُجفف شعره بمنشفة. نظراته تلاقت مع نظراتها… ثم سقطت عيناه على الإسوارة في يدها، ثم على هاتفها الذي كان مفتوحًا على صورة يارا.
في لحظة، تغيرت تعابير وجهه… الهدوء الذي كان يتحلى به اختفى، وحلّ مكانه توتر واضح. حاول أن يبدو طبيعيًا، لكنه فشل.
نظرت إليه ببطء، ثم رفعت الأسوارة قليلًا أمامه وسألته بصوت هادئ لكنه حمل كل العاصفة داخله:
“الدنيا صغيرة برضو؟”
“الإسوارة دي…!” قالها بتلعثم واضح، وهو يحاول أن يجد تفسيرًا قبل أن تنطق هي بكلمة.
 مرآة الحقيقة المشوهة
وقف يوسف في منتصف الغرفة، يراقب رحيل وهي تمسك بالإسورة بين أصابعها، تقلبها كما لو كانت تبحث عن إجابة محفورة داخلها. كان الجو ثقيلًا، محمّلًا بتوتر لم يعهده بينهما من قبل.
“قولّي يا يوسف… الإسورة دي لمين؟”
نظر إليها للحظة، ثم التفت إلى الطاولة حيث وضعت الإسورة، التقطها ببطء، تفحصها للحظات، لكنه لم يعطِ أي إجابة.
رفعت رحيل حاجبها، كانت تعرفه جيدًا… صمته الآن ليس صمت البراءة، بل صمت الشخص الذي يبحث عن مخرج.
“يوسف، لمين؟”
تنهد، مرر يده في شعره، ثم قال بصوت متردد:
“مش عارف… يمكن بتاعت حد وقعت في شنطتي بالغلط.”
ضحكت رحيل بسخرية، وكأنها توقعت هذا الرد الساذج. تركته لدقائق في راحته المزيفة، ثم أخرجت هاتفها ومررت إصبعها على الشاشة، قبل أن تديرها ناحيته.
“وهي دي كمان بالغلط؟”
نظر إلى الشاشة، فتجمد في مكانه. كانت صورة واضحة… يارا جالسة في أحد الأماكن، ترتدي نفس الإسورة في معصمها، والصورة التقطت حديثًا!
رفعت رحيل عينيها إليه، في عينيها كان هناك سؤال أخطر من مجرد الإسورة… كان سؤالًا عن الحقيقة التي لم يقلها بعد.
“هتفضل تكذب لحد إمتى؟”
“إنت قابلتها في الرحلة… مش كده؟”
شعر يوسف أن الحبال بدأت تلتف حول رقبته، وأنه إن لم يتحدث الآن، قد لا يستطيع إصلاح أي شيء لاحقًا.
“آه، قابلتها… بس بالصدفة. والله بالصدفة، رحيل!”
قالها بصوت بالكاد خرج منه.
رحيل نظرت إليه نظرة طويلة، وكأنها تحاول أن ترى ما وراء الكلمات، ثم قالت ببرود:
“ليه ماقولتليش إنك شُفتها؟ ليه استنيت لما أنا ألاقي الإسورة وأسألك؟”
يوسف بلع ريقه، شعر أن الكلام يتجمد في حلقه. قال بصوت متقطع:
“مفيش حاجة… كانت مجرد صدفة، واتكلمنا كلمتين وخلاص.”
ارتخت ملامح رحيل قليلًا، لكنها لم تكن ملامح اقتناع… بل ملامح خيبة أمل. هزّت رأسها، ثم همست:
“صدفة؟ وكلمتين وخلاص؟ يعني شُفتها وقعدت تتكلم معاها… بس أنا كان المفروض أعرف بالصدفة برضه؟”

صمت يوسف. لم يكن لديه رد مناسب.
” يوسف لو في حاجة لازم أعرفها، قولي دلوقتي… متخلينيش أكتشفها لوحدي.”
كانت هذه الجملة كافية لجعل يوسف يشعر وكأن الأرض تهتز تحته. لم يكن يعلم ماذا يقول. لم يكن هناك شيء يعترف به، لكنه أيضًا لم يكن قادرًا على إقناعها أنه بريء تمامًا.
في أحد المقاهي الفاخرة، جلست يارا أمام صديقتها المقربة، سمر، وهي تلوّح بملعقتها داخل فنجان قهوتها، وعيناها تلمعان بمكر.
“يوسف لسه بيفكر فيا، أنا متأكدة.” قالتها وهي تتظاهر بعدم الاكتراث، لكنها كانت تنتظر ردة فعل صديقتها.
سمر رفعت حاجبها بشك: “إنتي بتتكلمي جد؟ ده متجوز وباين إنه مستقر في حياته.”
ضحكت يارا بسخرية وهي تميل للأمام: “متجوز، بس مش سعيد. شوفي، هو أول ما شافني في الرحلة، مكنش عارف يخبي مشاعره. باين عليه إنه لسه متعلق بيا.”
سمر هزّت رأسها ببطء: “يارا… إنتي متأكدة إنك مش بس بتتوهمي؟”
ابتسمت يارا بخبث: “سمر، لو شوفتي نظراته ليّا، كنتي فهمتي كل حاجة. هو مش عارف يعترف، بس أنا عارفة… يوسف عايز يرجع لي.”
ترددت سمر للحظة قبل أن تسأل: “طب وإيه خطتك؟”
يارا وضعت يدها على خدها ونظرت إلى الخارج كأنها تفكر بصوت عالٍ: “أنا بسهل عليه القرار. خليت رحيل تشك فيه، وسايباه يتصرف. في الآخر، لما المشاكل بينه وبينها تكتر، مش هيلاقي غيري قدامه.”
سمر نظرت إليها بدهشة: “إنتي فعلًا بتلعبي بالنار.”
لكن يارا ابتسمت بثقة: “وأنا بحب النار، يا حبيبتي.”
في صباح اليوم التالي، جلس يوسف في مكتبه، يحاول التركيز لكنه لم يستطع. كان يشعر أن هناك شيئًا ناقصًا… شيء لم يفهمه بعد.
أخرج هاتفه، فتح قائمة الأسماء، وظل ينظر إلى اسم يارا، تردّد… ثم ضغط على زر الاتصال.
رنّ الهاتف مرتين قبل أن يأتيه صوتها، هادئًا لكنه يحمل نبرة خفية من الانتصار:
“وأخيرًا افتكرت تتصل.”
صمت لحظة، ثم قال بصوت منخفض:
“يارا… إنتي اللي حطيتي الإسورة في شنطتي؟”
ساد صمت قصير قبل أن ترد بصوت هادئ وكأنها تفكر بجدية:
“إسورة؟ أي إسورة يا يوسف؟ أنا معرفش أنت بتتكلم عن إيه.”
قطّب حاجبيه، شعر أن نبرتها خالية من أي انفعال… لا سخرية، لا اعتراف، لا ندم. فقط هدوء قاتل.
“يارا، متلعبِيش معايا. الإسورة اللي كنتي لابسها في الرحلة… إزاي وصلت لشنطتي؟”
ضحكت ضحكة قصيرة، ثم ردت بهدوء أكثر، وكأنها تتعمد تركه يغرق في أفكاره:
“أنا فعلاً مش فاهمة إنت بتتكلم عن إيه… بس واضح إن فيه حاجات في حياتك بقت تلخبطك، يوسف.”
ثم أنهت المكالمة دون كلمة إضافية.
ظل يوسف ممسكًا بالهاتف، يحدّق في الشاشة، يشعر أن عقله يوشك على الانفجار. هل كانت تكذب؟ أم أن هناك شيئًا آخر لا يفهمه بعد؟
لأول مرة، بدأ يشك في كل شيء… حتى في نفسه.
في صباح اليوم التالي، وبينما كانت رحيل تستعد للخروج، رنّ هاتفها برسالة مجهولة المصدر. فتحتها، ووجدت صورة… صورة التقطت في الرحلة.
الصورة كانت واضحة جدًا: يوسف ويارا يقفان في بهو الفندق الذي نزل فيه خلال الرحلة. كانت يارا تضحك، ويدها قريبة من كتف يوسف، بينما كان يوسف ينظر إليها نظرة لم تستطع تفسيرها. هل كان يبتسم؟ هل كان متوترًا؟ هل كان مستمتعا؟
لا يبدو الأمر كأنه “لقاء عابر” كما ادّعى.
شعرت رحيل بوخزة في صدرها. من الذي أرسل هذه الصورة؟ ولماذا الآن؟
قبل أن تستوعب الصدمة، وصلتها رسالة أخرى:
“الحقيقة دايمًا أوضح في الصور، مش كده؟”
حاولت تتبع الرقم، لكنه كان مجهولًا. هل كانت يارا؟ أم شخص آخر يحاول تحذيرها؟
رفعت رأسها، ونظرت إلى يوسف الذي كان يخرج من الحمام وهو يجفف شعره، غير مدرك أن عالمه على وشك الانهيار أكثر.
صدى الخيانة
صوت الماء المنهمر من الحمام كان الخلفية الوحيدة للصمت المشحون الذي اجتاح الغرفة.
رحيل جلست على حافة الاريكة ،عيناها مثبتتان على شاشة هاتفها، حيث استقرت الصورة التي قلبت عالمها رأسًا على عقب. أصابعها قبضت على الجهاز بقوة، وكأنها تحاول سحق الشكوك التي بدأت تتسلل إلى قلبها.
لم تكن مجرد صورة… كانت صفعة قاسية على ثقتها، على كل مرة أقنعها فيها يوسف أن ماضيه مع يارا قد انتهى.
كانت رحيل تحدّق في هاتفها، نبضاتها تتسارع مع كل ثانية تمرّ. الصورة أمامها لم تكن مجرد لقطة عابرة، بل كانت خنجرًا غُرس في قلبها دون رحمة. يوسف… ويارا… معًا.
دوى صوت باب الحمام وهو يُفتح، ليخرج يوسف، يلف المنشفة حول خصره، وقطرات الماء تتساقط من شعره. مسح وجهه بالمنشفة الأخرى دون أن يلاحظ نظرة رحيل المتجمدة.
لكنه شعر بالصمت. ذلك النوع من الصمت الذي يسبق العاصفة.
رفع رأسه أخيرًا، ليجدها جالسة في نفس الوضعية، ملامحها لا تعبر عن شيء سوى الغموض. لكنه يعرفها جيدًا، ويعرف أن هذه النظرة أخطر من أي صراخ.
اقترب منها بحذر:
“رحيل؟ مالك؟”
لم ترد. فقط رفعت الهاتف أمام وجهه، وعندما وقعت عيناه على الصورة، شعر وكأن الهواء قد اختفى من الغرفة.
نهضت واقتربت منه قليلًا: “يوسف… أنا سألتك قبل كده، وعايزة أسأل تاني… في حاجة لازم أعرفها؟”
نظر إليها بعمق، كان يعلم أنها لم تعد تصدقه تمامًا، لكنه قال بثقة زائفة: “أنا مفيش حاجة بخبيها عنك.”
ابتسمت رحيل بسخرية وهي تمسك هاتفها، ثم عرضت له الصورة مجددًا—الصورة التي وصلتها، والتي يظهر فيها يوسف ويارا معًا.
“طب لو كده… ليه ماقولتش إنك شوفتها لما رجعت من السفر؟”
لم يعرف ماذا يرد، لكنه قرر أن يتمسك بروايته: “لأن الموضوع مكنش مهم… قابلتها بالصدفة، سلمنا على بعض، وخلاص.”
لكن رحيل لم تكن غبية. تقدمت نحوه أكثر، وعينيها تلمعان بشيء أشبه بالحزن المخلوط بالغضب.
“يوسف، اتكلمتوا؟”
تردد للحظة، ثم قال: “أيوه… كلام عادي.”
رفعت حاجبها ببطء: “كلام عادي؟ تقابلها، وتسلم عليها، وتتكلموا، وكل ده مكنش يستاهل إنك تقوله لي؟”
شعر يوسف أن الأمر بدأ يخرج عن سيطرته. حاول أن يبدو هادئًا لكنه كان يشعر بأن الموقف يزداد سوءًا.
“رحيل، أنا مش فاهم ليه كل ده؟ يعني، حتى لو شوفتها، إيه المشكلة؟”
أخفضت رحيل يدها وهي تنظر إليه نظرة طويلة قبل أن تقول بصوت خافت لكنه محمل بكل الألم الذي تشعر به:
“المشكلة إنك مش شايف إن في مشكلة.”
يا رحيل، شفتها صدفة… مكنتش مرتب للقاء ولا حاجة، هي اللي جات ناحيتي.”
ضحكت رحيل ضحكة قصيرة، لكنها كانت خالية من أي مرح:
*”طب ليه مقلتش؟ ليه كان لازم الصورة دي هي اللي تخليني أعرف؟”
لم يكن لديه إجابة، لكنه حاول:
“مكنتش عايزك تزعلي… الموضوع مكانش يستاهل.”
وهنا، نظرت إليه نظرة أخيرة، نظرة امتلأت بخيبة الأمل أكثر من الغضب، ثم همست:
“الموضوع ماكنش يستاهل إنك تخبي، بس يستاهل إني أعرفك على حقيقتك.”
تراجعت للخلف، التقطت حقيبتها من على الأريكة، أصابعها كانت ترتجف لكنها لم تكن تنوي إظهار ضعفها أمامه.
عندما وصلت إلى الباب، توقفت للحظة، أخذت نفسًا عميقًا دون أن تلتفت إليه، ثم قالت بصوت منخفض لكنه محمل بالخذلان:
“كنت أتمنى تكون صادق معايا لمرة واحدة.”
وخرجت من الغرفة، تاركة يوسف في دوامة من الأفكار، بينما الصورة لا تزال أمامه، كأنها دليل على خيانته الصامتة، تاركة إياه واقفًا في منتصف الغرفة، يدرك أنه ربما هذه المرة… لن يتمكن من إصلاح الأمور بسهولة
بعدما خرجت رحيل من الشقة، شعر يوسف أنه فقد السيطرة على كل شيء. لم يكن يفهم كيف وصلت تلك الصورة إليها، لكنه كان متأكدًا أن هناك يدًا خفية تحاول تحطيم كل ما تبقى من استقرار حياته. كانت الشكوك تتجه نحو يارا، لكنها دائمًا تعرف كيف تخرج من الأمور دون أن تترك أثرًا يدينها.
دس يده في جيبه واخرج هاتفه، تردد قليلًا ثم يضغط على اسم يارا واتصل بها.)
يارا (بصوت ناعس وكأنها استيقظت للتو): يوسف؟ خير، بتتصل عليا ليه في الوقت ده؟
أغمض عينيه وضغط على جبهته، محاولًا كبح غضبه. *”يارا، إنتِ اللي بعتِ الصورة لرحيل؟”
تأخرت في الرد، ثم قالت بنبرة ناعمة: *”إنت فعلًا شايفني بالوضاعة دي؟”
*”جاوبيني من غير لف ودوران.”
*”يوسف… أنا عمري ما حبيت أؤذيك، بالعكس، أنا أكتر واحدة عايزة سعادتك.”
ضحك بسخرية: *”سعادتي؟ بإنك تبعتي صورة تخرب بيتي؟”
*”إنت ناسي إن إحنا كنا مع بعض فعلًا؟ يعني لو الصورة وجعت رحيل، فالسبب مش أنا… السبب إنك سمحت لحاجة زي دي تحصل.”
أغمض عينيه وهو يشعر بأن كلماتها تخترق عقله. لم يكن يريد أن يصدق أن يارا قد تكون وراء هذا، لكنه كان يعرف أنها قادرة على أي شيء.
*”يوسف، إحنا لسه بنحب بعض… حتى لو بتحاول تنكر ده.”
*”يارا، مفيش حاجة اسمها إحنا… اللي بينا انتهى.”
*”انتهى؟” ضحكت بخفوت، ثم قالت: *”ليه مش قادر تقفل السماعة، طالما انتهى؟”
نظر إلى الهاتف في يده، وكأنه أدرك أنه كان يمنحها فرصة للتلاعب به مجددًا.
*”خلاص يارا، انتهى وقت الكلام.”
*”يوسف، ما تقفلش… أرجوك. أنا ندمت، ندمت على كل حاجة حصلت بينا قبل كده، بس أنا بحبك، ولسه مستعدة أعمل أي حاجة عشانك.”
صمت للحظات، ثم قال ببرود: *”أنا مش محتاج منك حاجة… اللي محتاجه دلوقتي هو إنك تخرجي من حياتي للأبد.”
أغلق الهاتف دون أن يمنحها فرصة للرد، وألقى به على الطاولة. شعر وكأنه دخل في دوامة لا يستطيع الخروج منها
بعد أن أنهى يوسف المكالمة مع يارا، ظل واقفًا في مكانه للحظات، ينظر إلى الهاتف بشرود، يحاول استيعاب كلامها. رغم محاولاته لإقناع نفسه بأنها تتلاعب به، إلا أن كلماتها عن “ما شعرت به رحيل عندما رأت الصورة” لا تزال تتردد في ذهنه.
قرر أن يبحث عن رحيل. وجدها في الحديقة القريبة من المنزل، تجلس على مقعد خشبي، تنظر إلى الفراغ بنظرة شاردة. عندما اقترب منها، لم تلتفت إليه، لكنها كانت تشعر بوجوده.
يوسف بتردد: رحيل…..
رحيل لم ترد، فقط استمرت في التحديق أمامها وكأنها لم تسمعه. يوسف شعر بانقباض في صدره، جلس بجانبها لكنه ترك مسافة بينهما.
يوسف يحاول كسر الصمت: كنتِ فين؟
رحيل تأخذ نفسًا عميقًا، ثم تلتفت إليه أخيرًا، عيناها تلمعان لكنها لا تبدو ضعيفة، بل هادئة بشكل مخيف.
رحيل بهدوء غير متوقع: كنت بفكر…
يوسف ينظر إليها بحذر: بتفكري في إيه؟
رحيل تبتسم بسخرية خفيفة: فيك… فينا… في كل حاجة.
يوسف يشعر بالقلق، كان يتوقع انفجارًا منها، لكنه لم يحصل على ذلك. رحيل ظلت صامتة للحظات قبل أن تكمل.
رحيل: اتصلت بيارا، صح؟
يوسف بضيق: آه… كان لازم أعرف منها الحقيقة.

رحيل تضحك ضحكة قصيرة، لكنها ليست فرحة، بل محبطة.
رحيل: الحقيقة؟ الحقيقة واضحة يا يوسف، مش محتاجة تسألها عنها.
يوسف بإصرار: هي قالت إنها ما بعتتش الصورة!
رحيل تنظر إليه مباشرة، عيناها ثاقبتان: وصدقتها؟
يوسف يصمت، لا يستطيع الإجابة. رحيل تبتسم ابتسامة خفيفة لكنها تحمل وجعًا.
رحيل تكمل بهدوء، لكنها تضع حدًا واضحًا: مشكلتي مش في يارا، مشكلتي فيك… مش في الصورة، لكن في اللي جواتها. أنا مش هقعد أحقق معاك وأحاول أثبت لك إنك غلطان… لأنك عارف لوحدك.
رحيل تنهض من المقعد، تنظر إليه للحظة وكأنها تنتظر شيئًا منه، لكنه لا يقول شيئًا. فتتنهد وتبدأ في الابتعاد، تاركة إياه مع أفكاره، وهو يدرك أن صمتها لم يكن ضعفًا، بل بداية النهاية.
يوسف يقف في مكانه، يشعر بأن الكلمات التي قالها لم تكن كافية، وأنه قد يفقد رحيل بالفعل هذه المرة. لا لا يستطيع تركها تذهب بهذه السهولة. يركض خلفها مجددًا، يقف أمامها ليمنعها من التقدم.
يوسف بصوت متوسل: رحيل، استني… متسيبنيش كده، إنتِ عارفة انك غالية عندي أوي، أكتر مما تتخيلي.
رحيل تنظر إليه، عيناها تحملان ألمًا عميقًا، لكنها تحاول أن تبقى قوية.
رحيل بصوت منخفض لكن حاسم: غالية عندك، بس مش كفاية عشان تصون وجودي في حياتك.
يوسف باندفاع: لا! إنتِ أهم حاجة في حياتي، ومش عايز أخسرك… مش هسمح لك تبعدي عني بسبب حاجة فيها سوء تفاهم.
رحيل تضحك بسخرية حزينة.
رحيل: سوء تفاهم؟ يوسف، أنت اللي خليت الشك يملاني… وأنا مش قادرة أعيش في الدوامة دي تاني.
يوسف يمسك بيدها بحنان، يحاول أن يبحث في عينيها عن أي أمل.
يوسف: رحيل، أنا غلطت… وعارف إني غلطت، بس صدقيني، كل حاجة عملتها كانت بدافع خوفي على علاقتنا. إنتِ أغلى حاجة عندي، ولو فقدتك مش هبقى يوسف اللي تعرفيه.
رحيل تتنهد، تحاول كبح دموعها، لكنها تضع يدها على يده برفق، ثم تسحبها ببطء.
رحيل بهدوء مؤلم: أنا مش محتاجة كلام، يوسف… أنا محتاجة أحس، وأنا مش حاسة إنك فاهم معنى وجودي في حياتك لحد دلوقتي.
ثم تستدير وتكمل طريقها إلى المنزل، تاركة يوسف خلفها، يشعر بأن محاولاته لاسترضائها لم تكن كافية… وأنه ربما، هذه المرة، عليه أن يفعل أكثر من مجرد الكلام.
جلس يوسف في سيارته، يحدّق في اللا شيء، بينما أصابعه تعبث بعجلة القيادة بلا وعي. كان عقله يعجّ بأصوات متداخلة؛ صوت رحيل الممتلئ بالخذلان، وصدى كلماته المتعثرة وهو يحاول تبرير موقفه، ثم صوت يارا الناعم، الذي حمل في نبرته شيئًا لم يستطع تحديده… هل كان تهديدًا أم استغاثة؟
تنهد بعمق، وأراح رأسه على المقعد. لماذا يشعر وكأن كل الطرق أصبحت مسدودة؟ لم يكن ينوي أن تتعقد الأمور هكذا. لم يكن يريد أن يخسر رحيل، لكنه أيضًا لم يستطع محو يارا تمامًا من حياته، وكأنها ظل يطارده مهما حاول الفكاك منه.
فجأة، يرن هاتفه… ينظر إلى الشاشة، إنها رسالة من يارا.
يارا: “يوسف، عايزة أشوفك ضروري، في حاجة لازم تعرفها.”
يوسف ينظر إلى الرسالة، عقله يخبره بأن يبتعد، لكن قلبه مليء بالارتباك… هل يقابلها؟ وهل يمكن أن يكون هذا اللقاء بداية لانهيار أكبر؟!
“ظل يوسف ممسكًا بالمقود، تتصارع في رأسه آلاف الأفكار… لماذا يارا مصرة على رؤيته الآن؟ ولماذا بدا صوتها بهذه الجدية؟ لم يكن أمامه سوى أن يعرف الحقيقة بنفسه. أدار المحرك وانطلق… دون أن يدرك أن هذه الليلة ستحمل له صدمة لم يكن مستعدًا لها.”
“أنا جاي.”
مع كل حرف نطقه، شعر وكأنه يفتح بابًا لن يتمكن من إغلاقه بسهولة.
بين اللقاء و الغياب
كانت الليلة هادئة بشكل مخيف، فقط صوت أنفاسه المتوترة يملأ السيارة. يوسف كان مترددًا وهو يقود سيارته الى منزل يارا.
لقد أقسم على نفسه أن لا يعود لهذا المكان، لكن المكالمة التي تلقاها منها قلبت كل شيء. لم تخبره بالكثير، فقط قالت بصوتٍ مضطرب:
— “يوسف، لازم تيجي حالًا… الأمر ضروري!”
كان في صوتها شيء أربكه، لكن رغم ذلك، لم يسألها عن التفاصيل، فقط أغلق الهاتف وجاء. والآن، وهو جالس في سيارته مترددًا، لم يكن يعلم إن كان قراره هذا صائبًا أم لا.
كان الليل قد انتصف، والهدوء يلف الشوارع الخالية إلا من أضواء السيارات المتناثرة هنا وهناك. على أحد الأرصفة، توقفت سيارة يوسف أمام منزل يارا، لكنه لم يترجل منها فورًا. أصابعه كانت تضغط على المقود بقوة، بينما عيناه تحدقان في باب المنزل، وكأنه ينتظر إشارة ما لتخبره إن كان عليه الدخول أم لا
تنهد بعمق، أخرج هاتفه ونظر إلى شاشته للحظة، وكأنه يتوقع أن يجد رسالة من رحيل زوجته، لكنه لم يجد شيئًا. ربما كانت نائمة، أو ربما لم تكن تهتم لمكانه في هذه اللحظة. هزّ رأسه محاولًا طرد هذه الأفكار، ثم أخيرًا، فتح باب السيارة ونزل.
وقف يوسف أمام باب منزل يارا، يضغط أصابعه بتوتر حول هاتفه. لم يكن يريد الدخول، لم يكن يريد حتى أن يكون هنا، لكنه لم يستطع تجاهل قلقه عندما سمع صوتها المتوتر في الهاتف. تنهد بعمق، رفع يده ليطرق الباب، لكنه توقف لثانية، وكأنه يمنح نفسه فرصة أخيرة للتراجع.
كانت يارا تراقب من النافذة، وبمجرد أن لمحته يتقدم نحو الباب، أسرعت لفتحه قبل أن يطرق. وقفت أمامه بثوبٍ منزلي بسيط، لكن عينيها كانتا مرهقتين وكأنها لم تنم منذ أيام.
— “يوسف… بنتك مريضة عندها حرارة عالية ومش راضية تاكل أي حاجة.”
شعر بقلبه ينقبض، مر من جوارها دون أن ينبس بكلمة، واتجه مباشرة إلى الداخل، عارفًا طريقه جيدًا إلى غرفة الصغيرة. وما إن فتح الباب، حتى وجدها مستلقية تحت الغطاء، جبينها متعرق وخدودها متوردة بفعل الحمى، بينما عيناها نصف مغمضتين من التعب.
اقترب منها، جلس بجانبها وأمسك يدها الصغيرة، ففتحت عينيها بصعوبة، وما إن رأته حتى تمتمت بصوت ضعيف:
— “بابا…”
يوسف (بقلق): “حبيبتي، إنتِ كويسة؟”
لم ترد الصغيرة، فقط مدت ذراعيها نحوه بتعب، فحملها بحنان
شعر بانكسار داخلي وهو يراها بهذه الحالة. لم يتردد أكثر، التفت نحو يارا قائلاً بحزم:
— “لبسيها بسرعة، هنروح للطبيب.”
لم تجادله، فقط تحركت بسرعة لإحضار معطفها ومعطف الطفلة، وقبل أن تمر عشر دقائق، كانوا قد غادروا المنزل متجهين إلى المستشفى.
يوسف كان يقود بصمت، عيناه تراقبان الطريق، لكن ذهنه كان مشتتًا. من حين لآخر، كان يلقي نظرات سريعة عبر المرآة على الصغيرة، التي كانت مستندة على المقعد الخلفي، تغلق عينيها وتفتحهما بتعب.
يارا، التي كانت تجلس بجانبه، استغلت الصمت بينهما لتتكلم بصوت منخفض:
— “عارفة إنك مكنتش عايز تيجي… بس بنتك محتاجاك، يوسف.”
لم يرد، فقط ضغط على المقود بقوة أكبر. لم يكن يريد الحديث الآن، كل ما كان يهمه هو أن يطمئن على طفلته.
وصلوا إلى المستشفى أخيرًا، وأسرع يوسف بحمل الصغيرة إلى الداخل، حيث تم فحصها من قبل الطبيب. وبعد دقائق من الانتظار
فحص الطبيب الطفلة بدقة، ثم كتب لها دواءً خافضًا للحرارة ونصائح للعناية بها.
الطبيب: “مفيش حاجة خطيرة، بس خليها ترتاح وتشرب سوائل كتير، وأعطاهم بعض الأدوية.
يوسف تنفس الصعداء، لكن ابنته لم تترك يده، تشبثت به كأنها تخشى أن يختفي من جديد.
شعر يوسف بالراحة أخيرًا، ثم حمل طفلته إلى السيارة، بينما يارا ظلت صامتة، وكأنها تخطط لشيء.
وعند خروجهما من العيادة وركوب السيارة، كانت الصغيرة هادئة لبعض الوقت، ثم نظرت إليه بعينيها البريئتين وقالت بصوت متوسل:
الطفلة: “بابا… أنا نفسي نتعشى مع بعض النهاردة، زي زمان.”
تجمدت يده على المقود، والتفت إليها بدهشة، ثم نظر إلى يارا، التي ظلت صامتة لكن على وجهها ابتسامة خفية.
يوسف (بتردد): “حبيبتِي، إحنا لسه راجعين من العيادة، لازم ترتاحي.”
الطفلة (بتوسل): “بابا بليز… عايزة أقعد معك شوية.”
نظر إليها يوسف، ثم زفر بتعب، يعرف أنه لا يستطيع رفضها، لكنه شعر بشيء من الضيق، كأنه وقع في فخ دون أن يدرك ذلك.
يوسف: “طيب، بس هنقعد شوية صغيرين.”
ابتسمت الطفلة بحماس، بينما نظرت يارا ليوسف نظرة انتصار خفية.
في نفس اللحظة،
كانت الليلة مختلفة عن كل الليالي السابقة. قلبها ينبض بشعور متناقض بين الأمل والخوف، وبين الرغبة في إعادة بناء ما تهدم وبين الحذر من تكرار الخذلان.
كانت رحيل قد قررت أن تمنحه فرصة جديدة. كانت تعلم أن الشك لم يغادرها، لكنها أرادت المحاولة، أرادت أن ترى إن كان ما بينهما يستحق القتال من أجله،لم تكن متأكدة من قرارها، لكنها أرادت أن تمنح يوسف فرصة، فرصة أخيرة ربما، لتصديق أنه لا يزال يستحق حبها.

