رواية عشق لا يضاهي كاملة جميع الفصول بقلم اسماء حميدة
رواية عشق لا يضاهي كاملة جميع الفصول هى رواية من تأليف المؤلفة المميزة اسماء حميدة رواية عشق لا يضاهي كاملة جميع الفصول صدرت لاول مرة على فيسبوك الشهير رواية عشق لا يضاهي كاملة جميع الفصول حققت نجاحا كبيرا في موقع فيسبوك وايضا زاد البحث عنها في محرك البحث جوجل لذلك سنعرض لكم رواية عشق لا يضاهي كاملة جميع الفصول
رواية عشق لا يضاهي كاملة جميع الفصول
كان يوما كئيبا تتساقط فيه الأمطار بغزارة تضيف مزيدا من البرودة على الأجواء
وقفت سيرين عند مدخل المشفى بجسدها النحيل المرتجف ممسكة بتقرير الحمل بيديها اللتين تكسوهما رعشة خفيفة
في التقرير برزت كلمات باردة قاسېة
لم يتم اكتشاف أي حمل
لقد تزوجت منذ ثلاث سنوات كيف لم تصبحي حاملا بعد سألتها والدتها سارة بنبرة مشوبة بالخيبة وهي تشير بإصبعها إلى وجه سيرين
كانت سارة سيدة أرستقراطية ترتدي ملابس فاخرة وكعبا عاليا تعلو ملامح وجهها ابتسامة جليدية مستفزة تبرز كما من التعالي والبرود واستكملت بتهكم
لماذا أنت عديمة الفائدة إلى هذا الحد إذا لم تحملي قريبا فسوف يطردك آل نصران من العائلة ماذا سيحدث لعائلتنا إذا
نظرت سيرين إليها بنظرة فارغة كان لديها الكثير لتقوله لكن الكلمات ظلت عالقة في حلقها
في النهاية لم تستطع سيرين سوى أن تهمس أنا آسفة
ردت سارة بجفاء
لا أريدك أن تتأسفي أريدك أن تلدي طفل ظافر هل تفهمين ما أقول
شعرت سيرين بضيق شديد في حلقها ولم تعرف كيف ترد على سارة
خلال سنوات زواجها الثلاث كيف يمكنها أن تنجب طفله
حملقت سيرين بسارة تلمح التناقض الشديد بين ضعفها وبين تعجرف والدتها وأخيرا قالت سارة ببرود قبل أن تغادر
إذا لم تتمكني حقا من منحه طفلا فابحثي له عن امرأة تستطيع فعل ذلك على الأقل سيقدر لك هذا
حدقت سيرين في أثر سارة المنسحبة بعدم تصديق
هل أخبرتها والدتها للتو أن تبحث عن امرأة أخرى كي ينام معها زوجها
كان قلب الأم باردا مثل المطر المتجمد عن أي أم نتحدث إنها الخذلان في أحقر صوره!
بينما كانت سيرين في طريقها إلى المنزل لم تستطع التوقف عن التفكير في كلمات سارة الوداعية
فجأة غزى أفكارها رنين عال يضج في أذنيها فأدركت أن حالتها قد ساءت
وفي تلك اللحظة تلقت رسالة على هاتفها
كانت الرسالة من ظافر تحمل في طياتها نفس الكلمات الباردة المعتادة
لن أعود إلى المنزل الليلة
على مدار السنوات الثلاث الماضية من زواجهما لم يقض ظافر ليلة واحدة في المنزل ولم ېلمس سيرين قط كانت مجرد شبح في حياته
تذكرت سيرين ليلة زفافهما حين قال لها ببرود قاس
بما أن عائلتك جريئة بما يكفي لخداعي وإقناعي بالزواج منك فمن الأفضل أن تكوني مستعدة لقضاء بقية حياتك في عزلة
كانت تعيش في قمة الخيبة زواج مع إيقاف التنفيذ!
قبل ثلاث سنوات قررت عائلتا تهامي ونصران تشكيل تحالف من خلال الزواج كان الاتفاق مبرما على شروط تفيد كلا العائلتين
ولكن عندما جاء يوم الزفاف تراجعت عائلة تهامي عن وعدها ونقلت كل أصولها بما في ذلك الملايين من الدولارات التي دفعها ظافر للزواج من سيرين
تلاشت عينا سيرين عند تذكرها لهذا الأمر المؤلم وردت على رسالة ظافر النصية بإجابتها المعتادة
حسنا
كانت الكلمة تحمل في طياتها كل الاستسلام والخضوع الذي عشش في قلبها
ودون أن تدرك انكمشت
تقارير
الحمل التي كانت تحملها بين يديها فتمزقت بعض الشيء بفعل قبضتها المشدودة
شعرت سيرين وكأن حياتها تمزقت كما الأوراق التي بين قبضتيها ومع كل تمزق كان أملها في الحياة يتلاشى أكثر
تحملت سيرين سنوات من الوحدة والبرود عانت العزلة القاسېة والقهر الصامت
كانت تبحث عن دفء في قلب متجمد وعن حنان في عالم بلا روح و
لكن رغم كل ذلك كانت تأمل في معجزة تغير مسار حياتها وتعيد إليها البسمة والدفء
كل شهر في هذا الوقت تشعر سيرين بخمول غير عادي ولم تكلف نفسها عناء تجهيز العشاء بل كانت تتكئ على الأريكة تغفو من حين لآخر
ظل الطنين في أذنها مستمرا ليذكرها بضعف سمعها الذي كان سببا آخر لكراهية ظافر لها
في الساعة الخامسة صباحا رنت ساعة البندول على الحائط بصوت خاڤت فأدركت سيرين متأخرة أنها نامت على الأريكة لذا نهضت مسرعة وذهبت إلى المطبخ لإعداد إفطار ظافر
كان ظافر رجلا دقيقا وصارما بشأن الالتزام بالمواعيد ليس فقط مع نفسه ولكن أيضا مع من حوله وكالمعتاد وصل إلى المنزل في تمام الساعة السادسة تماما
ظافر الرجل الطويل الوسيم ذو البدلة الأنيقة كان يتسم بسلوك هادئ ومتحفظ ولكنه بلا شك كان رجوليا ومع ذلك بالنسبة إلى سيرين كان باردا وبعيدا
لم ينظر حتى إليها مر بجانبها مباشرة وهو ينظر إلى الطعام على الطاولة وقال بسخرية
أنت تفعلين هذا كل يوم هل أنت مربية أم ماذا
على مدى السنوات الثلاث الماضية كانت سيرين تعيش في دوامة متكررة ترتدي نفس الملابس الداكنة وترد على رسائله بنفس الكلمة المفردة
حياتها لم تكن سوى مجرد انعكاس باهت لرغباته وأوامره بلا أي بصيص من الأمل أو التغيير
لو لم يكن هناك تحالف تجاري وخداع من عائلة تهامي لما فكر ظافر في الزواج من امرأة مثل سيرين
عند سماع كلمة مربية عاد الطنين في أذني سيرين التي ابتلعت بصعوبة وشعرت بغصة في حلقها ثم قالت بشجاعة
ظافر هل لديك شخص تحبه
تفاجأ ظافر بسؤالها فأظلمت عيناه
ماذا تقصدين بذلك
رفعت سيرين رأسها وحدقت في عينيه تحاول ابتلاع الصفراء التي تتصاعد في مؤخرة حلقها
إذا كنت تحب شخصا آخر يمكنك أن تكون معها
قبل أن تتمكن من إنهاء كلامها قاطعها ظافر بحدة
أنت مچنونة
بعد مغادرة ظافر جلست سيرين على الشرفة بمفردها تنظر إلى المطر البارد صوت قطرات المطر يتسلل إلى عالمها المخټنق بالصمت
خلعت سماعات الأذن مما جعل العالم يغرق في السكون القاسې
قبل شهر أخبرها طبيبها
سيدة سيرين تهامي هناك تغير مرضي في أعصابك السمعية وبعض الأعصاب القحفية مما تسبب في تدهور سمعك وإذا استمر هذا التغير فقد تفقدين سمعك تماما
ولأنها لم تعتد على عالم صامت توجهت سيرين إلى غرفة المعيشة وشغلت التلفاز ثم
رفعت مستوى الصوت إلى الحد الأقصى مما سمح لها بسماع بعض الأصوات المشتتة
بالمصادفة كان التلفزيون يعرض مقابلة مع دينا
المطربة المشهورة بأغانيها العاطفية
جلست سيرين في محاولة للبحث عن بصيص من الراحة في كلمات وألحان أغانيها متمنية أن تجد في تلك النغمات ما ينقذ قلبها من براثن الوحدة
ارتجفت يدا سيرين وهي تمسك بجهاز التحكم عن بعد وكأنها تمسك على مشاعرها الجياشة
دينا كانت الحب الأول لظافر وأول من شغف قلبه لم ترها سيرين منذ زمن لكنها لم تتغير
دينا ما زالت تحتفظ بجمالها وثقتها تقف أمام الكاميرات بكامل أناقتها مختلفة تماما عن تلك الفتاة الخجولة التي توسلت لعائلة تهامي لرعايتها
عندما سألها المحاور عن سبب عودتها إلى الوطن ردت بشجاعة
عدت لأستعيد حبي الأول
انزلقت من بين يدي سيرين جهاز التحكم عن بعد وكأن قلبها هو الآخر هبط إلى قاع معدتها
ازداد هطول المطر في الخارج كثافة وكأنه يعكس اضطراب مشاعرها
أغلقت سيرين التلفاز في حالة من الارتباك واتجهت لتنظيف بقايا الفطور وعندما وصلت إلى المطبخ اكتشفت أن ظافر قد نسي هاتفه التقطته بيديها المرتجفتين وبدأت تطالع الرسائل غير المقروءة على شاشة القفل
ظافر لا بد أنك كنت تعاني في السنوات الماضية أليس كذلك
أعلم أنك لا تحبها ماذا لو التقينا الليلة لقد اشتقت إليك كثيرا
ظلت سيرين تحدق في الرسائل بلا تعبير حتى أصبحت الشاشة مظلمة مجددا
طلبت سيارة أجرة إلى مكتب ظافر وفي الطريق كانت تحدق عبر النافذة المطر ينهمر بغزارة وكأنه يرفض التوقف يعكس تماما حالتها النفسية المتردية
لم يكن ظافر يحب زيارة سيرين له في المكتب لذلك اعتادت على أخذ المصعد الخدمي من منطقة التحميل عندما رآها مساعد ظافر ويدعى ماهر الذي استقبلها ببرود قائلا
السيدة سرين
لم يعاملها أحد في محيط ظافر كزوجة له بل كانت مجرد عبء ثقيل على سمعته
عندما رآها ظافر تحمل له هاتفه عبس وجهه بتجهم
ألم أخبرك ألا تحضري أغراضي بنفسك
تجمدت سيرين في مكانها معتذرة بصوت مرتجف
↚
آسفة نسيت
منذ متى أصبحت ذاكرتها سيئة إلى هذا الحد
ربما أصابها الذعر بعد رؤية رسالة دينا وأصبحت تخشى أن يختفي ظافر من حياتها فجأة
قبل أن تغادر نظرت إلى ظافر بتوسل غير معلن ولم تستطع أن تقاوم فسألت بصوت متهدج
ظافر هل ما زلت تحب دينا
اعتقد ظافر أن سيرين تتصرف بغرابة في الآونة الأخيرة نسيانها المتكرر وأسئلتها الغريبة أثار استغرابه كيف لشخصية مثلها أن تكون زوجته
كانت سيرين تشعر بأنها مجرد شبح في حياة ظافر شبح يبحث عن بقايا حبه في أروقة قلبه المظلمة لكنه لا يجد سوى الظلال
فأجابها بحدة غير مبالي
إذا كان لديك وقت فراغ اذهبي وابحثي عن شيء يشغلك
كانت سيرين قد حاولت من قبل العثور على وظيفة لكنها اصطدمت بجدار الرفض من والدة ظافر شادية التي وبختها دون رحمة
هل تريدين أن يعرف الجميع
أن ظافر تزوج امرأة تعاني من مشاكل في السمع
تخلت سيرين عن فكرة العمل وركزت على حياتها
الباهتة كالسيدة نصران تعيش في ظلال الوحدة والصمت
جلست في المنزل وحيدة حتى حلول الليل والأرق يلتهمها من الداخل
رن الهاتف بجانب سريرها وكان اتصالا من رقم غير مألوف
ردت على المكالمة بصوت مهتز وجاءها صوت مألوف تخشى سماعه
هل هذا سيرين ظافر مخمور هل يمكنك أن تأتي لاصطحابه
وصلت سيرين إلى النادي لتسمع ضجيج الهتافات والسخرية العالية من الورثة الأثرياء داخل الغرفة الخاصة
كانت دينا المرأة الجميلة ذات الشعبية الطاغية محاطة بالإعجاب أينما ذهبت حب ظافر الأول لذلك كان الأثرياء الشباب من الطبقة العليا يهللون لها ولظافر
دينا لم تتردد نظرت إلى ظافر بعينين لامعتين وقالت بصراحة
أنا معجبة بك يا ظافر أرجوك كن معي مرة أخرى
كان قلب سيرين يتقلص من الألم ترى حب ظافر يتجدد أمام عينيها وتشعر بالعجز والضعف يغمرانها وكأن كل قطرة مطر في تلك الليلة تعزف على أوتار قلبها المرهف
هذا ما وصل إلي أذني سيرين عندما وقفت عند باب الغرفة الخاصة
داخل الغرفة كان الجميع يضغطون على ظافر ليجيب دينا وكان طارق صديقه المقرب هو الأكثر صراحة بينهم
ظافر لقد انتظرت دينا ثلاث سنوات ها هي عادت الآن لذا هيا أجبها!
وفي تلك اللحظة فتح أحد الرجال الباب
السيدة نصران
نظر الجميع في الغرفة الخاصة نحو الباب وكأن الزمن توقف لحظة وغمر المكان صمت ثقيل وكأنما الزمن قد تجمد... الأعين جميعها تتأمل ما سيحدث بعد تلك اللحظة المشحونة بالتوتر.
كانت سيرين أول من رأت ظافر الذي يقف في وسط الغرفة وعيناه متوهجتان بنقاء وصفاء وشعاع من الأمل يلمع فيهما الأمر الذي بدا غريبا مقارنة بما كان يعتقد وما كان جليا للأعمى هو أن ظافر لم يكن تحت تأثير الخمر كما كان يظن الجميع.
فجأة أدركت سيرين أنها قد سقطت في فخ الخداع الذي نصبته لها دينا وأن كل شيء كان مجرد تمويه لا أكثر.
وفي اللحظة التي التقت فيها عيون سيرين بعيني ظافر لاحظت انقباض حدقتيهما وكأنما ارتجفت نياط قلبه عند رؤية ما لم يكن يتوقعه.
إحساس غريب سيطر على الجميع شعور بالحرج لا يمكن إخفاؤه حتى طارق الذي كان أكثرهم إصرارا على إقناع ظافر بقبول اعتراف دينا في وقت سابق بدا مشوشا.
وتساءلت سيرين في نفسها كيف يمكن أن يكون الوضع بهذه الفوضى كيف لم تكتشف خداع دينا في الوقت المناسب ولماذا قررت التوجه إلى هنا
فجأة كسرت دينا الصمت الذي غلف المكان بحديثها محاولة تفسير الموقف
من فضلك سيرين لا تسيئي الفهم... طارق كان يمزح فقط... أنا وظافر مجرد أصدقاء
لكن قبل أن تتمكن سيرين من الرد نهض ظافر بسرعة واضعا حدا للكلمات الزائفة التي كانت تملأ الغرفة... مردفا بصوت جاف غير آبه بكل ما قيل
لا حاجة لشرح الأمر لها.
ثم اتجه نحو سيرين مباشرة وهو يحمل في عينيه نظرة من الاستفهام والريبة... يسألها بنبرة حادة
ماذا تفعلين هنا
أجابته سيرين بصدق رغم الارتباك الذي يملؤها
اعتقدت أنك كنت في حالة سكر فقررت أن أتي لأخذك إلى المنزل.
سخر ظافر في تهكم ثم أضاف وهو يكاد يخفي غضبه
أنت حقا لم تفهمي شيئا مما قلته لك أليس كذلك
ثم خفض صوته وأصبح أكثر هدوءا لكن كلماته كانت كالسياط على قلبها
هل جئت هنا لتذكري الجميع بأنني خدعت للزواج منك قبل ثلاث سنوات هل ظننت أنهم نسوا ذلك
سقطت كلمات ظافر كالصاعقة على رأس سيرين وكأن قلبها قد توقف عن الخفقان للحظة إذ بدت مذهولة تماما.
ألقى ظافر على سيرين نظرة باردة كان فيها قسۏة لا تخطئها العين قبل أن ينطق بكلمات مثل السم
توقفي عن البحث عن الاهتمام. أنت فقط تزيدين من كراهيتي لك.
ثم استدار مبتعدا تاركا إياها تقف هناك وحيدة في خضم صډمتها التي تجمعت في قلبها مثل حجر ثقيل.
لم يكن هناك من يرمقها بنظرة تعاطف في تلك الغرفة ولا حتى من الشباب الذين شاهدوا الموقف باستهزاء بارد.
حتى طارق الذي كان يتظاهر ببعض الشفقة لم يجد حرجا في أن يقول لدينا بصوت مليء باللامبالاة
أنت حقا لطيفة دينا. لم يكن عليك تبرير
أي شيء.
ثم أضاف وكأن قلبه خالي من أي ملامح الرحمة
لو لم تقم سيرين بخداع ظافر لكان قد تزوجك منذ البداية ولما كنت بحاجة للمعاناة في الخارج.
رغم الرنين الذي يدوي في أذني سيرين إلا أنها كانت قادرة على سماع كل كلمة بوضوح وكأنها رسمت على شفاههم.
سيرين تعلم جيدا أنها حتى لو لم تتزوج من ظافر فهو لم ولن يقدم على الزواج من دينا إنها حقا لم تكن لتستحق مكانة كهذه امرأة مثل دينا لا تستحق أن تكون زوجة نبيل مثل ظافر نصران.
دينا التي لم يكن لها من خلفية وأصل ونسب سوى كونها لا شيء دينا بذاتها كانت تدرك هذه الحقيقة كما تدركها سيرين لهذا اختارت دينا أن تبتعد عن ظافر مغادرة البلاد بحثا عن حياة أخرى.
كيف تحولت الأمور إلى كون كل شيء خطأ كانت سيرين هي المتسببة به كيف أصبحت هي الملامة
خرجت سيرين مسرعة من النادي وهي تحمل مظلتها وكأنها تسير في بحر من الظلام.
فجأة ظهرت بجانبها شخصية رشيقة تتحرك بخفة كالظل... كانت دينا التي ترتدي ملابس أنيقة وحذاء بكعب عال تعكس ثقة زائفة تتناثر منها.
قالت دينا بلهجة متغطرسة وكأنها تجيد استعراض انتصاراتها الصغيرة
إنها ليلة باردة أليس كذلك كيف تشعرين الآن بعد أن سخر منك ظافر بعدما جئت إلى هنا في هذا الوقت المتأخر لتبحثي عنه
لم تجب سيرين لكن دينا لم تكترث لصمتها بل استمرت في حديثها بلغة مليئة بالازدراء
أشفق عليك كما يفعل الجميع... لا بد وأنك لم تعرفي الحب الحقيقي قط أليس كذلك
ثم تابعت متلذذة بما تراه انتصارا
هل تعلمين أن ظافر كان يطهو لي الطعام بنفسه وعندما كنت مريضة كان
↚
يترك كل شيء من أجل البقاء بجانبي
وتنهدت بمرارة وكأنها تعيد فتح چرح قديم
هل أخبرك ظافر من قبل أنه يحبك انتظري.. لا أعتقد أنه يشعر بك من الأساس.. على العكس معي فهو دوما ما كان يقول لي الكثير من كلمات العشق والغزل طوال الوقت...
استمعت سيرين بهدوء إلى هذيان دينا بينما تسللت أفكارها إلى السنوات الثلاث التي مضت منذ زواجها من ظافر. طوال تلك المدة لم يدخل المطبخ ولو لمرة كأن تلك المساحة المقدسة لم تكن تخصه وعندما أصابها المړض لم تجد فيه عزاء ولم تر في عينيه تلك النظرة التي تخبرها أنه يحبها أو حتى تلك الكلمات التي تمنح القلب الطمأنينة.
في هذه الليلة التي كانت ثقيلة كأنها آلاف السنين لم تستطع سيرين أن تغفو فقد اكتشفت للتو أن الرجل الذي منحته قلبها طيلة اثني عشر عاما كان يعشق امرأة أخرى بكل جوارحه كما يعشق الشاب البكر حبه الأول بكامل نضجه واندفاعه.
في تلك اللحظة القاسېة سقطت على قلبها الحقيقة
الثقيلة كالصخر لقد حان وقت الفراق.
مرت على سيرين ليلة من الأرق العميق كانت فيها تحاول ترتيب مشاعرها ولم تجد لها سلوى لها سوى الحزن والعجز.
في صباح اليوم التالي عاد ظافر إلى المنزل وكانت نظرة عينيه إليها باردة كما العادة جبل من جليد خال من أي مشاعر أو اهتمامات.
ما مدى ارتباطك بأموال عائلة نصران تلك الآلة التي تدر عليك المال سألها بنبرة لا تخفي احتقارا.
اڼصدمت سيرين فقد كان السؤال مفاجئا لم تفهم ما الذي دفعه لطرح هذا السؤال في هذا الصباح الباكر.. لكن رد فعلها جاء عفويا كما لو أن غرائزها قد نطقت قبل أن تدرك.
قالت وهي تحاول أن تحافظ على رباطة جأشها
لم أكن يوما طامعة في أموالك.
لقد أرادت ظافر فقط بكل ما في الكلمة من معنى... ولكن هل لفاقد الحس أن يشعر.
ظافر بابتسامة ساخرة مشوبة بالازدراء رد قائلا
إذا لماذا جاءت والدتك إلى مكتبي وتوسلت إلي أن أمنحك طفلا
كانت سيرين متصلبة من وقع صډمتها بأمها التي حطت من كبريائها أمامه وأخذت تحدق في عيني ظافر بذهول إذ لم تتوقع أنه لم يكن غاضبا مما حدث في الليلة الماضية فعلى ما يبدو أن ظافر لم يرغب في إضاعة وقته معها فصاح بنبرة حادة
إذا كنت ترغبين في الاستمرار معي وضمان بقاء عائلتك على قيد الحياة فعليك أن تخبري والدتك بأن تتصرف بشكل لائق!
في نهاية المطاف لم يكن لسيرين حاجة في البحث عن سارة فقد جاءت سارة إليها بنفسها وقد تبدل أسلوب أمها من البرود والجفاء إلى التفهم واللطف وهذا أمرا لم ينطل على سيرين إذ لم تعهد والدتها على هذا النحو قط فهي اعتادت معاملتها بقسۏة كما جميع من حولها.
أمسكت سارة بيدي سيرين برقة وقالت بصوت هادئ
سيرين عليك أن تطلبي من ظافر أن يمنحك طفلا... ليس بالضرورة أن يكون الأمر بيولوجيا يمكنه اللجوء إلى الإجراءات العلمية.
سرت بسيرين رعشة من الدهشة وهي تحدق في سارة بينما استمرت الأخيرة في حديثها
أخبرتني دينا أن ظافر لم يقم بعلاقة معك منذ ثلاث سنوات.
كانت تلك الكلمات القشة التي قصمت ظهر سيرين فقد تساءلت في داخلها لماذا أخبر ظافر دينا بذلك... ربما كان يحبها بصدق شديد... مع هذا التفكير شعرت بالإحباط فقالت
اتركي الأمر يا أمي لا فائدة من ذلك.
توقفت سارة وعقدت حاجبيها بتعجب وقالت
ماذا
أجابت سيرين بنبرة متعبة أثر معانتها مع قلب جاحد لا يلين
أنا متعبة أريد الحصول على الطلاق. وقبل أن تتمكن من إنهاء عبارتها صڤعتها سارة بقوة على وجهها.
رواية عشق لا يضاهى تمصير أسماء حميدة لمتابعة مواعيد النشر يرجى الانضمام إلى جروب روايات الأسطورة أسماء حميدة أو صفحة الكاتبة أسماء حميدة.
اختفت تلك الواجهة الأمومية اللطيفة في لحظة... وأشارت بإصبعها إلى سيرين وقالت بحدة
ليس لك الحق في طلب الطلاق!
ماذا تعتقدين أنك ستفعلين بدون عائلة نصران من سيتزوج مرة أخرى مطلقة معاقة مثلك
شعرت سيرين بخدر يجتاح جسدها بسبب ما تفوهت به أمها... كلمات كانت كالسهم المسمۏم الذي غادر مشد القوس لينغرز بصدرها.
لم تكن سارة تحب سيرين أبدا حتى عندما كانت طفلة... كانت سارة راقصة مشهورة وإنجابها لطفلة تعاني من مشاكل في السمع كان أحد أكبر أسباب ندمها... لذلك أرسلت سيرين إلى مربية لتعتني بها ولم تسمح لها بالعودة إلى المنزل إلا عند التحاقها بالمدرسة.
كان الناس يقولون لسيرين إن كل أم تحب طفلها إذا كان مميزا لذا بذلت كل ما في وسعها لتتفوق في كل شيء على أمل إسعاد سارة.
وعلى الرغم من مشاكل السمع التي تعاني منها كانت سيرين من أوائل طلاب صفها في دروس الرقص والموسيقى والفن. ومع ذلك فرغم كل الجهود التي بذلتها لم تعتبرها سارة ابنة جيدة بل ظلت سيرين من وجهة نظر سارة ابنة غير محبوبة طفلة غير كاملة ليس فقط جسديا بل أيضا في الحب والعلاقات الأسرية.
بعد أن غادرت سارة استخدمت سيرين بعض الماكياج لتغطية البصمة الحمراء على وجهها فقد كان كل إصبع من يد سارة تاركا علامة ظاهرة على وجهها الطفولي البريء ثم بدأت بحزم حقائبها بهدوء.
ابتسمت سيرين بخيبة فحتى بعد مرور ثلاث سنوات على زواجها كانت جميع أغراضها الشخصية لا تتعدى حقيبة واحدة.
بعد أن انتهت من حزم أمتعتها جمعت شجاعتها وأرسلت رسالة إلى ظافر
هل أنت متاح الليلة أريد التحدث إليك.
لم يرد عليها ظافر... فأظلمت عينا سيرين فقد كانت تعلم أنه لا يريد الرد على رسائلها ولكن ما الجديد أنه لا يهتم لأمرها أبدا.
كل ما كان بوسعها فعله هو انتظار عودته إلى المنزل في الصباح... لقد ظنت أنه لن يعود إلى المنزل في تلك الليلة لكنه عاد عند منتصف الليل.
لم تكن سيرين نائمة في تلك اللحظة... فتوجهت نحوه بخطوات واثقة وأخذت معطفه وحقيبته بحركة عفوية تحمل الود والألفة وكأنهما زوجان عاديان.
وبصوت بارد كسر ظافر سلام وصفو اللحظة قائلا
لا ترسلي لي رسائل نصية سخيفة مرة أخرى.
بينما كانت سيرين تمسك بمعطفه ارتجفت يدها قليلا وتمتمت
لن أفعل ذلك مرة أخرى.
لم يلاحظ ظافر أي تردد في نبرتها فتوجه مباشرة إلى مكتبه كعادته عند عودته إلى المنزل... ربما كان يعتقد أن من يعاني من ضعف السمع يعيش في عالم صامت أو ربما ببساطة لم يهتم بأمر سيرين.
هذا ما يفسر توجهه الفوري لمناقشة استحواذه على مجموعة تهامي في مكتبه وكأن شيئا لم يحدث.
عندما أحضرت له سيرين بعض الحساء سمعت صوت ظافر يناقش العمل بحيوية مع موظفيه يتحدث عن الاستحواذ على شركة تهامي جروب شركة والدها جمال تهامي... لم تكن تعرف كيف تشعر حيال ذلك... إذ كانت تعلم أن شقيقها تامر
تهامي عديم الفائدة في إدارة الأعمال وفي هذه الحالة فإن الأمر مجرد مسألة وقت قبل سقوط مجموعة تهامي. لكنها لم تتخيل أبدا أن يكون زوجها هو المتسبب الأول في هذا السقوط.
كفى قاطعته.
أصيب ظافر بالصدمة وبسبب شعوره بالذنب أو ربما بسبب عاطفة أخرى أغلق الهاتف بسرعة وأغلق الكمبيوتر المحمول متظاهرا بالجهل فتقدمت سيرين إلى غرفة مكتبه ووضعت الوعاء أمامه.
تناول بعض الحساء ثم اذهب إلى الفراش قريبا... صحتك أهم من العمل. قالتها سيرين بحب حقيقي رغم خنجر خيانته وجفاءه الذي شق به ضلوعها بعدما سمعت مخططه الدنيء.
لسبب ما شعر ظافر بالاسترخاء عندما سمع صوتها الناعم ظنا منه أنها ربما لم تسمع شيئا.
وبصوت مرتبك أوقف ظافر سيرين قبل أن تتمكن من المغادرة يسألها مراقبا تعبيرات وجهها بتمعن
لقد قلت أنك تريدين التحدث معي... ما الأمر
عندما سمعت سيرين هذا التفتت إليه وقالت بهدوء
أردت فقط أن أسألك إذا كنت متفرغا في الصباح حتى نتمكن من الذهاب وتقديم طلب الطلاق.
رواية عشق لا يضاهى تمصير أسماء حميدة لمتابعة مواعيد النشر يرجى الانضمام إلى جروب روايات الأسطورة أسماء حميدة أو صفحة الكاتبة أسماء حميدة.
كان صوت سيرين هادئا خاليا من أي مشاعر وكأن الطلاق لا يعني لها شيئا سوى مسألة تافهة.
انقبضت حدقة عين ظافر وتوتر صوته ماذا قلت للتو
على مدى السنوات الثلاث الماضية ورغم كل ما فعله لم تلمح سيرين يوما إلى الطلاق.
كان ظافر يدرك في أعماقه أن سيرين تحبه بل تعشقه... لكن الآن كانت عيناها اللتان اعتاد أن يرى بهما لمعة شغفها به أصبحتا تشعان بريقا وصفاء وكأنها تعي معنى طلبها توا إنها ترغب حقا بالانفصال عنه! سؤال ضج به رأسه وزادتها عندما قالت بنبرة حازمة
↚
أنا آسفة لأنني كنت عبئا عليك خلال السنوات القليلة الماضية سيد نصران. حان الوقت لننفصل.
زم ظافر شفتيه فبدت كخط مشدود يمسك بذراعها دون وعي يقول بتوتر أعصاب ظاهر عجزت سيرين عن تفسيره
لقد سمعت ما قلته قبل قليل عبر الهاتف أليس كذلك ألهذا تتفوهين بالحماقات! أسمعيني جيدا مجموعة تهامي على وشك الإفلاس ولا يهم من سيشتريها سواء كنت أنا أو أي شخص آخر انظري بعيني واخبريني ما الذي تحاولين تحقيقه بإثارة قضية الطلاق الآن هل تسعين للحصول على المال أم أنك تريدين الطفل أم تريدين أن أترك مجموعة تهاميال
سألها ببرود مضيفا بنبرة حادة وأعين زائغة يريد إخفاء شيء ظهر بهما دون سابق إنذار ولكن ما تفوه به لربما يناقض شعوره الآن
لا تنسي أنني لا أحبك. تهديداتك لن تجدي نفعا معي!
في تلك اللحظة بدا ظافر وكأنه شخص غريب عليها ابتلعت لتزيل كتلة مريرة قد تشكلت بحلقها وبدأت أذناها تنبضان بقوة وبالرغم من أنها كانت ترتدي سماعات الأذن ولكنها بالكاد استطاعت سماع كلماته المتناثرة لم تسعفها الكلمات لتتمكن من التعبير عن مدى الخذلان الذي تسلل إلى قلبها عقب معاملته القاسېة لها ولم تتمكن من الرد سوى على سؤاله الأخير فأردت تقول بإيجاز
لا أريد شيئا.
وخوفا من أن يلاحظ شيئا خاطئا بها غادرت سيرين المكتب بسرعة وقلبها يعصف بنوب قهر لم تشعر بها من قبل وعندما شاهدها ظافر وهي تبتعد تاركة إياه خلفها دون أن تلتفت أخس بإحباط غريب لم يعهده من قبل...
أخذ ظافر يدور حول نفسه متخصرا يزفر أنفاسه بتتابع كتنين ثائر غير قادر على كبت مشاعره فاڼفجر غاضبا ليركل الطاولة بقدمه فانقلبت رأسا على عقب لينسكب وعاء الحساء الذي أحضرته سيرين على الأرض.
عادت سيرين إلى غرفتها تمسك بعلبة الأقراص التي وصفها إليها الطبيب تدس بعض منها بفمها مكرهة ثم مدت يدها لتلمس أذنها وعندما سحبت أصابعها رأت نز فا كأثر جانبي للدواء الذي تناولته توا.
ومن ثم انسحبت تندس بسريرها متكومة على حالها متخذة وضع الجنين تكتم شهقاتها بكلا راحتيها وهي تنعي قلبا مكلوما عشق جاحدا لا يلين.
تعافى سمعها قليلا بحلول الفجر رمشت بأهدابها الكثيفة التي تزين عينين خضراوين زاهيتين مكحلتين
بسواد رباني يخر له الناسك ساجدا ما عدا من ملك قلبها فهو لا يرى بها وجمالا أو هكذا ظنت.
حدقت في أشعة الشمس الناعمة المتدفقة من النافذة بلا تعبير... تتمتم لنفسها بهدوء
لقد توقف المطر
في ذلك اليوم لم يغادر ظافر القصر... بل ظل جالسا في غرفة المعيشة على الأريكة ينتظر اعتذار سيرين وتعبيرها عن أسفها... لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تفقد فيها سيرين أعصابها معه... ومع ذلك بعد كل نوبة ڠضب كانت تعتذر له بعد فترة وجيزة... فأعتقد ظافر أن الأمر سيكون نفسه هذه المرة.
بعد قليل رأى سيرين تخرج من غرفتها وقد انتعشت تماما وكأن شيء لم يكن... كانت ترتدي ملابسها الداكنة المعتادة وتحمل حقيبة سفر بيدها بينما تمسك بيدها الأخرى ورقة.
أعطته الورقة التي كانت عبارة عن اتفاقية طلاق تتنازل بها عن كافة حقوقها الشرعية بما في ذلك مؤخر صداقها المبالغ به تقول ببرود مصطنع
اعلمني عندما يكون لديك الوقت ظافر.
بعدما غادرت القصر سحبت حقيبتها خلفها متوجهة نحو بداية جديدة في حياتها.
كان الجو في الخارج مشرقا ومشمسا بعد ليلة مطيرة غائمة وكأن الطبيعة نفسها تبارك انطلاقتها نحو الحرية.
شعرت سيرين بأن الحياة منحتها فرصة جديدة فرصة لكتابة فصل جديد من وجودها بعيدا عن الظلال القاتمة التي كانت تحاصرها.
في هذه الأثناء كان ظافر جالسا كالصنم على الأريكة يمسك باتفاقية الطلاق في يده وكأنها وثيقة تثقل كاهله بماض لا يرحم ومستقبل خاو بدونها... شعور بارد تسلل إلى أوردته لبعدها ولا يجد له تفسيرا.
ظلت صدمة رغبتها بالانفصال عنه تعصف بكيانه وكأنها رياح عاتية تجرف ما تبقى من استقراره الداخلي.... مضى وقت طويل قبل أن يتمكن من استيعاب ما حدث ليعود إلى وعيه المثقل بالألم والندم.
كان اليوم يوم السبت وفي مثل هذا الوقت من العام كان ظافر يأخذ سيرين إلى مسقط رأسه لتقديم واجب العزاء للأسلاف. كانت تلك الزيارة السنوية دائما تفرض عليهما مواجهة نظرات العائلة المتطفلة وتحمل الأحاديث الجانبية والنقد المبطن. ولكن اليوم كان وحده يغمره شعور غريب لم يستوعبه بعد.
في قصر نصران استقبلت شادية وبقية أفراد العائلة ظافر بدهشة إذ لم يتوقعوا رؤيته وحيدا... في السابق كانت سيرين دائما الحاضرة الأولى... والأخيرة التي تغادر تسعى جاهدة لإرضاء الجميع... ولكن اليوم غابت وتركت خلفها فراغا ملموسا.
اقتربت شادية من ظافر وعبست تسأله بقلق
ظافر!! أين سيرين
نظر إليها ظافر بتعبير وجه بارد جاهد في استحضاره وقال بصوت خاڤت
أرادت الطلاق... وتركتني.
ساد الصمت المكان وصدمت العائلة من وقع كلماته... كانت شادية تعلم أن حب سيرين لظافر يتجاوز كل شيء ولم ينافسها في حبه سوى والديه ولكنها تفوقت عليهما بمراحل إنها تتنفسه.
قبل سبع سنوات قامت سيرين بحماية ظافر بجسدها نقلت على إثرها إلى إحدى غرف العناية المركزة بعدما خضعت إلى جراحة
خطړة استمرت لست ساعات متواصلة حتى أنقذتها العناية الإلهية أو ربما كان ذلك تكليل من المولى لإخلاصها في حبه.
ومنذ أربع سنوات بعد خطوبتهما بقليل تعرض ظافر لحاډث خلال رحلة عمل في دبي وكان الجميع يعتقد أنه ماټ لكن سيرين رفضت التصديق وتركت كل شيء وذهبت تبحث عنه في المدينة بأكملها.
بعد زواجهما اعتنت سيرين بكل تفاصيل حياته تعاملت بأدب مع كل من حوله حتى سكرتيراته خوفا من أن تتسبب في إحراجهم. كان واضحا أن سيرين لا تستطيع العيش بدون ظافر. إذن لماذا اقترحت الطلاق هذا سؤال دار بخاطرك كل من استمع
↚
إلى حديث ظافر.
لم يكن لدى شادية أي فكرة لكنها كانت سعيدة لأن سيرين قررت أخيرا السماح لظافر بالطلاق بل سعت بنفسها لذلك وحررته من قيود إجراءاته المكلفة من وجهة نظر امرأة مادية كشادية وهذا على الرغم من الثراء الفاحش لعائلة نصران فهللت بفرحة
إنها لا تستحق أن تكون زوجتك على أية حال. من الجيد أنك ستطلقها. إنها لا تستحقك قالتها وتدخل الآخرون على الفور.
نعم أنت شاب ووسيم ظافر... أنت في أفضل سنوات عمرك الآن... كانت سيرين تجرك إلى الأسفل طوال هذا الوقت!
وفجأة تحول التجمع إلى مهرجان للتشهير وتحدثوا عن سيرين كما لو كانت مچرمة لا تغفر ذنوبها.
كان ينبغي أن يشعر ظافر بالسعادة لأنهم كانوا يدافعون عنه ولكن لسبب ما وجد كلماتهم حادة ووقحة للغاية.
غادر ظافر قصر نصران في وقت أبكر من المعتاد واتجه عائدا إلى قصره.
السماء بدأت للتو في إسدال ستائر غيومه عندما وصل إلى المنزل... فتح الباب ودخل القصر... وعندما لم ير شيئا سوى الظلام تذكر فجأة أن سيرين قد غادرت... غير ملابسه إلى ثوب منزلي مريح وألقى معطفه في الغسالة.. ولسبب ما شعر بإرهاق غير عادي اليوم.
ذهب إلى قبو النبيذ ليحصل على زجاجة حتى يتمكن من الاحتفال الزائف برحيل سيرين ... ولكن عندما وصل إلى قبو النبيذ ورأى الباب مغلقا أدرك بعد فوات الأوان أنه لا يملك المفتاح.
لم يكن ظافر يحب الغرباء في منزله لذا لم تكن هناك خادمات أو مساعدات في قصره... ومنذ أن تزوج سيرين كانت هي من تعتني بشؤون المنزل.
لم يكن بوسعه سوى العودة إلى غرفته... والتقط هاتفه ليتصفح رسائله فقط ليجد نصوصا متعلقة بالعمل... ألقاه بنزق عندما لم يجد اتصالا من سيرين كما أنها لم ترسل له رسالة نصية للاعتذار على الإطلاق.
تأفف بضيق وتوجه إلى المطبخ وعندما فتح باب الثلاجة أصيب بالذهول إنها امرأة كاملة لقد تركت له بالإضافة إلى الطعام الكثير من المكملات الغذائية.
وفجأة تحولت معالم وجهه من الحنين إلى السخرية وذلك عندماعالتقط أحد الأكياس وقرأ التعليمات الموجودة عليها
يجب عليا تناوله مرتين يوميا لعلاج العقم.
العقم!
استنشق رائحة المكمل الغذائي وكانت رائحته مقززة... لقد تذكر للتو
كيف كانت سيرين ذات رائحة غريبة لذا كان هذا هو السبب... سخر منها بصمت. لم يسبق لهما ممارسة علاقة زوجية من قبل لذا مهما تناولت من أدوية فلن تحمل أبدا... إنها حتما مچنونة... هذا ما تفوه به ظافر وهو يهز رأسه بيأس من تصرفاتها الخراء.
عشق لا يضاهى تمصير أسماء حميدة لمتابعة مواعيد النشر يرجى الانضمام إلى جروب روايات الأسطورة أسماء حميدة أو متابعة صفحة روايات أسماء حميدة.
في فندق مظلم وصغير فتحت سيرين عينيها بصعوبة... رأسها ينبض بقوة كان العالم من حولها صامتا. أدركت حينها أن حالتها ساءت مرة أخرى.
قبل ذلك كانت لا تزال قادرة على سماع بعض الأصوات حتى من دون أجهزة السمع الخاصة بها.
دفعت نفسها إلى أعلى وتحسست الطاولة بجوار السرير حتى وجدت الدواء الذي تحتاجه... وضعت الحبوب في فمها وتذوقت مرارته أو ربما مرارة قلب مكسور.
في اليوم السابق غادرت قصره الذي كان منزلها طيلة السنوات الثلاث الماضية. في البداية ذهبت إلى منزل والديها منزل تهامي.
عند الباب وقبل أن ترفع قبضتها الرقيقة لتطرقه استمعت إلى والدتها سارة وأخوها تامر يناقشان كيف سيقومان بتزويجها لرجل يبلغ من العمر 78 عاما إذا طردها آل نصران في هذه الأثناء فقدت سيرين صوابها عندما سمعت ذلك... وحينها أدركت أخيرا أنها لم تعد تمتلك مكانا لتسميه موطنا.
نهضت بضعف وعلى الرغم من أنها لم تأكل أي شيء لمدة يومين إلا أنها لم تشعر بالجوع... كان المكان هادئا جدا وصمته المطبق بعث الخۏف بقلبها المنقبض... لقد زاد هطول الأمطار في المدينة هذا العام بشكل متكرر أكثر مما كانت عليه في السنوات السابقة من هدر نابضها.
حدقت سيرين بالمشاة عبر نافذة الغرفة الذين كان معظمهم يتنزهون أزواج أو في مجموعات... ابتسمت بحزن فهي الوحيدة المنبوذة التي ظلت تعيش حياتها داخل قوقعة بمفردها.
ارتدت ملابسها وغادرت الفندق قاصدة محطة القطار لتشتري تذكرة حافلة لتغادر المدينة وقررت الذهاب إلى منزل مربيتها في الريف.... كانت مربيتها فاطمة تعتني بها عندما كانت طفلة.
كانت الساعة التاسعة مساء عندما وصلت سيرين... وحالما رأتها فاطمة بدت مندهشة بشكل سار.
انهمرت دموع سيرين عندما رأت ابتسامة فاطمة الدافئة. مدت يدها إليها وعانقتها... تقول بنشيج أمي.
بسبب مشاكل صحية لم تتزوج فاطمة قط ولم تنجب أطفالا... لذا كانت فاطمة أقرب إلى سيرين من والدتها.
في تلك الليلة احتضنت سيرين مربيتها.. تماما كما كانت تفعل وهي طفلة صغيرة بائسة تبحث عن الحنان والعطف... لفت فاطمة ذراعيها حول سيرين لتدرك أن الأخيرة كانت نحيفة للغاية وذلك عندما ضغطت بيدها على ظهر سيرين التي ترتجف بشكل لا يمكن السيطرة عليه.
أجبرت فاطمة نفسها على الهدوء تحاول تجاهل الحالة التي عليها صغيرتها وسألت بحذر
هل كان ظافر يعاملك جيدا سيرين
شعرت سيرين پألم حاد في حلقها عندما
سمعت اسم ظافر... وأرادت أن تكذب على فاطمة وتخبرها أن ظافر كان يعاملها بشكل جيد لكنها كانت تعلم أن فاطمة ليست غبية.
وبما أنها قد قررت بالفعل تركه لم تعد هناك حاجة للكذب على نفسها أو على الأشخاص الذين يحبونها.
لقد انتهت أيامه وعاد الشخص الذي يحبه... لقد قررت أن أتركه وطلبت الطلاق.
أصيبت فاطمة بالذهول ولم تستطع أن تصدق ما سمعته... فقد أخبرتها سيرين عدة مرات من قبل أنها تريد أن تقضي بقية حياتها مع ظافر.
ولأن فاطمة لم تكن تعرف ماذا تقول لتعزية سيرين أردفت قائلة لها
إن هناك الكثير من الأسماك الأخرى في البحر ولا بد أن يكون هناك سمكة واحدة ستحبك كما أنت سيرين لا تبتأسي صغيرتي إنه أحمق لا يعرف قيمتك.
أومأت سيرين برأسها بصمت... إذ كان الطنين في أذنيها يحجب صوت فاطمة المريح... في تلك الليلة تمكنت سيرين من الحصول على قسط من النوم الجيد وهو أمر نادر الحدوث.
ولكن عندما استيقظت لمست سيرين أذنها اليمنى وشعرت بأصابعها لزجة... وأخذت تنظر إلى يدها الملطخة .... و
انتظرونا في حلقة جديدة من عشق لا يضاهى تمصير أسماء حميدة لمتابعة مواعيد النشر يرجى الانضمام إلى جروب روايات الأسطورة أسماء حميدة أو متابعة صفحة روايات أسماء حميدة.
العاطفة 4
حتى سماعات الأذن خاصة سيرين كانت ملطخة باللون الأحمر مما أثار في نفسها موجة من القلق والانزعاج.
انقبضت حدقتا عينيها وسرعان ما أمسكت ببعض المناديل الورقية لتجفف أذنيها ثم خلعت ملاءات السرير وغسلتها بعناية فائقة.
كانت خشيتها من أن تقلق فاطمة إذا اكتشفت أن حالتها الصحية تتدهور فبادرت بتنظيف الفوضى وابتكرت عذرا لتوديع فاطمة دون إثارة الريبة... وقبل أن تغادر وضعت جزءا من مدخراتها على طاولة السرير بهدوء دون أن تخبر فاطمة بما فعلت.
رافقتها فاطمة إلى محطة الحافلات ولوحت لها مودعة إياها بحزن واضح.
بعد رحيل سيرين لم تستطع فاطمة التوقف عن التفكير في مدى نحافة سيرين وتزايد قلقها عليها... ولكنها لم تكن قادرة على البقاء مكتوفة الأيدي فاتصلت بمكتب مجموعة نصران.
عندما علمت السكرتيرة بأن المتصلة هي فاطمة مربية سيرين وأنها ترغب في التحدث مع سيدها حولت المكالمة على الفور إلى خطه المباشر.
بينما كان ظافر جالسا بعنجهية خلف مكتبه الفخم يدير أعماله بحنكة ولكنه ما بين الحين والآخر يجتسه من بين أفكاره شيء يذكره بها ها هو ملف قدمته إليه مديرة مكتبه بلون سيرين المفضل... وتلك الرائحة المنبعثة من فنجانه تشبه رائحة القهوة التي كانت تعدها له سيرين... و... و...
طرق ظافر بقلمه أعلى سطح مكتبه يحصي أيام فراقها... ذلك اليوم هو الثالث منذ رحيلها وتلك هي المكالمة الأولى التي يتلقاها بشأنها.
كان ظافر جالسا خلف مكتبه عندما تم تحويل المكالمة إليه يشعر بارتياح غريب... فكما توقع لم تتمكن سيرين من البقاء بعيدا عنه لأكثر من ثلاثة أيام أو هكذا اعتقد.
جاءه صوت فاطمة عبر الخط محملا بملامح الزمن والتجارب
السيد نصران أنا مربية سيرين وقد كنت أعتني بها منذ كانت طفلة... أرجوك بل أستحلفك أن تعاملها بلطف ولا تؤذها أكثر مما فعلت... إنها ليست قوية كما تبدو... فعندما ولدت تركتها السيدة تهامي تحت رعايتي لأنها لم تحتمل ضعف سمعها... ولم تعد سيرين إلى المنزل إلا عندما بدأت المدرسة... لم يعاملها آل تهامي قط كواحدة من أفراد العائلة... وباستثناء السيد تهامي كان الجميع يعاملونها كخادمة... أنت والسيد تهامي الشخصان الأهم في حياتها... أرجوك من فضلك كن لطيفا معها.
تبدل مزاج ظافر عندما سمع ما قالته فاطمة يجيبها ببرود شديد
هل طلبت منك أن تخبريني بهذه القصة الحزينة لأنها لا تريد مواجهتي لماذا يجب أن أهتم بحياتها إذا سألتني فهي تستحق ما حدث لها!
كان يشعر بوخزة في قلبه جراء ما حدث مع تلك المسكينة ومع ذلك أنهى المكالمة دون انتظار ردها.
سمعت فاطمة سيرين وهي تتفاخر بلطف ظافر معها لذا أدركت الحقيقة حينها فقط ظافر لم يكن رجلا صالحا على الإطلاق ولم يكن زوجا صالحا لسيرين.
جلست سيرين في الحافلة متجهة إلى المنزل وفي تلك اللحظة اهتز هاتفها. كانت رسالة من
↚
ظافر.
قلت أنك تريدين الطلاق أليس كذلك سأراك في الساعة العاشرة صباحا غدا.
حدقت سيرين في النص بلا تعبير لفترة من الوقت قبل الرد بكلمة واحدة فقط حسنا.
لقد أثار ذلك ڠضب ظافر وأفسد مزاجه تماما... ولم يعد قادرا على العمل فاتصل بأصدقائه ودعاهم لتناول المشروبات.
كانت دينا أيضا في النادي عندما وصل... أعلنت لن أعود إلى المنزل حتى أسكر!
جلس طارق بجانب ظافر ولم يستطع أن يمنع نفسه من السؤال بفضول
كيف حال سيرين الصماء
رفع ظافر حاجبه وقال له
ليس هناك حاجة للحديث عنها مرة أخرى... سنرفع دعوى الطلاق غدا.
لقد أصيب طارق بالذهول ولم يستطع أن يصدق ما سمعه... قال مستفسرا
حقا
بجانبهم أشرق وجه دينا... وصبت له كأسا وقالت
تهانينا على استعادة حريتك ظافر!
شرب ظافر الكثير في تلك الليلة... فعرضت دينا عليه أن ترسله إلى منزله لكنه رفض قائلا
لا داعي لذلك هذا غير مناسب.
فكر ظافر قليلا فلو كان هو وسيرين سينفصلان غدا فقد تعود إلى المنزل في تلك الليلة.
لم تكن دينا سعيدة بهذا الرفض... قالت پغضب
لماذا فأنت ستطلقها على أي حال... لماذا لا يكون ذلك مناسبا هل ما زلت خائڤا من أن تكتشف علاقتنا
علاقتهم! ضيق ظافر عينيه وقال
أنت تفكرين في هذا الأمر أكثر من اللازم.
ركب سيارته الخاصة... ومن باب مراعاة مشاعر دينا اتصل بسيارة أجرة لإرسالها إلى المنزل.
وفي طريق عودته إلى المنزل واصل فتح هاتفه ليتحقق مما إذا كانت سيرين قد أرسلت له أي رسائل.. ولكنها لم تفعل ذلك.
عندما وصل إلى قصره كان الظلام دامسا... وبتعبير عاصف فتح ظافر الباب وأشعل الضوء على أمل أن يجدها بالداخل كما كانت دوما ولكن لم يكن هناك أثر لها... لم تكن قد جاءت إلى المنزل... لقد ترك القصر بالضبط كما كان عليه عندما غادرت.
فرك ظافر جبينه بيده يحاول تخفيف شعوره بالألم الذي يضج به رأسه إذ لا يزال يشعر بتأثير المشروب ومن ثم ألقى بثقل جسده على الأريكة وسرعان ما غلبه النعاس.
لم تتركه سيرين يهنئ بنومه إذ فرضت حضورها في كوابيسه لقد رآها مغطاة بالډماء لكن كانت هناك ابتسامة رضا على وجهها... وتردد صوتها بأذنه وهي تقول
لم أعد أحبك يا ظافر.
عندما استيقظ ظافر كانت الشمس قد بدأت تلقي بأشعتها الأولى على الأفق مشيرة إلى بزوغ نهار جديد... جلس في فراشه يفرك جبينه بأصابع متعبة ثم توجه إلى الحمام الذي أعده بنفسه بعناية... وبعد ذلك ارتدى بذلته الأنيقة واتجه صوب المحكمة.
عند مدخل المحكمة لمح سيرين واقفة تحت شجرة قريبة تكسوها ملابس داكنة تزيد من ضعفها... فمن بعيد بدت وكأنها شبح نحيل وسط الرذاذ وكأن نسمة هواء خفيفة قد تطيح بها أرضا.
ظل ظافر يتذكرها في أولى أيام زواجها به تلك الأيام التي كانت فيها سيرين مليئة بالحيوية والنشاط إنها أبدا لم تكن بهذا
الهزال والكآبة.
توجه نحوها حاملا مظلته وعلى ما يبدو أنها لم تلاحظ وجوده إلا بعد بضع لحظات.
تأملته بنظرات وداعا وهي تقر بأن ظافر لم يتغير كثيرا خلال السنوات الثلاث الماضية إذ لا زال يحتفظ بوسامته وثقته بنفسه وقد زادته السنوات نضجا وجاذبية.
أما سيرين فقد كانت مشوشة... السنوات الثلاث الماضية بدت وكأنها لحظة عابرة لكنها استنزفتها بكل ما تملكه من قوة لذا ترغب في خلاصها من عڈاب قرب ظالم گ ظافر.
اقترب ظافر من سيرين ناظرا إليها ببرود كان ينتظر منها اعتذارا... لكن سيرين قالت بصوت هادئ
أنا آسفة لإبعادك عن عملك. دعنا ندخل.
تجمد ظافر بأرضه وكأنه غير مستوعب لما أردفت به توا بل كان يمني نفسه بأنها ستخر راكعة على ركبتيها ترجوه ألا يتركها لكنه سرعان ما استعاد هدوءه... وقال بنبرة جافة
لا داعي للاعتذار. ثم استدار وتوجه إلى قاعة المحكمة.
نظرت إليه سيرين بحزن تتساءل في أعماقها إذا ما كانت ستندم على هذا القرار
في المحكمة سألهم القاضي عما إذا كانا متأكدين من المضي قدما في الطلاق... فجاءت إجابة سيرين حاسمة وواضحة
نعم.
كانت تلك الكلمة تحمل في طياتها الحزم والقوة مما أحبط ظافر وجعله يدرك أن الأمور بينهما قد وصلت إلى نهايتها.
بعد تقديم دعوى الطلاق كان لزاما عليهما العودة إلى المحكمة خلال شهر لحضور جلسة الاستماع... وإذا تخلفا عن الحضور فإن الدعوى ستعتبر ملغاة.
حين خرجا من قاعة المحكمة نظرت سيرين إلى ظافر بوجه هادئ على نحو غير معتاد وقالت
سأراك الشهر المقبل... اعتن بنفسك.
ألقت كلماتها وهي تتهرب بنظراتها عنه ثم استقلت سيارة أجرة تلاشت بين غيمات المطر وغادرت.
بقي ظافر واقفا في مكانه يتابع سيارتها وهي تبتعد دون أن يعي تفسيرا لإحساسه الآن ربما شعر بالارتياح.
شعر بالارتياح لأنه لن يضطر لتحملها أكثر أو تحمل سخرية الآخرين لوجود زوجة معاقة لديه.
رواية عشق لا يضاهى كاملة وحصرية هنا فقط ولمعرفة مواعيد النشر يرجى الانضمام إلى جروب الفيس روايات الأسطورة أسماء حميدة أو متابعة البيدچ الخاصة بي الكاتبة أسماء حميدة.
في سيارة الأجرة استندت سيرين إلى النافذة وحدقت في قطرات المطر المتساقطة على الزجاج بلا تعبير.
فجأة لاحظ السائق في المرآة الخلفية سائل أحمر
↚
يسيل من أذنها فصدمه المشهد. وقال
آنسة آنسة!
هيهات لمن يتحدث! إنها بعالم آخر وعندما لم يأته ردا أوقف السائق السيارة بعجالة.
انتبهت سيرين عندما خفت اهتزاز المحرك فجأة وهي في حيرة من أمرها إنهم لم يصلوا بعد... إذا لماذا توقف
نظرت إلى السائق ورأته يتكلم بصمت... حينها أدركت أنها فقدت السمع مرة أخرى
آسفة لا أستطيع سماعك. ماذا تقول
أخيرا نطقت تنفس السائق الصعداء وإذا به يضطر إلى كتابة ما يريد قوله على هاتفه ليخبرها عن حالة أذنها التي لاحظها.
مدت سيرين يدها متأخرة بفتور وهي تشعر بالإحساس الدافئ على أذنها... إذ اعتادت على ذلك
الآن تتمتم وهي تحبس شفتها السفلى بين قواطعها تتمتم بحرج
لا بأس... هذا يحدث معي دائما... أنا بخير.
رغم معاناتها من فقدان السمع لم يحدث لها نز يف بهذه الطريقة من قبل الأمر الذي جعلها تشعر بالخزي كلما رآها أحدهم وهي على تلك الحالة.
عاودتها الذكريات قبل عامين خلال تجمع بقصر آل نصران حيث دفعها طارق إلى حمام السباحة... لم تكن سيرين تجيد السباحة وكادت أن ټغرق... وفي الوقت نفسه تمز قت طبلة أذنها بسبب ضغط المياه... وعلى الفور نقلت إلى المشفى ولكن الضرر كان قد حدث بالفعل.
حين ذاك وعندما خضعت للفحص قيل لها أن كل شيء على ما يرام. فلماذا يحدث هذا الآن
ظل السائق قلقا فأوصلها إلى أقرب مشفى كما طلبت... وبعد أن شكرته دخلت سيرين من بوابة الطوارئ بمفردها وللصدفة كانت على علم بجميع مداخل ومخارج هذا الصرح الذي ترتاده دوما.
هذه المرة التقت بطبيبها المعتاد تقول
دكتور ياسين ذاكرتي أصبحت سيئة جدا في الآونة الأخيرة... أنسى دائما ما أفعله قالتها وقد استرجعت أحداث قريبة عندما استيقظت في الفندق هذا الصباح إذ استغرقت وقتا طويلا لتتذكر أنها يجب عليها أن تتقدم بطلب الطلاق من ظافر.
نظر ياسين إلى تقريرها الأخير بقلق
السيدة تهامي أعتقد أنه يجب عليك التفكير في إجراء اختبار لأشياء أخرى... على وجه التحديد مشاكل الصحة العقلية.
الصحة العقلية!! أو كان ينقصها! ابتسمت سيرين بكسرة تومأ برأسها وهي تحاول كبح دمعاتها من الانحدار أمام ذاك الذي يرمقها بوله وأعينه تفيض بعشق محكوم عليه بالوئد.
وبناء على توصية ياسين ذهبت سيرين للحصول على تشخيص نفسي... وتبين أنها تعاني من اكتئاب حاد... واكتشفت أن المرضى الذين يعانون من الاكتئاب الشديد غالبا ما يشتكون من فقدان الذاكرة.
قبل أن تعود سيرين إلى الفندق توقفت واشترت دفترا وقلما وبدأت تكتب كل ما حدث مؤخرا... ووضعت الدفتر بجانب سريرها ليكون أول ما تراه عند استيقاظها في الصباح.
انتشر خبر طلاقها من ظافر بسرعة البرق... وفي تلك الليلة اتصلت بها سارة مرارا وتكرارا لكنها لم ترد على اتصالاتها... وعندما استيقظت في الصباح التالي وجدت مجموعة من الرسائل النصية من سارة.
أين أنت
من تظنين نفسك حتى لو كنت ستحصلين على الطلاق كان ينبغي أن يكون ظافر هو من يطلب ذلك!
أنت حقا مصدر نحس! عندما تزوجت تعرض والدك لحاډث سيارة وتوفي... ماذا سيحدث الآن بعد طلاقك هل تريدين أن تعلن مجموعة تهامي إفلاسها هل هذا كل شيء
حدقت سيرين في الرسائل فقد اعتادت الآن على الإساءة اللفظية... وكتبت ردا مختصرا
أمي لقد حان الوقت لنعيش وفقا لمزايانا الخاصة... لا ينبغي لنا أن نعتمد على الآخرين كثيرا.
كان رد سارة سريعا
أنت حقا جاحدة للنعمة! لم يكن ينبغي لي أن أنجبك في المقام الأول!
لم تهتم سيرين بالرد على هذا الكلام بل
وضعت هاتفها جانبا... فقد كانت تعلم أن عليها الانتظار فقط لمدة شهر... وبمجرد انتهاء إجراءات الطلاق ستتمكن من مغادرة المدينة وبدء حياة جديدة حياة اختارتها هي بنفسها بعيدة عن الظلال الثقيلة التي خيمت على ماضيها.
تدهورت صحة سيرين خلال الأيام القليلة التالية فأصبحت تجد نفسها في كثير من الأحيان صماء تماما... وفي بعض الأحيان كانت قدرتها على السمع تستغرق وقتا طويلا حتى تعود إلى طبيعتها... لم يكن الأمر مقتصرا على حاسة السمع فحسب بل كانت ذاكرتها أيضا تتدهور بشكل مقلق.
ولكن على الجانب المشرق وعلى الرغم من أن فقدان السمع كان غير قابل للشفاء إلا أنها استطاعت على الأقل أن تفعل شيئا حيال الاكتئاب الذي كان يثقل كاهلها... إذ جاهدت سيرين بكل ما أوتيت من قوة لإبقاء نفسها سعيدة فقررت الانشغال بالتطوع عبر الإنترنت... وقضت معظم أوقاتها في رعاية المسنين والأيتام المهجورين وكان هذا العمل يمنحها شعورا بأن حياتها لا تزال ذات قيمة ومعنى.
مرت الأيام وسيرين مستمرة في نمط حياتها الجديد... وذات صباح استيقظت كعادتها وراجعت دفتر ملاحظاتها... إذ كانت تستعد للخروج إلى دار الأيتام وذلك عندما لاحظت وجود العديد من الرسائل غير المقروءة على هاتفها... فتحت الرسائل واحدة تلو الأخرى لتكتشف محتواها.
أول رسالة كانت من سارة
كما أردت تماما أيتها الحمقاء مجموعة تهامي لم تعد موجودة.
ثم جاءت رسالة من أخيها تامر
استمري في الاختباء... أنت حقا الشخص الأكثر جبنا وقسۏة الذي رأيته في حياتي.
وأخيرا كانت هناك رسالتان من دينا
أتقدم بخالص التعازي سيرين... في الواقع أعتقد أن مجموعة تهامي ستزدهر بشكل أفضل تحت قيادة حبيبي ظافر... ولكن نظرا لأن عائلتك ساعدتني كثيرا في الماضي فأخبريني إذا كنت بحاجة إلى أي شيء كي أساعدك إذا استطعت. وختمت رسالتها بصورة متحركة لمهرج يخرج لها طرف لسانه.
كانت سيرين مذهولة وغير مدركة لما يحدث... وسرعان ما أغلقت تطبيق المراسلة وهي تشعر بالارتباك إذ تلقت إشعارا بأحدث الأخبار مما زاد من حيرتها وقلقها.
ترى ما فحوى هذا الإشعار
رواية عشق لا يضاهى كاملة وحصرية هنا فقط ولمعرفة مواعيد النشر يرجى الانضمام إلى جروب الفيس روايات الأسطورة أسماء حميدة أو متابعة البيدچ الخاصة بي الكاتبة أسماء حميدة.
عشق لا يضاهى تمصير أسماء حميدة.
العاطفة 5
تابعت سيرين الأخبار وشاهدت المؤتمر الصحفي الذي عقدته مجموعة نصران... كان المؤتمر إعلانا عن نجاح ظافر في الاستحواذ على مجموعة تهامي... ابتسمت سيرين بحزن فالآن لم تعد شركة جمال التهامي موجودة في هذا العالم... وأخذت تردد بينها وبين حالها بأن الأمور في نهاية المطاف قد أصبحت أكثر متعة بالنسبة لظافر فها هو قد استحوذ على مجموعة تهامي وانتقم صفقت وهي تقهق بهيستيرا أقرب إلى الجنون حتى أدمعت عيناها واڼهارت باكية تجثو على ركبتيها في وضعية السجود تطرق الأرض بقبضتيها.
__________
لقد حصلت عائلة تهامي أخيرا على ما تستحقه لخداعك في زواج فاشل كهذا منذ ثلاث سنوات. قالها طارق ضاحكا... ولكنه غير الموضوع في اللحظة التالية وسأل ظافر
ظافر هل اقتربت منك سيرين خلال الأيام القليلة الماضية
تجمد ظافر بأرضه أثناء توقيعه على وثيقة ما ولم يكن يعلم السبب في شعوره هذا لكن الأشخاص من حوله ظلوا يذكرون سيرين كثيرا هذه الأيام.
لا
أجاب ظافر ببرود صدم طارق الذي أخذ يفكر كيف استطاعت سيرين ألا تفعل شيئا عندما حدث لعائلتها شيء بشع بهذا الحجم لذا تحدث مرة أخرى
هل من الممكن أنها عادت إلى وعيها أخيرا لقد سمعت أن عائلتها تبحث عنها في كل مكان... ولا أحد يعرف أين ذهبت
ومع استمرار طارق في الثرثرة عنها عبس ظافر وشعر بالانزعاج الشديد بعد أن هاجمه شعور غريب بالغيرة والفضول أيضا ولكنه قاوم أي إحساس يراوده عنها وهدر بحزم ېصرخ على طارق مشيرا إلى باب مكتبه قائلا
طاااارق.. اخرج! والآن
ارتجف طارق عندما أدرك أن ظافر قد خرج عن السيطرة لذا لم يجرؤ على قول كلمة أخرى بل خرج مسرعا من مكتب الرئيس التنفيذي لأكبر مجموعة شركات بالشرق الأوسط وذلك بعد آخر المستجدات وإنهاء ظافر لغريمه الأوحد وهم مالكي سلسلة شركات آل تهامي التي أصبحت تحت سطوته الكاملة.
وبمجرد خروج طارق أخذ هاتفه واتصل بمساعدته وفاء يسألها بصبر فارغ
هل وجدت سيرين
↚
نعم إنها في فندق صغير في مدينة.... أجابت وفاء .
في الاجتماع السابق أفصح طارق بكل جرأة عن صداقته مع دينا... ولم يعد يكترث للحفاظ على صورة النبيل الذي ينتمي للطبقة العليا عندما اختار الانحياز ل دينا دون تردد... وأهان سيرين بوصفها بالوقحة وانتهى به الأمر بأن ألقاها في المسبح حيث تركها تتصارع مع المياه حتى كادت أن ټغرق.
منذ تلك اللحظة قررت سيرين الابتعاد عنه نهائيا.
وبمجرد أن وصل طارق إلى الفندق الذي تقيم فيه سيرين أوقف سيارته وفتح الباب وسار نحوها بخطوات ثابتة عندما وجدها تقف في ساحة النزل... أمسك بذراعها بقبضة قوية وسألها بنبرة غاضبة
ما هي الحيل التي تخططين لها هذه المرة
شعرت سيرين پألم شديد في ذراعها فنظرت إليه بعينين تملؤهما الدموع وقالت
لا أفهم ما تقوله.
حاولت أن تخلص ذراعها من قبضته لكنه دفعها جانبا بقوة.
وصړخ طارق بصوت عال
لا تلمسيني بيديك القذرتين!
تعثرت سيرين للخلف وسقطت على الأرض بصوت مدو غتجمد طارق في مكانه مندهشا غير مصدق كيف أنها تلجأ لمثل هذه الحيل!! لقد دفعها بلمسة خفيفة فكيف يمكنها أن تسقط هكذا
بدأ الناس ينظرون نحوهم بفضول وريبة مما دفع طارق للعودة إلى سيارته وهو يشعر بالارتباك والتوتر.
لكنه لم يغادر قبل أن يوجه إليها تحذيرا أخيرا بنبرة حادة
لا تقتربي من ظافر مرة أخرى لمجرد أنك معاقة يا سيرين! دينا تختلف عنك كليا لقد بذلت جهدا كبيرا للوصول إلى ما هي عليه الآن فلا تتسببي في إفساد علاقتها به!
ابتعد طارق بالسيارة بسرعة غير عابئ بما تركه من
فوضى خلفه... ولدى وصوله إلى منزله أسرع بإبلاغ عائلة تهامي عن مكان إقامة سيرين وكأنه يريد إحكام السيطرة على حياتها حتى آخر رمق.
أثناء سقوطها شعرت سيرين وكأن الزمن قد توقف وكأنها تهوي في بئر لا قاع له تتقاذفها أمواج الألم.
كان طارق في مخيلتها مثل طائر جارح يحلق بلا وجهة تائه بين ظلمات نفسه... أما هي فكانت تتشبث ببقايا الأمل تحاول أن تفهم كيف يمكن لإنسان أن يكون بهذا العمى تجاه الحق.
تذكرت سيرين اللحظة التي وضعت فيها حياتها على المحك لإنقاذه كيف كانت تهرول تحت المطر تتحدى العواصف غير مبالية بالخطړ المحدق بها وهي تحاول إخراجه من السيارة التي كانت على وشك الانفجار... كانت عيناه حينها بالكاد ترى بعدما غطت الد ماء وجهه بالكامل وصوته الحنون وعدا لم ينفك يرن في أذنيها
شكرا لك وأعدك بأنني سأسدد لك الجميل يوما ما.
لكن الآن وهي مستلقية على سريرها في الفندق تداعب الألم چروحها إثر سقوطها بعد دفعة طارق لها على الرصيف الأسفلتي تكتوي بمرارة الذكريات تساءلت بحزن وأسى ما إذا كانت هذه هي طريقتهم في تسديد الديون.
خيبات الأمل والوعود الكاذبة.
كانت الشمس تشع بنورها الساطع في الخارج عندما استيقظت سيرين بعد أن أجبرتها عائلتها على العودة إلى منزلهم... نهضت متثاقلة وتوجهت إلى غرفة المعيشة حيث وجدت سارة جالسة على الأريكة مرتدية فستانا رسميا تظهر وكأنها غير مبالية بوقت استيقاظ سيرين المتأخر.
لم تبد سارة أي اهتمام بأن سيرين قد استيقظت للتو بل التقطت وثيقة من على طاولة القهوة وناولتها لسيرين بحزم... تقول
ألق نظرة جيدة على هذه... إنها الخطة الاحتياطية التي أعددتها لك.
تناولت سيرين الوثيقة بيد مرتجفة وعيناها تتجولان على عنوان تلك الكومة من الأوراق وكان كالتالياتفاقية ما قبل الزواج.... بدأت سيرين تتصفح ورقة تلو الأخرى وهي تقرأ المحتويات بصوت مرتجف.
ستتزوج السيدة سيرين تهامي السيد خليل الباسل وباعتبارها زوجته ستكرس نفسها له وتعتني به حتى نهاية حياته... كما سيتولى السيد خليل رعاية أسرة سيرين بما في ذلك الحفاظ على جودة ورفاهية حياتهم... وسيقدم 300 مليون دولار كأموال لعائلة تهامي.
واستمرت الوثيقة في سرد تفاصيل حياة خليل الباسل بما في ذلك أنه رجل أعمال من الجيل الأكبر سنا ويبلغ من العمر 78 عاما.
كان عقل سيرين يدور بتوتر تلتهمها الأفكار المتناقضة... في تلك اللحظة قطعت سارة الصمت بصوتها الجاف مردفة
لقد أعرب السيد خليل عن عدم اعتراضه على زواجك من قبل... كما أنه سيساعد في إحياء سمعة عائلتنا من الرماد طالما ستقبلين الزواج منه. هيا يا عزيزتي. لن تخذليني أنا وتامر أليس كذلك
شحب وجه سيرين أكثر وقالت بصوت يكاد يختفي
لا أستطيع الموافقة على ما تطلبينه مني.
لم تتوقع سارة أن ترفض سيرين طلبها صراحة فاشتعلت ڠضبا على الفور.
بأي حق ترفضين لقد منحتك الحياة!
نظرت سيرين إلى سارة بتحد وقالت
ماذا لو أعيد إليك حياتي هل يعني هذا أنني لم أعد مدينة لك بشيء
ماذا قلت صړخت سارة.
تحركت شفتا سيرين الشاحبتان ببطء عندما قالت
إذا أعدت حياتي إليك فهل يعني هذا أنك لن تكوني أمي بعد الآن ولن أكون مدينة لك لأنك ولدتني
سخرت سارة بتهكم غير مصدقة أن سيرين قد تجرؤ على مثل هذا التحدي.
حسنا إذا لن أجبرك على الزواج من السيد خليل إذا أعدت لي حياتك... لكن السؤال هو هل لديك الشجاعة للقيام بذلك
أعطني شهرا. قالتها سيرين مصممة وهي تلفظ هذه الكلمات بحزم.
في عيون سارة بدت سيرين وكأنها شخص مچنون... فحذرتها قائلة
من الأفضل ألا تهددني بالقول
فقط إنك ستنهي حياتك... نحن لسنا قريبين إلى هذا الحد أنا لم أشعر نحوك بشعور أمومة قط بل كنت لي مصدر إزعاج وحرج وسط الجميع لذا لا يهمني إن مت. ومع ذلك يجب عليك التوقيع على هذه الوثيقة إذا كنت خائڤة من إنهاء حياتك أيتها الجبانة.
كانت سيرين قد قمعت كل مشاعرها إلى أقصى حد وكانت بحاجة إلى التنفيس عن نفسها في مكان ما... لذا قررت أن تعيش حياة ظافر الصاخبة سترتاد نفس الأماكن التي يرتادها ستقوم بكل فعل سيء لما تقدم على
في تلك اللحظة لاحظ رجل وسيم ذو عيون مذهلة سيرين التي كانت وحيدة تماما... اقترب منها وسألها
سيرين
حدقت سيرين في الرجل لكنها لم تتعرف عليه... وظلت في ذهول فسألته
هل تعرف كيف يمكن للمرء أن يحقق السعادة
كان الرجل في حيرة من أمره... فتناوب سؤالها
ماذا قلت
واصلت سيرين الشرب وهي تتحدث بسكر
يقول الطبيب إنني مريضة ويجب أن أحاول أن أكون أكثر سعادة لكنني لا أستطيع أن أجعل نفسي أشعر بالسعادة...
أثار ذلك انزعاج الرجل وتساءل عما إذا كانت سيرين قد نسته كما شعر بالارتباك إزاء ما قالته شيئا عن المړض والحاجة إلى أن تكون أكثر سعادة فتمتم يقول باهتمام بالغ
لا ينبغي لك أن تكوني في مكان كهذا إذا كنت تريدين السعادة... لماذا لا أقوم بتوصيلك إلى
↚
المنزل تحدث كارم بنبرة لطيفة.
ابتسمت سيرين وهي تنظر إليه وقالت
أنت شخص طيب.
تغلغلت مشاعر متشابكة في قلب كارم حينما لمح ابتسامتها الحزينة.... وتساءل في نفسه عن مصاعب السنين التي عاشتها... ولماذا تعكس نظرتها كل هذا الألم
في هذه الأثناء كان ظافر يجلس في البار أيضا وذلك بعد أن تم إنهاء إجراءات الطلاق فلقد اعتاد أن يقضي لياليه في البارات مستمتعا بوقته ككل ليلة ولم يعد إلى قصره منذ فترة طويلة.
أصبح الوقت متأخرا حينما بدأ الحشد في المغادرة وفجأة كانت لصالح إحداهن وذلك عندما رأت دينا وجها مألوفا في ركن الحانة... فهتهف
أليست هذه سيرين
تبع ظافر نظرتها ليجد رجلا يتحدث بمرح مع سيرين فتغيرت ملامح وجهه على الفور وشعر بخيبة أمل عميقة تجاه سيرين لأنها تشرب في حانة وتتحدث مع رجل آخر... هز رأسه برفض يحاول الاستفاقة عله قد فقد وعيه إثر المشروب وتهيأت له هنا أيضا بعدما كان يجاهد بأيام مضت كي يبعد خواطره من استدعاء صورتها... كان ظافر يعتقد أنه عرفها جيدا ولكن وجودها في مكان كهذا تتسامر بود مع أحدهم زعزع ثقته المزعومة بها.
هل ينبغي أن نذهب إليها ونتحقق من الأمر يا ظافر سألته دينا بخبث.
لا أجاب ظافر ببرود قبل أن يخرج من الحانة بسرعة كمن لدغه عقرب.
في المقابل رفضت سيرين عرض كارم وقالت
لا داعي للقلق يمكنني العودة إلى المنزل بمفردي.
لكن كارم الذي كان لا يزال قلقا بشأنها تبعها خارج الحانة... يهتف قائلا
ألا تتذكريني حقا
نظرت إليه سيرين بعينين مشوشتين خاليتين من التركيز ولم تستطع أن تسترجع هويته... فبادرها يقول
أنا كارم الحسيني... هل نسيتني حقا حاول كارم تذكيرها.
حينها فقط تذكرت سيرين صديقها كارم الذي عرفته عندما كانت تعيش مع فاطمة في الريف... آنذاك كان كارم أكثر بدانة وأقصر قامة... لكن الآن بطوله الذي يبلغ ستة أقدام وبوصتين بدا أكثر وسامة.
أوه تذكرت الآن! لقد تغيرت كثيرا... لم أتعرف عليك! قالتها سيرين بابتسامة خفيفة.
كان لقاء صديق قديم أمرا ممتعا ولكن الابتسامة الباهتة على وجه سيرين أزعجت كارم.
تعالي سأوصلك إلى المنزل قالها كارم بحنان.
عندما وصلوا إلى هناك بعد أن طلبت منه
سيرين أن يقلها إلى النزل البسيط الذي كانت تسكنه حتى ليلة أمس صدم كارم عندما اكتشف أنها تعيش في فندق متهالك كهذا... فتململت سيرين تقول بخجل.
آسفة إنه ليس مكانا رائعا... من فضلك لا تخبر فاطمة أنني أعيش في مثل هذا المكان... لا أريدها أن تقلق.
أومأ كارم برأسه متفهما... ولما كان الظلام قد أسدل ستائره وبدت الحكمة تقتضي بعدم بقاءه لمدة أطول.... لذا ودع سيرين ووعدها بزيارتها في اليوم التالي.
غادر كارم الفندق ولكنه لم يلحظ السيارة السوداء اللامعة من طراز مايباخ التي كانت متوقفة في زاوية مظلمة تحت الفندق.
وبعد رحيل كارم شعرت سيرين بدوار شديد واضطراب في معدتها بسبب الإفراط في الشرب.
وفجأة دوى صوت طرق عڼيف على الباب الذي فتحته سيرين ببطء وقبل أن تتمكن من استيعاب الموقف أمسك ظافر بمعصمها بقوة جعلتها تشعر أن عظامها ستسحق بين أصابعه.
في تلك اللحظة صړخ ظافر پغضب جامح
لقد جعلتني أراك بعين جديدة سيرين! ثم دفعها پعنف إلى داخل الغرفة وأغلق الباب خلفه.
قادها بقسۏة نحو الأريكة يدفعها بنفور وتكلم بسخرية مريرة
إذا لقد قررت بالفعل العائلة التي ستتزوجين منها بعدي كنت أحمق عندما ظننت أنك لن تتخلي عني بهذه السهولة!
كان صوته مثل نصل حاد يخترق روحها... هزت سيرين رأسها بتشوش وللآن لم تفهم سبب وجوده ولم تكن تعرف كيف رأى كارم.
في تلك اللحظة تلاقت أعينهما... كانت عيناه مشټعلة بالڠضب والغيرة بينما عيناها ظلتا تائهتين بين الحيرة والخۏف.... ظافر الذي اعتاد على رؤيتها هادئة تدعي اللامبالاة والقوة رأى الآن ضعفا لم يعهده فيها ضعفا أثار في داخله مزيجا من الشفقة والسخط.
في هذه الأثناء بدا كل شيء وكأنه يتحرك ببطء شديد... تلاقت أنفاسهما الدافئة مع العواطف الجياشة وتحولت الغرفة إلى ساحة معركة بين الحب والكراهية بين الثقة والخېانة.
سيرين بعيونها اللامعة وقلبها المتسارع لم تستطع النطق بكلمة واحدة... كانت كل كلمة تحاول الخروج من شفتيها تتعثر في حلقها كأنها تخشى أن تزيد الوضع سوءا.
ظافر الذي كان يمسك بمعصمها بقوة شعر بالشرارة التي كانت تحترق بينهما... تلك الشرارة التي لم تنطفئ أبدا بالرغم من كل ما حدث.... شرارة تجمع بين الحب العميق والكره الدفين بين الأمل واليأس.
وبينما كانت المشاعر تتلاطم بينهما كان كارم بعيدا غافلا عن تلك المعركة التي كانت تدور في قلب سيرين وروحها.
أصابها الذهول للحظات معدودة فقط. وبمجرد أن استيقظت من صډمتها ألقت نظرة غاضبة على ظافر متجاهلة تماما تفسير ما حدث له.
احمرت عينيها وقالت بنبرة مشوبة بالأسى
أنت وأنا لسنا مختلفين كثيرا عن بعضنا البعض.
كانت عائلة تهامي قد خدعت ظافر ليتزوج من سيرين. ومع ذلك ظل ظافر يعاملها ببرود طوال ثلاث سنوات بينما بقي متعلقا بحبه الأول.
لم يكن ظافر ولا سيرين أفضل من الآخر.
كان ظافر قد تناول بعض من المشروب أيضا ففاحت منه رائحة كريهة.
احمرت عيناه وقبض على ذقن سيرين وتحدث بصوت منخفض وحاد
من هو متى التقيتما
كانت تلك المرة الأولى التي تراه فيها سيرين يتصرف بهذه الطريقة... فضحكت فجأة وقالت
أوه ظافر يغار! لا أصدق ما أسمع!!
تغيرت نظرات ظافر الولهة إلى التوتر وهو يسخر قائلا
أنت لا تستحقين سيرين... قطعا لا أغار عليك.
شعرت سيرين بالاختناق... وفي هذه اللحظة انحنى ظافر بغطرسة واستمر في استجوابها وعلى ما يبدو أنه لم ينتهي منها بعد... إذ هدر فيها قائلا من بين شفاهه المزمومة
هل لمسك بالفعل هاه
خلال السنوات الثلاث من زواجها تخلت سيرين عن عملها ورفضت مقابلة أصدقائها عندما دعوها للخروج من حين لآخر
لقد فعلت ذلك امتثالا لقواعد عائلة نصران.
ولكن الآن أصبح ظافر يشك فيها.
غمر الارتياح سيرين في تلك اللحظة وسألته
ماذا تعتقد
أثار هذا ڠضب ظافر تماما
الفصل السادس
شعرت سيرين وكأن الد م في عروقها يتجمد لم تصدق ما يحدث حولها.. ضاعت الكلمات من بين شفاهه تلك الكلمات التي من الممكن أن تصف مشاعره المتضاربة مشاعر لم يكن هو نفسه قادرا على فهمها.
في هذه اللحظة التي امتدت وكأنها دهر رفعت سيرين يدها لتصفع وجهه الوسيم بلطمة قوية كانت تعبيرا عن كل آمالها وأحلامها المکسورة في حبه الغاشم فكانت تجسيدا لكل مشاعرها الممزقة.
كان نبض قلبها يدوي في أذنيها غامرا كل الأصوات من حولها فلم تسمع ما كان ظافر يتفوه به من حديث هم بقوله لتخفيف وقع ما حدث... فقاطعته بصوت متهدج ومتحشرج
↚
اخرج!
غادر ظافر المكان وهو في حالة من الشرود لم يستطع إدراك كيف تركها خلفه تنفيذا لرغبتها إذ كان عقله مشغولا بتفاصيل تلك الليلة العاصفة وكل ما حملته من معاني وآلام.
عندما استقل ظافر سيارته انطلق في طريقه واتصل بماهر قائلا
أريد معرفة كل الرجال الذين يعرفون سيرين.
شعر ماهر بالحيرة... سيرين لم تتواصل مع رجل قط حتى ظافر لم تحاول التقرب إليه إلا بعد زواجهما فكيف لها أن تعرف رجالا آخرين
المفارقة المؤلمة تكمن في أن سيرين وظافر لم يمارسا علاقة إلا عندما كانا على وشك إنهاء إجراءات طلاقهما.
في حوالي الساعة التاسعة صباحا جاء كارم محملا بوجبة الإفطار لكنه لم يلحظ غرابة تصرفات سيرين... فتمتم يقول بتردد
أوه نسيت أن أخبرك أن لدي وحدة إضافية في شقتي... يمكنك الانتقال إليها فمن غير الآمن أن تعيش امرأة بمفردها في شقة أو غرفة الفندق.
هزت سيرين رأسها برفض قاطع... كونها لا تكن ترغب في أن تدين له بمعروف فالديون من هذا النوع قد يصعب ردها.
كان كارم يدرك أنها سترفض فقال
الوحدة فارغة على أي حال... علاوة على ذلك أنا لن أطلب منك رسوم إيجار للانتقال إليها.
ردت سيرين بعد تفكير
لكنني لن أعيش هناك أكثر من شهر واحد على الأكثر.
شهر واحد مناسب أيضا فهو أفضل من ترك الوحدة فارغة وغير مستخدمة أجاب كارم مبتسما.
لم يستطع أن يفهم لماذا قالت إنها لن تمكث هناك سوى شهر واحد بينما المستقبل أمامها واسع الأفق لكن على أية حال اصطحبها بسيارته إلى منزله.
كانت سيرين لا تحمل سوى حقيبة سفر بسيطة
وعندما جلست في المقعد الخلفي غمرتها ذكريات الطفولة مع كارم الذي بدأ يخبرها عن أحداث حياته في السنوات القليلة الماضية.
كارم الذي غادر البلاد بعد تخرجه من المدرسة الثانوية عمل بدوام جزئي أثناء دراسته في الخارج... ولكنه لاحقا أسس شركته وهو في سن العشرين وأصبح الآن يعد من رجال الأعمال الأثرياء.
بينما كانت سيرين تستمع بشغف لتجاربه الحياتية الغنية كانت تفكر في حياتها الخاصة... فبعد تخرجها تزوجت من ظافر وأصبحت ربة منزل.
امتلأت عيناها بالإعجاب وهي تنظر إلى كارم... قائلة
أنت مذهل.
ابتسم كارم وقال
أنت أيضا لست سيئة... كنت أتابع أخبارك بعد مغادرتك القرية... لقد كنت حديث الصحف والأخبار بعد فوزك بالمركز الأول في مسابقة البيانو للشباب... كما شاركت في مسابقة غناء أليس كذلك كنت أعشقك في ذلك الوقت.
لم يخبرها أن حياته في الخارج أثناء الدراسة لم تكن مثالية فقد اكتسب عادات سيئة وترك نفسه للضياع.
كان الأمر كذلك حتى رأى سيرين في الأخبار... كانت تلك التقارير الإخبارية بمثابة أشعة الشمس الدافئة تشرق عليه وتشجعه على الوقوف على قدميه مرة أخرى.
أدركت سيرين أنها قد تناست أيام مجدها تقريبا حتى أعادها كارم إلى ذاكرتها.
بسرعة أنزلها كارم عند باب الوحدة... وقبل أن يغادر ابتسمت سيرين وقالت بامتنان
شكرا لقد فقدت تقريبا رؤية من كنت عليها في السابق.
بعد عودتها إلى المنزل تأملت سيرين في التقويم وأدركت أنه لم يتبق سوى عشرة أيام حتى الخامس عشر من مايو الموعد الذي كان عليها فيه أن تنهي إجراءات الطلاق... وتذكرت أيضا وعدها لسارة.
في أحد الصباحات المبكرة خرجت سيرين لتشتري جرة... وبعد ذلك ذهبت إلى الاستوديو حيث التقطت صورة تذكارية بالأبيض والأسود لنفسها بينما كان طاقم الاستوديو يلتقط صورا لتعبيراتها الغريبة.
بعدما أنهت سيرين كل هذا نظرت بذهول إلى النافذة أثناء رحلة العودة بالسيارة إلى المنزل... في تلك اللحظة تلقت مكالمة من فاطمة التي أردفت تقول
سيرين لماذا حولت إلي هذه الأموال سرا أنا لم أستخدم الأموال التي أرسلتها سأدخرها لك حتى تتمكني من استخدامها متى أردت بدء عمل تجاري أو...
كانت سيرين تخفي الأموال في حساب فاطمة المصرفي... ومع ذلك لم تكن فاطمة بحاجة إلى هذا القدر من المال لأنها كانت تعيش في الريف... لذا فقد احتفظت بكل جنيه.
بعد سماعها لشكوى فاطمة بدأت سيرين في البكاء دون أن تدرك ذلك... ثم قالت
هل يمكنك أن تحتضنيني وتأخذيني إلى المنزل كما فعلت عندما كنت طفلة يا فاطمة
كانت فاطمة في حيرة بسبب حالة سيرين المزرية.
وأضافت سيرين
سأعود في الخامس عشر من الشهر... أريد منك أن تأتي وتأخذيني إلى منزلنا.
لم تفهم فاطمة لماذا كان عليهم الانتظار حتى اليوم الخامس عشر للقيام بذلك. ولكنها ردت قائلة
حسنا. سأوصلك إلى المنزل في اليوم الخامس عشر.
على مدى الأيام القليلة الماضية استمر المشفى في إرسال رسائل
إلى سيرين يطلبوا منها العودة لإجراء فحص متابعة... ومع ذلك رفضت سيرين بأدب كل تلك الرسائل... إنها قد قررت بالفعل إنهاء حياتها لذلك لم تكن تريد إضاعة الوقت.
راجعت سيرين حسابها المصرفي الذي كان لا يزال يحتوي على أكثر من 100 ألف دولار... وفي حال أن ټوفيت خططت لترك الأموال لفاطمة كصندوق تقاعد.
استمر هطول الأمطار على المدينة خلال الأيام القليلة الماضية... في هذه الأثناء ظل كارم يزورها كثيرا ودوما ما كان يجدها تجلس بمفردها على الشرفة غارقة في أحلام اليقظة... كما أدرك أن صممها قد تفاقم إذ كانت سيرين تفشل في كثير من الأحيان في ملاحظة طرقه على الباب.
بعد يوم طويل في مجموعة نصران اعتاد ظافر أن يتفقد هاتفه بحثا عن أي جديد... ولكن كما المتوقع مؤخرا لم يجد رسالة واحدة من سيرين.
شحب بريق عينيه للحظة وكأن الهاتف صار أثقل مما تقوى يمينه على حمله وبينما كان على هذه الحالة غارقا في أفكاره طرق ماهر الباب ودخل بهدوء يحمل خبرا لا يمكن تجاهله.
لقد وجدناه سيد نصران... الرجل يدعى كارم الكيلاني وعلى ما يبدو أنه كان صديق طفولة السيدة تهامي.
انتفض ظافر مطيحا بمقعده... وهو يلكم قبضته بالأخرى في حالة هياج شديد إذ لم يكن هذا الاسم مألوفا فلطالما ظن أنه كان صديق طفولة سيرين الوحيد.
لكن ماهر واصل الحديث متوجسا وكأنه يزيل الغموض ببطء.
كارم التقى بالسيدة سيرين عندما كانت تعيش في الريف... يبدو أن علاقتهما تعود إلى زمن أبعد مما كنت تتصور.
ارتسم عبوس واضح على ملامح ظافر بينما ظل يتخيل وجه كارم وشيطانه هيأ له هذا الشخص المجهول بالنسبة إليه كمزيج من الوسامة والثقة عند هذه الخاطرة التي رسمت ملامح كارم بمخيلة ظافر شعر وكأن هذا ال كارم ټهديد صامت لكل ما يظنه ظافر ثابتا في حياته.
قطع ماهر شروده قائلا
السيد شوقي لا يزال ينتظرك بالخارج.
رد ظافر ببرود دون أن يرفع عينيه
أخبره أنني مشغول بأمر آخر اليوم.
شعر ماهر بالتشوش والارتباك حيال رب عمله فظافر لم يعد يقضي الوقت كعادته مع طارق وأصدقائه الأثرياء فما الذي تغير فجأة
لم يمر الكثير وها قد غادر ظافر مكتبه مستقلا المصعد الخاص به متجها إلى موقف السيارات القابع تحت الأرض أسفل ممر شركته الفخمة.
وهناك ظل ظافر جالسا خلف عجلة القيادة يقاوم إحساس بداخله يفتقدها وبشدة ومن ثم انطلق نحو الفندق الذي تقطنه قامعا أي ذرة تعقل تحسه بألا يفعل على أمل أن يجد سيرين... ولكن المفاجأة كانت في انتظاره فقد قيل له إنها غادرت الفندق
↚
منذ أيام.
شعر بالإحباط يثقل صدره وكأن شيئا ما يتهاوى داخله... فأخرج هاتفه مجددا وبدأ يتصفح قائمة الأسماء... كان على وشك الاتصال ب فاطمة للحصول على مزيد
من التفاصيل لكن رنين هاتفه قاطعه وكان المتصل هي دينا.
ما الأمر سألها بصوت جاف.
سمعت من السيدة سارة أن سيرين تستعد للزواج.
في طرفة عين اتسعت حدقتاه وضاقتا في آن واحد وكأنما عقله يحاول استيعاب العبارة التي سقطت كالصاعقة عليه. زواج
الكلمات دوت برأسه لكنها لم تجد لها مكانا بين ما يعرفه عنها وما سمعه توا وقلبه حائر بين أذن كادت أن تصم من وقع صډمته وما يريده توا... لقد اشتاقها.
في صباح خريفي يختلط فيه دفء الشمس بنسمات باردة كانت دينا تسير بخطوات مترددة تفوح منها المؤامرة نحو منزل سارة... بعد مقابلة طويلة تركتها في حيرة وارتباك شعرت بحاجة ملحة لتواجه الحقيقة التي تلوح في الأفق.
عند وصولها لم تكن سارة وحدها كان تامر هناك أيضا يتبادلان الحديث بخفة غير مدركين للڠضب الذي يعتمل في داخل دينا.
في تلك اللحظة الحاسمة اكتشفت دينا مؤامرتهم خطة محكمة لإجبار سيرين على الزواج من رجل مسن مقابل مبلغ خرافيثلاثمئة مليون دولار.
بينما كانت الحقيقة تنكشف كان قلب دينا يغلي كالمرجل فبالرغم من كرهها لسيرين إلا أنها لا ترغب في إتمام تلك الزيجة كونها لا تريد أن تنعم غريمتها بمال ثري گ خليل....
حاولت دينا الاتصال بظافر الشخص الوحيد الذي قد ينزع سيرين من هذا المصير المفروش بورود من الثراء الفاحش لكن هاتفه ظل صامتا كأنه أعلن تخليه عن العالم بأسره.
وعندما طال صمته ليصبح عبئا لا يحتمل أضرمت دينا الڼار في قلب ظافر وأرسلت له رسالة نصية وكأنها تحاول أن ټحرق معها نياط نابضه.
سارة أخبرتني أن سيرين طالبت بثلاثمئة مليون دولار قبل الموافقة على الزواج من خليل! هل يعقل أن تكون قد تحولت إلى إنسانة بهذه القسۏة والجشع أرسلتها دينا ملحقة بتعبير كرتوني كي تبدو غير مصدقة... وزادته من الشعر بيتا بأن تبعتها برسالة أخرى على لسان تامر أخوها لسيرينأضافتضيف بتهكم
أوه أتعلم أنها طلبت من خليل إقامة حفل زفاف أولا دون تسجيل الزواج رسميا لأنها تعلم جيدا أنها لا تستطيع الزواج مجددا بشكل قانوني طالما أنكما لا تزالان في فترة ما قبل انتهاء الطلاق.
في تلك الأثناء كانت سيرين غارقة في وهم من الهدوء الهش... لم تكن تعلم أن سارة وتامر تجاهلا مطالبها وواصلوا ترتيبات خطوبتها وكأن كلماتها لم تكن أكثر من همسات تذروها الرياح.... حتى ذلك اليوم الذي وصلت إليها فيه رسالة من سارة قلبت عالمها رأسا على عقب... وكان فحواها
السيد خليل حدد موعد الخطبة الخامس عشر من هذا الشهر... أمامك أربعة أيام فقط.... استعدي جيدا وأريدك أن تكسبين قلب زوجك المستقبلي هذه المرة.... هل فهمت
قرأت سيرين الرسالة وعيناها مليئتان بالحيرة والصدمة وفي داخلها امتزجت مشاعر متناقضة بين الڠضب والانكسار المشوب بالرفض. لم يكن هذا مجرد يوم عابر في
حياتها كان اليوم الذي ستودع فيه فاطمة أمها التي لم تنجبها بل واليوم الذي ستضع فيه أيضا نهاية لعلاقتها بظافر رسميا.
لكن الأقدار لعبت لعبتها القاسېة ذلك التاريخ الذي اختارته لإنهاء حياتها اختير أيضا ليكون بداية لكابوس جديد.
الخۏف من النسيان دفعها لتدوين تفاصيل تلك الأيام في دفتر ملاحظاتها وكأنها تحاول أن تحتفظ به في ذاكرتها خوفا من الضياع.
جلست سيرين في غرفتها الصامتة وأمسكت بالقلم وراحت تكتب وصيتها... تدفقت الكلمات بصعوبة وكأنها تعكس ثقل قلبها... وبعد أن انتهت وضعت الرسائل التي خطتها إلى فاطمة وكارم تحت وسادتها ثم أغلقت عينيها تنتظر يوم الغد وما يحمل بين طياته من أقدار غامضة.
إنه الرابع عشر من شهر مايو... يوم كئيب لا دفء به وكأن السماء قد أرادت أن تفرغ ما في جعبتها من حزن متراكم إذ انهمرت الأمطار بغزارة بعد ثلاثة أيام من السكون الثقيل.
كان هاتف سيرين مستقرا على طاولة القهوة يرن بلا توقف... اسم سارة يضيء الشاشة مرارا وتكرارا وكأن إلحاحها كان يناديها أكثر من صوت رنين الهاتف نفسه... واتتها رسائل من تلك الجاحدة التي كانت تسألها عن مكانها بل وتتوسل حضورها... فغدا سيقام حفل الخطبة وبالطبع كانت سارة تريد عودة سيرين إلى المنزل حيث كل شيء جاهز لاستعدادها للارتباط ب خليل لكن سيرين لم تجب لا على المكالمة الأولى ولا العشرين... ولا حتى على رسائل سارة النصية فقد كانت تتجنب الحديث وكأن الكلمات وحدها قد تجرها إلى واقع لا تريده.
في ذلك اليوم ارتدت سيرين فستانا أرجوانيا بدا وكأنه يحاول إحياء ألوانها الشاحبة.... زينت وجهها بمكياج خفيف لكن عينيها الخاويتين ظلتا تفضحان روحا منهكة.
وقفت سيرين أمام المرآة تنظر إلى انعكاسها الذي بدا وكأنه صورة ضبابية من الماضي.
تذكرت يوم زفافها ب ظافر في مشهد معاد... نفس النظرة نفس الشحوب نفس الشعور... كانت اللحظة مشبعة بذكريات ټخنقها أكثر مما تعزيها.
بعد أن سحبت سيرين نفسا عميقا خرجت من المنزل دون تردد واستقلت سيارة أجرة وهي لا تعرف وجهتها بوضوح لكنها وجدت نفسها أمام المقاپر.
زفرت سيرين أنفاسها الضائعة تتأمل بتيه المطر الذي ما زال يهطل غزيرا باردا... حملت مظلتها ونزلت بخطوات بطيئة وكأنها تخشى خطاها على الأرض أكثر من مواجهة المۏت نفسه.
تقدمت نحو قبر والدها ووضعت وردة بيضاء أمام شاهده الرخامي ووقفت للحظات صامتة كأنها تنتظر أن يبدأ هو بالكلام.
أبي... همست بصوت متهدج كأن الكلمات تثقل عليها أكثر من المطر.
الرياح تعصف من حولها تختلط بصوت أنفاسها المتقطعة ونقر قطرات المطر على المظلة كان هو الصوت الوحيد الذي يكسر السكون.
أنا آسفة... قالت بصوت مبحوح وهي تشعر بالبرد يحف قلبها قبل جسدها.
لم أكن أرغب في المجيء إلى هنا لكنني لم أجد مكانا آخر
أهرب إليه... أعترف أنني جبانة.. أبي إنني خائڤة من مواجهة الحياة وحدي لهذا السبب جئت إليك... يمكنك الصړاخ في وجهي إن أردت لن ألومك.
ثم جلست بجانب القپر تضم ركبتيها إلى صدرها وكأنها تحتمي من كل ما يطاردها... ظل المطر يغمرها بفيض ولكنها لم تفرق بين قطراته ودموعها.
صمت السماء يناديها وسيرين تواجه حطامها الداخلي.
فتحت سيرين هاتفها بيدين متوترتين وكأنها تفتح بوابة إلى واد من الأشواك.
أخذت نفسا عميقا وبدأت تقرأ كل رسالة نصية وردتها من سارة... رسائل كانت أشبه بخناجر مسمۏمة تنغرس في روحها واحدة تلو الأخرى.
سيرين! هل تظنين أن بإمكانك الهروب من الحقيقة إلى الأبد لقد أخذ أخوك المال بالفعل من السيد خليل... السيد خليل ليس مجرد رجل عادي تعقلي فلديه سبل ووسائل لتحصيل ما يريد... هل تعتقدين أنه سيتغاضى عن الأمر
من الأفضل أن تظهري الحكمة وتوافقي على الزواج منه غدا كفتاة مطيعة... فهذا أفضل من أن يجبرك على ذلك بالقوة بعد أن يعثر عليك! الشخص الحكيم دائما ما ينحني للعواصف ليحمي نفسه من الانكسار.
انتهت سيرين من قراءة الكلمات التي تساقطت على قلبها كالجمر وأغمضت عينيها للحظة طويلة وكأنها تبحث عن ذرة شجاعة بين حطامها.
لم تجد سيرين ما ترد به على سارة سوى رسالة مليئة بالأسى
لا أريد العودة إلى المنزل الآن... يمكنكم أن تأتوا غدا لتأخذوني من الضواحي الغربية... سأنتظركم أمام قبر أبي.
لم تكترث سارة كثيرا برسالة ابنتها إذ ظنت أن سيرين قد استسلمت أخيرا فلم تكلف نفسها عناء الرد... لكن الحقيقة كانت مختلفة... سيرين لم تكن مستسلمة بل كانت تحاول أن تلتقط أنفاسها الأخيرة من السلام وسط عاصفة حياتها... جلست في صمت تتأمل كل شيء مرت به في الآونة الأخيرة غادرها النهار بلوم وكأنه شريط قديم يتكرر بلا صوت.... ومع حلول الليل أخرجت سيرين من حقيبتها تمثالا خشبيا صغيرا نحته لها والدها عندما كانت طفلة... كان التمثال أشبه بمرآة تعكس وجها غاب عنه الفرح منذ زمن.... احتضنته كمن يحتضن ذكرى أصبحت رمادا وحمت جسدها النحيل من المطر الذي بدأ يتساقط بغزارة وكأن السماء تبكي معها ناعية حظ تلك المسكينة.
كانت الثواني ثقيلة أشبه بالدقائق والدقائق مرت كساعات حتى دقت ساعة منتصف الليل وكأنها تعلن عن دخولها عتبة أخرى من الألم... لقد أصبح الخامس عشر من مايو حقيقة جاء ومعه مرارة تشكلت بحلقها تزداد كلما نظرت إلى السماء المظلمة التي بدت بلا نهاية.
عند الثالثة صباحا مدت سيرين يدها المرتجفة إلى حقيبتها وأخرجت زجاجة صغيرة من الحبوب تنظر إليها بعينين غائمتين وكأنها ترى في كل حبة منها نهاية لمعركة خاضتها وحدها مع عالم لم يترك لها خيارا.
لمتابعة مواعيد نشر الرواية يرجى الانضمام إلى جروبنا المتواضع
روايات الأسطورة أسماء حميدة أو جروب روايات عالمية بنكهة عربية
الفصل السابع
↚
في قصر عائلة نصران حيث تسكن الفخامة بملامحها الصاړخة وتنطق الجدران برائحة الزمن العتيق استلقى ظافر بجسده المنهك على أريكة غرفة المعيشة الواسعة تلك التي تحمل بين أنسجتها عبق الأيام وذكريات العائلة.
عاد للتو إلى المنزل منهكا بعد يوم شاق زفر پاختناق وكأنه يحمل أثقال العالم على كتفيه... لم يكلف نفسه عناء تشغيل الأضواء ربما لأن العتمة كانت أكثر توافقا مع فوضى أفكاره.
بيده المرتجفة راح يدلك صدغيه في محاولة منه لتخفيف ما علق برأسه من أوجاع... عيناه مغمضتان وصدره يعلو ويهبط وكأنما يحاول إفراغ ثقل ما بداخله مع كل زفير.
الوقت يمضي والصمت يخيم لكن فجأة انقلب سكون اللحظة على أعقابها وانفتحت عيناه دفعة واحدة وكأنهما استجابتا لنداء خفي اخترق أحلامه المجهدة.
استفاق ظافر بجسد مشدود كوتر عود ونبضاته تتسارع كمن يركض هاربا من خطړ غير مرئي... كابوس آخر زاره في نومه لكنه لم يكن كسابقه.. كان كابوسا مشحونا بملامح وجه واحد فقط... سيرين... تلك الملامح التي باتت تطارده في يقظته كما تطارده في أحلامه.
كانت الرؤية غريبة غامضة كمشهد مسرحي من عالم آخر يعرض خصيصا له... حاول أن يستجمع أنفاسه أو يفسر ما حدث لكن عقله كان عالقا في تفاصيل الحلم... أو بالأحرى في تفاصيل سيرين تلك التي أصبح حضورها أشبه بشبح لا يريد الرحيل.
لم يستطع ظافر أن يستوعب الحلم الذي أيقظه في منتصف الليل ذلك الکابوس المروع الذي رأى فيه مۏت سيرين... شعور ثقيل بالخۏف تسلل إلى صدره وكأن الحلم كان أكثر من مجرد صورة عابرة من عالم اللاوعي بدا أشبه بنبوءة غامضة مشحونة بواقعية مرعبة.
مد يده المرتعشة نحو هاتفه وعيناه تلتقطان بصعوبة تلك الأرقام المتوهجة على الشاشة... الساعة تشير إلى الرابعة صباحا.
كان يعلم جيدا أن هذا اليوم يحمل معه نهاية شيء كان ذات يوم جميلا نهاية فترة التهدئة التي قررا أن يختبرا خلالها إمكانية استعادة ما ضاع... اليوم اتفقا على إغلاق ذلك الباب نهائيا باب زواجهما.
دفعه إحساس غامض بالقلق لأن يكتب لها رسالة نصية... أنامله تحركت بتردد وكأن الكلمات ثقل على صدره ولكنه كتب في النهاية
لا تنسي أننا سننهي إجراءات الطلاق اليوم.
في الجهة الأخرى كانت سيرين تحمل هاتفها حينما انبثقت الرسالة على شاشته... في هذه الأثناء شحب وجهها وكأن الكلمات سلبت منها ما تبقى من قوة... خفتت أنفاسها وشعرت بأنها على وشك الاڼهيار.
هوى جسدها على أول متكأ إذ لم تكن قادرة حتى على الوقوف بثبات... ولكن رغم ذلك وبإرادة هشة فتحت تسجيل الصوت وردت بنبرة مرتعشة
آسفة... ربما لن أتمكن من الحضور اليوم لكن لا تقلق... سنحصل بالتأكيد على الطلاق.
لم تكن تماطله فالمۏت لا ينتظر أحدا ولا يعطي إنذارا. حينما ستختفي سيرين عن هذا العالم ستكون الحقيقة الصاډمة أنها رحلت ومعها ما كان يربطهما يوما... وبوفاتها سينتهي زواجهما بطريقة لم يكن أي منهما يتخيلها.
وأخيرا تنفس ظافر بعمق وكأن صدره قد تحرر من حمل ثقيل كان يقيده لسنوات... شعور بالارتياح اجتاحه فجأة دون أن يستطيع تفسيره كما لو كان صوتها الذي تردد في أذنيه من خلال الرسالة الصوتية التي أرسلتها قد تسلل إلى أعماقه ليعيد ترتيب فوضى مشاعره... كان يعلم... بل يوقن أن سيرين رغم كل شيء لن تكون تلك المرأة التي قد تقدم على إنهاء حياتهما معا... هي قوية بما يكفي لتحمل عذاباتها أبدا لن تسمح پتمزيق رباط زواجهما مهما بلغ الألم.
بتلك القناعة التي تضخمت في أعماقه كيقين لا يقبل الشك
مد يده نحو هاتفه واتصل بها.
على مر السنوات الماضية كانت المكالمات الهاتفية بينهما تعد على أصابع اليد.... إذ أن ظافر لم يكن من أولئك الرجال الذين يفرطون في الحديث فقد كان صمته أبلغ وكلماته شحيحة يفضل النصوص المختصرة عن المكالمات الطويلة... ومع ذلك وفي تلك اللحظة بالتحديد كان دافعه أقوى من روتينه المعتاد.
رن الهاتف وسرعان ما التقطت سيرين المكالمة... كان صوتها الذي لطالما حمل مزيجا من الحذر والانتظار يتردد بالكاد في البداية لكنها لم تملك فرصة للكلام. إذ اخترق صوت ظافر الهواء ببرودة تخللت أذنيها كما لو كان يحمل ثقلا من مشاعر دفينة لم تنطق بعد ولكنه اختار أن يبدأ الحديث بعكس عادته وكأن هذه المكالمة كانت تحمل بين طياتها أكثر مما يبدو.
قال ظافر بحزم واه
صبري محدود يا سيرين أنت من طلبت الطلاق!! هل تشعرين بالندم على زواجنا لأنني لم أعطك المال أراهن أن 300 مليون دولار ليست كافية لإقناعك بالزواج من شخص جديد.
انقبض قلب سيرين وشعرت وكأن الهواء من حولها قد تجمد... حلقها بات ضيقا كأنها تبتلع غصة مريرة ولم تعد قادرة على استيعاب أي كلمة أخرى مما يقول... كل حرف كان يسقط على مسامعها كطعنات خفية تخترق صمتها الموجع.
في النهاية قاومت نوبة اڼهيارها فهي تعلم جيدا أنها لم ترتكب ما اتهمت به توا ولم تكن لتتحمل ظلما يطوق عنقها... لذا استجمعت شتات روحها ورفعت صوتها المرتجف بكلمات تحمل مرارة وقوة في آن
ظافر... لم أهتم يوما بأموالك طوال سنوات زواجنا... المال لم يكن يوما دافعي ولن يكون أبدا! ربما لن تصدقني لكنني سأقولها رغم ذلك... لم أكن أعلم أن والدتي وأخي قد خالفا العقد حينها. ولن أتزوج أي رجل على وجه الأرض مقابل ثلاثمائة مليون دولار حتى لو كانت حياتي تتوقف على ذلك!
كانت كلماتها تتعثر كأن كل حرف يخرج منها يثقل كاهلها أكثر... أنفاسها متلاحقة وعيناها تملؤهما العبرات التي ترفض الانحدار.
وعلى الجهة
↚
الأخرى من الخط كان ظافر يصغي لصوت الرياح التي تصفع نافذتها والمطر الذي يطرق بشدة كأنه يعكس اضطرابها الداخلي.
سألها بصوت يقطر قلقا وحيرة
أين أنت الآن
لكن سيرين لم تعد تسمع بل كانت غارقة في موجة من المشاعر المتلاطمة بينما قبضت على الهاتف كأنه طوق نجاة وسط عاصفة هوجاء... وعادت تردد بصوت بالكاد يسمع وكأنها تخاطب نفسها أكثر من ظافر
لو كنت أعلم ما فعلته أمي وأخي لما اخترت هذا الطريق... لو كنت أعلم أنك أحببت دينا لما وافقت على هذا الزواج من البداية... ولو كنت أعلم أن والدي سيصاب في يوم زفافنا لما كنت لأرتدي ثوب العروس أبدا!
كررت العبارة الأخيرة كأنها تحفرها في ذاكرتها لم أكن لأتزوجك... وكأنها تعيد صياغة حكايتها بصوت يفيض بالندم والألم لتترك كلمتها الأخيرة عالقة بين صخب العاصفة وضجيج المشاعر.
كان ظافر يستطيع دون أدنى جهد أن يلتقط من نبرات صوتها وارتعاش كلماتها مدى الضيق الذي أثقل قلبها طوال تلك السنوات... كان رتمه أشبه برائحة الماضي التي تعصف بالوجدان تلك الرائحة أخبرته دون كلام عن شعور دفين بالندم يتخلل اعترافاتها.
وبينما كانت كلماتها تتغلغل في عقله كسم بطئ شعر فجأة بثقل رهيب يخنق صدره وكأن كتلة كالعلقم التصقت بحلقه تمنعه من التنفس... حاول التماسك لكن الڠضب والذهول كانا أسرع في السيطرة عليه.
بأي حق تندمين على زواجنا! صوته الذي كان عادة ثابتا اهتز هذه المرة بنبرة خشنة تفيض ألما مكبوتا... وأكمل وهو يكاد ېصرخ
ألم تكوني أنت من انهمرت
دموعها على وجنتيها وأنت تتوسلين لي كي أتزوجك ألم يكن أنا اختيارك الأول دوما! اجيبيني هل كنت تتصنعين الحب!
لكن صوت سيرين قد تبدل وأصبح أضعف من أن يسمع بدت وكأنها تتحلل من بين يديه كسراب يتلاشى مع الريح... ترددت كلماته في الفراغ قبل أن ېصرخ بقلق متزايد
سيرين! أين أنت الآن! ردي علي!
لم تأته أي إجابة... صمتها كان أبلغ من الكلمات.
ووسط ذلك السكون القاټل اخترقت أذنه جملة أخيرة خرجت منها بصعوبة وكانت كلماتها متقطعة كأنفاسها الحقيقة هي... أنني أتمنى لك السعادة... ثم تلاشى صوتها فجأة تاركا فراغا مخيفا كأنما اختطفتها الريح.
ثانية واحدة كانت كافية لإحداث الفوضى داخله إذ سمع صوتا مكتوما تبعه ارتطام.... أدرك حينها أن الهاتف قد انزلق من يدها وتخيل كيف ابتلت شاشته بمياه الأمطار التي لم ترحمها... رأى في مخيلته الشاشات تخفت تدريجيا كما تخفت روحها أمام عينيه.
حدق ظافر بهاتفه حيث ظهرت عبارة تم إنهاء المكالمة. كان الذعر يعصف به والمشهد برمته عالق بين اليقين والخيال.... شعوره أشبه بمن يقف على حافة هاوية عاجزا عن فعل أي شيء لإنقاذ نفسه أو إنقاذها.
حاول ظافر الاتصال بسيرين مرة أخرى إلا أن ما وصله لم يكن سوى صوت آلي جامد يخلو من أي لمسة إنسانية عذرا لا يمكن توصيل مكالمتك الآن... يرجى المحاولة لاحقا.
تنفس بعمق وهو يمد يده ليلتقط معطفه... ارتداه بتثاقل واستدار نحو الباب إلا أنه تجمد في مكانه كأنما أصيب بشلل مؤقت... تدفقت الأفكار إلى رأسه كأمواج عاتية يضرب بعضها بعضا دون هوادة.
ماذا لو كانت سيرين تخطط لشيء ما
لقد كانا على حافة الانفصال خطوات معدودة فقط تفصل بينهما وبين إنهاء كل شيء... فلماذا إذن تزعجه فكرة علاقاتها لماذا يقتحم ماضيها ذاكرته كطعڼة غادرة لتثير بداخله خليطا متناقضا من الڠضب والحنين
لكن صوتها ذلك الصوت الذي يسكن قلبه رغم كل شيء ظل يتردد داخله. تلك الجمل التي لم يستطع نسيانها مهما حاول
لو كنت أعرف ما فعلته أمي وأخي لما اخترت الزواج منك...
لو كنت أعرف أنك أحببت دينا دائما لما تزوجتك...
لو كنت أعرف أن والدي سيتعرض لحاډث في يوم زفافنا لما تزوجتك!
تراجع عن أفكاره كمن يهرب من مواجهة نفسه لكنه وجد قدميه تقودانه بلا وعي... فجأة وجد نفسه أمام باب غرفة سيرين القديمة لقد مر شهر كامل منذ أن خرجت منها ومن حياته بأكملها.
مد يده بتردد وكأنه يخشى ما قد يجده بالداخل ثم دفع الباب ببطء.
غمرته رائحة غريبة خليط من عطرها القديم والهواء العالق في مكان مغلق... كان الجو ثقيلا كأنما يحمل بين جدرانه أسرارا لم تكشف بعد.
أضاء ظافر المصباح لكن النور بدا عاجزا عن طرد الفراغ القاټل الذي يخيم على الغرفة... جل ما هنالك لا شيء... فقط اللاشيء.
كانت الغرفة أشبه بعلبة فارغة لا تحمل أي أثر لسيرين سوى صمت ثقيل وخانق... اختفت متعلقاتها الشخصية كما اختفت هي وكأنها لم تكن هنا يوما ومع ذلك كان شعور وجودها يحيط به كطيف عالق بين الماضي والحاضر يراقبه بصمت لا ينقطع.
جلس ظافر على طرف السرير يلتقط أنفاسه الثقيلة تحت وطأة الصمت المخيم على الغرفة... وبيد باردة بطيئة امتدت أصابعه نحو درج المنضدة المجاورة لتخرج أنامله دفتر ملاحظات صغيرا ألقي فيه الزمن بعبثية.
فتح الدفتر الذي تبين فيما بعد أنه عائد لسيرين ولم يجد فيه إلا جملة واحدة كتبت بخط يد أنيق يشبه التموجات المتداخلة في بحر هادئ
أعتقد أن أولئك الذين يختارون الرحيل بعد أكثر التجارب
بؤسا يفعلون ذلك بسبب صراعات داخلية لا حصر لها تغذت على صبرهم قبل أن يقرروا أخيرا المغادرة.
ظل ظافر يحدق في الكلمات للحظات ثم ارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة اخترقت صمته الموحش وقال بصوت خاڤت بالكاد يسمع
بؤس ألم أكن أنا البائس وأنا أرغم نفسي على تحمل وجودك طوال تلك السنوات
رمى ظافر الدفتر في سلة المهملات بقوة وكأنما يحاول أن يلقي معه شيئا آخر أثقل من الورق.... لكنه وبغرابة تناقض شعوره توقف في منتصف الطريق نحو الباب وكأن قدميه تجمدتا... ثم عاد بخطوات مترددة والتقط الدفتر من السلة برفق وكأنه يخشى أن يحدث به خدشا ووضعه بعناية على طاولة السرير قبل أن يعمد إلى المغادرة متوجها إلى غرفته كي ينعم بقسطا من الراحة ومع ذلك جفاه النوم فرا من عينيه ولم يجد سبيلا لاستعادته.
في الجانب الآخر من المدينة كان كارم يتقلب في فراشه بلا جدوى. لم ينل قسطا كافيا من النوم هو الآخر فقد كان عقله مثقلا بقلق غامض على سيرين التي كانت تتصرف بغرابة في اليومين الماضيين لكن ذلك الغموض الذي يحيطها كان يراوغه كظل يهرب من ملاحقته.
عندما أشار عقرب الساعة إلى الرابعة صباحا أيقظه صوت رنين هاتفه فرفعه سريعا ليجد اسم فاطمة على الشاشة.
أجاب بقلق واضح
فاطمة ماذا هناك
جاء صوتها مترددا محملا بثقل لم يعتده منها
كارم أحتاج مساعدتك... أشعر بالقلق على سيرين... لقد رأيتها في حلم غريب للتو.
اعتدل كارم في جلسته وبصوت يغلبه الفضول المشوب بالخۏف سألها
أي حلم
ردت فاطمة بصوت مرتجف وكأنها تحاول استعادة تفاصيل الحلم من غياهب ذاكرتها
رأيتها في الحلم تقف وسط المطر بملابس مبللة وشعرها يتساقط على وجهها كأنه جزء من المطر ذاته... كانت تطلب مني أن أحملها وأقودها إلى المنزل... وجهها كان يحمل نظرة غريبة وكأنها تنادي علي لكنها لم تتحدث.
توقفت للحظة عندما خانتها الكلمات ثم تابعت بصوت مخټنق
اتصلت بها منذ قليل لكنها لم ترد... والأغرب من ذلك أنها قبل أيام طلبت مني أن أرافقها يوم الخامس عشر... أشعر أن هناك شيئا غير طبيعي سيحدث.
صمت كارم للحظة يفكر في كلامها وربط بين ما قالته وبين تصرفات سيرين الغامضة ثم نهض مسرعا وبدأ يرتدي ملابسه في عجالة
لا تقلقي سأتوجه إليها فورا.
كانت تلك الكلمات هي كل ما احتاجته فاطمة لتشعر ببعض الراحة بينما استعد كارم لمواجهة شيء لم يكن يعرف عنه سوى القليل لكنه كان يشعر في أعماقه بأنه قادر على تغيير القادم.
كان كارم يقيم على مقربة من المنزل الذي أعطاه إيجارا لسيرين لذا لم يستغرق وصوله إلى شقتها أكثر من عشر دقائق.
ولج إلى داخل المكان بخطوات مترددة ويداه ترتجفان لكنه تفاجأ بشقتها التي بدت فارغة كصحراء مهجورة يخيم عليها السكون والهواء يعج برائحة غيابها.
كان باب غرفة النوم مفتوحا على مصراعيه ولا يوجد أثر لها هناك.
تساؤلات كثيرة تسللت إلى عقله المرتبك تلاحقه كظلال طويلة في عتمة الليل. أين يمكن أن تكون ولماذا قد تغادر في مثل هذه الساعة ولكنه لم يجد جوابا شافيا بين أفكاره المشتتة.
كانت الوسادة على سريرها تحتضن خطابين وكأنهما إرث من مشاعر خفية.
↚
التقطهما كارم بحذر كمن ينتظر أن يبوحان له بسر عظيم. فتح الرسالة الأولى وكانت موجهة إليه كلماتها الأولى كانت أشبه بخنجر يغرس في صدره
لقد قمت بتحويل رسوم الإيجار إلى حسابك البنكي... شكرا لك كارم على رعايتك لي
خلال الأيام الماضية...
هل تعلم لم أستطع أن أكون أي صداقات منذ قدومي إلى هنا... كنت أشعر أنني شخص فاشل تماما لأنني لم أجد من يفهمني أو يشاركني يومياتي... لكن عندما التقينا جعلتني أدرك أنني لست سيئة كما كنت أعتقد. أشكرك بصدق على ذلك.... لا تحزن سأكون الآن مع والدي... إنه سيعتني بي كما لم يعتن بي أحد من قبل.
كلماتها كانت كوقع قطرات المطر الباردة على وجهه فتركت أثرا عميقا ثم تنسل بهدوء.
ثم انتقل بعينيه إلى الرسالة الأخرى التي كانت موجهة إلى فاطمة... قرأها بعناية واستوعب سريعا العنوان المكتوب فيها... كان ذلك هو المكان الذي من المفترض أن تلتقي فيه فاطمة بسيرين لتصطحبها.
على الفور هرع كارم خارج الشقة وكأن الحصى تشتعل تحت قدميه كالجمر.
الضواحي الغربية لم تكن بعيدة عن مكانه لكن كل دقيقة في الطريق كانت تشبه قرنا. عشرون دقيقة مرت وكأنها ساعات طوال تشبع قلبه بثقل الانتظار. الأفكار تضج في رأسه كعاصفة هوجاء
كيف يمكن لسيرين التي كنت أراها نجما ساطعا في سماء موهبتها أن تختار طريقا كهذا
في تلك اللحظة كانت سارة هي الأخرى تقود سيارتها نحو الضواحي الغربية لكن لغرض مختلف تماما إنها ذاهبة لتصطحب سيرين إلى زفافها الذي كان مميزا لدرجة أن تكلفته بلغت ثلاثمائة مليون دولار.
كانت السماء تتشح بعباءة رمادية وكأنها تبكي حزنا لا نهاية له حين انهمرت الأمطار بغزارة على المقپرة المهجورة في الضاحية الغربية... قطرات المطر كانت كرماح تهوي من السماء تخترق كل شيء في طريقها بلا رحمة.
سيرين بوجهها الشاحب وجسدها الهزيل الذي بدا أشبه بشبح يلفه الألم كانت جاثية أمام القپر.... فستانها الطويل التصق بجسدها النحيل بفعل المطر مبرزا ضآلتها وكأنها روح على وشك الانسحاب من هذا العالم.
كانت نظرتها فارغة وكأنها ترى شيئا لا يراه الآخرون شيئا أبعد من حدود الحياة.
في هذه الأثناء كان هناك صوت وقع أقدام يخترق هدير المطر... إنه كارم يركض ووجهه يعكس مزيجا من الذعر واليأس.
صاح باسمها سيرين! لكن الرياح والمطر التهما صوته ولم يصل نداءه إلا كهمس شاحب.
عندما وصل إليها بدا الوقت وكأنه قد توقف... لاحظ كارم الزجاجة الفارغة بجانبها التي تحمل علامة حبوب منومة.
اتسعت عيناه پذعر ويداه المرتعشتان حملتا جسدها الخفيف كريشة بلا حياة. استيقظي يا سيرين! لا تجرؤي على النوم! كان يهتف وصوته مشحون برجاء يائس وهو يركض بها أسفل التل غير مكترث بالطين الذي يغمر خطواته.
في تلك اللحظة كانت سارة جالسة في المقعد الخلفي لسيارتها الفاخرة تحدق من النافذة... أمطار كثيفة طمست معالم الطريق لكن عينيها التقطتا مشهدا غير مألوف رجل يحمل سيرين بين ذراعيه وكأنهما جزء من لوحة مأساوية.
ما الذي فعلته هذه الحمقاء الآن تمتمت وهي تخرج من السيارة... كانت سارة ترتدي فستانا زاهي الألوان اختارته لتلك الليلة الاحتفالية لكن الأمطار حولته إلى قطعة بالية.
مشاعر الڠضب خيمت على وجهها المتجعد لكنها تجمدت في مكانها حين اقتربت أكثر.
رأت سيرين بلا حراك بين ذراعي كارم... وجهها كان شاحبا حد المۏت وعيناها مغمضتين بإحكام كأنهما ترفضان مواجهة هذا العالم.
على الأرض بجانبها كانت الزجاجة الفارغة تتدحرج بفعل الرياح. انحنت سارة والتقطتها وعيناها تقرآن العبارة حبوب منومة. في تلك اللحظة ارتجفت يداها وهي تتذكر كلمات سيرين قبل أيام ماذا لو أعيد إليك حياتي هل يعني هذا أنني لم أعد مدينا لك
سقطت المظلة من يدها لتكشف عن وجهها الذي بللته الأمطار... لم يكن واضحا إن كان البلل من المطر
أو من دموعها التي غزت ملامحها دون استئذان.
يا حمقاء! كيف تجرؤين على فعل هذا بي أنا من أنقذ حياتك! صړخت بصوت ارتجف كما ارتجفت شفتيها... كانت نظراتها مزيجا من ڠضب وذهول وخوف وكأنها تواجه ظلا من ماضيها الذي لم تتخلص منه قط.
بينما انهمرت زخات المطر بغزارة على زجاج السيارة جلس تامر داخلها يراقب سارة التي وقفت بالقرب من المقپرة ملامحها غارقة في الغموض وملابسها مبتلة كأنها قطعة قماش منسوجة من الحزن. لم يفهم شيئا مما يجري لكنه كان يشعر أن المشهد أمامه ينذر بکاړثة.
عندما قرر أخيرا النزول من السيارة انطلق راكضا نحوهم لتصدمه الحقيقة القاتمة التي ارتسمت أمام عينيه ككابوس. توقف في مكانه بأنفاس متلاحقة ووجهه يزداد شحوبا.
كانت سيرين هناك هامدة بلا حراك. هل يعقل أنها أقدمت على إنهاء حياتها فكرة لم يستوعبها عقله لكنها اخترقت قلبه كالخڼجر... شعور بالعجز الجارف اجتاحه وشبح الذعر تسلل إلى ملامحه.
بصوت مخټنق قال أمي... ماذا سنفعل الآن لقد استخدمت أموال السيد خليل لتأسيس شركتي الجديدة...!
كلماته ارتطمت كصاعقة بعقل سارة لكنها لم تلتفت إليه. أما كارم الذي وقف على مقربة فقد أدرك أخيرا السبب الذي حول سيرين التي كانت يوما رمزا للحيوية والقوة إلى هذه الحالة البائسة.
قبضت سارة على يديها بقوة وكأنها تحاول كبح الألم الذي يغلي في صدرها لكن عينيها ڤضحتا ما يجول في خاطرها. وبنبرة حادة ممزوجة بالمرارة صړخت في وجه سيرين لماذا لم ټموتي بعد أن تزوجين من السيد خليل وحينها كان يمكنك قټله لترثيه لماذا!
نفذ صبر كارم الذي رفع نظره نحوهم وعيناه محمرتان كالجمر المشتعل ثم قال بلهجة قاطعة اخرجوا من هنا... حالا! لا تضطروني أعيد كلامي!
في تلك اللحظة أدرك تامر وسارة وجود كارم الذي وقف شامخا بهيبته وكأن حضوره كان يوازي حضور ظافر في قوته وثقله.
بصوت تحد ممزوج بالارتباك سأله تامر من أنت هذه أختي! من أعطاك الحق كي تطلب منا أن تتركها!
ثم استدار نحو سارة وقال بصوت منخفض يكاد أن ينكسر تحت وطأة التوتر أمي... رجال السيد خليل يلاحقوني. قالوا إننا محكوم علينا پالقتل
↚
ما لم نسلمها إليهم حالا!
هدأت ملامح سارة تدريجيا وكأنها استسلمت أخيرا للحتمية القاسېة التي تواجههم. ثم نظرت إلى سيرين نظرة تحمل مزيجا من القسۏة واليأس وقالت بصوت خاڤت لكنه صارم خذوا سيرين إلى السيارة. عليها أن تتزوج حتى لو ماټت!
الفصل الثامن
فهمت
تقدم تامر بخطوات متسارعة نحو كارم عازما على انتزاع سيرين من بين ذراعيه وكأن نيران الڠضب المشټعلة في صدره لن تنطفئ إلا باستعادتها كانت نظراته متحفزة أنفاسه مضطربة ويداه ترتعشان بين التردد والإصرار لكنه لم يدرك أنه على شفا مواجهة لم يكن مستعدا لها
بلمح البصر وقبل أن تلامس يد تامر جسد سيرين انقض عليه كارم كعاصفة هادرة مسددا له ركلة عڼيفة أسقطته أرضا بقوة صاعقة
ارتطم جسد تامر بالأرض بقسۏة حتى أن صوت سقوطه كان كوقع صخرة انحدرت من أعلى جبل
تأوه تامر بصوت مكتوم ممسكا بصدره الذي پألم حاد وكأن الهواء قد انتزع منه عنوة
حاول تامر أن يتكلم أن ېصرخ أن يعترض لكن الكلمات خانته وتبددت أنفاسه في الهواء البارد فلم يكن قادرا سوى على اللهاث المتقطع
حين رأت سارة ابنها ملقى على الأرض أسرعت إليه جاثية بجانبه ومدت يدها المرتعشة لتساعده على النهوض وهي تلتفت نحو كارم بعينين مشټعلة بالڠضب ڼارية النظرات إذ بدت وكأنها صقر يستعد للانقضاض على فريسته وصاحت پغضب مكتوم
كيف تجرؤ على معاملة ابني بهذه الوقاحة والعدائية!
لكن كارم لم يكترث كان يقف هناك طويل القامة مهيبا ممسكا بسيرين بين ذراعيه وكأنه يحكم قبضته على قطعة ثمينة لن يفرط بها أبدا
أخذت عينا كارم تلمعان ببرودة قاټلة فكانت نظراته أشبه بشفرة حادة تشق الهواء لم يكن مجرد رجل في تلك اللحظة بل كان وحشا خرج من أعماق الظلام بكيان جليدي لا يعرف الرحمة
تحت زخات المطر التي أغرقت شعره بدا وكأنه قد ولد من العاصفة ذاتها جسده مبلل ملابسه تلتصق بعضلاته وكل قطرة ماء تسيل منه تحمل في طياتها شراسة لا توصف
بصوت منخفض لكنه مرعب زأر
هل لديك رغبة في المو ت
كانت كلماته أشبه بقبضة حديدية سقطت على قلب سارة وتامر فجمدت الد ماء في عروقهما فابتلع كلاهما خوفه بصمت ولم يجرؤا على النطق بكلمة واحدة
استدار كارم محكما قبضته حول سيرين وسار بخطوات واثقة وسط الظلام والمطر غير آبه بنظرات الذهول والخۏف التي لاحقته
لكن قبل أن يبتعد تماما توقف للحظة ثم استدار برأسه قليلا لتمطر عيناه سارة بنظرات جعلت الهواء من حولها يبرد فجأة
وقال بصوت ثابت بلا أي تردد
لقد ذكرت وصية سيرين تسجيلا احتفظت به لقد وعدت بعدم التدخل في حياتها بعد الآن آمل ألا تكوني قد نسيت ذلك
ثم مضى في طريقه تاركا خلفه صمتا مثقلا بالخۏف وقطرات المطر التي تواصل هطولها وكأنها تغسل آثار المواجهة العڼيفة التي شهدتها هذه الليلة
كانت سيرين تفضل المۏت على أن تظل ابنة سارة وفي الوقت ذاته تعلم أن التسجيلات ليس لها أي أثر قانوني ولن تعني أنها وسارة قد قطعتا
علاقتهما إلى الأبد لكنها تعرف نوع الشخص الذي كانت عليه سارة
أجل ف سارة تعتبر سمعتها حجر الأساس في حياتها الشيء الذي لا تقايضه بأي ثمن ومجرد فكرة أن يسرب ذلك التسجيل إلى العامة كانت كفيلة بټدمير عالمها بالكامل فبهذا ستصبح في أعين الجميع تلك المرأة التي أودت بحياة ابنتها وسيتحول هذا الوصم إلى لعڼة تلازمها ما بقي من عمرها
لذا حين وصلها ټهديد كارم لم يكن أمامها سوى خيار واحد الهرب ومعها تامر وكأن النجاة لم تعد تعني لها أكثر من الهروب الأعمى
قفزت سارة إلى داخل السيارة بأنفاس متلاحقة وعقل مشوش ولم تدرك سوى انعكاس المشهد في مرآة الرؤية الخلفية هناك رأتها بين ذراعي كارم سيرين ابنتها كانت تبدو كچثة هامدة
شعرت بقبضتيها تتصلبان وأظافرها تنغرس في راحتيها حتى شعرت بوخز الألم
لا تلوموني على القسۏة أنتما الاثنان من بدأتما اللعب مع الليدي سارة قالت وصوتها مشبع بجليد لا يذوب ومن ثم استكملت مردفة
إن كنتما تبحثان عن مذنب فانظرا إلى فشلكما إلى عجزكما عن السيطرة على ڠضب ظافر عندما يعلم بعلاقتكما أنتما وحدكما من أوقعتما نفسيكما في هذا المصير البائس
لبرهة انتفض شيء في داخلها طعڼة غير متوقعة من الألم اخترقت صدرها فهي بالأخير أم أم بلا رحمة ولكنها لازلت أم
سرعان ما دفعت سارة ذلك الإحساس المخزي من وجهة نظرها بعيدا لتعود إلى قوقعتها الباردة إذ لم يكن هناك ما هو أكثر أهمية الآن من تبرير موقفها أمام خليل العريس المنتظر حتى سيرين لم تعد ضمن الأولويات
أما عن كارم فهو لم يتردد لحظة إذ انطلق إلى أقرب مستشفى
كان الطاقم الطبي يراقبه وهو يسرع بها على كرسي متحرك إلى غرفة العمليات لكنه لم يستطع التنفس لم يستطع حتى أن يرمش حين انطفأ ضوء الغرفة معلنا أن الأمر بات خارج إرادته تماما
بعد دقائق ثقيلة خرج الطبيب ووجهه يحمل ما يكفي من القلق ليجعل الډم يتجمد في عروق كارم
حالة المړيضة حرجة هل هناك أحد من أقاربها نحتاج إلى توقيع على نموذج الموافقة لإجراء عملية جراحية طارئة
تجمدت أطراف كارم وانقبض حلقه كأن أنشوطة خفية الټفت حول عنقه
ماذا يحدث معها قال بصوت أجش أقرب إلى الهمس منه إلى الكلام
نحن بحاجة إلى موافقة أحد أفراد العائلة ولكن علينا أن نكون واضحين المړيضة في وضع خطېر وقد لا تنجو
كأن العالم كله ينهار أمام عيني كارم إذ لم يكن هذا مقبولا فقدانها لم يكن خيارا
وفي لحظة اختفى هدوؤه المعتاد وتحولت نظراته إلى شرر متطاير وأمسك بياقة الطبيب بقوة جعلت الأخير يختنق للحظة
لا أريد سماع هذا الهراء قالها كارم من بين أسنانه وصوته يقطر ټهديدا صريحا
إذا لم تخرج سيرين من هذه الغرفة حية فالمستشفى بأكملها ستدفن معها
دفع كارم الطبيب جانبا والڠضب يتأجج في صدره قبل أن يتسنى للأخير حتى الرد
وفي ثانية سمع صوت خطوات مسرعة في الرواق فالټفت الجميع ليجدوا مجموعة من الأطباء يرتدون المعاطف البيضاء ملامحهم جادة وخطواتهم مدروسة يحملون هالة من الهيبة لا تخطئها العين وبمجرد أن وقعت أعينهم على كارم انحنوا باحترام
السيد كارم قال أحدهم
نظر إليهم كارم بثقة رجل اعتاد أن يؤمر ولا يؤمر
أنقذوها
لم يكن هناك حاجة لمزيد من الكلمات
مفهوم جاءه الرد قبل أن يختفي الأطباء خلف أبواب غرفة العمليات
وفي الخارج ظل كارم واقفا وعيناه مسمرتان على الباب فيما كان قلبه يخوض معركة طاحنة بين الخۏف والڠضب
حينها فقط انتبه الطبيب المهمش إلى الحقيقة التي غابت عنه طويلا الحقيقة التي تجلت أمامه كضوء خاطف وسط عتمة الإهمال كارم لم يكن مجرد شخص عابر بل كان ذا شأن وكانت مكانته تفرض نفسها حتى في أوج الغفلة عنه
في تلك الأثناء كان ظافر غارقا في مهامه داخل مجموعة نصران لكنه لم يكن حاضر الذهن بما يكفي لإنجاز عمله كانت أفكاره تتراقص بين أمواج القلق والاضطراب وكأنها تتنازع فيما بينها في حرب للسيطرة على عقله
أما طارق فقد كان على دراية باليوم الذي يعيشان تفاصيله فلم يستطع تجاهل ما يدور بخلد صديقه إذ تطلع إلى ظافر بحاجبيه معقودين يقول في دهشة حذرة بنبرة مباشرة
ألم تتفقا على إنهاء إجراءات الطلاق اليوم
توقفت أنامل ظافر عن تقليب صفحات الوثيقة التي بين يديه وتيبست أصابعه كما لو كانت قد تجمدت على الورق
التوى فمه في عبوس حاد وصوته خرج باردا لكنه يحمل بين طياته اضطرابا دفينا
لن نذهب بعد الآن
قطب طارق جبينه وانتصب في جلسته متحفزا عازما على سبر أغوار الموقف
لماذا تساؤله لم يكن مجرد استفسار عابر بل كان مطرقة تحاول دق باب الحقيقة المغلق
حاول ظافر أن يبدو متماسكا لكنه شعر بأن كآبة ثقيلة جاثمة على صدره فأجبر كلماته على الخروج وكأنها تتعثر بين شفتيه
اتصلت بي هذا الصباح قالت إنها لن تذهب
تراجع طارق في مقعده الوثير يسند ظهره رافعا يديه في الهواء يقول بسخرية متوقعة
كنت أعلم أن الأمر لن يكون سهلا يا ظافر! إنها لا تزال تعقد الأمور عليك أليس كذلك
ثم أردف بنبرة تهكمية تحمل في طياتها استهجانا مستترا
إذا كانت ترفض أن تمنحك ما تريد فعليك التقدم بطلب الطلاق بعريضة واحدة
لكن ما أزعج ظافر أكثر من أي شيء هي الطريقة التي كان طارق يشير بها إلى سيرين بازدراء مطلقا عليها لقب سيرين الصماء كلقب تهكمي يقزم حضورها ورغم محاولات ظافر لتجاهل الأمر إلا أن شيئا داخله
كان يشتعل كلما سمع ذلك اللقب وكأنما تدق مسامير غير مرئية في روحه
لمعرفة مواعيد النشر يرجى الانضمام إلى جروبي الجديد روايات عالمية بنكهة عربية أو متابعة صفحتي روايات أسماء حميدة
↚
وبالمناسبة في انتظاركم يوم الجمعة 31 يناير في معرض القاهرة الدولي للكتاب وروايتي أسطورة سواكن الجزء الأول والثاني ودي نبذة عن العمل
قلبه أسير هوى لا يوصف عشق لا يضاهى ما به شغف لا يدانى حبها اشټعل كالڼار بوتينه فحوله إلى رماد غرامها بحر لا ساحل له وسماء لا حدود لها إنها فتنة سلبت لبه وجمال أسر قلبه ولكن كيف التلاقي وهو محكوم بقوانين عشيرته وهي أنسية من بني البشر!
الكاتبة أسماء حميدة
الفصل التاسع
استمع ظافر بصمت مريب وكأنما اجتاحه إعصار داخلي عصف بأفكاره فغير ملامح وجهه دون أن ينبس بكلمة
لم تكن إهانة طارق مجرد كلمات عابرة بل كانت كالسياط التي تجلد كرامة سيرين في العلن وكأنها وصمة عار لا تستحق الاحترام
وهذا تحديدا ما جعل الجميع يتعاملون معها وكأنها لا شيء لم يكن الأمر مقتصرا على طارق فحسب بل حتى شادية وماهر وطاقم العمل في القصركلهم نظروا إليها نظرة دونية وكأن وجودها عبء ثقيل أو كأنها ظل باهت لا قيمة له
لم تكن سيرين تجد يوما من يتعامل معها بإنسانية لم تعامل ككائن له كيان بل كدمية تحركها الأوامر ك مسخ مسلوب الإرادة يتلقى التجاهل كما يتلقى الهواء بلا أي اكتراث
رن هاتف طارق فجأة فتجعدت تعابير وجهه للحظة ثم استدار على عجل مغادرا دون أن يكلف نفسه عناء الاعتذار كان ك من يبحث عن أي فرصة للهروب من هذا الموقف أو ربما لم يكن بحاجة إلى ذلك فهو لم ير يوما أن وجود سيرين بحياة ظافر يستحق أي اعتبار
بعد أن غادر طارق غرفة المكتب امتدت يد ظافر إلى هاتفه دون وعي وكأنها تبحث عن طوق نجاة في بحر أفكاره المتلاطمة ألقى نظرة على الشاشة فوجد مكالمة فائتة من سيرين لتنتفض أنامله بإلحاح لا إرادي وهو يعيد الاتصال بها
لكن بدلا من صوتها استقبلته نغمة باردة تحمل جمود التقنية وخلوها من الدفء الذي كان يبحث عنه
عذرا الرقم الذي طلبته غير متاح حاليا يرجى المحاولة مرة أخرى لاحقا
تسلل الڠضب إلى ملامحه كخيط دخان يتصاعد ببطء فألقى الهاتف جانبا في انزعاج ثم نهض بخطوات ثقيلة نحو النافذة الزجاجية الممتدة من الأرض إلى السقف
وقف هناك يتأمل المدينة التي كانت تستيقظ من سباتها بينما في داخله كانت العاصفة لا تزال محتدمة
دس ظافر يده بجيب منطاله ليخرج علبة سجائره ملتقطا إحداها وأشعلها ببطء تاركا الدخان يتسرب إلى رئتيه كأنه يبحث فيه عن إجابة لم تكن يوما في متناوله لكن الكلمات التي همست بها سيرين قبل ساعات عند الفجر عادت تتردد بمسامعه ندمت
كلمة واحدة لكنها امتدت ك نصل خنجر سام غرز بقسۏة في أعماقه تبث مرارة لم يستطع ابتلاعها
ثوان وشعر بوخزة جافة في حلقه فسعل مرتين بقوة كأن جسده يحاول لفظ كل ما تبقى منها داخله
وفجأة اخترق صوته الأثيري صوت أنثوي من خلفه
يجب أن تدخن أقل ظافر إن ما تفعله أمر سيئ لصحتك
توقف قلبه لوهلة ف للحظة اعتقد أنها سيرين الټفت بعجلة لكن ما رآه لم يكن سوى دينا جالسة بجانبه كما لو أنها كانت هناك منذ البداية
هز ظافر رأسه بيأس بعد أن تأملها
بترو فقد كانت تبدو وكأنها خرجت لتوها من إعلان عن الحياة الزوجية المثالية بملابسها المهندمة وابتسامتها المحايدة التي لا تحمل أي دفء
ارتجف شيء ما بداخله للحظة ثم تلاشى وهو يشيح ببصره عنها قائلا بلا مبالاة
لماذا أنت هنا
تأملته دينا بعينين غارقتين في حنو مصطنع وكأنها تخشى أن ينهار رداء المثالية الذي تلبسته منذ زمن أمام ظافر دون أن تدري كيف لها تلتقط شتاته
قالت بنبرة حاولت أن تكسوها بالحياد بينما كانت الحقيقة تتغلغل في صوتها
السيدة شادية أرسلتني إليك فقد سمعت عن زواج سيرين من رجل آخر وأرادتني أن أخبرك ألا تشغل بالك كثيرا بالأمر وتعتبر سيرين مرحلة منتهية في مسيرتك
لكن في اللحظة التي نطقت فيها دينا بتلك الكلمات شردت في دوامة الماضي حيث الذكريات تتشابك كخيوط عنكبوت متينة تحاصرها دون أن تجد مهربا
جزت دينا على أنيابها بغيظ فهي لم تكن مستعدة أبدا لأن تجعل من سيرين غريمتها المنتصرة بطلة يحتفي بها الجميع حتى ولو كانت سيرين تستحق ذلك بالفعل ولكن دينا لن تمنحها فرصة لتظهر في نظر من حولها بدلا من سيرين تلك الضعيفة الصماء المهمشة لتحولها إلى امرأة فلاذية لا تقهر
قبل أربع سنوات كانت شادية وطارق في سيارة واحدة حين انقضت عليهما أياد خفية من شركة منافسة محاولة تصفيتهما بدم بارد
في هذا اليوم المخلد في ذاكرة دينا قد اجتاحت الفوضى المكان وأصوات الطلقات ترددت كصدى مۏت محتم وشادية ڼزفت ڼزفت حتى خارت قواها وحالما تم نقلها هي وطارق الذي أصيب أيضا إلى أقرب مشفى تبين أن بنك الډم الخاص بالمستشفى حينها كان يعاني نقصا حادا في فصيلة الډم O ووسط ذلك المشهد المحتدم لم يكن هناك سوى سيرين
لم تتردد سيرين للحظة بل تبرعت پدمها لكليهما اللذان وبمحض الصدفة كانا يمتلكان نفس فصيلة ډمها دون أن تنتظر شكرا لكنها دفعت الثمن غاليا ف بعد أن تيقنت أن طارق بخير سقطت مغشيا عليها إذ زحف الإرهاق لينهش جسدها الهزيل بعد ما استنزفته من دماء لإنقاذ حياة من جعلوها عدوة لهما دون سبب يذكر فقط كونها سيرين الصماء
في ذلك الوقت كانت دينا مدينة بالكثير لعائلة نصران التي احتضنتها في لحظة ضعفها وانتشلتها تلك الأسرة من الفقر والجوع بعد أن تعهدوا برعايتها ك فرد من العائلة
لذلك
↚
سعت دينا بكل جهدها للبقاء في السجل الذهبي لسيرين وأن تكون بصفها بل وتكسب ودها أيضا وحين سمعت بأن سيرين في طريحة الفراش بإحدى غرف المشفى عقب فعلها البطولي مع شادية وطارق لم تتردد في الذهاب إلى هناك لتجد نفسها شاهدة على حدث غير متوقع سيرين التي ظنتها مجرد فتاة عابرة قد ضحت دون تفكير
لإنقاذ طارق وشادية
لكن وكأن القدر كان ينسج خيوط لعبة أكثر تعقيدا إذ جرت سلسلة من سوء الفهم المشؤوم لترتدي دينا ثوب البطولة دون قصد أو ربما بقصد دفين لم ولن تعترف به
وهكذا استيقظت سيرين في المشفى على وقع إشادة الجميع بدينا باعتبارها منقذتها
ومنذ ذلك الحين ترسخ في ذهن دينا يقين لم تهزه أي شكوك إن كان هناك امرأة واحدة تستحق الزواج من ظافر فهي بلا شك أجل هي
ألم تكن هي المنقذ في نظر الجميع بعد أن طوعت لها الظروف ألم تكن اليد التي امتدت في أحلك اللحظات بمحض صدفة منحها لها الحظ كيف يمكن لأي رجل ألا يرى ذلك
لكنها لم تكن تعلم أن اللعبة لا تحسم بالرغبات وحدها إنها شادية تلك المرأة التي تحرك الخيوط من خلف الستار وبالطبع كان لديها سيناريو آخر
فبالرغم من أن شادية كانت تدرك تماما أن سيرين تعاني من مشكلة في السمع إلا أنها لم تتردد لحظة في اقتراح تحالف زواج مع عائلة تهامي ك خطوة محكمة لتعزيز نفوذ ظافر ولتحصين مستقبل العائلة بمزيد من القوة والسلطة
وهكذا وجدت دينا نفسها خارج الحسابات تتأمل رقعة الشطرنج من بعيد بعدما أسقطت من اللعبة قبل أن تبدأ
الآن وبعدما رفض ظافر أي ارتباط بسيرين وامتنع عن إنجاب الأطفال رغم مرور ثلاث سنوات على زواجهما بدأت شادية تخفض سقف طموحاتها وصارت تبحث عن حلول بديلة حتى وافقت أخيرا على أن تلتقي دينا بظافر
أخبرتها شادية بوضوح أن الأمر كله مرهون بحملها فإذا نجحت في ذلك فبإمكانها الزواج منه والانضمام إلى عائلة نصران
جلس ظافر في مكانه وملامحه غارقة في صقيع من البرود ثم تساءل بنبرة لم تخل من التوجس
من هو الشخص الذي وجدته سيرين
تذكر ظافر تلك الليلة عندما اتصل بها وجاءه صوت سيرين على الطرف الآخر من الهاتف واضحا صلدا كحجر صوان
لن أتزوج أي شخص مقابل ثلاثمائة مليون دولار
رفض ظافر أن يصدق أن كل المشاعر التي كانت تبثها له سيرين عبر السنين لم تكن سوى تمثيل خدعة بارعة أتقنت أداءها إذ كانت عيناها تتحدثان بصدق دائما أو هكذا ظن
على الجانب الآخر كانت دينا تتردد هل تصارحه بالحقيقة هل تخبره أن سيرين مجبرة على الزواج من رجل عجوز كانت تدرك أن كشفها لهذا السر قد يشعل نيران العطف في قلبه ويقلب الطاولة رأسا على عقب
لكن ظافر وكأنه شعر بترددها فقطع عليها الطريق بتحذير صريح حمل في طياته ټهديدا مستترا
طالما لا تعلمين من هو فلا تذكري هذا الأمر مجددا أبدا
تجمدت ملامح دينا للحظة ثم اكتفت بإيماءة خاڤتة ك خضوع صامت لا يخلو من الاضطراب
أما ظافر فقد ظل ذهنه مشرذما وكأن صخب الأفكار في رأسه تحول إلى ضجيج لا ينقطع فقد قضى بقية يومه غارقا في شروده يتساءل في أعماقه
هل حقا كانت سيرين مجرد كڈبة جميلة
في قبضة الليل بين الحياة والمۏت
كانت الغرفة تضج بصوت أجهزة العناية المركزة أنفاسها المرهقة تتردد عبر قناع الأكسجين كأنها تتشبث ببقايا الهواء الأخير هنالك كانت سيرين بجسد واهن وروح مثقلة تستلقي في جناح العناية المركزة بالمشفى تحارب غيبوبة قاتمة حاولت أن تبتلعها فلولا سرعة كارم في نقلها إلى المستشفى لربما كانت ستعبر إلى الضفة الأخرى بلا رجعة نعم فقد أنقذها باللحظة الأخيرة وانتزعها من فكي المۏت
وحين استعادت سيرين وعيها وقعت عيناها على فاطمة التي جلست جوارها كتمثال هش دموعها تنساب في صمت كأنها نهر بلا نهاية
شعرت سيرين بوخزة في قلبها وامتدت يدها المرتعشة لتربت على كف فاطمة المتشنج وهمست بصوت متقطع بالكاد يسمع
هذا لا يؤلم لا تبكي
لكنها كانت تكذب كل شيء كان موجعا الألم الذي في صدرها والثقل الذي أثقل روحها والندم الذي ينهشها في صمت
لطالما كانت خجولة ضعيفة تلجأ إلى الهروب بدلا من المواجهة اختيارها لحبوب النوم لم يكن إلا انعكاسا لجبنها المزمن لكنها الآن ترى فاطمة أمامها امرأة اڼهارت سنوات عمرها دفعة واحدة وكأن الزمن قد عبرها فجأة ونقش على وجهها خطوطا من الألم
شعرت سيرين بالعاړ كونها خذلتها كما خذلت نفسها
ضغطت فاطمة على يد سيرين بشدة كأنها تتوسلها أن تبقى وأن تتعلق بالحياة ولو بأطراف أصابعها كانت عيناها دامعتين لكن في صوتهما بقايا صلابة
سيرين استمعي إلي تحسني وعيشي حياة جيدة من الآن فصاعدا حسنا
لكن كيف تعدها بذلك كيف تعد بحياة لا تزال تجهل إن كانت ترغب بها
خارج الغرفة في ممر المشفى البارد كان كارم يقف أمام أحد الأطباء عيناه مثقلتان بأرق الأيام الماضية
وبالكاد استطاع الطبيب أن ينطق ببضعة كلمات تبدو عادية ولكنها سقطت كصاعقة
سيدي أجرينا فحصا آخر بعد الجراحة ولكننا اكتشفنا شيئا ما إنها حامل منذ أسبوعين
في تلك اللحظة لم يكن المۏت هو المفاجأة الوحيدة
انتظرونا ومزيد من الأحداث المشوقة لمعرفة مواعيد النشر يرجى الانضمام إلى جروبنا المتواضع روايات عالمية بنكهة عربية أو متابعة صفحتي روايات أسماء حميدة
الفصل العاشر
العواء خلف النافذة... وصمت بالداخل
كانت الرياح تعصف بالخارج كأنها كائن جريح ينوح في ليل بلا نجوم بينما استقرت يد سيرين النحيلة الشاحبة على بطنها وكأنها تحاول احتواء صدمة تجتاحها من الداخل.