وقفت أمام المرآة، تتفقد إطلالتها بعينين تحملان بريقًا لم تره منذ فترة طويلة. اختارت فستانًا بسيطًا لكنه أنيق، زينت وجهها بلمسات خفيفة من المكياج، ورفعت شعرها بطريقة ناعمة، وكأنها تستعد للقاء كان يجب أن يحدث منذ زمن.
نظرت إلى انعكاسها في المرآة وسألت نفسها بصوت خافت:
— “هل سيفرح عندما يراني هكذا؟ هل سيشعر أنني بذلت جهدي لأجله؟ أم أنني فقط أعيش وهمًا آخر؟”
أغمضت عينيها لثانية، محاولة طرد الأفكار السلبية، ثم أخذت نفسًا عميقًا واتجهت إلى طاولة العشاء التي أعدتها بنفسها.
المكان كان ينبض بالرومانسية.
أضواء خافتة، شموع متناثرة بعناية، موسيقى هادئة تتسلل في الأجواء، والطاولة مزينة بأطباق مرتبة بعناية، تحمل الأكلات التي تعلم أن يوسف يحبها.
جلست على الكرسي، وعيناها تراقبان عقارب الساعة التي تتحرك ببطء شديد، وكأنها تعاند انتظارها.
— “سيأتي… لا بد أنه في طريقه الآن…”
همست لنفسها بهذه الكلمات، محاولة إقناع قلبها القلق بأن هذه المرة ستكون مختلفة. لكنها لم تستطع تجاهل ذاك الصوت الصغير في عقلها الذي يهمس لها:
— “وماذا لو لم يأتِ؟ ماذا لو خذلكِ مرة أخرى؟”
مرت عشر دقائق… ثم عشرون… ثم نصف ساعة… ولا يزال الهاتف صامتًا، بلا رسائل، بلا اتصالات، بلا أي إشارة تدل على اقتراب قدومه.
بدأت رحيل تفقد صبرها، حملت هاتفها وترددت للحظة قبل أن تتصل به. وضعت الهاتف على أذنها، وانتظرت… انتظرت رنينًا يطمئنها، لكن بدلاً من ذلك، جاءها صوت آلي بارد:
— “عذرًا، الرقم الذي طلبته غير متاح حاليًا، يرجى المحاولة لاحقًا.”
غير متاح؟!
خفضت الهاتف ببطء، ورفعت عينيها إلى الطاولة التي أعدتها بكل حب، ثم إلى الشموع التي بدأت تذوب،والطعام برد، وكأنها تعكس ما تشعر به في هذه اللحظة.
هل كانت ساذجة؟ هل كانت تعيش في وهم أنها يمكن أن تستعيده؟
نهضت من مكانها ببطء، أطفأت الموسيقى، ثم جلست على الأريكة، وعيناها تتعلقان بالباب وكأنها تنتظر أن ينفتح في أي لحظة، أن يدخل يوسف معتذرًا، أن يخبرها بأن هناك سببًا منطقيًا لهذا التأخير.
لكن الحقيقة، أن يوسف لم يكن في طريقه إليها. كان في مكان آخر تمامًا… وكان يقضي تلك الليلة مع شخص آخر.
لكن يوسف لم يكن يعلم شيئًا عن ذلك. بل كان في مكان آخر تمامًا، مع يارا، وابنتهما، دون أن يدرك أن هذه الليلة ستحمل له صدمة لم يكن مستعدًا لها…
حقيقة في صورة
جلست رحيل في غرفة الطعام، تطالع الطاولة التي رتّبتها بعناية. الأضواء خافتة، الشموع تضيء بنعومة، والأطباق موضوعة بشكل أنيق. كانت قد أعدّت عشاءً رومانسيًا خصيصًا ليوسف، أرادت أن تقضي معه ليلة هادئة، تعيد بعض الدفء إلى علاقتهما.
مرت الدقائق، ثم الساعات، وهي تنتظر، هاتفها بجانبها، تنظر إليه بين الحين والآخر علّها ترى إشعارًا باتصال منه، رسالة، أي شيء يخبرها أنه قادم. لكنه لم يأتِ.
حاولت أن تجد له عذرًا، ربما تأخر في العمل، ربما حدث شيء طارئ… لكن كلما طال الانتظار، بدأ قلبها يغرق في دوامة من القلق والشك.
لكن الوقت يمضي… والطعام يبرد… وهي ما زالت تنتظر.
فتحت هاتفها، تفقدت محادثاتها معه. آخر رسالة منها كانت:
“متى ترجع؟ جهّزت لك مفاجأة ♥”
لكن لم يكن هناك رد.
تنهدت وألقت الهاتف بجانبها. لم تكن تريد أن تقلق، لكنها لم تستطع منع عقلها من الغرق في دوامة الأفكار.
في مكان آخر… بعيد عنها، كان يوسف جالسًا في مطعم راقٍ، لكن ليس معها.
كان مع يارا وابنتهما الصغيرة.
المطعم كان مضاءً بشكل هادئ، الطاولات مرتبة بإتقان، والموسيقى تعزف ألحانًا ناعمة. كانت الطفلة تجلس بينهما، تحرك قدميها في الهواء بسعادة، بينما تلعب بقطع الطعام في طبقها.
يارا كانت بكامل أناقتها، شعرها مسدول، عطرها يملأ المكان برائحة خفيفة لكنها مميزة. لم تتوقف عن الابتسام، عن محاولة إشراك يوسف في الأحاديث، عن استعادة ذكريات قديمة.
على الطاولة، كانت يارا تبتسم له، تحاول أن تملأ الفراغ بينهما بأحاديث خفيفة، عن الأيام الماضية، عن الذكريات، عن الطفلة التي كانت تضحك ببراءة وتلعب بملعقتها. لكن رغم محاولاتها، لم يكن يوسف حاضرًا تمامًا. عيناه كانت تنظران إلى يارا، لكن عقله كان في مكان آخر… كان مع رحيل.
كان يشعر بالذنب، كان يعرف أنه أخطأ بقبول هذه الدعوة، لكنه لم يستطع أن يقول لا… أو ربما لم يُرِد ذلك.
“تتذكر لما كنا نجي هنا زمان؟ كنت دايمًا تطلب نفس الطبق!” قالت وهي تضحك، تحاول كسر المسافة التي يشعر بها بينهما.
لكنه لم يردّ مباشرة، فقط اكتفى بابتسامة باهتة وهزّ رأسه.
في الحقيقة، لم يكن يوسف مستمتعًا باللحظة كما كانت يارا تأمل. كان جسده حاضرًا، لكن عقله… كان رحيل.
كل مرة ينظر إلى ابنته وهي تضحك، كان يتذكر أن رحيل في البيت وحدها، تنتظره. يشعر بتأنيب الضمير، لكنه في الوقت نفسه، لم يكن قادرًا على مغادرة المكان.
فجأة، مدت يارا يدها ولمست يده بلطف، أصابعها تنزلق فوق أصابعه بحركة خفيفة.

“يوسف…” همست بصوت دافئ.
رفع عينيه إليها، للحظة شعر بالارتباك. لم يسحب يده فورًا، لكنه شعر بأن الأمر خطأ… شيء في داخله كان يصرخ أن هذه اللحظة ليست صحيحة.
لكن… لم يكن يدرك أن هناك من يراه.
في زاوية أخرى من المطعم، كانت صديقة رحيل تجلس برفقة زوجها وأصدقائها.
كانت تستمتع بوقتها، حتى التفتت بالصدفة حين وقعت شوكتها … ورأت المشهد.
جفلت قليلاً، حدقت في الرجل الجالس هناك… كان مألوفًا… لا، لم يكن مجرد شخص مألوف، كان يوسف! زوج صديقتها!
لكن الصدمة الأكبر لم تكن في وجوده، بل في المرأة التي تجلس معه.
يارا.
وكانت تمسك يده.
فتحت فمها قليلًا من شدة المفاجأة، ثم أمسكت هاتفها بسرعة، والتقطت صورة للمشهد قبل أن تفكر في الأمر مرتين.
فتحت محادثتها مع رحيل ،وأرسلت الصورة برسالة قصيرة:
“رحيل… شوفي مين شفت دلوقتي!”
في منزلها، كانت رحيل قد فقدت الأمل في عودته مبكرًا.
حملت هاتفها بتثاقل وخيبة ، لم تكن تتوقع شيئًا سوى ربما رسالة منه يعتذر عن التأخير.
لكنها لم تجد ذلك.
وجدت صورة
تجمدت يدها للحظة وهي تحدق في الشاشة، ثم فتحت الصورة ببطء.
عيناها توسعتا… قلبها بدأ ينبض بجنون.
يوسف… مع يارا… يمسك يدها.

لم تعرف كم من الوقت مضى وهي تحدق في الصورة، لكن شيئًا بداخلها كان ينهار. شعرت بوخز في صدرها، وكأنها تلقت طعنة لم تكن تتوقعها.وكأن الكون بأسره توقف عند هذه اللحظة.
لكن ما كانت متأكدة منه… هو أن شيئًا ما قد انكسر بينهما، وربما… للأبد.
ثمن الغياب.
كانت الليلة هادئة، لكنها لم تكن كذلك في قلب رحيل،
الدنيا سكتت حواليها… الإضاءة، الشموع، صوت الموسيقى الهادية اللي كانت مشغّلاها… كله فجأة بقى بلا معنى.
عيونها فضلت مثبتة على الصورة، مش مصدقة اللي شايفاه، حسّت بقلبها بيضرب بسرعة، كأنها خدت ضربة قوية في صدرها.
أخدت خطوة للخلف، وبعدها خطوة تانية… كأنها بتحاول تهرب من الحقيقة اللي قدامها. أخيرًا، اتجمّدت في مكانها، وكل حاجة انفجرت فجأة…
بإيد مرتعشة، رمت الموبايل على الطاولة، وبدون ما تحس، إيديها خبطت على الشمعة اللي كانت جنبها، فوقع الشمع السايح على المفرش… قلبته كله.
— “ليه؟ ليييه؟!!”
صرخت بصوت مخنوق، وشهقت من كتر الغضب، عينيها دمعت بس مش دموع ضعف… كانت دموع خيبة، دموع حد ادى فرصة واتعلق بأمل، لكن الأمل ده انكسر قصاده.
بإيدين مرتعشتين، مسكت الكرسي اللي قدامها ورمته بقوة، وقع على الأرض بصوت فرقع في المكان كله. مسكت الفازة اللي كانت حاطاها على الطاولة ورمتها على الأرض، اتحطمت لقطع صغيرة، زي ما قلبها كان بيتهشم في اللحظة دي.
وأخيرًا، وقفت تترعش، عيونها مليانة ألم، صدرها بيطلع وينزل بسرعة، دموعها بتنزل على خدها بس مش قادرة تمسحها.
— “خلاص، يوسف… أنا اللي كنت غبية إني صدقتك تاني…”
كانت مستنياه… مش عشان تسامحه، ولا عشان تعاتبه برقة، لكن عشان تواجهه، عشان تشوف بعينها هو هيكدب ولا هيعترف!
يوسف كان سايق في هدوء، عقله مشغول بالحوار اللي دار بينه وبين رحيل قبل ما يخرج. حسّ إنها كانت متغيرة، كأنها بتحاول تدي له فرصة جديدة… بس مع كل اللي حصل، هو نفسه مش عارف إذا كان يستحق الفرصة دي ولا لأ.
يارا كانت قاعدة جنبه ساكتة بعدما نامت الطفلة ، بس ملامحها بتعكس حاجات كتير. لما قربوا من بيتها، يوسف وقف العربية وقال ببرود:
— “احنا وصلنا… تصبحوا على خير.”
بس يارا ما فتحتش الباب، فضلت قاعدة مكانها، عينيها عليه وكأنها بتفكر في حاجة. فجأة، بصت له وقالت بصوت هادي:
— “يوسف… هو إحنا بقينا كده؟”
رفع عينه لها مستغرب:
— “كده إزاي؟”
— “غُرب… كأننا ما كُناش عايشين تحت سقف واحد… كأن كل اللي بينا اتنسى.”
اتنهد يوسف وقال وهو بيبص قدامه:

— “الحاجات لما بتتكسر صعب تتصلّح يا يارا، وانتي عارفة ده كويس.”
لكنها قربت منه، نبرتها بقت أهدى وكأنها بتحاول تلعب على أوتار مشاعره:
— “هو إحنا اللي كسرناه، يوسف… ولا الظروف؟ أوقات كتير بسأل نفسي… لو ما كناش انفصلنا، كنا ممكن نكون أحسن؟”
سكت يوسف، مش عايز يخوض في الكلام ده. لكن هي ما استسلمتش، مدت إيدها ولمست إيده اللي كانت على المقود، لمسة خفيفة بس كان فيها كتير.
— “وحشتني يا يوسف…”
سحب إيده بهدوء، وغمغم ببرود:
— “اتأخرنا… دخّلي الطفلة جوه.”
لكنها مالت ناحيته أكتر، لدرجة إن أنفاسها كانت قريبة منه بشكل خطير:
— “لو حتى للحظة واحدة… ما اشتقتليش؟”
كان عقله بيصرخ إنه يبعد، بس لحظة ضعف صغيرة خلت عينيه تتوه للحظة في عينيها. العطر اللي كان دايمًا بيربطه بأيام زمان لفحه، حسّ إن في دوامة بتحاول تسحبه لجواه.
لم يرد، لكنه شعر بعدم الارتياح. مدت يدها ببطء ولمست يده، وكأنها تريد إعادة تلك الذكريات التي كان يحاول نسيانها.
— “ألا تتذكر أي شيء؟ كنا عائلة سعيدة، يوسف…”
أبعد يده عنها برفق لكنه لم يقل شيئًا، فتابعت بصوت خافت:
— “أحيانًا أتساءل… لو لم يحدث كل هذا، هل كنا سنظل معًا؟”
أدار وجهه للنافذة محاولًا التملص، لكنه شعر بها تقترب أكثر، رائحة عطرها القديم تسلل إلى أنفه، تذكّره بأيام لم يعد يريد العودة إليها.
— “يارا، الوقت تأخر… ادخلي.”
بعد ما رجّع يارا وبنته البيت، وقفل باب العربية، فضِل قاعد شوية مكانه، سايب إيده على الدركسيون وعينيه مثبتة قدّامه في الفراغ. حس بتقل غريب على صدره… إحساس ما كانش قادر يهزّه من فوق قلبه.
رجع راسه على الكرسي، وساب نفس طويل، كأنه بيحاول يخرج كل حاجة مع الهوى اللي طلع منه، بس الشعور ما راحش… بالعكس، زاد أكتر. كان عارف إنه ما كانش لازم يروح، وإنه ما كانش لازم يسيب يارا تجرّه وراها بالشكل ده، لكن حصل… وده أكتر حاجة وجعته.
“كنت مفروض أكون مع رحيل دلوقتي…” الكلمة دي لمعت في دماغه فجأة، زوّدته إحساس الذنب أكتر. رحيل اللي كانت مستنياه، اللي أكيد كانت حاسة بالشك وهو غايب، وهو… هو اللي داها كل سبب إنها تشك فيه.
شدّ على إيديه بعصبية، وحسّ إن أنفاسه بقت تقيلة. مشكلته إنه مش قادر يتهرب من الحقيقة… هو غلط. ومهما حاول يقنع نفسه إنه راح عشان بنته، عارف إن جزء منه سمح ليارا تجرّه للمكان ده… وده أكتر حاجة مخلياه حاسس إنه خاين.
كان لازم يتحرك… لازم يروح البيت، يمكن يلاقي فرصة يصلّح الغلط اللي عمله. بس كان عنده إحساس قاتل… إن الفرصة دي راحت منه للأبد.
مر الوقت وهي في مكانها، مش سامعة غير صوت دقات قلبها والغضب اللي بيغلي في دمها، لحد ما سمعت صوت الباب بيتفتح.
خطواته كانت هادية، كأن مفيش حاجة، كأنه راجع لبيته الطبيعي، لمراته اللي مستنياه… بس لما دخل الصالة وشاف المنظر، وقف مكانه.
الأكل اللي كان متحضر على الطاولة مقلوب، الكراسي مقلوبة، الفازة مكسورة، والمفرش متحرق شوية من الشمعة اللي وقعت عليه. حسّ بهواء بارد رغم إن الجو كان عادي، الجو في البيت نفسه كان مخيف… كان مُرعِب.
وبعد لحظة، عيونه وقعت عليها…
كانت قاعدة في الظلمة، ضهرها للحيطة، ، حضنا رجليها لنفسها، وشها نازل دموع من غير صوت، بس النظرة اللي في عيونها… حاجة خلت قلبه يضرب بسرعة، كانت فيها حاجة ما شافهاش قبل كده، حاجة كسّرت قلبه وهو مش عارف حتى يفسره.
نطق باسمها بصوت قلق، وقلبه مقبوض.
“رحيل… مالك؟ إيه اللي حصل هنا؟”
ملامحها متحركتش، بس دموعها مكانتش محتاجة كلام، كانت بتنزل في صمت كأنها مش لاقية حتى طاقة تبكي بصوت.
قرب منها بخطوات حذرة، نزل على ركبته قدامها، وحاول يلمس إيدها، لكنها سحبتها بسرعة، كأن لمسته بتحرقها.
“مالك… إيه اللي حصل هنا؟”

رفعت عيونها ببطء، كانت نظرتها هادية بطريقة مخيفة، ما صرختش، ما انفجرتش، بس كانت مرعبة أكتر من أي حاجة توقعها.
ردت بصوت هادي:
“مفيش… بس كنت مستنياك.”
اتلخبط، حسّ إنها مش طبيعية، لكنه ماحبش يسأل أكتر، فابتسم ابتسامة صغيرة وهو بيقرب منها.
“آسف، اتأخرت عليكي… كان عندي ظرف طارئ.”
اتجاهلت اعتذاره وسألته بهدوء مصطنع:
“كنت فين؟”
اتنحنح وقال بسرعة:
“كنت مشغول شوية، حاجة تخص الشغل.”
“الشغل؟” كررت الكلمة وهي بترفع حاجبها وكأنها مش مصدقة، لكنه ما خدش باله.
“أيوه، حاجات لازم أخلصها، معلش كان لازم أتأخر.” قالها بثقة، وهو فاكر إنه بيقنعها.
هزت راسها كأنها بتستوعب كلامه، وبصوت هادي، سألته تاني:
“متأكد إنك كنت في الشغل؟”
هنا، حسّ بحاجة غلط… نظرتها كانت باردة، زي اللي بيحفر حفرة لحد لحد ما يقع فيها بنفسه.
“رحيل، مالك؟ بتسأليني كأنك بتشكّي فيا؟” حاول يضحك بس ضحكته طلعت مهزوزة.
قامت من مكانها ببطء، مسكت الموبايل، وقلبته ناحيته، وقالت بهدوء قاتل:
“لو كنت في الشغل… ده مين؟”
نظر للصورة، وقلبه وقع في رجله.
صورة واضحة ليه وهو قاعد مع يارا والطفلة، الصورة نفسها كان شكلها كأنه مشهد عائلي دافئ، كأنهم عيلة واحدة…لكنه كان أبعد ما يكون عن الدفء اللي حاسس بيه دلوقتي.
والأهم إنه كان في مكان مش شغله خالص.
حاول يتكلم، لكن الكلام ما خرجش… كان عارف إن أي حاجة هيقولها مش هتكون كفاية، وأسوأ حاجة إنه هو اللي وقع نفسه في الفخ بإيده.
كانت نبرتها مليانة خيبة… وده كان أسوأ من الغضب، أسوأ من أي عقاب ممكن يتخيله.
لكن قبل ما يتكلم، سمّع صوت ضحكة قصيرة منها، ضحكة فيها سخرية ووجع .
“كنت مستنياك، فاكرة إنك هتيجي… فاكرة إنك ممكن تبطل تخذلني، بس شكلي غبية، مش كده؟”
رفعت عيونها له وقالت:
“كمل، قولّي كنت في الشغل… خليني أشوف لحد فين هتوصل في كذبك ،خليني أشوف هتفضل تلف وتدور لحد فين!””
وهنا، عرف إن أي كلمة هيقولها… مش هتصلح اللي اتكسر.
حسّ بتوتر، بصوت مهزوز قال:
“رحيل، أنا كنت مع البنت، كانت تعبانة، و…”
لكن قبل ما يكمل، صوتها قاطعه، بس المرة دي ما كانش صوتها الهادي المعتاد…
“بجد؟! كنت مع بنتك؟ طب وزوجتك؟ كنت فين عني وأنا مستنياك، كنت فين لما كنت بجهز العشا ليك، كنت فين لما كنت بفكر أخيرًا أصدق إنك ممكن تبقى ليا لوحدي؟!!”
صرخت، ووقفت بسرعة، مسكت الكرسي اللي كان مرمي على الأرض، وضربته في الطاولة، صوت الخبطة كان عالي لدرجة إنه خلاه يرتعش.
“رحيل… اهدي واسمعيني…” حاول يقرب منها، بس هي رجعت خطوة لورا.
“أنا غبية، صح؟! غبية إني حتى فكرت أديلك فرصة، غبية إني سمحت لقلبي يضعف ليك تاني، غبية إني صدقت إنك اخترتني فعلاً!!”
كانت بتتكلم بسرعة، أنفاسها متقطعة، صوتها بيترعش بين البكا والغضب.
“رحيل، اسمعيني… الموضوع مش زي ما انتي فاكرة!”
قاطعته وهي بتضحك ضحكة قصيرة، بس كان فيها وجع أكتر من الضحك:

“الموضوع مش زي ما أنا فاكرة؟ طب، قوللي بقى، هو زي إيه؟”
اتقدم خطوة ناحيتها، لكن هي رجعت لورا، رفعت إيدها كأنها بتمنعه يقرب.
“ماتقربش، يوسف… كفاية كذب. كفاية وعود فاضية… كفاية خيانة.”
نظر لها بعيون متوسلة، حاسس إن الدنيا بتضيق عليه:
“مش خيانة! كنت مع بنتي…. كانت تعبانة شوية
هزّت راسها كأنها بتستوعب كلامه، وسألت بنبرة هادية بس فيها غصة:
“آه… بنتك؟ وبس؟”
ارتبك يوسف، حرك رقبته بتوتر، وبلع ريقه قبل ما يرد:
“طبعًا،رُحت الدكتور و…”
وقف ساكت، مش عارف يقول إيه… كل تبرير كان في باله حسّه فجأة فارغ، ضعيف قدام العاصفة اللي واقفة قدامه.
لكن… هل فعلًا غلط؟ هو مكانش ناوي يجرحها، بس في نفس الوقت… ليه ساب نفسه ليارا؟ ليه وافق على العشا؟ ليه حتى لما الطفلة طلبت منه، ما فكرش في رحيل الأول؟
رحيل بَصّت له بآخر نظرة مليانة ألم وقالت:
“أنا خلاص، يا يوسف… ماعُدش عندي طاقة أصدقك، ولا حتى طاقة أكذب على نفسي أكتر من كده.”
وبعدها، سابته واقف في النص بين كل الفوضى اللي حصلت… لكنها كانت أكتر شخص متدمّر في المشهد كله.
سابته واقف في مكانه، مش قادر يتحرك… مش قادر يستوعب إنه ممكن يكون بيخسرها بالفعل.
بين البقاء و الرحيل
هدأت الأجواء في المنزل، لكن الصمت لم يكن مريحًا، بل كان مشحونًا بالخذلان والغضب.
وقف يوسف في منتصف الغرفة، يراقب رحيل وهي تتحرك بسرعة، تضع ملابسها في الحقيبة بعصبية، وكأنها تحاول الهروب من كل شيء. كان يشعر أن كلماته لن تغير شيئًا، لكن مجرد رؤيتها وهي تستعد للرحيل جعله يدرك كم أنه خائف… خائف من فقدانها للأبد.
يوسف (بصوت مهزوز لكن مصمم): “رحيل… متعمليش كده، اسمعيني بس.”
رحيل (دون أن تنظر إليه، وهي تغلق الحقيبة بقوة): “مفيش حاجة أسمعها، كل حاجة واضحة… أنا مش قادرة أكمل كده، مش قادرة أعيش معاك وأنا شاكة فيك كل يوم.”
يوسف (يقترب منها بخطوات بطيئة): “أنا غلطان… بس مش باللي في بالك، أقسم بالله مكنش في بيني وبين يارا أي حاجة.”
رحيل (تضحك بسخرية، وهي تحاول حمل الحقيبة): “وفي صورة تشرحلي ده؟! ولا أنا لازم أصدقك وخلاص؟”
حاولت أن تمشي، لكن يوسف تحرك بسرعة، أمسك بالحقيبة، وسحبها منها. نظرت إليه بعيون مليانة بالغضب والانكسار.
رحيل (بحزم): “يوسف، رجّع الشنطة!”
يوسف (بعناد): “مش هسمحلك تخرجي كده! إنتي مش عايزة تمشي، إنتي بس مجروحة… ولو خرجتي دلوقتي، ده هيكون آخر يوم بينا!”
تجمدت رحيل في مكانها، تنظر إليه وكأنها تحاول قراءة عينيه، هل هو جاد؟ هل فعلاً مستعد يخسرها؟
رحيل (بصوت مختنق): “وإيه الفرق؟ مش أنت اللي ضيعت كل حاجة؟”
تنهد يوسف، ثم فجأة جلس على السرير، وكأنه فقد قوته للحظة. مرر يده في شعره، ثم نظر إليها نظرة مختلفة… نظرة لم تراها منذ زمن.
يوسف (بصوت هادي مليان ندم): “أنا غبي… يمكن كنت فاكر إنك هتسامحيني بسهولة، بس الحقيقة إني خوفت… خوفت أخسرك، خوفت إن الشك يبوظ كل حاجة بينا.”
نظرت إليه رحيل، لأول مرة تراه بهذا الضعف، بهذا الانكسار… لكنها لم تكن مستعدة للاستسلام.
في مكان آخر
بعد ما دخلت يارا بيتها، أغلقت الباب خلفها بهدوء، ثم أسندت ظهرها عليه وأطلقت زفرة انتصار خافتة. خلعت معطفها وألقته على الأريكة، بينما عيناها تتجهان نحو المرآة المقابلة. اقتربت منها ببطء، تأملت انعكاسها، ثم مررت أصابعها بين خصلات شعرها وهي تسترجع تفاصيل العشاء مع يوسف.
ضحكت بسخرية وهي تهمس لنفسها: “لسه زي ما هو… نفس النظرة، نفس التردد…”
اتجهت نحو المطبخ، سكبت لنفسها كوب عصير، وجلست على الكرسي وهي تحرك الملعقة داخل الكوب بشرود. هاتفها الموضوع على الطاولة اهتز معلنًا عن مكالمة واردة، لكنها لم تلتفت إليه فورًا. أخذت رشفة من العصير قبل أن تمسك الهاتف وترى اسم صديقتها على الشاشة. ابتسمت، ثم أجابت:

يارا (بنبرة مستفزة): “عارفة مين كان معايا النهاردة؟”
سمر (بدهشة وفضول): “إنتِ بتتكلمي عن يوسف؟!”
يارا (بضحكة خفيفة): “هو فيه غيره؟”
سمر: “إنتِ بتهزري؟! ازاي حصل كده؟ مش كان قافل الموضوع من زمان؟”
يارا (بتنهيدة مصطنعة): “فاكرة لما قولتلك اللي ملكتيه مرة، تملكيه تاني؟ يوسف مش استثناء، بس الفرق إن المرة دي مفيش حاجة تمنعني أخده من غير ما يرجع لها.”
سمر (باندهاش): “إنتِ مجنونة، بس استني… هو جه لوحده؟”
يارا: “بالعكس، أنا اللي خلّيته ييجي… مكالمة بسيطة، لمّحت له إن في حاجة ضرورية، وجري على بابي زي زمان.”
سمر (بسخرية): “ولما جه؟”
يارا (بابتسامة خبيثة): “دخل، شاف البنت، خدها للدكتور، وبعدها طلبت منه نخرج ناكل سوا… وطبعًا مقدرش يقول لا.”
سمر : “يا بنتي إنتِ خطيرة، بس استني… هو مش المفروض مراته تشك؟ يوسف مش ساذج عشان يقع كده بسهولة.”
سمر(بسخرية): “إنتِ مجنونة، بس استني… هو جه لوحده كده عادي ؟”
يارا (بابتسامة خبيثة): “طبعًا لا، أنا اللي خلّيته ييجي… لعبت على نقطة ضعف أي أب، بنته كانت تعبانة، اتصلت بيه، وقالتله بنفسها تعال يا بابا، وهو مقدرش يقول لا.”
سمر (باندهاش): “ده طبيعي، يوسف عمره ما هيهمل بنته، بس بعد ما أخدها للدكتور؟”
يارا: “ساعتها قلت له تعالِا نأكل مع بعض، والبنت كانت فرحانة، فضلت ترجّيه لحد ما وافق. شوفتِ بقى؟ يوسف فاكر إنه بيراعي بنته، بس في الحقيقة، هو بيرجع لي خطوة بخطوة.”
سمر : “بس كده! ده مش معناه إنه راجع ليكي، يوسف مجرد عمل الصح مع بنته.”
يارا (بثقة): “هو اللي فاكر كده، بس أنا عارفة إن كل حاجة ليها تأثير. شوية ذكريات قديمة، لمسات بسيطة، كلمات محسوبة، ومع الوقت… مش هيحس بنفسه وهو راجع لي.”
سمر: “أنا مش عارفة أقولك إيه… بس لو يوسف حس إنك بتحاولي تتلاعبي بيه، هتخسري كل حاجة.”
يارا (بتحدي): “وإيه اللي ممكن يكتشفه؟ هو بنفسه وافق يخرج معايا، وأنا لا كدبت عليه ولا غصبته، مجرد شوية لحظات دافية، وهمسة في ودنه… كفاية تخلّيه يرجع لي من غير ما يحس إنه رجع.”
سمر: “طب ومراته؟ أكيد هتحس إن في حاجة غلط؟”
يارا (بابتسامة جانبية): “وأنا عندي وقت، خليه هو اللي يفسّر لها، وأنا هكون هنا، مستعدة لأي سيناريو.”
هدأت الضجة في البيت، لكن الصمت اللي حلّ كان أثقل من أي صوت. وقف يوسف في وسط الغرفة ، عيونه مثبتة على رحيل اللي كانت بتحاول تاخد شنطتها وتمشي.
وفجأة، كسر الصوت الهادئ ده صوت خطوات صغيرة…
التفت يوسف بسرعة، وكان قلبه وقع لما شاف ابنته “لين” واقفة عند باب أوضتها، عيونها واسعة وخايفة، وإيديها الصغيرة ماسكة طرف فستانها كأنها بتحاول تتأكد إنها لسه في أمان. صوتها كان ضعيف وهي بتسأل ببراءة مؤلمة:
“بابا… إنت وماما بتتخانقوا ليه؟”
رحيل شهقت وهي تاخد خطوة لورا، كأنها فجأة أدركت إن بنتها سمعت كل حاجة، كل كلمة، كل كسرة، كل خيبة. أما يوسف، فركع على ركبه قدام بنته ومدّ إيده ليها بلطف:
“تعالي هنا يا حبيبتي…”
لكن لين ما اتحركتش، بالعكس، نظراتها راحت على شنطة السفر اللي كانت رحيل بتحاول تحزمها، فبدأت عيونها تدمع أكتر وهي بتسأل بصوت مرتجف:
“ماما… هتسيبينا؟”
الجملة دي نزلت على رحيل زي الصاعقة. كانت فاكرة إنها خلاص أخدت قرارها، إنها مش هتسمح لنفسها تعيش في دوامة الشك والألم دي أكتر من كده… لكن لما شافت الخوف في عيون بنتها، حسّت بتردد رهيب، حسّت إنها فجأة مش قادرة تتحرك ولا تاخد نفس حتى.
يوسف استغل اللحظة دي، قام واقف وقرب من رحيل، صوته كان هادي لكنه مليان مشاعر:

“رحيل… بصي لبنتنا، بصي لخوفها… إحنا نقدر نحلها، نقدر نتكلم، بس ما تخديش قرار يهدّ كل حاجة.”
رحيل بصت له بعيون مليانة وجع، صوتها كان ضعيف وهي تهمس: “وأنا؟ مين فكر في وجعي؟ في شكي؟ في إحساسي وأنا بشوفك معاها؟”
يوسف حبس أنفاسه للحظة، معرفش يرد فورًا، لكنه مدّ إيده ولمس كتفها بلطف: “أنا غلط… لكن أقسم بالله ما كان قصدي أوجعك.”
اللحظة كانت مشحونة، ورحيل كانت بتصارع مشاعرها بقوة، لكنها في الآخر، بصت لبنتها اللي كانت لسه واقفة مكانها وبتبص لها برجاء، فحسّت إن رجليها تقّلت، وإن قرار الرحيل اللي كان سهل من لحظات، بقى أصعب بكتير دلوقتي.
أولويات جديدة
في الصباح
استيقظت رحيل على ضوء الشمس المتسلل من ستائر الغرفة، لكنه لم يكن صباحًا عاديًا، بل صباحًا يليه خيبة وجرح جديد. لم تشعر بالدفء، بل ببرودة الخيبة التي سكنت قلبها. جلست على طرف السرير، يداها تتشابك بين ركبتيها، وعقلها ممتلئ بالأسئلة. لم تتحرك، ظلت تحدق في السقف وكأنها تبحث عن إجابة لأسئلتها الكثيرة هل هذا زوجها؟ هل هذا الرجل الذي وثقت به يومًا؟
في الخارج، كان يوسف يتحرك في المنزل ببطء، وكأنه يخشى إيقاظ عاصفة جديدة. حاول أن يكون هادئًا، لكنه لم يستطع تجاهل ثقل الأجواء بينهما.
سمعت أصواتًا خافتة في الخارج، أيقنت أن يوسف استيقظ. تنهّدت بعمق قبل أن تنهض، وغسلت وجهها بالماء البارد في محاولة لإخفاء آثار الدموع والتعب الذي لازمها طوال الليل. عندما خرجت من الغرفة، كانت خطواتها هادئة لكنها حازمة، وكأنها تسير نحو قرار حاسم.
وجدت يوسف جالسًا على الأريكة في الصالة، عيناه شاردتان، وكأنه يفكر فيما سيقوله لها. عندما لمحها تقف عند المطبخ، استقام واقفًا وتقدم نحوها بحذر، وكأنه يقترب من شيء قد ينفجر في وجهه في أي لحظة.
“صباح الخير، رحيل.”
لم ترد.
انتظر لحظات على أمل أن تقول أي شيء، لكنه لم يحصل على رد.
رفعت حاجبيها اخيرا ونظرت إليه، لكن نظرتها كانت خاوية، خالية من أي مشاعر، وكأنها لم تعد تراه بنفس الطريقة. تقدمت إلى طاولة المطبخ، سكبت كوبًا من القهوة وجلست على الكرسي، دون أن تعطيه أي اهتمام.
يوسف شعر وكأنها تدفعه للخارج بصمتها وكأن وجوده أصبح غير مرئي بالنسبة لها.
“رحيل، أنا عارف إنك زعلانة، وعارف إن اللي حصل خلاكي تشكي فيا، بس لازم تفهمي إن الموضوع أبسط مما تتخيلي،
واللي حصل مش زي ما انتي فاكرة.”
“بسيط؟ يوسف، أنا تعبت.. مش قادرة أعيش وأنا عندي إحساس طول الوقت إنك ممكن تخذلني في أي لحظة.”
نظر إليها بأسف، مدّ يده ليضعها على يدها، لكنها سحبتها فورًا، وكأن لمسته باتت غريبة عنها.
“أنا… أنا بس كنت عايزك تفهميني، وتسامحيني، زي ما كنتي دايمًا بتسامحيني.”
تنهدت بعمق، ثم نهضت بهدوء.
“خلاص يا يوسف، الكلام مش هيفيد دلوقتي.”
اقترب أكثر، جلس أمامها مباشرة، محاولًا التقاط نظراتها الهاربة.

“رحيل، والله ماكانش في حاجة، بنتي كانت عايزاني أقعد معاهم شوية.. إزاي تفتكري إني ممكن أخونك؟”
رفعت عينيها لكن نظرتها كانت باردة، كلماته لم تحرّك فيها أي شيء. وضعت الكوب بهدوء وقالت بصوت خافت لكنه محمل بالغضب المكتوم:
“الخيانة مش بس أفعال، يوسف.. ساعات بتكون مشاعر، ساعات بتكون مجرد لحظة ضعف.. وأنا زهقت من إني دايمًا اللي بحاول أفهم وأسامح.”
ارتبك يوسف للحظة، شعر أن الأرض تنسحب من تحته.
“أنا ما… ما عملتش حاجة غلط، رحيل. مستحيل تفكري كده.”
وقفت فجأة، ابتعدت عنه قليلًا ثم التفتت إليه بعينين مليئتين بالألم.
“وأنا كمان مستحيل كنت أتخيل إننا نوصل لكده.”
تركته واقفًا، واتجهت نحو الصالة، لكنه لم يستسلم.
“رحيل، استني!”
توقفت للحظة عند الباب، لكنه عندما اقترب منها، رفع يده ليضعها على كتفها، انسحبت بسرعة وكأنها تخشى أن يلمسها.
“متلمسنيش، يوسف.. مش عارفة أصدقك ولا أصدق إحساسي.. بس اللي متأكدة منه إني تعبت.”
خرجت من المطبخ دون أن تلتفت خلفها، تاركة يوسف غارقًا في صمته وندمه،يشعر وكأنه يفقدها شيئًا فشيئًا دون أن يعرف كيف يمنع ذلك.
في المساء خرجت رحيل تمشي في الشوارع بلا هدف، لكنها شعرت أنها بحاجة إلى من تستمع إليها. وجدت نفسها أمام أحد المقاهي التي كانت تذهب إليها مع صديقتها ليلى، فقررت الدخول، وجلست تنتظرها.
لم يمر وقت طويل حتى جاءت ليلى، جالسة أمامها بوجه مليء بالقلق.
“مالك يا رحيل؟ من صوتك في التليفون وأنا حاسة إن في حاجة غلط، وشك تعبان قوي، وحاسة إنك مش في حالتك الطبيعية!”
نظرت إليها رحيل، وكأنها تحاول السيطرة على دموعها، لكن في النهاية، انفجرت تحكي كل شيء، كيف شعرت بالخيانة، كيف قضت الليلة الماضية في صراع داخلي، وكيف أصبحت تشعر أنها مجرد ظل في حياة يوسف، وعن إحساسها الدائم بأنها في معركة لا تنتهي.
استمعت ليلى إليها بصمت، ثم أمسكت يدها بحنان قائلة:

“بصي يا رحيل، الحب مهم، بس كرامتك وراحتك النفسية أهم. انتي محتاجة تخرجي من الدوامة دي.. ترجعي تهتمي بنفسك، تعيشي حياتك بعيد عن القلق ده.
انتي لازم تعملي حاجة لنفسك، حاجة تخليكي تحسي إنك مش بس زوجة وأم، انتي كمان إنسانة ليها شغف وطموح.
رحيل (بصوت خافت):
“أنا… مش عارفة اعمل ايه ؟!
ليه متفكريش ترجعي شغلك؟”
رفعت رحيل عينيها ببطء، كأنها تفكر لأول مرة في هذا الاحتمال.
“الشغل؟ بس… أنا تركته بعد الجواز.”
“زمان كنتي إنسانة مستقلة، كنتي عندك شغف، كان عندك طموح… فين رحيل اللي كانت بتحب شغلها؟”
صمتت رحيل، وكأنها تسترجع ذكرياتها. قبل الزواج، كانت مصممة ديكور ناجحة، تحب عملها، تعشق التفاصيل، كانت تشعر أن لها قيمة بعيدًا عن أي شخص آخر. لكنها تركت كل شيء بعد الزواج، كانت تظن أن الحب وحده يكفي ليملأ حياتها. والآن؟ الآن تشعر بأنها ضائعة.
رحيل (بهمس):
“كنت بحب شغلي.”
ليلى(بابتسامة مشجعة):
“طيب، ليه متفكريش ترجعي؟ متخليش حياتك كلها متعلقة بيوسف، لازم تلاقي نفسك من تاني.”
نظرت لها رحيل بتردد …
“أيوه، رحيل.. ارجعي لشغلك ! انتي كنتِ مصممة ديكور شاطرة، وحبيتي شغلك، ليه تسيبيه بسبب حد؟ استعيدي نفسك، مش لازم تعتمدي على وجود يوسف عشان تحسي بقيمتك! انتي طول عمرك شاطرة، وكان عندك طموح، ليه سبتِ كل حاجة علشانه؟ يمكن لو رجعتي تشتغلي، تفوقي من اللي انتي فيه،متخليش حياتك كلها متعلقة بيوسف، لازم تلاقي نفسك من تاني.”
كانت كلمات ليلى كصفعة أيقظت شيئًا ما داخل رحيل، شيء كاد يندثر وسط الخيبات. ربما كان عليها أن تفكر في نفسها قليلًا، ربما العمل سيكون طريقها للخروج من هذه الدوامة.
في شركة يوسف كان يحدق في الأوراق أمامه لكنه لم يكن قادرًا على التركيز. كان عقله عالقًا في حديث رحيل وما حدث الليلة الماضية لأول مرة يشعر أن الأمور قد تفلت من بين يديه.
جلس في مكتبه، أخرج هاتفه، وكتب لها رسالة:
“رحيل، لو سمحتي، خلينا نتكلم بهدوء النهارده لما أرجع.”
لكنه تردد، ولم يرسلها.
شعر وكأن أي كلمة ستبدو فارغة أو بلا معنى بعد ما حدث.
“مستر يوسف، عندك اجتماع بعد نص ساعة.”
رفع رأسه ببطء، ناظرًا إلى مساعدته التي كانت تنتظره عند الباب. أومأ برأسه دون أن يقول شيئًا، ثم نظر مجددًا إلى هاتفه، مترددًا بين الاتصال بها أو تركها تهدأ لبعض الوقت.
لكنه لم يكن يعلم أن هناك من يشعر بالانتصار الآن…
في أحد الكافيهات الهادئة، جلست يارا على طاولة بالقرب من النافذة، تتأمل الشارع بنظرة تحمل ثقة، وكأنها ترى الأمور تسير لصالحها وأن قربها من يوسف بدأ يؤثر عليه، لكنها تعلم أن الأمر ليس بهذه السهولة.
لم تمر سوى دقائق حتى وصلت صديقتها وجلسَت أمامها بابتسامة فضولية.
سمر (بابتسامة وهي تضع حقيبتها على الكرسي بجانبها):
“واضح إنك مبسوطة النهارده… في حاجة حصلت؟”
يارا (بابتسامة خفيفة وهي ترفع كوب القهوة إلى شفتيها):
“ممكن نقول كده، الليلة اللي فاتت كانت كويسة جدًا حاسه إن في حاجات بتتغير.”
سمر (بحماس):
“احكيلي! يوسف بدأ يلين معاكي يعني حسيتِ إنه ممكن يرجعلك؟”

يارا (بثقة):
“هو لسه مش مدرك ده، بس آه… بدأ يحس بالفرق، بدأ يفتكر أيامنا مع بعض، وده اللي كنت مستنياه.”
سمر (بحذر):
“بس إنتِ عارفة إنه متجوز، ورحيل مش هتسيبه بالساهل ما تعتبريش نفسك كسبتي لسه.”
يارا (بهدوء وهي تقلب الملعقة في فنجانها):
“رحيل مشكلتها إنها بتشك فيه وده اللي هيبعدها عنه ، و هيكون سلاح ضدها. يوسف مش من النوع اللي بيتحمل الضغط ده، وفي الآخر… هيدور على اللي بيرتاح معاها. وهنا بقا، أنا هكون البديل اللي بيرتاح معاه.”
سمر (وهي تميل للأمام باهتمام):
“بس إنتِ متأكدة إنه حس بحاجة؟ يعني كان مختلف معاك؟”
يارا (بابتسامة جانبية):
“كفاية إنه قعد معايا أكتر من أي وقت فات، وتردده لما الطفلة طلبت منه يخرج معانا، ده في حد ذاته خطوة. يوسف مش بيعمل حاجة هو مش عايزها، وأنا عارفة ده كويس.”
سمر (بتفكير):
“بس رحيل مش هتسكت، أكيد عرفت إنه كان معاكي.”
يارا (ببرود):
“لو عرفت، يبقى هتشوف بنفسها اللي كنت بقوله… يوسف مش زي الأول، ودي البداية.”
ابتسمت يارا بثقة وهي تميل للخلف في مقعدها، تشعر أن خطتها تسير كما تريد، دون أن تدرك أن القدر قد يحمل لها مفاجآت لم تكن في الحسبان.
عادت رحيل إلى المنزل وهي تفكر في كلام صديقتها. هل هذا هو الحل؟ هل العودة للعمل ستجعلها تشعر بأنها قوية من جديد؟
دخلت المنزل، وجدت يوسف يجلس في الصالة، رفع عينيه نحوها فور دخولها، وكأنه كان ينتظرها.