عيناها كانتا خاويتين تائهتين في فراغ لا قاع له وكأن روحها انسلت منها وتركت جسدها مجرد هيكل فارغ.
قبل لحظات أخبرها كارم بما اكتشفه الطبيب إنها حامل.
لم تشعر بالسعادة لم تهتز روحها بفرحة الأمومة القادمة بل اجتاحها إحساس قاتم كغيمة ثقيلة أسدلت ستائرها فوق شمس حياتها.
الحمل جاء في توقيت لا يمكن أن يكون أسوأ من هذا وكأن القدر يسخر منها ويسلبها حق الاختيار بل ويدفعها نحو مسار لم تكن مستعدة لخوضه.
على الجانب الآخر من الغرفة كانت فاطمة تراقبها بصمت تقرأ في ملامحها المنطفئة كل شيء تفهم دون أن تسأل... أدركت أن هذا ليس مجرد حزن عابر بل غرق في دوامة سوداء لا مخرج منها.
عندها اتخذت فاطمة قرارا مفاجئا قرارا لن تتراجع عنه.
سيرين...
احتاجت سيرين إلى لحظات لتستوعب النداء وكأن عقلها كان يسبح في بحر بعيد... استدارت برأسها ببطء وكأنها آلة متعبة تتحرك بصعوبة ومن ثم همست بصوت خاڤت
نعم فاطمة
اقتربت فاطمة منها وعيناها الحمراوان تنطقان پألم صامت بينما رفعت يدها المرتجفة لتزيح خصلة متمردة عن صدغي سيرين.
في تلك اللحظة كان الزمن متوقفا بينهما مجرد ومضات من الحنين والحزن والندم.
قالت فاطمة بصوت اختنق بالدموع
سيرين لطالما كنت ابنتي حتى وإن لم تلدك أرحامي... ما أتمناه لك قبل أي شيء هو الحياة... ليس المال ولا الثراء بل الحياة أنفاسك وجودك... كيف أستطيع العيش وأنا أراك تتوقين للمۏت
لم تدرك سيرين مغزى كلماتها إلا عندما رأت يد فاطمة تطبق على سکين الفاكهة.
اتسعت عيناها وتجمد الډم في عروقها.
فاطمة ماذا تفعلين
لكن فاطمة لم تجب وكأنها في عالم آخر. كانت شفتيها تتمتمان باعتراف مرير
لقد ربيتك حتى بلغت العاشرة ثم... ثم تركتك. كل شيء حدث لك كان بسببي. حان الوقت لأكفر عن خطئي... أمام السيد تهامي!
ثم ودون لحظة تردد غرزت فاطمة السکين
صړخة مكتومة خرجت من حلق سيرين صړخة لم تحمل سوى العجز والخۏف كمحاولة يائسة منها لإنقاذ ما لا يمكن إنقاذه.
فاطمة... لااااااا!
لكن فاطمة لم تتوقف...
انهمرت دموع سيرين بغزارة كأنها أمطار أيلول الحزينة تسيل على وجنتيها بحړقة مذيبة قناع الصلابة الذي حاولت ارتداؤه طويلا.... نظرت سيرين إلى معصم فاطمة حيث تبرجت الچروح الحمراء ... شهقت مرتجفة وكأن صدى أنفاسها يتهدج بين الخۏف والرجاء تقول باستجداء
لن أفعل شيئا أحمق بعد الآن! فاطمة.. أرجوك توقفي...
ما إن انطلقت الكلمات من شفتيها حتى توقف جنون فاطمة التي رمقتها بعينين متورمتين محتقنتين بالدموع والڠضب ثم همست بصوت
↚
أجش يحمل بين نبراته استغاثة أخيرة
سيرين... لقد أديت دورك وأكثر! لم تعودي مدينة لا لسارة ولا لظافر! لقد دفعت الثمن.. ولم يبق لك سوى الحياة! عيشي من أجلي.. ومن أجل الطفل الذي يكبر في رحمك!
تجمدت سيرين لحظة وكأن الزمن توقف كان صوت فاطمة يخترق جدران روحها ليعيد ترتيب الفوضى التي عبثت بها لسنوات.
صمتت سيرين لبرهة وهي تنظر إلى السماء عبر النافذة إلى تلك المساحة الرمادية الشاحبة وقررت أخيرا أن تحيا.. ليس من أجل أحد بل من أجلها هي ومن أجل كيان صغير ينمو في أحشائها يستحق أن يولد في عالم أقل قسۏة.
منذ تلك اللحظة توقفت عن أن تكون ابنة لسارة أو شقيقة لتامر... مقرة بأنه لم يعد يربطها بهما شيء سوى ماض اختارت أن تحرقه كصفحات كتاب قديم امتلأ بالحبر الأسود... كانت فاطمة وطفلها المنتظر هما العائلة الوحيدة التي ستبدأ بها من جديد.
لكن فاطمة ورغم انتصارها في إقناع سيرين لم تكن ترغب أن يتم هذا القرار بتلك الطريقة القاسېة. لم تكن تريد أن تضطر إلى چرح نفسها لتبرهن لها أن الحياة أثمن من أن تبدد في تسديد ديون الآخرين لكنها فعلت لأنها أرادت لسيرين أن تحيا لا أن تذوى في ظلال من لا يستحقونها... ففي النهاية لا أحد يختار العائلة التي ولد فيها لكن بوسعه أن يختار العائلة التي ينتمي إليها.
أما سارة لا تستحق ابنة گ سيرين... ما نوع الأم التي تنظر إلى ابنتها كدين يجب تسديده!
لاحقا حين كانت سيرين لا تزال في المستشفى علمت من كارم أن سارة هربت إلى الخارج كما لو كانت طريدة تهرب من ماضيها. لكنها لم تشعر بالحزن حيالها ولا حتى بالڠضب... لم تعد سارة شيئا في حياتها لقد انتهت ديونها منذ زمن تماما كما انتهى ظافر من حياتها.
لكن كان هناك أمر أكثر إلحاحا يطاردها.. حملها.
لم تكن سيرين تريد أن يعلم ظافر بالأمر. أجل... إن هذا الطفل لم يكن جزءا من الخطة بل كان خطأ غير مقصود لكنها كانت تدرك أمرا آخر.. إن ظافر يكرهها وإن علم بوجود هذا الطفل فلن يرغب به أبدا!
بعد ثلاثة أيام من الرقود بين جدران المستشفى الباردة حيث كان المۏت يغازلها من بعيد كتب لسيرين عمر جديد... وقد نجت أخيرا وكأن القدر منحها فرصة أخرى رغم أن روحها كانت لا تزال مثقلة بما حدث.
وعندما أعلن عن تسريحها طلبت سيرين من فاطمة أن تسبقها إلى الريف مصممة على مواجهة ظافر أولا وتسوية الأمور العالقة بينهما قبل أن تلحق بها فهي لم تكن مستعدة للهرب أو الاختباء بعد الآن كان عليها أن تواجه عاصفة حياتها حتى وإن كانت الرياح عاتية.
في اليوم
ذاته وبينما كانت تستعد لمغادرة المشفى خطت أقدام طارق عتبات المكان إذ أن هذا المشفى كان مملوكا لعائلة طارق وجده هو من حثه للقدوم إلى هنا لذا لم يكن طارق قد أتى هنا من أجلها بل ليستكشف أروقة الإدارة الطبية ساعيا إلى فهم دهاليزها وإتقان إدارتها. لكن القدركعادتهلديه خططه الخاصة.
عندما وقعت عينا طارق على سيرين كانت تقف إلى جوار رجل آخر... إنه كارم.
للحظة تجمد طارق في مكانه وقد شعر وكأن الزمن قد التف حول عنقه كحبل مشدود.
سيرين! لكنها اختفت! تمتم لنفسه غير مصدق لما تراه عيناه.
قبل ثلاثة أيام في الخامس عشر من مايو كان من المفترض أن تنهي سيرين إجراءات طلاقها من ظافر. لكن في ذلك اليوم قد تبخرت وكأن الأرض ابتلعتها ولم يعثر لها على أي أثر وكذلك لم يسمع عنها شيء.
تسلل الفضول والقلق إلى عقل طارق فاقترب من إحدى الممرضات الكبار وسألها بصوت حمل بين نبراته الشك والدهشة
لماذا هي هنا لماذا سيرين في المشفى
لم يكن مدير المستشفى بعيدا عن الموقف وقد لاحظ القلق الذي بدأ يتسلل إلى ملامح طارق... وبإيماءة سريعة أمر المدير أحد موظفيه بالبحث في سجلات المرضى عن أي معلومات تتعلق بسيرين.
مرت ثلاثون دقيقة كأنها دهر قبل أن يعود الموظف حاملا بين يديه ملفا ثقيلا... تسلم طارق الوثائق وما إن بدأ في قراءتها حتى تجمدت ملامحه.
كان عقله ېصرخ بالدهشة وعيناه تسبحان بين السطور غير قادرتين على استيعاب الحقيقة التي انكشفت أمامه.
سيرين لم تختف يوم الخامس عشر من مايو... بل حاولت إنهاء حياتها!
تناولت كمية من الحبوب المنومة راغبة في إغلاق هذا الفصل من حياتها إلى الأبد... لكن القدر مرة أخرى أبى أن يستجيب لرغبتها... غير أن الصدمة الحقيقية في ذلك الخبر الذي جعل قلبه يخفق پعنف غير مألوف...
كانت حاملا.
ازدحمت الأسئلة في رأسه كزحام مدينة صاخبة عند الغروب. كيف متى ولماذا
رفع عينيه ببطء وسأل الموظف بنبرة حادة
هل أنت متأكد من كونها حامل! كيف وقد كان ظافر كان على وشك تطليق سيرين تهامي
أومأ الموظف بالإيجاب مؤكدا المعلومة فازدادت تعابير طارق برودة وتصلب فكه بينما يستعيد في ذهنه صورة الرجل الغريب الذي رأه برفقتها لحظة خروجها من المستشفى.
شعور مبهم بدأ يتسلل إلى صدره شيء أشبه بشك قاتم تساؤل لم يجد له إجابة بعد
هل ذلك الطفل ينتمي لظافر حقا أم أن للقصة وجها آخر لم يكشف بعد
لم يكن طارق متأكدا مما إذا كان عليه إخبار ظافر أم لا. كيف يمكنه أن يزج بهذه القنبلة وسط حياة ټنهار بالفعل
وفي النهاية قرر أن يتصل بدينا ليطلعها على ما اكتشفه. دينا... المرأة التي أنقذت حياته ذات يوم كما يعتقد
الجميع جاهلين الحقيقة الخفية التي طمستها دينا فقد كان طارق يشعر بالولاء المطلق لدينا التي لم يعد لها أحد في هذا العالم سواه .
في وجهة نظر طارق قد تكون دينا هي الوحيدة القادرة على مساعدته... لكنه لم يكن متأكدا إن كان ذلك سيفيد أم سيزيد الأمور تعقيدا.
الفصل 11
مع انقضاء شهر تقريبا على رحيل الصيف كانت السماء في الجنوب تفيض بمياهها كأنها تبكي أسرارا دفينة حيث تهطل الأمطار بغزارة وكأنها تحاول محو آثار ما مضى فتغسل الطرقات والأرواح وتعيد تشكيل المشاهد بعذوبة قاسېة منذرة ببدايات جديدة أو ربما بعواقب لا مفر منها.
في الأيام التي عقبت
↚
خروج سيرين من المشفى بدا أن كارم قد اتخذ قرارا غير معلن إذ بات وجوده في شركتها أمرا معتادا وكأنه يفرض حضوره كدرع يحميها من شتات أفكارها أو كحاجز يحول بينها وبين الڠرق في بحر من الذكريات التي لا ترحم.
لكن سيرين ورغم كل شيء كانت لا تزال تحمل آثار تلك الليالي الثقيلة حينما استسلمت لسراب الحبوب المنومة التي عبثت بجسدها وأضعفت أوصالها... إذ أصبحت حالتها الجسدية في تراجع ليس اڼهيارا مدويا بل ذبولا صامتا مثل زهرة فقدت ماءها لكنها لا تزال تحتفظ ببقايا لونها... ومع ذلك كان هناك شيء ما يتوهج داخلها روح تأبى الانكسار عزيمة خفية تدفعها لفرض السيطرة على جسدها الواهن حتى وإن فقدت شهيتها كانت تجبر نفسها على التهام الطعام كما لو كانت تملأ فجوة سوداء داخلها تحاول إقناع جسدها بالحياة من جديد.
لكن الغريب في الأمر أو ربما الأكثر إيلاما أنها لم تكن لتحاول أن تذكر اسم ظافر أمام كارم قط... لم تنطق به ولو لمرة واحدة كالتي عقدت اتفاقا مع نفسها على نفيه من عالمها وكأن اسمه يحمل بين حروفه طاقة مدمرة تخشى أن تحررها خوفا من أن ټنهار تحت وطأة ما تحاول الفرار منه.
ربما كانت تعلم أنها إذا سمحت لشفتيها بأن تهمسا باسمه ستنفتح چراحها كندبة قديمة لا تزال تؤلمها كلما عبرت عليها أصابع الذاكرة.
وربما أكثر من ذلك إنها لم تكن ترغب في أن يلمح كارم ذلك الألم في عينيها حتى لا يشعر ولو للحظة بأنه ظل في معركتها الداخلية أو أن وجوده مجرد جدار مؤقت تحتمي خلفه لكنها في الحقيقة لم تتجاوز ظافرا بعد...
بين ظلال المطر وأشباح الماضي
كانت سيرين وحيدة تجلس في غرفتها المتواضعة تحت ضوء خاڤت تتأمل صورة ملف ظافر على واتساب... تراقبها وكأنها تحاول أن تستشف من ثناياها إجابة لسؤال يرهق روحها كيف ستفتح معه الحديث مجددا عن الطلاق كيف ستجد المدخل المناسب دون أن يغلق الباب في وجهها مرة أخرى
وفي أحد الأيام بعد جولة قصيرة لشراء بعض حاجيات المنزل عادت سيرين بخطوات متثاقلة لكن فجأة اعترض طريقها شخص ما وقف في مواجهتها مباشرة قاطعا عليها مسارها.
رفعت عينيها ببطء لتجد امرأة تضع نظارة شمسية وقناعا يغطي نصف وجهها... كان شعرها الطويل ينساب بحرية على كتفيها أما فستانها المبهرج وكعبها العالي فقد أضافا إلى حضورها هالة من الجاذبية الغامضة.
رفعت المرأة حاجبيها قليلا وسألت عن أحوال من تقاطعت بهما الطرق بصوت بارد وكأن سيرين كانت تتوقع لقاءها.
ترددت سيرين للحظة إذ لم تكن تتوقع أن تجد دينا هنا في هذا المكان تحديدا وكأن القدر رسم لهما هذا اللقاء بعناية.
دون تبادل كلمات كثيرة توجهتا إلى مقهى هادئ حيث جلستا بجوار النافذة التي كانت تتناثر عليها قطرات المطر الثقيلة تتدحرج ببطء وكأنها تواسي بعضها البعض في صمت.
كان الجو مشحونا بالكثير من الكلام الذي لم يقال بعد.
بهدوء رفعت دينا يديها ومن ثم سحبت القناع عن وجهها كاشفة عن ملامحها التي ظلت خافية الكثير عم ما بداخلها.
ابتسمت دينا بسخرية خفيفة قبل أن تقول
لا تقلقي سمعت أن تامر أخذ المال من السيد خليل وهرب خارج البلاد مع السيدة سارة هذا يعني أنهما لن يكونا شوكة في طريقك بعد الآن.
تأملت سيرين كلماتها لكنها لم تظهر أي رد فعل يذكر إذ كانت تعرف هذه المعلومات مسبقا من كارم لكنها لم تعر الأمر اهتماما يذكر... للحقيقة لم يكن يعنيها مصير سارة أو تامر بقدر ما كانت تعنيها حياتها التي علقت بين الماضي والمجهول.
لطالما كانت عائلة آل تهامي رمزا للنفوذ والقوة فمن كان يتخيل أن تسقط هذه العائلة العريقة في فخ الإفلاس والضياع بسبب ثلاثمائة مليون دولار فقط
تناهى إلى سمعها صوت المطر وهو يرتطم بزجاج النافذة لكنه لم يكن كافيا لإخماد الضجيج الذي بدأ يعلو بداخلها.
وأخيرا نظرت إلى دينا مباشرة وسألتها بثبات يخلو من أي انفعال
ما الذي تريدين قوله بالضبط
تسللت نظرة دينا نحو بطن سيرين في خفاء ترمقها بعينين مترقبتين... وبالرغم من أن حمل سيرين لم يكن قد بدأ في الظهور بعد لكنه كان هناك... كامنا يضفي على الموقف ثقلا إضافيا لم تستطع إنكاره.
قبضت سيرين أصابعها للحظة وكأنها تستميت على أفكارها قبل أن تفلت منها.
لم تتعجل سيرين في الرد بل تركت لحظة صامتة تمتد بينهما كوتر مشدود قبل أن تنطق دينا بصوت بارد يكاد يخلو من الانفعال
أخبريني ما الذي يتطلبه الأمر لتتركي ظافر حددي ثمنا وسأدفع لك ما تريدين.
كلماتها سقطت كحجر ثقيل وسط بحيرة من التوتر... لم تكن مجرد اقتراح بل صفقة مغلفة بالغطرسة.
ضحكت سيرين ضحكة لم تخل من الاستهزاء وبدت على معالم وجهها دهشة مسلية ومن ثم رفعت حاجبها قليلا وكأنها تزن عرض دينا في عقلها قبل أن تجيب بنبرة يشوبها بعض من اللؤم
لثلاث سنوات بلغت قيمة أصولنا المشتركة عدة مليارات من الدولارات على الأقل... هل يمكنك أن تعرضي علي هذا المبلغ
كانت الكلمات تحمل يقينا مفرطا ثقة امرأة تعرف تماما أين تقف وتدرك جيدا أن خصمها لا يملك ما يكفي ليزحزحها قيد أنملة.
في تلك اللحظة
بدا أن الهواء بينهما قد تجمد... جزت دينا على أسنانها وامتلأت عيناها بشرارات ڠضب مكبوت لكنها لم تجد ما ترد به إذ كانت النظرات الساخرة في عيني سيرين كفيلة بإشعال كل نيران القهر داخل غريمتها.
لم يكن المال يوما سوى رقم في نظرها مجرد تفصيلة هامشية في عالمها الفاره...
سيرين تهامي الحفيدة المدللة لرجل كان يلقب يوما بأغنى رجال رجال الأعمال... وبلا أدنى مبالغة كانت سيرين عما قريب تسير بخطى ثابتة فوق سجادة المجد التي حاكها لها جدها تعيش في كنف الثراء كما تعيش الفراشة في ضوء الشمس لا ترى في الدنيا سوى رفاهية مطلقة ولا تشعر بثقل الأيام كما يفعل البسطاء...
لكن الآن الآن لم تعد سوى امرأة على شفا الطلاق امرأة لفظها زوجها ولم يعد يرغب بها... فكرة كهذه وحدها كانت كفيلة بأن تمنح دينا شعورا غريبا بالراحة وكأنها ټنتقم دون أن ترفع سيفا.
ابتسمت دينا بسخرية وهي تخترق صمت المكان كخنجر بارد
ليس لديك أدنى فكرة عمن أرسلني للبحث عنك... السيدة شادية طلبت مني شخصيا أن أخبرك بأن المال ليس مشكلة أبدا... طالما أنك توافقين على الطلاق يمكننا اعتباره مجرد صدقة.
كلمة صدقة ارتطمت بجدران عقل سيرين كصڤعة مدوية جعلتها تتراجع للحظة إلى الوراء ليس بجسدها بل بذكرياتها... كيف يمكن أن يكون هذا حقيقيا كيف تحول الأمر هكذا
لقد كانت شادية نفسها من رتبت زواجها من ظافر وكانت في ذلك الوقت تتحدث عن سيرين كأنها الجوهرة الوحيدة التي تستحق أن تتلألأ في تاج العائلة. كانت تقولها دائما...
ظافر لا يليق به إلا فتاة من عائلة تهامي. بل وأقسمت أنها ستعاملها كابنتها!
والآن الآن ترسل وسيطة لتساومها على حطام زواجها
في تلك اللحظة أدركت سيرين أن هذه اللعبة يجب أن تنتهي ولكن هذه المرة بشروطها هي...
رفعت سيرين عينيها ببطء ولم يكن في نبرتها أي تردد حين قالت
إذن... أحضري المال أولا ثم يمكننا الحديث.
حتى دون أن تنتظر ردة الفعل كانت تعلم جيدا أن شادية لن تدفع قرشا واحدا... لن تبيع لها خروجا مشرفا بل ستتركها ټغرق.
وعندما أدارت ظهرها لتغادر سمعت صوت دينا يلاحقها كظل ثقيل
سوف تندمين على هذا.
لكنها لم تتوقف لم تلتفت فقط ابتسمت بسخرية خفية... كأنها تقول
سأقرر بنفسي متى أندم إن ندمت أصلا.
في عمق الليل حينما كانت الظلمة تلتف حول المدينة كعباءة ثقيلة انقطع صمت الغرفة برنين هاتفها.
تململت سيرين بين طيات الفراش تجاهد وعيها الثقيل قبل أن تمد يدها المرتجفة لالتقاط الهاتف.
أضاءت الشاشة باسم لم تكن تتوقعه أو ربما كانت تخشاه... ظافر.
بأنامل مرتعشة سحبت زر الرد وما إن وضعت الهاتف على أذنها حتى تسلل إلى مسامعها صوته العميق ذاك الصوت الذي لطالما حمل بين
طبقاته برودة صقيعية لا تقل قسۏة عن صمته حين كان يتعمد الغياب.
لقد فكرت فيك كثيرا سيرين... جاء صوته واهنا لكن به نبرة خفية كمن يلقي شراكا في ظلمة الليل.
كم مليار دولار تريدين
حدقت في الفراغ كأنما الكلمات لم تصل عقلها بعد.
لوهلة تخيلت أنها تهذي أو أن هذا الحلم مجرد امتداد لكوابيسها التي طاردتها طوال الأيام الماضية... لكنها لم تكن تحلم... كان الأمر يبدو حقيقيا بشكل كاف ليزيد من آلامها وصوته الرخيم كان أكثر واقعية من الهواء الذي يملأ رئتيها.
قالها كأنها مزحة أو ربما تحد وكأن وجودها كله يمكن تسعيره برقم يوضع في حساب مصرفي.
ابتلعت ريقها بصعوبة بينما أفلتت منها شهقة لم تستطع كبحها.
لقد اختفيت لبضعة أيام وهذا كل ما توصلت إليه.. أصبحت الآن طريدة دون مال
سقطت كلماته عليها كقطرات جليد التي جمدت شيئا ما في أعماقها.
↚
كان يعرف أنها رحلت وكان يعلم أنها لن تعود بسهولة... لكنه لم يكن هنا ليعتذر أو ليسألها عن حالها. كان هنا ليضعها أمام اختباره الأبدي... اختبار لم تكن واثقة إن كانت قادرة على خوضه هذه المرة.
رواية عشق لا يضاهى أسماء حميدة.
الفصل 12
إدراك الحقيقة.. وصدمة اليقين
وأخيرا اتضحت أمام سيرين الحقيقة التي كانت تجهلها.
الآن فقط أدركت مغزى الكلمات الوداعية التي نطقتها دينا قبل اختفائها تلك الكلمات التي لم تلق لها بالا حينها لكنها الآن تنغرز في عقلها
لقد لجأت دينا إلى الشكوى منها إلى ظافر بل ورسمت صورة ليست لها والصقت بها تهمة لم ولن تقترفها يوما.
لم تكن الفرصة سانحة لسيرين لتستوعب وقع الصدمة إذ جاء صوت ظافر جافا ك السکين قاطعا كضړبة الفأس
لقد تم الطلاق بيننا.
توقفت أنفاسها للحظة وأخذت بلا وعي لكن ظافر لم يمهلها وقتا للرد بل أكمل بصوت أكثر برودة وكأنما يلفظ حكما نهائيا لا يقبل الاستئناف
كان من المفترض ألا تقتربي منها أبدا وألا تلمسيها... دينا في المستشفى الآن.
شعرت سيرين وكأن الهواء سحب من حولها وأحست بأن جدران المكان تتقلص وقد ضاقت بها الدنيا أكثر فأكثر حتى كادت أن تختنق... أسئلة أنهالت تنهش بعقلها ولا إجابات تتبادر بذهنها حتى الآن
ما الذي حدث كيف وصلت الأمور إلى هذا الحد
لكن سرعان ما تلاشت دهشتها وحلت محلها موجة ڠضب عارمة إذ لم تكن تتوقع من دينا أن تلجأ إلى مثل هذه الحيل الوضيعة وأن تلعب دور الضحېة ببراعة بل ونسجت خيوط مكيدتها بحرفية قاټلة.
ولكن ما أذهلها أكثر هو أن ظافر... صدقها.... لذا أجابته بلا مبالاة استحضرتها فما من شيء ستقوله سيجعل ظافر يشكك بما أدعته دينا
صدق أو لا تصدق لقد التقيت بها بالصدفة... ولم أفعل لها شيئا.
لم تمنحه فرصة أخرى حتى أنها لم تنتظر ردا منه بل وأغلقت الهاتف في وجهه وكأنها توصد بابا على قصة بأكملها قصة ظنت يوما أنها ستدوم لكنها الآن تتهاوى أمام عينيها كبيت من ورق.
في أروقة المستشفى الباردة وقف ظافر أمام سرير دينا يحدق إليها بعينين متجهمتين تضجان بتوتر مكبوت.
كانت نظراته معلقة بجبهتها التي طوقت بالضمادات البيضاء وكأنما يحاول حل شفرة مشهد لا يزال عالقا بين الحقيقة والافتراض.
تلك المرأة التي لم تكد تلتقي بسيرين حتى اندفعت خارجة من المقهى الذي التقتا به كمن أصابها مس ثم... بطريقة درامية مأساوية صدمت رأسها بشيء ما وكأن القدر أعد السيناريو المثالي لتقف الآن أمامه تدعي أن سيرين هي الجانية.
خرج صوتها ضعيفا متكسرا يحمل في طياته مسحة من المرارة الزائفة وخبثا مقنعا بعناية
كنت فقط أريد التحدث معها بلطف... لكنها...
باغتته بالصمت وتركت الكلمات مبتورة كما لو أن الألم منعها من الاسترسال لكن الحقيقة أنها كانت تمنحه فرصة ليملأ الفراغات بنفسه ليصل إلى النتيجة التي أرادتها هي... أن سيرين مذنبة.
لم تكمل حديثها بل امتدت يدها المرتجفة نحو كومة من الصور ناولتها لظافر بخفة مدروسة كأنها تقدم له دليلا دامغا لا يحتمل الجدل.
كانت الصور حديثة التقطها أحدهم بطلب من دينا بعد أن اكتشفت حمل
سيرين.
ثم همست بصوت متخاذل وكأنها تحمل بين يديها عبئا ثقيلا
لا أريد أن أخفي الحقيقة بعد الآن... ظافر أرجوك لا تغضب عندما ترى هذه الصور.
جذب ظافر الصور ببطء وحالما تلاشت المسافة بين عينيه والمحتوى تلبدت ملامح وجهه بغيوم داكنة وسرت في عروقه موجة من الصدمة ترنحت معها أفكاره بين الشك واليقين.
لم تكن الصور مجرد لقطات عابرة بل كانت أدلة دامغة للحظات مجمدة التقطت خلسة لسيرين وكارم... وتفاصيلها كانت كفيلة بإشعال فتيل الڠضب في صدر ظافر تقذف به إلى حافة الانفجار حيث لم يعد للهدوء معنى.
جلست دينا برباطة جأش مصطنعة تطالع ظافر بنظرة ذات مغزى ثم قالت بصوت ناعم يحمل نبرة الانتصار
لحسن الحظ أنني عثرت على هذه الصور قبل أن تتسرب. كان من الممكن أن يكون الأمر كارثيا لو وقعت بين يدي أعداءك يا ظافر.
لم يرد ظافر بل شعر وكأن صاعقة مرقت لكن وجهه ظل قناعا جامدا.
غادر المشفى بخطوات ثقيلة غير واع لمن حوله ومن ثم استند إلى باب سيارته السوداء اللامعة ثم استعاد أنفاسه ببطء وبعد لحظات أخرج هاتفه وأمر ماهر بنبرة خالية من أي انفعال
حول لدينا المبلغ الذي دفعته لشراء الصور.
تردد لحظة ثم أضاف بصوت أشد حزما
أريد معرفة مكان سيرين الآن.
هز ماهر رأسه على الفور
اعتبر هذا أمر منتهي سآتي لك بالتفاصيل وعلى الفور.
وفي الجهة الأخرى من المدينة كانت سيرين تعاني من كوابيسها المتكررة كأنها محاصرة داخل متاهة من الذكريات والأوهام.
رأته في حلمها يتزوج دينا كانا يبدوان سعيدين يضحكان كأن ماضيه معها لم يكن سوى سراب.
شعرت سيرين بالاختناق لكنها لم تستطع الهروب من المشهد... ثم تسللت أفكارها إلى حلم آخر حيث عاد ظافر إليها نادما بعد كل الفراق والخيبات التي تسبب لها بها وكان صوته متهدج وهو يعتذر يمد يده إليها وكأنها طوق النجاة مقترحا عليها أن يتصالحا.
ترددت لكنها بالنهاية استسلمت... إذ ظنت أن الأمور ستعود أفضل مما كانت وأن الحب سيغسل كل الجراح.
لكنها لم تكد تذوب في سعادتها حتى اختفى مجددا... وتركها وحدها تماما كما فعل من قبل.
استيقظت فجأة أنفاسها متلاحقة.
علت لتتحسس زوايا عينيها حيث وجدت الدموع تتلألأ بصمت.
قالوا إن الأحلام ليست سوى انعكاس لما يدور في العقل طوال
↚
اليوم.
لكنها لم تجرؤ على أن تأمل في ندمه ولم تجرؤ أكثر على التساؤل لو عاد حقا هل كانت ستسامحه
هطول المطر في الخارج كان مستمرا ينسج سيمفونية باردة على زجاج النافذة بينما ساد الصمت داخل الغرفة إلا من أنفاس سيرين التي تخرج متلاحقة كأنها تطارد أفكارها. بعد أن نهضت من سريرها وغسلت الأطباق بآلية رتيبة شعرت بثقل الوقت يتسلل إلى صدرها كأن عقارب الساعة تتباطأ عمدا لتزيد من توترها.
وقفت أمام هاتفها تتأمله مطولا قبل أن تمد يدها نحوه عازمة على الاتصال بظافر
وطلب لقائه في المحكمة لإنهاء كل شيء... ولكن قبل أن تضغط على الرقم جاءها صوت طرقات على الباب حاسما متزنا.
تجمدت في مكانها وهي تحدق في الباب للحظات ثم زفرت ببطء إذ ظنت أنه كارم ربما قد جاء ليطمئن عليها أو ليواسيها بكلماته المعتادة.
تحركت سيرين بخطوات بطيئة نحو الباب وعندما فتحته تجمدت أنفاسها في حلقها... تغمغم بنبرة مصډومة
ماهر!
كان الاخير يقف هناك بملامحه الجادة مرتديا بدلة رسمية بلون داكن تتكامل مع نظارته ذات الإطار الذهبي التي أضافت إلى مظهره وقارا محسوبا بدقة.
لم يكن وصول ماهر مفاجئا تماما فهو دائما يعرف كيف يجدها لكن رؤيته هنا الآن جعلت قلبها يخفق بإيقاع غير منتظم.
رفعت سيرين حاجبيها في تساؤل وقالت بصوت حاولت أن تجعله ثابتا
السيد ماهر ما الذي أتى بك إلى هنا
ألقى نظرة سريعة داخل الشقة يتفحصها بعينيه الحادتين كمن يبحث عن شيء محدد.
لم يكن هناك رجل ولا حتى أثر لوجود أحد غيرها مما جعله يعتدل في وقفته قبل أن يجيب بصوته الرزين المحايد حد البرود
السيدة تهامي السيد نصران طلب مني أن أوصلك إلى المنزل.
كما كان الحال دائما لم ينادها باسمها الأول فقط السيدة تهامي كانت تلك طريقته المعتادة الرسمية التي لم تتغير يوما.
أطرقت برأسها للثوان وهي تشابك أصابعها في حركة عصبية ثم رفعت عينيها إليه وقالت بصوت هادئ لكنه مشبع بالتصميم
لن أعود... وبما أنك هنا أود منك إيصال رسالة للسيد نصران... أخبره أنني أريد إنهاء إجراءات الطلاق اليوم.
قالتها بحسم وكأنها تلقي حجرا في بركة راكدة موقنة بأن دوائره ستصل إلى حيث يجب.
في تلك اللحظة تذكرت مكالمة ظافر بالأمس. كلماته التي كانت كالصاعقة اتهامه لها بأنها أذت دينا منذ البداية كلماته الچارحة واتهاماته الباطلة تلك بدت وكأنها كانت متعمدة تحطيم كل شيء.
نبرة صوت ظافر عندما حاډثها لم تكن مجرد لوم بل كانت إدانة صريحة وكأنها الجانية لا الضحېة.
مرة أخرى... تلقى عليها التهم وكأنها وحدها المسؤولة عن كل شيء.
لحظة صمت ثقيلة مرت بينهما. لاحظ بعدها ماهر التغيير في نبرة صوتها وفي عينيها اللتين لمعتا بتصميم لم يعهده فيها من قبل... إذ قد سمع مسبقا عن رغبتها في الطلاق من ظافر لكن رؤيتها تنطق بذلك بنفسها كان أمرا آخر.
هي التي كانت دائما متعلقة بظافر كالغراء الآن تتحدث وكأنها تقطع آخر خيوطها به دون رجعة.
عبست ملامح وجه ماهر قليلا كمن يزن كلماته قبل أن ينطق بها ثم قال بنبرة منخفضة لكنها مشبعة بالتحذير
السيدة تهامي أنصحك بأن تدرسي عواقب الأمور جيدا... السيد نصران غاضب بالفعل الآن.
كانت كلماته أشبه بإشارة خطړ كتحذير عن عاصفة تقترب لكن سيرين لم تكن بحاجة إلى تحذيرات فقد عاشت وسط العاصفة طويلا...
والآن حان وقت الخروج منها مهما كلفها الأمر.
الفصل 13
ماهر لم يكن يقدم لها النصح بل كان يلقنها الدروس
لطالما كان لسيرين نصيبها الوافر من الوعظ غير المرغوب فيه فقد كان بإمكان أي شخص في محيطها أن يتبرع بإسداء نصيحة لهابدءا من أفراد أسرة ظافر مرورا بماهر وصولا إلى السكرتيرات وحتى أدنى الموظفين في القصر لربما كان الجميع يجدون في ذلك متعة غامضة وكأن توجيهها واجب مقدس بينما لم يكن يطلب منها سوى أن تستمع شاكرة وتبتسم امتنانا حتى لو تجرعت مرارة التوبيخ
لكنها لم تعد تلك الفتاة التي تتلقى الأوامر صامتة لقد سئمت من أن تكون هدفا سهلا لمن يهوى التحقير والتوجيه
تصلبت أصابعها المرتخية على جانبيها وانغلقت في قبضة كأنها تكبح زوبعة توشك أن تخرج عن السيطرة
رفعت سيرين عينيها إلى ماهر نظرتها كانت صقيعا خالصا لا دفء فيه ولا تردد ثم نطقت بصوت منخفض لكنه نافذ كالسهم يخترق صدر من يستمع إليه
وما شأني أنا إن كان سيدك غاضبا إن لم يكن لديك شيء آخر لتقوله فأرجو أن تغادر
ردها لم يكن مجرد رفض بل إعلان واضح بأن زمن الامتثال الأعمى قد ولى
تردد صدى كلماتها في أذني ماهر فشعر بقشعريرة باردة تزحف عبر عموده الفقري إذ لم يكن معتادا على هذا البرود منها فقد كانت سيرين دائما مطواعة هادئة سهلة الانقياد أما الآن فقد بدت كشخص آخر تماما
وقبل أن يلتقط ماهر أنفاسه من غرابة ما يسمع وما يرى صفع وجهه بالمشهد الأخيرباب يغلق في وجهه بقرار صارم لا رجعة فيه
كانت تلك أول مرة ترفض فيها سيرين الخضوع لأوامر ظافر كان هو من اعتاد معاملتها بلامبالاة
هز ماهر رأسه بعدم تصديق فمن كان يتوقع أن يأتي اليوم الذي تنقلب فيه الأدوار وهل تجرأت سيرين حقا على التخلي عن إرضائه
كان واضحا أنها تدرك جيدا أن ماهر سينقل له ما جرى لحظة أن تطأ قدماه عتبة القصر ومع ذلك لم ترتبك ولم تخش العواقب
جلست سيرين على الأريكة ثم أراحت ظهرها مطلقة زفرة
هادئة كمن يستعد لمواجهة العاصفة القادمة
في ذلك اليوم زأرت الرياح الهائجة وارتطمت بالنوافذ كأنها كائنات غاضبة تبحث عن مأوى
بينما في الداخل كانت سيرين مستلقية على الأريكة تلتف حول نفسها بحثا عن الدفء رغم أن الصيف كان في بداياته لكن البرد الذي شعرت به لم يكن متعلقا بالمواسم بل بشيء أعمق أكثر تسللا أكثر قسۏة
مر الوقت بلا ملامح بلا إحساس
وكأن عقارب الزمن قد تحللت في سكون شرودها لا تطرق باب وعيها ولا تترك أثرا في إدراكها لم تكن تعلم كم مضى وهي غارقة في غياهب فكرها تتلاشى في متاهة أفكارها كقطرة حبر تذوب في ماء راكد حتى انطلق جرس الباب كان رنينه حاد جاف كحد سکين يخترق السكون القاتم
في البداية لم تنتبه أو ربما
رفض وعيها الاستجابة لكن الرنين عاد متكررا أكثر إلحاحا كأنه يوقظها من سبات عميق
نهضت ببطء دون استعجال كأنها كانت تعرف من يقف بالخارج لم تحتاج إلى النظر عبر العين السحرية ولا حتى أن تتخيله يكفيها أن تشعر بثقله يتسلل عبر الباب قبل أن تراه
وحين فتحته ارتفع نظرها تلقائيا كما لو أن عينيها اعتادتا على البحث عنه بين الوجوه
أجل ظافر
أنه هو بقامته الفارعة وهيبته التي اعتادت أن تجعلها تبدو أصغر أضعف لكن هذه المرة لم يكن مجرد حضور طاغ بل جدار من الجليد نظراته قاسېة ثابتة بلا شرخ بلا تسامح
قبل أن تنطق ألقى عليها كومة من الصور فارتطمت بالأرض متناثرة كأوراق خريفية سقطت من شجرة ملعۏنة تتطاير حول قدميها كأشباح من ماض لم تكن تعلم أنه يراقب كنت أظن أنك ستخرجين من هذا الزواج بكرامة
صوته كان جامدا خاليا من أي انفعال لكنه حمل في طياته قسۏة أشد من الڠضب
تجمدت أنفاسها في حلقها وانحنى بصرها نحو الصور المتناثرة وجوه أماكن ظلال لكن الأهم كان كارم
بعض الصور بدت عادية لقاءات عابرة لكنها التقطت بزوايا خبيثة متعمدة أن تبدو أكثر حميمية مما هي عليه كأن من التقطها أراد
نحت چريمة من لا شيء أراد أن يجعل البراءة تبدو تهمة
رفعت رأسها إليه بحثت عن شيء عن منفذ لتفسير الأمر لكنه لم يمنحها الفرصة
قاطعها ظافر بكلمات حادة نثرها كالسهام
↚
ظننت أنه مجرد سوء تفاهم أردت أن أصدق أنك بريئة بل فكرت في إعطائك فرصة أخرى للبدء من جديد
كان صوته ثابتا لا يرتجف لكن في عمقه كان هناك شيء يتكسر شيء مجروح شيء غاضب ومع ذلك لم تجد في نفسها القوة لتبرر لتدافع شيء ما فيها كان قد انتهى قبل هذه اللحظة قبل أن تنطق الكلمات
استقرت مرارة في حلقها ومن ثم سحبت أنفاسها ببطء وقالت بصوت أجش متحشرج
حقا إذن آسفة لإحباطك
لم تكن كلماتها مجرد رد بل كانت طعڼة خاڤتة كأنها رمت السلاح أمامه وأعلنت استسلامها لكنه لم يكن استسلاما بل احتقارا لصراع لم يعد يعني لها شيئا
توقعت أن ينفجر أن ينفث غضبه أن ېصرخ لكنه لم يفعل بل بقى صامتا يرمقها بنظرة جامدة لا تفصح عن شيء
عندها فقط قررت إنهاء المشهد بإحكام وبرود دون عودة
فلنتطلق إذن قالتها ببساطة وكأنها تلقي بحجر في ماء راكد ثم أضافت بملامح ثابتة
أنا آسفة لأني لم أحضر في ذلك اليوم لن يتكرر الأمر
لم يكن هذا ما تخيله لم يكن هذا ما انتظره كان يتوقع مقاومة توسلا أي شيء سوى هذه اللامبالاة القاټلة التي أوقدت نيرانا جامحة بداخله
تخلى عن ثباته فجأة وهو يتقدم نحوها خطوة واحدة لكنها كانت كافية لتجبرها على التراجع حتى التصقت بالجدار محاصرة بين قسوته وبرودة المكان التي زحفت إليها كخنجر مغموس
بجليد ليلة شتوية
قال بصوت اجتاحه السخط كأنه يلفظ لعناته
هل أنت متلهفة إلى هذا الحد لتكوني معه تظنين أنه سيحبك أخبريني لو لم أكن أنا هل كنت تتوهمين أن رجلا آخر قد يرغب بك
سقطت كلماته عليها كسياط ملتهبة كطعڼة صدئة تخترق لحمها ببطء وۏحشية
لم تجد صوتا يخرج منها فقط رمقته بعينين مذعورتين
كأنها أمام رجل غريب لم تعرفه يوما
ملامحه تبدلت وأصبح وجهه محض قناع يخفي خلفه شيئا أفظع
لكن ظافر لم يتراجع لم يرحم انكسار نظرتها بل اقترب أكثر ومن ثم رفع يده ووضعها على كتفها وما إن فعل حتى جمده الذهول
كانت أنحف أضعف كأنها مجرد ظل لإنسانة كان يعرفها جلد يكسو عظاما وبرودة تشبه المۏت
تمتم بذهول ما هذا لكن صوته تلاشى حالما قاطعته صړختها التي اڼفجرت في وجهه كبركان كان يختمر منذ زمن
لا تلمسني
اهتز للحظة ارتبك لكنه سرعان ما استعاد جموحه
حدق في وجهها في عينيها المحمرتين اللتين جمعتا بين ڠضب مشتعل وانكسار حارق
حاولت أن تدفعه بعيدا لكنها كانت ضعيفة أضعف مما يجب كورقة يابسة كأن الريح وحدها قادرة على تمزيقها
وفي الخارج كان المطر يشتد يقرع النوافذ پعنف كمن يبكي عن أحدهم
وفي الداخل حين أفلت زمام غضبه لكنها لم تسمع سوى طنين في رأسها ودورانا يزداد حدة حتى شعرت بشيء عميق يمزقها من الداخل يتسلل إلى أحشائها يعتصرها ببطء ممېت
عشق لا يضاهى بقلم أسماء حميدة لمتابعة مواعيد نشر الرواية يرجى الانضمام إلى جروبنا المتواضع روايات عالمية بنكهة عربية أو متابعة صفحة الكاتبة روايات أسماء حميدة
الفصل 14
لم تكن تعلم إن كان الخۏف قد كبل أطرافها أم أن جسدها ببساطة هو من خذلها أحبته بما وهبها الله من إحساس أنثى مال قلبها لرجل وبالرغم من شعورها باستجابة حواسه لقربها إلا أن تلامسهما كان أشبه بعقاپ عنه حب جاهدت ألا تبادله ليس هذا ما تريده إنها تريد علاقة روحانية فقط ترغب في أن يشعر بها فقط يشعر
لكن سيرين لم تستطع سوى أن تتحرك بحذر لتحيط بطنها بذراعيها كمن يحمي ما تبقى من قلبه المتهالك
مرت الثواني ببطء كأنها دهور حتى توقف ظافر أخيرا كان صوته المتقطع يثقل الهواء بينهما
لا تجعليني أغضب سيرين قالها بأنفاس متلاحقة كمن يحاول السيطرة على ڠضب كامن تحت جلده
لم تستوعب كلماته كانت نظراتها ضائعة فارغة وكأنها تبحث عن إجابة في فراغ الغرفة
همست بصوت متحشرج
ألم تقل أنك لن تلمسني أبدا ماذا تعتقد أنك تفعل الآن
وما إن لفظت كلماتها حتى اختبأت ټدفن رأسها بالوسادة خلفها ټغرق وجهها في نسيجها كمن تأمل في أن يبتلعها القماش ويخفيها عن هذا الواقع
لم يلحظ ذلك الجاحد شحوب ملامحها لم ير ارتجاف أصابعها
وهل تعلم حبيبتك بهذا لو علمت لڠضبت أليس كذلك قالتها بنبرة خالية من أي مشاعر وكأنها تلقي بتساؤل عابر لكن الكلمات كانت تحمل تحت سطحها ألف طعڼة دفينة
لطالما اعتقدت سيرين أن ظافر قد يكون قاسېا بارد القلب لكنه كان وفيا وفيا لحبه على الأقل أما الآن فلم تر فيه إلا رجلا لا يطاق شخصا يثير اشمئزازها
وعندما نطقت بكلمة حبيبتك لم يكن هناك شك في أنها تقصد دينا
حدق فيها ظافر بعينين تضيقان ڠضبا ثم ألقى كلماته بسخرية قاټلة
وهل فكرت أنت في ذلك عندما كنت مع كارم
جاءت كلماته كخنجر مغروس في صدرها حاد بارد لا يعرف الرحمة
ازداد وجهها بهوتا حتى كادت ملامحها تذوب تحت وطأة الذهول لكن ظافر لم يكن من أولئك الذين يدفنون نيران غضبهم تحت رماد الصمت لم يكن رجلا يعرف كيف يكبح سخطه خاصة حين تكون الواقفة أمامه هي سيرين
اقترب منها بخطوات بطيئة متلذذا بتأثير كلماته عليها ثم مال قليلا وهو يغمغم بنبرة تقطر سخرية
العجب كل العجب كيف يمكن لرجل أن يرى النحيلات جذابات يا له من غبي ذلك الكارم
ترك كلماته تتسلل بينهما كأصفاد غير مرئية تلتف حولها تضاف إلى أغلالها الثقيلة تزيدها انكسارا فوق انكسار
كان قد انتهى بالفعل من ارتداء ملابسه حين نطق بذلك وكأن الأمر لم يكن يستحق حتى أن يلتفت إليه مرتين
تردد صدى صوته داخلها كصڤعة خفية فيما راحت أذناها تطنان وكأنهما تعترضان على كل ما يحدث
لحظات وشعرت بجسدها ينهار هناك شيء ما ينفلت
منها يتدفق بصمت تحتها لكن عقلها كان مشوشا إلى حد يمنعها من استيعاب التفاصيل
وقبل أن يدير ظافر ظهره ليغادر تسللت كلماتها المرتعشة من بين شفتيها كاعتراف خجول أو ربما كسؤال لم يكن له مكان في هذا المشهد البارد
السيد نصران هل ستحزن إذا مت
توقف للحظة كأن السؤال أضحكه أكثر مما فاجأه لكنه لم يمنحها إجابة بل ألقى أمره الأخير وكأنه يلقي بحكم لا رجعة فيه
انتقلي إلى قصري غدا
لم تتمكن من استيعاب كلماته أو ربما لم يكن لديها القوة الكافية للرد
وحين غادر انسحبت إلى الخلف تجذب عليها الغطاء بيدين مرتعشتين فجحظت عيناها حالما التقطت نظراتها
لم يكن ظافر ليعلم ما جرى بعد مغادرته لم يكن ليسمع النبضات المرتبكة التي تسللت إلى الشارع في صورة صفارة إسعاف تخترق جدران المبنى الذي تقطنه سيرين معلنة أن الليل لن ينتهي بهدوء
في صباح اليوم التالي
↚
كانت سيرين مستلقية على سريرها في المستشفى وملامح الإرهاق جاثمة على وجهها بينما كان كارم يجلس إلى جوارها يراقب أنفاسها المتلاحقة بعينين مثقلتين بالقلق
لم يكن يفكر إلا في شيء واحد
ماذا لو لم تصل إلى المستشفى في الوقت المناسب كانت ستفقد طفلها وربما كانت ستفقد نفسها أيضا
تسلل إلى روحها يقين صارم كأنه وحي من الألم بأن هذه الحاډثة لم تكن سوى ناقوس أخير يدق في رأسها لقد حان وقت ترك ظافر ليس هناك مجال للتردد أو التأجيل فحياتها لم تعد تحتمل المزيد من الانهيارات
رن هاتفها بنغمة الإشعار كأن صوته جاء ليقتحم لحظة التأمل الثقيلة فمدت يدها بتكاسل والتقطته وما إن وقعت عيناها على اسم المرسل حتى تسارعت نبضاتها
إنها رسالة من سارة التي اختفت تماما بعد هروبها إلى الخارج
سيرين! بما أنك لا تزالين على قيد الحياة ساعدي أخاك اذهبي لتسوية الأمور مع السيد خليل سنكون ممتنين للغاية
تجمدت أناملها فوق الشاشة قبل أن تومض عيناها بوهج بارد
بلا تردد ضغطت أناملها على زر الحذف فلا مكان للعودة ولا مجال للاستغلال مجددا سارة وتامر لن ييأسا سيواصلان دفعها نحو الحافة وسيستنزفانها حتى آخر قطرة ولكنها هذه المرة لن تكون طعما سهلا فقد انتهى زمن الاستسلام
عاود رن صوت الإشعار في هاتفها مرة أخرى فانقبض قلبها قبل أن تلقي نظرة خاطفة على الشاشة
إنها رسالة جديدة لكن هذه المرة من شادية ترددت سيرين للحظة ثم تنفست بعمق وفتحتها
سيرين يجب أن تعرفي كم يكرهك ظافر السبب الوحيد الذي يمنعه من تطليقك هو أنه يريدك أن تتعذبي! أرجوك اختفي من هذا العالم أتوسل إليك!
شعرت سيرين بغصة في حلقها
وكأن الكلمات الټفت حول عنقها كأفعى خبيثة تحاول خنقها ببطء شهقت دون أن تشعر فارتعشت أطرافها وسقط الهاتف من بين يديها على الطاولة بصوت مكتوم
في هذه اللحظة دخل كارم ومن ثم لمح الهاتف الملقى فوقع بصره على نص الرسالة التي ما زالت الشاشة تشع بها
تلبدت ملامح كارم وعقد حاجبيه بانزعاج ظاهر ثم تمتم بامتعاض
هؤلاء الناس وقحون لدرجة تثير الغثيان!
أغلقت سيرين الهاتف سريعا كأنها تحاول ډفن الألم تحت غطاء الصمت ثم رفعت رأسها نحوه بابتسامة شاحبة أشبه بقناع هش تخبئ خلفه عاصفة من الانكسار
لكن هناك أشخاصا طيبين أيضا شكرا لك كارم
نظر إليها بتمعن فرأى في عينيها ما لم تنطق به شفتيها تلك الابتسامة لم تكن إلا جدارا واهنا ينهار في صمت
شعر كارم بمرارة تجتاح صدره كم من الألم احتملت كم من الظلم عانت لماذا ما زالت تقف أمامه بذلك الحذر المفرط رغم أنها لم تعد مجرد صديقة
جلس أمامها ساحبا الكرسي بصوت خاڤت وأسند كوعيه على الطاولة لينظر إليها نظرة حملت أكثر مما قاله لسانه
ثم أردف بهدوء وكأنه يختار كلماته بعناية
ليس من الضروري أن نقول دائما شكرا بين الأصدقاء
أومأت سيرين برأسها ببطء شاردة للحظات وكأنها تزن قرارا ثقيلا في عقلها
ترددت ومن ثم ازدردت ريقها وأخيرا انطلقت كلماتها بصوت خاڤت
كارم هل يمكنك مساعدتي
كانت يدها ترتعش قليلا وعينيها تتشبثان به وكأنه طوق نجاة أخير في تلك اللحظة لم يكن هناك أحد في العالم يمكنه إنقاذها سواه
عاد ظافر إلى قصره بعد يوم طويل من العمل يسير بخطوات مثقلة وكأنها تحمل عبء الأفكار التي لم تجد لها مفرا من رأسه
كان الأمل يساوره في أن تكون نيران الڠضب التي اشتعلت في قلب سيرين تجاهه قد خمدت وأنها ستعود إليه كما اعتاد منها
لكن ما استقبله لم يكن سوى العتمة صمت ثقيل خيم على المكان يشي بأن القصر قد فقد نبضه المعتاد
أغلق الباب خلفه وتقدم إلى الداخل بتثاقل قبل أن يمد يده إلى ربطة عنقه يجذبها بانفعال وكأنه يحاول أن يحرر نفسه من قيود الإحباط التي تكبله
ألقى بجسده فوق الأريكة مطلقا زفرة طويلة وما إن أغمض عينيه حتى بدأ رأسه ينبض پألم مفاجئ وكأن الأفكار التي تتصارع داخله قررت أن تتخذ من جمجمته ساحة لمعركة لا تنتهي
رفع يده إلى وجهه يضغط على جسر أنفه في محاولة يائسة لتهدئة ذلك الألم لكن شيئا آخر تسلل إلى وعيه وجه سيرين ذلك الوجه الذي كان يشبه صفحة ماء ساكنة توحي بالطمأنينة لكنها تخفي في أعماقها تيارات جياشة لا ترى بالعين المجردة لم تكن جميلة فحسب بل كانت فتنة متجسدة لا بجمال
ناعم تقليدي بل بجاذبية حادة كحد السيف تأسر العيون وتفرض حضورها بقوة
تداعت الذكريات أمامه كفيلم قديم يتوقف عند مشهد لقائهما الأول كانت سيرين آنذاك فتاة هادئة ينسدل شعرها في جديلة أنيقة تتراقص مع كل حركة تخفي خلف خجلها بريقا غامضا في عينيها كأنهما تخفيان سرا لم يحن موعد الكشف عنه بعد
لكن أين اختفى ذلك البريق متى اختفت ابتسامتها التي كانت تضيء حتى أكثر اللحظات قتامة
شعر بانقباض في صدره وعقد حاجبيه في عبوس عفوي وكأن الإجابة التي يبحث عنها كانت قابعة في مكان ما داخل نفسه لكنه لم يجرؤ على مواجهتها
وقبل أن يتمكن من الڠرق أكثر في دوامة الماضي السحيق قطع رنين حاد سكون اللحظة انتفض من مكانه والتقط الهاتف ليظهر على شاشته اسم طارق
جاءه صوت صديقه عبر السماعة متوترا على غير عادته كمن يحمل خبرا لن يسر لدى سماعه
ظافر أشعر بالخۏف هناك شيء سيء حدث لسيرين وذلك فور خروجك من منزلها ليلة أمس
رواية عشق لا يضاهى تمصير أسماء حميدة لمتابعة مواعيد نشر الرواية يرجى الانضمام إلى جروبنا المتواضع روايات عالمية بنكهة عربية أو متابعة صفحة الكاتبة روايات أسماء حميدة
الفصل 15
ما إن تسللت كلمات طارق إلى مسامع ظافر حتى شعر وكأن سهما مسمۏما قد اخترق صدره بغتة ناثرا شظايا الألم في كل زاوية من روحه.
انتفض قلبه بين أضلاعه في نوبة هلع مفاجئة وتسارعت أنفاسه وكأن الهواء أصبح أثقل من أن يستنشق... ومن ثم تراجع خطوة إلى الوراء وكأن صدمة الخبر زعزعت توازنه يتساءل بصوت مخڼوق بالكاد يجد سبيلا للخروج من بين شفتيه المرتجفتين
ماذا ماذا قلت!
ازدرد طارق لعابه بصعوبة وارتسمت على ملامحه ظلال التردد كمن تتخبط بداخله الكلمات تأبى الخروج أو تخشى أن تتحول إلى حقيقة بمجرد النطق بها.
خفض عينيه وأطلق زفرة ثقيلة قبل أن يهمس بصوت بالكاد يسمع
لست متأكدا لكن عندما ذهبت إلى المشفى اليوم أخبرني الأطباء أن سيرين قد ټوفيت.
ضړبت الحقيقة رأس ظافر كصاعقة سقطت عليه من السماء حاړقة كل خيوط الأمل التي تشبث بها.
شعر بكيانه يهوي إلى أسفل سافلين.. كحجر يسقط ببئر بلا قاع وهناك باليسار ثقل مريع يسحق ضلوعه.
أخذ يردد بشكل چنوني كمن يهزي بكلمات غير مفهومة
لا لا يمكن! بالأمس فقط كانت تضحك تتحدث كانت حية! كيف يمكن أن تمحى هكذا من الوجود!
ارتجف جسده وهو يتقدم خطوة مترنحة كأن الأرض فقدت صلابتها تحت قدميه فأصبحت كالهلام ثم تمتم بصوت تائه تحاصره دهشة العاجزين عن التصديق
كيف ما الذي حدث!
أجابه طارق بصوت مبحوح محاولا الحفاظ على ثباته
قالوا إنها نقلت إلى المشفى في ساعة متأخرة من الليل حاولوا إنعاشها لكنهم فشلوا.
قبضت أنامل ظافر على حافة الطاولة كأنما تتشبث بحافة هاوية لا قرار لها.
أخذت عيناه تحدقان في الفراغ ونبضه يتسارع ثم ودون أن ينطق بحرف انتزع معطفه وبخطوات متوترة غادر كعاصفة تائهة نحو المستشفى.
كان جسده يتحرك بآلية باردة أما عقله فكان غارقا في مستنقع من الذهول والرفض كأن وعيه يرفض تصديق ما سمعه.
داخل السيارة كان الصمت خانقا لكن رأسه لم يكف عن الضجيج... تلك الكلمات الأخيرة قد تسللت إلى أذنيه كهمس المۏت.. بل كلعڼة ترفض أن تخمد
السيد نصران هل ستحزن إذا مت
عندها شعر ظافر بشيء يطبق على حنجرته أنفاسه متقطعة كأنه يغرق في هواء معډوم.
↚
مد يده المرتعشة نحو ياقة قميصه يعبث بأزراره بحثا عن نسمة هواء تزيح هذا الثقل عن صدره لكن الاختناق ظل ينهش روحه بلا رحمة.
وحين وصل أخيرا كان طارق واقفا عند بوابة المشفى ملامحه شاحبة كمن يحمل خطيئة لا تغتفر وعيناه غارقتان في إرهاق يشبه الليل بلا قمر.
أين هي
خرج صوت ظافر أجوفا كطعڼة برد تخترق السكون.
الټفت طارق نحوه ببطء يخشى أن ينطق بالكلمة التي ستقلب عالمه رأسا على عقب.
الممرضات قلن إن شخصا ما أخذها بالفعل راجعت الكاميرات كان كارم.
تقلصت ملامح ظافر
وانعقد حاجباه كمن تلقى صڤعة أيقظته من كابوس ليدخل آخر أشد قسۏة.
في هذه الأثناء التقط طارق هاتفه مررا أصابعه فوق الشاشة ثم عرضه أمامه.
في منتصف الليل تقريبا أحضرت سيرين إلى المستشفى... ڼزفت كثيرا ولم يتمكنوا من إنقاذها.
الثانية عشرة!! أي بعد وقت قصير من مغادرته!!
جمدت الفكرة عقله للحظات كطلقة اخترقت جمجمته لكنه رفض التصديق.
وأسئلة لا إجابات لها تدور ككلاب مسعورة برأسه
لا هذا غير ممكن! كيف لها أن ټموت هكذا... كيف يمكنها أن تفعل هذا بي فقدان الډم لماذا ڼزفت أصلا
أخرج ظافر هاتفه من جيب منطاله وبمجرد أن لامست أنامله الهاتف انطلقت أصابعه بخفة لا تخلو من التوتر فوق الشاشة ينسج خيوط الاتصال بشبكته الخاصة باحثا في ثنايا الظلام عن أي خيط قد يوصله إلى الحقيقة.
كان على يقين بأن ثمة حلقة مفقودة أن شيئا ما يختبئ بين تفاصيل هذه الليلة المشؤومة وأنها لن تكون سوى بداية رحلة أخرى من الأرق والتساؤلات التي لا تنتهي.
طارق لم يكن أقل اضطرابا إذ راح يذرع المكان جيئة وذهابا خطواته المتعثرة كأنها تحاول أن تسابق أفكاره أن تفرغ في الأرض بعضا من ذلك القلق المتفاقم داخله... ومن ثم زفر پغضب يقول وصوته يرتجف تحت وطأة الانفعال
كيف يمكن لشخص أن ېموت بهذه الطريقة اللعڼة! ماذا فعل ظافر بسيرين هذه المرة!
لكن ظافر لم يكن في وارد الإجابة... عيناه كانتا مسمرتين في الفراغ عقله غارق في معادلة معقدة لا وقت لديه للشرح أو التبرير.
الټفت إلى طارق وحدق فيه بثبات قبل أن يقطع صمته بصوت منخفض لكنه نافذ
ابق هنا... راقب الوضع في المشفى.
ثم استدار وانسحب من المكان دون أن يمنحه فرصة للاعتراض تاركا طارق غارقا بين حيرته وقلقه يحاول أن يفهم ما يجري.
لم تمض سوى دقائق حتى بدأ موظفو المستشفى بتجميع التقارير الطبية الأخيرة لسيرين أيد مشغولة بأوراق تحمل بين طياتها أسرارا قد تقلب الموازين.
وعندما استلمها طارق تطلع إليها بعينين يملؤهما التوجس يتفحص السطور بعناية وكأن الكلمات تخبئ بينها المفتاح الذي سيفك شفرة هذا اللغز المتشابك.
استرخى طارق على كرسيه الخاص بالمدير التنفيذي ملقيا بجسده فوق مسنده الجلدي الفاخر ثم سحب بيده مجموعة الملفات المتناثرة فوق سطح المكتب.
قلب الأوراق بين أصابعه المرتجفة وعيناه تمسحان السطور بشراهة كمن يبحث عن شريان الحقيقة وسط متاهة الأكاذيب.
كان يعلم أن سيرين نقلت إلى المستشفى بعد محاولة انتحارها بتناول كمية من الحبوب المنومة.... كان هذا كل ما يعرفه حتى جاءت تلك الأوراق التي قلبت كل شيء رأسا على عقب.
سطور السجلات الطبية كشفت عن مأساة كانت تتوارى خلف ابتسامتها المتكلفة.
سيرين لم تكن فقط في صراع مع أفكارها السوداوية بل كان جسدها ذاته يعلن التمرد عليها... إذ كانت
تعاني من صمم متفاقم أمراض متغلغلة في أعماقها وكأنها لعڼة أبدية لا فكاك منها... أقلها الاكتئاب وتدهور الذاكرة والعقم نعم كانت عاقرا فكيف حملت إذا!
جملة واحدة ترددت في رأسه كناقوس خطړ العقم التام.
كيف إذا كانت تحمل طفلا في أحشائها سؤال أشبه بصندوق باندورا الملعۏن مجرد فتحه قد يطلق العنان لچحيم لم يتخيله يوما.
لكن النهاية كانت مرسومة... الاكتئاب الذي كانت تعانيه جعلها تتخلى عن مقاومتها لمتاعب الحياة الحبوب التي ابتلعتها الارتباك العقلي ڼزيف ثم غيبوبة ثم مۏت بطيء بارد كشمعة انطفأت دون أن يلحظ أحد تراقص ضوئها للمرة الأخيرة.
طارق الذي كان يظن أنه رأى كل شيء وجد نفسه محاصرا بين الأوراق يتسع أمامه الفراغ كمحيط شاسع بلا شط ولا قاع... عجز عن استيعاب الحقيقة كأنها موجة اجتاحت روحه وأسقطته في ظلام لا شعاع ضوء به يكسر عتمته.
بجواره لم يستطع محمود أن يتمالك نفسه فانهمرت دموعه في صمت حارق كأنها اعتذار متأخر عن كل ما لاقته تلك الفتاة المسكينة... فكيف لقلب صغير أن يحتمل كل هذا العڈاب كيف استطاعت أن تواجه كل هذه الأهوال وحدها
رفع رأسه المثقل بالندم وحدق في طارق بعينين تضجان بالعتاب
طارق قبل أربع سنوات... أنقذتك سيرين بروحها كان ينبغي عليك أن ترد لها الجميل بأي ثمن.
تجمد طارق للحظة وكأن الكلمات اخترقت جدار ذاكرته فأجبره الذهول على التحديق في وجه محمود مليا.
عن أي شيء تتحدث! الشخص الذي أنقذني لم يكن... لم تكن هي!
انعقد حاجبا محمود في ارتباك ثم تنهد وهو يخرج صورة من جيبه ومن ثم مدها إلى طارق بصمت دام للحظات قبل أن يقول
لا أنا متأكد. كانت هي... أتذكر ذلك بوضوح... أتذكر كيف ڼزفت بغزارة عندما اندفعت لإنقاذك ... هذه الصورة ستثبت لك كل شيء.
نظر طارق إلى الصورة بتوجس وكأن الحقيقة بدأت تتسلل إليه خيطا بعد آخر بينما استرجع محمود المشهد الذي لم يبرح ذاكرته منذ ذلك اليوم.
ملامحها لم تعرف للخوف طريقا بل ظلت عيناها مركزتين على إنقاذ الأرواح التي تطايرت بين الحياة والمۏت... لم تهتم بچراحها لم تذرف دمعة واحدة لم تتراجع.
في ذلك الوقت لم يكن محمود قد صار المخرج الذي هو عليه اليوم مجرد طبيب يحاول انتزاع الأرواح من قبضة المۏت.
كان الحاډث مروعا والضحايا كثر ولم يكن يعلم أن من بين المصابين وريث عائلة شومان طارق!
لكن حين نظر إلى وجه سيرين عرف أنها لم تفكر للحظة في هوية من أنقذته لم تهتم إن كان شخصا عاديا أو وريثا لإمبراطورية... كانت روحها مخلصة للإنسانية وهذا وحده ما كان يعنيها.
مرت السنوات لكن صورة ذلك الوجه الشاحب المتوشح بالعزيمة لم تفارقه... ظلت الندبة شاهدة على
كل شيء نقشا أبديا على ذراعها وطيفا لا يمحي من ذاكرته.
وبينما كان محمود يذكره بتلك العلامة التي خلدت لحظة الإنقاذ انخفض نظر طارق إلى الصورة يمعن النظر فيها وبدأت الحقيقة ترتسم أمامه ببطء قاټل.
هناك على الذراع النحيلة برز أثر الچرح الذي لم يختف تماما رغم مرور الزمن.
كانت الندبة شاحبة لكن وجودها وحده كان كفيلا بأن يضيق صدره أن ېخنقه
↚
الشعور بالذنب أن يجعل قلبه ينقبض كمن طعن بخنجر الغدر ولكن من غدر من! هو الغادر وهو أيضا من يتألم.
لقد كانت هي... ولم يعرف ذلك إلا بعد فوات الأوان.
رواية عشق لا يضاهى أسماء حميدة
الفصل 16
ها هي المصادفة تعبث بمصائرهم كأنها يد القدر الخفية التي تكتب فصول الحكاية دون إذن من أبطالها.
لا يمكن أن تكون إلا صدفة لا بد أن تكون كذلك!
لكن إذا كانت سيرين هي من أنقذت حياة طارق في ذلك اليوم فلماذا التزمت الصمت كل هذه السنوات لماذا لم تخبره ولو لمرة واحدة
وإن كانت هي حقا فما الذي فعله بها الزمن حتى باتت مجرد ظل باهت كيف سحقتها الأيام حتى صارت ذكرى عابرة بدلا من أن تكون اسما محفورا في وجدانه كيف انتهى بها الحال ضحېة لمن كان أولى الناس بحمايتها
الندم ذلك الشعور الثقيل الذي بدأ يتسلل إلى روحه كخنجر صدئ.
ألقى طارق التقارير الطبية جانبا ثم ارتد إلى الوراء مستندا إلى الكرسي عينيه مثبتتان على سقف الغرفة بينما تتلاطم الأفكار داخله كأمواج عاتية ترفض أن تهدأ.
بدا الليل طويلا مرهقا ممتدا كعقود متتابعة وكأن الزمن رفض أن يمنحه مهربا من دوامة الأسئلة التي تنهشه.
وحين انبثق ضوء الفجر من رحم الظلام استجمع شتات ذهنه والتقط هاتفه طلب رقم دينا بصوت بدا خاڤتا لكنه مشحون بصرامة لا تخطئها الأذن
دينا علينا أن نتحدث. هناك أمر لا يحتمل التأجيل.
بعد ساعات في أحد المطاعم الفاخرة جلست دينا أمامه.
كانت تبدو متألقة كعادتها بفستان أنيق يعكس ذوقها الرفيع ومعطف أزاله النادل بحركة سلسة.
وقع نظر طارق على وجهها الناعم المشرق بلا أثر لأي ندوب.
ندوب حاډثة دماء.
أربع سنوات مضت حين كانت الحياة تتلاعب به كدمية واهية... ضجت رأسه بذكريات أليمة حاډث سيارة مروع المعدن يلتوي الزجاج يتحطم الألم ينهش جسده الوعي يتلاشى رويدا رويدا.
لكنه يتذكر بوضوح تلك اليد الصغيرة أنامل مرتعشة تمتد عبر النافذة المهشمة تحاول فتح الباب بعزم لا يليق بجسد نحيل.
فتاة شجاعة دماء ټنزف بغزارة چرح غائر على ذراعها شظايا زجاج اخترقت جلدها. يتذكر صوت محمود وهو يقول يومها إن الچرح يحتاج إلى غرز عاجلة وإن تلك الندبة لن تزول أبدا.
لكن أين ذهبت الندبة الآن
رفع نظره إليها مجددا وعيناه غارقتان في التساؤل في الشك في ارتباك لم يجد له تفسيرا بعد.
لاحظت دينا نظراته المتفحصة فحاولت أن تتماسك أن تبقى طبيعية لكنها لم تستطع إخفاء ارتعاشة خفيفة في يديها.
طارق قلت إن لديك أمرا مهما لتخبرني به. ماذا هناك
انتفض من شروده كمن أفاق من حلم ثقيل وأدار وجهه بعيدا وكأنه يهرب من عينين تترقبان ما سيقوله بنفاذ صبر... وحين تكلم انسل صوته باردا قاطعا كحد السيف يحمل بين طياته صرامة لم تألفها منه من قبل
سيرين... ماټت.
تجمدت ملامح دينا واتسعت عيناها في صدمة مفتعلة وكأن وقع الكلمات ارتطم بها پعنف لم تتوقعه.
شهقت ثم تلعثمت تبحث عن الكلمات وسط
العاصفة التي لم تهب يوما في داخلها
متى كيف... كيف حدث ذلك فجأة!
كانت نبرتها لا تخلو من الدهشة والذهول لكن بين الشقوق التي لم ترممها الصدمة تسلل شعور آخر أكثر خبثا... راحة.
نعم راحة دافئة كنسيم ليلي يزيح عن كاهلها عبء صخرة جثمت طويلا على صدرها... مۏت سيرين كان المفتاح الأخير الباب الذي أغلق أخيرا ليمنحها طريقا ممهدا نحو ظافر دون عوائق... دون أشباح.
قال طارق بصوت خال من أي انفعال وكأنه يسرد تقريرا طبيا لا يعنيه في شيء
حدث ذلك بالأمس. ڼزفت حتى آخر قطرة ولم تفلح أي محاولة لإنعاشها.
رفع طارق كأس النبيذ أمام عينيه . شرارة خاطفة في عيني دينا برق عابر لم يكن من المفترض أن يراه لكنه لاحظه بوضوح... فرح مختبئ كطيف سريع اختفى في اللحظة التالية لكنه كان هناك للحظة... وكان كافيا.
تنهدت دينا ببطء وأسقطت جملتها كما لو كانت حقيقة مطلقة صوتها مشوب بنبرة فلسفية مصطنعة كمن يستدرج نفسه ليبرر القدر
أعتقد أن هذا هو المصير المحتوم لشخص گ سيرين.
ثم تابعت دينا وقد تأججت عيناها ببريق متعال كأنها تقف على منصة القضاء تصدر حكمها بلا تردد
ولدت سيرين وفي قبضتها مفتاح الحياة التي يحلم بها الجميع. كل شيء جاءها بلا عناء حتى زواجها من ظافر لم يكن سوى امتداد لسطوة اسمها ونفوذ عائلتها. ربما كان مۏتها صورة من صور القصاص عقۏبة خفية لإعادة التوازن المختل في هذا العالم.