“كنتي فين؟” سألها بنبرة تحمل بعض القلق.
لم تجبه مباشرة، بل وضعت حقيبتها على الطاولة، خلعت معطفها، ثم التفتت إليه وقالت بهدوء حازم :
” كنت مع ليلى”
ثم اضافت:
انا قررت قرار أنا هرجع لشُغلي.”
تجمدت ملامح يوسف لثوانٍ، وكأنها ألقت عليه قنبلة لم يكن مستعدًا لسماعها. رفع حاجبيه قليلاً محاولًا استيعاب الأمر، ثم اقترب منها خطوة.
يوسف (بتوتر): “شُغلك؟ قصدِك التصميم؟”
رحيل (بإيجاز) : “أيوه، كنت بشتغل قبل ما نتجوز، ولما اتجوزنا سيبته عشانك… لكن دلوقتي عايزة أرجع، ده قراري.”
شعر يوسف بشيء ما ينقبض في صدره، لم يكن ضد عملها، لكنه لم يتوقع أن تُلقي عليه هذا القرار هكذا، وبكل هذه الحسم. كان يدرك أن الأمر ليس مجرد وظيفة… بل خطوة أخرى تبتعد بها عنه، تُثبت له أن مكانه في حياتها لم يعد كما كان.
يوسف (يحاول كتمان انزعاجه): “وأنا؟ مش المفروض تتكلمي معايا في حاجة زي دي قبل ما تقرري؟”
رحيل (بهدوء، ولكن بحدة خفية): “زي ما إنت بتاخد قراراتك لوحدك، أنا كمان ليّا الحق آخد قراراتي، خاصة لما تكون تخصني أنا.”
كلماتها أصابته في الصميم، أدرك أنها تُلمّح لما حدث، وأنها لم تسامحه بعد، بل ربما لن تسامحه أبدًا. تراجع خطوة للخلف، شعر وكأنها تنسحب تدريجيًا من حياته، وكلما حاول الاقتراب، وجدها تُشيّد جدارًا جديدًا بينهما.
يوسف (بصوت منخفض وكأنما يحدث نفسه): “حاسس إنك بتبعدي عني، وإنك مش عايزاني في حياتك زي الأول.”
رحيل (تلتفت إليه أخيرًا، تنظر في عينيه مباشرة): “أنا مش بعدت، إنت اللي خليتني أفكر… لوحدي.”
صمت يوسف، لم يجد ردًا كافيًا، شعر وكأنها تبتعد عنه بطريقة لم يستطع إيقافها. شاهدها تدخل غرفة النوم دون أن تلتفت، وبقي هو واقفًا في مكانه، يتساءل إن كان لا يزال جزءًا من حياتها… أم أنه أصبح مجرد تفصيل قديم في قصتها الجديدة.
في صباح اليوم التالي

كان يوسف جالس في مكتبه، يحاول التركيز على الأوراق المبعثرة أمامه، لكن عقله كان في مكان آخر… في البيت، مع رحيل، ومع كلمتها التي ما زالت تتردد في أذنه:
“قررت أرجع شُغلي.”
لم يكن يتوقعها، لم يكن مستعدًا لها، لكنها قالتها بثقة كأنها كانت تفكر فيها منذ مدة طويلة. لم تعترض، لم تشتكي، فقط أخبرته بقرارها وكأن وجوده في حياتها لم يعد مركزها الوحيد، وهذا ما أزعجه أكثر من أي شيء.
ارتكز بمرفقيه على المكتب، وسند رأسه بين يديه، يشعر بقلق غير مفهوم. رحيل كانت دومًا تعتمد عليه، كانت تراه عالمها، لكنه الآن يشعر أنها تحاول استعادة جزء منها كان قد نُسي بعد زواجهما. هل كان خطأه أنه جعلها تشعر بأنها فقدت ذاتها؟
أمسك بهاتفه بتردد، أراد أن يرسل لها رسالة، يسألها، يستفسر أكثر، لكنه تراجع… لم يكن يعرف ماذا سيقول، وكيف سيواجه فكرة أنها قد تكون سعيدة بقرارها بعيدًا عنه.
تنهد بعمق، نهض من مكتبه، وسار نحو النافذة، يراقب الشارع أسفله، لكن ذهنه كان غارقًا في سؤال واحد… هل رحيل بدأت بالفعل في الابتعاد عنه؟
 بين الغيرة والتغيير
بعد أن أنهى يوسف عمله وعاد إلى المنزل في الليلة الماضية، وجد رحيل جالسة على الأريكة، تبدو هادئة لكن بعيدة. حاول أن يتجاهل مشاعره المضطربة طوال اليوم، لكنه لم يستطع. اقترب منها وجلس بجوارها، يحاول أن يجد الكلمات المناسبة ليبدأ الحديث.
يوسف (بنبرة هادئة لكنها جادة): “رحيل، عاوز أتكلم معاكِ في موضوع مهم.”
رحيل (ترفع عينيها إليه): “خير؟”
يوسف: “عن موضوع شُغلك… إنتِ متأكدة إنك عاوزة ترجعي؟”
نظرت إليه بتركيز، وكأنها كانت تتوقع هذا الحديث.
رحيل (بحزم): “يوسف، أنا مش محتاجة حد يقولي أنا عاوزة إيه. أنا قررت، وهشتغل.”
يوسف (بتوتر): “أنا مش ضدك، بس إنتِ كنتِ مرتاحة في البيت، ليه فجأة عاوزة ترجعي؟”
رحيل (تنظر بعيدًا): “لأني تعبت من إني أبقى بس في البيت مستنية، حاسة إني لازم أرجع لنفسي، لحياتي قبل الجواز.”
تضايق يوسف من كلماتها، شعر وكأنها تقول إنها لم تعد تجد نفسها معه.
يوسف (بهدوء لكن بعصبية داخلية): “يعني أنا اللي حبستك؟ عمري ما قلتلك متشتغليش، إنتِ اللي قررتِ تسيبي شُغلك بعد الجواز.”
رحيل (بصوت منخفض لكنه قوي): “لأن وقتها كنت فاكرة إن حياتي الجديدة معاكَ هتكون كافية… بس دلوقتي، حاسة إن محتاجة أكتر.”
كان بإمكان يوسف أن يشعر بأنها تبتعد أكثر، وكأنها تضع مسافة بينهما لا يستطيع تجاوزها.
لم يجد يوسف ردًا، لكنه شعر أن محاولاته لمنعها لن تجدي نفعًا، وأن رحيل مصممة على هذا القرار.
ظلت كلمات ليلى تتردد في ذهن رحيل طوال الليل، حتى قررت أنها لن تؤجل الأمر أكثر. بحثت في هاتفها عن رقم مديرها السابق، تواصلت معه، وبالفعل حصلت على فرصة للعودة إلى شركتها القديمة كمصممة ديكور، بنفس الشغف الذي بدأته به يومًا.
كان الصباح مختلفًا هذه المرة في منزل يوسف ورحيل ، ليس فقط بسبب الأجواء المتوترة التي خيمت عليه منذ الليلة الماضية، بل لأن رحيل كانت تستعد للخروج بعد فترة طويلة من البقاء في المنزل. وقفت أمام المرآة ترتب ملابسها، لم تكن هذه المرة مجرد خروجة عادية، بل كانت بداية جديدة… عودة للعمل بعد سنوات من التوقف.
جلس يوسف يتأمل رحيل التي كانت تستعد للخروج إلى عملها الجديد، ترتدي ملابس أنيقة وتضع لمسات بسيطة من المكياج، شيء لم يعتد عليه منذ زواجهما. كانت تبدو سعيدة، متحمسة، وكأنها استعادت جزءًا من ذاتها التي تناستها منذ سنوات.
لم يكن قرارًا سهلاً عليها، لكنها شعرت أنها تحتاج إلى خطوة تعيد لها جزءًا من ذاتها التي تناستها منذ زواجها. التفتت نحو حقيبتها، وضعت فيها بعض الأوراق والدفاتر، وقبل أن تخرج، سمعت صوت يوسف من خلفها.

يوسف (وهو يراقبها باهتمام): “بجد مش مستوعب إنك خلاص راجعة الشغل… مكنتش متوقع إن القرار ده هيكون فجأة كده!”
رحيل (بهدوء وهي تحمل حقيبتها): “مكنش فجأة، يمكن أنت اللي مكنتش واخد بالك… الشغل ده كان دايمًا جزء مني، وزي ما قلتلك، محتاجة أرجع لنفسي شوية.”
نظر إليها يوسف نظرة غريبة، لم يكن رافضًا لفكرة عملها، لكنه شعر أن هناك شيئًا يتغير، وكأن المسافة بينهما بدأت تتسع دون أن يدرك كيف.لم يكن هذا مجرد عمل، بل بداية تغيير لم يكن مستعدًا له.
دخلت المربية بابتسامة دافئة، حملت الطفلة التي كانت تحتضن دُميتها الصغيرة، ونظرت لأسيل قائلة:
المربية: “متقلقيش، هنبقى تمام، وهبعتلك صورها أول ما تصحى.”
رحيل مبتسمة وهي تقترب لتقبّل ابنتها: “كوني شطورة، ماما وبابا هيرجعوا بدري.”
يوسف وهو يربت على رأس الطفلة: “اسمعي كلام ناني، وهجيبلك مفاجأة وأنا راجع.”
ابتسمت الطفلة وهي تلوّح لهما، بينما غادرا المنزل معًا، كل واحد منهما غارق في أفكاره حول اليوم الجديد الذي ينتظرهم.
بعد سنوات من ترك العمل، لم تتوقع رحيل أن تعود إلى شركتها القديمة، أن تعود إلى نفس الأجواء التي اعتادت عليها قبل زواجها. شعرت بمزيج من الحنين والخوف. وكأنها تستعيد ذكريات قديمة كانت مدفونة.
وقفت رحيل أمام مبنى الشركة، تنظر إليه وكأنه عالم غريب كانت تعرفه يومًا، لكنها الآن تشعر وكأنها تزوره للمرة الأولى. أخذت نفسًا عميقًا، شدّت على حقيبتها، ثم تقدّمت بخطوات ثابتة نحو المدخل. كل خطوة تخطوها كانت تسترجع معها ذكريات عملها السابق، اللحظات التي قضتها بين المكاتب والمشاريع، والاجتماعات التي كانت تمتلئ بالحماس والتحدي.
في الداخل، كان الجو مألوفًا، لكنه يحمل بعض التغييرات. مرّت بنظرات زملاء لم تتعرف على بعضهم، بينما آخرون ألقوا عليها التحية بابتسامات دافئة. قبل أن تتمكن من استيعاب كل شيء، وجدت ليلى تندفع نحوها بحماس واضح، تعانقها بسعادة.
ليلى (بحماس شديد): وأخيرًا! رجعتي تاني لعالمنا! كنت مستنية اليوم ده بقالنا كتير.
رحيل (تضحك بتوتر): بصراحة مش قادرة أصدق إني هنا تاني… المكان كله حاساه غريب شوية.
ليلى (تمسك يدها وتسحبها معها): طبيعي، غيبتي فترة طويلة، بس متقلقيش، هترجعي تتعودي بسرعة. أول حاجة، لازم أوريكي إيه اللي اتغير، وبعدها نروح نشوف مكتبك الجديد.
بدأت ليلى تأخذها في جولة داخل الشركة، تشرح لها التحديثات التي طرأت على المكان، وكيف أن الفريق تغيّر بعض الشيء، لكن الأجواء بقيت كما هي. في الطريق، التقت رحيل ببعض الزملاء القدامى، الذين استقبلوها بحفاوة واضحة.
نور (بابتسامة ودودة): رحيل؟! مستحيل! رجعتي تاني؟ والله نورتي المكان!
رحيل (تبتسم بخجل): الله يخليك، حقيقي وحشتوني كلكم.
استمرت الجولة حتى وصلت إلى مكتبها الجديد، حيث جلست على الكرسي، تحاول استيعاب أن هذا المكان عاد ليكون جزءًا من حياتها مجددًا. تنهدت بهدوء، وهي تشعر بمزيج من الراحة والقلق.
كانت منهمكة في ترتيب بعض الأوراق، عندما سمعت صوتًا مألوفًا من خلفها:
“مش معقول… رحيل؟!”
التفتت بسرعة، لتجد محمود، زميلها القديم، يقف أمامها بابتسامة عريضة. لم يتغير كثيرًا، لا زال بنفس الملامح الجادة، لكن مع لمحة ودودة في عينيه.
كان محمود زميلًا قديمًا، وكان بينهما علاقة صداقة قوية في الماضي، لكن حديثهما البسيط جعلهما يشعران وكأن الوقت لم يمر.
رحيل (مندهشة): “محمود؟! بجد مش مصدقة إنك لسه هنا!”
محمود (ضاحكًا): “وأنا مش مصدق إنك رجعتي! كنت فاكر إنك خلاص ودعتِ المجال بعد الجواز!”
رحيل (تبتسم بخفة): “آه، كنت فاكرة كده برضو، بس واضح إن الحياة دايمًا ليها رأي تاني.”
جلس محمود على الكرسي المقابل لها، ينظر إليها باهتمام.
محمود: “أنا فاكر قد إيه كنتِ متميزة، وأفكارك كانت دايمًا مختلفة. زمان لما كنتِ بتدخلي أي مشروع، كان كله بيتغير. بجد رجوعك هيكون إضافة كبيرة لينا.”
رحيل (بهدوء): “ده اللي أنا عاوزاه… عاوزة أحس إني بعمل حاجة لنفسي، إني مش مجرد حد قاعد في البيت مستني أي حاجة تحصل.”
محمود (ينظر إليها بتركيز): “إنتِ كويسة، صح؟”
ترددت قليلًا قبل أن تجيب، وكأن السؤال لمس جزءًا حساسًا داخلها.
رحيل (بابتسامة خفيفة لكنها مرهقة): “أنا بحاول.”

نظر إليها محمود وكأنه يفهم أكثر مما تقوله كلماتها، لكنه لم يضغط عليها أكثر.
محمود: “المهم، إحنا عندنا مشروع جديد، وعاوزين حد يشتغل عليه من البداية، إيه رأيك تكوني المسؤولة عنه؟”
رحيل (بعيون متحمسة): “بجد؟! ده هيكون بداية قوية جدًا بالنسبة لي!”
شعرت رحيل بحماس لم تشعر به منذ زمن، وأدركت أن قرار العودة لم يكن مجرد هروب من مشاكلها مع يوسف، بل خطوة حقيقية لاستعادة ذاتها.
في هذه الأثناء، كان يوسف في مكتبه، لكنه لم يكن يركز على أي شيء. كان فكره مشغولًا برحيل، بقرارها المفاجئ بالعودة للعمل، وبالتغيير الذي بدأ يلاحظه عليها. كان يحاول التركيز في الأوراق أمامه، لكن صورة رحيل وهي تبتسم بحماس لم تفارق ذهنه.
“هي ليه بتبعد بالشكل ده؟” ” هل انا السبب في ذلك ”
لم يكن غاضبًا من قرارها، لكنه شعر أن شيئًا ما بدأ يتغير، وكأنه لم يعد الأولوية في حياتها. كان هذا الشعور جديدًا عليه، ولم يعرف كيف يتعامل معه.
قطع تفكيره صوت هاتفه، نظرة سريعة على الشاشة جعلته يتردد قبل الرد… كانت يارا.
يوسف (ببرود): “خير، في حاجة؟”
يارا (بصوت ناعم): “متقلقش، مش هعطلك، بس كنت حابة أقولك إن بنتك سألت عليك الصبح، وهي كانت مبسوطة قوي لما خرجنا امبارح… تفتكر مش مستاهلة إننا نكون مع بعض كعيلة من تاني؟”
ضغط يوسف على أسنانه، شعر أنها تحاول استغلال أي ثغرة بينه وبين رحيل.
يوسف: “يارا، أنا متجوز، واللي حصل امبارح كان مجرد حاجة تخص بنتي، مفيش أي حاجة تانية بينا.”
يارا (بابتسامة خفيفة، وكأنها لا تصدقه): “لو بتقول كده علشان نفسك تقتنع، فأنت حر… بس في الآخر، اللي بينا عمره ما كان مجرد حاجة وانتهت.”
بس تفتكر فعلًا اللي بينا انتهى؟”
أغمض يوسف عينيه، محاولًا السيطرة على أعصابه، لكنه شعر أن يارا تعرف كيف تضغط على نقاط ضعفه.
يوسف: “يارا، بلاش الحوارات دي.”
يارا (بهدوء): “أنا مش بضغط عليك، بس أوقات بحس إنك مش عارف إنت عاوز إيه.”
أنهى يوسف المكالمة وهو يشعر بضغط أكبر مما كان عليه، لكنه تجاهل الأمر وقرر التركيز على يومه.
أغلق يوسف الهاتف وهو يشعر بتوتر غريب، وكأن يارا نجحت في زرع بذرة شك في داخله. هل فعلاً رحيل بدأت تبتعد؟ وهل هو السبب؟!
ترقب وحنين
بعدما أنهت يارا مكالمتها مع يوسف، ظلت تمسك بهاتفها لثوانٍ، وعقلها يعمل بسرعة. كانت نبرته مترددة، وكلماته حذرة، لكنه لم يغلق الباب تمامًا… وهذا يعني أن لديها فرصة.
وضعت الهاتف على الطاولة، وأسندت ظهرها إلى الأريكة، بينما عيناها تلمعان بأفكار متشابكة. يوسف لا يزال مترددًا، وهذا يعني أنه لم ينسَها بالكامل، أو على الأقل، لا يزال هناك جزء منه يشعر بالضعف تجاهها. لكن رحيل… رحيل أصبحت عقبة في طريقها، والوقت ليس في صالحها.
نهضت من مكانها، وبدأت تمشي في الغرفة ذهابًا وإيابًا، تفكر في خطوتها القادمة. لا يمكنها الانتظار أكثر، يجب أن تكون ذكية هذه المرة، أن تختار الطريقة الصحيحة لإبعاد رحيل عن يوسف دون أن تدفعه للنفور منها.
ابتسمت بخبث وهي تهمس لنفسها:
“لو يوسف مش عارف يقرر، أنا هقرر له بنفسي،كل اللي فات كان مجرد بداية..”
جلس يوسف في الصالة، ينظر إلى ساعته للمرة العاشرة خلال نصف ساعة. كان قد أنهى عمله وعاد للمنزل ليجد نفسه وحيدًا، والصمت يملأ المكان. لم يكن هذا هو المعتاد. لطالما كانت رحيل في انتظاره، تسأله عن يومه، تحضّر له الطعام، تشاركه الأحاديث العفوية. لكنه الآن وحده، وهي في الخارج، تعمل، تستعيد حياتها التي كان يظن أنها أصبحت تدور حوله فقط.
شعر بانزعاج لم يستطع تفسيره، وكأن جزءًا من عالمه أصبح خارج سيطرته. منذ أن قررت العودة للعمل، بدأت تتغير، تبتعد عنه شيئًا فشيئًا. كان يدرك أنها لم تعد نفس المرأة التي كانت قبل شهور، تلك التي كانت تنتظر اهتمامه وكلماته. الآن، لم تعد بحاجة له كما كان يظن.
حاول إقناع نفسه أن ما تفعله أمر طبيعي، أنها تريد فقط أن تشغل وقتها، لكنه لم يستطع الهروب من شعور الغيرة. هل التقت بزملاء قدامى؟ هل وجدت في العمل ما لم يعد يجده هو في حياتها؟ ولماذا يشعر أن وجوده لم يعد الأولوية بالنسبة لها؟
نهض من مكانه، جال في الشقة بتوتر، ثم عاد وجلس مجددًا، واضعًا رأسه بين يديه. لم يكن يريد الاعتراف بذلك، لكنه خائف… خائف من أن يكون قد بدأ يفقدها حقًا.
في نهاية اليوم، وبعد ساعات من العمل والتأقلم، وجدت نفسها تستعد للعودة إلى المنزل. وهي تسير نحو الخارج، أخذت تفكر في كيف ستخبر يوسف عن يومها الأول. هل سيكون سعيدًا أم سينزعج أكثر؟ هل سيشعر أنه بدأ يفقد السيطرة عليها؟ شعرت أن هذا القرار ليس مجرد عودة إلى العمل، بل خطوة نحو استعادة ذاتها، وربما بداية لتغيير أكبر لم يكن يوسف يتوقعه.
دخلت رحيل إلى المنزل وهي تشعر بإرهاق جسدي، لكن عقلها كان متقدًا بالأفكار والمشاعر المختلطة. كانت هذه أول مرة تعود إلى العمل بعد سنوات، وكم شعرت بأنها استعادت جزءًا من ذاتها التي كادت أن تضيع وسط زواجها ومسؤولياتها.
أغلقت الباب خلفها بهدوء، ثم خلعت حذاءها وسارت إلى الصالة حيث وجدت يوسف جالسًا على الأريكة، وكأنه كان في انتظارها. عيناه كانت تحملان مزيجًا من الفضول والانزعاج، ولم يخفَ عليها أنه كان يفكر كثيرًا في قرارها طوال اليوم.
يوسف (بصوت هادئ لكن يحمل توترًا): “رجعتي أخيرًا…”
ألقت حقيبتها على الطاولة، ثم جلست على الكرسي المقابل له، وهي تشعر بثقل نظراته عليها.
رحيل: “يوم طويل ومتعب… بس كنت محتاجة ده.”
يوسف (محاولًا أن يكون هادئًا): “طيب… كان عامل إزاي؟”
ترددت قليلًا، ثم قالت بابتسامة خفيفة: “مختلف، حسيت كأني داخلة عالم جديد بعد غياب، بس حبيت الشعور.”
كان يوسف يحاول أن يبدو متقبلًا، لكن الحقيقة أنه لم يستطع منع الشعور بأن رحيل تبتعد عنه خطوة بخطوة. شيء ما في حديثها، في نبرتها، في لمعة عينيها وهي تتحدث عن العمل، جعله يشعر بأنه لم يعد مركز حياتها كما كان من قبل.
يوسف (بتنهيدة خفيفة): “يعني ناوية تكملي؟”
رحيل (بحزم): “طبعًا، أنا مش هرجع في قراري، الشغل جزء مني وأنا ضيعته لفترة طويلة… دلوقتي مش ناوية أضيعه تاني.”
ساد الصمت للحظات، قبل أن تقرر رحيل أن تكسر حدة الجو بينهما.
رحيل (بابتسامة خفيفة): “على فكرة… قابلت النهاردة زملائي القدامى في الشركة.”
يوسف (رافعًا حاجبيه باهتمام): “زمايلك؟ مين فيهم؟”
رحيل (بنشاط واضح): “محمود كان هناك، وكمان نور وليلى، اتفاجئوا جدًا لما شافوني، وقعدنا نفتكر الأيام القديمة والضحك اللي كان بيحصل وقت الشغل.”
لاحظ يوسف الحماس في صوتها، ورغم أنه حاول أن يبتسم إلا أن شيء ما بداخله شعر بالغيرة والانزعاج. لم تكن فقط عادت للعمل، لكنها أيضًا استعادت حياتها الاجتماعية التي تخلّت عنها عندما تزوجته.
يوسف (محاولًا أن يبدو غير مكترث): “كويس… يعني رجعتي وسطهم بسرعة.”
رحيل (بإيجابية): “أيوة، وده حسسني إني رجعت لنفسي.”
هنا، شعر يوسف وكأن كلمة “نفسي” كانت تعني العودة بعيدًا عنه. هل كان عملها مجرد وسيلة للهروب؟ أم أنها فعلاً كانت بحاجة لهذا الاستقلال؟
وقف من مكانه واقترب منها قليلًا، صوته كان أكثر هدوءًا لكن يحمل داخله توترًا دفينًا.

يوسف: “وإحنا؟ إحنا فين من كل ده؟ حسيت النهاردة إنك كنتي بعيدة حتى وإنتي مشيتي من الصبح، وكأنك… مشغولة بحاجة تانية غير حياتنا.”
أحست رحيل بوقع كلماته، لكنها لم ترغب في التراجع.
رحيل: “يوسف، أنا محتاجة ده، مش علشان أهرب منك، ولا من حياتنا، بس محتاجة أحس إني مش بس… زوجتك وأم لبنتك، محتاجة أكون أنا.”
رأى في عينيها تصميمًا لم يره منذ فترة طويلة، ورغم كل ما شعر به من خوف، إلا أنه لم يجد كلمات أخرى ليقولها. فقط اكتفى بمراقبتها وهي تنظر إليه بثقة، قبل أن تنهض متجهة إلى غرفتها، تاركة إياه مع أفكاره المتشابكة.
اتجهت إلى غرفتها، بدلت ملابسها وارتدت شيئًا مريحًا قبل أن تخرج لتجد ابنتها تجلس على السجادة تلعب بدمى صغيرة.
ابتسمت رحيل وجلست بجوارها، بدأت تشاركها اللعب وكأنها تحاول أن تنسى كل شيء آخر. كانت تداعب الصغيرة، تحكي لها قصصًا بصوتها الحنون، تضحك معها، وكأنها تستمد من طفولتها طاقة نحتاجها بشدة. يوسف، الذي كان يتابع المشهد من بعيد، شعر بغصة في صدره.
رآها تبتسم بحرية، تعطي ابنتها كل اهتمامها دون أن تلتفت له. وكأنها وجدت في الصغيرة ملاذًا من كل ما يدور بينهما. تذكر الأيام التي كانت تملأ فيها ضحكاتها المكان، عندما كان وجوده بجوارها يكفيها عن أي شيء آخر. لكنه الآن أصبح مجرد مراقب، شخصًا خارج عالمها الذي أعادت بناءه دون أن تحتاجه كما كان يتوقع.
بينما كان يوسف يراقب رحيل وهي تلعب مع ابنتهما، اجتاحه شعور غريب، مزيج من الحنين والندم. كان يراها تبتسم، تتحرك برشاقة وهي تداعب الصغيرة، تضحك معها بنفس العفوية التي كان يعشقها فيها. لكنها لم تكن تبتسم له، لم تكن تلك النظرة المليئة بالحب التي اعتاد أن يراها في عينيها كلما نظر إليها.
أخذ نفسًا عميقًا، وأغمض عينيه للحظة، وكأن عقله عاد به إلى الوراء… إلى تلك الأيام التي كانت تملأ البيت بحيويتها، عندما كانت تستقبله بعد يوم عمل شاق بضحكة، وربما بعناق دافئ. كيف كان يشعر بالراحة لمجرد وجودها بجانبه، كيف كان بيتهم نابضًا بالحياة، وكيف كانا لا يحتاجان إلى كلمات كثيرة ليفهم أحدهما الآخر.
فتح عينيه مجددًا، ليجد نفسه أمام واقع مختلف تمامًا. رحيل ليست كما كانت، أو ربما هو من غيّرها بتصرفاته، بإهماله، وبأخطائه التي كان يعتقد أنها ستمر بلا أثر. كان يراها الآن أقوى، أكثر استقلالية، وكأنها تبني عالمًا بعيدًا عنه، عالمًا لا يحتاج إلى وجوده كما كان في الماضي.
اقترب منها قليلًا، محاولًا أن يستعيد شيئًا مما ضاع، وقال بصوت دافئ لكنه يحمل رجاءً خفيًا:
“فاكرة لما كنا بنقعد كده نلعب معاها ونفضل نضحك بالساعات؟ كنا بنقول إننا هنفضل جنبها دايمًا، نكبر معاها خطوة بخطوة…”
رحيل رفعت رأسها، نظرت إليه لثوانٍ، لكن عينيها لم تكن تحملان نفس الشوق الذي كان في صوته. فقط ابتسمت ابتسامة خفيفة، ثم نظرت إلى ابنتها مجددًا وقالت بهدوء:
“وأنا لسه عند كلامي…”
ثم عادت للعب مع الصغيرة، تاركة يوسف في دوامة أفكاره، يتساءل إن كان فقدها بالفعل… أم لا يزال هناك بصيص أمل!
كان الليل قد حل، وأضواء المنزل الخافتة تنعكس على الجدران بهدوء. جلست رحيل على الأرض مع ابنتها، تلعبان معًا لعبة البازل، تضحكان بين الحين والآخر عندما تخطئ الصغيرة في وضع القطعة في مكانها الصحيح.
وقف يوسف عند الباب، يراقب المشهد بصمت، وعيناه تحملان ألف شعور متناقض. كان يراها تضحك، لكن تلك الابتسامة لم تكن له، كانت لابنتهما فقط. كان يراها مسترخية، لكن ليس بوجوده، وكأنها لم تعد تهتم لوجوده من الأساس.
دون وعي، تقدّم خطوة، ثم جلس على الأريكة المقابلة لهما. لاحظت رحيل وجوده، لكنّها لم تعره اهتمامًا، وكأنّها تعمدت أن تجعله يشعر بأنه أصبح مجرد جزء ثانوي في
حياتها،تنحنح قليلاً ثم قال بصوت منخفض:
– “وحشتكِ الأيام دي؟”
رفعت رأسها أخيرًا، نظرت إليه نظرة هادئة لكنها خالية من أي دفء قديم. سكتت للحظة، كأنها تزن كلماتها بعناية، ثم قالت بهدوء:
– “مش عارفة… يمكن وحشني إحساسي بنفسي أكتر.”
جملتها أصابته كصفعة صامتة. لم يقل شيئًا، فقط ظل ينظر إليها بينما استدارت لتكمل لعبها مع الطفلة، تاركة إياه غارقًا في أفكاره.
“رحيل؟” ناداها من جديد.
تنهدت بهدوء، ثم قامت لترتب الصندوق الذي كانت تضع فيه الألعاب. لم تردّ بكلمة واحدة، وكأنّها تُخبره بصمتها أن الإجابة لم تعد تعنيه.
شعر يوسف بانقباض في قلبه، نهض بدوره واقترب منها. كان على وشك أن يلمس يدها حينما نهضت الصغيرة فجأة تركض نحوها:
– “ماما، بكرة هنلعب تاني؟”
حملتها رحيل بين ذراعيها، ضمّتها برفق وهمست لها:
– “طبعًا يا روحي.”
ثم استدارت نحو يوسف وقالت بجفاف:
– “تصبح على خير.”
تركته واقفًا، بينما كان الشعور بالخسارة يتسلل إليه تدريجيًا. لم يكن يعرف متى بدأ يفقدها، لكنه الآن متأكد… هي تبتعد عنه، ولم يكن لديه أي فكرة عن كيفية إيقاف ذلك.
بعد أن تركته رحيل واقفًا، شعر وكأنها تسحب معه آخر ذرة دفء كان يشعر بها. بقي للحظات محدقًا في الفراغ، ثم زفر ببطء وعاد إلى غرفته.
استلقى على السرير، لكن النوم كان أبعد ما يكون عنه. كان يتقلّب يمينًا ويسارًا، وكأن الوسادة لم تعد مريحة، أو ربما كان الضيق في قلبه وليس في وضعية نومه.
لم يستطع التوقف عن التفكير… كيف أصبحت المسافات بينه وبين رحيل شاسعة إلى هذا الحد؟ متى أصبحت نظراتها إليه باردة، وكأنهما غريبان يعيشان تحت سقف واحد؟

حاول إقناع نفسه أنها مجرد مرحلة، وأن كل شيء يمكن إصلاحه، لكنه لم يستطع إنكار أن إحساسًا مرعبًا بدأ يتسلل إلى داخله… إحساس بأن رحيل لم تعد له، وربما… لن تعود أبدًا.
وفي وسط هذا الضجيج من الأفكار، وجد نفسه يفكر في شيء آخر… يارا.
هل كان قراره بالتقرب منها خطأ؟ أم أنه كان مجرد هروب من فراغ بدأ يتضخم داخله منذ وقت طويل؟ ولماذا، رغم كل شيء، لم يستطع الشعور بأي دفء معها كما كان مع رحيل؟
أغمض عينيه بقوة، محاولًا إسكات كل الأصوات في رأسه، لكنه لم ينجح. الليل كان طويلًا… وطويلًا جدًا.
استيقظت رحيل في الصباح بروح مختلفة، وكأنها قررت طي صفحة الماضي والتركيز على نفسها. كانت تشعر بأن الوقت قد حان لتفكر في حياتها بعيدًا عن يوسف، بعيدًا عن أي مشاعر قد تربكها أو تسحبها إلى الوراء.
وقفت أمام المرآة بعد أن ارتدت ملابسها الأنيقة استعدادًا ليوم عمل جديد. مرّرت أصابعها على شعرها المرتب بدقة، وتفحصت مظهرها بعين ناقدة، ثم ابتسمت بخفوت. كانت تبدو واثقة، قوية… امرأة تعرف ماذا تريد.
عند خروجها من الغرفة، وجدت يوسف يجلس على الطاولة يحتسي قهوته بصمت. ألقى عليها نظرة سريعة، ثم أعاد تركيزه إلى فنجانه، لكن رحيل شعرت بنظراته تراقبها رغم ذلك.
“رايحة الشغل؟” سألها بصوت حاول أن يبدو عاديًا، لكنه لم يكن كذلك.
“آه، عندي اجتماع مهم النهاردة مع العميل، ولازم أخلص بعض التصاميم الجديدة للمشروع.” ردّت بهدوء وهي تأخذ حقيبتها.
أحس بشيء من الضيق وهو يراها مشغولة بعالم آخر لا يشمله. منذ متى أصبح عملها بهذه الأهمية؟ منذ متى لم تعد تهتم إن كان غاضبًا أم راضيًا؟
“واضح إنكِ بقيتي غرقانة في الشغل.” قالها بنبرة فيها شيء من التلميح.
رفعت حاجبيها قليلاً ونظرت إليه بثبات:
“ده حقي، زي ما ليك حياتك، أنا كمان ليا حياتي وطموحاتي، ولا المفروض أفضل متعلقة بيك وباستنى رضاك؟”
كلمتها كانت قوية، جعلته يشعر وكأنها تفلت من بين يديه أكثر فأكثر. رحيل التي كانت تكرّس وقتها له ولحياتهما المشتركة، أصبحت الآن تركّز على نفسها فقط، وكأنها تعيد بناء ذاتها بعيدًا عنه.
خرجت دون أن تعطيه فرصة للرد، تاركةً وراءها يوسف في صمت غاضب… وشيء من الغيرة بدأ يتصاعد داخله.
في مكتبها الجديد، جلست رحيل خلف مكتبها منهمكة في مراجعة تصاميم أحد المشاريع، بينما كانت ليلى تجلس أمامها، تراقبها بابتسامة متفحصة.
“مش مصدقة إني شايفاكي كده، غرقانة في الشغل ومندمجة!” قالت ليلى بنبرة مازحة.
رفعت رحيل نظرها من الشاشة وضحكت بخفة، “بجد؟ إنتي عارفة إني كنت بحب شغلي جدًا، وكان جزء مني، بس… الظروف بعد الجواز خلتني أبعد.”
هزت ليلى رأسها بتفهم، “وده السبب اللي مخليكِ راجعة بقوة دلوقتي؟” سألتها وهي تميل للأمام باهتمام.
تنهدت رحيل وأخذت نفسًا عميقًا، “مش بس كده، حاسة إني كنت تايهة، وكان لازم أرجع لحاجة تثبت لي إن لسه عندي طموح وهدف بعيد عن أي حد.”
ابتسمت ليلى بحنان، “وفعلاً شايفة إنك واخدة القرار الصح. بس قولي لي، يوسف كان رأيه إيه؟”
تجمدت ملامح رحيل للحظة قبل أن تعود لطبيعتها، “اتكلمنا في الموضوع، وهو كان متحفظ شوية في الأول، بس بعدين…” توقفت قليلًا، ثم أضافت بلهجة حاولت أن تبدو طبيعية، “يعني، مفيش مشكلة كبيرة، هو متفهم إن دي حاجة مهمة ليا.”
لاحظت ليلى التردد في صوت رحيل لكنها لم تعلق، بل اكتفت بالابتسام قائلة، “كويس إنه بيدعمك، وأتمنى يفضل كده دايمًا. المهم، قولي لي، إيه الجديد في مشروعك؟ أنا متحمسة أشوف لمستك عليه.”
تبادلت الاثنتان الحديث عن العمل، بينما كانت رحيل تحاول إبعاد أي أفكار قد تشوش على تركيزها، لتستعيد إحساسها بأنها تملك زمام الأمور من جديد.
في مساء اليوم عاد يوسف إلى المنزل متأخرًا قليلًا عن المعتاد. كان يومه مزدحمًا، لكن عقله ظل مشغولًا بأفكار متداخلة، أبرزها رحيل ، التي بدت وكأنها تبتعد أكثر مع كل يوم يمر.
عندما دخل إلى الصالة، لمحها جالسة على الأريكة، عيناها مركزة على شاشة اللابتوب أمامها، وملامحها تحمل جدية واضحة. كانت ملامحها مضيئة بضوء الشاشة الخافت، وشعرها منسدلًا على كتفها بانسيابية، مما جعل المشهد مألوفًا لكنه مؤلم.
تقدم نحوها ببطء، محاولًا ألا يبدو مترددًا.
يوسف: “إنتي لسه شغالة؟”
أجابت دون أن ترفع رأسها:

رحيل: “تقريبًا خلصت.. كنت براجع بعض التصميمات الجديدة.”
جلس بجوارها على الأريكة، يتأمل تفاصيل وجهها التي حفظها عن ظهر قلب، لكنه شعر وكأنه يراها من بعيد، وكأن حاجزًا غير مرئي يفصل بينهما.
يوسف: “فكرت إننا نخرج نتعشى النهاردة.”
توقفت يدها عن النقر على لوحة المفاتيح، ورفعت رأسها نحوه ببطء، تنظر إليه بتمعن وكأنها تحاول فك شفراته.
رحيل: “ليه فجأة؟”
ابتسم بخفة، لكن عينيه كانتا تحملان شيئًا أعمق.
يوسف: “حسيت إننا محتاجين نكسر الروتين شوية.. بس عشاء بسيط، من غير أي كلام عن الشغل أو الماضي.”
تأملته للحظات، ثم زفرت بهدوء.
رحيل : “تمام.. بس مش عايزة كلام عن اللي فات.”
ابتسم يوسف، رغم أنه كان يدرك أن الماضي لن يبتعد بسهولة، لكنه اكتفى بموافقتها.
يوسف: “اتفقنا.”
وصل يوسف و رحيل إلى المطعم الذي اختاره بعناية، مكان هادئ يحمل طابعًا دافئًا بإضاءته الخافتة وطاولاته المرتبة بعناية، مع موسيقى كلاسيكية ناعمة تتسلل في الأجواء.
كان يوسف قد حجز طاولة بجانب النافذة، حيث يمكن رؤية المدينة تتلألأ بأضوائها في الليل.
سحب لها الكرسي بلطف لتجلس، ثم جلس أمامها، يراقبها وهي تتأمل المكان.
يوسف (بابتسامة خفيفة): “عجبك المطعم؟”
رحيل (بنبرة هادئة): “أه، جميل.. بس أنت مش من النوع اللي بيحب الأماكن الهادية، صح؟”
هزّ كتفيه وهو يتأمل ملامحها بتركيز:
يوسف: “زمان، يمكن.. بس حاجات كتير اتغيرت.”

وصل النادل وسألهما عن طلبهما، فاختارت رحيل طبقًا خفيفًا بينما طلب يوسف طبقًا كلاسيكيًا من المطبخ الإيطالي.
بينما كانا ينتظران الطعام، ساد الصمت للحظات، لكنه لم يكن صمتًا ثقيلًا، بل كان مليئًا بالتفكير.
كان يوسف يتأمل رحيل، يلاحظ الطريقة التي ترتب بها منديل المائدة بين أصابعها، كيف يتسلل بعض التوتر إلى حركاتها رغم هدوء ملامحها.
يوسف (مبتسمًا ليكسر الجدية): “فاكرة لما كنا بنطلب بيتزا ونختلف على الإضافات؟”
رفعت حاجبيها وهي تتذكر، ثم ضحكت بخفة:
رحيل: “أوه، طبعًا! دا أنت كنت مصمم تحط أناناس وأنا كنت بشوفها جريمة!”
ضحك بدوره، مستمتعًا للحظة بهذا الشعور الخفيف الذي افتقده.
يوسف: “وكنتِ بتاخدي نص البيتزا بتاعتي في الآخر!”
رحيل (بمزاح): “كنت بتسيبها باردة، فكان لازم حد ياكلها!”
لكن اللحظة اللطيفة لم تدم طويلًا، إذ تغير تعبير رحيل قليلًا، وعادت تتجنب النظر المباشر إليه.
رحيل (بنبرة أهدأ): “عارف.. الحاجات دي كانت زمان.”
لم يرد يوسف فورًا، بل ظل يتأملها، يفكر في كل المسافة التي باتت تفصل بينهما رغم أنهما يجلسان على الطاولة نفسها.
يوسف: “بس في حاجات مش بتتغير بسهولة.”
قبل أن تجيب، جاء النادل ووضع الطعام أمامهما، مما أتاح لها الفرصة لتجنب الرد.
لكن بينما كانت رحيل تمسك بالشوكة لتبدأ في تناول طعامها، رأى يوسف شيئًا جعله يتجمد للحظة.
عند مدخل المطعم، دخلت يارا، ترتدي فستانًا أنيقًا، تتأبط ذراع رجل طويل القامة يبدو عليها الثراء، وتضحك معه وكأنها تعيش أسعد لحظات حياتها.
شد يوسف ظهره في مقعده، حدقتاه تتابعانها دون أن يشعر، بينما لم تلحظ رحيل أي شيء، إذ كانت منشغلة بقطع طعامها.
شعر بانقباض غريب في صدره، لم يكن غيرة، لكنه كان إحساسًا غير مريح، وكأن يارا تفعل هذا عن قصد.
حاول أن يعيد تركيزه على رحيل ، لكن عقله ظل مشغولًا، غير مدرك أن هذا العشاء لن ينتهي كما خطط له.
نداء الماضي
كان المطعم ينبض بأضواء خافتة وألحان موسيقية هادئة، تضفي جوًا دافئًا على المكان. جلست رحيل مقابلة ليوسف، تتأمل قائمة الطعام بينما هو يراقبها بنظرات متفحصة، كأنما يحاول قراءة ما يدور في عقلها.
بدأت رحيل تتحدث بحماس عن مشاريعها القادمة.
“عارف يا يوسف، حاسة إن رجوعي للشغل كان أحسن قرار خدته، حسيت إني بستعيد نفسي تاني. كمان جالي مشروع تصميم جديد مع شركة معروفة، ولو نجح هيفتح لي أبواب كتير.”
كان يوسف ينظر إليها لكنه لم يكن حاضرًا تمامًا، فبينما كانت تتحدث، كانت عيناه تائهتين، وأصابعه تنقر بخفة على الطاولة. لاحظت رحيل ذلك فورًا.
“يوسف، مالك؟ أنت سامعني أصلًا؟”
رفع يوسف عينيه بسرعة، كأنه انتبه فجأة، وحاول الابتسام.
“هاه؟ آه طبعًا سامعك، مشروع تصميم جديد، حلو جدًا.”
ضيّقت رحيل عينيها وهي تنظر إليه بريبة.
“لا، مش حاسة إنك مركز معايا، في إيه؟ شكلك مش طبيعي.”
بعدما استمتع يوسف ورحيل بحديث هادئ عن مشاريعها في العشاء، شعر يوسف فجأة بحاجة للخروج قليلاً. استأذنها بابتسامة خفيفة وقال: “هروح الحمام دقيقة وراجع.”
راقبته رحيل وهو يبتعد، لكن شيئًا ما في طريقة مشيه، في التوتر الطفيف في صوته، جعلها تشعر أن هناك أمرًا يشغل باله. لم تهتم كثيرًا في البداية، لكنها لم تستطع تجاهل الشعور الخفي بعدم الارتياح.
أما يوسف، فبمجرد أن دخل إلى الحمام، أخرج هاتفه بسرعة واتصل بيارا. دقات قلبه كانت تتسارع، لكنه تظاهر بالهدوء. الهاتف رن مرة… مرتين… ثلاثًا، لكنها لم تجب.
زفر بضيق وأعاد المحاولة، لكن الرد جاء برسالة قصيرة: “مشغولة حاليًا، هكلمك بعدين.”
تشنج فكّه وأغلق الهاتف، شعر بقلق لم يفهم سببه، أهو بسبب وجودها مع رجل آخر؟ أم لأنه هو من بادر بالاتصال؟
غسل وجهه بسرعة ونظر لنفسه في المرآة، محاولًا استعادة هدوئه. ثم خرج متجهًا نحو طاولته حيث كانت رحيل بانتظاره. جلست بتركيز، وعندما رفعت نظرها إليه، لاحظت شيئًا غريبًا في تعابير وجهه.
“مالك؟” سألته بلطف وهي تميل رأسها قليلًا.
تردد يوسف للحظة، لكنه سرعان ما ابتسم قائلاً: “ولا حاجة، يمكن بس حسيت بإرهاق بسيط.”
رفعت حاجبيها، لم تكن مقتنعة تمامًا، لكنها قررت ألا تضغط عليه أكثر. رغم ذلك، ظل هناك توتر خفي في الهواء بينهما، وهو شيء لم تكن رحيل وحدها من تشعر به، بل حتى يوسف نفسه.

جلس أمام رحيل التي كانت تراقبه بعينين ضيقتين قبل أن تعيد سؤاله: “متأكد إنك كويس؟”
أومأ يوسف سريعًا وقال بصوت بدا مصطنعًا: “أيوة، تمام.. نطلب الحساب؟”
رفعت حاجبها بدهشة: “لسه بدري، إيه مستعجل كده ليه؟”
ابتسم يوسف ابتسامة مشدودة وقال: “حاسس بإرهاق.. الأفضل نرجع.”
لم تكن رحيل مقتنعة، لكنها لم تعلق. طلب يوسف الحساب بسرعة، ثم وقف مستعجلًا وهو ينظر حوله كأنه يبحث عن شيء، أو بالأحرى، كأنه يحاول تجنب رؤية شيء ما.
خرج الاثنان من المطعم، وبينما كان يوسف يسير بجانبها متوترًا، لم تكن رحيل تعلم أن عيناه كانتا تبحثان عن شخص معين.. شخص يخشى أن تراه رحيل في المكان الخطأ.
داخل السيارة، كان الصمت هو سيد الموقف. جلست رحيل بجوار يوسف، تراقبه بطرف عينها وهو يقود بسرعة تفوق المعتاد، وكأن شيئًا ما يطارده. لم تستطع كبح فضولها أكثر، فسألته بصوت هادئ لكنه يحمل نفحة من الشك:
يوسف، في حاجة؟ شكلك مش طبيعي.
أخذ يوسف نفسًا عميقًا، يحاول إخفاء توتره، لكنه لم ينجح تمامًا. رد بسرعة دون أن ينظر إليها:
لا، مفيش حاجة، بس تعبان شوية من الشغل.
راقبته رحيل للحظات، ثم أعادت نظرها للطريق. لم تكن مقتنعة تمامًا بإجابته، لكنه لم يمنحها فرصة لمزيد من الأسئلة. أما هو، فكان عقله مشوشًا بالكامل.
“ليه يارا كانت هناك؟ هل فعلًا عندها حد جديد في حياتها؟ مستحيل.. دي كانت مستنية مكالمتي، يعني كانت عاملة ده مخصوص عشان تستفزني! بس ليه؟ عايزة توصل لإيه؟”
“ورحيل … شكلها سعيدة إنها خرجت معايا، ضحكتها دي وحكاياتها عن الشغل.. زمان كانت بتحكيلي عن أحلامها، عن مشاريعها.. وأنا كنت فخور بيها، كنت بشجعها.. دلوقتي بقت بعيدة عني، بتحكيلي كأنها بتحكي لحد غريب.. ليه حاسس إنها بتبعد أكتر؟”
“أنا مش عايز أخسرها.. بس كمان مش عارف أبعد عن يارا.. يارا جزء من الماضي اللي مش قادر أنساه، ورحيل.. هي الحاضر اللي خايف يضيع مني!”
عندما توقفت السيارة أمام المنزل، نزلت رحيل أولًا، دون أن تنتظر يوسف. فتحت الباب ودخلت، بينما تبعها يوسف بعد لحظات، وكأن خطواته كانت مثقلة بأفكار مشوشة لا يريد لها أن تظهر.