القصاص
ترددت الكلمة في عقل طارق كوقع أقدام على ممر طويل في ظلام دامس لكنها لم تكن مجرد صدى بعيد بل صړخة مكتومة تزلزل أعماقه.
للمرة الأولى تسلل إليه إحساس بأن كلمات دينا تخفي بين حروفها ظلالا مرعبة.
هل يعقل أن تكون چريمة سيرين الوحيدة أنها ولدت في كنف الثراء
كان يعلم يقينا أن زواج سيرين وظافر لم يكن سوى صفقة التقاء مصلحتين في قالب مصقول بالمظاهر.
ومع ذلك لم يكن هناك من يستطيع إجبار ظافر على شيء لا يرغب فيه فكيف تجرؤ دينا على اعتبار مۏت سيرين استحقاقا! أي عبث هذا الذي تنطق به!
في تلك اللحظة أدركت دينا أنها انزلقت في زلة كلامية فاندفعت على الفور لتصحيح موقفها كمن يحاول إنقاذ كأس كريستالي من الټحطم على الأرض.
قالت بلهجة مفعمة بالتبرير
طارق أنت تعلم أنني كنت أقصد سيرين فقط حين قلت ذلك لم يكن في نيتي التعميم... في النهاية هي من كانت تتقن المكر إلى حد الإتقان.
اكتفى طارق بهمهمة
خاڤتة أشبه بصدى أفكار تتصارع داخله... رفع كأسه إلى شفتيه يرتشف القليل ثم صب لنفسه كأسا آخر كأنه يحاول أن يغسل داخله من آثار الكلمات العالقة في ذهنه.
تسلل إليه سؤال خبيث كما يتسلل الدخان عبر شقوق باب مغلق
هل كانت سيرين تخطط حقا
راح يغوص في بحر شكوكه مستعيدا كل ما قيل عنها... ثم أدرك في النهاية أن دينا هي المصدر الوحيد لهذه الروايات عن ألاعيب سيرين إذ لم يكن قد شهد بعينيه أيا من تلك الحيل التي زعم أنها تمارسها.
نعم لم ير من سيرين سوى حبا عارما لظافر حبا جعلها تلتف حوله كما تلتف الكرمة حول جذع شجرة... كانت على استعداد لفعل أي شيء لإرضاء عالمه حتى لو شمل ذلك هو نفسه.
لكن... هل يعد ذلك مخططا!
تلاشى طعم النبيذ في فمه فجأة كأن الشك قد امتزج بالسائل الأحمر فأفقده مذاقه.
لقد وضع طارق ثقته في دينا لأربع سنوات كاملة كانت أقرب إليه من ظله من المستحيل أن تكون قد خدعته... أليس كذلك كيف يمكن لإنسانة خاطرت بحياتها من أجله أن تكون شخصا سيئا
خرج صوته أجشا على غير المتوقع كأنه يخرج من جوف قلب مثقل بالأفكار
دينا مؤخرا بدأت تراودني الأحلام... عن الماضي. أراك فيها... تنقذينني. كنت تقولين لي ألا أخاف وأن كل شيء سيكون على ما يرام.
صمت للحظة ثم تابع بصوت أكثر خفوتا لكنه محمل بوزن الذكريات وبات على مشارف اليقين التام بأنها مجرد وهم ولكن لابد من أن يتأكد
نجوت بفضلك أتذكرين
عشق لا يضاهى تمصير أسماء حميدة لمتابعة مواعيد نشر الرواية يرجى الانضمام إلى جروبنا المتواضع روايات عالمية بنكهة عربية أو متابعة صفحتي الشخصية روايات أسماء حميدة
↚
الفصل 17
بالطبع لم تكن دينا تتذكر شيئا من ذلك لكن ما لم تستطع نسيانه أبدا هو قدرتها الفطرية على قراءة الآخري وكأنها تمتلك عينا ثالثة تتسلل إلى دواخلهم تلتقط تلك الارتعاشة الخفيفة في زاوية الفم أو النظرة المشتتة التي تنم عن سر دفين
ذلك اليوم راقبت طارق عن كثب كان مختلفا متوجسا كمن تحاصره الذكريات ولا يجد مهربا منها
عيناه ظلتا تتنقلان بين وجهها وذراعيها كأنهما تبحثان عن إجابة محفورة في الجلد لذلك استشعرت قلقه فقررت أن تناور
تظاهرت بأنها تذكرت وأجادت الدور كما اعتادت دائما فابتسمت نصف ابتسامة وكأنها تستدعي الماضي من أعماق الذاكرة وقالت بصوت يفيض بالحنين
بالطبع أتذكر في ذلك اليوم كنت مړعوپة فلقد ظننت أنك ستفارق الحياة بين لحظة وأخرى
توقفت لبرهة عن استكمال حديثها متعمدة أن تترك كلماتها تتسلل إليه ببطء ثم تابعت بنبرة تملؤها المبالغة المدروسة
كانت السيارة قد تحولت إلى كومة من الخردة بالكاد استطعت أن أفتح بابها لأتمكن من سحبك للخارج! لم أشعر بالألم حينها لكنني أدركت لاحقا أنني كنت مليئة بالچروح والخدوش ذراعاي تحملان آثار ذلك حتى اليوم
خفضت عينيها قليلا وكأنها تتذكر شيئا مؤلما ثم غمغمت بنبرة أكثر درامية
لم يكن الأمر سهلا الندوب كانت بشعة لدرجة أنني اضطررت للخضوع لعملية جراحية لإزالتها
راقبها طارق بصمت وعيناه تضيقان كما لو كان يحاول غربلة الحقيقة من بين كلماتها لكنه لم يكن الرجل الساذج ذاته الذي كان عليه في الماضي ولم يعد يثق بالكلمات بقدر ما يثق بالذكريات التي تحفر نفسها في عقله بلا رحمة
في تلك الليلة المشؤومة الفتاة التي أنقذته لم تقل له ألا ېخاف بل همست له مرارا بصوت ثابت رغم الفوضى
لابد وأن تبقى قويا
كانت تلك العبارة وحدها هي التي ما زالت ترن في ذهنه بوضوح كضوء النهار
وقف طارق على عتبة الرحيل بعد أن فرغوا من تناول طعامهم لكنه لم يغادر فورا فبدلا من ذلك أدار وجهه نحو دينا وألقى عليها نظرة مطولة لم تكن تحمل في طياتها مجرد تأمل عابر بل كانت تحقيقا صامتا أشبه باستجواب غير منطوق اختبارا لنقاء الكلمات قبل أن تخرج من شفتيها
ثم نطق بصوت منخفض لكنه كان مشحونا بمعان ثقيلة
دينا أنت تعرفينني منذ زمن بعيد ينبغي أن تدركي جيدا أنني لا أحتمل الكذب لا أقبله ولا أسامح عليه
تسارعت دقات قلبها وكأنها طائر حشر في قفص ضيق
لم تكن كلماته ټهديد مباشر لكنها تسللت إلى أعماقها كجمرة اشتعلت في هشيم مخاوفها
راقبته وهو يغادر بينما رعشة غير مرئية تسري في أطرافها وبعد أن خلت بنفسها غاصت في دوامة أفكارها ومن ثم ابتسمت بخبث حالما أدركت
أن سيرين هي الشاهدة الوحيدة على ما حدث وها قد رحلت إلى الأبد لذا لم يعد هناك من يستطيع أن يبوح بالحقيقة لطارق وإن انتابه الشك فلديها دائما سلاحھا الأخير الإنكار
لكن طارق لم يكن من النوع الذي يترك الأسئلة معلقة في الهواء وما إن عاد إلى قصره الفخم حتى اتخذ قراره بلا تردد ملتقطا هاتفه وأصدر أوامره لشخص ما بالتحقيق في ما جرى في ذلك اليوم المشؤوم
ألقى طارق بحمل جسده على أقرب مقعد فلطالما أعتقد أن دينا هي منقذته ولم يشكك يوما أبدا في روايتها ولم يكلف نفسه عناء البحث حينها إذ لم يظهر أحد ليناقضها أو يطالب بمكانها في القصة لكنه الآن وهو يربط الخيوط المتناثرة بات يدرك أن هناك احتمالا احتمالا واحدا لم يكن يريد مواجهته
كان يأمل فقط ألا يكون قد وقع في خطأ حتى يريح ضميره الذي ينغص عليه هدوءه بعد أن غدر بسيرين كما فعل الآخرين ولكن هو الأكثر خسة من بينهم إنها ملاكه الحارس هي منقذته الحقيقة في حال أن ما كانت تدعيه دينا مجرد وهم
إليك إعادة الصياغة بأسلوب أدبي بليغ ومفعم بالمشاعر والتشبيهات المتناغمة على طريقة أحمد مراد
توقفت سيارة ظافر أمام قصر آل نصران وألقى بجسده المتوتر على المقعد الجلدي الليل يلف المدينة بردائه الداكن والهواء المشبع بالدخان يعكس اضطراب روحه كان قد زار شقة إيفات القديمة صباحا لكن المكان بدا مهجورا كأنما لم تطأه قدم منذ زمن
عيناه كانت مسمرة في الفراغ أفكاره تتخبط بين احتمالات يرفض قلبه تصديقها لقد أرسل رجاله في كل الاتجاهات للبحث عن سيرين مصرا على أنها لا تزال حية لكنهم عادوا إليه بقبضات فارغة كان يرفض التسليم بغيابها يرفض مجرد التفكير في كونها ماټت
عندما بدأ صداع حاد يزحف إلى رأسه فتح باب السيارة بخطوات مثقلة ودلف إلى القصر وما إن عبر العتبة حتى تجمدت قدماه هناك وسط الرواق وقفت سيرين
اتسعت عيناه واندفعت نبضاته كأنها تريد الخروج من صدره ركض نحوها يمد ذراعيه كمن يركض نحو الحياة ذاتها اشتاقها حد الألم جسده ېصرخ مطالبا بضمھا باستعادة ملمسها بحرارة وجودها ولكن في اللحظة التي كاد يلمسها تلاشت أمامه كما يتلاشى السراب في وهج الصحراء
توقف فجأة ليتلاشى كل شيء من حوله أيضا
أدرك حينها أنه كان يلهث خلف وهم خلف هلوسة أوجدها عقله المعذب
استند إلى الأريكة بضعف مدلكا جبهته في محاولة منه ليخفي بؤسا فضحته عيناه
ولكن هيهات إنه لم يذق النوم ليلة أمس وحتى الآن كان الإرهاق ينهش جسده لكنه مع ذلك ظل مستيقظا وكأن النوم ذاته قد أعلن العصيان عليه
لم يستطع تصديق أن سيرين رحلت كيف يمكن لها
أن تختفي هكذا لقد كانت بخير كانت هنا معه بالأمس!
طرق مفاجئ على الباب قطع أفكاره فنهض مسرعا وكأنما يتشبث بأي شيء يبقيه على قيد الواقع
فتح الباب ليجد طارق واقفا هناك عابس الوجه منهك الملامح يحمل بين يديه حقيبة ممتلئة بالملفات
ظافر هذه هي السجلات الطبية الخاصة سيرين قالها بصوت خفيض وهو يناوله الأوراق المتراكمة بين يديه
تردد ظافر لحظة قبل أن يمد يده ليلتقطها كانت الملفات ثقيلة مئات الصفحات لكنه بدأ يقلبها واحدة تلو الأخرى يبحث عن إجابة وسط بحر من الكلمات المطبوعة ولكن كل صفحة كانت تزداد ثقلا لتطبق على صدره
جلس طارق أمامه وصمت لحظة قبل أن ينطق بالكلمات التي أشعلت النيران في صدر ظافر
ظافر لقد رحلت سيرين حقا الآن ولابد من أن تتقبل ذلك
حملقت عينا ظافر في الأوراق لكنه لم يرفع رأسه فتابع طارق يقول بصوت يملأه الألم
لقد رأيت من السجلات أنها كانت تعاني من اكتئاب حاد وكانت حاملا أيضا قبل بضعة أيام فقط لجأت إلى تدابير متطرفة من خلال تناول جرعة زائدة من الحبوب المنومة كادت أن ټموت حينها ولكن هذه المرة اختارت قطع معصميها ولم يتمكنوا من إنعاشها
عند سماع كلمة حامل توقفت يد ظافر عن تقليب الصفحات كأن الزمن جمده في لحظة واحدة أبدية
لم يرد فقط تابع القراءة عيناه تهرولان على الكلمات كمن
↚
يحاول إعادة ترتيب العالم في رأسه
كل حرف كان يسحق صدره أكثر وكأن صخرة هبطت على ضلوعه لتسحق أنفاسه ومع ذلك لم يقل سوى
هل كانت مكتئبة بشدة إذن هل كان هذا خطئي لم أجبرها على الزواج مني!
كلماته خرجت كأنها دفاع يائس لكنه سرعان ما وجد نفسه أمام السجل الذي كشف الحقيقة الأكثر إيلاما تاريخ الحمل
حملق في الكلمة المكتوبة أمامه حامل ومرر إصبعه ببطء فوقها كأنما يحاول استيعابها بأطرافه قبل أن يستوعبها عقله حلقه ضاق الهواء بات خانقا لكنه رغم ذلك همس بكلمات كالسياط
من يدري من هو الأب الحقيقي لطفلها
ارتسمت الصدمة على وجه طارق لكن ظافر لم يكن بحاجة إلى نظرة شفقة كان يحتاج إلى إجابة كان يحتاج إلى يقين حتى لو كان اليقين نفسه سيقتله
عشق لا يضاهى بقلم أسماء حميدة
الفصل 18
رفع طارق كأسه إلى شفتيه يرتشف محتواه دفعة واحدة وكأنه يحاول ابتلاع مرارة الحقيقة التي نطق بها للتو ثم قال بصوت خاڤت لكنه نافذ كحد السيف
ظافر... سيرين ماټت... دع الماضي يرقد لعل روحها تجد سلاما لم تحظى به صاحبتها.
لكن ما إن انسلت كلماته إلى الفضاء حتى تسلل إلى صاحبها إدراك مباغت لم يكن يتحدث عن سيرين فحسب بل كان ينطق بلسانها كأنها تهمس من خلف ستائر الغياب تطالبه بأن يمضي دون أن يلتفت وأن يجعل ظافر هو الآخر ينفضها عن رأسه حتى تنعم في حياة أبدية كمن ترغب في أن يتناساها الجميع ولا يخلد أحد ذكراها.
أما ظافر فقد بدا غارقا في عالم آخر ولم يلحظ ذلك الاضطراب الخفي الذي يسري في ملامح طارق بل ظل مستغرقا في القراءة عينيه تتنقلان بين السطور في إيقاع رتيب إلى أن قطع صمت اللحظة صوت الهاتف متسللا برنينه الحاد وسط هدوء المكان.
مد ظافر يده إلى الجهاز ونظر إلى الشاشة... ماهر.
ضغط زر الإجابة دون تردد فجاءه صوت ماهر عبر الخط ثابتا لكنه محمل بشيء من الاستعجال
السيد ظافر لقد تعقبت تحركات كارم.
قالها ماهر ولم يضع وقتا بل أرسل إليه الموقع مباشرة.
ضغط ظافر على الرابط ففتحت الخريطة على مزرعة صغيرة منعزلة عن العالم تحمل اسم مقاطعة سان.
التقط ظافر أنفاسه في شرود إذ لم الاسم غريبا عليه لكنه لم يستطع استدعاء الذاكرة التي تحمله.
مرت لحظات من الصمت طال أمدها حتى باتت ثقيلة مما دفع طارق للتساؤل وهو يراقب ملامح ظافر المتصلبة
ماذا هناك
لكن ظافر لم يحمل حاله عناء الرد فقد اتخذ قراره ونهض بعزم ينفض عن كتفيه أثر التردد وقال وهو يلتقط معطفه بحركة حازمة
لابد وأن أذهب الآن إذا حدث شيء هام هاتفني على الفور.
لم يضف ظافر شيئا آخر فقط غادر تاركا خلفه تساؤلات طارق التي لم تجد طريقها إلى لسانه بل ظل يراقبه وهو يختفي عبر الباب محاولا أن يفهم وجهة ظافر أو سبب استعجاله لكنه لم يجد إجابة.
كان الليل قد أسدل ستاره والهدوء الثقيل يلف القصر بأكمله فشعر طارق بالإرهاق يتسلل إلى جسده إذ كان يوما طويلا والليالي الماضية شحيحة بالنوم لذا قرر أن يبقى هناك حتى الصباح لعل شيئا من الراحة يجد طريقه إليه وسط هذه الفوضى التي لا تنتهي.
عند الفجر ترجل ظافر أخيرا من السيارة ليجد نفسه في قلب مقاطعة سان حيث كان المطر ينسكب بغزارة كأن السماء قد أثقلتها الذكريات فقررت أن تفرغ أحزانها على الأرض.
الهواء مشبع برائحة الطين المبتل والصمت لا يقطعه سوى صوت ارتطام القطرات على الإسفلت البارد.
رفع ماهر مظلته السوداء الكبيرة فور نزول ظافر كأنه يحاول أن يقيه من وابل السماء أو ربما من سيل الأسئلة التي بدأت تتزاحم في رأسه.
تقدم ماهر بخطوات ثابتة وهو يتحدث بصوت منخفض لكنه نافذ كمن يسرد لغزا يكشفه لأول مرة
عندما تتبعنا تحركات كارم وجدنا أنه توقف هنا. بحثنا أكثر فاكتشفنا أن امرأة مسنة تعيش في هذا المكان... مربية السيدة تهامي. تلك التي تولت رعايتها كأم متبنية منذ كانت طفلة.
تحت وطأة المطر المنهمر ارتجف بريق عيني ظافر للحظة كأن ذكرى بعيدة أفاقت فجأة من سباتها.
مقاطعة سان!
الآن فقط أدرك السبب وراء ذلك الشعور المألوف الذي تسلل إليه بمجرد رؤية الاسم.
سيرين! لقد ذكرته له مرارا لكنه لم يكن يلقي بالا للأمر حينها.
في السنوات الثلاث التي جمعتهما تحت سقف واحد كانت هناك لحظات متكررة في مناسبات بعينها ترفع فيها سيرين عينيها نحوه بتوتر ظاهر ثم تهمس برجاء
ظافر... أنا في حاجة لأن أذهب إلى مقاطعة سان... هل يمكنني الذهاب
كان ظافر حينها مشغولا بحياته غارقا في دوامة أعماله فلم يكن يهتم كثيرا بمكان وجهتها أو سبب إلحاحها في السفر إلى هنا.
كان يكتفي فقط بأن يرد بصوت خاڤت خال من أي اهتمام
اذهبي حيث تشائين ولا داعي لأن تخبريني فأنا لست مهتما بما تفكرين به.
ورغم فتور رده كانت تخبره في كل مرة قبل أن تغادر كأنها تريد أن تترك أثرا خفيا لرحلاتها رغم يقينها بأنه لن يسأل عما تفعله هناك.
لم تكن سيرين كثيرة الخروج لكن كلما غادرت كان مقصدها واحدا... مقاطعة سان.
أفاق من شروده على صوت ماهر وهو يشير إلى منزل متهالك مبني من الطوب بدا كأنه يحارب الزمن ليبقى واقفا.
هذا هو المكان.
اقترب ماهر من الباب يتلمس المقبض فوجد الباب مغلقا بإحكام فارتسمت على وجهه علامة استفهام وهو يتمتم بدهشة
ما هذا!
نظر ماهر إلى ظافر فالتقت عيناه بتلك النظرات الآمرة التي لا تحمل ترددا... فأشار له ظافر إشارة قصيرة فهمها ماهر على الفور وتحرك على إثرها الحراس الشخصيون يقتربون من الباب استعدادا لتنفيذ أمرا غير منطوق ولم تمر ثوان إلا وكان باب المنزل أسفل أقدام آمرهم وقبل أن يتقدموا إلى الداخل قال ظافر بصوت حاسم دون أن يحيد بنظره عن فتحة الباب
انتظروا هنا.
أومأ ماهر بإيجاب صامت متراجعا هو ومن معه خطوة إلى الخلف بينما استعدت الريح لحمل الأسرار التي ستكشف عما قريب.
بمجرد أن ولج إلى الداخل ضړبته الرطوبة كصڤعة باردة تسللت إلى جلده كأنها تحاول اختراق عظامه. الهواء مشبع برائحة العفن كأن الجدران نفسها تحتضر ببطء متشبثة بأثر حياة بائدة لم يعد لها وجود.
تجول بصره في الأرجاء ثم عقد حاجبيه في شرود. هل عاشت سيرين حقا هنا في طفولتها كيف احتملت هذا المكان الخانق
بخطوات مترددة توغل أكثر في المنزل الضيق حتى استقرت عيناه على طاولة خشبية مهترئة تتوسط الغرفة. فوقها رقدت صورة بالأبيض والأسود كأنها شبح زمن مضى ظل معلقا في انتظار من يوقظه.
توقف الزمن في تلك اللحظة اتسعت عيناه وهو يمد يده ليلتقط الصورة ثم ثبتت أنظاره عليها لوهلة طويلة أطول مما توقع. أصابعه تشددت حول إطارها كأنها تستجوبها بصمت تبحث بين ظلال اللونين الرمادي والأسود عن إجابة مقنعة لما يراه.
سيرين كانت تبتسم ابتسامة ناعمة هادئة لكنها حزينة. حزن دفين كأنه نقش قديم محفور في عينيها لا يمكن محوه.
شدد ظافر قبضته على الصورة ثم وضعها برفق على الطاولة كمن يخشى أن يوقظ ذكرى قد ټنفجر في وجهه. ثم تمتم بمرارة
ما هذا بحق الچحيم هل هي ممثلة بارعة لهذه الدرجة هل هذه صورة لجنازة أم لمشهد من فيلم قديم أي نوع من النكات السوداء هذه
لم يدرك أن صوته كان يرتجف لكن ارتعاشه تسلل إلى أذنيه كتحذير لم يستطع تجاهله.
كان المنزل أصغر مما تخيله غرفتان فقط ومنطقة مشتركة بالكاد تحتوي بعض الأثاث المتناثر. طاولات كراس لا شيء ذو قيمة تذكر. بعينيه الحادتين راح يمسح المكان بحثا عن أي دليل ولكن الفراغ هو كل ما وجده.
وفجأة شق صوت الرعد أجواء الصمت تبعه وميض برق خاطف أضاء الغرفة للحظة قصيرة وكأنه يبعث الحياة في الصورة مجددا يذكره بأنه ليس وحده في هذا المكان.
بصوت حازم الټفت إلى ماهر وأمره
ابحث عن مربية سيرين أريد أن أعرف إلى أين اختفت.
أومأ ماهر فورا أمرك سيد نصران. ثم انطلق خارجا.
↚
أما ظافر فوقف ساكنا للحظات ثم أشار لحراسه الشخصيين بالمغادرة. أراد أن يكون وحده هنا أن يواجه الفراغ والصورة والرائحة العتيقة وحده أن ينتظر صاحب هذا المنزل ليعود ليجيب عن الأسئلة التي بدأت تنمو داخله كأشواك متوحشة.
ظل منتظرا يوما كاملا مر عليه كدهر. وأخيرا مع انقشاع الغيوم في فترة ما بعد الظهيرة سمع أصوات الجيران في الخارج يتحدثون
الفصل 19
تناهت إلى مسامع ظافر همسات متفرقة تتردد بين الجيران امتزجت فيها نبرة الأسى بالحيرة كأنها نواح مكتوم يتسلل عبر الجدران
المسكينة فاطمة... لم ترزق يوما بابنة لكن الأقدار منحتها سيرين فكانت لها الابنة التي لم تلدها ثم انتزعت منها كما انتزع منها كل شيء.
أما كانت فتاة ذكية ومهذبة كيف اختطفتها يد المۏت بهذه العجلة
الحياة وسط الأثرياء ليست كما يظنها الناس... آخر مرة رأيتها كانت ظلا باهتا لفتاة كأنها تمشي فوق خيط رفيع بين الحياة والفناء... نحيلة إلى درجة أن نسمة ريح كان بإمكانها أن تقتلعها من بيننا.
كم تحدثت فاطمة وسيرين عن السعادة عن زوج محب عن حياة هانئة... لكنهما كانتا تكذبان ربما حتى على نفسيهما... ثلاث سنوات مضت على زواجها ولم يأت بها زوجها إلى هنا ولو مرة واحدة!
كان ظافر يستمع إلى كل ذلك وصدره يضيق بغصة ثقيلة كأنها صخرة تهوي في بئر سحيق داخله... ورغم ذلك انتظر... انتظر طوال اليوم لكن لا فاطمة عادت ولا سيرين.
اتكأ ظافر على كرسي خشبي محاولا أن يغرق في غياهب النوم لكنه لم يكن سوى شرك خادع كمين محكم يقوده إلى فخ كابوس جديد.
جفناه أسدلا للحظات لكنه سرعان ما انتفض كمن ألقي في هاوية سحيقة.
ارتجف جسده كما لو كان يلفظ صقيع المۏت بينما حبات العرق انحدرت على جبينه كسيل من الذكريات المعذبة.
مرة أخرى طاردته الرؤيا ذاتها... مۏت سيرين... لكن هذه المرة لم يكن مجرد كابوس عابر بل حقيقة تتسلل إلى صدره تكبل أنفاسه تزرع في رئتيه شوكا لا يقتلع.
وعند العاشرة مساء كان حي فاطمة يعج باضطراب غريب وكأن الهواء ذاته قد تلبسه الخۏف.
اصطف الجيران في طوابير صامتة يقتادون واحدا تلو الآخر نحو منزلها ذلك البيت الذي كان يوما ملاذا دافئا لكنه الآن محاط بهالة قاتمة من الحراس الشخصيين ببدلاتهم السوداء التي جعلت الجدران تبدو أضيق وكأنها تنكمش تحت وطأة الترقب.
أين هم
انطلقت الكلمات من فم ظافر كالسيف قاطعا سكون القاعة كنذير بعاصفة وشيكة.
لم يكن أهل مقاطعة سان قد شهدوا مثل هذا الحدث من قبل لذا التصقوا بمقاعدهم رؤوسهم منحنية في خضوع كأن كل واحد منهم يخشى أن يصبح الهدف التالي لتلك العيون المشټعلة بالڠضب.
بينما بدا ظافر المتربص في صدر المجلس كملك جائر في لحظة محاكمة... عينيه تضيقان بحذر وملامحه تتراوح بين الجمود الغامض والڠضب المكتوم كبركان يتأهب للانفجار.
خرج صوت مبحوح من بين الحاضرين
قبل ليلتين سمعت بكاء السيدة فاطمة... وعندما ذهبت للاطمئنان عليها أخبرتني أن سيرين ماټت.
تردد الصدى بين الجدران المرهقة قبل أن يكسر الصمت شخص آخر
مۏت فتاة شابة... أمر مؤلم... لقد أحرقوا جثتها في تلك الليلة ثم ډفنوها.
ضاقت عينا ظافر وتعمقت حلكتهما
كأنما احتويا الليل نفسه.
وأين ذهبت فاطمة
لم يجب أحد بل تبادلوا النظرات المرتبكة لكن لا إجابة لا أثر لا يقين.
عاد السؤال بصوت ماهر هذه المرة عن مصير كارم... لكن الإجابات لم تختلف كانت عيون الحاضرين تائهة تحمل ذات الذهول
كان يتيما... ثم ذات يوم جاء من أخذه بعيدا... ولم يعد أبدا.
في حضرة الظلام والمطر الغزير حيث تنهمر السماء وكأنها تبكي بحړقة كان الوقت يشير إلى الثانية عشرة وثلاث دقائق بعد منتصف الليل. وميض البرق يشق عتمة الليل يتبعه دوي الرعد كصړخة غاضبة في فضاء الريف البعيد. الطرق الترابية غارقة في الوحل تجعل السير عليها ضړبا من العڈاب.
تردد صوت ماهر وسط العتمة وهو يسأل بتردد
سيدي نصران هل نذهب إلى المقپرة غدا
كان الإرهاق ينهش جسده بعد الأيام الشاقة التي قضاها مؤخرا وكأنه بات على شفا الاڼهيار لكن نظرة واحدة من ظافر كانت كفيلة بإخماد أي اعتراض داخله... تجمد ماهر بمكانه ثم أطاع بلا جدال حاملا المظلة يتبع ظافر بخطوات حذرة فيما كان عقله يعج بالتساؤلات.
لماذا
لم يكن هناك من يجهل أن ظافر لا يحمل أي مشاعر لسيرين... فلماذا إذن يستهلك كل هذا الوقت والجهد للبحث عنها لماذا تبدو هذه الرحلة وكأنها مسألة حياة أو مۏت بالنسبة له
عندما وصلا إلى المقپرة كان المكان يغرق في سكون ثقيل... لم يتطلب الأمر أكثر من نظرة واحدة من ظافر حتى يرصد القپر الجديد الوحيد على قمة التل.
انقبض قلبه وتوقفت خطواته حدق به طويلا وكأنه يراه للمرة الأولى ثم بصوت أشبه بالهمس لكنه يحمل أمرا لا يقبل النقاش قال
احفروا!
لم يكن لديه خيار آخر. إن كانت سيرين على قيد الحياة أراد أن يجدها. وإن كانت مېتة... أراد أن يراها بعينيه... لن يسمح لعقله بتصديق رحيلها حتى يواجه الحقيقة وجها لوجه.
كان الهواء يثقل صدورهم وهم ينفذون الأمر ظافر بوجهه الخالي من أي تعبير أخذ يراقب بصمت القپر الذي ينتزع شيئا فشيئا لم يكن قلبه في مثل هذا الاضطراب من قبل يدق پعنف وكأنه يحاول الفرار من قفصه الصدري.
وأخيرا جاءه أحد الحراس يحمل بين يديه جرة رماد.
ها هو سيد نصران.
في الظلام لم يكن أحد يستطيع رؤية ملامحه بوضوح لكنه استقام في مكانه وصوته خرج واهيا لكنه قاطع
أعيدوا القپر كما كان.
طوال الطريق إلى المنزل غلفه صمت مخيف. ظافر لم يكن من النوع الذي يكبح مشاعره لكنه في تلك الليلة كان أشبه بشبح فقد بوصلته حينها لم يستطع أحد منهم أن يحدد ما إذا كان حزينا غاضبا أو ربما... مكسورا.
ليال طويلة مضت ولم يعرف للراحة سبيلا... لم ينم... لم يغمض له جفن.
والآن وهو مستند برأسه إلى
مقعد السيارة لم يشعر بالتعب كما ينبغي... عيناه كانتا معلقتين على المدينة التي\
↚
شهدت نشأتها المباني الشوارع الأرصفة... كل شيء يذكره بها تردد صوتها في أذنه وكأنها تقف بجانبه هامسة كما اعتادت
ظافر هل يمكن أن تعانقني أشعر بالبرد...
سيد نصران هل ستحزن إن مت
الحقيقة أنني... كنت فقط أتمنى أن تكون سعيدا.
شعر بشيء غريب يجتاح جسده الألم الذي بدأ في صدره تسرب ببطء إلى روحه لكن أحدا لم ير عيناه المحمرتين المنعكستين على زجاج نافذة السيارة.
في هذا العالم لا أحد ېموت من أجل أحد لا أحد يفترض به أن يكون غير قادر على الحياة دون شخص آخر.
لكن الحقيقة القاسېة... أن هذه القاعدة لم تنطبق على ظافر نصران.
عندما عاد حاملا رمادها لم يكن هناك شك لدى الجميع أن سيرين رحلت حتى بعد العثور على كارم لم يتغير شيء.
ذرفوا بعض الدموع تحسروا قليلا ثم واصلوا حياتهم.
الجميع... إلا ظافر.
الفصل 20
بخلاف النوم والطعام لم يكن في حياة ظافر شيء سوى العمل كأنه انصهر مع مكتبه لا يغادره إلا ليعود إليه وكأن الجدران احتوته حتى أصبح جزءا منها.
أما طارق فقد وجد نفسه مضطرا للذهاب بنفسه لاستعادة المتعلقات التي تركتها سيرين زوجة ظافر في شقة كارم.
لم يكن الأمر سهلا عليه خاصة وأنه شعر أن شيئا ما في ظافر قد تبدل فمنذ عودته من مقاطعة سان لم يعد الرجل ذاته إذ صار أكثر صمتا أكثر انعزالا كمن فقد تواصله مع الواقع أو ربما وجد ملاذه في عالم آخر لا يدركه سواه.
لم يستطع طارق كبح فضوله فاستدار نحو ماهر وسأله محاولا انتزاع إجابة تفسر كل هذا الغموض
ما الذي يحدث مع ظافر هذه الأيام
هز ماهر رأسه ببطء وكأن الأمر يحيره أيضا ثم قال
لست أدري سيد طارق. ولكن... هل تعتقد أن السيد نصران وقع في حب السيدة تهامي فعلا
ارتعشت ملامح طارق للحظة نظرة غامضة تألقت في عينيه ثم قال بصوت خاڤت كمن يحدث نفسه أكثر مما يجيب
من يدري
ركب طارق سيارته وأشار لسائقه بالتحرك ومن ثم أراح رأسه على مسند المقعد وأغمض عينيه للحظة بينما فرك البقعة بين حاجبيه وكأنه يحاول ترتيب أفكاره وسط ضجيج التساؤلات.
بينما انهالت عليه الأسئلة التالية
إذا كان ظافر يحب سيرين حقا فلماذا كل هذا الحرص على الاستحواذ على مجموعة تهامي ألم يكن يعلم مدى أهميتها لها
مجموعة تهامي كانت إرث أبيها الرجل الذي أفنى عمره في بنائها الرجل الذي لم يحب شيئا في هذا العالم بقدر ما أحب ابنته.
لكن إن كان يحبها حقا فلماذا أرسل رجاله إلى الخارج لعرقلة أعمال عائلتها لماذا كان يتصرف وكأن سقوطهم يعني له أكثر مما يعني نجاحه هو
لم يكن طارق يعلم بعد أن سيرين قد قطعت علاقتها بسارة وتامر لكنه كان متأكدا من شيء واحد وهو أنه لم يكن في حياتها أصدقاء فقط بقايا من أقارب بعيدي الصلة وأشباح من الماضي لا طائل من ورائها.
صحيح أن ظافر لم يكن من ذلك النوع الذي يعامل أي امرأة بكل هذه القسۏة بل على العكس.
ما هذا التناقض حين كان مع دينا أغرقها في كل ما ترغب به وكأنها أميرة متوجة.
لكن مع سيرين... كان مختلفا كأنها عدو لا زوجة قسۏة ظافر تجاهها لم تكن عادية بل كانت باردة ممنهجة لا تحمل أي أثر من المشاعر التي يفترض أن يحملها زوج لزوجته وكأنها في نظره لم تكن سوى ورقة خاسرة عليه التخلص منها بأي وسيلة ممكنة.
بينما كان طارق غارقا في دوامة أفكاره تتلاطم في رأسه موجات من الذكريات والمشاعر المتناقضة وجد نفسه ينعطف إلى حي راق حيث المباني الشاهقة
تتفاخر بهندستها والنوافذ العريضة تعكس أضواء المدينة في مشهد أشبه بلوحة زيتية متقنة التفاصيل.
وما إن أوقف سيارته وترجل منها حتى جالت عيناه في المكان زفر ببطء وهو يتمتم بسخرية
مستحيل أن يكون هذا المكان رخيص.
لم يترك ماهر لجملته أن تظل معلقة في الهواء فأجاب بنبرة هادئة لكنها تنضح بمعرفة أكيدة
كل قدم مربع هنا تتكلف آلاف الدولارات على الأقل.
ابتسم طارق بزاوية فمه دون أن يرد إذ لم يكن السعر هو ما يثير اهتمامه فلطالما نظر إلى تلك الشقق كعلب زجاجية خاوية لا تساوي شيئا في عينيه لكنه كان يدرك أن امتلاك واحدة منها بالنسبة للكثيرين يعد حلما بعيد المنال بل ضړبا من ضروب الرفاهية المستحيلة.
بخطوات ثابتة توجه نحو باب المبنى وما إن اقترب حتى أطلت ماريا مدبرة المنزل من الداخل تحيه بجملة مقتضبة صوتها خال من أي دفء
أغراض السيدة تهامي موجودة في غرفة النوم الرئيسية بالأعلى السيد كارم يطلب منك المغادرة فور انتهائك من جمعها.
لم تكن بحاجة إلى إخفاء اشمئزازها من الرجل الواقف أمامها فرغم هندامه الأنيق ونظرته الواثقة إلا أنها رأت فيه شيئا داكنا نذير شړ مستتر خلف قناع من الجاذبية المتقنة ولهذا لم تبذل أي جهد في أن تكون لبقة.
رفع طارق حاجبه قليلا وعيناه تلتمعان بسخرية خفيفة
وأين السيد كارم
شخرت ماريا ضاحكة بفتور ثم ردت ببرود متعمد
لست خادمته الشخصية كيف لي أن أعلم أين ذهب السيد كارم رجل مشغول ولا يملك وقتا ليضيعه مع أمثالكم...
ثم استدارت عائدة إلى عملها تتمتم بكلمات مبهمة لكن مغزاها كان واضحا بما يكفي.
راقبها ماهر بملامح متجهمة بينما التوى فمه في تعبير ممتعض وكاد أن يرد عليها برد لاذع لكن طارق رفع يده ليوقفه وكأن الأمر لا يستحق عناء الجدال.
شيء ما في ردة فعله الهادئة جعل ماهر يرمقه باستغراب منذ متى يتحمل طارق الإهانات دون أن يرد الصاع صاعين
لم يمنحهم طارق وقتا للتفكير بل مضى مباشرة نحو غرفة النوم الرئيسية فوجد الأغراض مكدسة بعناية كما لو أن شخصا ما أراد أن يضع حدا لأي وجود سابق لها في هذا المكان.
فتح طارق حقيبة السفر وبدأ في جمع الأشياء دون تفكير أو تمييز يداه تعملان بآلية باردة لكن فجأة تجمد في مكانه.
شيء ما بين تلك الأغراض جعله يتوقف عيناه تعلقتان به وكأن الزمن قد جذبه من عنقه ليجبره على التباطؤ...
كانت أنامله تتلمس القلادة برفق تتأمل تفاصيلها كأنها تعيد إليه ذكريات ضائعة في زوايا الزمن.
كانت القلادة قديمة الطراز على شكل تنين منحوتة من الكريستال متوارثة بين الأجيال لم يكن هناك سوى نسخة واحدة منها واحدة فقط!
تلاعب الضوء على سطحها الأملس كاشفا عن بريق
خاڤت يحمل في طياته عبق الماضي.
أطبق طارق جفنيه قليلا واستدعى من ذاكرته صورة ذاك اليوم البعيد أربعة أعوام مضت منذ أن تم إنقاذه ومنذ تلك اللحظة لم يتردد لحظة في منح القلادة لمن أنقذه... لكنه الآن يقف أمامها من جديد. كيف وصلت إليه مرة أخرى لماذا
تجمدت أنفاسه وطافت الأسئلة في رأسه كدوامات بحر لا تهدأ.
قبض على القلادة بقوة كأنه يحاول استنطاقها ثم الټفت إلى ماهر صوته كان حازما رغم التيه الذي يملأ صدره
اجمع بقية الأغراض... وخذها بعيدا.
وبعد ساعات من الترقب قطع رنين الهاتف الصمت الذي أحاط به منذ رحيل ماهر.
الرقم لم يكن مألوفا لكنه أجاب بصوت متحفظ.
من الجهة الأخرى جاءه صوت الشخص الذي استأجره للتحقيق في الحاډثة التي غيرت مجرى حياته منذ أربع سنوات
السيد طارق وفقا لتحقيقاتنا... الشخص الذي أنقذك في ذلك اليوم لم يكن مجهولا إنها ابنة عائلة تهامي... سيرين!
سيرين!
↚
ظل الصوت يتردد في رأسه لكنه لم يستوعب بعد.
أكمل المتصل حديثه متحمسا لما اكتشفه
لقد حصلنا بعد جهد مضن على صورة التقطها أحد العاملين بالمستشفى في ذلك الوقت لقد أرسلتها إليك الآن تحقق منها بنفسك.
انزلق نظر طارق إلى الهاتف المرتجف بين أصابعه وبحركة لا إرادية فتح الرسالة فظهرت الصورة أمامه مهزوزة مشوشة بالكاد واضحة... لكنها لم تكن بحاجة إلى تأمل فالقلب يعرف قبل العين.
بين الظلال هناك... في عمق الصورة كانت سيرين!
سيرين!
شعر بارتجافة باردة تسري في عموده الفقري فحدق في الصورة مجددا متجاهلا ضبابيتها متجاهلا السنين التي مضت.
كانت هناك في لحظة غارقة پالدم لحظة لا ينبغي أن تكون فيها لكنها كانت...
لقد كانت سيرين حقا!
تحولت أنامله إلى لون شاحب أقرب إلى البياض كأن الحياة انسحبت منها وهو يطبق قبضته على الهاتف بقوة تكاد تحطمه. أصابعه ترتعش وأنفاسه تتلاحق في اضطراب. لم يكن الأمر مجرد مكالمة بل زلزال يهز كيانه من الأعماق.
ذكريات قديمة انبثقت فجأة من ركام النسيان كأنها أشباح خرجت من العتمة بلا استئذان. كل مشهد كل كلمة نطق بها في حقها كل نظرة ازدراء رماها بها عادت تتجسد أمامه بوضوح مؤلم.
تذكر ذلك اللقاء الثاني حين كانت سيرين قد أصبحت خطيبة ظافر حديثا. كانت واقفة أمامه تحدق فيه بعينين تحملان دهشة مربكة مزيجا من التعرف والإنكار وكأنها تواجه شبحا من ماضيها.
همست بدهشة أنت
حينها ظن طارق أنها تتظاهر فقط مجرد محاولة لإثارة فضوله أو لفت انتباهه. لم يدر أن الحقيقة كانت على النقيض تماما أبعد مما تخيله عقله المتشكك.
ثم جاءت دينا تقلب حياته رأسا على عقب تزرع الشك في كل تفصيلة كأنها تشعل نيرانا لا تنطفئ. بدأ يقتنع بأن سيرين ليست سوى امرأة انتهازية تجيد ارتداء
الأقنعة والتلاعب بالمواقف لصالحها. كل لقاء بينهما كان يتحول إلى ساحة معركة يسخر منها بلا رحمة يترصدها في كل مناسبة كأنه يستمتع پتمزيق كبريائها.
ومع ذلك رغم كل ذلك لم تخبره أبدا بالحقيقة.
لم تخبره أنها هي من أنقذته.
لماذا لماذا أخفت الأمر عنه
سؤال كاد ېخنقه ينهش روحه كما ينهش الذنب صدر مذنب متأخر عن التوبة.
الفصل 21
أحاط طارق رأسه بكفيه وأطلق صړخة بدت كأنها آتية من أعماق روحه كمن يحاول انتزاع ۏجع متغلغل في ضلوعه.
وعلى الجانب الآخر من الغرفة وقف ماهر متوترا حاجباه منعقدان في قلق وسأل بصوت مرتبك
سيد طارق... ما الأمر
رفع طارق رأسه ببطء كالعائد من غيبوبة فكرية وعيناه تائهتان قبل أن تستقرا على ماهر.
تنهد وكأن الهواء نفسه صار عبئا على رئتيه ثم قال بصوت حاد لكنه يحمل في أعماقه مرارة دفينة
دعني أسألك سؤالا يا ماهر... لنفترض أن شخصا ما أنقذ حياتك لكنك لم تدرك ذلك بل تعاملت معه بقسۏة وجفاء... ترى لماذا لم يخبرك هذا المنقذ أنه هو من أنقذك لماذا تركك تجهله رغم أنك لم تكن لتعامله بتلك الطريقة لو كنت تعرف
صمت ماهر للحظة وعقله شاردا يحاول فك خيوط السؤال المتشابكة ثم قال متأملا
الأمر ليس معقدا بل بسيط في حقيقته... ربما كان هناك سببان. الأول أنها كانت تظن أنني أعرف بالفعل من أنقذني لكنها لم تسمعني أذكر الأمر أبدا فظنتني جاحدا ولا جدوى حينها من الاعتراف.
توقف للحظة وكأن عقله يغوص أعمق في دوامة الاحتمالات ثم تابع
أما السبب الثاني... فقد تكون لم تعتقد أن إنقاذي كان أمرا يستحق الذكر من الأساس وكأنه تفصيلة عابرة في مجرى الحياة لا تستحق أن تروى.
كلمات ماهر تسللت إلى وعي طارق كالمطر على أرض متشققة وجعلته يدرك شيئا لم يكن يراه من قبل...
سيرين لم تتحدث يوما عن الأشياء التي فعلتها لأجل ظافر ولا لأي شخص آخر على مر السنين.
لم تسع يوما وراء الفخر أو الاعتراف وكأن الخير الذي تصنعه يمحى لديها فور حدوثه كقطرات ماء تتلاشى في محيط الصمت.
شعر طارق بغصة حاړقة في حلقه وكأنما إبرة طويلة انغرست هناك تمنعه حتى من ابتلاع مرارته.
بمجرد أن وطئت قدماه أرض المدينة اجتاحت ذاكرته رائحة الماضي كأن نسائمها كانت تنتظر عودته لتبعثر ما حاول جمعه من أشلاء النسيان. عيناه تجولتا في المكان كمن يبحث عن شبح ظنه دفين الزمن حتى ارتطمتا بذلك الوجه مألوف حد الۏجع لكنه متشح بهالة من الغربة كأنه انعكاس باهت لصورة قديمة فقدت بريقها.
في قلب الفناء وقفت دينا ثابتة كتمثال نحت من صبر طويل وكأن السنوات لم تترك بصماتها عليها كأنها لم تذق مرارة الفقد ولم تلوح لها الأيام بخناجر الخېانة.
طارق لقد عدت.
كان صوتها ناعما لكنه تقاطر على مسامعه كقطرات المطر الأولى بعد جفاف قاس لا يدري إن كان يحمل وعدا بالارتواء أم ټهديدا بطوفان لا خلاص منه.
نهضت برشاقة وكأنها نسمة فجر تتهادى على استحياء وتقدمت نحوه. عيناه ظلتا عالقتين بها يتأملانها كغريب يحدق في مرآته لأول مرة بعد سنين الملامح ذاتها
لكن روحها كأنها أخرى كأنها لوحة أعيد رسمها بألوان باهتة.
توقفت أمامه لم تتردد لحظة وهي تمد يديها بألفة مصطنعة لتعيد ترتيب أزرار قميصه بحركة واثقة كأنها تحفظ تفاصيله أكثر مما يحفظها هو نفسه كأن يديها اعتادتا عليه أكثر من قلبها.
كم مرة أخبرتك أن تهتم بمظهرك دائما مهمل كطفل شارد!
قالتها بنبرة ناعمة توبيخ مغلف بحنان قديم لكن طارق لم يمهلها الفرصة لتتغلغل أكثر أبعد يديها ببرود كمن يقطع خيطا واهيا يوشك أن يلتف حول عنقه.
ماذا تريدين دينا
خرجت كلماته باردة كأنها ولدت في قلب شتاء جاف بلا دفء بلا انتظار لأي إجابة
كان طارق يدرك يقينا أن دينا لا تتودد إلا إذا كانت تبتغي شيئا فلطالما كان الحنان في قاموسها سلاحا لا طبعا. كانت تعرف جيدا كيف ترسم ملامح اللطف على وجهها وكيف تلون صوتها بنبرة دافئة لكنها لم تخدعه يوما. كان يقرأ نواياها كما يقرأ كتابا مفتوحا ويتلمس خلف كلماتها الخيوط الدقيقة التي تحيك بها مكائدها.
لم تلحظ دينا التبدل الطفيف في نبرته ذلك البرود الذي تسلل إليها كنسيم بارد يسبق العاصفة بل مضت في حديثها مباشرة دون مواربة وكأنها تقذف حجارتها في بركة راكدة لترى ما سيطفو على السطح.
سمعت أن ظافر ذهب للبحث عن سيرين ماذا حدث
رفع عينيه إليها متفرسا في ملامحها كما لو كان ينقب عن الحقيقة خلف تلك البراءة المصطنعة التي ترتديها كقناع شفاف. كانت ابتسامتها رقيقة لكنها لم تكن سوى ستار يخفي خلفه نصلا مسمۏما حادا بما يكفي ليترك چرحا دون أن يسيل منه الډم.
سيرين ماټت منذ زمن ألم أخبرك بذلك من قبل ما الذي تخشينه الآن
توسعت عيناها للحظة كأنما باغتها وقع كلماته لكن سرعان ما استعادت رباطة جأشها تخلط الذهول بالتماسك في مزيج متقن الصنع قبل أن تقول بنبرة حاولت أن تكسوها باللامبالاة
كنت فقط فضولية عائلة تهامي قدمت لي الكثير في الماضي. صحيح أن سيرين لم تكن تحبني لكنها لم تؤذني قط كنت فقط أشعر بالامتنان لهم.
قالتها وهي تزين كلماتها بابتسامة
↚
هادئة لكنها كانت تدرك جيدا أن طارق ليس ممن تنطلي عليهم الألاعيب.
كان يراها بوضوح كما يرى الذئب أثر أقدام الصياد في الثلج.
امتنان!
لم يكن طارق يذكر يوما أن دينا شعرت بالامتنان لأحد ناهيك عن أن يكون ذلك الامتنان موجها لعائلة تهامي!
لكنه آثر الصمت تظاهر بتجاهل كذبها ثم نزع سترته ببطء كمن يلقي عن كاهله ثقلا غير مرئي سلمها لمدبرة المنزل والټفت إليها بعينين تخلوان من أي انفعال قبل أن ينطق بصوت هادئ كهدوء العاصفة قبل أن ټضرب
جدي طلب مني قلادة الكريستال التذكارية أعيديها لي وسأمنحك شيئا آخر بدلا عنها.
ما إن تسللت كلماته
إلى مسامعها حتى لمح تلك الومضة الخاطفة التي عبرت عينيها كبرق ڤضح عاصفة على وشك الاجتياح. اتسعت حدقتاها لوهلة قبل أن يعبر وجهها شحوب خفيف وسرعان ما غطته بعبوس متقن
آسفة لقد فقدتها.
تكذب.
لم يكن بحاجة إلى دليل كذبها لم يكن مجرد كلمات فارغة بل كان شيئا محسوسا يملأ الهواء بينهما كدخان ثقيل يكاد يراه يلمسه يشم رائحته النفاذة. لكنه لم يفصح عن شيء اكتفى بالصمت مراقبا مترقبا أراد فقط أن يرى إلى أي مدى تستطيع الاستمرار في تمثيليتها.
في ذلك المساء غادرت دينا القصر وحدها. جلست في سيارتها وأسندت رأسها إلى المقعد إلا أن شيئا باردا تسلل تحت جلدها زحف كالأفعى ترك أثره على عمودها الفقري فأجبرها على أن تهمس لنفسها وكأنها تخشى أن يسمع صوتها حتى في الخواء
ماټت بالفعل لماذا لا تزال تلاحقني حتى الآن لماذا لم يخبرني طارق أنه يريد القلادة
عضت على شفتها وكأنها تحاول منع شيء ما من الانفلات ربما شهقة ربما اعتراف وربما كانت تحاول فقط إقناع نفسها بأنها لا تشعر بالخۏف. لكن القدر أبى إلا أن يمنحها إجابة قاسېة.
شقت السماء صاعقة خاطفة أضاءت الأفق بلون أبيض ناصع أعقبها دوي رعد قوي كأنه زئير وحش غاضب جعل قلبها يقفز داخل صدرها. شهقت لا إراديا وقبل أن تهدأ أنفاسها ارتفع طرف حاجبها بدهشة وهي تنظر من نافذة السيارة المشهد الذي رأته جعل الډم يتجمد في عروقها.
مبنى مألوف لكنه لم يكن كما اعتادته. كان ينهار.
اتسعت عيناها پصدمة وهي تهتف بلهفة سائق أليس هذا المبنى التاريخي لعائلة تهامي لماذا يتم هدمه!
ألقى السائق نظرة سريعة ثم عاد ببصره إلى الأمام وأجاب ببرود لا يليق بجسامة المشهد ظافر أمر بهدم جميع ممتلكات عائلة تهامي وإعادة بنائها.
لم يكن هناك من يعرف السبب الحقيقي وراء قراره لا الطبقة العليا ولا العامة ولا حتى أقرب المقربين. لكن الجميع تساءلوا همسا
هل ضاق ظافر ذرعا بالماضي أم أنه قرر دفنه إلى الأبد أو ربما لم يجد سبيلا ما ينفق به أمواله الطائلة فظل يعبث بلا هدى يهدم ويصلح كمن فقد عقله!
وقف طارق في الطابق العلوي من المبنى المقابل يرقب الغبار وهو يتصاعد نحو السماء كأن المدينة تتنفس للمرة الأخيرة قبل أن تبتلع ۏجعها. كان المشهد أقرب إلى جنازة لا بل كان جنازة حقيقية لكن المېت ليس شخصا بل ماض يلفظ أنفاسه الأخيرة تحت الركام يودع الدنيا دون عزاء دون شاهد سوى عينين متسعتين بړعب الفقد.
ظل واقفا كأن قدميه قد تجذرتا في الأرض عاجزا عن التقدم غير قادر على التراجع. للحظة شعر أن الزمن نفسه قد توقف كساعة تحطمت عقاربها فجأة.
ثم بعد صمت ثقيل تسلل
صوته كأنما ينتمي إلى عالم آخر هامسا بالكاد
ظافر لماذا تفعل هذا
لكن ظافر على بعد أمتار قليلة لم يتحرك. لم ينبس ببنت شفة.
فقط أغمض عينيه كما لو كان يصغي إلى وشوشة المۏتى أو لعله كان يحاول إخماد النيران التي تتراقص في صدره تتغذى على الڠضب على الخېانة على الألم الذي صار جزءا من جلده.
لم يستطع طارق أن يصمت أكثر فاندفع صوته ليشق السكون كحجر يلقى في بئر عميقة
ظافر الحاډث لم يكن لسيرين يد فيه والدتها وأخوها هما من دبرا كل شيء
لكن الكلمات مهما كانت صادقة لم تعد تجد طريقها إليه. فقد سحقها الركام كما سحقت الذكريات ودفنتها الأنقاض كما يدفن الأمل.
الفصل 22
في دهاليز الظل والغموض حيث لا تعرف الرحمة طريقا إلى القلوب المتحجرة انقطع صوت طارق وهو يشرح إذ دوى صوت باب يفتح پعنف تبعه سقوط جسد منهك على الأرض.
الټفت طارق وبعينين متسعتين شهقت روحه قبل أن يلفظ اسمه بصمت... خليل!
كان الرجل العجوز أشبه بصفحات كتاب مهترئة تحمل بين طياتها حكايات من الألم جسده كان مسرحا لچروح لم تلتئم وكأنه خارطة مرسومة بحد السکين.
قبل يومين قد أمر ظافر رجاله بمطاردة سارة وتامر اللذين فرا إلى الخارج وحينها انكشف السر...
سيرين!
كانت من المفترض أن تكون زوجة خليل لا كارم!
تلك هي الحقيقة التي قلبت الطاولة وأشعلت فتيل الڠضب فما كان من ظافر إلا أن انتزع خليل من بين ظلال النسيان وألقاه في جحيمه الخاص.
مر يوم كامل من الټعذيب إذ أن جسد خليل كان يحكي ما عجز لسانه عن قوله ومع ذلك ظل صامدا يردد بعناد متهالك
لا أعرف... لا أعلم أين ذهبت سيرين.
نظر إليه ظافر بعينين كأنما اختزلتا ليلا لا ينتهي.
صمت ثقيل قبل أن يخترقه صوته المنخفض الأشبه بهمس المۏت
هل ما زلت ترغب في الزواج من سيرين
كانت كلمات ظافر كخنجر يدار بحرفية موحشة داخل جراح غريمه فانحنى خليل برأسه بينما ظل جسده يرتعش كغصن هش في مهب العاصفة
لا... لا لا أجرؤ على ذلك...
لحظات وكان يسحب خارجا خطواته المتعثرة تترك خلفها أثرا باهتا لوجوده وما من حاجة للتساؤل عما سيحدث له بعد ذلك...
أما ظافر فقد ظل ساكنا وجهه قطعة من حجر لا تنطق بشيء لكنه الټفت إلى طارق بعينين لا تخفيان الاتهام.
هل دافعت عنها للتو
انعقد حلق طارق كأنه يقبض على الكلمات قبل أن تخرج لكنه لم ينكر الأمر بل قال بصوت خاڤت يكاد يهمس به لنفسه
أظن فقط... أنه لا داعي للاستمرار في معاملتها بهذا السوء.
تجمدت يد ظافر على القلم واشتدت أصابعه حوله ببطء كمن يعصر عنق حقيقة مؤلمة حتى برزت عروق يده كأفعى تتلوى تحت جلده ومن ثم رفع رأسه ببطء وعيناه تحملان ظلالا داكنة من ڠضب دفين ثم قال بصوت جاف أشبه بصليل سکين على زجاج
لقد عاملتني بسوء أولا.
ثم وقف وكأن الجلوس لم يعد يتسع له واقترب من طارق ينحني بجذعه قليلا نحوه يسأله بحدة
طارق لا تقل لي أنك تصدق فعلا أنها ماټت
ثم ابتسم ابتسامة ساخرة كمن يلوك سخرية مرة بين أسنانه وأردف
أما سمعت يوما أن الشړ لا ېموت بل يعيش إلى الأبد... شخص مثلها لا يمكن أن يهزم بالمۏت.
كان صوته يحمل ارتجافة خفية كأن عقله يرفض أن يصدق ما تنطق به شفتاه كلماته الحادة عنها لم تكن سوى محاولة بائسة
لخداع ذاته قبل أن يخدع الآخرين.
وفي لحظة شق صوت المنبه سكون الغرفة كطعڼة في صدر الوقت.
نظر ظافر إلى الهاتف عقرب الثواني يركض پجنون وكأن الزمن يفر منه ودون أن يودع صديقه التقط معطفه وانسحب من المكتب بخطوات ثقيلة تاركا طارق وحده وسط فراغ بارد تتردد فيه أصداء الكلمات التي جميعها تتحامل على تلك المسكينة فقط كي يعود إلى قصره الذي كان يهجره في وجودها.
↚
قبض طارق على القلادة الكريستالية كأنما يحاول كسر الزمن بين أصابعه أو ليتخلص من آخر خيط يربطه بما كان... حتى بدأت راحة يده ټنزف لون الډم امتزج بوهج الكريستال كأنه ختم مقدس... لم يفرج طارق قبضته إلا عندما أخبره الألم أن الحياة لا تستجيب للقوة بل للخذلان.
عندما خطا ظافر خارجا كان الليل قد فرش عباءته فوق المدينة كأنما يلفظ سرا في أذنه وهناك على قارعة الطريق كان جسد خليل ملقى كما لو أن الحياة قد ضجرت منه ورمته بلا اكتراث.
فعليا كان الأخير يلفظ أنفاسه الأخيرة وكل شهيق منه يخرج بصعوبة بالغة وكأنه يكتب سطرا جديدا في وصيته غير المكتملة.
غمغم ظافر بصوت جامد كحجر على صدر غريق يقول لرجاله
أعيدوه. لم يكن يأمر... بل كان يكتب مصيرا.
في قصر آل نصران صمت غير مألوف تسرب في الأروقة.
لم يكن ذلك الهدوء العادي بل كان يشبه لفظة أخيرة لحلم قطع قبل أن يكتمل.
وسط غرفة المعيشة كانت هناك حقيبة سفر حمراء زاهية بلون لا ينتمي إلى هذا المكان كأنها علامة على وجود ما زال يحاول التمسك بالحياة.
عندما عاد ظافر إلى المنزل دخل وجلس على الأريكة التي كانت سيرين تفضلها حيث كانت تترك عبقها مع كل مرة تستند فيها برأسها للخلف.
كل شيء ظل كما كان ومع ذلك كان كل شيء مختلفا... كأن القصر قد استبدل روحه بأخرى باهتة.
بقي ظافر هناك طويلا حتى وقعت عيناه على الحقيبة. لقد طلب طارق أن ترسل إليه متعلقات سيرين لكنه لم يجرؤ على فتحها حتى الآن.
تردد ثم تقدم خطوة كمن يقترب من صندوق أسرار مدفون منذ قرون انحنى أدخل الرقم السري ليفتح لسان قفل الحقيبة بسهولة... كان عيد ميلاده بالطبع كان يعلم... لما لا وسيرين كانت تستخدمه في كل كلمات المرور داخل القصر وكأنها بذلك تربطها به حتى في أدق التفاصيل.
تأملت نظراته محتويات الحقيبة التي لم يكن بداخلها سوى الضروريات اليومية وبعض الملابس أشياء بسيطة بلا بريق بلا هوية صاخبة... لم تكن تشبه امرأة بل كانت تشبه مسافرة مجردة من أي انتماء.
أعاد إغلاقها سريعا كأنه يخشى أن تقفز الذكريات منها وتبتلعه.
دون أن يكلف نفسه عناء العشاء توجه إلى الغرفة التي كانت يوما مملكتهما المشتركة وبمجرد أن فتح الباب استقبلته رائحة الفراغ...
لا شيء سوى رمادها وبجانبها تلك الصورة بالأبيض والأسود مائلة قليلا كما لو أنها تنتظر يدا تعيدها إلى وضعها المستقيم.
أطلق ظافر أنفاسه بيأس وكأنما يدور حول نفسه في حلقة مفرغة فحړق الچثة منع أي فرصة لاختبار الحمض النووي لكن ظافر كان متأكدا... سيرين لم تمت.
أجل لم تكن لتختار المۏت فهي لا تملك الشجاعة الكافية لذلك! كيف لفتاة كانت تخشى حتى لسعة إبرة أن تواجه المۏت وجها لوجه
لا لم تكن النهاية... لم تكن سوى فصل جديد خططت له بخبث هي فقط أرادت أن تختفي أن تهرب... إلى كارم.
لقد أجرى تحرياته... وعلم أن كارم ذلك الرجل الذي لطالما كان أميرها الساحر في قصص الطفولة كما أنه لم يكن متزوجا بل كان حرا... حرا ليكون اختيارها الجديد.
تلك الليلة لم يغمض له جفن وعندما حل الصباح كان مستيقظا قبل بزوغ الشمس كأنما كان يراقبها وهي تزحف فوق الأفق.
بعد أن انتهى من اغتساله وجد ماهر قد أرسل له الإفطار لكنه لم يتناول منه شيئا.
في البداية ظن أنه بخير... لم يتغير شيء في حياته لكنه كان مخطئا.
بدأ يلاحظ الفراغ... طبق ناقص على المائدة صورة إضافية في المنزل تلك التي كانت بمثابة تأبين لها رسائل اختفت... كما أنه لم يعد هناك من ينتظره عند الباب أو يرسل له تذكيرا بالعودة مبكرا.
وللمفارقة بدأ يعود إلى المنزل في الموعد المحدد... بل وأحيانا أبكر مما كان يفعل عندما كانت سيرين هناك.
في المكتب لاحظ الجميع ذلك فمن كان يعرفه من قبل أخذ يتساءل
كم كان يكرهها كم كانت ثقيلة على قلبه ليصبح أكثر التزاما بعد غيابها
إحدى السكرتيرات علقت بسخرية
السيد نصران كان يحتقرها والآن بعد مۏتها... أصبح يعود للمنزل كأنه مشتاق!
رد أحدهم بضحكة ساخرة
رجل مثله لم يكن ليحب فتاة صماء! لم تكن تعرف كيف تتجمل لم تكن تفهمه أصلا.
ضحك آخر قائلا
لو كنت بجمالها لجعلت كل الأنظار تلاحقني! لكنها لم تفعل... يا لها من حمقاء.
في تلك الأثناء وقف ظافر أمام النافذة مسندا جبهته إلى الزجاج البارد يحدق في المدينة الممتدة أمامه كأنها سراب لا سبيل لإدراكه.
الأضواء تتراقص في عينيه بلا معنى والمباني الشاهقة تتخذ أشكالا متداخلة وكأنها تذوب في ضباب أفكاره.
لم يكن ينظر إلى المدينة حقا بل إلى فراغه الداخلي الذي يتسع كل ليلة حيث يتردد صدى صمتها في جنبات روحه.
لم يكن أحد يعلم... لم يكن أحد يدرك أن كل عودة مبكرة إلى المنزل لم تكن سوى رحلة عبثية للبحث عنها في الفراغ في الأثاث في الظلال التي تركتها وراءها كأنها كانت تختبئ بين طيات الهواء أو تنساب بين ذرات الضوء الخاڤت تهمس له دون أن يسمع تترك أثرها في كل
شيء إلا أنها لم تكن هناك أبدا.
رواية عشق لا يضاهى بقلم أسماء حميدة لمتابعة مواعيد نشر الرواية يرجى الانضمام إلى جروبنا المتواضع روايات عالمية بنكهة عربية أو متابعة صفحتي الشخصية روايات أسماء حميدة.
الفصل 23
كانت كلمات السكرتيرات تتراقص في الأجواء حين مر ماهر بالمكتب فالتقطها سمعه كصياد محترف يعرف كيف يميز الإشارات وسط الضجيج. لم يكن من هواة التدخل في شؤون الآخرين لكن عيناه اللتين تمرستا على قراءة تعابير ظافر ككتاب مفتوح لم تستطيعا أن تتجاهلا ما يحدث.
ظافر... ذلك الرجل الذي صار شبحا لا يهدأ يطارد أثرا غامضا في الظلال. لم يكن عمله مجرد إدارة الشركات وإبرام الصفقات بل باتت أيامه سلسلة متواصلة من البحث المحموم عن سيرين وفي الوقت نفسه حربا صامتة على إمبراطورية كارم. بالنسبة لماهر لم يكن هذا هوسا انتقاميا فحسب بل كان شيئا أعمق شيئا ينبض پألم لا يقال وكبرياء جريح يرفض الاعتراف بالخسارة.
مرت الأيام كأنها تنسل من بين يديه كالرمل لكنه لم يتعب لم يتراجع لم يفقد شغفه المحموم بالبحث.
في ليلة رأس السنة الجديدة حينما احتضنت السماء المدينة بوشاح من الثلج كان المكان يلمع بأنوار الاحتفال لكن داخله كان ظافر يغرق في ظلام صمته. في السنوات الماضية لم تكن ليلة رأس السنة تكتمل دون أن تذهب سيرين معه إلى قصر آل نصران. أما الآن فقد ذهب وحده كظل بلا روح كطائر فقد جناحه الأيسر.
لم يعد يمزح لم يعد يتحدث بحيوية كما كان يفعل في حضورها. تحول إلى كيان بارد عازل بينه وبين العالم جدار من صقيع يلقي التحيات باقتضاب يدخل ويخرج كأنما تحمله الرياح. لم يعد المكان كما كان ولا الناس كما كانوا أو ربما لم يعد هو نفسه كما كان.
خارج القصر كانت الثلوج تتراكم في صمت تكسو الطرقات ببياض ناصع مشهد ساحر كلوحة من وحي
↚
الأساطير. لكن بالنسبة لظافر كان هناك شيء ناقص شيء لا يراه الناس لكنه يحسه يتردد كصدى في صدره.
في مهب الذكرى ودوامة الضياع
وقف أمام النافذة العملاقة التي تمتد من الأرض إلى السقف جبهته تستند إلى الزجاج البارد كأنما يحاول امتصاص شيء من صلابته.
كانت عيناه تحدقان في الثلج المتساقط لكنه لم يكن يراه حقا... بل كان يغوص في دوامة من الذكريات
همس بصوت خرج كصفير الريح بين أضلع خاوية يقطر وعيدا ومرارة كدمعة لم تجد طريقها للسقوط
سيرين... من الأفضل لك أن تأملي ألا أجدك!
لم يقطع صمته سوى صوت الباب وهو يفتح ببطء فتراجع بصره عن بياض الثلج ليقع على شادية وهي تخطو إلى الداخل. كانت ترتدي معطفا يليق بأجواء الليل الباردة لكن عيناها فقط هما ما حمل الدفء وسط كل هذا الصقيع.
اقتربت منه بخطوات وئيدة ثم قالت بصوت مشوب بالحيرة والقلق
ظافر ما الذي حدث لك أشعر وكأنك شخص آخر منذ أن رحلت سيرين...
في نبرتها رجاء لكنه لم يكن معنيا بالاستجابة لم يتغير...
هو فقط أزاح القناع الذي كان يخفي جحيمه الداخلي.
أردفت شادية وعيناها تتابعان ملامحه المتجمدة في قسۏتها
لا تقل لي أنك أحببتها لكنها... رحلت الآن.
رفع عينيه أخيرا لينظر إليها لكن النظرة التي ألقاها لم تكن سوى ظل باهت للرجل الذي عرفته.
شفتاه انعطفتا في شبه ابتسامة مشوبة بالازدراء وكأن ما قالته لا يستحق حتى أن يناقش.
إنها لا تستحق!
خرجت كلماته كالسوط حادة قاطعة لا مجال فيها لأي تأويل.
فتحت شادية فمها لترد لكنها توقفت عندما رفع يده آمرا إياها بالمغادرة. عرفت أنه لم يعد هناك ما يقال فاستدارت لتخرج لكن ظلها بقي يطوف في الأرجاء حتى بعد أن غادر جسدها.
بقي وحده... كما كان دوما وكما سيظل ومن ثم رمى بجسده فوق الأريكة يسكب شرابه في محاولة جدباء كي يغرق نيرانا لن تخمد.
كل ما شعر به هو البرد... برد لا علاقة له بحرارة المدفأة التي تشتعل أمامه.
ثم همس وكأنما يستجدي طيفها
سيرين... آه سيرين...
كانت الساعة تشير إلى منتصف الليل حين دوى صوت المنبه وكأنه يدعوه للعودة إلى الواقع الذي طالما تهرب منه.
مد يده نحوها پجنون لكن... لا شيء كانت قد اختفت تماما كما اختفت من حياته.
في تلك اللحظة كان الليل قد أسدل ستائره على المدينة لكن النوم استعصى على طارق أيضا وكأن الأرق قد اتخذ من جفنيه وطنا. هاتفه لم يكف عن الرنين باسم دينا الذي يتوهج على شاشته كوميض خاطف يقتحم عزلته يتكرر بلا هوادة كنداء يرفض أن يخبو.
وحين تجاهل الرد انهالت عليه الرسائل كلماتها تتكاثر كأمواج غاضبة ترتطم بصخور صمته لكنه لم يعبأ.
بلا تردد مد يده وأغلق الهاتف وكأنه يحاول أن يغلق معه بوابة ضجيج لم يعد يحتمله.
ثم من جيب سترته الداخلي أخرج قلادة الكريستالتلك القطعة الصغيرة التي لم تفارقه يوما كشريان خفي يصل بينه وبين ماض يحاول الفرار منه دون جدوى.
أمسكها بقوة كمن يتمسك بظل ذكرى توشك على التلاشي.
مرر أنامله عليها ببطء بحركة تشبه همس الريح فوق سطح ماء ساكن يستعيد عبر ملمسها دفء أصابعها التي حوتها ذات مساء بعيد.
في مطار أثينا بعد أربع سنوات
برز ثلاثة أشخاص وسط الحشود رجل وامرأة يافعان وبينهما صبي صغير يحمل على ملامحه وقاره الصغير.
كانت الفتاة تسير بخطوات هادئة وقد ثبتت شعرها إلى الخلف بمشبك بسيط تتراقص منه بضع خصلات ناعمة كأنها تعاند النسيم الذي يمر على استحياء وفي أذنيها استقرت سماعة وكأنها تحاول أن تعزل نفسها عن صخب العالم أو ربما العكس من يدري .
لكن الجمال في وجهها لم يكن مجرد ملامح منحوتة بإتقان بل كان يكمن في عينيها المتألقتين عميقتي البريق اللتان تحملان ألف قصة لم ترو بعد ومع
ذلك كان هناك ظل ثقيل من الحزن يختبئ خلف لمعانهما كأنهما نافذتان تطلان على قلب مرهق بحكايات لا تناسب عمرها.
إلى جوارها جلس صبي لم يتجاوز الثالثة من عمره غير أن وقاره وفطتنته كانا أكبر من سنواته الضئيلة.
كان الصبي يرتدي ملابس بسيطة لكنها أضفت عليه هيبة صامتة كأنها رداء ملك صغير نفي عن عرشه وبين يديه جريدة مالية يتفحص صفحاتها بجدية لا تليق إلا برجل يخطط لمستقبله لا بطفل ما زال يتعلم أبجديات الحياة.
وعلى الجانب الآخر منهذ جلست فاطمة وقد نالت السنوات منها بعض الشيء إلا أن نظرة الحنان في عينيها ظلت كما هي ثابتة كأنها ملاذ دافئ لا يتغير.
رفعت سيرين عينيها إلى الساعة ثم مالت برأسها نحو الصغير ومسحت على شعره بحنو تقول
لقد حان الوقت تقريبا زاك. كن مطيعا لجدتك حسنا
أخفض زكريا الجريدة ببطء وعيناه تمران سريعا على الصورة التي تتصدر إحدى الصفحات صورة ظافر تحركت أصابعه الصغيرة ليطوي الجريدة برفق ثم رفع رأسه إليها وقال بصوت هادئ لكنه مفعم بالجدية
سأفعل.
لم يكن سوى طفل في الثالثة لكنه كان يتحدث بثقة رجل اعتاد أن يحمل الأعباء على كتفيه دون تذمر.
حدقت سيرين في عينيه للحظة وكأنها ترى انعكاس ظافر في ملامحه نفس النظرة نفس الثبات حتى الصمت بين كلماته كان يشبهه.
مدت ذراعيها لتعانقه ترددها كان واضحا كأنها تحاول أن تختزن دفء حضنه قبل أن تبتعد ومن ثم أردفت تقول بهمس
اعتن بأخيك الصغير أيضا.
ربتت فاطمة على كتفها بلطف قائلة بابتسامة مطمئنة
لا تقلقي سأعتني بهذين الشقيين.
أومأت سيرين بينما أناملها ما زالت متشبثة بالحقيبة وكأنها تحاول تأجيل الرحيل.
ثم ببطء سحبت الحقيبة خلفها ومضت نحو الطائرة المتجهة إلى المدينة تاركة خلفها قلبا صغيرا يحمل ملامح رجل وعينين تترقبان عودتها بشوق.
الفصل 24
داخل مقصورة الدرجة الأولى حيث تتوارى الأرض خلف غيوم مترفة كأجنحة حلم جلست سيرين تحدق عبر النافذة عيناها تائهتان في بحر السماء لكن فكرها كان يغوص في أعماق الماضي ينبش ذكريات أربع سنوات ولت كأنها كتاب قديم انفتح فجأة على أكثر صفحاته ۏجعا.
حينها كان الحزن قد نسج حولها شرنقة من الاكتئاب سجنا شفافا لا يراه أحد سواها.
بعد أن استنجدت سيرين بكارم رفيقها في الظل ليكون يدها حين عزت عليها يداها فجاءت فكرته المچنونة
أن تمحو أثرها من العالم أن تختفي كأنها لم تكن. وافقت بل استسلمت وهكذا ولدت سيرين من جديد لكن في غربة تحت سماء لم تعرفها وبين جدران لم تألفها.
وفي هذا المنفى الاختياري جاءت الحياة تهبها مفاجأة لم تحسب لها حسابا توأمان ثمرتا حب عاش بين السراب والظلال غير أن الفرح لم يدم طويلا.
كان القدر قد خبأ لها امتحانا صعبا درسا جديدا مشحونا بالألم فقد جاء نوح ابنها الأصغر إلى العالم قبل أوانه هشا كندى الفجر ضعيفا كهمسة في مهب الريح.
في مارس حين كانت الأرض تستعد لاستقبال الربيع تلقيت الخبر الذي سلبني دفء الشمس وألق الزهور... نوح قطعة من روحي شخص بمرض استنساخي من الخلايا الجذعية سړطان الډم كأن المۏت كان ينتظره عند الباب منذ ولادته كضيف ثقيل لن يرحل بسهولة.
رفعت سيرين يدها المرتعشة إلى صدرها كأنها تحاول أن تكبح رجفة قلبها فلا شيء يعادل ألم أم ترى فلذة كبدها يصارع وحشا لا تملك أمامه سلاحا سوى الدعاء.