كانت رحيل صامتة، لكنها لم تستطع منع نفسها من إلقاء نظرة خاطفة عليه، لاحظت كيف تجنب النظر في عينيها، وكيف بدا وكأنه مستعجل للذهاب إلى غرفته.
رحيل (بهدوء لكن بحدة خفية):
– “في حاجة شغلاك؟ من أول ما خرجنا من المطعم وأنت مش على طبيعتك.”
رفع يوسف حاجبيه كأنه تفاجأ بسؤالها، لكنه سرعان ما استعاد رباطة جأشه.
يوسف (بابتسامة باهتة):
– “لا، مفيش.. بس شوية إرهاق من الشغل.”
رحيل (مراقبة إياه):
– “إرهاق؟ ولا حاجة تانية؟”
هنا، شعر يوسف بداخلها نبرة شك خفية، لكنه لم يرد أن يفتح أي باب جديد للنقاش.
يوسف (يحاول إنهاء الحديث):
– “رحيل، بجد مفيش حاجة.. كان يوم طويل، وأنا محتاج راحة.”
لم تعلق رحيل، فقط هزت رأسها ببطء، لكنها لم تصدقه تمامًا. هناك شيء ما لا يريد قوله، وهي لم تعد تثق بسهولة في كلماته كما كانت تفعل من قبل.
تركته ودخلت غرفتها، بينما وقف يوسف للحظات مكانه، ثم زفر بعمق قبل أن يتجه إلى غرفة اخرى هو الآخر لكنه لم يستطع النوم بسهولة، لأن فكرة واحدة لم تفارقه: “لازم أعرف يارا كانت بتعمل إيه النهاردة.. وليه؟”
بعدما دخل يوسف الغرفة، أغلق الباب خلفه بهدوء، لكنه لم يفتح الأنوار. رمى هاتفه على الطاولة ثم جلس على حافة السرير، واضعًا رأسه بين يديه. أفكاره تتلاطم بداخله، ولم يكن يستطيع تجاهل ما رآه في المطعم،لم يستطع طرد صورة يارا وهي جالسة مع ذلك الرجل من ذهنه. كان يحاول إقناع نفسه بأن الأمر لا يعنيه، لكنه لم يكن قادرًا على تجاهل ذلك الشعور الذي استقر في صدره.
أخرج هاتفه مرة أخرى، وتردد لثوانٍ قبل أن يضغط على اسم “يارا” في قائمة الاتصال. رفع الهاتف إلى أذنه، وانتظر..
رن الهاتف مرة واحدة… مرتين… ثلاث… لكن لا إجابة.

زم يوسف شفتيه بغيظ، وكاد يغلق الخط، لكن في اللحظة الأخيرة، جاءه صوتها أخيرًا، باردًا ومتزنًا كعادتها.
يارا (ببرود متعمد):
– “يوسف… غريب! بتتصل في الوقت ده؟”
شدّ يوسف على الهاتف بين أصابعه، ولم يضيع الوقت في المجاملات.
يوسف (بصوت جاد ومباشر):
– “مين الراجل اللي كنتي قاعدة معاه في المطعم النهاردة؟”
ضحكت يارا بخفة، وكأن سؤاله لم يفاجئها.
يارا:
– “خطيبي… وهيبقى جوزي قريب.”
شعر بشيء ما يتحرك داخله، لم يكن غضبًا صريحًا، لكنه لم يكن ارتياحًا أيضًا.
يوسف (بصوت منخفض، لكنه متوتر):
– “إنتِ بتعملي كده ليه؟”
يارا (بسخرية ناعمة):
– “بعمل إيه، يوسف؟ أنا ببساطة بكمل حياتي… زيك تمامًا. ولا كنت متوقعني أفضل مستنياك؟”
لم يجد ردًا سريعًا. شعر وكأن كلماتها أصابته في موضع ما، لكنه لا يريد الاعتراف بذلك.
يارا (بنبرة أخف، لكن حاسمة): تصبح على خير يا يوسف.
وأغلقت الخط.
ظل يوسف يحدق في شاشة الهاتف، وكأن عقله لم يستوعب تمامًا ما حدث. شعر أن هناك شيئًا غريبًا يجتاحه، لكنه لم يستطع تحديده. هل هو مفاجأة؟ ضيق؟ غيرة؟ لا يعرف.
ألقى الهاتف بجانبه، وأسند رأسه إلى السرير، مغلقًا عينيه وهو يأخذ نفسًا عميقًا. لكنه لم يستطع منع نفسه من التفكير في كلماتها، وفي ذلك الشعور غير المريح الذي تركته المكالمة بداخله.
عندما تنكشف الأسرار.
جلس يوسف في مكتبه بالشركة، يحاول التركيز على العمل، لكن أفكاره كانت مشوشة بالكامل. صوت يارا ما زال يرن في أذنيه، كلمتها الأخيرة تحديدًا:
“أنا كمان هكمل حياتي زي ما انت كملت حياتك”.
لم يكن يتوقع أن تقلب الطاولة عليه بهذه الطريقة، لطالما ظن أنه المتحكم في الأمور، لكنه الآن يشعر وكأن اللعبة خرجت عن سيطرته.
كان يشعر بقلق لا يفهمه، هل هو الغيرة؟ أم الخوف من فقدان شيء لم يكن يعترف بأنه يريده؟ تنهد بضيق، ثم أمسك هاتفه ليتأكد مما إذا كانت يارا أرسلت له أي رسالة، لكنه وجد الشاشة صامتة، كأنها تعكس الصمت الذي يحيط به،تنهد بعمق عقله مشتت بين ما قالته يارا وبين إحساسه المتزايد بأنه يجب أن يواجه الحقيقة. مرر يده في شعره بإحباط، ثم ضرب الطاولة بخفة وهو يتمتم
“لازم أواجهها، لازم أفهم اللي بيحصل فعلاً.”
قرر أن لا يدع الأمور تسير كما تخطط لها يارا، وأنه بحاجة لوضع حد لكل هذا.
على الجانب الآخر، في هذه الأثناء، كانت رحيل تعيش لحظة من أسعد لحظات حياتها المهنية. وقفت أمام المدير والموظفين تقدم مشروعها الجديد، وكان الجميع منبهرًا بأفكارها وإبداعها. بعد انتهاء العرض، صفق الجميع بحرارة، وأعلن المدير الموافقة على المشروع، مما جعل رحيل تشعر بفخر كبير كانت هذه اللحظة التي انتظرتها طويلًا، العمل الذي سعت إليه بعد انقطاع، لتثبت لنفسها قبل أي شخص آخر أنها تستطيع تحقيق ذاتها.
لم تستطع منع ابتسامتها، شعور الانتصار غمرها بالكامل، نظرت إلى ليلى التي كانت تجلس في الصف الأول، فبادلتها الأخيرة نظرة فخر وحماس.
خرجت من الاجتماع وهي تشعر بنشوة النجاح، وفور دخولها مكتبها وجدت محمود يهنئها بحماس:
“برافو يا رحيل! إنتي عملتِ حاجة عظيمة النهاردة.” مدّ يده ليصافحها وأضاف: “كنتِ واثقة من نفسك، والمدير كان مبسوط جدًا، عندك مستقبل كبير هنا!”
رحيل ابتسمت بسعادة وقالت: “بجد مش مصدقة، كنت خايفة أوي بس الحمد لله كل حاجة عدّت تمام.” تحدثت عن مدى تعبها وسهرها لإنجاز المشروع، وكيف أن المجهود لم يضع سُدى.
محمود شجعها أكثر قائلاً: “النجاح ده مجرد بداية، متأكّد إن اللي جاي أحسن. لازم تحتفلي، حتى لو احتفال بسيط.”
اقترح عليها الخروج مع الزملاء بعد الدوام، لكنها اكتفت
بالابتسام قائلة: “ممكن نفكر في حاجة قريب.”
بعد مغادرة محمود، جلست للحظة تتأمل في مدى تغير حياتها، أصبحت أقوى وأقدر على تحقيق أحلامها. لكن رغم ذلك، كان هناك شيء يشغل بالها… يوسف. شعرت أنه أصبح أكثر شرودًا وارتباكًا، وأن هناك شيئًا يخفيه عنها.
رحيل بحماس: “الحمد لله، تعبنا ما راحش على الفاضي!”
ليلى ربتت على كتفها قائلة: “عارفة إنك هتنجحي، دي مجرد بداية لنجاحات أكبر، رحيل!”
شعرت رحيل بطاقة إيجابية كبيرة، واتفقت مع ليلى على الاحتفال بعد العمل.
أحست لأول مرة منذ فترة طويلة بأنها على الطريق الصحيح، بعيدًا عن تعقيدات قلبها.

احتفلوا مع باقي زملائهم بهذا النجاح، ووسط الفرحة، لم تستطع رحيل تجاهل شعور غريب بداخلها، وكأن هناك شيئًا ما غير مكتمل.
عادت إلى المنزل مساءً، وهي تحمل شعورًا مزدوجًا بين السعادة والقلق. نجاحها في العمل كان خطوة كبيرة، لكنها لم تستطع تجاهل تغير يوسف في الفترة الأخيرة. كان شارد الذهن، عصبيًا بشكل لم تعهده، جلست على الأريكة، تفكر في تصرفاته، في نظراته المترددة، في محاولاته المفتعلة ليبدو طبيعيًا.
وبينما كانت مستغرقة في أفكارها، سمعت صوت خطواته وهو يخرج من الغرفة. رفعت رأسها لتجده يرتدي سترته، وكأنه على وشك الخروج.
سألته بنبرة متوجسة: “رايح فين؟”.
توقف للحظة، وكأن سؤاله باغته، ثم رد سريعًا: “عندي شغل ضروري، مش هتأخر”.
راقبته وهو يبتعد، لم تصدق كلماته. شعور غامض انتابها، شيء ما لم يكن على ما يرام. دون تفكير طويل، أمسكت بمفاتيحها وقررت أن تتبعه.
قاد يوسف سيارته عبر الشوارع المزدحمة، بينما رحيل كانت تتابعه من بعيد. لم تكن تعرف ما الذي تبحث عنه، لكنها شعرت بأن الحقيقة التي تتجنبها طوال هذا الوقت تنتظرها في نهاية هذا الطريق.
توقفت سيارته أمام مبنى تعرفه جيدًا، مبنى لم تكن ترغب في رؤيته مرة أخرى. رأت يوسف يترجل من السيارة ويدخل، دون تردد.
عيناها اتسعتا بصدمة، قلبها خفق بقوة، وكأن الحقيقة التي حاولت إنكارها باتت واضحة أمامها.
لقد دخل بيت يارا.
من زاوية بعيدة، رأت الباب يُفتح، وظهرت يارا عند المدخل. كانت تبتسم بثقة، وكأنها كانت تتوقع مجيئه. تقدمت نحوه بخطوات واثقة، وقالت بصوت مرح: “كنت عارفة إنك هتيجي.” ثم فتحت الباب على مصراعيه، وكأنها تدعوه للدخول بلا تردد.
وقفت رحيل في الظلام، تتراجع خطوة إلى الوراء، تشعر بأن شيئًا داخلها قد تحطم. لم تعرف ماذا تفعل… لكنها شعرت بأن هذه اللحظة ستغير كل شيء.
 اللحضة الحاسمة
وقف يوسف أمام باب شقة يارا للحظات، متردداً، لكنه أخيراً رفع يده وطرق الباب. لم تمضِ سوى لحظات حتى فُتح الباب، وظهرت يارا أمامه، عيناها متفاجئتان.
“إيه اللي جابك؟” قالتها بصوت هادئ لكنه متوجس.
نظر إليها يوسف نظرة غاضبة قبل أن يرد بحدة: “إنتي عارفة أنا جيت ليه، مين الراجل اللي كان معاك في المطعم؟”
رفعت يارا حاجبيها بدهشة قبل أن تعقد ذراعيها أمام صدرها وتقول بلا مبالاة: “وإيه مشكلتك؟”
“مشكلتي إنك قلتي إنه خطيبك، يارا! ليه؟”
تنهدت يارا وأشاحت بنظرها بعيداً قبل أن ترد ببرود: “لأنه خطيبي بجد.”
سرت رعشة خفيفة في جسد يوسف، لم يتوقع تلك الإجابة. شعر بغيرة تشتعل داخله دون أن يدرك السبب الحقيقي وراءها. “ليه عملتي كده؟”
نظرت إليه يارا بعينين واثقتين وقالت: “ليه؟ فاكر إني هفضل مستنياك تاخد خطوة؟ زي ما إنت عشت حياتك، أنا كمان قررت أكمل حياتي.”
شعر يوسف بأن الهواء صار أثقل من أن يستنشقه، لم يكن مستعداً لسماع تلك الكلمات منها. تراجع خطوة للوراء وهو يحاول استيعاب ما قالته.
يوسف (بعصبية): “إزاي فجأة تتخطبي وإنتي حتى مقلتيش؟”
يارا (تبتسم بخبث وهي تتكئ على الطاولة): “مالك يا يوسف؟ مستغرب ليه؟ كنت فاكرني هستناك العمر كله”
“يوسف، أنا استنيتك كتير… كتير أوي. لكن انت ماعملتش أي خطوة جديدة، فضلت مكاني مستنياك، بس انت مكمل حياتك عادي.”
يوسف (يحاول كتم غضبه): “أنا… أنا بس مش مستوعب. إنتي حتى مش بتحبيه!”
يارا (تقترب منه قليلًا، تنظر في عينيه بنظرة ماكرة): “هو على الأقل عايزني ومستعد يعلن ده، مش زي حد تاني كان بيستخبى ورا أعذار وهمية!”
يوسف (يتوتر، يشيح بوجهه عنها): “أنا مكنتش بستخبى، إنتي عارفة إني كنت محتاج وقت…”
يارا (تميل عليه هامسة بصوت منخفض لكنه يحمل سخرية): “وقت؟ عشان إيه؟ عشان تفهم إنك مش قادر تنساني؟ ولا عشان تفضل عايش بين نارين، مش عارف تختار؟ انا اديتك وقت كتيير لكن انت ماعملتش حاجة”.
أنا مش هفضل واقفة في نفس المكان، أنت اخترت طريقك وأنا اخترت طريقي.”
يوسف (يحاول التماسك لكنه مرتبك): “يارا، ده قرار مصيري، مش لعبة!”
يارا (تضحك بسخرية، تتراجع وتضع يديها على خصرها): “بالنسبة لك يمكن، بس أنا قررت ألعب اللعبة بطريقتي، وعرفت ازاي أخد قراري! السؤال بقى… أنت هتسيبني أم… هتعمل حاجة بجد لأول مرة في حياتك؟”
يوسف كان يقف أمام يارا، عينيه تتنقل بين يديها التي كانت تلمس الزجاج بحركة ثابتة وكأنها تحدد مصيرهم. كان يراها، لكنه كان لا يستطيع رؤيتها بوضوح، كأن العالم حوله يختلط، وتشتت الأفكار في رأسه جعل القرار صعبًا .

يوسف أخذ نفسًا عميقًا، وعينيه تغرق في الارتباك. كان يعلم أن العودة إلى يارا تعني تدمير كل شيء مع رحيل، لكنه في الوقت ذاته لم يكن قادرًا على كبح مشاعره التي كانت تدفعه للعودة إلى الماضي.
“أنا… مش عارف أعمل إيه، يارا.” قالها بصوت مليء بالتردد، كأن الكلمات قد خذلته.
“أنا مش عايز أخسر رحيل هي كل حاجة لي دلوقتي، لكن… إنتي جزء من حياتي ماقدرش أنساه.”
ضحكت يارا ضحكة خفيفة، كأنها تراقب تردده بكل براعة:
“يوسف، في حاجة مش واضحة عندك. لو كنت بجد حابب رحيل بجد، كنت هتكون معايا دلوقتي؟ لكن الحقيقة إنك مش قادر تترك الماضي، مش قادر تسيبني. وده اللي بيوجعك. وكلما حاولت تبتعد عني، أنا بقترب منك أكتر.”
قالتها يارا بصوت هادئ، لكنها كانت تعرف كيف تؤثر عليه.
يوسف انتفض في مكانه، يشعر أن قلبه في صراع مستمر. كان يريد أن يثبت لنفسه أنه اختار الحياة مع رحيل، لكنه لم يكن قادرًا على كبح الرغبة في العودة إلى الماضي.
ابتسمت يارا ابتسامة خبيثة، عرفت كيف تسحب خيوط اللعبة لصالحها.
أنا الوحيدة اللي عارفة إزاي تكون سعيد، أنا سعادتك، يوسف. لما تكون معايا، هتحس بالراحة اللي مش هتلاقيها مع أي حد تاني.”
يوسف شعر بالتوتر يتسارع داخل صدره. كان يريد أن يصدقها، لكن عقله كان يصرخ بأن هذا خطأ.
“إنتي بتقولي كده عشان تشوّش عليَّ. أنا مش هقدر أعيش في الماضي ده تاني.”
يارا تقدمت خطوة للأمام، عيونها لا تزال ثابتة في عينيه.
“أنا مش بقولك تعيش في الماضي، أنا بقولك تعيش في الحاضر… معايا. كل لحظة معايا هتكون أفضل من أي لحظة مع رحيل. أنا عارفه إزاي أخليك سعيد، يوسف. أنا سعيدتك.”
يوسف كان يشعر بحيرة عميقة، كأن القرار أصبح أصعب من أي وقت مضى. كل كلمة من كلماتها كانت تشده إليها، كان في تلك اللحظة يشعر بأنه ينجذب إليها أكثر من أي وقت مضى
“لكن لو رجعت ليكي، هخسر كل حاجة. هدمّر حياتي.”
يارا كانت تعلم تمامًا كيف تؤثر عليه، وأغلقت المسافة بينهما خطوة أخرى.
“وأنا هخليك تكتشف إنك لو بقيت مع رحيل، هتكون دايمًا ناقص، هتظل تدور على حاجة مش هتلاقيها. أنا سعادتك، يوسف.”
يوسف كان يقف في حالة صمت، قلبه يضطرم بين كلماتها وبين التردد الذي يعتصره. هل يواصل مع رحيل ويترك هذا الارتباط الغريب مع يارا، أم يختار العودة إلى الماضي، حيث كان كل شيء مختلفًا؟ كان في تلك اللحظة في معركة داخلية لم يكن يعرف كيف يخرج منها.
من ناحية أخرى، رحيل كانت تجلس في سيارتها، قلبها يضطرب في صدرها. كان عقلها مشغولًا بكل شيء، وتلك اللحظة التي شعرت فيها أن شيئًا ما يجب أن يحدث. لم يكن من السهل عليها أن تأتي إلى هنا، لكن الحيرة التي كانت في قلبها كانت أكبر من أي شك. كل شيء بدا ضبابيًا، وكان هناك شيء يخبرها أنها يجب أن تكتشف الحقيقة بنفسها.
نزلت رحيل من السيارة ببطء، شعرت أن قدميها مثقلتين، كما لو أن الثقل كان يضغط عليها بشدة. نزلت إلى الأرض، ورفعت رأسها لتلقي نظرة أخيرة على منزل يارا. كان الظلام قد بدأ يسيطر على الأفق، والجو كان باردًا، لكن قلبها كان دافئًا بالقلق. خطوة واحدة نحو الباب كانت تعني أنها قد تكتشف شيئًا لا تستطيع تحمله.
مع كل خطوة، كان صوت خطواتها يتردد في أذنيها، وكأنها تسمعها بشكل أعمق من أي وقت مضى. مشاعرها كانت تتراوح بين الخوف والغضب، لكنها كانت متأكدة من شيء واحد: لم يعد بإمكانها العيش في شك. كان لابد أن تعرف الحقيقة.
وقفت أمام باب يارا، أصابعها ترتجف قليلاً، وكأنها لا تستطيع أن تلامس الجرس. لحظة من التردد مرت في ذهنها، لكن سرعان ما زالتها بصوت داخلي: “لا، يجب أن تعرفي.”
دقت الجرس بخفة، وكأن صوتها يكاد يختفي في الهواء. لكن قلبها كان ينبض بسرعة أكبر، كانت تعرف أن هذا هو الطريق الصحيح. كانت عيونها تلمع بشيء من التحدي، وحين انتظرت بصمت، شعرت بشيء غريب يجتاحها، وكأنها تستعد لملاقاة مصير جديد.
يوسف كان واقفًا في مكانه، عينيه مثبتتين على الأرض، بينما عقله كان مشغولًا بكلمات يارا. كانت كل كلمة قالتها تتردد في ذهنه، وكل فكرة كانت تضعه في مكانه الأصلي. كان يعلم أنه لا يستطيع الهروب من هذه الحيرة الداخلية، ولا من مشاعره تجاه رحيل. لكن في تلك اللحظة، كان يركز على نفسه أكثر من أي شيء آخر.
ثم، فجأة، قطع الصمت صوت دقات على الباب. يوسف انتفض قليلاً، قلبه بدأ ينبض بشكل أسرع. نظر إلى يارا، وكأنما يبحث عن إجابة.

“إنتِ مستنية حد؟” قالها بصوت منخفض، بينما توتره بدأ يظهر على ملامحه.
يارا، التي كانت تسير نحو الباب دون أن تبدي أي قلق، أجابت بهدوء: “ممكن يكون بتاع الديليفري أو البواب.” قالتها كما لو أنها لا تأبه للأمر، ثم فتحت الباب بدون تردد.
يوسف كان يراقبها في صمت، لكن في لحظة واحدة، وعندما فتحت يارا الباب، وقف أمامها شخص لم يكن يتوقعه أبدًا. كانت رحيل، تقف هناك أمامهما.
رحيل وقفت لحظة أمام الباب، عيونها ثابتة على يوسف الذي كان يقف خلف يارا. شعرت فجأة وكأن العالم توقف حولها، قلبها كان ينبض بسرعة، لكنها لم تستطع تحريك قدمها. كان الموقف أكثر من مجرد شك، كان حقيقة كانت تأمل أن تكون مجرد وهم. لكن، بمجرد أن رأت يوسف يقف هنا، لم يعد لديها شك في شيء.
ابتسمت يارا بخفة، كأنها تراقب رحيل بنظرة لم تخلو من السخرية، بينما يوسف كان يبدو مشوشًا، وعينيه تتنقل بين رحيل ويارا وكأنه لا يعرف من أين يبدأ.
رحيل أخذت نفسًا عميقًا، ثم قالت بصوت منخفض ولكنه مليء بالخيانة:
“يوسف، انت بتعملي إيه هنا؟” كلماتها خرجت كالصاعقة، مليئة بخيبة أمل أكبر من أي وقت مضى.
يوسف، الذي كان يشعر بثقل اللحظة، لم يستطع الرد في البداية. لم يكن لديه الكلمات المناسبة. كان يقف هناك في صمت، عينيه لا تجرؤ على مقابلة عيني رحيل. لم يكن لديه أي تفسير لهذا الموقف، وكل شيء كان يبدو ضبابيًا،كان يقف هناك، مشاعر الخوف تسيطر عليه وكأن كل شيء حوله ينهار. نظر إلى رحيل التي كانت تقف أمامه، عيونها مليئة بالخيانة والحيرة. قلبه كان ينبض بسرعة، وعقله كان يتسابق في محاولات تفسير الوضع. كان يعلم جيدًا أن رحيل لا تستحق أن تجد نفسها في هذا الموقف، وأنه لا يستطيع خسارتها.
يوسف بوتر:
رحيل ماتفهمينش غلط انا كنت جاي عشان بنتي …
ولكن في تلك اللحظة، قاطعته يارا، التي كانت تقف على بعد خطوات، تنظر إليهما بعينيها المتربصتين.
“انت هتفضل مخبي علاقتنا ليه؟” قالتها بحدة، وكان صوتها يتنقل في المكان بشكل غير عادي. “مش عايز تعترف، صح؟”
يوسف شعر بأن قلبه بدأ ينبض بسرعة أكبر. كان يريد الهروب، ولكن لم يكن يستطيع. “اسكتي، انتي…” بدأ يصرخ، ولكن قطعته يارا.
“لا مش هسكت، وأنا مش هفضل أستناك تعمّل حاجة. إذا انت مش هتعمل، أنا اللي هعمل الخطوة دي.” قالتها بنبرة قاطعة، وهي تقترب منه أكثر. كان واضحًا أن يارا لم تعد تخشى شيء. كانت تعرف تمامًا ماذا تريد.