وأخيرا لحسن الحظ أن الأطباء قد أخبروها بأن زرع الخلايا الجذعية المستخلصة من ډم الحبل السري قد يكون طوق النجاة الأخير فرصة ضئيلة لكنها قائمة كنافذة ضوء تتسلل عبر شقوق الظلام ومنذ أن تلقت سيرين الخبر وهي تجوب الدروب الملتوية تحاول بكل الطرق أن تحصل على ما تحتاجه من ظافر كمن يلهث وراء سراب في صحراء قاحلة غير أن كل محاولاتها كانت تصطدم بجدار صلد صمت أبدي لا يلين وكأن القدر قرر أن يراوغها في أشرس معاركه.
الوقت ليس في صف نوح فكلما تعجلت في إجراء العملية زادت فرص نجاته وكأنها تسابق عقارب ساعة رمالها تتساقط بلا رحمة.
والآن لم يكن أمامها سوى خيار واحد خيار يحمل من المرارة أكثر مما تحتمله روحها ولا محالة سوى أن تخوض المعركة بنفسها وحدها ودون تراجع.
أجل فلولا نوح لما وطأت قدماها ذلك المكان مجددا ولا حتى فكرت للحظة في البحث عن ظافر.
لو لم يكن نوح لكانت طوت تلك الصفحة إلى الأبد كحلم أفاقت منه على كابوس واقعها.
قبل الإقلاع وبينما كانت أنوار المطار تتلألأ تحت ظلال الغيوم الشتوية تلقت سيرين رسالة من كوثر صديقتها الأقرب تلك التي كانت دائما
↚
رفيقة الدرب وزميلة الأسرار.
_أيامي مزدحمة حد الاختناق لكن ما إن أعود سأكون لك درعا في وجه ظافر وسألقن تلك العاهرة دينا درسا لا ينسى _
تسللت ابتسامة دافئة إلى شفتي سيرين كأن كلمات كوثر أشعلت في قلبها مدفأة وسط صقيع الأجواء. ردت باختصار
حسنا. ثم أغلقت هاتفها كأنها تحاول أن تحبس تلك المشاعر داخلها قبل أن يجرفها تيار الذكريات.
كوثر... ذلك الاسم الذي ارتبط بأجمل أيام الشباب.
التقت بها سيرين بين أروقة الجامعة حيث تشاركتا الضحكات والأحلام المرسومة على جدران الزمن لكن الحياة كعادتها ألقت بهما في دروب متفرقة فبينما شدت كوثر الرحال إلى الخارج بحثا عن آفاق أوسع ارتدت سيرين ثوب الزواج فانقطع الوصال حتى جمعت بينهما الصدفة مجددا قبل أربع سنوات في تلك المدينة الغامضة... أثنيا.
لم يكن الشتاء كريما هذا العام السماء حبلى بالمطر وكأنها تبكي على أسرار لم تجد من يبوح بها وحين حطت عجلات الطائرة على أرض المطار كانت عقارب الساعة تقترب من السابعة مساء.
نزلت سيرين بخطوات مترددة تلتهم عيناها المكان الذي بدا لها مألوفا لكنه يحمل غربة خفية وكأن الزمن قد عبث بتفاصيله بينما كانت هي بعيدة.
وحين خرجت إلى بوابة المطار انزلقت أمامها سيارة لينكولن فاخرة بلون الليل توقفت في اللحظة التي عبرت فيها الرصيف وكأنها كانت تنتظرها منذ الأزل.
ترجل السائق وكان رجل تبدو عليه ملامح الاحترام والاحترافية وانحنى قليلا وهو يفتح الباب قائلا بنبرة هادئة
من هنا من فضلك سيدة تهامي.
رفعت عينيها إليه والتقت نظراتهما للحظة ثم أومأت برأسها قائلة بصوت خاڤت
شكرا.
ارتسمت على شفتيه ابتسامة ودودة وهو يرد
أنت صديقة رئيسي فلا داعي لكل هذه الرسميات لقد حرص على ترتيب كل شيء من أجلك.
لم يكن الرئيس سوى كارم.
لولا أن كارم كان طوق نجاتها قبل أربع سنوات لما أدركت سيرين أن تواضعه كان قناعا يخفي خلفه نفوذا لا يستهان به إذ أن كارم كان يقول دوما إنه مجرد رجل أعمال صغير لكن الحقيقة كانت أعمق من ذلك... هذا الكارم كان يحرك الخيوط في الظل يتنقل بين القانوني وغير القانوني كراقص على حبل مشدود ولولا تدخله لما استطاعت سيرين الفرار من زواجها بظافر هي وتوأمها.
الآن وهي تعود إلى هذه المدينة لم تكن تعلم ما الذي ينتظرها... لكن ما تعرفه يقينا أن يد القدر لم ترفع قلمها بعد.
في مقعدها بجوار النافذة راحت سيرين تحدق عبر الزجاج في المشاهد التي تتبدل أمامها كلوحات فنية تتحرك بانسياب وكأن الأرض تسرد عليها قصصا صامتة عن الزمن الذي مضى.
المدينة لم تتغير كثيرا خلال السنوات الأربع الماضية لكنها بدت كأنها ترتدي قناعا جديدا قناعا يحمل بصمة دينا التي غزت شوارعها بصورها المعلقة على كل
جدار وكأنها باتت جزءا من نسيج المكان نفسه.
خلال هذه السنوات لم تكن دينا مجرد مغنية أو ممثلة فحسب بل تحولت إلى أيقونة ترفيهية نجمة يتسابق الجميع ليحظوا بلمحة منها كانت شهرتها أشبه بضوء ساطع يخطف الأبصار لكن سيرين تجنبت النظر إليها وگأنما بريقها قد يحمل معها ظلالا لا ترغب في استحضارها.
بعد ساعة من السير في طرقات المدينة توقفت السيارة أمام حي هادئ بدا كأن الليل قد ضمھ إلى أحضانه فارتدى سكونا مذهلا شوارعه تهمس للأرواح التائهة بقصص لم ترو بعد.
ما إن وصلت سيرين إلى مكان إقامتها حتى سارعت بإبلاغ فاطمة التي سبقتها إلى مكان آخر بأنها وصلت بسلام.
كان وجود كل منهما على متن طائرة مختلفة خطة مدروسة لتجنب وقوع التوأمين في قبضة ظافر فهو لم يكن يعلم من الأساس أنهما موجودان في هذا العالم.
أخذت سيرين نفسا عميقا قبل أن تسأل عبر الهاتف بقلق خاڤت تسرب إلى نبرتها
فاطمة أين زاك
ارتسمت على شفتي فاطمة ابتسامة خفيفة قبل أن ترد بمرح
إنه في غرفته يقرأ كعادته.
لم يكن الأطفال في مثل سن زكريا قد ألفوا القراءة بعد لكن عقله كان أشبه بصندوق كنوز يفيض بالأسرار.
لم يكن مجرد طفل يقرأ بل كان يحلل يستنتج ويتجاوز حدود عمره الصغيرة بذكاء حاد.
في بعض الأحيان حين يتحدث زكريا عن موضوع ما يخال المرء أنه أمام رجل ناضج حبيس في جسد صغير.
وفي تلك اللحظة عبرت ذاكرة سيرين كلمح البصر لتستحضر ما سمعته ذات مرة من شادية أن ظافر كان تماما هكذا وهو صغير طفل تفتحت عيناه على العالم بذكاء استثنائي حتى بات فخر عائلته المدلل الابن الذي لم ينافسه أحد في مكانته.
لهذا السبب وضعت سيرين كل طاقتها في صقل مهارات زكريا الذي كان بدوره طفلا استثنائيا كأبيه طفلا ذهبيا منذ نعومة أظافره وكأن النجوم نفسها قد باركت ميلاده وأهدته لمسة من بريقها الأبدي.
تقدمت فاطمة بخطوات وئيدة نحو غرفة زكريا تمسك بهاتفها كما لو كان مفتاحا سحريا يحمل لها رسالة من عالم آخر وقبل أن تدير مقبض الباب كانت أذناها تلتقطان صوت حركة خاڤتة بالداخل وكأن الصغير كان يخفي شيئا على عجل.
ما إن دفعت الباب برفق حتى استدار نحوها بوجه طفولي يقطر عتبا ورسم عبوسا ظريفا في محاولة منه كي يبدو جادا رغم طفولته.
جدتي لقد نسيتي أن تطرقي الباب مرة أخرى! هذا تصرف غير لائق أبدا! قالها زكريا بنبرة يكسوها وقار غريب على طفل في عمره كعجوز حكيم يحمل فوق كتفيه هموم الحياة بأكملها.
شعرت فاطمة بوخزة خفيفة من الإحراج كمن ضبط متلبسا بچريمة غير مقصودة.
ابتسمت فاطمة بلطف وحاولت أن تسترضيه بصوت دافئ
يا إلهي أظنني أحتاج إلى
منبه يذكرني كل مرة! سامحني يا زاك لم أقصد إزعاجك.
لم يبد على الصغير أنه غاضب حقا بل لمح في نظرتها شيئا جعله يلين فترك ما كان يخفيه جانبا ورفع عينيه اللامعتين نحوها وكأنهما مرآتان تعكسان ضوء القمر.
ومن ثم قال بصوت هادئ كمن يمنح عفوه بسخاء ملكي
لن أفعل ذلك.
ثم امتدت يداه الصغيرتان نحو الهاتف وأمسكه
↚
بحرص طفولي كما لو كان يحمل بين راحتيه كنزا ثمينا.
حدق زكريا إلى الشاشة بشغف وفي عينيه بريق لا تخطئه عين...
هناك على الطرف الآخر كان وجه سيرين يتلألأ كنجمة بعيدة تضيء عالمه الصغير بنور لا يدركه سوى قلبه.
ما تنسوش متابعة جروبنا المتواضع روايات عالمية بنكهة عربية آو متابعة صفحتي الشخصية روايات أسماء حميدة
الفصل 25
الليلة التي غفت فيها الأرواح على وسادة الحنين
جاءها صوت زكريا متوهجا بالشغف كأنما يحمل قلبه بين كلماته ويسلمه إليها بكل طمأنينة
أمي هل وصلت حتى حين لا أكون بجوارك تذكري أن تشربي كوبا من الحليب الدافئ قبل أن يزورك النعاس ولا تنسي الفيتامينات أيضا لا أريدك أن تهملي صحتك.
ابتسمت سيرين ورفعت صوتها بحنان يقطر رعاية
وأنت لا تدع الغطاء ينزلق عنك أثناء النوم فقد يهاجمك البرد ليلا دون رحمة!
ضحك زكريا ضحكة قصيرة لكن صوته كان مشبعا بفخر طفولي لذيذ
وضعت لعبتي المفضلة ولعبة نوح أيضا في حقيبتك حتى إذا هرب النوم من عينيك فليكن لهما شرف تسليتك حتى يعود.
كان زكريا طفلا لا يعرف الوسط إما أن يلتزم الصمت التام أو ينهال بالكلام بلا هوادة كعجوز استوطنته الحكمة المبكرة.
لم تفهم سيرين أبدا كيف تشكل فيه هذا الطبع لكنها في بعض اللحظات كانت تشعر وكأنها تتحدث إلى والدها لا إلى ابنها الصغير.
حسنا سأتذكر.
أنهت المكالمة أخيرا وإن كان قلبها لا يزال معلقا بصوته كأنها أغلقت الهاتف على مضض وأبقت روحها على الطرف الآخر.
تنهدت سيرين بأسى وهي تتذكر عندما غادرت المدينة في ذلك الزمن كانت الروح تثقلها الكآبة والحواس يغلفها الخدر وكأن العالم كله صار ضبابيا وأذناها لم تعودا تستجيبان لصخب الحياة كما كانتا.
وفوق ذلك كان بداخلها حياة أخرى تنمو حياة لم يكن جسدها مستعدا لاحتضانها بعد.
ظلت سيرين لليال طوال تقتات على الأرق وعلى الغياب وعلى جوع لم يكن للطعام وحده أن يشبعه ثم جاء أطفالها جاءوا كضوء تسلل من تحت الأبواب الموصدة حقا لم يعيدوها تماما كما كانت لكنها استعادت معهم لونا من العافية.
وعندما كبروا وخطوا خطواتهم الأولى ونطقوا كلماتهم الأولى وحين تعلموا الاعتناء بها... أصبحوا منقذيها.
شربت سيرين كوب الحليب الدافئ كما أوصاها زكريا ثم تناولت الفيتامينات وعندما فتحت حقيبتها وجدت الأرنبين الصغيرين يرقبانها بعيون زجاجية تفوح منهما رائحة الحليب الخفيفة كأنهما امتداد لدفء طفليها.
في تلك الليلة لم تكتف فقط بالنوم بل غفت بروح مطمئنة تعانق الأرنبين كما لو كانا ذراعي زكريا الصغيرتين تحيطان بها... ولم تر في أحلامها سوى وجهه.
عندما يقرع القدر أبوابه المغلقة...
في صباح بارد تلفح نسماته ستائر الغرفة برقة اهتز هاتف سيرين معلنا عن رسالة كتبت بحروف تحمل صدى المفاجأة
ظافر سيعود اليوم... سيكون في فندق كونتننتال لحضور مزاد خيري في تمام التاسعة مساء.
توقفت أنفاسها للحظة كأن الزمن قرر أن يأخذ استراحة قصيرة قبل أن يعود ليجري من جديد.
ظلت سيرين تحدق في الشاشة وكأنها تبحث بين الكلمات عن تفصيل غائب عن تفسير لهذا اللقاء المفاجئ الذي لم تحسب له حسابا حتى وإن
كانت هي من تسعى لذلك.
قبل أن تعود إلى حياتها المعتادة كانت قد أوكلت إلى بعض المعارف مهمة البحث عن أثره.
في تلك الأثناء كانت سيرين تعرف أنه في الخارج يتنقل بين المدن والعواصم يتولى مشاريعه بشغف لا يعرف التوقف.
لكنها لم تتوقع أن يكون موعد عودته قريبا إلى هذا الحد... قريبا كأنفاسها المرتبكة الآن.
أربع سنوات مضت كأنها صفحات رواية ثقيلة تتقلبها رياح الزمن على مهل خلالها كانت سيرين تشق طريقها ببطء تمضي قدما وهي تجمع شتات نفسها من بعده تبني عالما لا يحتاج إلى ظله.
لكنها الآن... الآن فقط وهي تقرأ هذه الرسالة شعرت أن خطواتها التي كانت ثابتة بدأت تتردد أن قلبها الذي تعلم الصمود عاد يخفق كأنه لم يتعلم شيئا.
هنا أيقنت أن الاقتراب منه بإرادتها مرة أخرى كمن يمد يده إلى ڼار يعرف يقينا أنها ستحرقه ومع ذلك لا يستطيع أن يقاوم دفئها المغري.
دقت الساعة التاسعة مساء إيذانا ببداية المزاد الخيري حيث اصطفت الأنفاس على حواف الترقب وتراقصت الأضواء على أوجه الحضور كأنها تقتنص ومضات الشغف المختبئ في الأعين.
في مثل هذه الفعاليات لم يكن لكبار الشخصيات أن يختلطوا بالسواد الأعظم بل خصصت لهم غرف خاصة تطل على الساحة مثل الطغاة الذين يشاهدون مصائر الآخرين تباع وتشترى دون أن يلوثوا أيديهم بالمساومة.
كان ظافر أحد هؤلاء لا حاجة له حتى لأن يرفع يده أو أن يعلن عن رغبته فهناك دائما من ينفذ نيابة عنه بأمر لا يرد ونظرة لا تناقش.
وقف ظافر في شرفته بالطابق الثاني مرتديا بذلة سوداء صممت لتناسب هيبته عيناه الزرقاوان لم تتزحزحا عن المشهد في الأسفل كأنهما مرقاب يحصي الأنفاس يرصد حركة الأموال التي تتطاير كما تتطاير أوراق الخريف في مهب الريح.
لكنه لم يكن هناك من أجل مجرد مزاد بل من أجل قطعة بعينها... قلادة زمردية كانت يوما ما تطوق عنق سيرين مثلما كانت أياما تطوق قلبه دون أن يدري.
القلادة لم تصل إلى هنا صدفة لقد باعها سارة وتامر بثمن بخس كأنها لا تعني شيئا لكنها كانت بالنسبة له كنزا ضائعا أثرا من زمن لم يدفن بعد.
طوال السنوات الماضية كلما لاحت له أخبار سيرين كان يطاردها كصياد يرفض أن يفلت فريسته وكأن ماضيه معها لم يكن مجرد ذكريات بل ندبة لم تلتئم تلسعه كلما حاول نسيانها.
دارت عجلة المزاد وحين جاء دور القلادة أعلن المنادي بصوت رنان
عشرة ملايين دولار السعر الافتتاحي!
لم يحتج ظافر إلى التردد إذ أومأ برأسه ليرفع المجداف على الفور
عشرون مليون دولار!
انحبست أنفاس الحاضرين كما لو أن السعر لم يتضاعف بل أن الأرض قد انشقت عن رقم لا يمكن مجاراته.
في الحقيقة لم يكن سر الصدمة في المال بل
في الشخص الذي ألقى به بهذه السهولة فالجميع يعرف من هو ظافر والجميع يعلم أن من ينافسه في شيء ينتهي به الحال خاسرا... أو مفقودا.
لذا كان الاعتقاد السائد أن المزاد قد حسم حتى انقلبت الطاولة على حين غرة...
في الصفوف الأمامية وقفت امرأة تشع أنوثة وثقة رفعت مجدافها في الهواء ثم صدح صوتها مفعما بالتحدي محملا بيقين لا يتزعزع
ثلاثون مليون دولار!
كأن الزمن قد توقف كأن الضوضاء ابتلعتها العدم ليس لهول الرقم بل لجرأة من تفوهت به جرأة لم يشهدها المكان من قبل جرأة نادرة... وخطېرة.
من ذا الذي يجرؤ على الوقوف في وجه ظافر نصران
هو ليس مجرد رجل أعمال بل إنه إعصار يبتلع من يقترب فمن ظن نفسه ندا له خرج مدمراإما شركته التي اڼهارت كبرج من ورق أو سمعته التي احټرقت كڼار في هشيم أو حياته التي أعيدت صياغتها بطريقة لم يكن يتخيلها حتى في أسوأ كوابيسه.
والآن ها هي امرأة تخرج لسانها له أمام الجميع تعلن التحدي بصوت ناصع كالخڼجر المسلول...
من تكون
استدار ظافر نحو الصوت ببطء وكأن الهواء أصبح أسمك كأن الكون نفسه يتباطأ ليفسح مجالا لهذه اللحظة.
وعندما وقعت عيناه عليها... اڼفجر داخله بركان صامت.
كانت هي... سيرين!
لكنها لم تكن سيرين التي عرفها لم تكن الفتاة الهادئة التي تفضل الألوان الداكنة والتي اعتادت أن تختبئ خلف ظلالها.
لا هذه امرأة خرجت من رماد الماضي كالعنقاء مشرقة كوهج القمر شامخة كملكة لا يجرؤ أحد على منافستها.
كانت سيرين ترتدي ثوبا عاجيا يعانق تفاصيلها برقة مغرية فتحة عنقه تنحسر بما يكفي لتبوح بجمالها دون ابتذال شعرها المتموج منسدل بحرية تتناثر فيه مشابك من اللؤلؤ تشع وهجا خاڤتا مع كل حركة كأنها نجوم عالقة في ليل ساحر.
أما ظافر...
فشعر في تلك اللحظة وكأن دمه يغلي كأنها ليست فقط أمامه بل تحترق في عينيه كأن كل ما كان مدفونا بداخله عاد ليشتعل بضراوة.
لم يكن الأمر مجرد مفاجأة بل كان إعصارا داخليا اجتاح كل يقين كان يظنه ثابتا وكأن قلبه... عاد لينبض باسمها من جديد.
الفصل 26
عندما وصلت سيرين إلى المكان الذي كان يقع في الأسفل التفتت عيناها سريعا نحو الغرفة الخاصة في الطابق العلوي تلك الغرفة التي كانت توفر أفضل إطلالة على المزاد.
كانت الغرفة مزودة بمرآة ذات اتجاه واحد تلك التي كانت تسمح لمن في الداخل أن يراقبوا كل شيء بينما يبقى من بالخارج غافلا عنهم وكأنهم خلف جدار سحري لا يستطيع أحد أن يراهم إلا هم.
اختارت سيرين بعناية مقعدا يجذب الأنظار كان في موقع يسمح لأي شخص في الغرفة الخاصة أن يراها بوضوح ثم ألقت نظرة على الغرفة وكأنها تفعل ذلك بلا قصد وكأن تلك النظرة ليست سوى نظرة عابرة رغم أن هناك شيئا في عيونها كان يتحدث بلغات أخرى.
↚
حرصت سيرين على ألا يكون في عيونها أي تلميح للعاطفة بل كان هناك هدوء غريب خال من أي تموجات.
وفي تلك الغرفة الخاصة كان ماهر يتنفس بصعوبة فقد فاجأه ما رآه فغمغم بأعين متسعة
هذه هي السيدة سيرين تهامي! قالها ماهر بصوت مرتفع وكأن الكلمات خرجت منه بغتة غير قادرة على البقاء في صدره أكثر من لحظة.
أما ظافر فقد تمالك نفسه بكل ما أوتي من قوة لا إلا يخرج لملاقاتها خالجته مشاعر متناقضة ڠضب فرح غيرة شوق تنفس بعمق وكأنه يبتلع غصة في حلقه في حين أن خرج زفيره متهدجا ثم قال بصوت هادئ لكنه قاطع
اترك المزاد ماهر.
أومأ ماهر قائلا بتسرعا
نعم... نعم!
رمقه ظافر بحاجب مرفوع يتحداه في أن يراجعه في قراره وهو يخطو باتجاه إحدى الأرائك الفخمة المتواجدة بزاوية من زوايا الغرفة الفخمة يجلس بوقار لا يخلو من التباهي بل وربما الغرور يضع ساقا فوق الأخرى فهرع ماهر يضغط على زر الاتصال بهاتفه وبلحظة تلقى السكرتير التعليمات في الطابق السفلي فتنحى عن المزاد تاركا إياه خلفه وكأن شيئا غريبا قد وقع.
في تلك اللحظة كان الجمهور يظن أنهم على وشك مشاهدة مشهد من مشاهد رمي النقود المعتادة لكنهم فوجئوا بصمت غير مألوف وذلك ذهولا من استسلم ظافر نصران في سابقة لم تحدث من قبل.
امتلأت القاعة بدهشة مطلقة فقد خيم عليهم صمت عميق جميع الحاضرين لم يستطيعوا أن يصدقوا ما حدث الجميع لا يعرفون من هي تلك المرأة الغامضة ولم يستطيعوا أن يفهموا كيف لها أن تجرؤ على انتزاع شيء من ظافر! والأغرب كيف سمح لها بذلك!
انتهى المزاد وبحسب القواعد المتبعة كان على مقدمي العروض تسديد مستحقاتهم ومن ثم استلام مقتنياتهم.
عندما عبرت سيرين إلى خلف الكواليس لاحظت أن الغرفة كانت شبه خالية.
لم يكن بها سوى ظافر الذي جلس بمفرده على الأريكة عازلا نفسه عن العالم كله.
كانت قامته الطويلة والنحيفة تتناغم مع بدلة أنيقة جعلته يبدو وكأنه أحد أفراد السلالة المالكة.
وجهه الوسيم الذي ظل باردا كالحديد كان يشع
بسمات القوة لكن عيناه الداكنتين تابعتا سيرين بدقة فور دخولها من الباب وكأنها مركز هذا العالم.
سيرين!
نطق باسمها بهدوء قاټل في الوقت الذي كانت قد أصبحت فيه تحت أنظاره الثاقبة وعيناه الغارقتان في عمق المجهول.
و بالرغم من أن صوته كان هادئا لكنه يحمل في طياته العديد من الأسئلة التي كانت تنتظر الإجابة.
لقد كان ظافر ينتظر منها تفسيرا لسبب تزويرها لمۏتها واختفائها لمدة أربع سنوات.
بقت الأسئلة تتراكم في ذهنه مثل جبل من الثلج الذي لا يذوب كان يود لو سمع منها تفاصيل ما حدث طوال تلك الفترة المظلمة.
سيرين التي تغيرت بشكل جذري بعد هذه السنوات كانت الآن تعكس شخصية لم يكن يعرفها.
لم تعد تلك الفتاة التي ترفض الماكياج أو تفضل الملابس الداكنة التي تخفي ملامحها.
اليوم جاءته ترتدي ملابس براقة وجذابة وكأنها تحولت إلى سيدة أخرى تماما.
كان هذا التحول الصاعق يترك ظافر في حالة من الذهول فهو لم يتخيل أبدا أن سيرين تمتلك هذه الجاذبية الباهرة.
بينما كانت تقترب منه بخطوات هادئة شعر ظافر بشيء غريب في جوفهفأخذ يبتلع ريقه بصعوبة و كأن عينيه لا تستطيعان التخلص من تلك الصورة التي كانت تلوح أمامه.
توقفت سيرين على مسافة قريبة منه لا تفصلها عنه إلا بضع خطوات أي مسافة لا تذكر ثم قالت بصوت هادئ لكن مشبع بالكثير من الغموض
مرحبا سيدي.
وقف ظافر الذي بدا وكأن الجاذبية قد انفصلت عن الأرض من حوله مذهولا و قبل أن يتمكن من الرد كانت المواقف تتسارع برأسه كذئاب جائعة.
لكن سيرين لم تتركه في حاله فقد نظرت حولها في المكان ثم سألت بصوت لا يخلو من الحذر
هل هذا هو المزاد العلني أتيت هنا لأدفع واستلم مقتنياتي.
في لحظة تحول وجه ظافر إلى عاصفة من المشاعر فنهض واقفا وكأن قامته أطاحت بكل شيء في محيطه إذ بدت هيأته في تلك اللحظة وكأنها تلقي بظلالها الثقيلة على سيرين فحجب ضوء المكان عن وجهها مما جعل الهدوء يسود المسافة بينهما.
نظر إليها ظافر بنظرة حادة كأن عينيه تتغلغلان في أعماقها تبحثان عن سر غامض وكأنهما تريان شيئا يثير الريبة في قلبه ثم نطق بصوت عميق كالرعد الذي يسبق العاصفة يغلفه الڠضب ويتصاعد منه الحنق
أخبريني من أنا
لكن سيرين وكأنها لا تبالي بالعاصفة التي تزمجر حولها بل بقيت هادئة وجهها خالي من أي ملامح توحي بالدهشة أو المفاجأة فكانت
إجاباتها باردة كتلك الرياح التي تمر دون أن تترك أثرا في الهواء
من أنت هل أعرفك
وكأن صاعقة قد لامست قلب ظافر إذ شعر بشيء من الۏجع يتسرب عبر أضلعه كلماتها كانت كخناجر مسمۏمة غرست في صدره فأصابته في مقټل ېنزف وچروحه لا ترى لكن آلامها غزت جسده بأكمله.
أجاب بصوت محمل بالڠضب المكبوت الذي تشعر به الصخور قبل أن تسقط عليها الأمطار
ألا تعرفينني إذن
سأجعلك تعرفين من أنا!
اتسعت عينا سيرين وبدت عليها لحظة من التردد وكأن كلمات ظافر قد سلبت منها صوتها لكنها لم تستطع الرد قبل أن يجد نفسه دون وعي يسحق بكلمات أكثر قسۏة ممزوجة بشفاهه الخشنة تلك الهمسات الثائرة التي كان لها قوة الإقناع أكثر من أي شيء آخر.
شعرت سيرين وكأن أنفاسها قد توقفت وكأن الهواء قد غادر رئتيها ثم بدأت في مقاومة قوية تكافح كي تبقى صامدة أمام عاصفته لكن قبضته كانت أقوى من قدرتها على الهروب.
ظنت في البداية أنها ستتمكن من التظاهر بأنها لم تشعر
↚
بشيء لكن سرعان ما اڼهارت عزيمتها وسقطت الدموع على وجنتيها تنحدر كما لو أنها أمطار غزيرة بدأت في شق طريقها على جبين الأرض.
وأمام هذه المعركة الداخلية لم تعد قادرة على الصمت فصاحت بوجهه وهي ترفع يدها بتلقائية ليهوى كفها الرقيق على صدغه وكان صوتها حاد وكأنه خرج من أعماق الچحيم
من فضلك التزم أدبك أيها الوقح! قبل أربع سنوات مرضت وفقدت ذاكرتي!
تجمدت أفعاله في لحظة ووقف مشدوها يتأملها بنظرات مليئة بالدهشة والتساؤل وكأنما حجبت عنه السماء فجأة تناسى تجاوزها معه وصڤعتها التي رن صداها بأرجاء المكان لم تعد تعني له شيئا مقارنة بفظاعة ما ألقته على مسامعه.
اغتنمت سيرين تلك اللحظة الفراغية فانسلت من بين ذراعيه كأنها نسمة هاربة من بين أصابع القدر.
تراجعت خطوة إلى الوراء لكن عيناها لم تفارقان وجهه.
كان ظافر في حيرة قلبه مشدود مشاعره مضطربة بين الڠضب والاستفهام فقال بنبرة متسائلة متشككة
لقد قلت إنك فقدت ذاكرتك إذن كيف تعرفت على هذه القلادة
ثم وكأنه قد اكتشف شيئا غامضا فأخرج قلادة الزمرد من أحد الأدراج القريبة ورماها أمام سيرين كمن يظن أن الحقيقة تكمن في تلك الجوهرة برز في عينيه تحد ونظراته تتنقل بين القلادة التي سقطت بين قدميها أرضا وملامح وجهها يتابع بترقب تأثير المفتاح الذي سيكشف المستور.
أجابته سيرين بهدوء يوازي هدوء البحر في ساعات الفجر
لقد ترك لي والدي هذه. بالطبع أتذكره.
اللعڼة!! تلك ال سيرين تراوغه!!
تجهمت ملامح وجهه محاولا أن يستشف هدفها في أن تفرض حقيقة مستنسخة بأنها تذكرت شيئا تركه لها والدها لكنها لم تتذكر من هو ظافر هذا الرجل الذي يحاول أن يغرز في قلبها ذكرى منسية.
كاد ظافر أن ينفجر ضاحكا لكن غضبه كان أقوى من أن يسمح له بذلك ومن ثم....
الفصل 27
وضعت سيرين الشيك في يد ظافر ببرود أشبه بجليد لا يذوب قائلة بصوت خال من التردد
لقد دفعت المبلغ... والآن سأستلمه.
لم تنتظر منه ردا ولم تتكلف حتى عناء النظر إلى وجهه فقط استدارت بخفة ومضت بخطى ثابتة كأنها تسير على حافة القدر لا تأبه بما خلفها.
أما عن ظافر الذي قبضت أصابعه على الشيك كمن يحاول سحق إحساس غامض تسلل إلى صدره لم يشيح بعينيه عنها حتى غابت عن ناظريه.
ثم وبصوت هادئ يحمل بين طياته أمرا لا يقبل التأجيل قال لخادمه الوفي ماهر
لا تدعها تغيب عن ناظريك.
في المساء حين عادت سيرين إلى المنزل الذي استأجره لها كارم كان الليل قد بسط عباءته الثقيلة ونامت المدينة تحت أضواء خاڤتة تترنح بين السكون والصخب المكتوم.
لم يكن الشرب عادة من عاداتها بل كان طقسا طارئا لجأت إليه بعدما رحلت عن البلاد فكلما كانت تشعر بأن الحياة تكشر لها عن أنيابها بلا رحمة تلجأ إلى الكحول كمن يستجدي نوما سريعا لعقل مثقل بالأفكار لكن بعد أن أنجبت زكريا ونوح بدأت شيئا فشيئا في التخلي عن هذه العادة فقد منحها وجودهما سببا للبقاء متماسكة جدارا تستند إليه كلما عصفت بها الذكريات.
إلا أن اليوم... بعد أن رأت ظافر اڼهارت كل حصونها دفعة واحدة ومن ثم عاودتها تلك العادة القديمة كطيف مألوف يدعوها إليه ولم تجد في نفسها القوة لمقاومته.
لم تكن تبالغ حين قالت إنها فقدت السيطرة... بل الحقيقة أنها لم تكن تملكها من البداية.
زفرت سيرين أنفاسها ببطئ وقد قض سلامها ذاكرة مبعثرة كأوراق الخريف
فحينما غادرت البلاد تركت خلفها أكثر من مجرد وطن وذكريات لقد تركت جزءا من نفسها يتآكل شيئا فشيئا.
في تلك الحقبة من الزمن كان جسدها مثقلا بحمل مضاعف ليس فقط ذلك الجنين الذي ينمو بداخلها بل أيضا اكتئابا ألقى بظلاله الثقيلة على ذاكرتها حتى أصبحت واهنة كمرآة مشروخة تعكس الماضي في صور متقطعة ثم تخفيه فجأة في زوايا النسيان.
كانت لحظات تمتد فيها يد الذكريات إلى أقرب الناس إليها فاطمة ثم تفلتها دون إنذار وكأن عقلها يمارس لعبة الاختفاء القاسې معها.
بين الفينة والأخرى كانت ټغرق في دهاليز طفولتها قبل أن يختطف المۏت والدها أو تجد نفسها بين مقاعد الدراسة حيث كانت تحلم بمستقبل لم يعد له وجود.
أحيانا كانت تسافر عبر الزمن إلى لحظة زواجها من ظافر تتذكر قسمهما الأبدي ضحكته التي لم تكن يوما لها نظراته التي لم تعتنق وجهها إلا في لحظات عابرة.
وذات مرة خدعها عقلها بالكامل إذ استيقظت وهي تظن أن حياتها معه ما زالت قائمة بل وأنها لم ترحل لم تزيف مۏتها لم تهرب إلى المجهول لم تكن سوى عروس عادت لتوها
من ليلة زفافها بشغف البداية دون أن تدرك أن تلك البداية أغلقت أبوابها منذ زمن.
وفي نزوة من ذلك الوهم اشترت تذاكر السفر عازمة على العودة إلى ظافر لتحتضن ماضيها كأنه واقع لم يلوثه الفراق.
اقتربت من الوطن كما يقترب الغريق من اليابسة ظنا منه أنها ستنقذه غير مدركة أنها مجرد سراب.
لكن القدر لم يكن أقل قسۏة من ذاكرتها فبين جدران المطار اصطدمت عيناها بحقيقة لم تكن مستعدة لمواجهتها صور لظافر ودينا يرقصان في احتفال صاخب كأنهما يعلنان أن الماضي قد ماټ وأنها لم تكن سوى صفحة طواها الزمن.
لحظتها شعرت كأن ذاكرتها قد عادت لټنتقم فتركتها تصدق الوهم للحظة ثم مزقته أمامها كخيط واه لا يصمد أمام الريح.
تلك الانقطاعات لم تكن مجرد نسيان عابر بل كانت تمنحها الأمل ثم تسحبه منها ببطء مؤلم كما ينزع الضماد عن چرح لم يلتئم فلا أحد سيشعر بذلك الألم إلا من عاشه من فقد أجزاء من ذاكرته ليجدها تعيد نفسها بطرق أشد قسۏة.
كانت تعلم دوما أن ظافر لم يحبها يوما وأن محاولاته المستميتة للعثور عليها لم تكن بدافع الحب بل بدافع العناد فهو لم يستطع تقبل فكرة أنها اختارت الرحيل وكأنها سلبت منه حق القرار.
ولهذا حين قررت العودة لم يكن بدافع الحنين بل لأنها كانت بحاجة إلى شيء واحد فقط... السائل المنوي لظافر دون أن تضطر إلى أن تكون معه حقا.
رن هاتفها مقاطعا سيل أفكارها المتشابكة كعقدة من خيوط القدر المربوط بعنقها فأمسكت به ببطء وكأنها تتوجس مما يحمله من أخبار.
جاءها صوت كارم عميقا دافئا يحمل في نبراته شيئا من الغموض المغلف بجاذبية رجولية خالصة.
كيف سارت الأمور
أخذت نفسا عميقا تطارد ما تبقى من ارتباكها قبل أن تجيب بنبرة حاولت أن تبدو واثقة
يمكن اعتبار الخطوة الأولى نجاحا.
لكن كارم الذي خبر أدق خلجاتها لم يترك الأمر يمر بسهولة إذ التقط من صوتها نغمة لم ترضه فتقلصت ملامحه في شك وانعقد حاجباه وهو يقول
هل تشربين مجددا
لا لم أشرب منذ وقت طويل. قالتها بسرعة ربما أسرع مما ينبغي مما جعل كذبتها ترتد إلى أذنيها كصدى متهم في محكمة الضمير.
لم يرد كارم على الفور بل اكتفى بهمهمة قصيرة تبعتها لحظة صمت بدت وكأنها أبدية قبل أن يقول بصوت محمل بجدية لا تخطئها أذنها
إذا واجهت أي صعوبات سأعود
لكنها قاطعته كأنها تخشى أن يمنحها عرضه أكثر مما تستطيع احتماله
لا داعي لذلك عليك أن تصدقني أنا قادرة على التعامل مع هذا الأمر.
كان عليها أن تبعده عن دوامة حياتها المعقدة تعرفه جيدا فرجل مثله لا يملك رفاهية الوقت وليس من العدل أن تقحمه في
شؤونها الخاصة لكنه أجابها بحزم
فقط تذكري إن احتجت إلي عليك أن تتصلي بي فورا.
حسنا.
أغلقت الهاتف وشعرت بثقل كلماته يتردد داخلها.
نظرت إلى زجاجة المشروب الفارغة على الطاولة تأملتها للحظة كأنها تستعيد فيها جزءا من ليلة بائسة ثم أمسكت بها وألقتها في سلة المهملات بحركة حاسمة كأنها تتخلص من ذنب قديم.
بحثت عن أي شيء يملأ الصمت الذي بدأ يطبق عليها فالتقطت جهاز التحكم عن بعد وضغطت على زر التشغيل لينفجر صوت التلفاز في الغرفة ناشرا حياة مصطنعة في أجوائها وكأنها تحاول أن تهرب من وحدتها عبر ضوضاء الآخرين.
كان برنامجا إخباريا ترفيهيا يعرض وسمعت صوت المذيعة يتحدث بإثارة مصطنعة
دينا يقال إن صعودك من مجرد مغنية إلى نجمة مشهورة مرتبط بعلاقة سرية جمعتك بظافر نصران الرئيس التنفيذي لمجموعة نصران... علاقة امتدت لأكثر من عقد من الزمان!
عقد من الزمان...
ضحكت سيرين بسخرية مريرة.
عقد كامل إذا ماذا كانت السنوات الثلاث التي قضتها في زواجها من ظافر خلال ذلك العقد
قبل أن ټغرق أكثر في دوامة أفكارها السوداء انطلقت رنة أخرى من هاتفها وكانت هذه المرة مكالمة فيديو.
حدقت في الشاشة وعندما رأت اسم المتصل أخذت نفسا عميقا وتأكدت سريعا من أنها لا تبدو في حالة يمكن أن تثير شكوكه إذ كان المتصل ابنها نوح.
رفعت الهاتف وضغطت على زر الإجابة ليظهر وجهه البريء على الشاشة مبتسما بطفولة صافية وهو يرسل لها قبلة عبر الشاشة.
↚
أمي هنا قبلة طائرة التقطيها!
شعرت بشيء دافئ يتسلل إلى قلبها كنسمة رقيقة وسط عاصفة هوجاء وفي تلك اللحظة أدركت أن هناك زاوية في حياتها لم تلوثها الفوضى بعد.
الفصل 28
أخذت عيناها تتأملان الشاشة بشيء من القلق وعلى الجهة الأخرى كان صوت طفل واهن بالكاد يخرج من بين شفتيه لكنه يحمل في نبرته رنة مألوفة كأنه صدى لزكريا شقيقه التوأم.
هناك على سرير المستشفى البارد كان الطفل ممددا شاحب الوجه تتراقص على ملامحه ظلال المړض كأنها فراشات سوداء تحوم حول زهرة ذابلة.
ناداها نوح بصوت دافئ كمن يطرق باب قلبها برفق فارتعشت أوتار روحها وسرت في عروقها قشعريرة حنين فابتسمت وهي تهمس
نوح إليك قبلة في الهواء تحمل لك بعضا من دفئي.
لكن نوح لم يبتسم بل ارتسم على وجهه عبوس عميق وكأن شتاء حزينا حط رحاله على ملامحه الطفولية.
رفع نوح عينيه إليها بعتاب موجع
أمي لم تتصلي بي حتى الليلة الماضية لتتمني لي ليلة سعيدة...
حشرجت أنفاسها وانحنت كلماتها تحت ثقل الذنب صحيح أن زكريا كان دائم المشاكسة يلقي الدعابات بمرح ليزعجها لكن نوح كان مختلفا... أكثر حساسية أكثر احتياجا لطمأنينة لا تنقطع إذ كان طفلا هشا كأن روحه تتكئ على خيط رفيع من الأمان وأي غفلة منها قد تجرحه.
أنا آسفة حبيبي... لقد خانتني الذاكرة إليك قبلة أخرى كتعويض فهل ستسامحني
أطبق نوح شفتيه قليلا كأنه يتلذذ بالسلطة المؤقتة التي منحه إياها عتابه ثم قال بصوت يشوبه دلال الطفولة
سأسامحك هذه المرة... لكن لن يكون هناك مرات أخرى!
ابتسمت سيرين ومع كل كلمة تخرج من شفتيه تشعر وكأن الغيوم الداكنة التي كانت تغطي صدرها قد انقشعت فجأة ثم سألته برقة
أين جدتك وزكريا
عقد حاجبيه بتمثيل بارع للڠضب وهو يشيح بوجهه عنها قبل أن يرد بتذمر طفولي
لو كنت أعلم أنك ستسألين عنهما لما اتصلت بك أصلا!
ضحكت سيرين ولم تدر هل تبكي من حبهما أم تضحك من غضبه المصطنع.
حسنا حسنا لن أسأل عنهما لقد تأخر الوقت وعليك أن تنام الآن تصبح على خير نوحي.
بعد أن أغلق نوح الهاتف تلاشت الابتسامة عن وجهه كما تذوب نقطة حبر في الماء ومن ثم الټفت إلى شقيقه زكريا الذي كان جالسا في الزاوية تتراقص أنوار الشاشة على ملامحه الصامتة.
أمي كانت تشرب مجددا...
أغلق زكريا الكمبيوتر المحمول ببطء كمن يغلق بابا على أفكار مظلمة. لم يكن بحاجة لسماع المزيد.
زكريا كان يعرف النهاية مسبقا فزفر بعمق وقال
يبدو أنه ليس لدي خيار سوى الذهاب إلى المدينة لرعايتها.
نعم... أغمض نوح عينيه ثم أضاف بصوت مبحوح لو لم تكن صحتي بهذا السوء لذهبت معك... وربما قټلت ذلك الوغد.
كانت سيرين بعيدة عن كل هذا تجهل تماما ما يدور في الظلام خلف ظهرها ومخطط توأميها للقصاص من أبيهما بات غولا يتوحش بصدر
الصغيرين.
بعد استحمام دافئ استلقت سيرين على سريرها تعانق دميتين الأرنبيتين كطفلة تبحث عن أمان مفقود لكنها لم تجد راحة هذه الليلة إذ أخذت تقلب جسدها تنام وتستيقظ كأن السرير غريب عليها أو ربما لأن أفكارها تأبى أن تهدأ كابرت وأرجعت السبب كون اليوم كان طويلا... أو ربما لأن ظافر قد عاد إلى حياتها تعلم أن كلمة ربما ليس لها محل من الإعراب هنا فالسبب... ظافر.
عندما فتحت عينيها أخيرا كان الصباح قد تسلل خلسة إلى غرفتها فنظرت إلى الساعة إنها 510 صباحا.
زفرت بضيق ثم التقطت هاتفها لتجد إشعارا برسالة غير مقروءة.
كان كارم قد رتب لها حارسا شخصيا جديدا رامي حداد.
فتحت الرسالة فكان رامي قد كتب لها
السيدة تهامي لاحظت أن هناك سيارة تراقب مسكنك منذ عودتك الليلة الماضية... ولم تغادر حتى الآن.
تسارعت نبضاتها وهي تحدق في وقت الإرسال 0300 صباحا.
أرسلت سريعا
هل لا يزال هناك
جاءها الرد بعد لحظات قصيرة
نعم.
لم تكن بحاجة للتفكير كثيرا... لقد عرفت فورا أن هذا أحد رجال ظافر.
تنفست ببطء قبل أن ترد بهدوء
لا تقلق دعه يراقب كما يشاء... فكلما اقترب كلما كان ذلك أفضل لي.
بعد الإفطار غادرت سيرين منزلها بخطوات ثابتة ترفرف حولها هالة من الغموض الذي التصق بها كظل لا يفارقها.
جلست في المقعد الخلفي للسيارة وألقت بأمرها إلى السائق بصوت ناعم لكنه لا يخلو من الحزم
خذني إلى مجموعة شركات نصران.
انطلقت السيارة تشق شوارع المدينة حيث كان ضوء الصباح الباكر يتسلل من بين المباني كخيوط ذهبية تنسج يوما جديدا لكن داخلها لم يكن هناك جديد.
كانت كعادتها... حبيسة أفكارها مشدودة إلى ماض لم ينته بعد.
في تلك الأثناء كان ظافر جالسا في مكتبه الفخم تتراقص بين أصابعه ورقة تحمل رقما قد يغير مصير حياة بأكملها. شيك بقيمة خمسين مليون دولار حررته له سيرين مقابل قلادة الزمرد.
بقى ظافر يرمق الأرقام الضخمة بطرف عينيه لكنه في الحقيقة كان يراها أصفارا خاوية لا تعني له شيئا أمام سؤال واحد ظل يطن في رأسه أين كانت طوال السنوات الأربع الماضية ومن أين لها بكل هذا المال
التوى ثغره بابتسامة تهكمية فعلى ما يبدو أن سيرين كانت تعيش في بعد حياة مترفة ولا يوجد من يمكنه توفير تلك الرفاهية سوى شخص واحد.... كارم.
زمجر ظافر بزئير غاضب أظهر مدى مقته لغريمه كارم وود لو كان أمامه توا فحينها لن يتوان ظافر عن تقطيع جسده إلى أشلاء يحتارون في جمعها.
منذ الليلة الماضية قد كلف ماهر شخصا بمتابعة سيرين خلال الليل وها هو يقف الآن أمام ظافر ملامحه متوترة كما لو كان يحمل في جعبته شيئا يوشك على تفجير
المكان.
قال ماهر بصوت
↚
خاڤت لكنه محمل باليقين
سيدي لدينا أخيرا بعض الأخبار... السيدة تهامي شوهدت في أحد الأحياء العامة الليلة الماضية.
رفع ظافر عينيه نحوه ببطء كمن يزيح الغبار عن ذكرى قديمةيتساءل بإلحاح
وماذا عن سجلات المطار ومحطة القطار هل تم رصد أي حركة دخول أو خروج
تردد ماهر لحظة قبل أن يجيب
لا شيء تماما كما حدث من قبل... كما لو أن هناك من تعمد طمس أي أثر لها.
زم ظافر شفتيه لقد كانت مختفية لأربع سنوات كاملة والآن تعود فجأة لتظهر في مكان غير متوقع لم يبتلع الأمر بسهولة فلقاء البارحة لم يكن مجرد مصادفة... كان أشبه بيد القدر تمتد نحوه لتعبث بأوراقه من جديد.
أخذ ماهر نفسا عميقا ثم أضاف بحذر
هناك أمر آخر... بحسب التقارير المنطقة التي تعيش فيها السيدة تهامي تخضع لمراقبة مشددة.
نظر إليه ظافر بنظرة لم يفهمها لكنها حملت من البرود ما جعل الغرفة تزداد برودة رغم حرارة الجو بالخارج وقال بصوت جاف لكنه قاطع
استمروا في البحث عنها لا أريد مفاجآت أخرى.
كما تأمر سيدي.
حدق ظافر فيه لثوان ثم ألقى عليه جملة أخيرة بصوت خفيض لكنه كان كافيا ليجعل ماهر يتجمد في مكانه
إذا أفلتت منا هذه المرة... لا داعي لأن تبقى في هذه المدينة بعدها يا ماهر أسمعت.
مفهوم سيدي.
غادر ماهر بخطوات متسارعة تاركا ظافر وحده مع أفكاره قلبه لم يكن مرتاحا عقله يضج بعشرات السيناريوهات كان يريد أن يذهب بنفسه ويقتلعها من حيثما اختبأت ليضعها أمامه ويبحث في عينيها عن الحقيقة التي تخفيها. لكن الأمر لم يكن بتلك السهولة.
فقدان ذاكرة
لا لم يكن ليبتلع هذا الهراء!
لم يكد يلتقط أنفاسه حتى عاد ماهر مجددا يطرق الباب بعجلة ليطل برأسه ويقول
سيدي... يبدو أن السيدة سيرين في طريقها إلى هنا.
رفع ظافر رأسه ببطء لم يبتسم لم يتفاجأ فقط تمتم بكلمات لم يسمعها أحد غيره
أخيرا...
عشق لا يضاهى بقلم أسماء حميدة
الفصل 29
في قبضة القدر لقاء لا مفر منه
انعقد حلق ظافر وكأن يدا خفية شدت عليه وظهرت في عينيه تلك النظرة التي لا تخطئها عين مزيج غريب من التأهب والارتباك.
لم يكن بحاجة إلى أن ينطق بحرف فالصمت وحده كان كفيلا بأن يفهم ماهر ما يدور في رأسه.
في كواليس مجموعة نصران كانت الأحاديث تتناثر كالهشيم في مهب الريح.
الجميع يترقب قدوم رجل الأعمال الغامض الذي قيل إنه سيضخ أموالا طائلة لدعم مشروع الأمل ذاك المشروع الخيري الذي أعدت له العدة ليكون بصمة لا تمحى في سجل الإنسانية.
تبادلت الألسن الهمسات والتكهنات
أي نوع من الأعمال التجارية هذا الذي يدفع صاحبه إلى رمي أمواله بهذا السخاء!
هل هو بعيد المنال
ومن يدري ربما يملك من المال ما يثقل كاهله فلا يجد له مصرفا!
سمعت أنه أتى من خارج البلاد...
وفي هذه اللحظة تحديدا ظهرت سيارة سيرين الفارهة أمام المقر الرئيسي لمجموعة نصران وتوقفت بثبات كأنها سفينة ألقت مرساتها بعد طول إبحار.
رفعت سيرين بصرها إلى ناطحات السحاب التي ارتفعت شامخة كل واحدة منها تروي فصولا من قصة نجاح بدأت بخطوات ثابتة وانتهت بإمبراطورية تحسب لها ألف حساب.
كل ذلك كان بفضل الإدارة الحديدية لظافر ورؤيته الثاقبة التي جعلت الشركة تحلق في سماء النجاح وكأنها طائر جبار لا يعرف الهبوط.
لكن سيرين لم تكن أقل شأنا أربع سنوات مضت لم تهدرها سدى بل حولتها إلى سلاح ماض فبمساعدة كارم أطلقت سيرين شركتها الخاصة وراحت تنسج خيوط نجاحها بصبر ودقة وراكمت ثروة لم تكن تتخيل أنها ستصل إليها يوما.
أما الآن وقد عادت إلى المدينة فقد جاءت محملة بخطط محكمة ولم يكن مشروع الأمل سوى البوابة التي ستعبر من خلالها إلى قلب اللعبة.
كانت تعلم أن مجموعة نصران بصدد إطلاق هذا المشروع الطموح حيث سيتم ضخ رؤوس أموال ضخمة لتنفيذه على مستوى البلاد لذا وجدت الفرصة سانحة لتقديم اقتراح استثماري يفتح لها الباب للعب دور في هذه المعادلة وللاقتراب من ظافر ليس كمتفرجة بل كجزء من المشهد.
لم تترك شيئا للصدفة كانت تدرك أن مجرد تقديمها لعرض شراكة مالية لم يكن ليكفل لها فرصة لقاء ظافر وجها لوجه لذا اختارت أن تسبق خطوتها الأولى بمفاجأة مدوية.
في الليلة الماضية ظهرت في المزاد الخيري حيث الأضواء تتقاطع والعيون تترقب لم تكن بحاجة إلى أن ترفع صوتها أو أن تثير ضجيجا حضورها وحده كان كافيا ليشعل فضول ظافر ويدفعه إلى الاقتراب... على ظهر أسده الخاص!
عندما انفتح باب السيارة ببطء نزلت سيرين بخطوات واثقة كأنها ملكة تهبط من عرشها على أرض المعركة.
الهواء النهاري لامس بشرتها برقة بينما تراقص ضوء الشمس على ثوبها الأنيق كأنها شهب تائهة في فضاء مظلم.
كان ماهر ممثل مجموعة نصران يقف عند المدخل ينتظر بترقب يشوبه القلق وبمجرد أن
وقعت عيناه عليها انتفضت ملامحه بدهشة خفية.
لم يكن يتوقع أن يكون صاحب العمل... امرأة! بل امرأة تحمل حضورا طاغيا يسبقها بخطوة.
تلعثم لثوان قبل أن ينطق
أنت... تهامي
رفعت حاجبها في مزيج من الاستفزاز والمرح وكأنها تراقب رد فعله كصياد يختبر صبر فريسته.
لم تؤكد ولم تنف بل تركت الغموض يتلاعب بفضوله.
لماذا هل يبدو لك أنني لا أستطيع أن أكون تهامي
ارتبك للحظة ثم حاول التراجع عن سوء التقدير
بالطبع لا أنت... ملاك جميل من الداخل والخارج.
كانت كلماته تتدحرج بسهولة مبالغ فيها وكأنه ينفث دخان مجاملة زائفة.
ابتسمت سيرين ابتسامة هادئة بينما عقلها يدرك الحقيقة لقد وقع في فخها بسهولة.
قادها ماهر إلى قاعة كبار الزوار ثم انحنى قليلا قبل أن يغادر ليستدعي المسؤول.
بقيت سيرين في الغرفة تتفحص المكان بعيني صقر يدرس أرضه قبل الھجوم.
لم يطل انتظارها فسرعان ما تناهت إلى مسامعها خطوات واثقة يتبعها صوت باب يغلق بإحكام خلف الداخل.
رفعت نظرها فتلاقت عيناها بعينين تعرفهما جيدا... عينين كأنهما شفرتان باردتان تستعدان لشق طريقهما إلى أعمق نقطة في عقلها.
إنه ظافر.
لم يكن بحاجة إلى أن ينطق اسمه فقد كانت نظراته تكتب اسمه في الهواء بينها وبينه.
التقت أعينهما في صمت متوتر لكنه كان صمتا صاخبا بالأسئلة غير المنطوقة.
أما سيرين فقد تظاهرت بالدهشة وكأنها ترى وجها غريبا لأول مرة.
أنت
تضييق عينيه الطفيف كشف عن عدم تصديقه لكنها تابعت عرضها ببراعة ممثلة محترفة.
اقترب منها خطوة فبدا كأن الهواء بينهما صار أثقل وكأن الغرفة ضاقت فجأة.
همس بكلمات ذات مغزى كمن يلقي شبكة من الشك حولها
يا لها من... مصادفة.
تعمد التوقف عند الكلمة الأخيرة ناطقا إياها وكأنه يكشف خدعة سحرية أمام جمهور مذهول.
لكنها لم تترنح بل أمالت رأسها قليلا وحدقت فيه ببرود متصنع
أنت المسؤول عن هذا المشروع
ابتسم ظافر ابتسامة باهتة لكنها كانت تحمل خلفها ألف معنى ومن ثم أجابها بابتسامة واثقة
أنا مسؤول عن مجموعة نصران.
ثم أضاف ببطء مقصود
اسمي ظافر نصران.
نظر إليها نظرة طويلة وكأنه يعيد رسم ملامحها في ذاكرته يبحث عن الفجوات عن العلامات التي قد تكشف سرها.
في ذلك اليوم اختارت سيرين ارتداء ملابس عمل رسمية بألوان حيادية لا تحمل أي رسائل لكنها رغم ذلك بدت أكثر حضورا مما أراد أكثر قوة مما توقع... وكأنها جاءت لتقلب الطاولة لا لتجلس عليها.
قبل أن تطأ قدماها عتبة اللقاء كان ظافر قد فكك اللغز بأكمله.
لم يكن بحاجة إلى تلميحات أو تقارير فالأمر كان واضحا كالشمس التي تشرق على غير موعد.
سيرين لم تكن مجرد ذكرى تائهة في أروقة الماضي بل كانت سيدة أعمال ذات دهاء تؤسس شركاتها في الخفاء وتنسج خيوط المستقبل كما تريد.
منذ شهر كانت قد وضعت حجر الأساس لمشروع الأمل جالسة على طاولة التفاوض مع مدير العمليات في مجموعة نصران تناقش التمويل بعقل بارد وروح جامدة وكأنها لم
تترك وراءها مدينة من الذكريات المهدمة.
والآن ها هي أمامه بكامل حضورها الذي لم يتزحزح قيد أنملة تمد يدها وعلى وجهها ابتسامة رسمية تكاد تفضح أكثر مما تخفي
إذن أنت السيد نصران. يا لها من متعة أن أقابلك.
لم تهتز نبرتها ولم ترف لها عين وكأنها لم تترك خلفها قلبا احترق وكأن هذا اللقاء ليس إلا محطة عابرة في جدول أعمالها الصارم.
لكن ظافر لم يكن من هؤلاء الذين يتركون في الهامش لم يكن من أولئك الذين ينسون بسهولة كفقاعة صابون في مهب الريح.
↚
وقبل أن تتمكن حتى من إنهاء جملتها قطب حاجبيه وقطع حديثها بنبرة تحمل من السخرية بقدر ما تحمل من الألم
لا أريد التحدث عن العمل اليوم. دعينا نتحدث عن فقدان ذاكرتك.
كان يراقبها بعيني صياد أدرك أن فريسته تحاول التملص يمسك بخيوط اللعبة بإحكام منتظرا أن تنزلق منها كلمة أن يشي وجهها بشيء أن تهرب نظراتها ولو للحظة.
لكن سيرين كانت أقسى من أن ټنهار بهذه السهولة.
عم الغرفة صمت ثقيل لم يكن مجرد صمت عابر بل كان وكأن الأكسجين ذاته قد انسحب من رئتيها تاركا وراءه فراغا يخنق الروح قبل الجسد.
شعرت بأنفاسها تصبح أقصر وكأن الهواء قد أصبح يؤرقها وكأن الغرفة لم تعد تتسع لهما معا.
أما ظافر فقد وجد نفسه أمام المرأة التي ظلت تلاحقه كظل في ذاكرته تتسلل إلى أحلامه رغما عنه تطارده كقصيدة غير مكتملة تأبى أن تكتب حتى النهاية.
كيف له أن يصف إحساسه الآن كيف له أن يواجه المرأة التي كانت يوما شغفه الأكبر ثم أصبحت لغزه الأعقد
إذا كنت لا تتذكرينني فمن تتذكرين كارم
لو أن هذه الكلمات كانت قد قيلت لسيرين في وقت آخر قبل سنوات ربما لكانت قد اشتعلت ڠضبا وصفعت الاتهام بعاصفة من الإنكار لكنها الآن ليست نفس المرأة.
الآن هي أم لطفل مريض وأمام ذلك لا شيء آخر يهم.
تنفست ببطء وكأنها تجمع شتات أفكارها قبل أن ترد بصوت لم يحمل أي انفعال
لا أفهم ما الذي تقصده لكنني لا أكذب عليك ظافر. أنا لا أذكر أي شيء وهذا ليس اختياري... لقد أصبت باكتئاب يلتهم الذاكرة... يحول الدماغ إلى أرض جرداء تتلاشى فيها التفاصيل كما تتلاشى الألوان في لوحة تركت تحت المطر... إنه ليس مجرد حزن إنه مۏت بطيء لما كنته يوما.
توقفت للحظة تبحث عن الكلمات التي ستشرح ما لا يمكن تفسيره ثم أضافت بصوت أكثر هدوءا
قال لي الطبيب إن فقدان بعض الذكريات قد يكون آلية دفاعية... أن العقل أحيانا يمحو ما يؤذيه يطمس الوجوه والأحداث كما تطمس الرياح آثار الأقدام على الرمال ربما لم أشأ أن أتذكر... ربما لو عاد كل شيء سينهار شيء بداخلي لن أستطيع إصلاحه أبدا.
نظر إليها ظافر طويلا كأنما يحاول أن يقرأ ما وراء كلماتها أن
يفك شيفرة مشاعرها كما اعتاد أن يفعل قديما.
لكن الحقيقة الوحيدة التي كان واثقا منها الآن... أنه أمام امرأة لم يعد يعرفها امرأة تحمل ملامح سيرين لكن روحها روحها أصبحت مجهولة... ومع ذلك بات هوسه الأعظم أن يبحر في أغوارها فهي وبجميع أحوالها أشبه بمغناطيس يجذبه إليها.
عشق لا يضاهى بقلم أسماء حميدة
الفصل 30
كان ظافر قد ألقى نظرة متفحصة على السجلات الطبية لسيرين منذ أربع سنوات حينها أدرك أنها كانت أسيرة اكتئاب حاد غارقة في ظلامه كما الغريق في بحر بلا شطآن
حاول أن يفهم طبيعة هذا الاضطراب وجاهد كي يفكك طلاسمه المعقدة لكن مهما تعمق لم يستوعب كيف يمكن للذاكرة أن تخون صاحبها إلى هذا الحد
صحيح أن الاكتئاب قد يعبث بالذاكرة فهو كفيل بأن يجعلها ضبابية لكنه لا يمكن أن يمحو شخصا بالكامل من الوجود
كيف لها ألا تتذكره وهو الذي ظل جزءا من عالمها لأكثر من عقد من الزمن
ظل ظافر هادئا متشبثا بصمته كمن يخشى أن ټنهار جدران روحه إن نطق بحرف
لكن صوت سيرين ظل يتردد بعقله متذكرا عينيها اللتين كانتا تسبحان في بحر من الحيرة حينما سألته هل التقينا من قبل أم أنك واحد من الغرباء الذين قاموا بأذيتي وإن لم تكن كذلك فلماذا لا أذكرك
تتذكرك
كانت كلماتها كالسيف الذي شق طريقه إلى صدره بحد نافذ وكأنها تمزق شيئا ما بداخله لم يكن يعلم بوجوده حتى تلك اللحظة لكنه لم يسمح لصډمته بالظهور بل تبدلت نبرة صوته متحولا إلى برود ثلجي وهو يجيبها
يبدو أنك تفكرين أكثر مما ينبغي يا آنسة تهامي لقد كنا مجرد سفن عابرة في ليل بلا قمر كل منا مضى في طريقه دون أن يترك أثرا
لقد قرر في تلك اللحظة أن يجاريها في لعبتها فإن أرادت التظاهر بالنسيان فلن يكون هو من يوقظ ذاكرتها بالقوة بل على العكس سيتركها ټغرق في هذا النسيان كما تشاء فالحقيقة مهما كانت مؤلمة لم تكن تعني له الكثير منذ البداية
قبل أن تغادر سيرين وقف ظافر بجموده المعتاد وكأنه قطعة من الجليد لا تذيبها النيران ثم طلب من أحد مساعديه أن يجهز عقد الشراكة معها وكأن الأمر لا يتعدى صفقة باردة لا مشاعر فيها ولا ماض ولا ذاكرة
عاد ظافر إلى مكتبه يلقي بحمل جسده المرهق على الكرسي الجلدي يزفر مع كل نفس دخان سيجارته كأنما ينفث ۏجعا لا ينقضي اشتعلت بين أصابعه سېجارة تلو الأخرى وكأنها الحبل الوحيد الذي يربطه بالواقع وسط دوامة أفكاره
كلمات سيرين كانت تتردد داخله كصدى بعيد في كهف معتم
هل كنت أحد أولئك الذين آذوني وإن لم تكن فلماذا لا أذكرك
شعر وكأن صدره قد امتلأ بكتلة من الجمر التي تسللت إلى حنجرته ومنعته حتى من التنفس براحة
كان يجلس شاردا في ظلام أفكاره يتأمل الجدار المقابل بعينين غارقتين في التيه وكأنما يبحث بين تشققات الطلاء عن إجابة لهذا الفراغ
عندما دخل ماهر إلى مكتب مديره التنفيذي كان الدخان قد نسج ستائر رمادية في الأجواء
يرخي خيوطه حول المكان كأن الغرفة تحترق في نيران الانتظار
ماهر كان يدرك أن ظافر منذ اختفاء سيرين قبل أربع سنوات قد أصبح ېدخن بنهم كالباحث عن خلاص في احتراق التبغ لكن السؤال الذي ظل يحيره هو
لماذا لم يتغير شيء حتى بعد عودتها لماذا لم يضع سيده تلك العادة السيئة جانبا
رفع ظافر بصره نحو ماهر عيناه كانتا كبحيرتين راكدتين تخفيان عاصفة وشيكة ومن ثم قال بصوت غليظ كأنه مقطع من صخر
لا يهمني كيف تفعل ذلك لكن يجب أن أعرف ما الذي حدث لسيرين في السنوات الأربع الماضية
ارتجف قلب ماهر للحظة لكنه حاول أن يبقي صوته متزنا وهو يرد
سيدي لقد أرسلت شخصا للتحري لكنه
↚
لم يتمكن من جمع أي معلومات حياتها في الخارج كانت محاطة بجدار من السرية
انقبض فك ظافر واشټعل الشرر في عينيه كجمرة وئدت طويلا وعادت للاندلاع بشكل أشرس ومن ثم خفض بصره وهو ينحني إلى الأمام ساحقا سيجارته في المنفضة المسندة على طاولة المكتب أمامه ببطء وكأنه يدعس صبره المتآكل يقاوم قررا حاسما ولكن بات يوقن أن في حربه معها قد تحطمت كل القواعد التي تلاشت معها كل ذرة تعقل غمغم بصوت رخيم
ثم استخدم قوى أخرى لا يهم أي ثمن يجب أن يدفع أو لمن ستألجأ لتوافيني بأخبارها السابقة
تردد ماهر للحظة فهو يعلم جيدا ما يعنيه لفظ القوى الأخرى إنه لم يكن مجرد مصطلح عابر بل بابا لا يفتح إلا عندما تحسم الأمور بوسائل لا تعرف الرحمة لطالما استخدمها ظافر لانتزاع منصبه كرئيس لعائلة نصران لكنه لم يشر إليها يوما بسبب امرأة حتى جاءت سيرين
لم يجرؤ ماهر على السؤال فالتردد لم يكن خيارا حين يصدر ظافر أمرا لذا انحنى برأسه قليلا في امتثال قائلا بصوت هادئ
سأتواصل مع الأطراف المعنية على الفور سيدي
ومع ذلك ورغم العاصفة التي اجتاحت صدر ظافر ظل العالم الخارجي غافلا فبعد أربع سنوات من الغياب لم يكن معظم العاملين في مجموعة نصران يعرفون من هي سيرين ولم تثر مفاوضاتها التجارية اهتماما يذكر لكنها بالنسبة له كانت بركانا لفظ حممه ولم يطفأ رماده بعد
وسط الطريق المغمور بأضواء بعد الظهيرة أمالت سيرين رأسها قليلا تستند إلى نافذة السيارة تتأمل الفراغ الممتد أمامها ومن ثم تنهدت بحزن وهي تلتفت إلى السائق تقول بصوت هادئ لكنه يحمل بين طياته أثقالا لا ترى
خذني إلى المقاپر هناك بالضاحية الغربية
قبل أن تصل سيارتها إلى هناك بالجهة المنشودة توقفت سيرين أمام متجر صغير على ناصية الشارع تترجل من السيارة بعد أمرها لقائدها بأن يصف على جانب الطريق واشترت باقة من زهور الأقحوان البيضاء كما
اعتادت أن تفعل كلما زارت المكان
نظرت سيرين لما تحمله بأعين تفيض حنينا كانت أزهارا نقية كأنها تقطف من ضوء القمر نفسه
وحينما وصلت إلى حيث يرقد والدها تحت ثرى الصمت انحنت قليلا لتضع الباقة برفق فوق حجر القپر البارد ومررت أصابعها فوق الاسم المنقوش عليه كأنها تربت على كتف الزمن
تحدثت إليه وروحها تتماهى مع الفضاء من حولها وكأن صوته لا يزال يسكن تجاويف ذاكرتها
أبي لقد عدت إليك سامحني لأني تأخرت كثيرا في ذلك
كانت سيرين أكثر هدوءا الآن بل وأقل اضطرابا مما كانت عليه يوما لكن بداخلها كان هناك زلزال لا يهدأ
أخذت تسرد له بصوت يشوبه الشوق كل ما مرت به خلال السنوات القليلة الماضية كأنها تقلب صفحات عمرها أمامه تطالعه بأحداثها وهمساتها تتناثر بين شقوق حجر القپر كنجوم خاڤتة في ليل معتم
كنت أود أن أحضر زاك ونوح لرؤيتك لكني أخشى أخشى أن ينتزعوهما مني إن علموا بأمرهما لذا كان علي أن أتركهم في مكان آمن أعلم أنك ستفهم وستسامحني
رغم أنها تعرف الحقيقة جيدا إلا أنها لم تجرؤ على خوض المجازفة أفراد عائلة نصران لا يخسرون أبناءهم بسهولة فكيف ستسمح لهم بمطالبتها بطفليها إذا عرفوا بوجودهما
في خضم شرودها اخترق رنين هاتفها سكون المكان فرفعت الهاتف إلى أذنها حتى جاءها صوت رامي الحارس المكلف بحمايتها يقول مختصرا لكن مجمل ما قال كان محملا بالتحذير
السيدة تهامي شخص ما قادم إليك
أجابت دون ارتباك
حسنا
أغلقت الهاتف واستدارت تستعد للمغادرة لكن قدميها تجمدتا في موضعهما عندما أبصرت شخصا يقف في نهاية الطريق
تمتمت بخفوت
طارق
كان طارق واقفا هناك يرتدي بدلة مصممة بعناية ممسكا بباقة كبيرة من الزهور يداه تحيطان بها كأنها أثمن ما يملك وعيناه عيناه كانتا غارقتين في صمت مريب
نظر إليها مطولا وكأنما الزمن عاد به إلى لحظة فقدانها وكأن روحه تتهشم من جديد
ارتجفت أنفاسه حاول أن يقاوم لكن الدموع تسللت إلى عينيه رغما عنه
في الجهة الأخرى لمع بريق خاطف في عيني سيرين قبل أن تخبو ملامحها إلى حيادها المعتاد وارتفع صوت كعب حذائها في المكان يعلن اقترابها بخطوات راسخة غير مترددة
أما طارق فشعر وكأن الأرض تشده إلى باطنها تثبته في مكانه وكأن الزهور بين يديه ثقلت فجأة كجبال رواسي حتى أنه لم يقو على حملها
مرت لحظات بدت وكأنها دهور قبل أن يستعيد طارق وعيه وراح يرمش بعينين متسعتين كأنه يحاول تصديق ما يراه
لم تكن شبحا لم تكن ذكرى
سيرين لم تكن مېتة
ها هي أمامه حية تتنفس وتركل كل ما ظنه حقيقة
رواية عشق لا يضاهى بقلم أسماء حميدة
الفصل 31
كان قلب طارق أشبه بساعة معطوبة تترنح عقاربها بين الماضي والحاضر دون أن تجد لها مسارا مستقيما
أصبحت مشاعره كعاصفة هوجاء لا تهدأ ولا تستقر تحاول عبثا أن تجد ميناء ترسو فيه
في تلك اللحظة أراد أن يتحدث إلى سيرين لكن الكلمات فرت من بين شفتيه كحبات الرمل بين الأصابع ظل مترددا هل يعتذر أولا أم يسألها أين كانت كل هذه السنوات أم يكتفي فقط بوجودها أمامه وهو يحاول استيعاب حقيقة أنها لم تعد ذكرى
لكن قبل أن تكتمل أفكاره مرت سيرين بجواره باردة كنسمة فجر عابرة لم تلتفت لم تمنحه حتى رفة رمش كأن وجوده لم يكن سوى سراب
وقف مذهولا كمن تلقى صڤعة من الزمن الټفت سريعا لكن الوقت كان أسرع منه كانت قد ركبت السيارة بالفعل واستندت إلى المقعد الجلدي الفاخر وهي تقول للسائق بهدوء قاټل
انطلق
نظر إليها وهي تختفي خلف زجاج النافذة الداكن تاركة خلفها ألف سؤال بلا إجابة
استغرق طارق وقتا طويلا ليستوعب ما حدث كالحالم الذي لم يملك رفاهية فهم ما رآه بعد
وبينما امتدت يده إلى هاتفه للاتصال بظافر ضربه شريط الذكرياتإذ تبادر إلى ذهنه كيف كان ظافر يعامل سيرين طيلة تلك السنوات وكيف كان هو مجرد متفرج في الخلفية!!
لكنه الآن لم يعد متفرجا لم يكن ليتركها تختفي مجددا أنانيته عندما يتعلق الأمر بها لم تكن تحتمل المراوغة ولهذا دون أن يرف له جفن سجل رقم لوحة سيارتها وأرسل شخصا يتعقبها فهو يريد أن يعرف أين تعيش بل يتطلع كي يعرف كل شيء عنها وبأدق التفاصيل
على الطريق السريع انطلقت سيارة البنتلي السوداء كطيف هارب من ماض مؤلم
جلست سيرين صامتة تطالع الأروقة من خلف زجاج النافذة وعيناها تائهتان بين الظلال والأضواء كان بداخلها سلام غريب كأنها سقطت في فراغ بلا نهاية
لكن وجود طارق في المقپرة لم يكن مجرد مصادفة
ذكرياته وهو يتنمر عليها لم تبهت كانت لا تزال محفورة في زوايا عقلها في جسدها الذي حمل ندوبا لا ترى في أذنيها اللتين كانتا ضعيفتي السمع منذ البداية وزادت حالتهما سوءا بسبب نوبات الڼزيف التي كانت تصيبها كلما غمرتها العواطف وكل هذا بسببه
كيف يمكن ألا تكرهه
أحيانا كانت تتساءل ماذا لو لم تنقذه في ذلك اليوم هل كانت ستعيش حياة طبيعية الآن بلا آلام بلا عواقب ذلك القرار الطائش
لكن الندم لم يكن رفاهية متاحة كان هناك شيء أهم شيء أقوى من كل الچروح القديمة
نوح
كان عليها إنقاذ نوح بأي ثمن
ولهذا تظاهرت بأنها لم تعرف طارق وكأنه مجرد وجه آخر في زحام المدينة فلا حاجة لإثارة المتاعب ولا حاجة لتوريط نفسها في حرب جديدة خاصة
وهي تعلم يقينا أنه سيفعل أي شيء من أجل دينا
في طريق العودة حيث كان الليل قد أسدل أستاره الثقيلة على المدينة تلقت سيرين اتصالا مفاجئا من وكالة Carnival Central Media
كان الهاتف يرن بنغمة مألوفة تسربت إلى أذنيها كهمس القدر فأجابت بصوت محايد لكنها كانت تعلم أن المكالمة تحمل في طياتها أكثر من مجرد عرض عابر
جاءها صوت واثق من الطرف الآخر يحمل نغمة رسمية تموج بالحماس
هل هذه السيدة ساسو نحن من أشد المعجبين بأعمالك وقد بلغنا أنك أصدرت مقطوعة موسيقية جديدة ونحن نود الحصول على حقوقها فلا تقلقي بشأن المال فهو آخر ما قد يشغل بالك
كان هذا العرض قادما من أكبر وكالة مواهب تابعة لمجموعة نصران حيث تعمل دينا المغنية الشهيرة وأحد أنجح الأسماء في صناعتهم
↚
أما عن سيرين التي لم تكن مجرد مديرة لشركة تجارية بل أيضا مؤلفة موسيقية مرموقة تتخفى تحت الاسم المستعار ساسو كانت قد خططت لكل شيء بدقة إذ تعمدت نشر أخبار عن مقطوعتها الجديدة قبل عودتها إلى الوطن لكن ليس طمعا في البيع بل طمعا في اقترابها من ظافر
الآن وبعد أن صار ظافر في متناول أنظارها لم تعد هناك حاجة لبيع موسيقاها على الإطلاق
بهدوء محسوب أجابت
آسفة لا أفكر في التعاون حاليا
لكن المديرة على الطرف الآخر لم تستسلم بسهولة فتابعت بإصرار
سيدة ساسو نحن مستعدون لجعل نجمتنا اللامعة السيدة دينا تؤدي الأغنية تخيلي مدى النجاح الذي ستحققه حينها
قاطعها صوت سيرين الذي جاءها جافا كسيف يشهر في وجه العروض الفارغة
لو كان المغني شخصا آخر ربما كنا سنكمل هذه المحادثة
ثم بكل هدوء أنهت المكالمة
في المقر الرئيسي ل Central Media كانت سيمون مديرة أعمال دينا تحدق في هاتفها غير مصدقة
للحظات ظلت صامتة كمن يحاول استيعاب الصڤعة التي تلقتها للتو ثم استدارت نحو دينا التي كانت تجلس مسترخية تتأمل أظافرها المصقولة بملل وقالت
ديدا السيدة ساسو رفضت العرض
رفعت دينا حاجبا في دهشة خفيفة قبل أن تميل برأسها قليلا وتقول بنبرة بطيئة وكأنها تحاول استيعاب الأمر
ألم تخبريها أنها تستطيع تحديد السعر الذي تريده
فعلت ردت سيمون وهي تهز رأسها لكنها رفضت رغم ذلك
كانت سيرين أو ساسو كما يعرفها العالم ظاهرة فنية خارج الحدود كل مقطوعة موسيقية تصدرها تتحول إلى نجاح ساحق حتى أن أغنيتها الشهيرة فتاة مشټعلة تمت ترجمتها إلى عدة لغات وحققت جميع إصداراتها انتشارا غير مسبوق
أما دينا فقد توقفت مسيرتها عند مفترق طرق فكانت بحاجة إلى أغنية تضخ الحياة في شهرتها المتراجعة
حدقت في سيمون للحظة ثم سألتها بصوت منخفض لكنه مشحون بالڠضب
المكتوم
هل كانت تعلم أنني سأغنيها
أومأت سيمون برأسها ثم أعادت على مسامعها الكلمات القاطعة التي ألقتها سيرين قبل أن تغلق الهاتف
في تلك اللحظة تغير وجه دينا حيث كانت نظرتها تحمل مزيجا من الدهشة والإهانة والڠضب الممزوج بكبرياء جريح ثم بعد لحظات تكلمت بصوت بارد
من تظن نفسها عليها أن تكون ممتنة لأنني فكرت حتى في الغناء لها!
لكن سيمون التي تعرف تماما كيف تسير الأمور في هذه الصناعة اقتربت منها وقالت بنبرة خبيثة
دينا أليس السيد طارق صديقك وكذلك السيد نصران أراهن أنه لن يكون من الصعب الحصول على الأغنية إذا قررا التدخل
ارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتي دينا لم تكن سوى شرارة أولى لشيء أكبر يحاك في الخفاء
رواية عشق لا يضاهى بقلم أسماء حميدة
الفصل 32
كانت ملامح دينا شاحبة وكأن ظلا ثقيلا من الحيرة والضيق قد ألقى بنفسه فوق قسماتها لم تفهم بعد ما الذي يجري لكن شيئا ما في طارق تغير جذريا خلال السنوات الأربع الماضية وكأنه لم يعد ذلك الرجل الذي عرفته إذ كان دوما ما يشيح بوجهه عن كل مطالبها يتجاهلها بصمت قاټل كأن بينهما جدارا شفافا تراه ولا تستطيع اختراقه
أما عن ظافر فلم تكن دينا واثقة من أنه سيكون عونا لها لكنه كان من أولئك الرجال الذين لا يعجزون عن ترويض المستحيل
لكن دينا لم تكن ممن يطلبون شيئا ولا يحصلون عليه
قالت بلهجة قاطعة تحادث ظافر وعيناها تضيقان كما لو كانت تحاصر الهدف في ذهنها
ابحث عن طريقة يا ظافر أي طريقة لا يهم كيف المهم أن أحصل على أغنيتها
عندما أنهت سيرين المكالمة مع سيمون كانت عيناها كبحرين متجمدين لا أثر للدفء فيهما
لم يكن في هذا العالم من يعرف دينا أكثر منها فقد تشاركتا ذات الطرق واصطدمتا بذات الأقدار
في عالم الترفيه والموسيقى لم تكن دينا إلا ذئبا في ثوب فنانة تعرف جيدا كيف تتسلل إلى عقول الآخرين وتقتنص جهدهم
ولولا ظافر وطارق اللذان قدما لها دعمهما المطلق دون قيد لما استطاعت أن تصل إلى ما وصلت إليه لكنها كانت بارعة في استغلال الفرص تتغذى على طيبة الآخرين كما يتغذى الطفيلي على عائله لكن سيرين فكانت مختلفة مختلفة جدا
كيف لا وهي التي عرفت معنى العزلة في قلب الضوضاء كانت تعيش في عالم الصوت لكنها لم تسمعه كما يسمعه الآخرون
ضعف سمعها كان حاجزا جدارا يعزلها عن كثير مما يمر به الآخرون دون أن يدركوه لكن رغم كل هذا إنها أبدا لم تستسلم فقد خلقت موسيقاها من قلب الصمت نحتت ألحانها كما ينحت فنان بارع تمثالا من صخر بضربات من الإرادة لا تعرف اللين
لسنوات كرست نفسها لرعاية زكريا ونوح وفاطمة كانت لهم جميعا بمثابة الأم والأخت والسند الذي لم يتزعزع يوما إذ صنعت من تعبها حياة كريمة لهم فكيف يمكنها أن تبيع موسيقاها لدينا مقابل المال المال وحده لم يكن يوما كافيا ليملأ الفراغات التي يعرفها قلبها جيدا
عادت سيرين إلى مسكنها الجديد وبمجرد دخولها وضعت هاتفها جانبا وولجت إلى الحمام تاركة الماء الساخن ينساب فوقها يغسل تعب الأيام من روحها لكن الإرهاق كان أثقل من أن يغسله الماء وحده وما إن أغلقت عينيها للحظة حتى سقطت في سبات عميق هناك في حضڼ الماء
استيقظت على رنين هاتفها الأرضي اللاسلكي المتواجد بغرفة الاستحمام ففتحت عينيها ببطء وكأنها تحاول استيعاب أين هي ومن ثم رفعت سماعة الهاتف برفق جاءت المكالمة من كوثر
ساسو
سأعود خلال بضعة أيام
ارتدت سيرين رداء الاستحمام وخرجت إلى غرفتها تبتسم وهي تقول
سأستقبلك بأجمل ترحيب حين تعودين
سمعت سيرين
صوت كوثر الذي يفيض بالقلق من الطرف الآخر وهي تتساءل باهتمام بالغ
أخبريني كيف حالك مؤخرا هل لا زال ظافر يعاملك بفظاظة وتلك الحية دينا هل علمت أنك عدت
لم تحتج سيرين إلى التفكير طويلا قبل أن ترد وكأن كلماتها ولدت من يقين لا يتزعزع
تقدمت نحو النافذة وفتحتها قليلا فاندفع نسيم الهواء يداعب وجنتيها فأغمضت عينيها للحظة ثم قالت بصوت هادئ لكنه يحمل بين طياته شيئا من الصلابة
دينا لم تعلم بعد لكنها ستعرف قريبا
أما ظافر فابتسمت بخفة وهي تتنفس بعمق وكأنها تذيب في داخلها أي أثر للخوف ثم أردفت كمن تلقن نفسها قبل أن تخبر كوثر
لا تقلقي لن أسمح له بأن
↚
يخيفني
بينما كانت سيرين تتحدث إلى صديقتها عبر الهاتف اخترق رنين جرس الباب صمت الليل كخيط من ڼار يقطع ستار السكون
التفتت نحو الباب وهي تنظر إلى عقارب الساعة المعلقة على الجدار بتوجسإنها التاسعة مساء فتساءلت بينها وبين حالها من قد يأتي في مثل هذا الوقت
دون وجود رامي حارسها الشخصي شعرت سيرين بوخزة قلق تتسلل إلى صدرها إذ كان دائما هناك كظل لا يفارقها لكنه لم ينل قسطا من الراحة منذ أيام لذا ألحت عليه أن يأخذ استراحة مما ترتب عليه أن يتركها لبعض الوقت طرقت سيرين جبينها بوهن وهي تلوم نفسها فهذا القرار لم يكن صائبا الآن
نزلت الدرج بخطوات حذرة وقلبها أخذ يخفق بشدة وكأن طبوله تعلن عن شيء مجهول
وقفت للحظة أمام شاشة المراقبة تتأملها بأعين مستديرة وعندما رأت من يقف عند الباب اختنق الهواء في رئتيها وتوقف بها الزمن لوهلة أو هكذا خيل إليها تمتمت بصوت خاڤت
اللعڼة!! إنه ظافر
كان واقفا هناك وجهه محفور بجمود الليل وعيناه مشتعلتين كجمرتين تحت ضوء الشارع الشاحب وجوده الآن وفي هذا التوقيت لم يكن كضيف عابر بل كمصير محتوم طرق بابها أخيرا
تحجرت قدماها للحظة لكن عقلها أدرك أنه لا يوجد سبب يمنعه من الدخول لذا مدت يدها المرتجفة وفتحت الباب
في هذه الأثناء كانت لا تزال ترتدي رداء الحمام وخصلات شعرها المبللة انسدلت كسيل داكن على كتفيها ورائحة الورد الممزوجة بدفء جسدها تفوح بتمرد في الهواء
استندت إلى الباب وعيناها تفيض بسحر خفي ومن ثم ابتسمت بخفة وقالت
كنت أتساءل عمن يجرؤ على طرق بابي في هذا الوقت المتأخر السيد ظافر!! هل تحتاج إلى شيء
ثبتت نظراته عليها كما لو كان يحاول سبر أغوارها لم تكن كما كانت من قبل لم تكن تلك الفتاة التي
عرفها بل امرأة تكسرت تحت سطوة الزمن ثم أعادت تشكيل نفسها بيدها بصلابة لا يعرفها عنها
أجاب بصوت هادئ لكنه مشحون بالتوتر
جئت لأحدثك عن لقائنا
ضاقت عيناه قليلا كمن يزن كلماته بحذر لكن نظراته الهائمة بها قالت ما لم ينطق به لسانه
تسلل التوتر إلى أطراف سيرين وشعرت بحرارة
نظراته تشتعل على بشرتها حاول بكد أن تتماسك وقالت بنبرة متوازنة
لا تخبرني أنك تنوي مناقشة الأمر هنا وأنت لا تزال واقفا عند الباب
وكأن كلماتها كانت إشارة خضراء فتحرك ظافر على إثرها يخطو إلى مخبأها بخطوات رصينة تحمل من الثقة ما جعل ثباتها المزعوم يتبخر ولكنها أجادت تصنع عدم الاكتراث
وفي لحظة واحدة لا تتخطى طرفة عين اندفع نحوها مغلقا الباب خلفه بحركة سلسة فوجدت نفسها ودون عناء منه محاصرة
تغيرت حرارة المكان فجأة وتصلبت أنفاسها بينما كانت عيناه تجولان بحرية وتمهل تتشربان ملامح وجهها تتفحصان تفاصيلها كما لو أنه يراها لأول مرة
لم يمنحها فرصة للنطق
ثم وببطء مدمر رفع يمينه برفق لكن قبضته المحكمة أخبرتها أنها لن تفلت منه بسهولة
التقط ظافر خصلات شعرها التي التصقت بجبينها
كانت عيناه حائرتين بين فيروزيتيها وشفتاها المرتجفتين وذلك التوتر الذي رسمته فوق صدرها المرتفع مع كل نفس
كانت لحظة واحدة بمثابة طيب فاح ليغلب على رائحة عطن دام لسنوات يؤرق مضجعها بسبب جفاءه لها وزهده الذي أمات الأنثى التي بداخلها ونبضات قلبين يتصارعان بين الماضي والحاضر
عشق لا يضاهى تمصير أسماء حميدة
الفصل 33
كانت أنامل سيرين المستريحة على كتفيه متوترة وجسدها بدأ يرتجف بشدة وهي تتذكر ليلتهما الوحيدة معا قبل اختفاءها ومدى القسۏة التي عاملها بها تلك الليلة فهو لم يراعي انعدام خبرتها ولم يتمكن من احتواء مشاعر الرهبة لعذراء مثلها تمر بتجربة أولى
عندما شعر ظافر بتلك الارتعاشة الجلية التي سرت بأطرافها حرر خصرها من بين ذراعيهه كهمس الريح في ليلة ساكنة قوية في تأثيرها عميقة في أثرها.
ظل ظهر سيرين مستقيما متيبسا كوتر كمان يرفض الاستسلام لأنامل العازف حاولت كبح مشاعرها تذكر نفسها بأن هناك من ينتظر عودتهانوح وزكريا طفليها اللذين لم يفارقا تفكيرها للحظة.
كما أن ظافر ورغم كل شيء لا يزال زوجها أمام القانون فطلاقهما لم يستكمل بعد وذلك الخيط الرفيع الذي يربطهما لم ينقطع تماما.
أغمضت عينيها تاركة الأفكار تتلاطم داخلها كأمواج بحر هائج كان عليها أن تجاري ظافر أن تنحني للعاصفة حتى تمر حتى تحقق ما جاءت لأجله.
طفل آخر الخلايا الجذعية الأمل الوحيد لإنقاذ نوح بعد أن أثبتت الفحوصات أن زكريا توأمه لن يستطيع التبرع له إذ أن هذا قد يتسبب في خطړ بالغ على حياة الأخير وذلك بسبب ولادتهما المبتسرة لذا لم يكن أمامها سوى خيار واحد خيار يتجسد أمامها الآن في هذا الرجل الذي طالما أشعل ڼارا في قلبها والآن تحاول أن تستخدم تلك الڼار لإنقاذ حياة شخص آخر... شخص لن تبخل لنجاته بحياتها لو تطلب الأمر إنه صغيرها نوح.
استشعر ظافر ترددها فالتصق بها أكثر كمن يحاول إذابة جدار جليدي يفصل بينهما.
في البداية بدا عليه الاندهاش بعد ملاطفته لها وتفهمه لخۏفها عكس السابق لكنه ما لبث أن استرخى وشيئا فشيئا بدأ بإزاحة الحواجز الأخيرة التي تفصل جسديهما في صمت بينما كان حواس ظافر تلتقط عبير ونعومة بشرتها تلك الرائحة الشهية التي امتزجت ببقايا الماء الدافئ الذي ينساب من خصلاتها حتى عنقها فاشتعلت بصدره رغبة قوية لا يمكن كبحها.
رفعها بين ذراعيه كأنها شيء ثمين يخشى أن ينكسر وأسندها برفق على الأريكة في غرفة المعيشة.
أشاحت سيرين بوجهها بعيدا عنه تتجنب النظر إليه وعيناها معلقتان بسقف كمن تهرب إلى عالم آخر تحاول ألا ترى ما يحدث أو ربما لا تريد أن تواجهه. قبضت يديها على طرف الأريكة بقوة كأنها تمسك بخيط واه من مقاومة تتلاشى.
لكن طيف دينا لم يفارقها الصور التي أرسلتها إليها رسائلها التي تقطر سخرية وسما ترددت في عقلها كصدى مؤلم.
سيرين هل أخبرك ظافر يوما أنه يحبك كان يقولها لي طوال الوقت
اقتربت أنفاسه الحارة التي لامست بشرتها تلاحقها كظل يسبق الليل فأحست بقشعريرة تتسلق عمودها الفقري لكن كان هناك شيء بداخلها عجزت عن تجاهله صړخة خفية تحاول أن تخرس النبض الذي بدأ يعزف لحنا سريعا داخل صدرها لذا لم تجد مهربا إلا بالكلمات فخرجت منها همسة مرتجفة بالكاد قاومت انكسارها
إني خائڤة.
تصلبت عضلاته كما لو أن كلماتها كانت جليدا انسكب على جمره رمقها بعينين متحفزتين تحملان بين طياتهما عاصفة لم تهدأ بعد.
زم شفتيه بقوة فأصبحتا كخيط مشدود وكأنه يجرع مرارة رفضها له وذلك قبل أن يهمس بصوت منخفض لكنه مشحون بالڠضب المكتوم
سيرين هل ستتظاهرين معي بعدم المعرفة!
انكمشت داخل رداء الحمام وكأنها تحاول الاحتماء من طوفان قادم لا مفر منه.
أخذت نفسا عميقا ثم قالت بصوت بدا ضعيفا لكنه يحمل نبرة تحد
لا أعرف عم تتحدث
حدق بها وأطياف الماضي تتسرب
إلى عينيه بلا استئذان لم يكن بحاجة إلى تذكير كانت هناك ليلة محفورة في ذاكرته مثلما حفرت بعقلها للآن ليلة لم يستطع أن يطويها في صفحات النسيان ليلة غيرت كل شيء
أحكم أصابعه حول راحة يده يشد على قبضته حتى برزت عروق يديه في محاولة منه لكبح عاصفة تجتاح صدره ثم دنا إليها وعيناه تضيقان بشك لم ينطفئ
لماذا عدت هذه المرة ما الذي تخفيه عني
لأربع سنوات كانت سيرين شبحا اختفت كأن الأرض ابتلعتها لم يكن ليصدق أنها عادت الآن للا شيء حتما هناك سر وراء ظهورها المفاجئ.
تسارعت نبضاتها خائڤة من أن تلتقط عيناه أثر زكريا ونوح على ملامحها لم يكن يجب أن يراها لم يكن يجب أن يحدث هذا اللقاء أبدا إنها مخاطرة كبيرة قد تتسبب بوقوع کاړثة هكذا أخذت توبخ نفسها.
↚
لكنها لم تكن لتدع خۏفها ينكشف لذا ابتسمت ببرود وعينيها تحاولان إخفاء ارتجافة قلبها وقالت
سيد ظافر هل أصابك جنون العظمة صحيح أنك رجل ذو نفوذ لكنني لست فقيرة ولا ضعيفة عدت فقط لأساعد أولئك الذين ولدوا بنقص كما ولدت به.
ثم بخطوة واثقة خلعت سماعة الأذن ووضعتها في كفها أمام ناظريه ترمقه بعينين متحديتين
قلت إنك تعرفني إذن يجب أنك تعلم أنني ولدت بضعف سمع.
ظل صامتا يحدق في السماعة وكأنها تحمل سرا لم يكشف بعد.
لكنه لم يبتعد بل اقترب أكثر حتى باتت أنفاسه تلفح وجنتيها ونبضات قلبها تتردد في الهواء بينهما.
بما أنك تدعين أنك لا تعرفينني صوته كان أهدأ من الريح قبل العاصفة لكن نظراته كانت تقول العكس
أخبريني ماذا كنت تفعلين أنت وكارم طوال السنوات الأربع الماضية
كانت أنفاسه ساخنة تلفح بشرتها وكأن المسافة بينهما قد تلاشت فقط جسديهما اللذان يتحدثان بلغة لا تحتاج إلى كلمات.
لكن سيرين لم تتراجع لم تدع الذكريات تسقط دفاعاتها فنظرت إليه بعينين تحملان شيئا أشبه بالشفقة وقالت
سيد ظافر بالتأكيد أنت لن تهتم بماضي إلا إذا كنت تحمل مشاعر تجاهي أليس كذلك
في تلك اللحظة فقط قد أصابته في مقټل فانقبض صدره وتركها فجأة كمن هرب من شعور لم يكن مستعدا لمواجهته.
نظر بعيدا محاولا أن يخفي ارتباكه تحت قناع اللامبالاة وقال بصوت أجوف
أنت تفكرين في الأمر أكثر مما ينبغي.
لكنها كانت تعرفه جيدا ظافر لم يكن رجلا يخدع بسهولة ولم يكن رجلا ينسى بسهولة.
لكنها لم تعد تهتم.
لم يعد يهمها شيء طالما أن لديها فرصة واحدة لإنقاذ زكريا ونوح.
رن هاتفها فجأة بمكالمة فيديو فنظرت سريعا إلى الشاشة كانت تعرف من المتصل إنه زكريا لا بد وأنه قد قلق عليها لذا أراد الأطمئنان.
بهدوء وكأنها تخشى أن ينكشف سرها سحبت الهاتف تضغط على زر الإغلاق ثم التفتت إلى ظافر الذي لم يغب عنه أي تفصيلة من تصرفاتها.
قالت بنبرة هادئة لكنها تحمل أكثر مما قد يظهر على السطح
مكالمة غير مرغوب فيها.
ثم رفعت نظرها إليه وكأنها تجره إلى فخ جديد
ألم تكن تريد أن تخبرني كيف نعرف بعضنا البعض سأحضر بعض النبيذ ونتحدث بهدوء.
لم تكن تريد إطالة الحديث لم يكن لديها وقت لتبديده كان عليها إنهاء كل شيء الليلة والرحيل إلى الأبد حتى لا تقع بفخ عشقه المذل مرة أخرى لذا صعدت إلى الطابق العلوي حيث انتظرتها خطتها بصمت زجاجة نبيذ علبة منوم وبعض الأدوات الطبية.
لم يكن عليها سوى أن تلعب
دورها ببراعة كي تحصل على مرجاها ولكن بطريقة معقدة
عشق لا يضاهى بقلم أسماء حميدة.
الفصل 34
كانت الغرفة غارقة في ضوء خاڤت انعكست ألوانه القرمزية على جدرانها كأنها تخبئ خلفها أسرارا لم تحك.
رائحة الشراب المعتق امتزجت بعطرها الثقيل فصار الهواء بينهما مشبعا بالإغواء والخداع.
أمالت سيرين الزجاجة ببطء فانسابت قطرات الشراب في الكأس كما ينساب الحبر على صفحة بيضاء تحمل في طياتها قصة لم تكتب ومن ثم وضعت الزجاج على الطاولة برفق واستدارت متهادية في خطواتها كنسمة صيفية ساخنة وقد زين جسدها ثوب نوم يشبه وشاحا من الحرير أسدل عليها ليضاعف من فتنة المشهد.
وقفت أمام ظافر عيناها تشعان بريقا حماسيا وكأنها مقدمة على أشد معاركها ضراوة بل وستقاتل حد الاستماتة.
مدت يدها بالكأس نحوه وجاء صوتها ناعما كموسيقى خاڤتة
ها هو كأسك سيد ظافر.
رفع نظره إليها عيناه تتفحصانها كما لو كان يقرأ سطورا خفية في رواية غامضة.
بتمهل مد يده ليأخذ الكأس منها لكن شفتيه ظلتا متمهلتين عند حافته كمن يتذوق الخديعة قبل أن يتذوق الشراب ثم ابتسم ابتسامة هادئة ويمينه الحاملة للكأس انسدلت ليسنده أمامه على الطاولة وبخفة زج الكأس على السطح الأملس ليصبح أمامها مباشرة دون أن يرتشف منه قطرة واحدة وألقى كلماته كحجر في بحيرة راكدة
عدت إلى المدينة من الريف عندما كنت في العاشرة من عمرك كانت تلك أول مرة نلتقي فيها.
تصلبت أصابعها للحظة فهي لم تكن تتوقع أنها تحتل ذاكرته بهذا الوضوح أو أنه يحتفظ بلحظة كتلك كان من الممكن أن تكون عابرة لكنها سرعان ما استعادت قناعها وأعادت الكأس إليه مجددا محاولة أن تبقي زمام الأمور في يدها إلا أن ظافر وبحركة مفاجئة دفع يدها برفق فتراجع الشراب في الكأس كأمواج مد وجزر وعاد إلى مكانه كأنه يرفض الانصياع.
نبرته حملت أمرا لا يقبل المساومة
اشربي أنت أولا!
ترددت للحظة عندما تسللت نظراتها إلى الشراب المخدر لكن ملامحها لم تفصح عن شيء بل والتقطت الكأس ترفعه إلى شفتيها ثم ابتلعت رشفة طويلة.
أحست بمرارة الشراب الحادة بحرارته التي انزلقت في حلقها كجرعة من الچحيم لكنها لم تتراجع لم يكن لديها خيار آخر فهي لو بدا عليها شيء من التردد لأدرك ظافر الخدعة وهو رجل عاش سنوات طويلة في دهاليز الأعمال يتقن قراءة الأنفاس قبل العيون ويكتشف الكذب حتى في الصمت.
وضعت الكأس جانبا ثم سحبت الزجاجة مجددا وسكبت له كأسا آخر بيد ثابتة وقربته منه ببطء
دورك يا سيد ظافر.
تأملها بصمت وأصابعه أخذت تداعب حافة الكأس لكنه لم يرفعه إلى شفتيه وبدلا من ذلك مال برأسه قليلا وهو يرسم على ثغره تلك الابتسامة التي تحمل بين طياتها شيئا أشبه بالمصيدة يقول بمماطلة
لا داعي للعجلة. دعينا نستعيد الذكريات أولا... فكيف يمكن لحكاية عمرها أكثر من عشر سنوات أن تروى في عجالة
كان صوته هادئا لكن في عمقه بحرا من الشكوك والحكايات المخبأة
بالأدق لا زال هناك الكثير من الأسرار التي لم تكشف بعد.
عبست سيرين وكأنما سحب الهواء من رئتيها ورغم دوران المكيف في الغرفة إلا جبينها بدأ في التعرق كما لو أن حرارة مشاعرها الداخلية تعاند برودة المكان وزادها عليها سريان مفعول الأقراص المنومة في ډمها.
غرست سيرين أظافرها في راحة يدها بتلقائية في محاولة منها لتبقي نفسها على أرض الواقع وألا تستسلم لهذيان الأفكار التي تلتهمها.
رفعت عينيها إلى ظافر ترمقه بنظرات هادئة لكنها تحمل ما يكفي من الزلازل الصامتة ثم قالت بصوت منخفض خاڤت لكنه نافذ
لدينا متسع من الوقت للتذكر لاحقا تأخر الوقت الآن ألا تريد أن نفعل شيئا آخر
التقطت كأس الشراب بيد مرتجفة قليلا ومن ثم ناولته إلى ظافر بحركة محسوبة في حين أنها لم تكن متأكدة إن كان تناوله للمشروب سيحدث فرقا وستتمكن منه بحالتها تلك ولكنها بجميع الأحوال لم تكن مستعدة لتضييع هذه الليلة في الجدال.
في عينيه اشټعل شيء غامض مظلم لوهلة لم يعد يرى سيرين أمامه بل صورة أخرى وجها آخر... وجه كارم الرجل الذي كان يشاركها الأسرار ذاتها لأربع سنوات في الخفاء في
↚
الظلال.
أطبق ظافر على معصمها فجأة بقبضة حديدية فأخذ نبض سيرين يتسارع وبدأ الألم والخۏف يتسربان إلى أعماقها ومن ثم رمقها بنظرات سامة يقول من بين شفاهه المزمومة
هل هذه هي الطريقة التي أغويت بها كارم أيضا
تجمدت بمكانها عقب نطقه بكلماته المشينة كان صوت ظافر أشبه بشفرة جليدية تنزلق على جلدها فهي لم تكن تتوقع هذا الانفجار ولا هذا الاتهام الذي كان أشبه بصڤعة على وجهها ومع ذلك استكمل باستفزاز مردفا
هل تخلى عنك هل هذا هو سبب عودتك إلي ماذا تظنينني!
ارتعشت أصابعها وفي غمرة التوتر أفلتت الكأس من يدها فټحطم زجاجه على الأرض شهدت چريمة غير معلنة وبقسوة لا ترحم دفعها ظافر بعيدا عنه وكأن مجرد لمسها صار يدنسه.
كانت عيناه مليئتان بالازدراء وشفتيه تحملان سخرية قاټلة قبل أن ينطق بكلماته الأخيرة قبل الرحيل
قڈرة!
أحست بجدران الغرفة تدور من حولها لكنها لم تتهاو في حين أن قبضتها انغلقت بقوة وكأنها تمسك على جمر من الڠضب.
ظل صوت ظافر ظل يتردد داخلها كصدى چرح لم يلتئم بعد فارتسمت على ثغرها نصف ابتسامة مريرة ولكنها حملت كل الاحتقار الممكن.
قڈرة! ومن يكون أكثر قذارة منك يا ظافر
لم يحبها أبدا ومع ذلك لم يتردد في أن يجعلها له وقتما شاء وحينما لم يعد بحاجة إليها صار يتظاهر بالنبل! يا للسخرية.
لكن لم يكن هناك وقت للغرق في الذكرى فبعد لحظات بدأ تأثير الدواء يتصاعد داخلها شعرت بارتباك بحرارة تشتعل تحت جلدها بجسدها الذي لم يعد ملكها.
زحفت إلى الحمام ومن ثم فتحت صنبور الماء البارد إلى أقصى حد
ووقفت تحته لتدع المياه تضربها بقسۏة وكأنها تسعى إلى تطهير ما لم يطهر.
أخذت تحك ذراعيها پجنون لكن حتى الألم لم يكن كافيا ليهدئ العاصفة التي ماجت بداخلها.
في هذه الأثناء رن الهاتف في الخارج لكن أذنيها لم تعد تسمع شيئا سوى هدير الماء فوق رأسها بقيت هناك لا تعرف كم مر عليها من الوقت. سوى جرحها.
مرت نصف ساعة
وفي غمرة السكون الذي كان يلف المكان دوى صوت الباب يفتح بالقوة كان صدى ارتطامه يتردد بكل ركن في القصر بل وطغى على صوت الماء المتساقط.
وفجأة دخل رجل طويل القامة برداء أسود كليلة بلا قمر وجهه بارد جامد كتمثال خرج للتو من الچحيم.
أخذت عيناه تفترسان الظلال وجسده يتحرك بثقة قاټل يعرف طريقه جيدا.
في تلك اللحظة رفعت سيرين عينيها ببطء وكأنها تستقبل قدرها.
عشق لا يضاهى بقلم أسماء حميدة
الفصل 35
انفتح الباب على مشهد أشبه بلوحة مرسومة بريشة الألم.. كانت سيرين مرتدية ثوب نومها الحريري متكورة على حالها في إحدى زوايا الحمام ومياه الدش ما زالت تنهمر بلا توقف تبلل خصلات شعرها وتلتصق بثنايا جسدها المرتجف... ذراعيها وساقيها كانتا مرصعتين بخدوش حمراء كشقوق في جدار هش وكأن جسدها يروي قصة صراع صامت.
بخطوات سريعة اندفع رامي نحوها يغلق الماء بيد ثابتة ثم التقط رداء الحمام وألقاه برفق فوق جسدها المرتعش يلفها بأمان افتقدته طويلا.
انحنى رامي قليلا وقال بصوت يحمل قلقا حقيقيا رغم نبرته القوية
هل أنت بخير
لكن الصوت رغم حدته بدا كهمس ضائع وسط دوامة الدوار التي سحبت سيرين إلى عالم رمادي.
أغمضت عينيها لثوان تحاول استجماع شتات نفسها ثم فتحتها ببطء كانت نظراتها غائمة كسماء توشك على المطر وتمتمت بصوت بالكاد يسمع
أنا بخير...
لكن رامي لم يقتنع فمد يده إليها بحزم
سآخذك إلى المستشفى.
ارتعش جسدها للحظة قبل أن تستعيد قوتها فجأة وتتفادى يده عضت على شفتيها بقوة تحبس صړخة عالقة في حلقها ثم همست بلهجة قاطعة
لا.
حدق فيها رامي بتمعن مشوب بالدهشة لكنه لم يقاطعها فأكملت بصوت مهزوز وهي تجاهد لإبقاء أسرارها في مأمن
كل المستشفيات في المدينة تحت سيطرة عائلة طارق... وهو يعلم بالفعل أنني عدت... وإذا اكتشف أنني تناولت شيئا فسيخبر ظافر بلا شك... وإذا علم ظافر أن النبيذ لم يكن نظيفا فسينهار كل شيء ولن أتمكن من الاقتراب منه مجددا...
تعثر صوتها في آخر الكلمات وكأنها بالكاد وجدت أنفاسها لإكمالها.
أربع سنوات... أربع سنوات على زيف المۏت الذي رسمته بيديها على الخديعة التي حبكتها بخيوط من الخطړ.. فلولا أساليب كارم لما تمكنت يوما من إبعادهم عنها لكن الآن لم يعد كارم هنا...
الآن لو دخلت المستشفى فستكون كمن يضع رأسه في فخ منصوب بإتقان إذ لن تمر دقائق حتى تصل الأخبار إلى طارق وبعدها سينهار مخططها بأكمله.
كان رامي قد لمح النبيذ المسكوب في غرفة المعيشة عندما دخل ففهم معظم القصة دون أن يحتاج إلى شرح.
زفر ببطء وتقاطع حاجباه في عبوس عميق يقول بضيق
لكن جسدك...
استوقفته تقول بصوت متماسك هذه المرة رغم وهنها
أحضر لي بعض الثلج.
ظل يحدق بها للحظة ثم أومأ بخفة يجيبها
حسنا.
اختفى في المطبخ وعاد بعد لحظات يحمل كيسا من الثلج ومن ثم ألقاه في حوض الاستحمام فتسرب البرد عبر الهواء وكأنه يطفئ الحريق المستعر في عروقها.
تنفست بعمق كأن روحها ټغرق في بحر جليدي يمنحها هدنة قصيرة من الألم.
لم يمض وقت طويل حتى عاد رامي بمستلزمات الإسعافات الأولية جلس على الأرض بجوارها وبدأ في تطهير الچروح بصمت دون أن ينطق بكلمة وبعد أن انتهى حملها برفق وهو يتفادى
ملامسة مناطقها الأنثوية مراعيا چروحها التي توقفت عن الڼزف توا.
نظرت سيرين إلى ذلك الوجه الصارم الذي أخفى قلقا دفينا تحت ملامحه الحادة وقالت بصوت يحمل في طياته امتنانا نادرا
شكرا لك.
لم يرد بل اكتفى بأن نهض بهدوء ثم اتجه نحو الباب ليقف حارسا كما اعتاد... وعيناه تراقبان الظلال وأصابعه تستعد لإرسال رسالة إلى كارم رسالة تقول
كل شيء تحت السيطرة... حتى وإن لم يكن كذلك.
زكريا ورغم صغر سنه إلا أنه لم يكن من النوع الذي يتجاهل الإشارات فحين قطع الاتصال فجأة شعر بوخزة قلق تسللت إلى صدره كأفعى تتلوى في الظلام لذا لم يتردد بل سارع على الفور بإبلاغ كارم... أما كارم فكان رجلا لا يعرف الهواجس العابرة لكنه في هذه اللحظة تحديدا شعر أن شيئا ما ليس على ما يرام فحاول الاتصال بسيرين لكن الهاتف ظل صامتا كقبر مهجور.
في هذه الأثناء ووسط هذا الغموض انقبض قلب كارم فتواصل على الفور مع رامي ذاك الشاب الذي لا يهاب اقټحام المخاطر وأمره بأن يطمئن عليها.
لم يتردد رامي لحظة بل كان كالسهم انطلق بلا تراجع وكأن العناية الإلهية اختارته ليكون المنقذ ليصل إليها في اللحظة التي كانت بحاجة فيها إلى يد تمتد وسط العتمة.
مرت ساعة طويلة تآكلت فيها آثار الدواء كما يتلاشى الضباب مع شروق الشمس.
وقفت سيرين أمام المرآة تتفحص وجهها الذي احتفظ ببقايا الإرهاق ومسحت الخدوش بمرهم بارد كما لو كانت تحاول محو آثار الليلة الماضية من جلدها وروحها معا.
↚
خلعت ثوبها المثقل بالذكريات القريبة واستبدلته بملابس جافة نظيفة كمن يسعى لارتداء حياة جديدة ثم خطت خارج الحمام حيث كان رامي لا يزال منتظرا صامدا كحارس بوابة الزمن.
تمتمت سيرين تقول بعرفان
شكرا لك على المساعدة... يمكنك أن تستريح الآن.
خرجت كلماتها واهنة كشهقة ريح عابرة فرفع رامي نظره إليها يتفحصها بأعين خبير يقرأ في وجهها ما لم تنطق به ثم اكتفى بإيماءة خفيفة وهو يقول
تمام.
لم يكن بحاجة إلى كلمات إضافية كانت عيناه تتحدث ونظراتها المرتبكة تجيب.
استدار بعدها وغادر تاركا وراءه صمتا مشحونا بالحلقات المفقودة.
حين أغلقت سيرين الباب خلفه شعرت بثقل الوقت وكأن الليلة قد طالت أكثر مما ينبغي.
جلست بوهن على طرف السرير ومن ثم التقطت هاتفها وأرسلت رسالة صوتية إلى فاطمة والآخرين تخبرهم أنها بخير... أو على الأقل تحاول أن تقنع نفسها بذلك.
ليلة بلا نوم
عاد ظافر إلى قصره لكن النوم كان أبعد ما يكون عن جفنيه وقف على الشرفة حيث كان الليل قد أرخى ستائره يلف المدينة بعباءته الداكنة.
أشعل سېجارة وسحب منها نفسا عميقا كأنه يحاول أن يبدد ضجيج أفكاره مع الدخان المتصاعد لكن الأفكار كانت أشرس من أن تطمس لم لا وطيف سيرين
أخذ يتجسد أمامه تحتل زوايا عقله بشراسة خصرها النحيل ملامحها التي تضيء في ذاكرته كوميض البرق تلك العيون التي تحمل في عمقها لغزا لم يستطع فك شفرته بعد.
تململ وهو يشعر بعطش غريب ليس عطش الماء بل ذلك العطش الذي لا يروى الذي يسري في العروق كحريق صامت.
لم يدرك كم مضى من الوقت حتى أحس بسخونة مفاجئة تطلع إلى أصابعه ليجد السېجارة قد احټرقت حتى بلغت جلده وكأنها تعيده عنوة إلى الواقع.
زمجر في ضيق يسب نجواها تلك التي أرقت عليه صفو لياليه ثم ألقى بقايا لفافته بعيدا وهو يلعن هذه العذابات التي أيقظتها سيرين في قلبه.
صباح ثقيل
مع أول خيوط الصباح توجه ظافر إلى مقر شركته يجلس خلف مكتبه الفخم لكنه لم يكن هناك حقا كان جسده فقط هو الذي استقر على مقعده بينما عقله لا يزال يسبح في بحار أفكاره المتلاطمة عنها.
دخل ماهر يحمل ملفاته المعتادة وبدأ يسرد التقارير بصوته الرتيب لكن ظافر كان يسمعه وكأنه مجرد صدى بعيد بلا معنى.
فجأة قطع الصمت بسؤال باغت ماهر
هل أتت سيرين
توقف ماهر للحظة ثم هز رأسه بنفي وقال بنبرة خاڤتة
سمعت أنها مريضة لذا لن تكون هنا اليوم.
قبض ظافر على حافة مكتبه وكأن الكلمات أثارت داخله شيئا لا يريد الاعتراف به.
صمت لحظة ثم قال بصوت قاطع
راقبها. لا أريد أي مفاجآت لا أرغب في أن تلقي على مسامعي لقد رحلت ولا أعلم إلى أين لن ترحل أسمعت! لن أدعها ترحل
نعم سيدي سمعت.
استدار ماهر ليغادر لكنه لم يكد يصل إلى الباب حتى التقى بدينا كانت ترتدي ثوبا فاخرا وكأنها خرجت لتوها من إحدى المجلات الراقية عطرها يسبقه بخطوة.
رفعت دينا حاجبها بفضول ثم سألته بصوت ناعم لكنه يحمل سخرية خفية
السيد ماهر من هو هذا الشخص الذي لا ينبغي له أن يرحل
تطلعت إليه بعينين تلمعان بدهاء تنتظر إجابته بينما في الخارج كانت الشمس تشرق ببطء لكنها لم تستطع أن تبدد الغيوم التي تجمعت داخل قلب ظافر
عشق لا يضاهى تمصير أسماء حميدة
الفصل 36
استمعت دينا إلى الجملة الأخيرة عابرة كمن يلتقط إشارة صوت قبل أن تتلاشى في الأفق شيء ما في وقع الكلمات أزعجها لذا لم تستطع سوى أن تجدها... غريبة.
ماهر لم يكن من أولئك الذين يتحدثون كثيرا بالكاد ألقى إليها بضع كلمات منذ التقيا ولم يبح لها بشيء يذكر.
لم تتعمق في الأمر لكنها شعرت بوخزة غير مرئية في صدرها وكأن ضغينة خفية بدأت تتشكل كغيمة ثقيلة لا تمطر لكنها تعكر الأجواء.
دون أن تفكر كثيرا سارت بخطوات واثقة نحو ظافر ثم قالت بصوت خاڤت لكنه محمل بغنج مصطنع بما يكفي ليصل إلى مستمعها إحساس بالنفور
ظافر السيدة شادية دعتنا للعشاء الليلة.
كانت تعلم أن العشاء ليس إلا قناعا لحوار أكثر عمقا محاولة أخرى لجرهما إلى دائرة الزواج وإنجاب الأطفال مجرد أمسية أخرى تتكرر بنفس السيناريو المحكم الذي أعدته العائلة مسبقا وظافر يتهرب في كل مرة أو يغلق الحوار فور بدأه.
رفع ظافر عينيه للحظة ثم أعادها إلى الأوراق أمامه وكأنه لم يسمعها قبل أن يجيب ببرود
فهمت.
راقبته دينا للحظات ثم أسندت جسدها إلى الأريكة في المكتب متظاهرة بأنها لم تلاحظ تجاهله وقالت بنبرة حيادية
أنا متفرغة اليوم سأنتظر معك هنا.
حينها فقط رفع ظافر رأسه ببطء وهو يضيق عينيه قليلا ينظر إليها نظرة من يزن كلماته قبل أن يطلقها ثم قال بسخرية مبطنة
متفرغة إلى هذه الدرجة
ارتبكت للحظة إذ لم تتوقع هجوما مباغتا كهذا وبينما كانت تحاول استيعاب المعنى المختبئ خلف كلماته أضاف ببرود أكثر
لا أحب أن يكون هناك آخرون حولي أثناء عملي.
وكأنها تلقت صڤعة غير متوقعة ففتحت فمها لترد لكن لا شيء خرج فقط صمت بارد شعرت معه أن الهواء أصبح أثقل مما ينبغي.
في النهاية ابتلعت شعورها لإهانته لها ووقفت بتماسك مصطنع تقول بصوت خاڤت لكنه مشحون بمكر
سأنتظر في الخارج.
لم يكلف ظافر نفسه عناء الرد فقط عاد إلى عمله كأن وجودها لم يكن.
خرجت دينا بخطوات ثابتة لكنها كانت تدرك أن في داخلها شيئا ما يتداعى لم يكن الأمر يتعلق بماهية علاقتهما سواء في الماضي أو الحاضر بل كان يتعلق به وحده... ظافر الذي ظل دوما كجدار جليدي لا يسمح لأحد أن يقترب منه وحدها سيرين من كانت تستطيع أن تتحمل هذا البرود دون قيد أو شرط.
بينما كانت دينا تسير في الممرات الطويلة محاولة تصفية ذهنها من دوامة الأفكار التي تطاردها وقع بصرها على المكتب الزجاجي الفارغ مكتب طارق.
شعرت بانقباضة خفيفة في صدرها وكأن الهواء المحيط بها أصبح ېخنقها أو ربما كونها حية فهي تستشعر الخطړ قبل وقوعه.
اقتربت دينا من السكرتيرة وسألتها بصوت حاولت جاهدة أن تجعله هادئا
ألم يعد طارق يأتي إلى العمل مؤخرا
رفعت السكرتيرة عينيها من فوق الأوراق التي بين يديها وردت ببساطة وكأنها تلقي بجملة عابرة لا تدرك وقعها
أجل والده منشغل بترتيب زواجه هذه الأيام لذلك لم يحضر.
الزواج
خفق قلب دينا پعنف وكأن أحدهم قد قبض عليه بين راحتيه وضغط بقسۏة وشعرت بأن أنفاسها تعثرت للحظة وكأنها فقدت السيطرة على إدراكها.
لقد كان طارق يرفض دائما أي ترتيبات زواج تفرض عليه من أجلها. هل تخلى الآن عن ذلك العهد غير المعلن هل انتهت القصة التي لم تبدأ
ابتلعت ريقها بصعوبة وسألت بصوت خفيض تخشى سماع الإجابة أكثر مما ترغب فيها
وهل
هل تعرفين من العروس
ترددت السكرتيرة للحظة وكأنها تبحث عن إجابة دقيقة ثم قالت بنبرة محايدة
العائلة تجري عملية اختيار مفتوحة لحفيدة الزوج وكما تعلمين الأب لا يرى أن فتيات الأسر العادية يمكن أن يكن ضمن خياراته.
اختيار مفتوح
تعلقت روحها بهذه الكلمات كأنها قشة أخيرة وسط أمواج قاسېة هذا يعني أنه لم يتم حسم الأمر بعد.
شعرت بنفس عميق يتسلل إلى صدرها وكأنها استعادت شيئا تملكه وكادت أن تفقده.
تحركت بخطوات سريعة نحو الصالة الخاصة وأخرجت هاتفها ولم تتمكن من منع نفسها من طلب رقم طارق.
سنوات طويلة عرفته فيها كان دائما صبورا معها لم يغضب منها قط لكن في السنوات الأربع الأخيرة كان هناك شيء مختلف مسافة باردة تفصل بينهما حاجز شفاف لكنه صلب
↚
كأن بينهما جدارا من زجاج سميك ترى من أقام هذا الجدار ولماذا
لم تعد تستطيع الاحتمال لذا هاتفته على الفور فإذا كان ظافر لا يريد الزواج منها فلم لا يرسى العطاء على طارق الذي كان يحبها بصدق وهي كانت تتصنع الغباء للفوز بغنيمة أكبر وهي ثروة آل نصران
في تلك اللحظة أوقف طارق سيارته أمام بوابة قصر شامخ تتعانق نوافذه مع أضواء الليل كنجوم مسجونة في زجاج والتف السكون حوله كعباءة مهيبة تخفي أسراره.
ألقى نظرة خاطفة من النافذة قبل أن يلتفت إلى الحارس الشخصي متأملا الواجهة الفاخرة للحجرات العتيقة.
هل تعيش هنا سأل طارق بصوت محايد لكن عينيه كانتا تحملان حنينا وفضولا خفيا.
أجابه الحارس بلهجة ثابتة كأنه حجر في جدار القصر ذاته
نعم.
كاد طارق يطرح سؤالا آخر لكن رنين هاتفه قطع تسلسل أفكاره.
التقط الجهاز ببطء وعيناه تضيقان كمن يتوجس اقتراب عاصفة... اسم واحد على الشاشة كان كفيلا بإشعال نيران الڠضب المكبوت داخله
دينا.
لو لم يكن لظافر يد في حياتها لكانت الآن مجرد صفحة مطوية في ماضيه لكنه تركها تعيش في عالمه فقط لأنها تستهوي ظافر أما هو فحبه لها تلاشى منذ زمن تاركا خلفه كراهية كالجمر متقدة بلا رحمة.
ما الأمر قالها ببرود جليدي حين أجاب على المكالمة.
على الطرف الآخر شعرت دينا بلسعة المفاجأة فهي لم تكن تتوقع أن يجيب إذ اعتاد في الأشهر الأخيرة على قطع أي صلة بها كأنها مجرد صوت مزعج في خلفية يومه.
استجمعت أنفاسها وسألته بصوت يحمل شيئا من الحذر
طارق سمعت أن والدك يرتب لك زواجا
رفع حاجبيه ببطء وكأن الكلمات وصلت إليه مشبعة بالسخرية فرد بتهكم
يبدو أنك شديدة الاهتمام بأموري الشخصية.
تسلل البرود إلى صوته كنسيم جاف يسبق عاصفة رملية جعلها تشعر بوخز في صدرها وضيق تنفس.
حاولت أن تبدو هادئة لكنها لم تستطع إخفاء توترها حين قالت
نحن أصدقاء طارق بالطبع أهتم لأمرك أخشى أن تختار الشخص الخطأ... إذا كنت تفكر في شخص ما أخبرني يمكنني أن أتحرى عنها لك.
قهقه طارق حتى أدمعت عيناه لكن ضحكته لم تحمل دفء الذكريات بل كانت باردة كصفحة مرآة تعكس استهزاء مبطنا.
انظروا من يتحدث من أين أتيت بهذه الثقة يا دينا أم أنك نسيت في نظر جدي أنت مجرد ممثلة لا أكثر وإن كنت سأختار شريكة لحياتي فلن تكوني مقبولة لديه ولن تليقي بدائرتي أنت تعرفين ذلك جيدا لذا وفري على نفسك الجهد ولا ترخصي حالك أكثر من ذلك
لم ينتظر ردها فقط أنهى المكالمة بضغطه حاسمة وكأن أصابعه تقطع خيطا أخيرا
بينهما.
على الجهة الأخرى كان وجه دينا يزداد قتامة وكأن الڠضب رسم على ملامحها لوحة من الخيبة والمرارة زأرت بكل ما أوتيت من قوة وكأن الأرض هالت أسفل قدميها ولحسن الحظ أنها قد ابتعدت عن المبنى الرئيسي للشركة وها هي الآن تسقط على ركبتيها في البهو الخلفي للمخازن الملحقة بالمقر.
يالاه بالشفا يا غالية
رواية عشق لا يضاهى بقلم أسماء حميدة
الفصل 37
ولدت دينا يتيمة كزهرة نبتت وحيدة في صقيع الليل دون أن تمتد إليها يد لترعاها فدوما ما كانت تكره ذلك الوهج المسمۏم في أعين الآخرين وكذلك تلك النظرات المشبعة بالازدراء كأنها ندبة في مجتمع لا يقبل إلا الكمال المصطنع.
حين تسللت كلمات طارق إلى مسامعها تصاعد في ذاكرتها ذلك الألم المترسب في أعماقها ذلك الإذلال الذي انغرس في قلبها كإبرة حادة حين حاولت ذات يوم أن تخطو أولى خطواتها داخل عوالم النخبة الثرية.
سنوات مرت لكنها لم تمح مرارة ذلك الاستقبال الفاتر ولا الهمسات المسمۏمة التي كانت تلتف حول عنقها كالأفاعي.
شدت على قبضتيها وغمغمت بصوت متهدج يضج بتحد رخيص وغير مبرر
انتظروا... فقط انتظروا حتى أصبح السيدة نصران! حينها لن يجرؤ أحد على النظر إلي بعين الناقص بعد الآن!
أما طارق فعندما لم تذكر دينا في مكالمتها شيئا عن سيرين افترض أنها لم تعلم بعد بعودتها لكنه على النقيض كان واقفا خارج بوابة ذلك القصر متسمرا في مكانه كما لو كان الزمن قد توقف.
تقدم الحارس الشخصي الخاص به بتردد متوجسا من رد فعله بعد هذا الانتظار الطويل
سيد طارق السيدة تهامي لم تغادر القصر طيلة اليوم... هل أطرق الباب
رفع طارق يده إشارة للصمت وعيناه معلقتان بذلك الباب الذي بدا كمدخل لقدر مجهول ثم قال بصوت خاڤت يحمل الحسم
لا حاجة لذلك... انتظر فقط ستخرج.
كان في داخله لهب مشتعل خليط من الترقب والرهبة بالأمس حين علم بعودة سيرين ضړبت نيران الشوق صدره پعنف وأخذت أنفاسه تتسارع كما لو كان يركض خلف شيء أفلت من بين يديه منذ زمن بعيد لكنه مع كل هذا الحنين لم يكن يملك الجرأة ليواجهها ببساطة.
كيف يقترب منها وهو يدرك تماما كيف كان يعاملها كيف ينظر في عينيها دون أن يرى فيهما صدى كل لحظة أذاقها فيها مرارة الۏجع
ظل واقفا هناك يراقب ذلك الباب الخاوي كأنه ينتظر معجزة... وساعة تلو الأخرى ولم يكن هناك سوى الصمت سوى ظلال الذكريات التي تحاصره وتلك الساعتان اللتان مرتا كأنهما دهر بأكمله.
كانت الليلة الماضية بالنسبة لسيرين كابوسا تجسد في هيئة ماء بارد أحاط بجسدها كأذرع الأشباح فتركها مرتعشة كريشة في مهب الريح.
استيقظت هذا الصباح والوهن يتسرب في أوصالها كأن الحمى قد قررت أن تتخذها عرشا لها.
الدوار كان رفيقها في كل خطوة وكأن الأرض تميد تحت قدميها حاولت باستخدام تلك الأدوية التي أحضرها لها رامي أن تهدئ العاصفة التي ماجت بداخلها لكنها كانت أضعف من أن تهزم الۏجع المستتر في أعماقها.
ارتدت معطفا ثقيلا ذي أكمام ليس فقط لتحتمي من برودة الهواء الطفيفة التي يبدو أنها تسللت إلى عظامها ولكن لتخفي الخدوش التي تركتها الليلة الماضية على بشرتها كوشوم لا تريد لها أن ترى.
وحين غادرت القصر بحثا عن بعض الهواء النقي كان الصيف في أوجه ولكنها لم تشعر بحرارة الشمس بل وكأن ثلجا يتراكم لداخلها يجعل كل شيء باهتا رماديا بلا دفء.
لقد أخبرها الطبيب من قبل أن جسدها ضعيف هش كزجاج رقيق يمكن أن يتشقق في أي لحظة وما حدث بالأمس كان من الممكن أن يعيدها إلى المشفى وربما هذه المرة لن تخرج منه بسهولة.
تعترف بأنه كان عليها أن تكون أكثر حذرا... لكنها تعلم أن الحذر لن يحميها من الأشباح التي تطاردها.
وفي غمرة أفكارها لم تلحظ السيارة المتوقفة على مقربة فقد كانت خطواتها بطيئة شاردة وعندما مرت بها للمرة الثانية اندفع طارق من داخلها كالسهم وكأن صبره قد
نفذ ناداها بصوت حنون
سيرين.
توقفت كأن الأرض تجمدت تحت قدميها استدارت نحوه واتسعت عيناها كمن رآى شبحا من ماض ظنه مدفونا لكن الكلمات لم تجد طريقها إلى شفتيها... الصدمة جثمت على لسانها كما يخيم الليل على مدينة مهجورة.
تقدم نحوها بخطوات تحمل ثقل السنين التي فرقتهما فهو لم يكن يقترب فحسب بل كان يجتاز عمرا من الغياب كأن المسافة بينهما ليست أمتارا بل جراحا لم تلتئم اشتعلت بداخله أسئلة كثيرة تحرقه تنهشه لكنه لم يجد سوى سؤال وحيد يهرب من بين شفتيه كصړخة مكتومة
هل كنت بخير طوال هذه السنوات
ابتسمت سيرين... لكن كانت ضحكاتها بلا روح باردة كحافة نصل بل وكأنها إهانة مغلفة بالسخرية.
أكان يتوقع أن تعترف له بمعاناتها أن تمنحه شهادة إثبات على الألم الذي خلفه فيها الزمن أكان يريد أن يسمع تأكيدا لما يتمناه
↚
أطبقت شفتيها بينما استماتت أصابعها على شيء صغير في جيبها... علبة رذاذ الفلفل فالماضي حين يقرر أن يلاحقك لا بد وأن تكون مستعدا للدفاع عن نفسك.
ظل طارق يحدق بها وصمتها كان سياطا تجلد روحه.
راقب شفتيها المغلقتين متسائلا أكان ذلك الصمت أثرا جانبيا لچرح قديم لا يزال ېنزف أم مجرد ترفع عن الرد ربما لم تسمعه
ألست ضعيفة السمع لماذا لا تستطيعين سماعي الآن
كانت خصلات شعرها المسدلة على كتفيها تخفي السماعة الصغيرة في أذنها لكنها لم تكلف نفسها عناء تصحيح ظنه فقط استدارت ببساطة تتابع طريقها وكأن وجوده مجرد سراب عابر في صحراء نسيانها لكن يده سبقتها تلتف حول معصمها يجبرها على التوقف وصوته جاء مشوبا بشيء لم تستطع تفسيره
هل حالتك تدهورت دعيني آخذك إلى المستشفى.
للحظة ترددت... أهذا قلق أم مجرد دور جديد في مسرحيته القديمة هل هو صادق أم يجهز لجولة أخرى من الألم
حدجته بتيه وهي تتخيل ماضيه معها الذي كان يقف خلفه يبتسم لها بسخرية وفي طرفة عين ومضت أمامها ليلة لم تغادر ذاكرتها حين كانت لا تزال تحمل لقب زوجة ظافر.
في هذا اليوم تحديدا انقلب طارق فجأة... إذ بدا لطيفا لكنه لم يكن سوى قناع كاذب لبت حالما دعاها إلى اجتماع زعم أنه مصالحة بينها وبينه وبين ظافر أيضا لكنها حين وصلت لم تجد سوى نخبة من الأثرياء يتفرسون فيها بعيون تمضغها الاحتقار وكؤوس النبيذ ترفع لا للاحتفال بل للمهانة... وحين سكبت فوق رأسها لم يكن المشهد سوى طقس من طقوس الإذلال وذلك الطارق كان جالسا هناك على رأس الطاولة كملك على عرش الشيطان يراقب العرض ببرود ثم ألقى بحكمه القاسې
ألا يعجبك أن يناديك الجميع بالسيدة نصران حسنا... إذا مشيت حافية على هذه الورود الشائكة لثلاث دقائق سأجعل الجميع هنا يعترفون بمكانتك.
ويا لسذاجتها... لقد صدقته! أجل... فقد كانت في ذلك الوقت مجرد فتاة صغيرة ذات إعاقة بلا تجارب ولا أصدقاء تزوجت من شاب كان حلم كل فتاة.
لكن اليوم حين عاد الماضي ليطالبها بشيء لم تكن تلك الفتاة التي تقف بلا حول ولا قوة.
حررت معصمها من قبضته بنظرات باردة كأنها تراه لأول مرة ثم قالت بصوت هادئ لكنه جاء كحد السيف
سيدي صمتي لا يعني أنني لا أسمعك... بل يعني أنني لا أرغب في الرد.
شيء ما في عينيها في جمود ملامحها في هدوء نبرتها... جعله يتجمد للحظة لطالما كان طارق طفرة في عالم الطب بل ومناور مغوار في مجال المال والأعمال فصيحا بارعا في اختيار كلماته لكن الآن... الآن كان عاجزا عن النطق.
وحين استعاد صوته أخيرا لم يجد شيئا يسأل عنه سوى
ماذا كنت تنادينني قبل قليل
عشق لا يضاهى تمصير أسماء حميدة
الفصل 38
لم تكن سيرين ترغب في التعامل مع رجل كطارق ذاك الذي حمل في طيات كلماته وقاحة لم تعرف للندم طريقا وجحودا يثقل كاهل السماء لو استطاعت أن تحمل وزره.
نظرت إليه بعينين ضجت بالبرود كأنها تسدل ستارا على ماض لم ترد أن ينبش رماده ثم قالت بصوت خاڤت لكنه كان كفيلا بأن يخترق صمت الليل كخنجر مغروس في قلب الحقيقة
آسفة لقد أصبت بمرض خطېر منذ سنوات وأجهل الكثير مما مضى الأشخاص الأحداث كل شيء أصبح سرابا في ذاكرتي.
ثم استدارت مغادرة بخطوات تشبه انسحاب القمر حين يبتلعه الفجر وعادت إلى القصر دون أن تمنحه فرصة للرد.
تجمد طارق في مكانه كأنما ألقت عليه تعويذة من النسيان نفسه.
هل يعقل أنها لا تتذكر
ظل واقفا هناك يراقبها وهي تغادر وعيناه متسمرتان على ظلها الذي ابتلعه الظلام.
مرت لحظات طويلة ثقيلة حتى إنه شعر بأن الزمن قد تعثر في خطاه ورفض أن يمضي معه كما كان يفعل دوما.
الحراس الشخصيون الذين اعتادوا رؤيته متماسكا ثابتا كجدار لا يتصدع وقفوا إلى جانبه في ذهول ولم يجرؤ أحدهم على الاقتراب وكأن الاقتراب منه في تلك اللحظة أشبه بمناوشة من نمر جريح لا يعرف الرحمة.
أما سيرين فعندما عادت إلى القصر ألقت بجسدها المنهك على الأريكة وكأنها تحمل فوق كتفيها جبالا من الذكريات التي لا تريد أن تشرد بها لكنها تشعر بوطأتها.
أغمضت عينيها ليس للنوم بل للهروب من طوفان الأسئلة الذي اجتاح عقلها ومن الشعور المريب الذي بدأ يعبث بقلبها.
ما لم تكن تعلمه سيرين أن كوثر قد حسمت أمرها منذ زمن واشترت تذكرة الطائرة سلفا فالليلة ستشهد وصول كوثر إلى المدينة غير مدركة أن هناك من يتبع خطواتها في الظل.
إنه زكريا ذلك الذي يجيد التحرك كطيف لا يرى فقد حصل على مقعد في الرحلة ذاتها وذلك بلمسة سريعة على لوحة مفاتيح حاسوبه حجز تذكرة أون لاين وها هو الآن يحذو حذوها ولكنه خفيا كنسمة ليلية لا تثير الشكوك.
الساعة السابعة مساء
لامست إطارات الطائرة أرض المطار وأعلنت عجلاتها عن وصول كوثر إلى المدينة حينها لم تتمكن كوثر من كبح جماح شوقها للاتصال بسيرين لكن ما لم تدركه أن هناك عيونا ترصدها وأقداما تتبعها بصمت.
كان شخصا يرتدي بدلة رياضية وقناع يخفي ملامحه وقبعة تحجب عينيه يسحب خلفه حقيبة تكاد تفوقه حجما كأنها صندوق أسراره يتقدم خلفها بلا استعجال كمن يثق من أن طريدته لن تفلت من قبضته.
لكن كان هناك شيء غريب نظرات الناس إليها حملت نوعا من النفور الممزوج بالاستغراب وهمسات تخرج من بين شفاههم كنصل بارد يمر على عنقها دون أن يمسها ومن بينهم من ردد
كيف تسمح تلك المرأة لطفلها بحمل حقيبة بهذا الحجم!
وآخرون
تصرف لا يغتفر إنها أم غير مسؤولة!
وسيدة رمقتها باستنكار وأردفت
يا للأسف طفلها أحق منها برعاية أفضل!
عقدت كوثر حاجبيها في ارتباك وهي تتساءل
أي طفل عن أي أم يتحدثون
لم تدرك الخطأ إلا عندما تسرب إلى مسامعها صوت ناعم لكنه ذو نبرة حازمة كمن يلقن درسا لا يحتمل الجدال
أمي لا يجب عليك التحدث على الهاتف أثناء المشي عليك أن تكوني أكثر حذرا.
تصلبت أطرافها للحظة وكأن الزمن توقف في عروقها. أمي متى أصبحت أما!
استدارت بسرعة فوقع بصرها على صاحب الحقيبة العملاقة بدا كطفل أو هكذا أراد أن يبدو.
كانت عيناه تلمعان من خلف القناع تتراقصان كحدقتي ذئب يختبئ في صوف حمل وديع.
في هذه اللحظة أرادت أن تصرخ أن تلعنه علنا أمام الجميع لكن ما نفع ذلك الآن وحتى إن فعلت سيزيد ذلك الأمر سوءا.
جل ما كان يهمها هو إن علمت سيرين بأن زكريا كان يلاحقها سرا فستفقد صوابها بلا شك.
لم يكن الحشد مدركا لما يجري لكن الصوت الذي انساب من زكريا كقطرة عسل تنزلق على حافة كأس جعل قلوبهم تذوب تعاطفا.
فهمهموا بأعين تقطر عجبا
طفل ناضج وذكي... ليت ابني
↚
مثله.
فأعلنت إحداهن بصوت جمهوري يفيض غيظا
لكن والدته... آه من المؤسف أن تكون لديه أم لا تكترث بمسؤوليتها.
شعرت كوثر بحرارة الڠضب تزحف إلى وجنتيها لكن قبل أن تنبس بحرف قاطعها زكريا بنبرة خبير يبيع قصصا مستعارة للحشود
لا تلوموا أمي إنها تعمل بجد لتوفر لنا حياة كريمة.
بلمح البصر تحولت نظرات الاشمئزاز إلى نظرات إشفاق فاعتذرت واحدة منهن تقول بمؤازرة
يا لها من أم مكافحة... كم هو مؤلم أن تعاني وحدها!
احتقن وجه كوثر حتى كاد ينفجر فقبضت على يد زكريا بقوة ورفعته عن الأرض تحتويه بين ذراعيها وسحبت حقيبته باليد الأخرى تتسلل عبر الجموع بسرعة كمن يهرب من سجن دون أن يثير الريبة.
وحين باتا في ركن أكثر هدوءا وضعت الحقيبة أرضا وهي تلهث ثم حدقت في زكريا بعينين تقدحان شررا تنهره بغيظ
متى تبعتني! هل تعلم سيرين أنك هنا!
على عكسها بدا زكريا هادئا بل شبه مستمتع ومن ثم رمقها بابتسامة جانبية قبل أن يرد بصوت منخفض لكنه محمل بسخرية خفية
كوكي عليك أن تكوني أكثر حذرا حين تكونين وحدك بالخارج لقد تبعتك منذ البداية ولم تلحظيني حتى الآن هذا ضعف فادح في إدراك الخطړ.
لم تستطع تمالك نفسها فمدت يدها وقرصت وجنته من خلال القناع ثم قالت
كف عن المراوغة وأجبني!
ضحك وعيناه تنحنيان في مكر واضح.
خمني.
في تلك اللحظة أدركت كوثر أن هذا الطفل ليس إلا ذئبا يعتمر قناع البراءة بمهارة فسألته باستسلام
إذن... ماذا سنفعل الآن
أمال رأسه قليلا ونظر إليها بعينين تملؤهما البراءة المصطنعة
تسألينني أنا! أنا طفل لم يكمل عامه الرابع بعد...
ابتلعت كوثر غيظها وهي تدرك أن هذه الليلة ستكون طويلة جدا...
عشق لا يضاهى تمصير أسماء حميدة لمتابعة مواعيد نشر الرواية يرجى الانضمام إلى جروبنا المتواضع روايات عالمية بنكهة عربية أو متابعة صفحتي الشخصية روايات أسماء حميدة
الفصل 39
نظرت كوثر إلى زكريا بعينين تضيقان بدهشة لم تكن تخفي لمسة من الڠضب وقالت بصوت يقطر توبيخا
أنت لست مجرد طفل صغير... بل مشاغب بالفطرة وكأن الشغب يسري في عروقك مثل دمك!
ارتسمت على شفاه زكريا ابتسامة جانبية ثم ربت على كتف كوثر بخفة وكأنه بلمسته يحاول تهدئة العاصفة التي اشتعلت في عينيها ومن ثم قال بنبرة أقرب إلى التصالح
بما أننا هنا فلنتقبل الأمر كواقع سأعترف بخطئي لأمي عندما نصل إليها... لكن حتى ذلك الحين فلنحاول التأقلم.
تنهدت كوثر وشعرت أن الحيلة قد انطلت عليها كما يخدع طفل بلعبة سحرية الفرق أنها لم تكن طفلة بل امرأة تعرف جيدا كيف ينسج زكريا خيوطه حول الآخرين والمشكلة الآن أنه لم يترك لها خيارا آخر وبالرغم من أنها كانت واثقة أنه سيكون على ما يرام حين يعود على متن طائرته لكن الفكرة وحدها لم تمنحها أي راحة.
حدقت فيه للحظة قبل أن تقول بصرامة يشوبها القلق
ابق هنا وتصرف كما يجب سأهاتف سيرين... وإلا فستقضي جدتك فاطمة ليلتها غارقة في القلق عليك.
لكن زكريا وكعادته كان لديه رد جاهز قذفه بلامبالاة طفولية ممزوجة بثقة من يعرف أن كل شيء تحت السيطرة
لا تقلقي تركت لها رسالة أخبرتها فيها أنني معك.
رفعت كوثر حاجبيها بدهشة لكنها لم تجد ما تقوله فكيف يمكن لصبي في مثل عمره أن يكون بهذا الدهاء
تنفست بعمق ثم أخرجت هاتفها واتصلت بسيرين.
في تلك اللحظة كانت سيرين تجلس على شرفة منزلها تحتضن كوب ماء دافئ بين راحتيها كأنها تستمد منه دفئا لم يصلها من الجو حين رن هاتفها فنظرت إلى شاشته ثم أجابت بابتسامة تلقائية
كوكي!
لكن كوثر لم تبادلها تلك الحماسة المعتادة بل ألقت نظرة سريعة على زكريا وكأنها تحاول أن تستمد منه شجاعة غير موجودة ثم قالت بصوت يحمل بين طياته اعترافا مذنبا
ساسو... كنت أريد أن أفاجئك لكن...
تجعد جبين سيرين بقلق
ما الأمر
بلعت كوثر ريقها ثم قالت على عجالة كأنها تحاول التخلص من الجملة قبل أن تزنها سيرين بعقلها
أنا في المدينة وصلت الآن إلى المطار... لكن زكريا تبعني إلى هنا.
في اللحظة التالية شعرت سيرين بأن قلبها قد تخطى نبضه وبدأ في القرع بشكل غير منتظم فوضعت الكوب على الطاولة وانتصبت في جلستها كأن صاعقة قد ضړبتها.
كوثر لم تضف كلمة أخرى فقط دفعت الهاتف إلى زكريا تاركة له مسؤولية شرح ما حدث.
أخذ زكريا الهاتف وبصوت يحمل خليطا من الجد والرجاء قال
أمي لا تلومي كوكي أنا من اشتريت التذكرة سرا وتبعتها... لم أستطع تركك وحدك في المدينة لقد كنت قلقا عليك.
وفي الجهة الأخرى كانت سيرين تحاول
أن تستوعب... أن تفهم كيف تجرأ ابنها على شيء كهذا لكن وسط كل ذلك لم تستطع أن تمنع قلبها من الشعور بوخزة دافئة... مزيج غريب بين الحب والقلق والڠضب كأن المشاعر الثلاثة اشتبكت في معركة لا رابح فيها.
لقد عرفت سيرين دائما أن زكريا ذكي لكنها لم تتوقع أبدا أن يكون جريئا بما يكفي للذهاب إلى المطار بمفرده.
زاك! هل نسيت ما قلته لك
لم يجب زكريا بل سأل بدلا من ذلك
لكن يا أمي لقد افتقدتك وكنت قلقا عليك هل كنت مخطئا كوني أحبك لهذه الدرجة!
على الجانب الآخر كانت كوثر تتابع المشهد بصمت إلى أن قررت أن تتدخل قبل أن يتفاقم الأمر فجلست القرفصاء ملتقطة الهاتف من يد زكريا بحذر ثم قالت بنبرة مطمئنة
سيرين لا تقلقي... فكرت في الأمر جيدا زاك سيبقى معي الآن ولن أدع ظافر يعرف بوجوده.
في تلك اللحظة كان هذا هو الحل الوحيد إذ لم يكن هناك متسع للرفض ولا بديل للجدال وقبل أن تغلق سيرين الهاتف اتفقتا على اللقاء في أحد المطاعم.
تنفست كوثر الصعداء ثم نظرت إلى زكريا بنظرة لم تخل من العجز
هيا بنا.
خرج الاثنان من المطار وكان السائق بانتظارهما عند المدخل بسيارة سوداء لامعة كأنها قطعة من الليل انزلقت على الأرض وحالما استقر زكريا في المقعد حتى انطلقت نظراته الفضولية تراقب الطريق من النافذة يتابع بشغف كل تفصيلة تمر أمامه وكأن المدينة كتاب مفتوح لم يقرأه من قبل.
لم يتوقف عن الأسئلة وكانت كوثر تجيبه بصبر وكأنها تعيد رسم خرائط الذكريات بكلماتها
هذه الساحة المركزية... كانت ملكا لعائلة نصران أما هذا الشارع التجاري فكان لعائلة تهامي جدك من جهة والدتك لكن في النهاية استحوذ عليه ظافر ورغم كل شيء لا يزال مزدهرا كما كان...
فجأة توقفت عن الكلام كأنها استيقظت من حلم ومن ثم عقدت حاجبيها في شرود تتمتم لنفسها
يا لي من حمقاء! لماذا أخبر طفلا صغيرا بكل هذا! من المؤكد أنه لن يفهم حرفا مما قلته توا
وقبل أن تلتقط أنفاسها جاءها صوت زكريا جادا وحاسما وهو يحدق فيها بعينيه البراقتين
كوكي سأتم الرابعة في سبتمبر المقبل لم أعد طفلا في الثالثة.
ارتبكت كوثر وهي تبحث عن كلمات مناسبة لكنها لم تجد.
مرة أخرى وجدت نفسها عاجزة أمام هذا الطفل الصغير الذي يتحدث بحكمة تتجاوز عمره.
تحركت السيارة ببطء والأضواء تتراقص على زجاجها كأنها نثرات ضوء هاربة من مجرة بعيدة وبعد وقت لم يدرك زكريا كم مر منه توقفت السيارة أمام المطعم المتفق عليه.
كان اللقاء على بعد خطوات قليلة... لكن ما لم يعرفه أحد أن هذه الخطوات ستحمل معها بداية جديدة تسبقها عاصفة لن تهدأ.
غادر ظافر الشركة بخطوات ثابتة كأن الأرض
لم تعد تثير اهتمامه بينما تبعته دينا كظل لا يفارقه تراقب كل حركة تبحث في صمته عن إجابة لمطمع كان في نفسها.
صعدا إلى سيارة كاديلاك سوداء فاخرة كأنها امتداد لهيبته المتعالية بينما جلس ظافر بالمقعد الخلفي دون أن يعبأ بوجودها وأمسك بعقد يتفحصه بلا تركيز وكأن الكلمات تتراقص أمام عينيه بلا معنى.
أخذت دينا نفسا عميقا تحاول أن تلتقط شتات نفسها أمام هذا الجدار البارد الجالس بجوارها ثم همست بصوت ناعم يحمل خبث أفعى تطارد فريستها باستماتة
ظافر خذ قسطا من الراحة... تبدو متعبا.
↚
لم يرفع عينيه عن الورقة ولم تهتز ملامحه قيد أنملة فقط جاء رده جافا كصوت الريح التي تعصف بأوراق الخريف
ليس هناك حاجة لذلك.
كلماته سقطت كحجر في بئر صمتها فلم تجد بدا من التراجع إلى زاويتها المعتادة... الصمت لكنها كانت تعرف جيدا أن هذا الصمت لم يكن إلا الهدوء الذي يسبق العاصفة.
ظافر لم يكرهها لكنها لم تر منه دفئا يوما أربع سنوات مرت كان خلالها أشبه بظل متحرك لا يقترب ولا يبتعد فقط موجود كحقيقة ثابتة لا تقبل التأويل لكنها لم تستطع التسلل إلى أعماقه وأبدا لم تفهم ما يدور في رأسه وأكثر ما كان يحيرها ولم تجد له تفسيرا
هل يمكن لرجل مثله أن يعيش بلا انجذاب أم أن قلبه مقپرة ډفن فيها مشاعرا لم تشأ أن ترى النور
لكنها اليوم كانت عازمة على كسر هذا الحاجز عازمة على أن تجعله يراها كما لم يرها من قبل أن تقتنص حقا لم يكن أبدا لها.
وسط هذه الأفكار اهتز هاتف ظافر فجأة كأن القدر يرفض أن يمنحها الفرصة التي تنتظرها.
التقطه ظافر ببرود ومن ثم وضعه على أذنه فجاءه صوت الحارس الشخصي يقول بنبرة ثابتة تحمل خبرا طال انتظاره
السيد ظافر السيدة تهامي خرجت الآن إنها في مطعم جولدن مون.
ارتفع حاجباه قليلا كأنه لم يكن يتوقع هذا الخبر لكنه لم يظهر دهشة واضحة.
أغلق ظافر الهاتف ببطء بينما كانت دينا تراقب عينيه تحاول أن تلتقط أي لمحة من المشاعر المختبئة خلف هذا الوجه الذي طالما كان كلوحة بلا ألوان.
عشق لا يضاهى تمصير أسماء حميدة لمتابعة مواعيد نشر الرواية يرجى الانضمام إلى جروبنا المتواضع روايات عالمية بنكهة عربية أو متابعة صفحتي الشخصية روايات أسماء حميدة
الفصل 40
أجاب ظافر حارسه الشخصي الذي أخبره بمكان تواجد سيرين بصوت منخفض كمن يعلن انتصاره بصمت
لقد حصلت عليه.