رحيل كانت تتأمل الموقف بصمت، لكن قلبها كان يعتصر ألمًا. لم تعد تستطيع تجاهل ما يحدث أمامها.
“مخبي إيه؟” قالتها بصوت مرتجف، ولكن كان واضحًا في عيونها أنها لم تعد قادرة على التماسك.
يارا التفتت إليها، ثم إلى يوسف، وأخذت نفسًا عميقًا. “إحنا اتفقنا على قرار مهم، إحنا هنرجع لبعض.” قالتها بهدوء، بينما كان وجهها يحمل مزيجًا من الثقة والتمرد. “مش قادرين نعيش من غير بعض، وكمان عشان بنتنا تتربى فوسط اب وام وعيلة سعيدة وكان لازم يكون في خطوة”.
قالتها بهدوء، وكأنها أعلنت الحقيقة التي كانت تحت الرماد.
كانت رحيل في حالة صمت تام، كل شيء حولها بدا وكأنه يتوقف للحظات. كانت تشعر كأن العالم كله ينهار أمام عينيها. عيونها كانت تبحث في وجوههم، لكنها لم تجد سوى الخيانة والخذلان.
يوسف كان واقفًا هناك، يحاول أن يجد تفسيرًا لما حدث، لكن رحيل لم تعد قادرة على تحمل المزيد
يوسف الذي كان يراقبها بصمت، شعر بتلك الخيبة التي بدأت تظهر في عينيها، ولم يستطيع الوقوف مكتوف الأيدي. بدأ يشعر بالخوف من فقدانها بشكل حقيقي، فحاول أن يتكلم بصوت مرتجف:
“رحيل، ممكن تسمعيني”
“كنت دايمًا بقول لنفسي إني ممكن أصدقك، لكن دلوقتي كل حاجة بقت واضحة قدامي.” قالتها رحيل بحزن شديد، لكن عيونها كانت مليئة بالقرار. “لو كنت بتحبني فعلًا، ما كنتش هتوصلني لحد هنا لو كنت بتحبني بجد ، ما كنتش هتوصلني للمرحلة دي!…
إزاي تخلي كل شيء بينا ينهار كده؟”
ثم ابتعدت عنه خطوة أخرى، وقلبها مليء بالمرارة. “مش هقدر أعيش في الخداع ده تاني يا يوسف.
احنا خلاص، انتهينا.”
 بداية النهاية
رحيل كانت تقف هناك، عيناها مثقلتان بالحزن والخذلان، وهي تراقب يوسف من بعيد. كانت كلماته التي خرجت من فم يارا تتناثر في أذنيها، وكأنها تقطع قلبها بألف سهم. نظرت إلى يوسف بنظرة طويلة، مليئة بكل ما شعرت به في تلك اللحظة: الصدمة، الخيانة، والحزن العميق.
“كنت حاسة إنك مخبي عني حاجات، لكن كنت بحاول أصدقك… كنت دايمًا شاكة فيك، لكن كنت بقول لنفسي يمكن ده مجرد خوف، يمكن ده شك غير مبرر.” قالتها بصوت خافت، لكن عميق، كما لو أن كل كلمة كانت تخرج من قلب محطم.
يوسف، الذي شعر بثقل هذه النظرة، كان يحاول أن يجد الكلمات التي يبرر بها نفسه. لكنه لم يستطع، لأنه في الحقيقة كان يشعر بأنه قد فقد كل شيء في تلك اللحظة.
“رحيل من فضلك، اسمعيني. الموضوع مش زي ما إنتِ فاهمة… ”
لكن رحيل كانت قد قررت بالفعل أن هذا ليس المكان الذي يمكنها البقاء فيه. كانت دموعها تملأ عينيها، لكن لم تكن قادرة على السماح لها بالنزول. فشعرت بأنها لو سمحت لنفسها بالبكاء، ستغرق في بحر من الندم والمشاعر المتضاربة.
تأملت يوسف للمرة الأخيرة، عينيها تغرق في خذلان و خيبة أمل عميقة. ثم، وكأنها قررت في تلك اللحظة أن تترك كل شيء خلفها، تحركت بخطوات ثقيلة نحو الباب. كانت قد اتخذت قرارها.
” لآخر لحضة كنت بحبك، يوسف. كنت بحبك، لكن دلوقتي كل حاجة انتهت.” همست بهذه الكلمات، وكأنها تعلن نهاية فصل طويل من حياتها.
ثم، دون أن تنتظر ردًا أو حتى محاولة أخرى من يوسف للحديث، فتحت الباب ببطء. دخل الهواء البارد إلى الغرفة، وحمل معه ذكريات تلك اللحظات. رحيل خرجت، ولم تلتفت وراءها، وكأنها تحاول أن تترك كل شيء ورائها، رغم أن قلبها كان يئن.
بينما كانت رحيل تخرج من المنزل، كان يوسف يقف مكانه، عاجزًا عن الحركة. كان يشعر وكأن العالم كله قد انهار عليه في تلك اللحظة. حاول أن يتقدم نحوها، لكنه شعر بأن قدميه ثقيلتان جدًا، وكأنهما غارقتان في وحل من الندم.
وقف يوسف مكانه لثوانٍ، محاولًا استيعاب ما حدث للتو. قلبه كان يصرخ، وكان عقله يكاد ينفجر من الندم. لم يكن قادراً على أن يستوعب حقيقة أن رحيل، التي كانت جزءًا من حياته، قد غادرت بهذه الطريقة المفاجئة.
في لحظة واحدة، شعر برغبة قوية في اللحاق بها، لعل الكلمات تعود، لعله يستطيع إصلاح ما دمره بلحظة ضعف. وبدون تفكير، جرى بسرعة نحو الباب، وهو يصرخ بأعلى صوته:
“رحيل! رحيل، استني من فضلك، اسمعيني!” كانت كلماته مليئة بالألم، لكنه لم يتوقف. كانت رحيل قد اختفت في الزمان والمكان، وقلوبهم كانت تتسابق.
لكن قبل أن يخرج من الباب تمامًا، أمسكته يارا بقوة من ذراعه، وأوقفته فجأة. كانت عيونها مليئة بالعزم، وكلماتها كانت حادة، كالسكاكين التي تقطع الهواء.
“يوسف، في الأول والآخر، كان لازم تعرف الحقيقة.” قالتها بنبرة حاسمة، عينيها لا تغادره. “إحنا مش هنفضل مخبيين علاقتنا كتيير. إحنا مش بنعمل حاجة غلط.”

لكن يوسف لم يكن مهتمًا بكلمات يارا. لم يكن عقله مشغولًا بها أو بما تقوله. كان قلبه يركض خلف رحيل، التي كانت قد رحلت.
“اسكتي، يارا.” قالها بصوت خافت، لكن عميق، ثم أطلق نفسه من قبضتها، وركض مسرعًا، متجاهلًا كل شيء حوله. كان يركض كالمجنون في محاولة يائسة للعثور على رحيل.
نزل بسرعة إلى السلالم، قلبه ينبض بسرعة متسارعة. كانت خطواته تتسارع، وكان يعتقد أنه يمكنه اللحاق بها قبل أن تختفي للأبد. لكن عندما وصل إلى الأسفل، نظرت عينيه في كل زاوية، لكنه لم يجدها.
الشارع كان فارغًا، وكل شيء كان ساكنًا. رحيل كانت قد اختفت، وكأنها كانت جزءًا من حلم انتهى فجأة.
وقف يوسف في مكانه، والهواء البارد يضرب وجهه. كان يلهث، شعر بأن قلبه قد توقف، وكان كل شيء حوله مظلمًا. كان ينظر إلى الفراغ، عينيه مليئة بالألم والندم. رحيل كانت قد رحلت، ولا شيء يمكنه إصلاح ما حدث.
وقف يوسف في وسط الشارع، قلبه كان بيدق بسرعة، وكل ثانية بتمر كانت بتزيد من مشاعره اللي هو مش قادر يتحملها. مش عارف يركز في أي حاجة، عينيه بتلف في كل مكان وكأنه هيلاقي رحيل لو بص لحد في الشارع.
كان حاسس بدموعه قريبة، بس كان عارف إنه لو بدأ يبكي هينهي كل حاجة. “يا خسارة يا يوسف، إيه اللي عملته في حياتي؟” فكر في نفسه، وكل حاجة كانت بتحرقه. كان عارف إنه خسر رحيل، وإنه مهما حاول مش هيقدر يرجع الزمن.
بدأ يلف حوالين نفسه، مفيش إجابة لأسئلته، مفيش جواب لندمه. “لو كنت سمعت كلامها… لو كنت خبرتها….” كانت أفكاره متشابكة ومش قادر يلاقي طريقة يواجه بيها نفسه. كان قلبه بيوجعه مش بس بسبب إنه خسر رحيل، لكن كمان لأنه كان عارف إنه هو السبب.
وقف فجأة، حاسس إن الدنيا كلها بتلف حوالينه. نظرته كانت تائهة، وكان عنده إحساس إنه فقد كل حاجة، ترددت كلمات رحيل في اذنه “احنا خلاص انتهينا ”
“مفيش رجعة… خلصت…” همس بها لنفسه، وكان الصمت هو الصوت الوحيد اللي بيسمعه. كانت دموعه بتضغط على عينيه، وكان مستني اللحظة اللي هينفجر فيها، بس كان خايف.
ركبِت رحيل سيارتها بسرعة، مش قادرة تشيل الألم اللي جواها. كانت دموعها بتنزِل من غير ما تحس، وكل لحظة بتبعد فيها عن المكان ده كانت بتحس إنها بتبعد عن جزء كبير منها. قلبها كان مكسور، وعقلها مش قادر يستوعب اللي حصل. “ليه عملت كده؟ إزاي؟” فكرت في نفسها وهي بتبكي. “أنا عمري ما قصرت معاك، كنت دايمًا جنبك… كنت دايمًا معاك في كل لحظة.”
الدموع كانت نازلة، وكل لحظة كانت بتبعدها عن المكان كانت بتحس إن جزء كبير منها بيتكسّر ” عمري مافكرت ان انت اللي تخدعني بالشكل ده “ليه ما قلتليش من الأول؟ ليه كنت دايمًا مخبي؟”
فجأة، فكر يوسف إن رحيل ممكن تكون رجعت البيت.
“أكيد راحت البيت… مفيش مكان تاني تروحله.” قالها لنفسه وهو بيجري بسرعة ناحية سيارته. قلبه كان دقاته بتسابق نفسه، وكان مش قادر يهدى، كله قلق وتوتر. “لازم ألحقها… لازم أفهمها.”
وصل قدام البيت بسرعة، قلبه بيدق بشدة. نزل من السيارة، وأخذ المفاتيح من جيبه، لكن إيديه كانت بترتجف. فتح الباب بالمفاتيح، لكن كان فيه حاجة غريبة جواه، كان حاسس إن فيه حاجة غلط. دخل البيت، والجو كان مظلم وبارد بشكل مخيف، وكأن المكان كله ما فيه حياة.
جري بسرعة ناحية الجناح بتاعهم وهو بينادي: “رحيل! رحيل انتي فين؟” لكن ما كانش فيه رد. البيت كان هادي لدرجة مرعبة، حاسس إن الدنيا واقفة، كل حاجة فيه كانت بردة، عكس كل مرة كانوا بيبقوا فيها مع بعض
دخل بسرعة غرفة النوم ، وهو يفتش في كل مكان، لكن لم يجد رحيل . “فينك يا رحيل؟ راحت فين ؟” قالها وهو بيبحث في المكان، قلبه كان بيتقطع من الخوف. وبعد كده، جري على غرفة ابنته، لكن لقى المكان فاضي، حتى الناني اللي كانت مع بنته مش موجودة.
وقف في وسط البيت، مش مصدق إن البيت كله فاضي. “مش ممكن… إزاي؟ فينهم؟” قالها بصوت منخفض، حاسس بفراغ رهيب جواه.
“ليه كل حاجة بتروح مني كده؟ ليه ما لقيتهاش؟”
يارا كانت جالسة في الصالون، وحاسّة بشعور الانتصار. كانت مبتسمة في نفسها، وكل حاجة كانت ماشية زي ما هي عايزاها.
“خلاص، يوسف بقى لي… وكل حاجة بقت تحت سيطرتي.”
حسّت بقوة في اللحظة دي، وكل شيء كان تحت يدها. “في الآخر، أنا اللي فزت.” كانت عارفة إنها دلوقتي في مكان أقوى، والفرصة بين إيدها علشان تحقق كل حاجة.
ابتسمت في نفسها مرة تانية وهي بتفكر في اللي حصل. كانت عارفة كويس إن اللحظة دي كانت نقطة فاصلة في حياتهم، وإنها قادرة تسيطر على كل حاجة دلوقتي. لكن بالرغم من الانتصار، كان فيه حاجة في داخلها كانت بتهمس ليها إنه النجاح ده مش هيستمر كتير لو مافيش توازن حقيقي.
لكن في الوقت الحالي، كانت مركزة على شعور النصر، وحاسة إنها أخيرًا حصلت على اللي كانت بتسعى ليه.
جلس يوسف في صالة المنزل، مُحاطًا بصمت ثقيل يُشبه الفراغ الذي تركته رحيل وراءها. عيناه تجولان في المكان وكأنهما تبحثان عنها بين الأثاث والذكريات. تذكر ضحكتها التي كانت تملأ أرجاء هذا البيت، كيف كانت تمر بجواره فتُلقي عليه نظرة عابرة تختبئ خلفها آلاف الكلمات. كيف كانت تضع ابنتهما الصغيرة على الأريكة وتلعب معها، وكيف كان المنزل ينبض بالحياة بوجودهما.

الآن، كل شيء ساكن. المكان بارد بشكل غريب، رغم أن النوافذ مغلقة والستائر مُسْدَلَة. مرّر يده على الأريكة حيث كانت تجلس، ثم على الطاولة التي كثيرًا ما تركت عليها كوب قهوتها نصف ممتلئ. كان يريد أن يصرخ، أن يعيد الزمن إلى الوراء ليصلح كل شيء قبل أن ينهار بهذه الطريقة، لكنه فقط تنهد بعمق، وكأن الهواء نفسه صار ثقيلًا على صدره.

رفع هاتفه، حاول الاتصال بها مرة أخرى، لكن كالمعتاد، لا رد. زفر بضيق وأعاد الهاتف إلى الطاولة. أين يمكن أن تكون؟ 

في تلك اللحظة، تذكر آخر مرة كان يجلس معها هنا، عندما نظرت إليه نظرة طويلة دون أن تقول شيئًا، وكأنها كانت تودعه دون أن يدري. لم يدرك وقتها أن تلك النظرة كانت تحمل كل ما لم تستطع قوله.

تسللت إلى ذاكرته لحظة دافئة بينهما، حينما كانا في أحد الأيام الممطرة، جلست رحيل بجواره على الأريكة، التفتت إليه وقالت بابتسامة ناعسة: "إنت عارف إني بحس بالأمان وأنا جنبك؟" ضحك وقتها ومسح كفها براحة يده قائلاً: "وهفضل دايمًا أمانك يا رحيل." لكن الآن، هو لم يعد يشعر بالأمان حتى مع نفسه.

مرر يده على وجهه، شعر بتعب لم يشعر به من قبل. ماذا لو كانت هذه النهاية حقًا؟

في مكان آخر، جلست رحيل على الأريكة في منزل صديقتها ليلى، عيناها منتفختان من كثرة البكاء، ويدها لا تزال ترتجف. كانت ليلى تجلس بجوارها، تمسك بيدها في محاولة لطمأنتها، لكن الكلمات كانت عاجزة عن مداواة الجرح العميق الذي تشعر به رحيل.

"مش مصدقة يا ليلى.. مش قادرة أستوعب اللي حصل.." نطقت رحيل بصوت متقطع، وكأنها تكافح من أجل التنفس.

وضعت ليلى يدها على كتفها برفق: "حبيبتي، اهدي.. أنا معاكي، إحكيلي بالراحة."

ابتلعت  رحيل ريقها بصعوبة، ثم همست بصوت متهدج: "كنت حاسة إنه بيخبي عني حاجة.. بس عمري ما تخيلت إنها تكون دي! يوسف.. يوسف كان مع يارا، وبيخططوا يرجعوا لبعض! أنا كنت مجرد محطة عبور في حياته؟!"

نظرت إليها ليلى بعينين تمتلئان بالغضب والحزن من أجلها، لكنها لم تجد ما تقوله. فقط احتضنتها، تاركة لها مساحة للبكاء أكثر، لأن بعض الأحزان لا تحتاج لكلمات، فقط تحتاج لمن يشعر بها.

لكن رحيل لم تكن قادرة على التوقف عن الكلام، وكأنها تحاول استيعاب الصدمة بصوتها: "كنت بقول يمكن أنا ظلمته.. يمكن شكوكي فيه كانت زيادة.. بس في الآخر طلع إحساسي صح! هو خانني يا ليلى.. خانني وأنا كنت مصدقة إنه لسه عاوزنا نكمل."

مسحت ليلى دموعها سريعًا وقالت بحزم: "وأنتِ لسه مصدقة إنه يستاهلك؟ رحيل، لازم تفكري في نفسك.. وفي بنتك. يوسف اختار، ومش لازم تفضلي في دوامة الوجع دي."

نظرت رحيل إلى صديقتها بعينين دامعتين، ثم همست بمرارة: "بس أنا كنت بحبه.. وعمري ما فكرت أبعد عنه، ليه هو فكر؟ ليه؟"

احتضنتها ليلى مجددًا، تاركة لها فرصة الانهيار دون قيود. الليلة فقط، ستسمح لنفسها بالبكاء، أما الغد.. فسيكون يومًا آخر.

في تلك الليلة، لم يستطع يوسف التحمل أكثر. كان يعرف أن رحيل لن ترد عليه، لكنه لم يجد أمامه سوى خيار واحد. التقط هاتفه واتصل بليلى.

رن الهاتف طويلًا قبل أن ترد ليلى بصوت متحفظ: "ألو؟"

تنفس يوسف بعمق، محاولًا السيطرة على صوته المرتبك: "ليلى، رحيل عندك؟"

ترددت ليلى لثوانٍ، ثم نظرت إلى رحيل، التي كانت تهز رأسها بقوة وهي تهمس: "قولي له مش موجودة عندي.

عادت ليلى إلى الهاتف وقالت بصوت طبيعي: "لا يوسف، هي مش هنا.. ليه، حصل حاجة؟"

توقف يوسف للحظة، وكأنه يحاول استيعاب السؤال، ثم قال بصوت هادئ لكنه مضطرب: "لا.. ولا حاجة، بس هي خرجت شوية وفكرتها راحت عندك."

حاولت ليلى أن تخفي ارتباكها، ثم قالت بهدوء: "لو عرفت حاجة هكلمك يا يوسف."

أغلق يوسف الهاتف ببطء، ثم زفر بضيق وهو يشعر أن هناك شيئًا لا يزال يجهله. أما رحيل، فكانت تجلس على الأريكة، تستمع لكل كلمة دون أن تنطق، فقط أغمضت عينيها، وكأنها تحاول أن تبني جدارًا أخيرًا بينها وبين يوسف، لا يمكن هدمه أبدًا.

مرّت أربعة أيام منذ آخر مرة حاول فيها يوسف التواصل مع رحيل، وكل يوم كان يزيد توتره. كان قلبه لا يزال يشتعل بالقلق والندم على ما حدث، ومع ذلك، لم يتوقف عن الاتصال بها. فكر في أنها قد تحتاج وقتًا، لكن ذلك لم يوقفه عن المحاولة.

أما يارا، فكانت تتابع كل ما يحدث عن كثب. أرسلت له رسائل هي الأخرى، لكن يوسف كان في حالة من الإنكار التام لما يحدث، ولم يرد على أي من رسائلها أو مكالماتها. كانت تشعر بغضب شديد لأن يوسف لم يُجبها، لكنه كان منشغلًا بما حدث مع رحيل.

كان جالسًا في الصالة، يمرر يده في شعره بحيرة. فاجأه هاتفه الذي رن فجأة. نظر إلى الشاشة ووجد اسم رحيل يظهر على الهاتف فيديو كول. قلبه تسارع ضرباته، ولكنه أسرع في الرد.

لكن المفاجأة كانت أكبر حين ظهر وجهها على الشاشة. لم تكن هناك أي ابتسامة أو ترحيب، بل كانت نظراتها باردة تمامًا، عيناهما متقابلتين عبر الشاشة.
يوسف: (بلهفة) "رحيل؟"

رحيل: (بصوت هادئ، لكنها حاسمة) "إزيك؟"

رحيل كانت جالسة على الأريكة، وابنته الصغيرة تجلس على رجليها، تلتف حولها وتلمس شاشة الهاتف بيدها. عندما رأت والدها على الشاشة، قالت بحب وبراءة:

 "بابا... وحشتني!"

يوسف شعر بشعور غريب يجتاحه، فمشاعر الحنين لبنته كانت تجذبه إلى الأسفل.
شعرت رحيل بنظرة ابنتها على الهاتف، فابتسمت لها بلطف، ثم أعطتها قبلة على جبينها.

يوسف: (ينظر لابنته بحزن عميق) "أنا آسف يا حبيبتي...  انتي وحشتيني أنا كمان."

لكنه عاد سريعًا إلى حديثه مع رحيل.

يوسف: (متوترًا، يحاول أن يظهر جديته) "رحيل، من فضلك اسمعيني، أنا آسف، والله ما كانش قصدي يحصل كل ده."

رحيل: (بصوت هادئ، لكن مليء بالحزن) "خلاص يا يوسف، اللي حصل حصل، وانت السبب فيه."

يوسف: (بحرقة، يحاول التبرير) "عارف إني غلطت في حقك، مكانش قصدي أظلمك. معايا، كنتِ الحاجة الحلوة في حياتي، بس أنا بغبائي ضيعتها من إيدي. فرصة أخيرة، ووعد هعوضك عن كل حاجة."

رحيل: (صوتها صارم، مليء بالخيانة) "عطيتك أكتر من فرصة، لكن انت اللي ضيعتهم وضيعتنا."

رحيل توقفت قليلاً، تحاول أن تتمالك نفسها، ثم أكملت بصوت خافت ولكنه مليء بالقوة.

رحيل: (بمرارة) "أنا عمري ما قصرت معاك في حاجة، كنت بعتبرك  دايمًا من أولوياتي، بفكر فيك أكتر من نفسي... لكن انت عملت إيه؟ مع اول فرصة بعتني بالرخيص."

يوسف يحاول الاعتراض و التبرير، لكن رحيل تقاطعه بحزم شديد، وعينها مليئة بالدموع، لكنها مصرّة على موقفها.

رحيل: (بتحدي، نظرتها حادة) "أنت اللي بعتني بالرخيص  خلاص، انا خرجت من حياتك  خد راحتك مفيهش داعي تخبي دلوقتي، لان اللي كان لازم أعرفه من زمان للأسف عرفتو متاخر، لكن لازم تعرف حاجة، اللي يبيعني بالرخيص، أنا مش هقدر أرجعله تاني ولا افكر فيه حتى.

 انتهى كل شيء."

        "الرحلة الأخيرة، يجب على المسافرين على طائرة ....       
                         التوجه إلى الطائرة الآن." 
 
يوسف يصاب بهلع شديد، يدرك في هذه اللحظة أن رحيل على وشك الرحيل. يصرخ في الهاتف، عيونه مليئة بالخوف والذعر:

يوسف: "رحيل! انتي فين؟! وايه الصوت ده ؟!

رحيل تظهر في الشاشة، وهي تمسك بابنتها بين يديها، وتبدو هادئة ولكن عيونها مليئة بالحزن. تتنهدت بعمق، ثم تقول بصوت حزين وحاسم:

رحيل: "أنا مسافرة يا يوسف. هبدأ حياتي من جديد، حياة من غير كذب، حياة من غير خيانة. هعيش حياتي لنفسي بعيد عن كل حاجة."

يوسف يُصاب بهلع شديد، يقفز من مكانه ويحاول التمسك بأي أمل. يصرخ من قلبه، وهو يترجاها، يعجز عن منع نفسه من التوسل:

يوسف: "رحيل! بالله عليك! متسيبنيش! والله، دي آخر فرصة، عمري ما هزعلك تاني! بجد مش هكرر اللي فات! دي فرصة أخيرة، بجد! متروحيش، أرجوكي!  طب عشان بنتنا طيب، من فضلك!"

رحيل تبقى هادئة، تلتقط نفسًا عميقًا وهي تنظر إليه عبر الهاتف، ثم تبدأ في التحرك بعيدًا، تمسك بابنتها في يديها بإصرار. يوسف يصرخ، محاولاً اللحاق بالكلمات، لكن رحيل لا تلتفت إليه.

يوسف: (بهيستيريا) "رحيل، لا! مش هقدر أعيش من غيرك! بلاش، من فضلك، مش قادر أتحمل!"

رحيل، وهي تتحرك نحو بوابة الطائرة، تقفل الهاتف في وجهه بقوة دون أن تقول كلمة أخرى. يوسف يقف في مكانه، يحدق في الشاشة التي أصبحت فارغة أمامه. يصاب بحالة من الهلع والندم، بينما رحيل تختفي في المدى.

يوسف يقف مذهولًا أمام شاشة الهاتف بعد أن أغلقت رحيل المكالمة في وجهه. لحظات من الصمت، ثم يبدأ قلبه ينبض بسرعة أكبر. تنهار مشاعره، ويشعر وكأن الأرض تحت قدميه تختفي. في لحظة، يفكر في كل شيء، في كل لحظة ضيعها، وكل فرصة أضاعها. يسحب نفسًا عميقًا، وفجأة، يقرر.

يوسف ينظر إلى الساعة على الحائط، ثم يركض إلى سيارته. يقرر أنه لن يتركها تذهب، مهما كانت الظروف. هو لا يستطيع تحمّل فكرة فقدانها نهائيًا. يبدأ في القيادة بسرعة نحو المطار، عينيه لا تترك الطريق، وقلبه يملأه الرعب والتوتر.
هو مش قادر يوقف، مش قادر يقف مكانه. العبرة في قلبه، الدماغ مليانة خواطر، بس حاجة واحدة في قلبه: "مش هقدر أعيش من غيرها. دي فرصتي الوحيدة."

يصرخ في نفسه وهو يقود، صوت تفكيره مكتوم وسط صوت المحرك العالي. "بس مش ممكن تسيبني كده، لازم ألحقها!"

طريق المطار قدامه، والوقت بيجري، وكل لحظة بتعدي بتزوده هلع أكثر من قبل. وهو مش قادر يتخيل حياته من غيرها. مش قادر يقف مكتوف الأيدي كده، ويفكر إنه ضيع كل شيء.

وهو في طريقه، أفكاره مش قادرة تهدأ: "لو ضيعتها دلوقتي، مش هلاقي حاجة تانية زيها في حياتي."