في اللحظة التي رأت فيها دينا يديه تترك أوراق العمل أخيرا كأنهما تحررتا من قيد غير مرئي لم تستطع أن تمنع نفسها من السؤال وعيناها تلمعان بفضول فظ
هل تذكرنا السيدة شادية بالعودة مجددا
رمقها ظافر بنظرة مقتضبة كمن يريد اختصار الحديث ثم أجاب بنبرة قصيرة تحمل في طياتها يقينا لا يقبل الجدل
لا.
في تلك الأثناء راودتها رغبة في استكشاف ما يدور في رأسه أن تتسلل بين أفكاره كما يتسلل البرق بين ستائر ليلة رعدية لكنها لم تجد الفرصة لذلك.
ظلت عينا ظافر معلقتين بشيء خارج النافذة يمشط الأرجاء بنظرة جامدة كأن مقلتيه تبحرا في مشهد غامض لا يراه سواهما.
وها هو هدفه المنشود إذ كانت السيارة التي أملى عليه حارسه مواصفاتها عبر الهاتف تتقدم بهدوء في الشارع حين مرت بجانب مطعم القمر الذهبي.
هناك على حافة الرصيف توقفت السيارة ال بنتلي السوداء وخرج منها شخصان بخطوات ثقيلة استقرت عينا ظافر على أحدهما كأن روحه تعرفه قبل أن يراه عقله تأمل ظافر صاحب الجسد الصغير الذي كان يرتدي قبعة تخفي ملامحه وقناعا يغطي أكثر مما يكشف لكن رغم كل ذلك تسلل إلى صدر ظافر إحساس غريب... إحساس لا يفهم ولا يفسر إحساس يشبه ذلك الشعور المباغت حين تلمس چرحا قديما كنت تعتقد أنك نسيته.
ظل يتابع خطواته حتى ابتلعه باب المطعم ثم قال لسائق السيارة خاصته بصوت منخفض لكنه نافذ كالسهم
أوقف السيارة.
رمقته دينا باستغراب وحاجبيها التقيا في تساؤل مرتبك
ما الأمر
لكن ظافر لم يرد فقط فتح باب السيارة وترجل منها بخطوات ثابتة وكأن قلبه قد قرر وجهته قبل أن يدركها عقله.
ما إن وطئت قدما كوثر أرض المطعم حتى شعرت بحاجة ملحة إلى الذهاب إلى الحمام وكأن جسدها يستجيب بلا وعي لموجة من القلق تسري فيها.
تناولت هاتفها بسرعة واتصلت بسيرين تطلب منها أن تأتي لاصطحاب زكريا ابنها.
لم تتأخر سيرين وما إن خطت خارجا حتى صدمت بمشهد لم يكن في الحسبان.
كان ظافر هناك ماثلا أمامها يقترب بخطوات واثقة يلفه وقار البدلة الرسمية التي تعكس أضواء المطعم الخاڤتة.
لوهلة اجتاحتها موجة من الاضطراب وشعرت براحتي يديها تتصببان عرقا كانت كل خلية في جسدها تصرخ بها وكأنها تحثها على أن تدير ظهرها وتهرب لكن صوته سبق رد فعلها.
يا لها من مصادفة... قالها بنبرة لا يمكن تجاهلها.
لم يكن هناك مفر لذا علقت نظراتها بين الواقع والهروب وبينما كانت تبحث عن أي ذريعة للنجاة من هذا الموقف تمتمت بصوت حاولت أن تجعله ثابتا كي تكسب بعض الوقت لتجد منفذا
هل أتيت لتناول العشاء
أيضا سيد ظافر
أومأ ظافر برأسه كتأكيد على حديثها ولكنها لم تنتظر إجابة بل دفعت ساقيها تحاول إجبار جسدها المتصلب على المغادرة وهي تجاهد لتجاوز العاصفة التي اندلعت في أعماقها غير أن صوتا حاصرها فجأة من الخلف
سيرين!
تجمدت أطرافها للحظة واضطربت نبضات قلبها وكأنها وقعت في فراغ.
التفتت سيرين ببطء متوجسة مما قد تواجهه.
ولسوء الحظ
على الدرج كانت كوثر تصعد برفقة زكريا ولم يكن في مجال رؤيتهما سوى سيرين تنفست الأخيرة الصعداء إذ لم يلحظ ظافر وجودهما بعد ولكن القدر كعادته له تدابيره الخاصة.
الټفت ظافر تلقائيا نحو مصدر الصوت وعندما وقعت عيناه على الطفل شعر بشيء غريب للمرة الثانية على التوالي وكأن ذاكرته حاولت استعادة صورة من زمن بعيد شيء ما في عيني زكريا بعث داخله رجفة غير مفهومة وكأنما ظلال الماضي تتراقص أمامه للحظة ساد الصمت وكأن الكون كله قد توقف عن الحركة.
أما عن سيرين اجتاحها شعور بارد قد سرى عبر عمودها الفقري وفي لحظة تلاشى الزمن حولها ولم يبق سوى هذا المشهد المعلق بين الحقيقة والهاوية.
حبست سيرين أنفاسها تخشى أن يناديها زكريا بلقب أمي اللقب الذي لا يجب أن يقال الآن... لكن ما خشيت منه هل سيقع
ركض الطفل نحوها وابتسامته البريئة لا تعلم شيئا عن فوضى القلوب حوله هتف بوقار
السيدة سيرين!
وللعجب ارتد بصره إلى كوثر ثم سحب يدها يقول متوسلا
أمي أنا جائع جدا... دعينا نتناول الطعام مع السيدة تهامي.
استفاقت كوثر من ذهولها على وقع كلماته فأجابت بسرعة محاولة أن تخفي ارتباكها
حسنا لنأكل بني.
سرعان ما أمسكت كوثر بيد زكريا بينما نظرت إلى سيرين وكأنها تتوسل إليها أن تتحرك أن تنهي هذا الموقف بأسرع ما يمكن.
أما سيرين فقد تماسكت بقايا شجاعتها والتفتت إلى ظافر قائلة بحزم هادئ
سأتناول العشاء
↚
مع صديقتي أعتذر عن عدم تمكني من البقاء.
لم تنتظر رده بل قادت كوثر وزكريا بسرعة نحو الغرفة الخاصة حيث تستطيع أخيرا أن تتنفس بعيدا عن أعين العالم.
بمجرد أن أغلقوا الباب خلفهم شعرت سيرين بأن الهواء قد عاد أخيرا إلى رئتيها أما ظافر فقد ظل في مكانه للحظات مشدوها كأن عقله يحاول فك شفرة الشعور الذي باغته لكنه سرعان ما استفاق والټفت بهدوء ومن ثم نزل الدرج بخطوات ثابتة وترك مبلغا تقديريا للنادل كتسوية لفاتورتهم قبل أن يغادر تاركا خلفه سحابة من التساؤلات.
في الداخل لم تنتظر كوثر لحظة واحدة بل اندفعت إلى سيرين واحتضنتها بقوة وكأنها تحاول أن تمحو أثر هذه اللحظات العصيبة من ذاكرتهما.
سيرين! أنا آسفة... لم أكن أعلم أنه سيكون هنا.
ربتت سيرين على كتفها محاولة أن تبعث الطمأنينة في قلبها وإن كانت هي نفسها لم تستوعب
بعد وقع الموقف فغمغمت تقول بتيه
لا بأس... لم أكن أتوقع ذلك أيضا.
لكن كوثر لم تستطع تجاهل الخۏف الذي لا يزال يتلبسها فتمتمت بصوت مرتجف
الحمد لله أن زاك استجاب بسرعة وإلا... تلاشت كلماتها لكن عينيها حملتا كل المخاۏف التي لم ينطق بها.
نظر إليهما زكريا بنضج فاق سنه وقال ببراءة جادة
أمي كوثر... لا تقلقا. أعلم أن أمي يجب أن تظل عزباء في الأماكن العامة حتى تجد لي ولنوح أبا.
اهتز قلب سيرين جراء ما تفوه به الصبي فحملته بين ذراعيها تعانقه بقوة كأنها تخشى أن تفقده.
كان صوتها مملوءا بالعاطفة وهي تهمس
حبيبي... أنا آسفة لأنك مضطر لتحمل هذا!
لكنها لم تكن آسفة فقط على هذه اللحظة بل على كل شيء أخفته عنه على الأسرار التي وضعتها بينهما وبين العالم على خۏفها الذي جعلها تبتعد أكثر مما يجب.
أحمر وجه زكريا وهو يشعر بدفء عناقها ثم همس بخجل طفولي
أمي لا تبكي!
كان نادرا أن يطلب منها زكريا عناقا كما يفعل شقيقه نوح لكنه الآن أدرك كم هو مريح أن يشعر بحضنها أو بالأدق كم هو مطمئن أن يجد الدفء في قلبها.
مسحت سيرين دموعها سريعا وربتت على رأسه بحنان ثم حذرته برفق وفي عينيها بريق من العاطفة والجدية
لا يمكنك التصرف بمفردك بعد الآن وإلا فسوف أعاقبك!
ابتسم زكريا وكأن قلبه الصغير قد امتلأ بالطمأنينة من جديد بينما بقيت نظرات سيرين معلقة في الفراغ حيث تساءلت في صمت... كيف سينظر إليها زكريا ونوح إن علما الحقيقة
عشق لا يضاهى تمصير أسماء حميدة
الفصل 41
كان وجه زكريا يزداد احمرارا كقرص الشمس ساعة المغيب وكأن حرارة الموقف قد تسللت تحت جلده لتشعل وجنتيه.
سعل بخفوت محاولا التماسك ثم قال بصوت خفيض يكاد يلامس الهمس
أمي لم أعد طفلا صغيرا... كما أن كوثر لا تزال هنا.
كانت كلماته كحجر صغير ألقي في بركة هادئة فأحيت الأجواء من جديد وكأن الحياة دبت في المكان بعد لحظة خجل عابرة.
أما كوثر فقد كانت تلك المرة الأولى التي ترى فيها زكريا في موقف كهذا يتلعثم وتفضحه وجنتاه فلم تفوت الفرصة لتزيد من إحراجه إذ مالت نحوه تقول بغمزة مشاكسة
إذن هل تعرض شخص ما للضړب من قبل أليس كذلك
سارع زكريا يبادر بالاحتجاج وصوته يعلو رغم محاولته لضبطه
لا! لم يحدث ذلك من قبل!
كان زكريا في تلك اللحظة أشبه بطفل أوقعته براءته في فخ لم يدركه إلا بعد فوات الأوان.
راقبته سيرين بصمت وعيناها تتأملان تفاعله العفوي وشيئا فشيئا تسلل الڠضب من قلبها كما تتلاشى الظلال عند بزوغ الفجر فكيف لها أن تغضب منه أو من نوح
إنهما بالنسبة لها هدية من السماء حبا لا يمسه الشك ودفئا لا يذوب أمام أي ريح.
ثم عادت أفكارها تدور حول قرارها فشردت تفكر بعمق ففي استطاعتها أن تواصل الهروب من ظافر لكن هل سيستطيع زكريا ونوح أن يفعلا الأمر نفسه
زفرت پاختناق وقلبها يتآكله الإحساس بالتقصير فطفليها لم يرتكبا أي ذنب فلماذا يحرمان من حرية الذهاب حيث يشاءان لماذا لا يكون لهما بيت يحتضنهما
والأهم أن هذا اللقاء غير المتوقع اليوم كان كمنارة أضاءت لها طريق القرار... الآن باتت أكثر يقينا فيما ينبغي عليها فعله.
وفي أثناء العشاء حين اقترحت كوثر أن يقوم أحدهم بإعادة زكريا رفعت سيرين نظرها إليها وقالت بحزم هادئ
كوكي لقد فكرت في الأمر جيدا ووجدت أن الهروب ليس حلا لذا قررت أن أدعه يبقى فظافر قد رأى زاك بالفعل وأعتقد أنه ابنك فلا داعي للقلق سأهاتف فاطمة لاحقا وأطلب منها الاعتناء بنوح هناك بينما يبقى زاك معي في المدينة وعندما تهدأ الأمور سنعود.
كانت كلماتها واثقة كأنها وضعت حجر الأساس لحياة جديدة لا مجال فيها للتردد.
استمعت كوثر إليها بصمت ثم أومأت برأسها موافقة تقول بإشادة
على الرغم من أن فاطمة لديها من يساعدها إلا أنه من الصعب على امرأة مسنة مثلها أن تعتني بطفلين وبما أن زاك سيقيم هنا فسيكون بجوارك أيضا وحتى لو اكتشف ظافر الأمر فلا داعي للخوف أنا وكارم سنكون بجانبك.
قبل أن تتم عبارتها اندفع زكريا مقاطعا بحماس طفولي يحمل في طياته رجولة تنضج على مهل
وأنا أيضا يا أمي... سأحميك أنت ونوح.
تبادلت سيرين وكوثر نظرة طويلة نظرة قرأت فيها كل منهما قرار الأخرى دون الحاجة للكلمات ثم ابتسمتا معا وكأن هذه الابتسامة كانت الخاتمة الطبيعية لكل ما قيل.
داعبت سيرين خصلات شعر زكريا وهي تتمتم بحنان
حسنا صغيري ابقى هنا لتقوم بحمايتي يا رجلي الصغير.
بعد أن فرغوا من تناول العشاء وضعت كوثر كأسها برفق على الطاولة ثم التفتت نحو سيرين بنظرة تحمل
مزيجا من الحزم والهدوء وقالت بصوت ينساب كالماء على الحجر الأملس يطيب الچروح فكانت خير داعم لصديقتها
سأصطحب زكريا معي الآن قبل أن تنغرس بذور الحياة في رحمك من ذلك الأحمق ظافر وحتى هذا الحين سيبقى في مسكني الخاص حيث يمكنه الاستقرار بعيدا عن كل هذا الاضطراب حتى تنجحين في تنفيذ خطتك كي ننجوا بنوح أيضا وبالطبع يمكنك زيارته متى شئت لكن الأهم... أن يحظى بالهدوء والاستقرار.
كان الأمر يبدو وكأنه قدر محتوم طريق وحيد مضاء بضوء خاڤت لا يبشر بكثير من الخيارات.
استدارت سيرين نحو زكريا وعيناها تلمعان بمزيج غريب من القلق والحنان ثم انحنت قليلا لتكون على مستوى نظره وقالت بنبرة دافئة يشوبها شيء من الصارمة
يجب أن تستمع إلى كوثر جيدا ولا تخرج وحدك ولا تجازف بالابتعاد هل تفهمني
أومأ زكريا برأسه ولم يكن في عينيه سوى الاستسلام الراضي صحيح لم يكن هذا الوضع مثاليا بالنسبة إليه لكنه على الأقل لن ينتزع من حضڼ المدينة التي تحتوي على أنفاس والدته حتى وإن لم يكن في كنفها فمجرد كونه تحت سمائها كان كفيلا بزرع الطمأنينة في قلبه الصغير.
في فيلا كوثر الفاخرة حيث تتدفق أنفاس البحر عبر نوافذها الواسعة جلس زكريا على طرف السرير يفتح حقيبته السوداء وكأنها صندوق أسرار محكم الإغلاق.
لم تكن الحقيبة مجرد مستودع لملابسه ومستلزماته بل احتوت بين جنباتها جهاز كمبيوتر محمول وبعض الأغراض الأخرى التي بدت وكأنها تحمل قصصا شغبية لطفل خارق.
↚
راقبت كوثر حركته بعينين متقدتين بالفضول ومن ثم عقدت حاجبيها قليلا قبل أن تسأله بنبرة تجمع بين المزاح والتعجب
زاك هذه الحقيبة تبدو وكأنها تحتوي على نصف مقتنياتك في الحياة! لابد أن وزنها يتراوح بين عشرين وثلاثين رطلا على الأقل... كيف تمكنت من حملها إلى الطائرة والأدهى أنك تحمل معك جهاز كمبيوتر محمول! هل ما زلت تلعب ألعاب الفيديو في مثل هذا العمر
رفع زكريا عينيه نحوها بنظرة هادئة وهناك شبح ابتسامة غامضة يتراقص على شفتيه يجيب بصوت خاڤت
هذا سر.
لم يمنحها فرصة لمزيد من الأسئلة إذ التقط بعض من ملابسه وتوجه مباشرة إلى الحمام وكأن الماء هو الملاذ الوحيد القادر على انتزاعه من هذه المواجهة.
لكن كوثر التي اعتادت ألا تترك أسئلتها بلا إجابة تبعته بخطوات مرحة قائلة بنبرة ماكرة
هل تحتاج إلى مساعدة في الاستحمام
توقف زكريا في منتصف طريقه وقد تجمد جسده للحظة وعيناه اتسعتا پصدمة لم يستطع إخفاءها هز الصبي رأسه بندم وهو يشعر بأن خطأه الوحيد منذ بداية هذه الرحلة كان الموافقة على العيش مع امرأة مثل كوثر.
دخل الحمام بسرعة وأغلق الباب خلفه بإحكام لكنه لم يكتف بذلك بل صعد فوق كرسي صغير كما لو كان ذلك سيمنحه شعورا أكبر بالأمان فالماء الساخن وحده لن يكن كافيا لغسل ارتباكه.
في الخارج ضحكت كوثر بصوت جمهوري يحمل في طياته ألف معنى وذلك قبل أن تهمس من خلف الباب تقول باستفزاز
هل أصبحت خجولا الآن لقد رأيت كل أنواع الرجال من قبل لذلك لا شيء فيك يثير فضولي إلا شيء
واحد
كانت كلماتها كالسهم الذي أطلق بلا هوادة لكنه ارتطم بجدار الحيرة الذي بدأ يتشكل داخل زكريا التي تخضبت وجنتاه بشيء من الحمرة وهو يضم ساقيها معا بحماية.
ولاااااه أنت مش طفل يا ض وعهد الله
رواية عشق لا يضاهى بقلم أسماء حميدة لمتابعة مواعيد نشر الرواية يرجى الانضمام إلى جروبنا المتواضع روايات عالمية بنكهة عربية أو متابعة صفحتي الشخصية روايات أسماء حميدة
الفصل 42
بعد أن انتهى زكريا من الاستحمام ارتدى ملابسه على عجل وخرج من الحمام بخطوات ثقيلة يتجنب النظر إلى عينا كوثر وكأن لقاء نظراتهما سيشعل معركة استنزافية هو ليس مستعدا لها بعد.
شق الصغير طريقه إلى غرفته بصمت لكنه كان يعلم أن هذه الليلة لن تمر كأي ليلة أخرى وأن كوثر قد ألقت أولى شباكها عليه لتعرف مخططاته وأسباب مجيئه إلى المدينة بتلك الطريقة والآن... لم يعد متأكدا إن كان قادرا على الإفلات منها.
في تلك الليلة كان قصر آل نصران يغرق في هدوء ثقيل لا يقطعه سوى أصداء خاڤتة لأقدام الخدم وهي تتلاشى في الممرات.
في مكتب فخم جلس ظافر نصران وألسنة اللهب تتراقص في المدفأة تلقي ظلالا كالأشباح على ملامحه الصارمة أمامه على شاشة هاتفه استقرت رسالة مختصرة من حارسه الشخصي تخبره بأن سيرين قد أنهت عشاءها وعادت إلى القصر.
رفع ظافر نظره عن الهاتف ولم يبد عليه أي انفعال كأن الخبر لم يكن سوى موجة عابرة في بحر هدوئه المتلاطم لكن في داخله كانت هناك عاصفة لم يدر إن كانت ڠضبا أم حنين أم شيء آخر يأبى أن يسميه.
وفي قاعة الطعام حيث كانت الأضواء الذهبية تبعث دفئا زائفا جلست كلا من شادية ودينا تتبادلان النظرات فمنذ لحظة دخول ظافر لاحظت كلتاهما شروده وذلك الصمت الذي كان يتحدث أكثر من أي كلمات.
دينا طالما أنك هنا اليوم لم لا تمكثين الليلة سيعود عدنان غدا وهو يريد رؤيتك
اقترحت شادية بنبرة توحي بأنها أكثر من مجرد دعوة.
عدنان نصران الرجل الذي كان يوما أسطورة في عالم المال والنفوذ لكنه لم يكن سوى صياد ماهر في غابة النساء ورغم سنواته التي تراكمت على كتفيه لم يكن قد فقد شهيته للمغامرات.
ارتسمت ابتسامة على شفتي دينا لكنها مصطنعة لم تصل إلى عينيها تقول
بالتأكيد.
أما ظافر فقد بدا وكأنه في عالم آخر يتناول بضع لقيمات بلا اهتمام ثم دفع كرسيه للخلف ونهض بعزم صامت.
ظافر إلى أين تذهب سألت شادية محاولة أن تخفي قلقها خلف ستار من البرود.
البيت.
كلمة واحدة لكنها إسقاط لمعنى كامل. وعلى إثرها شهقت شادية بدهشة حالما أدركت ما لم يوضحه ظافر بالكلمات.
ظافر كان يقصد القصر الذي جمعه بسيرين ذاك المكان الذي كان يوما عشا جمعهما قبل أن يتحول إلى قوقعة خاوية. كيف لا يزال يعتبره البيت
حاولت أن تثنيه
ابق هنا الليلة سيعود عدنان غدا ويمكننا مناقشة زواجك من دينا معا.
توقف للحظة ومن ثم رمقها بنظرة باردة كخنجر مغموس في الجليد مردفا بحزم
لم أطلق بعد... عن أي زواج تتحدثين
خفق قلب شادية بقوة وابتلعت ريقها بصعوبة أما دينا فلم يتغير تعبير وجهها لكن أصابعها كانت قد الټفت حول
الشوكة بقوة تكاد تكسرها... سنوات... سنوات طويلة مرت على مۏت سيرين فهل يهم حقا إن كانا مطلقين أم لا
وحين استدار ليغادر لحقت به صدى خطوات يتبع أثره.
ظافر!
توقف ظافر لكنه لم يلتفت فاقتربت منه صاحبة الصوت ونبرتها المنخفضة تسرب إليه رجاء يخفي قباحة نفسها
هل أخطأت في شيء لماذا لا تقبلني حتى الآن همست دينا وكأنها تحاول أن تتسلل إلى قلبه المغلق... وعندما لم يأتها رد استكملت باستعطاف مبتزل
لقد انتظرتك لثماني سنوات منذ زواجك بسيرين وحتى الآن كنت أخشى أنني لست جيدة بما يكفي لك لذا عملت على نفسي... استغرقني الأمر وقتا طويلا حتى أصل إلى ما أنا عليه وأقترب منك مجددا.
تجمدت في مكانها ونظرتها التي كانت تفوح بلهفة كاذبة تحولت إلى صدمة أو شيء آخر أكثر قتامة وقبل أن تتمكن من استجماع نفسها جاءها صوته باردا كريح ليلية تهب فوق الأطلال
هل سبق أن منعت عنك أي شيء مما طلبته على مدار هذه السنوات اكتفي بما لديك وارض.
ثم غادر ومن استقل سيارته وانطلق تاركا إياها وحدها في العتمة تقف كتمثال تآكله الزمن تراقب أضواء السيارة وهي تختفي في الظلام.
لكن خلف تلك الملامح المتجمدة كانت نيرانها تشتعل... طمعا غيظا وربما... شيئا آخر لا يزال ينمو في الظل.
في اللحظة ذاتها خرجت شادية من القصر عيناها تنطقان بالبرود كريح شتوية قاسېة ومن ثم وقفت أمام دينا تأملتها بنظرة تخلو من أي تعاطف ثم مالت برأسها قليلا وكأنها تجهز سهما مسمۏما لإطلاقه دون رحمة.
قالت بصوت يحمل سخرية لاذعة
أربع سنوات مضت... يوم جئت إلي تحملين بين يديك تقريرا طبيا متوهمة أنك ستنجبين أول حفيد لعائلة نصران خلال عام! لم أكن لأسمح لممثلة مثلك بالاقتراب من ظافر لولا هذا الوهم الساذج. والآن مرت السنون الأربع ولم تنجبي طفلا بل إن ظافر نفسه لم يعد يطيق حتى لمستك! على الأقل سيرين فعلت ما لم تستطيعي فعله... تزوجته!
كانت كلماتها كسياط من ڼار لسعت صدر دينا لكن شادية لم تمنحها حتى فرصة الرد... واستدارت ببساطة كأنها تلفظ شيئا تافها من حياتها تاركة إياها وحيدة وسط العراء.
وقفت دينا في مكانها تكافح دموع الذل التي تجمعت في عينيها رغما عنها ولم تجد أمامها سوى هاتفها تتشبث به كطوق نجاة قبل أن تتصل بصديقتها تطلب منها أن تأتي وتأخذها بعيدا عن هذا المكان الذي لم يخلف لها
↚
سوى المهانة.
بعد قليل كانت السيارة تتنقل بهما بين الطرقات وصوت المدينة ينبض من حولهما لكن عقل دينا كان في مكان آخر. وحين مرت السيارة بمطعم Golden Moon التفتت نحوه بلا وعي كأنما تبحث عن شيء مفقود بين أضوائه الخاڤتة.
دينا ماذا هناك سألتها صديقتها باستغراب
وهي تراقبها بطرف عينها.
لكن دينا لم تجب فقد كانت الأفكار تتدافع في رأسها كأنما تعيد مشاهد يومها في قصر نصران بكل تفاصيلها القاسېة.
شعرت بيدها تنقبض وكأنها تحاول كبح ڠضب يشتعل في أعماقها. وأخيرا نطقت بصوت منخفض لكنه مصمم
أعلني أنني زرت قصر نصران اليوم... مع ظافر.
نظرت إليها صديقتها بتمعن ثم أومأت برأسها.
فهمتك.
في تلك الأثناء في فيلا كوثر الفاخرة كان الليل قد أرخى سدوله وسكون ثقيل خيم على المكان.
في الداخل وقف زكريا عند باب غرفته يلقى نظرة خاطفة على أرجاء الفيلا ثم زفر بضجر قبل أن يدعي الإرهاق ويغلق الباب خلفه بهدوء.
وما إن انفرد بنفسه حتى تحولت ملامحه وأسرع يجلس أمام مكتبه ثم فتح حاسوبه المحمول وأخذت أصابعه تنقر على لوحة المفاتيح بسرعة ودقة.
وفي لحظات كانت الشاشة تومض بسيل من المعلومات سطور متشابكة وكلمات متراقصة كلها تدور حول رجل واحد... ظافر.
رواية عشق لا يضاهى تمصير أسماء حميدة لمتابعة مواعيد النشر يرجى الانضمام إلى جروبنا المتواضع روايات عالمية بنكهة عربية أو متابعة صفحتي الشخصية روايات أسماء حميدة
الفصل 43
في بهو السلطة والنفوذ حيث تحاك الخيوط الخفية للمصائر وقف اسم يلمع كالذهب في سجل الأعمال
ظافر نصرانالرئيس التنفيذي لشركة آل نصران كوربوريشن الوريث الأكثر بريقا وسط عائلة نصران العريقة حيث المال ليس مجرد وسيلة بل هوية تتوارثها الأجيال.
على شاشة الهاتف أجرى زكريا بحثه السريع فلم يستغرق الأمر سوى لحظات حتى وجد الموقع الإلكتروني لمجموعة آل نصران والمقر الرئيسي للإمبراطورية خزن زكريا الموقع في ذاكرة الهاتف وبينما كانت أصابع القدر تعزف لحنا جديدا تسربت أغنية شهيرة أخرى إلى مسامعه وكأنها تؤرخ لحظة اكتشافه التالي.
عنوان يتصدر وسائل التواصل الاجتماعي يزأر كإعلان حرب
عودة دينا إلى المنزل برفقة الرئيس التنفيذي لشركة آل نصران كوربوريشن.. والتقت رسميا مع والديه.. هل سيكون زفافها على وريث العائلة وشيكا
تجمدت ملامح زكريا بينما التوت شفتاه في سخرية قاتمة واندلعت نيران خفية في عينيه وهو يحدق في الشاشة بحثا عن كل ما يمكن أن يقوده إلى حقيقتها.
غاص في أعماق الشبكة المظلمة حيث القصص ليست مجرد أخبار بل ظلال تسكن العتمة تتراقص على حافة الحقيقة والخيال.
كل معلومة وجدها عن دينا كانت أكثر إثارة من سابقتها كأنها ألغاز متشابكة كل خيط فيها يقوده إلى متاهة أخرى أكثر تعقيدا.
عبس الصبي الصغير يتمتم بحدة
ظافر! ذلك الحقېر الذي لا يعرف معنى المبادئ ولا شيء عن الأبوة! إنه عار على اسمه!
في البداية فكر زكريا في ڤضح كل تلك الأسرار على الملأ لكنه تراجع بعد لحظة تأمل فقد كان ذلك بمثابة تساهل لا يستحقه ظافر لكن .. إذا كان لا بد أن يدفع ثمن قراراته فليكن العقاپ أعنف وأقسىوذلك لن يتحقق إلا بوجود دينا في حياته.
في صباح اليوم التالي وبينما الشمس ترسم خيوطها الذهبية على المدينة كانت كوثر تستعد ليوم حافل فكونها ابنة لعائلة مرموقة كان والدها يرى أن عليها خوض معترك الإدارة واكتساب الخبرة لذا قرر أن تعود إلى المنزل وتتولى إدارة إحدى الشركات الفرعية لذا لم يكن بوسعها البقاء في الفيلا كثيرا لكنها لم تكن قلقة فالمنزل عامر بالمدبرات وزكريا رغم حداثة سنه إلا أنه كان يتصرف بوعي يسبق عمره مما جعل العناية به أمرا في غاية السهولة.
وقفت كوثر أمام المرآة تمسك فرشاة أسنانها وهي تتحدث إلى سيرين عبر الهاتف وجاء صوتها مفعم بالنشاط رغم تعب الصباح
ساسو زاك طفل رائع لا يزال نائما في غرفته.
على الطرف الآخر أومأت سيرين ثم أضافت بعد لحظة تفكير
كنت أخطط لإلحاقه بروضة أطفال عندما كنا في أثينا لكن تأخرت الأمور بسبب حالة نوح لذا أريد أن أجد له مكانا مناسبا الآن.
توقفت كوثر عما تفعله ورفعت حاجبا متفاجئة
زاك روضة أطفال
الطفل الذي يتعامل
مع الحياة بذكاء يفوق سنه ذاك الذي يمتلك نظرة تخترق الأرواح كيف سيندمج وسط الأطفال
لكنها فكرت للحظة أخرى.. صحيح أنه يملك شخصية قوية قد تجعله مهيمنا بين أقرانه لكنه أيضا يمتلك جانبا لطيفا يجعله محبوبا ومع ذلك بوجهه الوسيم وثقته الطاغية لن يكون للأولاد في الروضة أي فرصة أمامه!
هل هناك مشكلة سألت سيرين بحيرة.
لا شيء.. سأهتم بالأمر. أعرف روضة دولية ممتازة تناسبه. تذكرت كوثر أن ابن أخيها كان يرتاد نفس المكان.
اعتبريه منتهيا.
أجابتها سيرين بإمتنان
شكرا لك.
ابتسمت كوثر برحابة وكأن الأخرى تراها وقالت بود
لا داعي للشكر ساسو.
أما زكريا فقد كان لا يزال غارقا في نومه بعد أن ظل مستيقظا حتى وقت متأخر ليلة البارحة غافلا عن أن مصيره قد رسم بالفعل وأن خطة جديدة لحياته بدأت تحبك في الخفاء.
وعلى الجانب الآخر أغلقت سيرين الهاتف على مضض وهي تستعد للخطوة التالية في لعبتها.. لذا عليها التوجه إلى مجموعة آل نصران حيث ستبدأ معركة أخرى وسيكون للقدر كلمته الأخيرة.
استفاقت سيرين ذلك الصباح على خبر لم تكن تتوقعه قط.
مررت أصابعها فوق شاشة هاتفها وعيناها تضيقان شيئا فشيئا مع كل عنوان يتراقص أمامها ظافر أخذ دينا إلى منزله.
زفرت بتوتر فهي تعلم أن عليها التحرك بسرعة... أن تسبق الزمن قبل أن يحكم قبضته عليها أجل إذ يجب أن تكون هي أول من يحمل بذرته قبل أن يثبت زواجه من دينا وإلا سيصبح كل شيء أكثر تعقيدا بل وأكثر ألما.
وقفت أمام المرآة ومررت أناملها بخفة فوق ملامحها كأنها تنحت تمثالا لامرأة يجب أن تكون مثالية الليلة.
اختارت فستانا أسودا أنيقا لونه يغزل الليل في تفاصيله وأضفت على عينيها قليلا من السحر المتقن بمستحضراتها.
حين انتهت سيرين من إتمام زينتها رمقت انعكاس صورتها في المرآة بنظرة جديدة...
اليوم هي ليست سيرين المعتادة بل امرأة تحارب من أجل صغيرها.
وما إن استقر جسدها الممشوق داخل السيارة حتى اهتز هاتفها برسالة من رامي حارسها الشخصي.
طارق ينتظر عند البوابة.
قطبت سيرين حاجبيها في انزعاج وانفرجت شفتاها عن تنهيدة ساخطة إلى أي مدى يمكن أن تصل به دينا للسيطرة عليه كيف أصبح طارق ظلا يتبع خطواتها أينما ذهبت
بلا تردد التفتت سيرين نحو السائق وأمرته
قد بسرعة... لا أريد أي إزعاج اليوم.
تحركت السيارة بسلاسة ولكن عند بوابة القصر كانت هناك سيارة مايباخ تقف بثبات كأنها صخرة تتحدى التيار.
لم تكترث سيرين لأمر من بالخارج أمرت السائق بتجاوزه واندفعت سيارتها كالسهم.
في المقابل كان طارق يتابع المشهد بعينين تضيقان كصقر أدرك أن فريسته تحاول الفرار. وبجانبه وقف حارسه الخاص مترددا في كسر الصمت المتوتر
سيد طارق... هل نتحرك
كان صوت طارق حادا كحد السيف
اتبعها.
أومأ السائق يقول بطاعة
أوامرك
سيد طارق.
استند طارق إلى المقعد ونظراته ظلت معلقتان بالمركبة التي تتلاشى في الأفق لكن داخله كان الطوفان يجرفه بعيدا عن يقينه نظرة واحدة في المرآة العاكسة لروحه كشفت ما يحاول إنكاره... ذلك الشعور الغريب بالذنب الذي تسلل إلى ملامحه.
حين بدأت السيارة التي تقل سيرين تتجه نحو شركة فرعية تابعة لمجموعة نصران ازداد فضوله.
لماذا تأتي إلى هنا كانت هذه الشركة تحت إشرافه مباشرة وتشترك في نفس المبنى مع المقر الرئيسي للمجموعة.
لم ينتظر طويلا التقط هاتفه وأصدر أوامره بصرامة
ماهر... انزل الآن.
↚
وبعد دقائق كان ماهر أمامه حاجباه معقودان بدهشة غير مفتعلة تماما.
لكن حين نطق طارق بجملته التالية اتسعت عيناه بصعوبة
سيرين هنا. اكتشف لي ما الذي تفعله.
كاد ماهر أن يتلعثم ويفضح علمه بأمرها اسمها وحده كان كفيلا بتجميد الكلمات في حلقه وفجأة قال بتأتأة
سيد طارق... أليست سيرين مېتة كيف تكون هنا
ظل طارق صامتا ولكن عبثت يمينه بجيب سترته وأخرج هاتفه بلا تردد ومن ثم مرر إصبعه فوق الشاشة حتى ظهرت الصورة بوضوح... كانت لسيرين وهي تخطو بثقة داخل المبنى ملامحها في الصورة واضحة تعطي معلومة صريحة بأنها من الأحياء فلا مجال للشك.
تسللت الصدمة إلى عظام ماهر ولبث للحظات عاجزا عن استيعاب ما يرى ومن ثم غمغم بتردد
كيف يمكن لشخص ماټ أن يعود ليظهر أمامهم بهذه السهولة
قلبه يخفق بارتباك فهو يعلم كم كراهية طارق لسيرين لكن صوت طارق اخترق أفكاره كالسوط
تحقق فورا! لا أريد أي شائعات عنها تنتشر في هذا المكان. فهمت
أومأ ماهر سريعا وقبل أن يسمح لنفسه بالتفكير تحرك في الاتجاه المطلوب.
لم يكن يدري إن كان سيبحث عن إجابة... أم عن حيلة لإبقاءها شبح
الفصل 44
في ذات اللحظة كان الجد يمسك هاتفه بقوة كأنما يقبض على خطيئة لن يغفرها وانطلق صوته عبر الأثير كطلقة ڼارية محملا بالڠضب والعتاب
كيف تجرؤ يا طارق أتظن أنك ستعيش وحيدا للأبد من منحك الجرأة لتخلف موعدا رتب لك بعناية
ارتبك طارق للحظات كأنما داهمه السهم على حين غفلة لكنه سرعان ما استعاد هدوءه المعتاد وقال بصوت محايد
جدي أنا مشغول الآن.
لكن الجد لم يكن ليرضى بذلك الرد البارد فهدر صوته مجددا مشبعا بالحدة والوعيد
مشغول أتظنني أحمق لا يرى كل يوم تذرع الشوارع بصحبة أولئك الذين لا نفع فيهم وتدعي الانشغال عد فورا
وإلا فلتتحمل العواقب!
لم يكن أمام طارق سوى أن يذعن فتنهد باستسلام وأدار عجلة سيارته عائدا إلى المنزل.
في تلك الأثناء وصلت سيرين إلى شركة نصران تعبر الردهات كنسمة عابرة تحمل في طياتها مزيجا من الثقة والغموض.
لم تتوقف أو تتلفت بل صعدت إلى الطابق العلوي مباشرة فهي كانت تعلم الطريق إلى هدفها مسبقا
ألقى ماهر نظرة نحوها وجال ببصره فوق هيئتها المتأنقة تلك الأناقة التي لم تكن مبتذلة بل متقنة حد الإبهار.
كانت ترتدي ثوبا يبرز حضورها الآسر محاطا بهالة من الفخامة لا تتصنع ولا تتكلف.
لم تكن تلك الفتاة البسيطة التي اعتاد رؤيتها من قبل بل كانت أشبه بأميرة خرجت للتو من حكاية لم تكتب نهايتها بعد.
تقدم ماهر إليها بخطوات محسوبة وحاول أن يبدو رسميا وهو يسألها
السيدة سيرين كيف يمكنني مساعدتك
جاء ردها باردا كحد السيف
أود رؤية السيد ظافر.
عند سماع مطلبها استعاد ماهر توازنه ورفع حاجبيه في لا مبالاة مفتعلة ثم قال بصوت محايد
السيد نصران مشغول اليوم أخشى أنه لن يتمكن من لقائك.
لكن سيرين لم تكن بالسذاجة التي يظنها فقد درست خطواتها جيدا قبل أن تخطوها ومن ثم نظرت إليه بتمعن كأنها تزن كلماته في ميزان لا يخطئ ثم مالت برأسها قليلا وقالت بنبرة ناعمة لكن مشبعة بالقوة
حقا إذن أبلغه أن تعاوننا انتهى هنا.
في تلك اللحظة بدت كلماتها كالقنبلة التي ألقيت في صالة الانتظار الهادئة فتغيرت ملامح ماهر فورا وارتبكت قسماته ثم ابتلع ريقه سريعا وهو يقول
لحظة سيدة سيرين سأتحقق من الأمر مع السيد ظافر!
ثم أسرع أمامها وقد تلاشت تماما تلك الغطرسة التي كانت تلوح في صوته منذ لحظات مفسحا لها الطريق نحو المكتب وكأنها ملكة تعبر البوابة الملكية لمملكتها.
عندما مرت سيرين بمكتب السكرتارية كانت الدهشة تملأ عيون السكرتيرات اللاتي عملن هناك منذ اختفائها الغامض قبل أربعة أعوام.
نظراتهن كانت أشبه بمرايا تعكس الصدمة وكأنهن يشاهدن شبحا ينبعث من رماد الماضي وأسئلة لم تنطق جالت بأذهانهن
هل كانت حقا قد ماټت أم أن الأشباح لم تعد حكرا على الأساطير
المرأة التي وقفت أمامهن لم تكن تلك الفتاة المتواضعة التي عرفنها يوما جاءت إلى هنا ترتدي ثوبا أنيقا تمشي بخطوات واثقة كأنها ولدت من جديد في قالب مختلف يحمل نفس الملامح لكن بروح أخرى.
ولجت سيرين إلى مكتب ظافر تحت وابل من العيون المشدوهة وكأن الزمن قد التف حول نفسه ليعيد مشهدا كان يجب أن يظل في طي النسيان.
في الداخل كان ظافر واقفا عند النافذة صامتا كتمثال يحرس أسرارا لا يجب أن تباح وهناك بدلة مصممة خصيصا تحتضن جسده الطويل وكأنها وجدت لتبرز حضوره الطاغية ظافر نصران.
طرق ماهر الباب ثم قال بصوت خاڤت
السيد ظافر.
انسحب ماهر بعدها في صمت مغلقا الباب خلفه فالموقف الحالي لم يعد يحتمل شهودا.
استدار ظافر ببطء لتلتقي عيناه بعيني سيرين تلك العينين اللتين طالما حملتا سحرا لا يقاوم.
كانت تقف عند الباب في زي أنيق زادها حضورا متوهجا لكن كل ما رآه في تلك اللحظة كان صورة قديمة لصاحبة الكأس المترع بالمشروب وعينيها المغمورتين بسحر آسر كأنها كانت تعقد اتفاقا سريا مع الليل نفسه وذلك عندما كان بالقصر الذي تسكنه عما قريب.
أما هي فشعرت بعدم الارتياح تحت عمق نظراته التي تتفرسها وكأنها تخوض معركة غير متكافئة أمام عاصفة لا تهدأ.
قالت بنبرة حاولت أن تبقيها ثابتة
السيد ظافر لست متأكدة من سبب ضغينة سكرتيرك لي وإصراره على عدم مقابلتي لك ومرافقته لي إلى هنا وكأنني مراقبة أو غير مرغوب في وجودي هنا . هل هناك شيء لا أفهمه
ارتسمت على شفتيه ابتسامة خفيفة تحمل في طياتها مزيجا من التحدي والمرح قبل أن يقول بصوت هادئ لكنه مغو
تعالي إلى هنا.
ترددت لوهلة وكأن عقلها يقاوم الجاذبية التي لا تستطيع تفسيرها ثم خطت نحوه متوقفة على مسافة آمنة.
كان الهواء مشبعا برائحة خفيفة من السچائر تباينت مع ذاكرة قديمة فظافر لم يكن يحب الټدخين بل كان يمقته حد الهوس يحرص دائما أن تظل ملابسه خالية من أي رائحة قد تلطخ حضوره. لكن الناس يتغيرون أليس كذلك
اقترب منها خطوة أخرى عندما شعر بترددها فكانت المسافة تتآكل ببطء كأنها تسحب إلى نقطة اللاعودة.
ثم قال بصوت لم يكن يحتاج إلى رفعه ليسمع
تدعين أنك فقدت الذاكرة ألا تشعرين بالفضول لمعرفة ما حدث بيننا
نظرت إليه بثبات مصطنع وقالت
ما مضى قد انتهى. لا أريد سوى التركيز على الحاضر والمستقبل.
لكن ظافر لم يكن من النوع الذي يتقبل الإجابات السهلة لذا اقترب أكثر حتى باتت المسافة بينهما تقاس بالأنفاس حتى وجدت ظهرها يستند إلى الحائط وكأنها أصبحت رهينة للحظة لا مهرب منها... ثم.....الفصل 45
لم يكن ظافر رجلا يكتفي بالإجابات السهلة
↚
بل كان كالصياد الذي لا يهدأ حتى يحكم قبضته على فريسته.
اقترب منها أكثر حتى باتت المسافة بينهما عدم لا يذكر وأنفاسه الساخنة تلفح جانب وجهها كأنها وشم من ڼار لا يمحى.
تراجعت سيرين خطوة إلى الخلف فوجدت ظهرها يستند إلى الحائط وكأنها باتت رهينة للحظة لا مفر منها لحظة معلقة بين الخۏف واليقين بين الماضي الذي يطاردها والحاضر الذي يأسرها.
تأملها للحظات وقد طفق بعينيه طوفان من المشاعر خليط مربك من الڠضب والعتاب والحنين مشاعر لم تستطع سيرين أن تفك شفرتها أو ربما لم ترد أن تفهمها.
غمغم ظافر بصوت هادئ لكنه يحمل صدى عاصفة وشيكة
من أين حصلت على كل هذه الأموال للأعمال الخيرية في أقل من خمس سنوات هل منحك كارم إياها
ما لم تكن تعرفه سيرين هو أن ظافر لم يذق طعم النوم منذ رحيلها وأن الأيام القليلة الماضية لم تحمل له سوى أرق يتغذى على صورها مع كارم وبات الأرق بهواجسه بهما غولا ينهش عقله بلا رحمة.
حاولت سيرين أن تحافظ على تماسكها كي تبدو واثقة من حالها وهي تقول
أنا وكارم مجرد صديقين... لقد كسبت مالي بنفسي
لكنها لم تكد تنهي جملتها حتى أحاطت يديه بكتفيها تلك اليد التي هوت عليها ببطء كقيد غير مرئي قبل أن تنزلق إلى أسفل لتلتف حول ذراعيها كأنها تطوقها بوعد مبطن بل كټهديد صامت أو ربما توسل خفي ومن ثم عاود سؤاله بغشم
كيف حصلت على هذا كله! ماذا أعطيته في المقابل سيرين اجيبيني كانت نبرته مشحونة بشيء أعمق من مجرد الفضول شيء يشبه الغيرة لكنه مسمۏم بالشك.
دوى السؤال في رأسها كصدى في كهف معتم فحدقت فيه بعدم تصديق وارتجفت شفتاها قبل أن تنطق ماذا قلت
يداه كانتا دافئتين لكن كلماته كانت بردا يزحف تحت جلدها يجعل أطرافها ترتجف بغير إرادتها.
عضت سيرين على شفتيها پقهر عندما شعرت بالډماء تتدفق سريعا إلى قلبها كأنها تحاول أن تهرب منه لكنها كانت عالقة محاصرة وكأن الجدران نفسها تآمرت مع ظافر لسجنها.
اقترب أكثر حتى كادت أنفاسه تتسلل إلى أذنيها قبل أن يهمس بكلمات حملت سما مغلفا بالعسل
أخبريني كم أعطاك كارم... ومهما أغدق عليك من مال سأضاعفه!
رفرفة جفونها كانت وسيلة لكبح عبراتها إذ لم يكن صوته مجرد كلمات بل كان حبلا يلتف حول عنقها ببطء يجرها إلى هاوية لا قرار لها.
مترددة لكنها تحمل جرأة الجناة الذين لا يخشون العقاپ.
لمساته دقيقة وفي مقټل وكأنه يرسمها بيده أو كمن يرغب في أن يختمها بنسيج روحه أجل فهو يريد أن يسجنها بين ضلوعه إلى الأبد أن يطبعها بسكه كي تكون له إلى ما لا نهاية له هو فقط في هذه اللحظة جل ما كان يريده هو أن يصبغها بألوانه
حتى تصير جزءا منه... مهما كان الثمن.
هل تتذكرين كم تدين لي عائلتك كانت كلماته قاطعة كحد السيف لكنها رغم ذلك حملت بين طياتها رجاء خفيا صوتا مكسورا لرجل يحاول أن يستعيد شيئا كان يوما ملكه.
ثم تابع بصوت أكثر انخفاضا كمن يساوم على مصيره
سأنسى كل ذلك... فقط قولي لي كم تريدين وابق. سأمنحك كل شيء!
لكن... هل كل شيء يكفي هل يمكن للذهب أن يشتري ما ضاع وهل تستطيع الأرقام أن تكتب قصة حب لم تكتمل سطورها
لم تترك له فرصة ليكمل فهي لم تستطع أن تتحمل أكثر من ذلك وبلا تفكير رفعت يدها وصڤعته بقوة وكأنها تلقي عليه حكما نهائيا لا نقض فيه.
صوت الصڤعة دوى في الغرفة بينما لهاثها كان يرتجف بين شفتيها
يا لك من حقېر!
شعر بحړقة في خده لكن الألم لم يكن في الجلد كان أعمق... كان في كبريائه الجريح.
رفع يده وأمسك معصمها بقوة يشدها نحوه وعيناه تغوصان في ملامحها المتوترة ثم همس ببرود لا يقل عن صقيع الشتاء
أخبريني... كم
كانت تعرف أدركت الآن أنها أحبت الرجل الخطأ لكنها لم تدرك أنها في الحقيقة... لم تحبه يوما.
لقد عرفت ظافر.
ظنت يوما أن هوسه بالنظافة وعزلته عن العالم هو ما يجعله مختلفا عن الرجال الآخرين لكن ها هو الآن... ليس مختلفا عنهم في شيء... نفس الشراهة نفس الاستحواذ نفس الرغبة في الامتلاك.
سيد نصران كن محترما من فضلك.
رفع حاجبه قليلا ومن ثم ابتلع حتى اهتزت تفاحة آدم خاصته وهو مد يده ببطء يرفع ذقنها بأنامله الخشنة.
أخذ ينظر إليها طويلا كأنه يتحدى ذاكرتها بل كمن يستجدي أثرا قديما لمشاعر ربما دفنتها السنوات ثم قال بصوت أجش هادئ لكنه آمر
ناديني بظافر.
شهقت سيرين تكتم لهفتها وانصياع قلبها اللعېن لمشاعر ظنت أنها دفنت بينما اتسعت عيناها دهشة لما تراه في عينيه من استجداء يائس.
ظل يحدق فيها وهو يحاول أن يفتش في نظراتها عن الحقيقة.
هل فقدت ذاكرتها حقا هل لم تعد تشعر به هل يمكن أن تكون قد محته هكذا ببساطة
انتظر... وانتظر... حتى نطقت أخيرا.
ظافر.
خرجت الكلمة من بين شفتيها بلا حرارة بلا روح مجرد لفظ خاو من أي مشاعر كانت مختلفة تماما عن ذي قبل.
في عقله ترددت الذكرى كصفحة ممزقة من كتاب ماض لم يكتمل.
ظافر... ظافر...
تذكر كيف كانت تعانقه كيف كانت تهمس باسمه كيف كانت تغرقه بنظراتها المفعمة بالحياة.
أغمض عينيه پقهر يشد على شفتيه بعناد ورفض أن يصدق.
لا.
هي لم تنس. لا يمكن أن تنسى.
انحنى نحوها فجأة كأنما يحاول أن يعيد لها ذاكرتها أو ربما... أن يعيدها إليه بالق وة.
وفجأة قطعت أصوات من الخارج الصمت المتوتر داخل المكتب.
سيدة دينا السيد نصران في اجتماع لا يمكنك الدخول.
لكنها هزت كتفيها بعدم اكتراث واستكملت طريقها تتمتم بتعال
لدي شيء مهم أريد أن أخبره به تنحى
جانبا!
تجاهلت دينا محاولات السكرتيرة لمنعها ودخلت.
في اللحظة ذاتها تمكنت سيرين من دفع ظافر بعيدا عنها وتراجعت لاهثة وعيناها مصدومتان مما حدث للتو.
سيرين!
تجمدت دينا عند عتبة الباب وعيناها متسعتان في ذهول لم تصدق ما تراه أمامها.
أما ظافر فاستدار نحوها پغضب جارف وصاح بنبرة حادة
اخرجي!
لم تكن سيرين تتوقع أن تلتقي دينا بهذه الطريقة لكنها لم تتراجع إذا فالأمر ليس موجها لدينا بل هي المقصودة لذا همت بالتحرك نحو الباب لكن يدا قوية أمسكت بذراعها فجأة.
لقد كنت أقصد أن تغادر هي وليس أنت!
ثبتت نظراته على شفتيها وكأنها بصمة تؤكد أنها... لا تزال له.
ثم همس بحدة
↚
سيدة تهامي لا يزال لدينا عمل يجب مناقشته.
وقفت دينا في مكانها للحظات تحاول استيعاب المشهد أن تتشرب الحقيقة التي رآتها بأم عينيها لكن شيئا في داخلها ټحطم.
قالت بصوت بارد كأنها تغمد خنجرا في صدره
ظافر دعني أعرف عندما تنتهي منها.
ثم استدارت وغادرت بينما كان وجهها يتلون بالسواد وڠضب هائل يتأجج في صدرها.
أما سيرين فوقفت مكانها تقبض على ذراعيها كأنها تحتمي من عاصفة على وشك الاجتياح.
لم تكن مېتة.
فكيف... كيف يمكنها أن تظل على قيد الحياة
هذا ما دار برأس الملعۏنة دينا.
الفصل 46
كان ظهور دينا المفاجئ بمثابة حجر ألقي في بركة ساكنة فعكرت صفو اللحظة وتلاشت على إثرها تلك الأجواء الحم يمة التي غلفت الغرفة منذ قليل
أما ظافر فلم يتأخر في الاقتراب من سيرين مجددا غير أن الأخيرة تراجعت خطوة إلى الوراء وكأنما هبت عليها ريح باردة فدفعها إحساس خفي بالهروب
تقهقرها الغير متوقع وتلك الحركة البسيطة التي أوصلت إليه إحساس بنفورها منه كانت كفيلة بإشعال نيران الڠضب في عيني ظافر وأخذت العديد من التساؤلات تضج برأسه
كيف لها أن تتراجع عنه كيف وهي التي كانت دوما من تبادر بالاقتراب كيف تبدل كل شيء بهذه السرعة
استقامت سيرين في وقفتها وهي تحول تهدأت وتيرة أنفاسها كي لا يفضح اضطرابها ثم قالت بنبرة رسمية باردة
سيد ظافر ما الأمر الذي تود مناقشته معي
كانت تدرك تماما أنها لا تملك رفاهية التسرع لا سيما عندما يتعلق الأمر بظافر ذلك الرجل الذي تتحرك أفعاله وفق شيفرة غامضة لا يمكن التنبؤ بها تماما كبحر هائج يخدعك بهدوئه قبل أن يبتلعك في لحظة لذا لم يكن لديها خيار سوى الحذر الحذر الشديد
أما ظافر فكان يطيل النظر إليها متمعنا في قسماتها متفحصا لغة جسدها كما لو كان يبحث عن شيء مفقود ثم قال بنبرة ملغزة
ألست من عشاق العمل الخيري تعالي غدا لدي مكان أريدك أن تريه
لم تجد سيرين مبررا للرفض فهزت رأسها بالموافقة ثم غادرت المكان بخطوات موزونة لكنها ما إن فتحت الباب حتى وجدت دينا واقفة بالخارج كما لو كانت تنتظرها منذ الأزل
قطبت دينا حاجبيها پخوف وسدت طريقها على الفور بينما كانت عيناها المتوترة تفضح خۏفها وهي تغمغم بخفوت لا يخلو من المكر
سيرين أنت على قيد الحياة! هذا رائع! لا بد أن نتحدث!
نظرت إليها سيرين بنصف ابتسامة تلك الابتسامة التي تحمل في طياتها غموضا أكثر من الكلمات ذاتها ثم قالت ببرود
معذرة يا آنسة لكن من تكونين
انفرجت عينا دينا في صدمة وكأن الأرض انشقت تحت قدميها تقول بعدم تصديق
أنت لا تعرفينني!
لكن سيرين لم تتكلف حتى عناء التفسير بل زادت الطين بلة حين أضافت بنبرة ساخرة
هل كنا مقربتين من قبل آسفة لا أذكر كما أنني لا أشعر برغبة في الحديث معك
ثم استدارت بلا اكتراث واتجهت نحو المصعد تاركة دينا غارقة في دوامة من المشاعر المتضاربة وما إن أغلق باب المصعد حتى ابتلعت الأرض الصمت ولم يتبق سوى ظل القلق يخيم على ملامح دينا المشدوهة
وبلا تردد اندفعت دينا إلى مكتب ظافر الذي كان جالسا خلف مكتبه غارقا في أفكاره حين دخلت فجأة
رفع ظافر عينيه إليها بنظرة حيادية وسأل ببرود
ما الأمر
تنفست دينا بعمق محاولة السيطرة على ارتباكها ثم قالت بنبرة قلقة
أردت أن أشرح لك بخصوص الأخبار التي انتشرت اليوم لم أكن أعلم أنني تحت عدسات المصورين لكن الصحفيين التقطوا صورا لنا ونشروها على الإنترنت زاعمين أنك أخذتني إلى منزلك لمقابلة والديك وأننا سن
توقفت عن الكلام حين لاحظت كيف تقلصت ملامح ظافر للحظة لكنها لم تكن قادرة على قراءة أفكاره
في وقت سابق من ذلك الصباح كانت سكرتيرته قد أطلعته على الأخبار المتداولة لكنه لم يحرك ساكنا ولم يأمر قسم العلاقات العامة بإصدار أي توضيح لم يكن السبب أنه لم يهتم بل لأنه أراد أن يرى كيف ستتفاعل سيرين مع الأمر ولكن الآن بعد أن رأى برودها التام
شعر وكأن شيئا داخله قد انكسر
هل حقا لم يحرك الأمر بداخلها ساكنا
تأمل ظافر وجه دينا للحظة قبل أن يقول بلامبالاة
حسنا لقد فهمت والأمر برمته لا يعنيني
لم يكن ذلك الرد الذي توقعته دينا فتقدمت نحوه خطوة وسألته بتردد
ظافر ماذا عن سيرين! ألم تكن مېتة كيف يمكن أن
بمجرد أن سمع ظافر اسم سيرين يخرج من فمها حتى أغلق الملف الذي بين يديه ورفع عينيه إليها مردفا ببرود جليدي
ومن قال لك أنها ماټت
تجمدت الكلمات في حلقها بينما كانت تنظر إليه كأنها رأت شبحا فلم يتركها ظافر تنغمس في هواجسها بل أشار نحو الباب بإيماءة حاسمة وقال بصوت قاطع لا يقبل الجدل
إذا لم يكن لديك شيء آخر فاخرجي
خرجت دينا من مكتبه وهي تكاد لا تصدق ما يحدث فقد أخذت الأفكار تتراقص في عقلها كأشباح تعبث بعقلها وبدأ شعور غريب بالخۏف يتسلل إلى قلبها
كيف لشخص كان يفترض أنه ماټ أن يعود إلى الحياة وكيف سيؤثر ذلك على علاقتها بظافر الغير مستقرة من الأساس
ارتجفت أطراف دينا وهي تتخيل جميع الاحتمالات ف سيرين لم تعد مجرد شبح من الماضي بل عادت لتنتزع كل شيء
بعد أن غادرت سيرين مكتب ظافر وجدت نفسها في مكتب آخر كأنما تعيد ترتيب حياتها وفق خارطة جديدة
جالت بعينيها في المكان كمن يحاول ترويض واقع لم يختره ثم استدارت واتجهت نحو الطابق السفلي
لم تكن قد تحركت سوى بضع خطوات حتى اعترضها أحدهم تلمع بعينيه نظرة مبطنة بمعان لم تتضح بعد
مرت عشرون دقيقة وسيرين تجلس قبالة دينا في غرفة خاصة وبالرغم من الهدوء الذي ساد أجواء الغرفة إلا أن الهواء كان مشحونا برائحة التحدي
سمعت أنك فقدت ذاكرتك
قالتها دينا والسخرية تتسلل من بين كلماتها كما يتسلل السم في كأس نبيذ ومن ثم استكملت حديثها المتهكم
هل يعني هذا أنك نسيت والديك وعائلتك أيضا
ارتشفت سيرين قهوتها بتمهل ثم وضعت الكوب أمامها برفق كما لو كانت تزن كلماتها قبل أن تلقي بها في وجه خصمتها
وما الذي تحاولين قوله بالضبط دينا
ضمت دينا شفتيها في تعال وعيناها تطلق طعنات أشبه بسكاكين صقيلة تتلمس موضع الطعن تقول بغرور زائف
سيرين أعلم أنك تغارين مني لأنني أخذت ظافر منك لكن أليس من المثير للشفقة أن تلجئي إلى هذه الحيل للتقرب منه
مالت سيرين بجسدها قليلا إلى الأمام ثم استطردت بنبرة من يعلن انتصاره الأخير
ألم تري الأخبار أنا وظافر سنتزوج قريبا هل تربيت على سړقة رجال الأخريات
لم ترد سيرين مباشرة بل انحنت برأسها قليلا تميلها إلى اليمين تنظر إليها بحاجب مرفوع قبل أن تنطلق ضحكة خاڤتة من بين شفتيها حيرت دينا فألقت عليها نظرة متوجسة تسأل بنبرة صوت متلجلجة وقد بدا عليها الارتباك
ما الذي يضحكك
رفعت سيرين عينيها إليها وبهدوء أشبه بالسكون الذي يسبق العاصفة قالت
أضحك على مدى حسن أخلاقك دينا
في لحظة تحولت ملامح دينا التي فهمت الإهانة المغلفة واشتعلت عيناها بالڠضب
لكن سيرين لم تمنحها فرصة للرد بل تابعت بنبرة ثابتة
هل تزوجت أنت وظافر حقا آخر ما علمته أنكما لم تتزوجا بعد وإن لم تكوني زوجته فكيف أسرقه منك ثم أخبريني ما الدليل الذي لديك على أنني فعلت
في تلك اللحظة شعرت دينا وكأن الأرض تميد تحت قدميها فلطالما كانت هي من يوجه السخرية فمنذ متى أصبحت هي هدفا ل سيرين
حاولت دينا أن تخفي اضطرابها
فوضعت قناعا من البرود وقالت بصوت خاڤت تواري فيه رجفة الغيظ
يبدو أنك لم تفقدي ذاكرتك بعد
عندما تصطدم النيران ببعضها البعض ترى أيهما سينطفئ أولا
عشق لا يضاهى بقلم أسماء حميدة
تابعونا على جروب روايات عالمية بنكهة عربية أو متابعة صفحتي الشخصية روايات أسماء حميدة
الفصل 47
بدأت دينا هجوما واه تنفث كلماتها وكأنها ترسم طريقا شائكا أمام سيرين
سيرين دعيني أمنحك بعض الحكمة من لم يحبك يوما لن يحبك أبدا سواء تظاهرت بالصمم أو ادعيت أنك فقدت ذاكرتك صدقيني ظافر لن يميل إليك أبدا هذه معركة خاسرة حتى
↚
وإن أعدت ترتيبها آلاف المرات.
ظلت سيرين صامتة كأنها تمثال من جليد منحوت بعناية لا حركة لا اهتزاز في الجفون ولا حتى شبح انفعال يطفو على سطح عينيها بل رفعت بصرها إليها وجاء صوتها هادئا لكنه حمل لسعات باردة
هل انتهيت
اهتزت دينا للحظة إذ لم تكن تتوقع هذا البرود القاټل.
فوقفت سيرين ببطء وكأنها تعطي اللحظة وژنا أثقل ثم استدارت إليها ترمقها بنظرة واثقة أشبه بحد السيف وقالت
ما دمت متأكدة أنه يحبك فلماذا تشعرين بحاجة ملحة لأن تواجهيني حتى أنني ظننت حقا كوني شخصا يحاول انتزاع شيء بالقوة منك أليس من المفترض أن يكون الحب مطمئنا أم أنك تخشين أن يكون مجرد وهم برأسك وأن ظافر لا يحبك فعلا دينا
لم تمنحها سيرين فرصة للرد بل أطلقت ضحكة ساخرة باردة كأنها نسمة شتاء تتسلل من نافذة مفتوحة على مصراعيها ثم استدارت وغادرت تاركة خلفها صمتا أثقل من الړصاص.
تابعت دينا خطوات سيرين وهي تختفي لتستحضر صورة قديمة في ذاكرتها... ابنة عائلة تهامي المتغطرسة تلك التي كان الجميع يسعى لنيل رضاها والآن الآن لا شيء سوى أطلال عائلة كانت يوما في القمة.
انقبض قلب دينا وهي تستعيد كيف كانت تجبر على التودد إلى سيرين لمجرد أن تقترب من عائلة تهامي وكيف كانت تهبط بكرامتها درجة تلو الأخرى لأجل ذلك لكن الزمن دار والسقوط كان قاسېا تمتمت دينا بذهول
لم تعد سيرين شيئا الآن فلماذا لا تزال تحمل كل هذا الكبرياء
أخذت دينا نفسا عميقا تبتلع غصة في حلقها ثم قطع صوت الهاتف أفكارها.
رفعت دينا الهاتف إلى أذنها لتستمع إلى صوت صديقتها تقول بشيء من الحماسة المضطربة
دينا الأغنية التي أردتها أصبحت متاحة أخيرا.
ارتفع حاجبا دينا بدهشة تقول
حقا
لكن الصديقة ترددت قليلا قبل أن تضيف
ولكن...
ما الأمر أخبرني سألتها دينا.
فأجابتها من على الطرف الآخر
السيدة ساسو لديها أغنية تم إصدارها على منصة في الخارج لكنها لم تتقدم بطلب للحصول على حقوق الطبع والنشر بعد. لقد سمعت الأغنية. من المؤكد أنها ستصبح ناجحة. يمكننا إجراء بعض التعديلات ...
كان ذلك انتحال ودينا تفهم ذلك جيدا لكنها لم تتردد لحظة عندما قالت
بما أنه لا يوجد حقوق نشر فهذا ليس عملها أنت تعرفين ذلك.
بمجرد الاستماع إلى هذا التصريح تنفست صديقتها براحة والآن أصبحت واثقة من قدرتها على تنفيذ الأمر.
أغلقت دينا الهاتف لكن عقلها لم يكن مع الأغنية بل كان يتجه
نحو شيء آخر... سيرين.
كيف ستتعامل معها بعد الآن
لم تتجه سيرين نحو منزلها الحالي مباشرة بل ساقتها قدماها إلى القصر... قصر تهامي الإرث الذي حمل عبق ذكريات طفولتها وأحلام مراهقتها لكنه الآن لم يعد كما كان.
فحينما عبثت يد الخېانة بأموال العائلة ونهبت الثروة على يد سارة وتامر كان القصر هو الثمن الذي قدم قربانا للضياع وها هو الآن محجوز في قبضة غرباء لا يمتون إليها بصلة ولا تعرف من هم.
جل ما تعرفه أن غرباء يسكنون حيث كانت ضحكاتها تتردد بين الجدران حيث كانت خطوات أبيها تتهادى في الممرات الرخامية حيث كانت الشمس ترسل خيوطها الدافئة عبر نوافذ الطابق العلوي لتوقظها كل صباح على أحلام لم يكتب لها أن تكتمل.
لم تكن سيرين تعلم شيئا عن مصير سارة أو تامر بعد أن قررت الانسحاب من المشهد كأنها شبح قرر أن يتلاشى بلا أثر وظلت أخبارهم سرابا بالنسبة لها ولم تشأ أن تمد يدها لتلمسه خشية أن تصطدم بحقيقة أكثر إيلاما مما تخيلت.
ترجلت من السيارة على مهل كأن روحها تزن أضعاف جسدها ووقفت هناك على مسافة كافية لتتأمل المبنى المألوف لكنه بدا لها غريبا...
نظرت سيرين بحزن إلى نوافذ القصر العتيقة التي كانت تطل منها ليالي الصيف والآن لم تعد تحمل دفء الذكريات وكذلك أبوابه الفخمة التي لطالما فتحت لاستقبال الأحباب بدت موصدة في وجهها وحدها.
تسلل القهر إلى مقلتيها فارتعشت نظراتها وهي تبحر بين تفاصيل القصر الذي كان بالأمس مملكتها.
تخللها إحساس بالضيق الشديد إذ شعرت وكأن حجارة المبنى تشاركها مأساتها وتهمس لها كل قطعة في القصر وكأن جدرانه تشتكي من صمتها الطويل.
ظلت سيرين واقفة هناك ټحرقها الذكريات كما تلتهم الڼار أطراف ورقة يابسة حتى لم يعد في قلبها متسع لمزيد من الألم.
عاودت سيرين أدراجها أخيرا ثم صعدت إلى السيارة وأغلقت الباب بهدوء لكن بداخلها كانت العاصفة لم تهدأ بعد.
كان اليوم التالي عطلة رسمية فبادرت كوثر بالاتصال بسيرين منذ الصباح الباكر تخبرها بأن تأتي لتقضيا اليوم معا ربما تهربان قليلا من عبء الأيام وثقلها المستمر.
حل المساء وأطلت سيرين على عتبة منزل كوثر حيث وجدت مشهدا غريبا ينكشف أمامها
كان زكريا واقف أمام طاولة المطبخ يشرح لكوثر طريقة خبز بسكويت الشوفان وكأنه طاه محترف بينما ظلت كوثر تحدق فيه كمن يسمع لغة لم تكتشف بعد.
هل تستطيع فعلا صنع بسكويت الشوفان سألت كوثر زكريا بدهشة وكأن الأمر فوق قدرات الرجال! عن رجال تتحدث! إنه لا زال طفل صغير.
تنهد زكريا بصبر نافد وعيناه تلمعان بوهج ساخر متمتما بأعين مستنكرة
يمكنك ببساطة مشاهدة مقطع فيديو عنه... هل كل النساء جاهلات إلى هذا الحد ثم سرح للحظة وهواجسه بدأت تتلاعب به هل ستكون زوجته
المستقبلية من هذا النوع أيضا مجرد الشرود في فكرة كتلك جعلت القلق يتمدد في صدره كظل ثقيل.
حين دخلت سيرين توقفت عند العتبة للحظات تتأمل المشهد وكأنه لقطة سينمائية دافئة تنتمي لفيلم قديم عن العائلة والمودة غير المشروطة.
أمي تعالي وتذوقي بعض الكوكيز! قال زكريا بحماس طفولي وهو يرفع طبقا مليئا بالبسكويت الذهبي.
استدارت كوثر إلى سيرين بابتسامة ارتياح
أنا سعيدة لأنك هنا مدبرة المنزل عادت إلى أهلها للعطلة لذا لم يبق في البيت إلا أنا وزاك.
ثم خفضت صوتها فجأة وعيناها تتفحصان الأركان بقلق متوجس
رجال ظافر... لم يتبعوك أليس كذلك
نظرت سيرين نحو النافذة بإدراك بارد وقالت بصوت خاڤت لكنه واثق
إنهم بالخارج.
وماذا سنفعل همست كوثر وكأن الأسئلة قد تحولت إلى سكاكين تقطع سكون المكان.
هزت سيرين كتفيها بلا مبالاة مصطنعة
لا تقلقي في أسوأ الأحوال سيخبرونه فقط أنني جئت لرؤية صديقة.
تنهدت كوثر بارتياح وكأنها وجدت منطقا وسط فوضى الشكوك
هذا صحيح.
في تلك اللحظة كان زكريا قد انتهى من ترتيب الطبق ودفعه نحو سيرين بابتسامة متفاخرة
أمي صنعنا لك بسكويت الشوفان المفضل لديك.
تناولت سيرين قطعة وابتسمت بحنان دافئ
أحبك زاك!
احمر وجه زكريا قليلا لكنه تمالك نفسه سريعا وقال
وأنا أحبك أيضا أمي.
راقبته كوثر بنظرة متفحصة قبل أن تعقد ذراعيها بتحد ساخر
كنت على وشك صنع بسكويت الشوكولاتة لكنك أقنعتني أن الشوفان أكثر صحة والآن اكتشفت أنه النوع المفضل ل سيرين أليس كذلك! . كيف تجرؤ على خداعي
رفع زكريا حاجبيه بمكر يجيب بعفوية مصطنعة
لم أخدعك... فقط أرشدتك إلى الخيار الأفضل!
وهكذا تحول الحديث إلى مشادة مرحة بين كوثر وزكريا تتطاير منها الكلمات كشرارات صغيرة تنثر الحياة في زوايا الغرفة وتغمرها بطاقة من الضحكات والمشاكسات اللطيفة.
أما سيرين فقد جلست تراقب كل ذلك بصمت بينما فكرها كان يجوب أماكن أخرى... إلى حيث نوح وفاطمة البعيدين عن هذا المنزل.
كم كانت سيرين تتمنى أن يعودا قريبا ليكتمل دفء العائلة من جديد.
كما فكرت في رامي أيضا ذاك الذي لم يفارق ظلها يوما والذي غالبا ما يقف وحيدا في الخلفية يحرسها دون أن تطلب يحميها دون أن تشعر.
لماذا لم تدعه هو الآخر إلى هذه الجلسة
انتبهت سيرين إلى نظرة كوثر المتفحصة نحوها وكأنها التقطت شرودها من الهواء.
سألت كوثر بفضول مبطن بشيء من الحذر عندما استمعت إلى اسم رامي يتردد من بين شفاه صديقتها رامي... هل هو الحارس الشخصي الذي استأجره كارم من أجلك هل جاء إلى هنا معك
↚
انعكست في عيني سيرين آلاف من الأفكار لكنها اكتفت بابتسامة غامضة تاركة السؤال معلقا في الهواء بلا إجابة كأسرار كثيرة لا تزال تنتظر موعد كشفها...
رواية عشق لا يضاهى تمصير أسماء حميدة.
لمعرفة مواعيد نشر الرواية يرجى الانضمام إلى
جروبنا روايات عالمية بنكهة عربية أو متابعة صفحتي الشخصية روايات أسماء حميدة.
الفصل 48
لماذا لم أر له مثيلا من قبل سؤال تردد بعقل كوثر وتمتمت به شفاهها وهي تراقب القادم من الظل كأن العتمة نفسها أنجبت رجلا من صلبها رجلا يتنفس الغموض كما يتنفس الهواء.
بصوت هادئ لكنه مشحون بيقين لا يقبل التشكيك قال زكريا
السيد رامي... لا يظهر إلا حين يكون الخطړ محدقا بأمي.
نظرت إليه كوثر بعينين تضيقان قليلا كأنها تزن كلماته في ميزان المنطق ثم عقبت بصوت منخفض لكنه ثابت
لم يكن الأمر مفاجئا حين كنا بالخارج سمعت أن لديك حارسا شخصيا لكنني لم أره قط.
كانت تعرف كيف يبدو الحراس الشخصيون عاشرت وجودهم كما ېعاشر الإنسان ظله.
لكن هذا الرجل... لم يكن ظلا بل كان أشبه بسراب يتجلى حينما تستدعيه الضرورة ثم يتلاشى كما لو أنه لم يكن.
أما كارم بمكانته التي تشبه صخرة تلقى في بحيرة راكدة فتثير الأمواج حولها فقد فرض على عائلة سيرين حماية غير مرئية لكنها قوية كإيمان راسخ لا يتزعزع.
مرت عشر دقائق ثم انشق الصمت كما تنشق السماء عند البرق وانفتح الباب على مصراعيه.
دخل رامي كأن الهواء نفسه انحنى احتراما لوصوله.
مشى بخطوات محسوبة صلبة لكن بلا صخب هادئة لكن بلا ضعف كالنصل حين يسحب من غمده في سكون الليل.
شعرت كوثر بأنفاسها تتعثر كأن الهواء قد اختنق برئتيها فجأة واتسعت عيناها بانبهار لم تستطع إخفاءه
يا له من رجل...
رمقها زكريا بنظرة جانبية قبل أن يمد لها منديلا بابتسامة خفيفة ذات مغزى
امسحي فمك يا أميرة الروايات الرومانسية.
حاولت كوثر أن تبدو متماسكة لكن سيرين التي تعرفها كما تعرف كف يدها لم تنخدع بالمظاهر فكوثر لم تكن من النوع الذي ينجرف خلف رجل لمجرد وسامته فهي تعرف جيداظ كيف تحمي قلبها ربما أكثر مما ينبغي...
ذات يوم أعطت كوثر قلبها لرجل لم يقدرها وحين انكسرت أقسمت أن تغلق عليه وأن تضعه في صندوق لا مفتاح له رافضة الحب رافضة الزواج حتى وهي تقترب من عامها السابع والعشرين.
ادخل يا رامي هذه صديقتي كوكي ولا يوجد أحد هنا غيرنا. قالتها سيرين وهي تشير إلى الداخل.
لم يجب رامي لكنه ألقى نظرة سريعة نظرة رجل لا يرى المكان كغرفة عادية بل كمساحة ينبغي تحليلها كخشبة مسرح لمسرحية غير مرئية.
تكلم زكريا بلطف متعمد
سيد رامي غدا عطلة... ما رأيك أن تتناول معنا بعض البسكويت
لم تتغير ملامح رامي لكنها بدت وكأنها تراخت قليلا ثم أجاب بصوت رتيب لكنه مغموس بالحزم
لا شكرا لك.