وصل أخيرًا عند المطار، لكنه مش عارف إذا كان لحقها ولا لأ، ولا لو كانت لسه هناك. قلبه يكاد يقف من التوتر، وهو يركن السيارة بسرعة، ونظراته مليانة خوف. هل لحقها؟ هل هي لسه هناك؟

يبدأ يركض نحو مدخل المطار، خطواته سريعة، قلبه يدق بقوة، لكن المطار مزدحم والناس كلها ماشية في كل اتجاه. يوسف ينظر حوله، مفيش أثر لرحيل، ولا يمكنه أن يعرف إذا كانت رحلتها قد بدأت أم لا. هو مش عارف هل هي في الطيارة دلوقتي، ولا لسه عنده وقت...

༺بقلم رميسة༻
الفصل العشرون والاخير - نهاية الطريق 

الجزء الأول:

كان يوسف يقود سيارته بجنون، يتنقل بين السيارات باندفاع غير مبالٍ بالأضواء الحمراء أو أصوات التنبيهات التي تلاحقه. كل ما كان يشغل عقله هو صورة رحيل وهي تغلق المكالمة في وجهه. كانت كلماتها لا تزال تتردد في رأسه، تقطع أنفاسه كأنها سكين مغروسة في صدره:

"أنا مسافرة.. هبدأ حياتي من جديد، حياة من غير كذب، من غير خيانة."

حاول أن يزيل تلك الكلمات من ذهنه، لكن صوتها البارد كان يلاحقه كظلٍّ لا ينفك يلتصق به. ارتعشت يده فوق عجلة القيادة وهو يضغط على دواسة الوقود بقوة أكبر، كأن السرعة ستمنحه فرصة للحاق بها قبل أن تفوته للأبد.

عند بوابة المطار، أوقف السيارة بعشوائية وترجل منها بسرعة، وصل يوسف إلى المطار في حالة من الهلع الشديد، قلبه يخفق بسرعة وكأن الزمن توقف. ركض بين الركاب، يتخطى الجميع بعينين مسمرتين على الوجوه، يبحث عن رحيل. كانت الطائرة قد اقتربت من موعد إقلاعها، لكنه لا يريد أن يستسلم. كان يعلم أنها هناك، في مكان ما، تنتظر أن يركض خلفها. لم يهتم بصيحات الحراس ولا بالأنظار التي توجهت نحوه. أخذ يركض، يتجاوز الناس بعشوائية، يبحث عنها بين الحشود بعينين مذعورتين.

"رحيل!" صرخ بأعلى صوته، لكن المطار كان يعج بالضجيج، وصوته لم يكن سوى نقطة وسط بحر من الأصوات.

بينما يتجول وسط الحشود، يلتفت إلى شاشة كبيرة معلقة في المطار. عيناه تركزان على الأرقام التي تتألق في السطر الأول:

"الطائرة المتجهة إلى .....  أقلعت."

اتسعت عيناه في صدمة. شعر وكأن قلبه توقف للحظة. نظر مجددًا إلى الشاشة، ثم إلى الساعة. كان الوقت قد مر سريعًا، أكثر مما كان يتوقع. لا أحد في المطار يهمه بقدر رحيل. كان يراها في ذهنه، كان يعرف أنها كانت ستكون هناك، ولكن الوقت فاته.

يتنهد بمرارة، قلبه مثقل بالندم، يهرع إلى مكتب الطيران، لكن لا فائدة. قال له موظف الاستقبال بهدوء، كأن الكلمة كانت سكينًا في قلبه:
"آسف، الطائرة أقلعت بالفعل."

يوسف يقف مكانه، كأن الزمن توقف. يلتفت حوله، يبحث في الفراغ عن ملامحها، عن أثرها. لكنه لا يجدها. كل ما يراه هو الحشود المزدحمة.

 يقف في مكانه، قدماه ثقيلة كأنهما متجمدتين في أرض المطار. لم يعد يسمع ضجيج الحشود حوله، ولا صوت المايكروفونات التي تعلن عن مواعيد الرحلات القادمة. كل شيء صار صامتًا بالنسبة له إلا صوت قلبه الذي ينبض بسرعة ويزداد قوة.

نظر حوله كأن كل شيء ينهار أمامه. كان يعتقد أن لديه وقتًا كافيًا لإقناعها. كان يعتقد أن رحيل ستبقى له دائمًا، مهما حدث. لكنه أخطأ. أخطأ في حساباته، وأخطأ في تقدير اللحظات التي كانت بحاجة إليها، بينما هو كان غارقًا في صراعاته الخاصة.

"راحت فين؟ ليه مارجعتش؟" همس لنفسه، وكانت الكلمات تخرج من بين شفتيه وكأنها خالية من المعنى.

ثم تحولت عيناه إلى باب المغادرة، حيث اختفت رحيل وراءه، وسافر معها جزء كبير من حياته. في تلك اللحظة، شعر بشيء غريب. كان قد فقد كل شيء، أو ربما كان قد اختار أن يفقده. وكان ما زال لا يستطيع تصديق أنه وصل إلى هذا الحد، أنه فشل في إيقافها.

خرج من المطار ببطء، خطواته ثقيلة، ملامحه متجهمة، ولا يستطيع أن يتخيل حياته بدونها، أو كيف ستكون الأيام القادمة من دون وجود رحيل وابنته بجانبه.

رحيل كانت تجلس في المقعد بجانب النافذة في الطائرة، نظرت إلى الخارج حيث السماء الزرقاء الداكنة، والأضواء البعيدة التي تتناثر في الأفق. كان هناك صمت في قلبها، لكن داخلها كان يموج بمشاعر متضاربة.

فكرت في يوسف، في كل اللحظات التي عاشتها معه، في الأمل الذي كان يراودها بأن الأمور ستصبح أفضل يومًا ما. لكن كما فكرت، قررت أنها لم تعد قادرة على الاستمرار في العيش بهذا الكذب والخداع. "أنا مش هعيش في ظل خيانة ووعود فارغة"، قالت لنفسها بصوت خافت، وكأن الكلمات كانت هي الأخرى تبحث عن الخلاص.

عينيها امتلأتا بالدموع، لكنها كانت تبكي بصمت، كما لو كانت تحاول دفن كل المشاعر التي كانت تربطها بيوسف في تلك اللحظة. كان الرحيل بالنسبة لها أشبه بالتحرر، لكنها كانت تعلم أنها لن تكون نفس الشخص بعد هذه الرحلة.

بينما الطائرة كانت تواصل تحليقها، نظرت إلى  ابنتها التي كانت جالسة بجانبها، وهي تنام بسلام. شعرت بأن هناك أملًا جديدًا يبدأ معها، ولكن رغم ذلك، كان قلبها ينزف. هل سيكون هذا القرار هو الصح؟ هل سيتحسن كل شيء كما كانت تأمل؟

رحيل أمسكت يد ابنتها برفق، وهمست لها بصوت متقطع:
"هنبدأ حياة جديدة، يا حبيبة ماما... حياة أفضل."

نظرت إلى الطائرة التي كانت تحلق بعيدًا، وأغمضت عينيها، عازمة على أن تبدأ من جديد، بعيدًا عن الماضي الذي أصبح يثقل قلبها. هذه المرة، كانت رحيل تملك القوة لتتخذ قراراتها لنفسها، حتى لو كانت مؤلمة.

عاد يوسف إلى المنزل وهو يحمل في قلبه ثقلًا لم يستطع التخلص منه طوال طريقه. خطواته كانت بطيئة، وكأن الأرض تلتصق بأقدامه في كل خطوة. رأسه مليء بالأفكار، وعينيه تبحثان في كل زاوية، عله يجد أي أثر لرحيل أو ابنته، لكن المنزل كان خاليًا كالمعتاد، كما لو أن الحياة توقفت هنا.

لكن ما لفت نظره كان شيء غريب أمام الباب. كان يوجد شيء ما مرمي على الأرض. ورقة صغيرة. قلبه قفز في صدره وكأنه يشعر بشيء غير طبيعي. اقترب منها بحذر، ركبتيه ضعفتا بينما يمد يده ليلتقط الورقة. ارتجفت يده وهو يرفعها ليقرأ ما كتب فيها.

دخل يوسف المنزل وهو لا يستطيع أن يوقف عقله عن التفكير. قدماه تقودهما إلى الداخل بشكل غريزي، بينما عينيه لا تزال على الورقة. أغلق الباب وراءه بصوت خافت وهو يتجه نحو غرفة الجلوس. ألقى بالورقة على الطاولة أمامه، ليقرأها بعينين تملؤهما الحيرة. "طلب خلع"، كان المكتوب في الورقة.

تجمد يوسف، كأن الزمن توقف للحظة، ووقع الكلمات عليه كالصاعقة. "خلع؟" همس بها بصوت منخفض، بينما كان عقله يصرخ. شعر بالدوار وهو يلتقط نفسه، ويركز على الكلمات المكتوبة أمامه. كانت رحيل قد أخذت القرار، وها هي الورقة تؤكد أنه لم يعد له مكان في حياتها.

بعد لحظات من قراءة الورقة، وقف يوسف، غير قادر على الوقوف في مكانه أكثر. كانت أفكاره تتدافع بسرعة كبيرة، وكأنها طوفان لا يمكنه أن يوقفه. شعر وكأن جسده أصبح ثقيلاً، لا يستطيع التنفس كما كان من قبل. كانت ذكرياته مع رحيل وابنته تتحول إلى كوابيس تتكرر في ذهنه، كل لحظة كأنها حادة، تكاد تقطع قلبه.
أخذ نفسًا عميقًا، لكنه لا يشعر بأن الهواء يدخل رئتيه كما ينبغي. عينيه تجول في أرجاء المنزل، وكل زاوية كانت تذكره بلحظة كانت مليئة بالحب والأمل. كان هذا البيت مليئًا بالأصوات والضحكات، لكن الآن أصبح مجرد صمت رهيب يملأ المكان.

نظرت عيناه إلى الجدران، التي كانت تحمل صورًا له ولرحيل، صور لحظات سعيدة، لكن اليوم، بعد أن قرأ الورقة، أصبح كل شيء مجرد شبح من الماضي. تذكر تلك اللحظات التي كان يعد فيها رحيل أنه لن يخذلها مرة أخرى، وأنه سيظل دائمًا بجانبها. لكنه أدرك الآن أنه كان يكذب على نفسه. في النهاية، هو الذي خذلها.

توجه يوسف نحو غرفة النوم. الأرضيات التي كان يخطو عليها بدت أكثر برودة من أي وقت مضى. التفت حوله، وكأن المكان نفسه يذكره بكل لحظة ضاعت. "إزاي ضيعت كل ده؟" تساءل في نفسه، بينما كانت الذكريات تطارده. رحيل، ابنته، ضحكتهما، كلمات الحب. كل شيء كان يبدو بعيدًا، بعيدًا جدًا الآن.

جلس على طرف السرير، ويده لا تزال ممسكة بالورقة، يحاول أن يستوعب ما حدث. "أنا ليه ما حاولتش أكتر؟" همس بصوت مختنق. تذكر كيف كانت رحيل تسأله دائمًا عن مشاعره، وحين كانت تطلب منه شيئًا، كان يتأخر في الرد، وفي النهاية كان يخذلها.

تذكر يومًا عندما كان يجلس مع رحيل في هذا المكان بالذات،
 يتناقشان حول المستقبل، وكان يحاول أن يطمئنها، ويعدها أن كل شيء سيكون على ما يرام. وكان يفكر في وقتها أن هذا المنزل سيكون مكانًا سعيدًا لهما، ولكن في لحظة، تحول الحلم إلى كابوس. كيف تبدل كل شيء هكذا؟!

تذكر عندما كان يعود إلى البيت ليجد رحيل تنتظره بابتسامة جميلة، وكأنها لا تشكو من شيء. كان يظن في البداية أن كل شيء سيكون على ما يرام، وأنه يملك كل شيء تحت السيطرة. لكنه الآن يرى أن الأمور كانت تسوء تدريجيًا، ولم يكن يرى ذلك إلا عندما كان كل شيء قد تحطم.

قفزت دمعة من عينيه، وكأن قلبه انفجر فجأة. لا يمكنه أن يصدق أن رحيل قد قررت الرحيل إلى هذا الحد. كيف لو كانت تلك هي النهاية؟ كيف سيتحمل وحده بعد كل هذه السنوات؟

مرت الأيام ثقيلة على يوسف، كل يوم كان يمر وكأنه عام كامل. حاول أن يلتقط خيوط الحياة مجددًا، لكنه لم يستطع. كل زاوية، كل لحظة، كل شيء كان يذكره برحيل، ويزيد من شعوره بالخسارة. لا شيء في المنزل يبدو كما كان، كل شيء تغير في لحظة.

جلس يوسف في الصالة، يحدق في المسافة أمامه. كان يعيد التفكير في كل شيء، في أخطائه، في الكلمات التي قالها، في القرارات التي اتخذها. متى بدأ كل شيء ينهار؟ كان يكرر هذا السؤال في رأسه مرارًا وتكرارًا، لكن الإجابة كانت دائمًا نفسها: منذ اللحظة التي لم يقدر فيها رحيل بما يكفي.

كان يشعر أن الحياة قد توقفت عند هذه اللحظة، بعد أن خرجت رحيل من حياته. كل محاولة منه للتواصل معها باءت بالفشل، وكل كلمة قالها لم تكن كافية لإصلاح ما تهدم. حتى المكالمات اليومية التي كان يحاول خلالها الوصول إليها لم تؤدِ إلى شيء. كل شيء كان يشير إلى نقطة واحدة: رحيل اختارت الرحيل.

لكن لم يكن بمقدوره أن يتخلى عن الأمل، على الرغم من أن كل شيء كان يدفعه إلى الاستسلام. في قلبه كان يشعر بالندم، وأنه ارتكب أكبر خطأ في حياته. كان يحاول أن يقنع نفسه أن رحيل قد تتحسن مشاعرها، وأنه يمكن أن يبدأ من جديد، لكن في نفس الوقت كان يعلم أن هذه مجرد أماني غير قابلة للتحقيق. كان يعلم أنها إذا اختارت الرحيل، فهي لن تعود.

قرر أخيرًا أن يتخذ خطوة، رغم أنه كان يعلم أن هذه الخطوة قد تكون خطوته الأخيرة نحو التغيير. لكنه لا يستطيع أن يبقى في مكانه، في حياة مليئة بالذكريات المؤلمة.

أخذ هاتفه في يده، وفي قلبه قلق كبير. كان ينوي الاتصال برحيل مجددًا، لكن قلبه كان يخبره أنها لن تجيب على مكالماته أبدًا لكن فجأة، دون تفكير، ضغط على زر الاتصال، وهو يستعد لسماع الصوت الذي طالما حلم بسماعه مرة أخرى. كان يعلم في أعماقه أنها لن ترد، لكنه ما زال يأمل في تلك اللحظة المعجزة.

مرت لحظات من الانتظار، ثم انقطع الاتصال. فقط الصوت القاسي للجهاز الذي يقول "لا يمكن الوصول" كان يجيب عليه.

 ثم ألقى الهاتف على الطاولة، وسار بهدوء إلى نافذة الغرفة، ليحدق في الخارج. كان الليل قد حل، والمدينة كانت مضاءة بالأضواء، لكن في داخله كان الظلام هو المسيطر.

نظر إلى السماء، وكان يتمنى لو يستطيع العودة إلى اللحظات التي كان فيها مع رحيل، لو أن بإمكانه تغيير الماضي، لو أن بإمكانه إصلاح كل شيء. لكنه كان يعلم أنه لا شيء يمكن أن يعيد الوقت إلى الوراء.

وفي الوقت نفسه، كان هاتفه الذي تركه على الطاولة يرسل إشعارات مستمرة. كانت يارا، التي حاولت مرارًا الاتصال به طوال الأيام الماضية، قد قررت أخيرًا أن تأتي إلى منزل يوسف بنفسها، بعد أن شعرت بأنه يجب عليها أن تتأكد مما يحدث. لم يكن الاتصال ردًا عليه، فقررت أن تتحرك بنفسها.

وصلت يارا إلى الباب الأمامي، وقرعت الباب بلطف في البداية، ثم بدأت تدق عليه بقوة أكبر عندما لم تجد استجابة. كان يوسف في حالة من الضياع، لكن صوت الدق على الباب جعل قلبه ينقبض. من؟ لم يكن يتوقع أن تكون يارا.

فتح الباب ببطء، ووجدها تقف أمامه. كانت ملامح وجهها جادة، وكأنها أعدت ما ستقوله مسبقًا، لكن هناك شيء في عينيها كان يخبره أنها لا تزال تحمل مشاعر مختلطة.

يوسف (بتنهدة وبصوت غير مهتم):
"إيه؟ جايه ليه؟"

يارا (بتكشر، بصوت حاد):
"فينك؟ ليه ما رديتش على اتصالاتي؟ كنت عايزك ترد عليّ؟"

يوسف (بتنهد، مش فاهم هو بيعمل إيه):
"مفيش حاجة، كنت مشغول... مش فاضي دلوقتي."
يارا (مستفزة، مش مصدقة اللي بتسمعه):
"مش فاضي؟ يعني مش عايز تتكلم معايا؟ ولا اللي بينا خلاص انتهى؟"

يوسف (يستدير بعيد عنها، بصوت متعب):
"مش هقدر أتكلم دلوقتي، لو مش عايزة تستني يبقى خلاص."

يارا (بغضب، متوترة):
"أنت مش عارف إنت عايز إيه، ولا عايزني أنا ولا مش عايزني! مش هفضل أدور على أجوبة لحد ما تلاقيني متخبّية، خلاص كفاية كده."

يوسف(بنفاذ صبر):
"قتلك مش قادر سيبيني دلوقتي من فضلك"

يارا( بغضب ):
ماشي يايوسف ورحلت .

(شقة بسيطة – مدينة جديدة)
رحيل واقفة قدام الشباك، فنجان القهوة في إيدها، وعينيها على الشارع الهادي.

رحيل (بصوت هادي وجواها قوة):
"أنا مشيت مش عشان ضعفت... أنا مشيت عشان اكتفيت."

بنتها تضحك وتهرّج وراها، فتبص عليها وتبتسم، وبصوت واطي تكمل:

"اللي ماقدرش يحافظ علينا... مايستاهلناش."

سمعت ضحكة صغيرة من وراها… بنتها قاعدة على الأرض، بتلعب بالمكعبات، وبراءتها بتخلي الجو كله أهدى.

رحيل (بابتسامة حزينة):
"علشانك إنتِ… علشانك كان لازم أمشي… وأبدأ من جديد."

قعدت جنبها، حضنتها بقوة، والدمعة اللي كانت محبوسة نزلت أخيرًا، بس المرة دي كانت دمعة راحة، دمعة بداية.

رحيل (بهمس):
"أنا يمكن خسرت راجل… بس كسبت نفسي… وكسبتك."

في كافيه هادئ، يوسف يجلس على الطاولة منتظرًا وصول يارا. يشعر ببعض التوتر وهو يفكر في الأمور التي مر بها مع رحيل، ولا يزال في داخله شكوك وتردد حول ما إذا كان يجب أن يكمل مع يارا أم لا. بعد لحظات، تصل يارا بابتسامة هادئة وتجلس أمامه.

يوسف (بصوت متردد، وهو ينظر إليها):
"أنتِ عارفة يا يارا... أنا مش عارف مالها حياتي. مش قادر أتخيل إني هعيش من غير رحيل. كنت دايمًا بفكر فيكِ، وكنتِ جزء من حياتي، بس... بعد كل اللي حصل، أنا مش قادر أتخذ القرار بسهولة."

يارا (بصوت ناعم، تبتسم بسخرية داخليًا):
"يوسف، عارف، أنا فاهمة اللي أنت فيه. لكن لازم تفهم حاجة... رحيل مش هتقدر تبقى جنبك. أنت مش شايف؟ هي مش هتكون دايمًا ليك. هي أصلاً ضيعت نفسها معاك. لو كنت لسه متعلق بيها، ما كنتش هتكون هنا دلوقتي، صح؟ هي اللي ضيعتك، مش العكس."

يوسف (بتردد، وهو يمرر يديه في شعره):
"بس أنا حاسس إني خنتها... أنا مش قادر أفهم حاجة. كل شيء اتغير فجأة. كنت مع رحيل، وكانت علاقتنا كويسة، لكن دلوقتي مش قادر أعود لكل شيء زي الأول. وفي نفس الوقت، أنا مش عايز أخسر الناس اللي كانوا معايا."

يارا (ابتسامة خفيفة، وعينيها مليئة بالكلمات الخفية):
"يوسف، فكرت شوية؟ رحيل مش هتكون معاك بالطريقة اللي أنت عايزها. هي مش هتستاهل كل دا. أنت لو تراجع دلوقتي، هتكون خاسر أكثر من كده. اللي بينكم انتهى، وكل واحد فينا ليه فرصة تانية. وأنا هنا عشان أكون معاك. لو بتحبني، لازم تبص للمستقبل."

يوسف (بتردد أكبر، وهو ينظر إليها):
"أنا مش عارف... ما كنتش أتمنى نوصل للمرحلة دي."

يارا (تنظر إليه بعينيها التي تحمل الخبث الداخلي، وتبتسم بشكل غير مباشر):
"ما تشيلش هم. أنا مش جايه هنا علشان أخليك في حيرة. خلينا نبص لقدام. رحيل خسرتك، هي مش هتكون جزء من حياتك زي ما أنا ممكن أكون. هي اللي خسرتك مش أنت."

يوسف (ينظر إليها، وهو يحاول التركيز، لكن ما زال مشوشًا):
"أنتِ بتقولي كلام حلو، بس أنا مش قادر أتجاوز كل اللي حصل. مش قادر أقول لنفسي إني لسه في نفس المكان. لو كنت لسه بحبها، ليه عملت كده؟ ليه مش قادر أرجع؟"
يارا (تقترب منه أكثر وتهمس في أذنه بهدوء):
"ما تعيش في الماضي يا يوسف، هي ماتستاهلكش، أنت مش هتعيش في ظلها. أنا هنا، لو كنت عايز حياه جديدة... أنا موجودة."

يوسف (ينظر في عينيها، غير قادر على اتخاذ قرار حاسم):
"أنتِ مش عارفه... اللي بيني وبين رحيل كان شيء كبير. مش قادر أتخلى عنها كده."

يارا (تبتسم بخبث داخلي، وتبدأ في تغيير الموضوع):
"دي بس مجرد أوهام، يوسف. رحيل مش هترجع لك، هقولك الصراحة. هيا مش هتكون لك، مش هتستاهلك زي ما أنت تستاهل. وخلاص، خلينا نبص لقدام."

في هذه اللحظة، يرن هاتف يارا تبتسم وتنهض من مكانها وتقول:
يوسف دي صحبتي هرد عليها وارجعلك.
يوسف :
طيب متتاخريش.

يوسف يظل في مكانه، عقله مشوش بين مشاعره تجاه رحيل وما تقوله يارا. هو يشعر أنه في مرحلة فاصلة،يفكر في كلامها وفي مشاعره المتضاربة. الجو في الكافيه صار أكثر برودة، وهو يشعر أن الاختيارات بدأت تتضارب في رأسه.

يوسف قاعد مكانه، بيبص في الساعة، بقاله أكتر من ربع ساعة منتظر يارا، بدأت القلق يزحف جواه. بص حواليه، سحب نفس طويل، ووقف ببطء.

يوسف (بيكلم نفسه):
"هي راحت فين؟ المفروض مكالمة يعني… مش مقابلة!"

بدأ يتحرك ناحية الممر المؤدي للحمامات، الخطوات تقيلة وقلبه مش مرتاح. قرب من الباب، وفجأة سمع صوت ضحكة مكتومة، وصوت يارا بيتكلم في الموبايل من ورا الحيطة،فيقرب شوية يسمع صوتها، وصوتها كان عالي وواضح من جوه، بتحكي بحماس وغرور في التليفون:

يارا (بنبرة خبث وضحكة خفيفة):
"بصّي... هو كان زي اللعبة في إيدي، بمشيه زي ما أنا عايزة بالظبط... وفي الآخر؟ أنا اللي كسبت، أنا اللي فُزت على رحيل وخليتها تسيبه وتسافر! انا كسبت الجولة دي!"

تضحك ضحكة انتصار.

"ودلوقتي؟ ما فضلوش غيري، وهيكتشف إن أنا الوحيدة اللي كنت جنبه، لما مراته سابته وراحت... وساعتها؟ ساعتها هو اللي هيتمنى يرجعلي، بس مش هو اللي يقرر... أنا اللي هقرر."

يارا بتخلص المكالمة، ووشها مليان غرور وانتصار، تضحك بخفة وتبص في المراية تصلّح شعرها. تاخد نفس وتفتح الباب، تخرج...

لكن تتفاجئ بيوسف واقف قدامها، بعنين حمراء، ووش مشدود بالغضب والانكسار.

༺بقلم رميسة༻
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-