بينما سيرين التي اعتادت على حدود رامي التي لا يسمح لأحد بتجاوزها لم تلح لكنها التقطت بضعة قطع من البسكويت وناولتها له بابتسامة هادئة
عطلة سعيدة.
تردد لبرهة كأنه يقيس ما وراء الابتسامة ثم مد يده وأخذ
الحزمة وقال بصوت خاڤت لكنه عميق
شكرا لك.
ثم استدار ورحل تاركا خلفه موجة من الصمت المشوب بالتساؤلات صمت لم يكن عاديا بل كأن المكان نفسه كان يستمع إلى وقع خطواته.
تأملت كوثر الفراغ الذي كان يملأه قبل لحظات ثم علقت ببطء كأنها تكشف شيئا خفيا
لا يبدو كحارس شخصي.
سألتها سيرين بفضول مدروس
لماذا تقولين ذلك
أجابت كوثر وعيناها لا تزالان معلقتين بالباب الذي غادر منه
مجرد شعور... لا أعرف كيف أفسره.
لكن سيرين التي عاشت تحت حمايته لسنوات لم تكن غافلة عن ذلك الشعور فلطالما تساءلت إن كان مجرد حارس أم أنه شيء آخر... شيء لم يكشف عنه بعد كفصل لم يكتب في رواية لم تكتمل.
اهتز هاتف كوثر فجأة قاطعا خيوط الأفكار التي كانت تتشابك في عقلها كعناقيد عنب نضجت قبل أوانها.
ألقى ضوء الشاشة وهج بارد على ملامحها المتوترة وحين رأت الاسم الذي ظهر أمامها زفرت كأنما تحاول إخراج الضيق من صدرها قبل أن تضغط على زر الإجابة.
ماذا هناك كان صوتها حادا يخفي تحت نبرته توترا كاملا.
جاءها صوت والدها جامدا كصخرة عتيقة لا تلتفت لأمواج البحر التي تضربها
كم إنك حمقاء حقا!! لم لا تجيبين على اتصالاتي! أنت تكبرين في العمر لذا رتبت لك موعدا غدا في التاسعة صباحا ستلتقين بزوجك المستقبلي.
تجمدت الأنفاس بصدرها كأن الهواء قد صار ثقيلا يستعصي على أن تستنشقه بتمهل وانطفأت نظراتها حتى بدت كرماد بارد تبعثره الريح ثم نطقت بكلمة واحدة حملت بين حروفها طعڼة رفض مرير
لن أذهب!
قهقه والدها بصخب لكنها لم تكن ضحكاته سوى قشرة هشة تخفي تحتها صلابة الحديد
هل تظنين أنني أطلب إذنك كل ما لديك الآن بفضلي! فإن كنت لا ترغبين في أن تتركي بلا شيء فعليك أن تفعلي ما يطلب منك سواء أحببته أم كرهته ستتزوجينه... لا تخيبي أملي!
قبضت كوثر على هاتفها كأنها تحاول سحق الكلمات بين يديها وكأن الألم قد تحول إلى شيء مادي يمكن طيه وإخفاؤه.
كانت المكالمة التي أصدرها والدها على مكبر الصوت لذا كان كل حرف منها سکينا مسمۏما وصل إلى آذان سيرين وزكريا فضړب القلق جذوره العميقة بعقليهما.
رفعت كوثر رأسها ببطء تحاول أن تتشبث ببقايا كبريائها وقالت بصوت خاڤت لكنه مثقل بانكسارات لا تحصى
لكن لدي خطط للغد...
لم تكن تكذب كانت قد رتبت ليومها بعناية كأنما تحاول أن ترسم لنفسها طريقا بعيدا عن كل ما يفرض عليها لكنها الآن تجد نفسها مجبرة على تغيير المسار كما لو أنها ورقة شجر تتقاذفها الرياح دون وجهة.
وفجأة اخترق الصمت صوت زكريا وفكرة مچنونة خطرت بباله
أمي لماذا لا تذهبين بدلا من كوثر
اتسعت عينا كوثر پصدمة أما سيرين فبدت وكأنها تلقت للتو مفاجأة لم تكن تتوقعها.
ل... هل يمكنني جاء سؤالها كهمسة تسبح فوق بحر من التردد.
شعرت كوثر وكأنه قد ألقي إليها بطوق نجاة في اللحظة الأخيرة فتشبثت بالفكرة بشغف الغريق الذي رأى اليابسة لأول مرة منذ زمن.
بالطبع! لقد كنت في الخارج لسنوات ولن يتعرف عليك أحد من هؤلاء الأثرياء.
ترددت سيرين فهذه اللقاءات عادة ما تنظم بحيث يكون لكل طرف معلومات مسبقة عن الآخر لكنها لم تستطع تجاهل الرجاء العالق في عيني كوثر كطفلة تطلب الخلاص.
طمأنتها كوثر سريعا كمن يقنع نفسه قبل أن يقنع الآخرين
لا تقلقي لقد مررت بهذا من قبل. نحن جميعا أسرى اختيارات لم نصنعها ووالدي حتى لم يذكر من هو الرجل ويمكنك أن تجعليه يكره اليوم الذي فكر فيه هذا الرجل
↚
في الارتباط كي يأتي الرفض من جهته وننهي هذه المهزلة.
نظر زكريا إلى سيرين بابتسامة جانبية تحمل مكرا طفوليا وقال
أمي هذه فرصة نادرة من يدري ربما يعجبك الرجل وحينها... قد نحصل أنا ونوح على أب!
ارتفع حاجبا سيرين بدهشة بينما اڼفجرت كوثر في ضحكة سريعة لم تدم طويلا لكنها حملت في طياتها استراحة قصيرة من ثقل الواقع.
أما سيرين فتمتمت لنفسها بتهكم ممزوجة بدهشة
وهل يمكن أن يكون القدر بهذه السخرية
عشق لا يضاهى بقلم أسماء حميدة يمكنكم متابعة مواعيد نشر الرواية عن طريق الانضمام إلى جروبنا المتواضع روايات عالمية بنكهة عربية أو متابعة صفحتي الشخصية روايات أسماء حميدة
الفصل 49
كان زكريا يشعر بوخزة في قلبه كلما رأى سيرين تتحمل عبء الاعتناء به وبنوح دون أن تشتكي أو تتذمر لذا أراد أن يخفف عنها أن يراها تعيش بلا أعباء بلا قلق مستمر يلتف حولها كشبح يطاردها.
أما كارم فقد كان من وجهة نظر زكريا رجلا حسن الخلق لكنه أشبه بوردة نمت وسط الأشواك فهو محاطا دوما بالخطړ من كل اتجاه لذا لم يكن زكريا مطمئنا إذ كان يتمنى لو أن سيرين وجدت رجلا كالسور الحصين يحميها من رياح الحياة العاتية ويمنحها الأمان الذي يستحقه قلبها.
لم تكن كوثر تتوقع أن تراود زكريا مثل هذه الأفكار العميقة لكنه كان دائم التفكير فيما هو أبعد من اللحظة فيمن يمكنه أن يحمي من يحب.
قالت كوثر بابتسامة خفيفة وكأنها تبرر موقفها
والدي يريدني أن أتزوج لمصلحة العمل لكن الرجال الأثرياء الذين يقدمهم لي عادة ما يكونون ذوي مظهر حسن على الأقل!
أما سيرين فكانت تشعر وكأنها محاصرة بينهما بين منطق زكريا وروح كوثر الحرة.
نظرت سيرين إلى زكريا بتردد وقالت
حسنا لكن... تلاقت عيناها بعينيه للحظة ثم أضافت بصوت خاڤت كمن تضع حدا للنقاش
سأذهب في هذا الموعد بدلا من كوكي ولكن ليس لأجل البحث لك عن أب!
ابتسم زكريا ابتسامة صغيرة فهو لم يكن يمانع بل تفهم دوافعها تماما وتمتم يقول ببشاشة
أتفهم ذلك.
في داخله كان يسترجع مشاهد من الدراما الرومانسية التي اعتاد مشاهدتها فقد كان الحب يأتي دوما في أكثر اللحظات غرابة يتسلل عبر المصادفات يتشكل من لقاء غير متوقع أو حديث عابر ربما هكذا كانت الأقدار تهيئ طريقها إلى سيرين فمن يدري!
يعلم زكريا أن هو ونوح صغيران جدا ليكونا درعا يحمي سيرين من العالم لكنه كان يفكر في حل آخر... ربما لو تمكن من إيجاد رجل جدير بها قادر على رعايتها حين ينشغل هو ونوح بمستقبلهم سيكون ذلك هو الحل الأمثل.
لكن سيرين لم تكن على دراية بكل هذه الأفكار التي تدور في رأس زكريا فقد كانت غارقة في واقعها وفي مسؤولياتها ففي حكايات مضت ولم تكتمل.
بعد أن وضعت سيرين زكريا في سريره جلست مع كوثر تتبادلان الحديث على ضوء المصباح الخاڤت كما لو أن الليل وحده قادر على احتواء أسرارهما.
قالت سيرين وهي تتطلع إلى كوثر بنظرة فضولية
هل ستبحثين عن نادر غدا
كوثر لم تنكر كان هناك وهج خاڤت في عينيها وهي ترد
نعم سمعت أنه سيعود غدا.
ثم التفتت نحو سيرين وكانت نظراتها هذه المرة مزيجا من الامتنان واللهفة
سيرين شكرا لك على مساعدتي في تحديد موعد غرامي لو فاتني لقاؤه هذه المرة سأندم على ذلك لبقية حياتي.
ابتسمت سيرين ومدت يدها تعانقها بحنان
لا داعي لشكري هذه فرصتك لاستعادة ما فقدته.
كوثر شعرت بمرارة تختنق في حلقها فقالت بصوت واهن
كيف تسير الأمور بينك وبين ظافر
أجابت سيرين ببرود كمن يحاول طمس مشاعره
ما زال هو نفسه.
كوثر لم تتمالك نفسها وعانقتها بقوة لتواسيها ثم همست لها
يقولون إن الحب دين لا نستطيع سداده أبدا... وهذا هو حالي مع نادر.
ربتت سيرين على كتفها برفق في محاولة منها لبث الطمأنينة في قلبها
أنت ونادر تحبان بعضكما البعض بالتأكيد ستعودان لبعضكما.
لكن حين انتهى الحوار وحين انسحبت سيرين إلى غرفتها لتستريح أدركت أنها لم تكن قادرة على النوم.
كانت الحقيقة تتسلل إليها كضوء القمر عبر نافذتها حقيقة أنها غارت من كوثر.
ليس لأنها تحب نادر بل لأنها على الأقل عرفت الحب شعرت به يتغلغل في روحها قاتلت من أجله.
أما هي حين نظرت إلى حياتها الممتدة لعشرين عاما لم تجد فيها حبا حقيقيا لم تجد ذلك الشعور الذي ېحرق القلب ويحيي الروح في آن واحد.
أدركت أنها كانت دوما عابرة في قصص الآخرين لكنها لم تكن بطلة في قصة حبها الخاصة.
في تلك الليلة وبينما كانت عقارب الساعة تزحف ببطء كأنها تستثقل مرور الوقت تذكرت سيرين ما قاله ظافر عن اصطحابها إلى مكان ما غدا.
تسللت يدا سيرين إلى هاتفها بصمت وكأنها تخشى أن تفضحها أنفاسها ثم خطت رسالة نصية بأطراف أصابعها الرقيقة
سيد ظافر لدي التزامات في الصباح لذا لا يمكنني لقاؤك إلا بعد الظهيرة.
وما إن أرسلت الرسالة حتى وضعت الهاتف على الوضع الصامت كأنها تود أن تقطع كل سبيل للعودة ثم ألقت به جانبا مستسلمة لدوامة أفكارها.
في هذه الأثناء لم تكن سيرين تعلم أن ظافر في الجهة الأخرى لم يكن غارقا في النوم كما توقعت إذ كان يجلس في غرفة معيشته تحت ضوء خاڤت يبعث ظلالا متراقصة على الجدران محدقا في شاشة هاتفه بذهول عيناه تقرآن كلماتها مرارا وكأنهما تفتشان عن شيء آخر بين الحروف شيء غير ظاهر لكنه يثقل الهواء من حوله.
لم يرد بل اكتفى بإلقاء الهاتف جانبا وهو يشعر بانقباض غامض في صدره لم يكن انزعاجا فحسب
بل كان شيئا أعمق... وأشد وطأة.
في تلك الأثناء كانت العاصفة قد بدأت تهب في جهة أخرى من العائلة إذ حملت الرياح همسا لم يكن أحد يتوقعهسيرين... لا تزال على قيد الحياة!
شادية التي لم تكن يوما من ذوات القلوب الرقيقة ارتعشت أناملها للحظة لكن نظراتها بقيت جامدة وهي تردد بذهول
لكن... ظافر أعاد رمادها بنفسه كيف يكون هذا ممكنا كيف لا تكون مېتة
رفع عدنان حاجبيه بتعجب ثم قال بنبرة جمدت الهواء بينهما
أهو أمر يثير امتعاضك إلى هذا الحد أحقا كنت تفضلين
أن تكون زوجة ابنك في تعداد الأموات
التفتت إليه شادية ببرود وقالت بصوت أشبه بالريح التي تسبق العاصفة
لم تعد زوجته بعد الآن.
تنهد عدنان ناظرا إليها بعينين تحملان من الحكمة ما لم تعد ترغب في رؤيته
لكن إن كنت أنت وظافر لا تحبانها فلماذا سمحت لها بالزواج من ابننا منذ البداية
كأن كلماته اخترقت جدارا سميكا في صدرها وللحظة فقدت شادية توازنها وتلعثمت لكنها سرعان ما استعادت جمودها مشيحة بوجهها عنه.
نهض عدنان من مجلسه وألقى بنظرة حاسمة قبل أن يقول
سيرين امرأة طيبة وحتى وإن انتهى ما كان بينها وبين ظافر فلا حق لنا أن نزيد من معاناتها.
لكن شادية لم تكن من النساء اللواتي يتراجعن عما يرغبن به إذ أومضت عيناها بتحد وهي تجيب بنبرة متعالية
طالما أنها لا تقترب من ظافر فلا شأن لي بها!
لكن الحقيقة التي لم تقلها بصوت مرتفع هي أن القلق كان ينهشها من الداخل إذ ظافر لم يرزق بطفل بعد وهي تعلم جيدا أن أفراد عائلة نصران الآخرين قد أنجبوا أطفالا بالفعل الأمر لم يكن مجرد مسألة شخصية بالنسبة لشادية بل كان ټهديدا للمجد الذي بناه ظافر بيديه وقد يرثه من هم ليسوا من صلبه.
في الأيام الأولى لم يكن عدنان ذا شأن يذكر في العائلة كان مستهترا محبا للهو بلا طموح يذكر في إدارة الأعمال ولولا ظافر لما اعتلت أسرتهم هذه المكانة الرفيعة لكن إن ظل ظافر بلا وريث فلن يكون هناك مفر من أن ينتزع الجيل التالي منصبه وفي كل مرة تخطر هذه الفكرة بعقل شادية كان الأرق يطحن عظامها كمن يقف على حافة هاوية لا قاع لها.
↚
فعلى مدى السنوات الأربع الماضية لم تترك وسيلة إلا وحاولت بها أن تجد لظافر زوجة جديدة.
حتى دينا تلك المرأة التي وثقت بها شادية لم تنجح في الأمر إذ حاولت دينا عدة مرات وقدمت نفسها له لكنها لم تكن أكثر من ظل في حياته لا يلتفت إليه ولا يأبه به.
لكن شادية لم تكن لتستسلم بسهولة فقد خرجت من المنزل وبعد أن استنشقت الهواء بعمق وكأنها تلتهمه في محاولة للسيطرة على انفعالاتها ثم عبثت يمينها بشاشة هاتفها واتصلت بدينا دون علم عدنان وبثتها الأمر التالي
لا يهمني كيف ستفعلينها... لكن طالما أنك ستنجبين طفلا من ظافر فأنا أضمن لك أنك ستصبحين سيدة نصران.
كانت الڼار مشټعلة بعيني شادية إذ لم يكن الأمر مجرد معركة شخصية بل كان حربا على الزمن نفسه بل وعلى قدر قد ېهدد كل شيء بنته بيديها.
يمكنكم متابعة مواعيد نشر الرواية عن طريق الانضمام إلى جروبنا المتواضع روايات عالمية بنكهة عربية أو متابعة صفحتي الشخصية روايات أسماء حميدة.
رواية
عشق لا يضاهى بقلم الأسطورة أسماء حميدة
الفصل 50
في فجر اليوم التالي شدت سيرين وشاحها بإحكام حول عنقها بينما كانت خيوط الفجر تتسلل إلى السماء الرمادية اتجهت سيرين إلى غرفة كوثر التي كانت تستعد لمغادرة المنزل وهي متوترة كفراشة حبست طويلا في شرنقتها وتتهيأ الآن للتحليق نحو الضوء.
كانت كوثر تقف أمام مرآتها تتحسس خصلات شعرها بأطراف أصابعها المرتجفة ثم التفتت إلى سيرين بعيون قلقة كسماء موشكة على المطر
سيرين هل أبدو على ما يرام اليوم
ابتسمت سيرين متأملة ملامح صديقتها لقد كانت كوثر جميلة بالفطرة كأن وجهها لوح خط بفرشاة فنان عاشق لعينيها اللوزيتين المتسعتين كبحيرتين صافيتين تعكسان مزيجا من القلق والتلهف كانت جنتاها المتوردتان كبتلات زهرة ندية وشفتاها المرتعشتان تنطقان بألف سؤال غير معلن.
أنت فاتنة كوكي كأنك خرجت للتو من قصيدة غزل. قالتها سيرين بمحبة خالصة.
زفرت كوثر بابتسامة خجولة لكن أصابعها واصلت العبث بحواف فستانها وهي تقول بتوتر
مجرد التفكير في لقائه يجعل قلبي يركض كفرس جامح. أخشى ألا أروق له...
هزت سيرين رأسها بثقة مردفة
هذا مستحيل. أنت أجمل مما يتخيل. لا توجد قوة على وجه الأرض تجعله يكرهك.
اكتفت كوثر بإيماءة صغيرة من رأسها قبل أن تغادر وهي تجر وراءها خيطا من الأحلام والاحتمالات.
بعدما ودعت سيرين صديقتها تسللت إلى غرفتها لكن صوتا ناعسا أوقفها عند الباب.
أمي
التفتت سيرين لترى زكريا جالسا في سريره وعينيه نصف مغمضتين من أثر النوم.
اقتربت منه وجلست عند حافة الفراش تربت على كتفه برفق قائلة
أيقظناك حبيبي
لم يجب مباشرة بل مال برأسه قليلا وسأل بنبرة جادة تفوق عمره الصغير
أمي... هل السيد نادر شخص جيد أعني... هل يستحق كوثر
توقفت للحظة كأنها تقلب ذكرياتها بحثا عن إجابة كانت سيرين قد رأت نادر من قبل وتذكرت كم كان ذلك الفتى يحظي باهتمام كل الفتيات في الجامعة بوسامته الهادئة وحضوره الجذاب لكنه لم يكن من عائلة ثرية مما جعل قصته مع كوثر تبدو كحكاية من زمن آخر حيث تلتقي الأرواح رغم الفروق التي تفرقها الحياة وهذا كان سبب انفصالهما بالسابق بعد أن اعتمد نادر كل الطرق كي يبعد كوثر عنه حتى لا يكون عائق في طريق سعادتها مع شخص يمكنه توفير حياة مستقرة لها كما تعودت.
أجابت سيرين بسماحة
نعم كوكي تستحق الأفضل دوما ونادر شخص لطيف بحق.
تأملها زكريا للحظة ثم انحنى إلى الأمام وملامحه غارقة في أفكار عدة وبعد صمت قصير سأل
وأنت هل السيد كارم يعاملك بلطف
رفت عيناها بدهشة أذ لم تتوقع أن يقفز عقل صغيرها إلى هذا السؤال لكنها أجابته دون تردد كأنها تقنع نفسها قبل أن تقنعه
إنه شخص جيد جدا معنا.
تأملها زكريا بتمعن كأنه يبحث في ملامحها عن صدق كلماتها ثم قال بجدية فاجأتها
إذن عليك أن تمنحيه فرصة حين نعود يجب أن تفكري في الأمر أمي قد يبدو الأمر خطېرا لكنني
واثق أنه قادر على حمايتك.
كلمات صغيرة لكنها هزت شيئا بداخلها.
نظرت إلى ابنها فوجدت ملامحه قد نضجت فجأة حتى بدا للحظة كأنه صورة عن والده ظافر.
رفعت يدها ومسدت على شعره في محاولة منها أن تخفف من توتر اللحظة فقالت.
ألم تكن أنت من طلب مني الخروج بدلا من كوثر في موعد غرامي بالأمس
تنهد زكريا متكئا على وسادته ثم قال
بعد حساب الاحتمالات اكتشفت أن فرصة أن تجدي شريكا مثاليا هي واحد في التريليون.
اڼفجرت سيرين ضاحكة لكنها سرعان ما كتمتها عندما احمر وجهه خجلا تهمس إليه بفكاهة
أنت عبقري صغير أيها الوغد!
زفر بنفاد صبر وتمتم بجديته المعتادة
لا تسخري أمي حتى لو كانت الاحتمالات ضئيلة فلا يزال هناك أمل وأنا لن أسمح لك بالتخلي عنه.
كان قراره واضحا حين أعلن بحزم
سأذهب معك اليوم.
توقفت سيرين للحظة متخيلة المشهد السريالي
أن تذهب في موعد نيابة عن صديقتها... وتأخذ ابنها معها!
لكن بما أن مدبرة المنزل في إجازة لم تشأ أن تترك زكريا وحده فقررت أن تصحبه معها شرط أن يبقى مع رامي في مكان قريب.
قبل أن تغادر كوثر المنزل قد ناولتها بطاقة تحمل عنوان المطعم.
لم تكترث سيرين لتزيين نفسها أو اختيار ملابس تلفت الأنظار بل اكتفت بأن تخبئ ملامحها خلف قناع ثم استدارت إلى الباب عازمة على خوض هذا اليوم مهما بدا غريبا.
كانت سيرين على وشك عبور عتبة ذلك المطعم الفاخر حين اندفعت من الداخل امرأة أنيقة غاضبة كإعصار داهم وأخذت كلماتها تطاير في الهواء كسهام مسمۏمة تستهدف رجلا لم يذكر اسمه لكنه كان واضحا في ثنايا الڠضب المرتسم على وجهها
من يظن نفسه! كم هو وقح حد الفجاجة! هل يعتقد أنه أمير يتربع على عرش النساء لا أصدق أنه يبدل شريكة موعده كما يبدل ساعات يده! عشر دقائق فقط ثم يلقي بها كأنها لم تكن!
توقفت سيرين عند المدخل وعيناها تتابعان المرأة حتى ابتلعتها أزقة المدينة تمتمت سيرين بصوت غير مسموع
ثمة شيء مثير للاهتمام هنا رائحة دراما تتخلل المكان.
استنشقت سيرين ببطء ثم تقدمت بخطوات واثقة نحو موظفة الاستقبال وقدمت إليها بطاقة العمل خاصة كوثر.
التقطت الموظفة البطاقة تمرر نظراتها الاحترافية عليها ثم رفعت عينيها إليها قائلة بنبرة هادئة لكنها متحفظة
سيدة كوثر موعدك محدد في تمام التاسعة صباحا الساعة الآن تشير إلى الثامنة وسبع وأربعين دقيقة أخشى أنك ستضطرين للانتظار حتى تنتهي السيدة التي بالداخل من موعدها.
أومأت سيرين غير مندهشة لكن عقلها كان يعيد ترتيب القطع في هذه اللعبة الاجتماعية المعقدة إذ
↚
لم يكن الموعد الأعمى سوى اختبار غير معلن اختيار أشبه بانتقاء جوهرة من بين قطع زجاجية زائفة.
ورغم أن اسم عائلة كوثر وحده كان كفيلا بفتح أي باب في هذه المدينة إلا أن هذا الرجل المجهول حتى الآن تجرأ على جعلها تنتظر
كما لو كانت مجرد رقم آخر في قائمة طويلة.
ابتسمت بسخرية خفية إذ كان هذا مثيرا للاهتمام أكثر مما توقعت فقد هناك شيء في هذا الرجل يجعله يرى نفسه فوق القواعد المعتادة شيء لا بد من كشفه.
ومع مرور الوقت خرجت امرأة أخرى غاضبة ومنكسرة القلب كزهرة داستها قدم غير مكترثة.
نظرت إليها سيرين للحظة ثم التفتت إلى موظفة الاستقبال التي قالت بصوت يحمل مزيجا من الحياد والتسلية الخفية
لقد حان دورك سيدة كوثر.
لم تتغير ملامح سيرين ولم تهتز ثقتها قيد أنملة بل سارت بخطى ثابتة داخل المطعم الذي كان قد أغلق لهذا الموعد حصريا لكنها لم تجد رجلا واحدا بانتظارها كما هو مفترض بل واجهت مجموعة من الرجال تتطاير بينهم السخرية كشرر ڼار متقدة.
رفعت سيرين حاجبا واحدا تراقبهم بصمت كملكة دخلت إلى ساحة معركة وهي تدرك أنها قد تكون الوحيدة التي ستخرج منتصرة.
عشق لا يضاهى تمصير أسماء حميدة
الفصل 51
وقف الشباب عند مدخل المطعم يتبادلون الهمسات الخبيثة كالأفاعي تزحف في الظلام تتسلى بسمومها.
أحدهم وهو يمضغ الكلمات بمزيج من السخرية والوقاحة قال
أليست هذه المرأة التي كانت معنا سابقا لا أذكر اسمها لكنها كانت ضخمة كخنزير تسمن حد الانفجار! لا أصدق أنها امتلكت الجرأة الكافية للقدوم إلى موعد غرامي أعمى!
ضحك آخر وعيناه تلمعان بخبث
بدت كديناصور خرج من العصور الغابرة! أقسم أنني شعرت بالأرض تهتز تحت قدمي عندما مشت. لو كانت في فيلم لفر الجميع وهم ېصرخون!
أما الثالث الذي كان متكئا على الحائط فقد أضاف بضحكة ساخرة
ولا تنس تلك العجوز الشمطاء! بأحمر شفاهها الفاقع الذي بدا كدماء سالت من فمها وكأنها شبح تائه في ليلة مظلمة!
الټفت الأول إليهم مجددا وقد بدا مستمتعا بهذه اللعبة القڈرة
ومن الضحېة التالية
رد أحدهم وعيناه تضيقان بمكر
أعتقد أنها كوثر وريثة عائلة تيسير سمعت أنها عادت للتو من الخارج بعد سنوات من الدراسة.
رفع الآخر حاجبيه باهتمام مصطنع وكأن فريسة جديدة دخلت إلى القفص
آه! لا بد أنها متحررة ومچنونة بعض الشيء ستكون تجربة مٹيرة أليس كذلك
قهقه شاب آخر ثم أردف بسخرية
لم لا نطلب منها أن ترقص لنا لاحقا إذا أدت العرض بشكل جيد فقد نسمح لها بالبقاء!
تعالت ضحكاتهم تتردد في المكان كأصداء سخرية لا تعرف الرحمة.
أما سيرين فقد كانت تقف على مقربة تشهد هذه المهزلة المقيتة.
شعرت بالڠضب يتصاعد في صدرها كبركان على وشك الانفجار الآن فهمت السبب وراء ڠضب النساء اللواتي غادرن المواعيد السابقة بوجوه متجهمة وعيون مشټعلة المهانة إذ لم يكن هذا المكان موعدا غراميا بل مصيدة خطط لها بعناية وساحة سخرية لا تعرف الشفقة.
تنفست ببطء محاولة تهدئة النيران المشټعلة في داخلها وقد شعرت بارتياح خفي لأن كوثر لم تأت فلو عرفت بهذه المهزلة لظل الڠضب يأكلها أياما طويلة.
قادت موظفة الاستقبال سيرين إلى الداخل حيث امتدت أمامها أروقة المطعم الذي طالما اشتهر بأناقته ورقيه غير أن هذه الليلة لم تكن كسابقاتها فقد انزاحت عن المكان هالة الفخامة ليكشف عن وجه آخر غارق في الفوضى.
كان المشهد أقرب إلى حفلة صاخبة انفلت زمامها حيث التصقت أجساد النساء بأذرع الرجال لا لشيء سوى إثارة غيرة من جاءوا بحثا عن لحظة حب مسروقة.
وبينما كانت الأحاديث تعج بالمراوغة والتلميحات اخترق حضور سيرين الأجواء كنسيم بارد وسط صيف قائظ.
وما إن وقعت عليها أعينهم حتى اڼفجرت ضحكاتهم كانت ضحكات مشبعة بالتهكم كأنها سياط من لهب متطاير.
أوه انظروا! لقد جاءت متخفية بقناع!
ترى هل تخفي خلفه وجها لا يطاق النظر إليه
لم يكن استهزاؤهم سوى عزف رتيب على نغمة الغرور غير أن سيرين لم تأبه ولم يتغير نبضها ولم يخفت وهج نظرتها.
ظلت عيناها مركزتين تبحثان عن طارق ذاك الرجل الذي احتل رأس الطاولة يترنح بين كؤوسه منشغلا بلعبة البوكر غير عابئ بما حوله كأنه ملك على عرشه يراقب الميدان دون أن يلقي بالا لصغار الجنود.
كم تساءلت عن ذلك السحر الذي يملكه ليجمع حوله هذا العدد من النساء المتهافتات كأنهن نجمات تدور في فلكه.
ضحكة بسخرية إذ لم يكن هناك أدنى شك إنه أمير المدينة الحقيقي! فإن كان ظافر هو طاغيتها المتنمر فإن طارق كان وجهها الآخر أميرها المتوج على عرش المتع صاحب اليد العليا في حياة الناس تماما كما يملك ظافر زمام الاقتصاد. وكلاهما يا للعجب لم يفترقا يوما!
لكن طارق لم يلحظها ولم يرفع عينه ليكتشف أن الزائرة هذه المرة ليست كوثر بل سيرين متنكرة في اسم ليس لها.
لاحظ البعض صمتها الطويل فتسلل الشك إلى نبراتهم.
هل هي بكماء
تدافعت الكلمات حولها كأنها طوق يحاصر رقبتها لكنها لم تهتز الآن وقد جاءت فلن يجرؤ والد كوثر على مضايقتها بعد اليوم لقد أدت ما عليها وآن لها أن ترحل.
استدارت لتنسحب غير أن خطوتها اصطدمت بجدار بشړي سد عليها الطريق.
كان رجلا مترنحا تفوح منه رائحة الخمر الثقيلة يتأرجح بين وعي غائب وغطرسة مستفزة.
إلى أين يا آنسة كوثر ألم تأتي لأجل موعد مع السيد طارق كيف ترحلين دون أن نلقي نظرة على وجهك الحقيقي أزيحي هذا القناع!
امتدت يده الوقحة نحوها لكنها لم تكن الوحيدة.
ترددت حولها ضحكات أكثر فظاظة هتافات محملة بالسخرية والتحدي.
لنر ما إن كانت تستطيع النطق فعلا!
لكن الرجل المخمور لم يكتف بمحاولة كشف وجهها بل غاصت يداه أكثر تحاول انتهاك مساحتها بينما الټفت ذراعه الثقيلة حولها كأفعى تحكم قبضتها على فريستها.
في تلك اللحظة على بعد أمتار من هناك كانت سيارة رياضية سوداء مركونة أمام المتجر المجاور للمطعم. وفي داخلها كان رامي ينصت لصوت عبر سماعة أذنه وجهه مشدود عيناه تضيقان بتركيز قاټل.
قال لزكريا بنبرة قاطعة
انتظرني هنا.
أومأ زكريا بصمت بينما دلف رامي إلى الداخل خطواته ثابتة وكتفاه مشدودان كصقر استشعر الخطړ.
داخل المطعم كان الرجل المخمور قد نزع قناع سيرين وقبل أن يدرك أحد ما يحدث كان وجهها مكشوفا أمام الجميع.
للحظة تجمدت يد الرجل كأنما أصابه سحر جمال لم يتوقعه.
لكن ما ألقي عليه من لعڼة لم يكن إلا قناعا زائفا لوقاحته المتزايدة إذ لم يكتف بل حاول أن يجرها إليه كي ېمزق المسافة بينهما كما مزق قناعها.
ثم فجأة لم يكن هناك سوى صوت واحد.
ارتطام جسد الرجل المخمور الذي سقط على الأرض كدمية فقدت خيوطها.
وقف رامي أمام سيرين يرمقها بنظرات باردة كفصل شتاء قارس.
لم ينطق بكلمة لكن عينيه كانتا تقولان الكثير.
عشق لا يضاهى بقلم أسماء حميدة
الفصل 52
في فخ القدر
اتسعت عينا طارق كأنما انفرجت أمامه بوابة للذهول كأن القدر انتزع ماضيه من بين ثنايا الزمن وألقاه أمامه بلا مقدمات مجسدا في صورة امرأة لم يكن ينبغي لها أن تعود في موقف كهذا قط... ولكنها عادت.
لم تكن مجرد امرأة تشبه سيرين تهامي... لا بل كانت هي بعينها بلحمها وډمها بحضورها الطاغي ونظرتها التي تحمل في طياتها ڠضب العواصف وكبرياء الملوك الساقطين.
كيف انتهى بها المطاف إلى هنا كيف شاءت الصدفأو ربما المقادير الأكثر عبثاأن تجمعهما مجددا في موعد أعمى لم يكن له أن يحدث أبدا
بينما كان عقله لا يزال يعيد ترتيب الفوضى التي أحدثها لقاؤهما جاء صوتها كحد السيف حاسما قاطعا وهي تلتفت إلى رامي وتأمره
دعنا نذهب.
كأن كلماتها كانت أمرا حتميا لا يقبل التأجيل لم يتردد رامي لحظة بل قبض على معصمها بخفة وانسحب بها بعيدا عن هذا المشهد المشحون كمن يفر من ساحة معركة قبل أن يتحول غبارها إلى إعصار.
وعلى الأرض كان ناصر مراد ممددا يتلوى بين الڠضب والۏجع يطلق اللعنات من بين أسنانه صوته مخڼوق بالكبرياء الذي لم يعد سوى شظايا مهشمة تحت وطأة الإهانة
لا تظنا أنكما ستفلتان بفعلتكما! لن أنسى هذا انتظرا فحسب!
لكن تهديده لم يكن سوى صدى أجوف يتلاشى وسط ضحكات المتفرجين وسخرياتهم التي كانت كسياط تلهب كرامته المنكسرة
أنت جبان بحق سيد مراد! ألم يكن لديك ما يكفي من الجرأة للرد
وغمغم آخر
↚
بالفعل توقف عن العواء يا ابن العائلة المدللة!
حاول ناصر النهوض لكن جسده لم يطاوعه تماما ليس من الألم بل من وطأة المهانة إذ كان يرتجف ڠضبا وعيناه تقدحان شررا كذئب جريح يتهيأ للانقضاض.
تمتم من بين أسنانه المطبقة صوته يقطر وعيدا
سأجمع رجالي وأذيقهما العڈاب الآن
لم يكد يكمل تهديده حتى وجد طارق يقترب منه بخطوات بطيئة لكنها تحمل ثقل الجليد القادر على إطفاء أعتى النيران.
كانت عيناه باردتين كليل شتوي تجمدان الڠضب في أوصال ناصر قبل أن ينطق بكلماته الباردة
ماذا فعلت بها للتو
كان صوته هادئا... لكنه لم يكن بحاجة للصړاخ حتى يبث الړعب.
فتح ناصر فمه ليجيب لكن قبضة الزمن لم تمهله إذ سبقت كلماته قبضات رجال طارق فتساقطت اللكمات على وجهه كالمطر في ليلة عاصفة بلا رحمة بلا مهلة لالتقاط أنفاسه.
ارتطم جسد ناصر بالأرض مرة أخرى كطائر أصابته رصاصة في السماء يبصق الډماء بينما عقله لا يزال عالقا في اللحظة التي كان فيها الصياد قبل أن يجد نفسه الفريسة التي لا حول لها ولا قوة.
ساد صمت ثقيل بين الحاضرين صمت يشبه لحظات ما قبل العاصفة حيث تختبئ الرياح استعدادا للهجوم.
الټفت طارق إلى ماهر وعينيه قطعتان من جليد وخرج صوته كالنصل وهو يشق الهواء
ما الذي فعله بالضبط
بلا تردد روى ماهر الحكاية كما هي بكل تفاصيلها المقيتة وكيف تجرأ ناصر على إذلال سيرين وكأنه فوق الحساب.
كانت الكلمات تتساقط بينهما كحجارة تلقى في بئر عميقة كل واحدة منها تزيد من تجمد ملامح طارق حتى تصلب فكه واستقرت شفتاه على حكم لا يقبل التفاوض
لا أظنه بحاجة إلى يديه بعد الآن.
لم يكن هناك ما يجبره على البقاء لحظة أخرى في هذا المكان المشبع بالڠضب فنفض عن نفسه فكرة الموعد كمن يخلع معطفا مبتلا وانطلق إلى الشارع بحثا عن سيرين لكن المدينة لم تكن كريمة هذه الليلة فقد ابتلعتها بين حشودها كأن الأرض قد اخفت أثرها.
قبض على كفيه حتى كاد يسحق عظامهما يلعن في سره غبائه كيف لم يحفظ ملامح النساء اللاتي كن حاضرات اليوم كيف سمح لنفسه أن يغفل عنها ولو لحظة جاء لهذا الموعد مرغما فقط لإرضاء كبرياء جده المتعجرف ولتحطيم أوهام الفتيات في لقبه ولم يتوقع أبدا أن يجد سيرين هنا أمامه كأن القدر يسخر منه.
استدار نحو ماهر وصوته كان صدى لقرار لا رجعة فيه
اكتشف لي كيف ترتبط السيدة كوثر بسيرين.
أومأ ماهر فورا يقول بخضوع
أمر مفهوم
تردد طارق للحظة كأن عقله يعيد تشكيل المشهد ثم أضاف بصوت أكثر صلابة أشد إصرارا
واكتشف أيضا من يكون ذلك الرجل الذي كان بجانبها
في تلك اللحظة كانت سيرين قد استقرت بالفعل داخل السيارة غير أن قلبها كان مضطربا كأمواج بحر هائج يخشى عاصفة قادمة.
لم تكن تتوقع أن يكون الموعد الغامض لكوثر مع طارق تحديدا ذلك الرجل الذي كان يرمقها دوما بنظرات موشومة بالازدراء كأنها خطيئة لا تغتفر.
أما الآن وقد وقعت عيناه عليها بدلا من كوثر تساءلت في صمت قلق
ماذا عساه أنيفعل أكان هذا قدرها المحتوم شعرت كأنها بيدق في لعبة شطرنج يحركه القدر كما يشاء.
ارتجفت أنفاسها عندما راودها هاجس بأن وجودها قد زج بكوثر في مأزق لا فكاك منه.
في هذه الأثناء قطع صوت زكريا حبل أفكارها وهو ينظر إليها بعينين صافيتين كسماء لم تدنسها الغيوم
هل أنت بخير أمي
انتزعت سيرين نفسها من دوامة القلق وزينت شفتيها بابتسامة مطمئنة وإن لم تصل إلى أعماقها وأجابته برقة كأنها تحاول إخماد مخاوفه قبل أن تتفاقم
أنا بخير بفضل السيد رامي.
بعد أن ألقى زكريا كلمات الشكر على رامي اقترب من والدته وطوقها بذراعيه الصغيرتين في احتضان وديع كأنه يريد أن يغلق عليها العالم بأسره بين ضلوعه وقال بحزم لا يليق بسنه لكنه تسرب إلى قلبها كضوء دافئ في ليلة شتوية
من المؤسف أنني ما زلت صغيرا لكن حين أكبر... سأحميك أنت والسيد رامي.
عندها تلاشت بعض قسۏة ملامح رامي كما لو أن كلمات الطفل قد كسرت الجليد المتراكم على وجهه.
أما سيرين فقد أحست بنبض مختلف يسري في عروقها كأن روحها قد لامسها نسيم أمل خفي.
نظرت سيرين إلى زكريا بعينين يشع منهما حب لا حد له وقالت برقة لا تخلو من المزاح
إذن السيد رامي وأنا سننتظر حتى تكبر.
لكنها لم تغفل عن العيون التي تراقبها إذ كانت تعلم أن رجال ظافر يترصدونها كظلال تلازمها حيثما حلت لذا وما إن غادرت المطعم حتى اتجهت مباشرة إلى فيلا كوثر كما لو كانت تحاول أن تتوارى داخل ملاذ آمن.
بعد الغداء وحالما تأكدت من أن زكريا قد استقر بطمأنينة تحت جناحيها توجهت إلى شركة آل نصران فقد كانت تعلم أن لقاءها مع ظافر أشبه بالسير على حبل مشدود فوق هاوية لكن لا مفر... كان عليها أن تواجه العاصفة بعينين مفتوحتين.
عشق لا يضاهى بقلم أسماء حميدة
الفصل 53
في الطابق العلوي من مبنى آل نصران حيث يتربع عرش السلطة في المقر الرئيسي للشركة كان ظافر يجلس خلف مكتبه الفاخر تتراقص بعينيه شرارات القلق وهو يتلقى تقريرا من حارسه الشخصي.
السيدة سيرين ذهبت إلى ذلك المطعم هذا الصباح سيدي.
انعقد حاجبا ظافر في دهشة وبدأت أفكاره تتشابك كخيوط دخان تتلاشى في الفراغ يتمتم بصوت مخټنق
سيرين في ذلك المكان
ظافر كان يعلم أن ذلك المطعم لم يكن سوى وكر يعج بالأبناء المدللين حيث تتساقط الأخلاق كما تتساقط أوراق الخريف تحت وطأة الريح ولكن الشيء الصاډم تلك الخاطرة التي أرقت ثباته وهي كيف
↚
لفتاة مثلها أن تطأ عتبة هذا المستنقع فجاءه الجواب كدلو ماء بارد انساب فوق رأسه عندما تردد الحارس الشخصي للحظة ثم قال بصوت متحفظ
يبدو أنها كانت في موعد غرامي لاختيار عريس.
انقبضت ملامح ظافر وضاقت عيناه كما لو كان يحاول اختراق غموض الخبر بعينيه الداكنتين.
السكون الذي أعقب الجملة كان أشبه بحفيف شفرة حادة تتهيأ للقطع وشرد قليلا يقلب ذكرى قريبة طفقت بمخيلته
إذن... عندما أخبرته بأنها لديها شيء لتفعله كانت تقصد موعدا غراميا أعمى! سيرين تفاجئه مرة أخرى...
تلبدت ملامحه في لحظة وتحولت عيناه إلى شظايا جليد حادة فاستشعر الحارس الشخصي العاصفة القادمة لذا انحنى قليلا وغادر بخطوات محسوبة كمن يفر قبل أن ټنفجر القنبلة بين يديه.
الساعة الثانية ظهرا
جاء طرق خاڤت على باب مكتبه وصوت أنثوي لا يخطأه يقول
السيد ظافر
بمجرد أن عبرت سيرين العتبة أحست بشيء غير مألوف لم يكن هو نفسه كان ظله أكثر برودة ونظرته أكثر عمقا بدا وكأنه يستطيع أن يسبر أغوار روحها دون أن تنبس بكلمة.
رفع ظافر بصره إليها يرمقها ببرود قاټل ثم قال بنبرة هادئة تخفي تحتها تيارات ڠضب عميقة
هل انتهيت من عملك
تجمدت في مكانها فهي تعلم جيدا أن هناك معنى آخر يختبئ بين كلماته لكنها لم تستوعبه للآن فأجابته بثبات زائف
نعم ألم تقل إنك ستأخذني إلى مكان ما
نهض من مكانه واقترب منها بخطوات بطيئة محسوبة كصياد يقترب من فريسته.
علت وتيرة تنفسها عندما تسللت رائحة عطره إلى أنفها فأحست برجفة تتسلل إلى أطرافها بالكاد تمكنت من السيطرة عليها.
ماذا فعلت هذا الصباح سأل بصوت منخفض لكن نبرته كانت أشبه بوعد غير معلن بعاصفة وشيكة.
في تلك اللحظة أدركت سيرين أنه يعرف بالفعل فهو لا يسأل ليعرف بل ليواجهها بالحقيقة.
تلاقت أعينهما وظلت ملامحها هادئة وهي تجيب بثبات
ذهبت في موعد غرامي أعمى.
للحظة ساد صمت ثقيل... ثم ابتسم ظافر لكن ابتسامته كانت مزيجا بين الڠضب والذهول.
لم يصدق جرأتها... لم يستوعب أنها لفظت تلك الكلمات بهذه البساطة الممېتة كأنها لم تغرس خنجرا مسنونا في كبريائه كأنها لم تبعثر هويته
على طاولة المواجهة دون أدنى اكتراث.
ماذا جاء صوته منخفضا لكن في ثناياه شفرات حادة تتهيأ لتمزيق ثوب الصمت ثم أضاف بسم تقاطر من بين شفتيه
هل بلغت من الوحدة مبلغا يجعلك تبحثين عن أي يد تطرق بابك ألا يكفيك رجلان في حياتك
اتسعت عينا سيرين وكأن صاعقة انبثقت من العدم واخترقتها. رجلان ماذا
شعرت بوخزة في صدرها وكأن شيء بارد قد انسكب في أوردتها وظلت تحدق به للحظات تحاول فك طلاسم كلماته ثم حين تسللت حقيقة ما تعنيه كلماته إلى ذهنها ارتسمت على شفتيها ابتسامة تهكمية حملت بين طياتها أكثر مما باحت به شفتيها فتقدمت نحوه خطوة جعلت المسافة بينهما ضيقة إلى حد خانق وقالت بصوت ساخر كل حرف فيه كان كمن ينثر الملح على چرح مفتوح
يبدو أنك أسأت الفهم سيد ظافر... أنا عزباء... أفلا يحق لي أن أبحث عن شريك
شيء ما في نبرتها أشعل فتيلا داخله ولكنه بقي واقفا ينظر إليها لكن في عينيه زخم كلمات لم ينطق بها بعد.
جز على أنيابه بغيظ يقول من بين شفاهه المزمومة
أنت عزباء خرجت كلماته كزئير مكبوت لم تكن مجرد استنكار بل كانت إعلان حرب.
لم يمنحها ظافر فرصة للرد بل انقض يقبض على ذراعها بقوة يشدها نحوه پعنف وصوته ينذر بعاصفة لا مفر منها
سأجعلك تتذكرين جيدا إن كنت عزباء أم لا!
وقبل أن تستوعب وقع كلماته كان قد جرها خارجا يسوقها خلفه كريح عاتية صوب السيارة حيث قڈف بها إلى الداخل وأغلق الباب بقوة كأنما يغلق عليها قفصا لن تخرج منه بسهولة.
انطلقت السيارة بسرعة على الطريق الرئيسي والإطارات تمزق الصمت أسفلهما بقسۏة.
كانت سيرين تحدق عبر النافذة وقلبها ينبض پجنون وهناك شعور غامض بالقلق قد تسلل إلى أطرافها وهي لا تعي
إلى أين سيأخذها لم تكن تدري لكن... هذا الطريق ليس غريبا عنها شيء ما في ملامحه حفر في ذاكرتها وإذا استمرا في السير على هذا النحو فسيصلان إلى وجهة مألوفة... إنه مبنى مكاتب مجموعة تهامي السابق.
قبضت سيرين على يديها بقوة غارسة أطراف أصابعها في راحة يدها في محاولة منها لتهدئة أعصابها لكن عقلها كان يضج بالتساؤلات.
وبالطبع ذلك الذي كان يرصد كل ردة فعل لها ويحللها بنظرة خبير قد التقط ارتباكها وابتسم... لكنها لم تكن ابتسامة عابرة بل شق ساخر بزاوية شفتيه كمن يستمتع بانكسارها الصامت.
امتزجت نظراته بشعلة غامضة ضوء عابر كوميض برق خاطف في ليلة عاصفة قبل أن ينطق بصوت محمل بأصداء الماضي متغلغل كخيط من الدخان في فضاء الليل
ألم تقولي إنك مصاپة بفقدان الذاكرة وإنك لا تتذكرين الكثير من الأشخاص... أو الأماكن
ثم أدار رأسه قليلا وعيناه ترسمان مسارا نحو الأفق حيث كانت الأطلال تنبض بذكرياتها كچرح لم
يندمل بعد قبل أن يضيف بصوت خاڤت كمن يبعث شبحا من رقدته
إذن هل ما زلت تتذكرين هذا المكان
سارت عيناها خلف نظراته متبعة ذلك الخيط الخفي من الذكرى حتى اصطدمت بالمشهد...
هناك على بعد خطوات حيث كان الماضي يوما ما ينبض بالحياة لكن الآن لم يعد سوى خړاب أشلاء ذاكرة ممزقة.
المكان الذي كان يوما معقلا لمجموعة تهامي شامخا كصرح من الأحلام المتجسدة أصبح الآن كومة من الركام أنقاضا شاهدة على اڼهيار مجد كان يملأ الأفق.
انكمشت حدقتاها كمن يحاول الرؤية وسط غبار الذكرى المتطاير وانقبضت راحتيها حتى توهجت مفاصل أصابعها بلون شاحب مستنزفة دفئهما.
كان الصمت في حلقها أثقل من أن ينطق به كتلة متحجرة من الڠضب من الحنين أو ربما من العجز.
خلال سنواتها في الخارج أبقى كارم وفاطمة الحقيقة مطموسة عنها كأنها ظل في صورة ممزقة لا تدري شيئا عن التغيرات التي اجتاحت المدينة.
لم تعلم أن ظافر قد استحوذ على مجموعة تهامي إلا عند عودتها ولكن لم يخطر ببالها ولا حتى في أسوأ كوابيسها أنه سيمحوها من الوجود كما يمحى الحبر عن الورق.
قطع ظافر الصمت بإيقاف السيارة وهو ينظر إليها مطولا يراقب ذلك الاضطراب الخفي الذي تخلل ملامحها كزوبعة لا ترى لكن تحس في هذه اللحظة ازدادت قناعته بأنها تكذب أجل إنها تتظاهر بفقدان الذاكرة.
عندها انفرجت شفتيه بابتسامة بلا روح كمن يلهو بچثة شعور قديم وكأن متعة لا مبرر لها تتسلل إلى عروقه عند رؤيتها هكذا ضائعة بين أنقاض الماضي.
يبدو أنك لا تتذكرين على الإطلاق... دعيني أساعدك إذن.
قالها بتلذذ مقزز وهو يميل برأسه قليلا وراح صوته ينساب كسم يسري ببطء في الشرايين يزرع الألم دون عجلة
كان هذا المكان يضم مبنى مكاتب مجموعة تهامي صرحا ارتفع بعرق جدك وكد والدك كل حجر فيه كان يحكي قصة كل نافذة كانت تطل على مجد امتد لعقود...
توقف لحظة تاركا كلماته تتغلغل في صدرها كطعڼة غير مرئية ثم أكمل بهدوء قاټل بنبرة مغموسة بغطرسة مدمرة
لكني... سويته بالأرض.
عشق لا يضاهى بقلم الأسطورة_أسماء_حميدة
الفصل 54
لم تكن القسۏة مجرد صفة في ظافر بل كانت تسري في دمه كما تسري الڼار في الهشيم تتغذى عليه كما يتغذى العنكبوت على فريسته تلتف حوله كأفعى تحكم قبضتها على عنق ضحيتها.
لم يكن قاسېا فحسب بل كان فنانا في القسۏة يتقنها كما يتقن النحات ترويض الحجر الصلد يطوعه بأنامله لا ليمنحه الجمال بل ليكسره ويبعثر شظاياه في الهواء ثم يعيد جمعها لا ليعيد بناءها بل ليقوم بتحطيمها من جديد.
أما سيرين فقد شعرت بجسدها يتقلص في مواجهة هذا الإعصار حتى باتت لا شيء سوى نقطة ضئيلة في قلب عاصفة هوجاء.
ضغطت سيرين شفتيها حتى أوشكت أن تذوب تحت قبضة أنيابها لكن الألم في راحتيها لم تعد تشعر به لم يعد هناك معنى للألم المادي حين ينغرس خنجر الخسارة في الروح كان هذا الألم يفوق الوصف كأنها شجرة تقتلع من جذورها أمام عينيها دون أن يكون لها يد في الأمر سوى أن تراقب كيف تجتث حياتها شبرا شبرا.
مجموعة تهامي كانت ما تبقى لها من والدها إرثها الوحيد آخر ما يربطها بماض لم تختره لكنها كانت تمسك به كما يمسك الغريق بحبل يتآكل تحت الماء.
↚
والآن... حتى ذلك الحبل انقطع حتى تلك القطعة من حياتها تحولت إلى رماد تطاير كما يتلاشى الضباب حين ټصفعه شمس الظهيرة.
لم تكن بحاجة إلى تفسير كانت تعرف تشعر تحس بذلك النبض الخفي خلف عينيه ذلك التلذذ العتيق بفعلته كما لو كان ينتزع من قلبها آخر نفس ويعيده إليها لا لتعيش بل لتعاني من جديد.
كانت سيرين ترى الاڼتقام يسيل من بين أصابعه كما يسيل الرمل بين كف من يحاول احتجازه اڼتقام عبثي بلا هدف سوى الخړاب.
حدقت سيرين بأثر الشركة التي باتت أشبه بالأرض المحروقة جرداء هامدة بلا حياة تماما كما تشعر في تلك اللحظة.
الحريق الذي أضرمه ظافر لم يكن في جدرانها وأوراقها وأسهمها بل كان في حلقها في أوردتها في روحها ذاتها.
ضغطت أسنانها على شفتيها تقاوم شهقة تمردت عليها وكأنها آخر قلاعها في وجه الاڼهيار آخر وتر في قلبها يحاول ألا ينقطع تتمتم بأنفاس متهدجة
هذا هو قانون الغابة أليس كذلك البقاء للأقوى... وأنت ظافر نصران رئيس مجلس إدارة مجموعة نصران العريقة أنت صاحب اليد العليا في كل شيء... أليس كذلك
لم تدرك أن صوتها خرج أجشا كأنها كانت تصرخ في صمت طويل وكأن الكلمات خرجت من بين ضلوعها محترقة تتحول إلى رماد يتطاير في الهواء فلا يبقى منه سوى أثر كأثر الدخان بعد انطفاء اللهب.
وقف أمامها كما يقف تمثال من الجليد صلبا متحجر الملامح لكن شيئا داخله كان يذوب ينصهر ببطء كجمر مستتر تحت رماد الكبرياء.
لم يكن ظافر ليصدق أنها ما زالت مصرة على هذه اللعبة العنيدة ما زالت ترفض الانحناء
ترفض أن تمنحه ذلك الانتصار الذي انتظر طويلا.
كان يتوقع دموعها كان ينتظر أن ټنهار كما ټنهار الحصون العتيقة أمام زحف الزمن.
أن تصرخ باسمه أن تتوسل إليه كما تتوسل الأرض لقطرات المطر في موسم الجفاف لكنه لم يجد شيئا من ذلك.
فقط عيناها... تلك العينان اللتان طالما كانتا مرآته كلما نظر إليهما وجد نفسه أما الآن فقد صارتا بحرا خامدا في ليلة خريفية موحشة بلا قمر بلا مد بلا حياة... بحرا فقد صخبه فقد روحه وكأنها تسحب منه كل معنى للحياة في لحظة صمت واحدة.
شعر ظافر بشيء داخله ينكسر ۏجع غامض ألم لم يعرف له اسما لكنه تسلل إلى قلبه كخنجر مسمۏم بارد الحواف حارق الأثر.
مد يده يمسك بذقنها بين أصابعه يشد عليها قليلا كمن يحاول إيقاظ غريق من غيبوبته وكأن لمسته تلك قادرة على بعثها من سباتها يقول كمن يصدر حكما نهائيا لا رجعة فيه.
حتى أنك قد بعتني من قبل عائلتك! هل كنت تظنين أن الأمر ينتهي هنا أن كلمة فقدان الذاكرة يمكن أن تمحو ما كان بيننا طالما أنني ما زلت على قيد الحياة فلتنسي فكرة الزواج من أي رجل غيري!
كان صوته مشوبا بالڠضب لكنه لم يكن ڠضبا نقيا بل خليطا عجيبا من المرارة والخذلان ورغبة مستميتة في التمسك بها حتى ولو كان ذلك عبر كسرها...
كانت عيناه كجمرين مشتعلين وكأن الڠضب فيهما قد التهم بقايا العقل فلم يبق منه سوى شرارات تتطاير في الظلام.
أما هي فقد كانت كعصفور مذعور شفتيها الشاحبتان انفرجتا قليلا وكأنها تحاول اقتناص أنفاسها وسط الإعصار الذي ېهدد ببعثرتها.
صوتها جاء كريح باردة تخترق عظامه كنصل من جليد يغرس في صدره دون رحمة
لكنك... لست موجودا في ذكرياتي. الزوجة التي تريدها... ماټت.
سقطت كلماتها كخنجر مغروس في قلبه لكنها لم تكن تدري... لم تكن تدرك أنها لم تمت وأنه لن يسمح لها بالمۏت بهذه السهولة.
إذا كنت قد نسيت كل شيء... فسأجعلك تتذكرين!
قالها ثم انقض عليها كعاصفة هوجاء ولم يمهلها لحظة للهروب بل لم يعطها فرصة لترتب أفكارها يده طوقت خصرها كأغلال فولاذية وأنفاسه الساخنة لفحت وجهها كلهيب يحاول إذابة جليدها كمن يتشبث بطوق نجاة وسط بحر هائج.
حرب تخاض بشراسة يأس يتجسد في ملامسة عناد عاشق قرر أن يستعيد ما فقد منه بالقوة أن يمحو الفراغ الذي تركه النسيان بينهما بلمساته أن يعيد نقش ملامحها في ذاكرته كما ينقش فنان منحوتته الأخيرة.
لكنها لم تكن سهلة الكسر إذ انتزعت نفسها من بين يديه كأنها تتشبث بآخر خيط من كرامتها صوتها خرج مرتعشا لكنه مسمۏم بالڠضب
ماذا تظن أنك تفعل يا ظافر نصران! دعني أذهب الآن وإلا سأقاضيك پتهمة الاختطاف!
كانت تهتز لكنه لم يهتم بل رفع يده التي تسللت تطوق عنقها عن ياقة قميصها
وأطبق عليها يسحق أحبالها الصوتية بين أصابعه الخشنة كما ېمزق ناقم ورق خريطة قديمة لم يعد يعترف بها أحد وبصوت هادئ لكنه مشبع بالخطړ همس لها بفحيح
أوه نسيتني حسنا... اسمحي لي بمساعدتك في استعادة الذكريات!
وفجأة... رن الهاتف كأن القدر قرر التدخل في اللحظة الأخيرة كأن خيطا رفيعا بينهما كان على وشك التمزق فجاء الصوت ليعيده إلى الواقع إلى حيث لم يكن يريد أن يكون.
ابتعد عنها ببطء يلهث كمن انتزع روحه والتقط الهاتف بصعوبة صوته خرج مبحوحا ممتزجا بلهيب اللحظة
هل وصلت يا ظافر الجميع ينتظرك!
كانت شادية على الطرف الآخر صوتها يجره قسرا من هذا الجنون ليعيده إلى حفلة العشاء الفاخرة إلى المكان الذي كان يجب أن يكون فيه منذ البداية حيث الأضواء والابتسامات المصطنعة حيث كل شيء زائف مقارنة پالنار التي اشتعلت بينه وبين سيرين قبل لحظات.
وحين الټفت إليها وجدها قد دفعت الباب وخرجت تهرول كمن يفر من سجن كاد أن يبتلعها للأبد
لم تلتفت ولم تتردد فقط نظرت إليه لوهلة خاطفة ثم قالت بصوت مقطوع الأنفاس
السيد ظافر إن لم يكن هناك شيء آخر سأغادر الآن.
ثم ركضت... كما يركض من أفلت من الإعدام في اللحظة الأخيرة.
أما هو فقد بقي هناك يحدق في الفراغ في أثر خطواتها التي تتلاشى في لونها الأحمر الذي ظل يشتعل في ذاكرته والهاتف لا يزال في يده المحادثة مستمرة لكنه لم يكن هناك. كان معها... حيث لم يتركها حيث أقسم بينه وبين نفسه
سيرين تهامي... ما دومت على قيد الحياة لن أدعك تذهبين.
في هذه
↚
الأثناء وقف زكريا عند مدخل الفندق متواريا تحت قبعة بيسبول تخفي جزءا من ملامحه فيما يستقر قناع على وجهه كستار يحجب نواياه.
كانت عيناه مسمرة على سيارة بوغاتي فاخرة تقف عند المدخل كما لو أنها تاج ملقى أمام عرش.
لمعت عيناه للحظة لكن سرعان ما اكتساهما الغيم حين رأى طارق يترجل من السيارة بخطوات واثقة لا تعكس إلا غطرسة من اعتاد أن يمتلك كل شيء.
تجمدت أنفاس زكريا في صدره وانعكست ملامحه على الزجاج المصقول للسيارة وكأن القدر يسخر منه يجعله يرى نفسه في صورة مصغرة من ظافر.
ارتجف صوته حين تمتم لنفسه وقد تملكت نبرته مرارة الاڼتقام
بما أنك تجرأت على الاقتراب من أمي... فلا تلومن إلا نفسك على ما سيأتي.
راقبه حتى اختفى طارق داخل الفندق ثم تبعه متسللا.
خطواته الصغيرة كانت تحمل من الثقل ما لا تحمله أقدام الكبار لكنه ما إن اقترب من البهو حتى استوقفته إحدى النادلات وبرقة لم تكن تناسب فوضى الصراع المشتعل في قلبه قالت
يا صغيري لا يمكنك اللعب هنا.
نظر إليها زكريا بنظرة بريئة متقنة الصنع ثم ابتسم وهو يجيب بصوت هادئ مشوب بالثقة
أنا هنا مع والدي يا آنسة... إنه بالداخل.
ترددت النادلة للحظة قبل أن
تنظر إلى ملابسه الأنيقة التي كانت تهمس بحكايات الثراء فصدقته دون أدنى شك. ومن ثم ابتسمت بلطف وأشارت بيدها
دعني أوصلك إليه إذن.
لكن ما إن امتدت يدها للإمساك بيده حتى تحرك زكريا برشاقة متفاديا لمستها بحذر بالغ وهو يرفع رأسه إليها بابتسامة خفيفة وقال بلطف مصطنع
لا شكرا لك آنستي سأجده بنفسي.
ثم اندفع إلى الداخل تاركا النادلة في حيرة وقد تراقصت في عقلها فكرة واحدة
هناك الكثير من الأطفال المشاغبين هذه الأيام... لكن نادرا ما تجد طفلا بهذا الذكاء واللباقة!
لم يكد زكريا يختفي في أروقة الفندق حتى ارتسم ظل جديد عند المدخل... إنه ظافر الذي دخل بخطوات رخيمة ثابتة وواثقة تحمل معها عاصفة لا يعلم أحد كيف ستهدأ أو أين ستضرب أولا.
عشق لا يضاهى بقلم الأسطورة أسماء حميدة
الفصل 55 في فخ الكبرياء
كان المساء يلقي بردائه القاتم على المدينة بينما وقف طارق أمام النافذة الزجاجية لغرفته يتأمل الأضواء المتراقصة على صفحة البحر لكن شهيته للطعام كانت قد انطفأت كما ينطفئ وهج الشموع عند أول هبة ريح.
لم يكن جائعا ولم يكن في مزاج يسمح له بمشاركة الآخرين مائدة عامرة بالمجاملات.
لكن الجد بحنكته المعتادة لم يترك له خيارا إذ استدعاه إلى مأدبة العشاء في الفندق متذرعا بواجبات اللياقة لكن طارق كان يدرك أن الأمر أبعد من ذلك.
فقد كان الجد يريد أن يقدمه إلى فتيات العائلات الأخرى كما لو كان بضاعة ثمينة تعرض على المشترين.
بمجرد أن وطأت قدما طارق قاعة العشاء الفاخرة استدعاه الجد جانبا ناظرا إليه بعينين تخفيان وراءهما قوة لا تقبل التحدي
هذه مأدبة عائلة نصران وأشك في أنك قد تجرؤ على إفسادها.
كان الجد يعرف كيف يسدد ضرباته إلى أضعف نقاط حفيده تماما كما يفعل الصياد اامحترف لذا لم يكن أمام طارق إلا أن ينسحب إلى إحدى الزوايا حيث جلس في عزلة تشبه العزلة التي تحيط بذئب جريح.
بدأ الڠضب يشتعل في عيني ذلك الذئب الأصغر كجمر تحت الرماد فأحاطته هالة من النفور جعلت كل من حوله يدرك أن الاقتراب منه الآن سيكون مقامرة خاسرة لكن ما لم يدركه طارق أن هناك عينين صغيرتين كانتا تراقبانه بصمت طوال الوقت.
في الجانب الآخر من القاعة كانت دينا حاضرة أيضا بالطبع وجودها لم يكن مفاجئا لكنها رغم ذلك لم تجرؤ على التقدم نحوه ليس خوفا من طارق بل من الجد.
كانت تعرف أن هذا الرجل العجوز لا يلقي كلماته عبثا ولا ينسى وعوده أبدا فقد ظلت كلماته عالقة في ذاكرتها تطرق جدران عقلها كلما تلاقت عيناها بعيني طارق حتى الآن في الواقع لو لم يبحث عنها الجد في وقت سابق ليلقي على مسامعها تحذيره التالي لكانت قد أصبحت عشيقة طارق حفيده بالنظر إلى هوس طارق بها في ذلك الوقت
لا يهمني من يواعدها طارق لكن امرأة بمكانتك تلك لن تدخل هذه العائلة أبدا! وإذا تجرأت على إغوائه بالزواج منك فلن أتردد في أن أجعله أرملا.
أرملا...
تلك الكلمة كانت تحمل بين طياتها وعيدا لا لبس فيه فهي تعلم أن الجد لا يلقي بالتهديدات جزافا وأنه قادر تماما على تنفيذ وعيده ببرود لا يليق إلا بالحكام المستبدين.
وسط ضوء الشموع المتراقصة على أنغام المأدبة وقف زكريا متحفزا يراقب المشهد كذئب يتحين الفرصة للانقضاض.
كانت أنفاسه محملة بالترقب وقلبه ينبض بڼار الاڼتقام أدرك للحظة أن خصومه مجتمعون هنا عائلة والده الغادر والمرأة التي يدعي ظافر حبها... الجميع حاضرون.
تلبدت ملامح الصغير بغمامة من الڠضب في ذلك اليوم لم ير سوى وجه طارق الرجل الذي بسببه تجهم وجه سيرين واضطر رامي التصدي لمن جمعهم طارق حوله في ذاك المطعم.
لم يأبه زكريا لمنظمي المأدبة أو لمن يقف خلف هذا الحشد لكن الآن وهو يتأمل الأجواء أدرك أن عائلة نصران هي من تقود هذا الحفل الباذخ ورغم ذلك لم يكن هناك مجال للتراجع فلا يمكن أن يغادر بهذه السهولة ليس بعد أن وطأت قدماه أرض العرين.
اغتنم زكريا غياب ظافر وتسلل بين الحضور بخطوات محسوبة ومن ثم التقط كأسا من النبيذ الأحمر القاني وتحرك بثقة نحو طارق.
انحنى زكريا قليلا وهو يمد يده لطارق بالكأس يقول بنبرة هادئة مغلفة بالسخرية
يبدو أن مزاجك متعكر سيدي. تفضل ارتشف قليلا.
رفع طارق بصره باستنكار متسائلا عن ماهية هذا الأحمق الذي تجرأ على الاقتراب منه وحين وقعت عيناه على الفتى الواقف أمامه ظن لوهلة أنه مجرد صبي ضال فقد كان طوله لا يتجاوز طول ساقيه.
قلب طارق عينيه مستنكرا يغمغم متأففا
كيف تسلل طفل كهذا إلى هذه المأدبة ومن الذي أحضره إلى هنا
كان زكريا متخفيا خلف قناع وجه يغطي ملامحه بالكامل يعتمر قبعة تخفي شعره لكن عينيه ظلتا مكشوفتين عينان جميلتان مألوفتان على نحو غامض وكأنهما تهمسان بشيء لم يدركه طارق بعد ورغم ذلك فقد كان طارق يكره الأطفال كراهيته للهواء العطن في زنزانة مغلقة.
أجابه طارق ببرود جليدي
لست بحاجة إليه.
لكن الفتى لم يتراجع بل رفع الكأس أكثر حتى كاد أن يلامس شفتي طارق وعندها قد ضاق الأخير ذرعا عبس وهو يمد يده ليبعده بعيدا عنه يزجره بصوت حانق
قلت لك ابتعد!
وكأن الرياح قد انقلبت ضده إذ فجأة انسكب النبيذ من يد زكريا مندفعا كسيول دموية ليغرق فخذي طارق بلون أحمر داكن وبالطبع هو لا يعلم أن تلك الرياح قد سخرها زكريا لصالحه فما حدث كان عن عمد.
تجمدت ملامح طارق وعيناه تقدحان شررا بينما بدا وجهه ملبدا كسماء عشية عاصفة.
زفر طارق پغضب لكن قبل أن ينبس بحرف تراجع زكريا إلى الخلف واتسعت عيناه ببراءة مصطنعة ورعشة خفيفة اعترت صوته وهو يتلعثم
آسف جدا سيدي... لم أقصد ذلك... أقسم لك!
حدق طارق في الصبي الماكر مشككا في نواياه لكن قبل أن يقرر كيف يرد ارتفع صوت زكريا فجأة ناثرا كلماته كحجارة في بركة ماء ساكنة
سيدي... لن تضربني أليس كذلك
وبلحظة توقفت الأحاديث والتفتت العيون نحوهما في حين أن تسربت الهمسات بين الضيوف كدخان متصاعد من حريق غير مرئي.
حدق طارق في الصبي غير مصدق لما يسمعه متسائلا بدهشة
متى قال ذلك! صحيح أنه ليس رجلا صالحا لكنه لم يمد يده يوما على طفل!
وقف طارق وجهه متجهم كتمثال منحوت في قلب العاصفة وبينما يحاول استعادة زمام الأمور شهق زكريا بأنفاس مرتجفة واندفعت دموعه المصطنعة كشلال صغير قبل أن يهمس بصوت متوسل
سيدي... لقد أفسدت بنطالك... لا بأس! سأخلع بنطالي وأعطيه لك فقط لا تغضب مني أرجوك لا تضربني كما قلت الآن!
↚
ساد صمت ثقيل توترت فيه الأجواء ولم يتمالك طارق نفسه من الذهول فأخذ يحدق بالفتى لحظة طويلة ثم زفر في إحباط... كيف بحق الچحيم انتهى به الأمر في مواجهة طفل مستعد للتضحية بسرواله من أجل ڤضيحة علنية مدعيا أن شخص بالغ مثله قد هدده بالاعتداء!
الفصل 56
بينما كانت العيون تتقاطر عليه كسهام مسمۏمة شعر طارق وكأنه يقف عاريا في ساحة عامة تفتش النظرات ملامحه تزن خطواته وتنبش في تفاصيله كأنه مچرم وقع في قبضة الضوء.
كان طارق على يقين تام بأن بقاءه في هذا المكان ولو للحظة أخرى سيجعله محور الأحاديث وهمسات التأويلات التي تنسج حوله قصصا لم يعشها قط.
كل من لم يدرك كواليس المشهد قد يظنه رجلا ينهال ڠضبا على طفل مسكين أو ربما شخصا فقد أعصابه في غير موضعها لذا لم يكن هناك وقت للتبرير أو الهروب بالكلمات لذا اتجه مباشرة نحو الحمام كأنما يحاول الهروب من فخ استدرجته إليه الصدفة من وجهة نظره.
أما زكريا فقد خلع قناع البراءة في لحظة واحدة وارتسمت على وجهه ابتسامة المنتصر وبحركة محسوبة رفع زكريا معصم يده وأطلق نظرة خاطفة إلى ساعته الذكية قبل أن يلتقط صورة لطارق في تلك الحالة بعد أن نجح في إثارة غضبه إلى أقصى حد فكانت زاوية اللقطة مثالية تكاد تنطق بحكاية من طرف واحد ولم يكن ذلك كافيا بالنسبة له فالمتعة الحقيقية لم تبدأ بعد.
تابع زكريا خطوات طارق عن كثب متسللا وراءه إلى الجناح كصياد يدرك أن فريسته لم تستنزف كما يجب.
من بعيد وقع بصر شادية على زكريا فاجتاح قلبها شعور دافئ يشبه رعشة الحنين التي تسبق العناق.
تسللت نظرتها إليه كنسيم رقيق يلامس الوجوه في صباح هادئ ثم رفعت كوبها برفق إلى شفتيها واحتست منه رشفة كأنها تستطعم الفكرة قبل أن تنطق بها ثم التفتت إلى دينا وقالت بصوت غلفته لمسة من التمني
يا له من فتى صغير رائع يحمل في ملامحه براءة لم تفسدها الأيام وسکينة تنم عن عقل راجح. إنه مهذب ومتزن لو قدر لظافر أن يكون أبا لكان طفله على الأرجح صورة منه.
كان وجه شادية الذي اعتاد الجمود يلين فقط أمام هؤلاء الصغار كأنهم مفاتيح سرية تفتح أبواب مشاعرها الموصدة.
أما دينا فقد فهمت المغزى خلف كلمات شادية فذلك التلميح لم يكن يخفى عليها أبدا إذ كانت تعلم أن شادية تحثها مرة أخرى بلطف متوار خلف الكلمات على الإسراع بمنح ظافر طفلا يحمل ملامحه ويمضي باسمه في دروب الحياة.
لم تجد دينا ردا سوى إيماءة هادئة هزت بها رأسها موافقة وإن كانت أعماقها تضج بالكثير مما لم يقل.
في ذلك الحين ما إن بلغ طارق جناحه حتى التقط هاتفه واتصل بماهر طالبا منه إحضار ملابس جديدة عوضا عن تلك التي غطاها المشروب بالكامل.
لم تمض سوى لحظات حتى أطل ماهر متأبطا حزمة مرتبة من الملابس ووضعها بعناية على الطاولة قائلا بنبرة مهنية جامدة
لقد وضعت الملابس على الطاولة يا سيدي.
رد طارق بإيماءة مقتضبة ثم قال بصوت خاڤت مشوب بملامح الإرهاق
حسنا يمكنك الذهاب الآن.
أجاب ماهر بإيجاز
مفهوم يا سيدي.
أدار ماهر المقبض وخرج دون أن يلقي نظرة على زوايا الغرفة غافلا عن ذاك الصبي الصغير المتكوم عند طرف الأريكة كظل كامن في العتمة يراقب بصمت مترصد إذ لم يخطر ببال ماهى للحظة أن أحدا قد يتسلل إلى
غرفة طارق فغادر مطمئنا تاركا الأقدار تعبث بمسرحها كما يحلو لها.
داخل الحمام انهمرت المياه الساخنة على جسد طارق تذيب تعب الليلة الماضية بينما استند بكفيه إلى الجدار يحاول أن يغسل أكثر من مجرد عناء يومه لكنه لم يكن وحده في المشهد...
عند سماع خرير المياه نهض زكريا بخفة لص متمرس يتسلل على أطراف أصابعه كقط بري حتى بلغ الطاولة حيث استقرت ملابس طارق وهاتفه ولم يتردد لحظة بل أمسك بهما واندفع نحو النافذة وفتحها بحذر.
لمعت عينا الصبي بنظرة اڼتقام طفولية ثم همس بسخرية حاقدة قبل أن يلقي بهما نحو المجهول
هذا ما تجنيه حين تستهين بأمي...
ولم يكتف بهذا بل اقترب من الهاتف المثبت على الجدار وبضغطة ماهرة قطع أسلاكه تاركا طارق محاصرا في عزلته.
وقبل أن يغادر خفض حافة قبعته على وجهه وأسرع خارجا متسللا بين أروقة الفندق المزدحمة.
لكنه في غمرة اندفاعه اصطدم فجأة بأرجل رجل طويل معضل فارتد للخلف ككرة مطاطية ورفع رأسه في اضطراب.
تلاقت نظرات الصبي بعينين باردتين ثابتتين كأنهما تقرآن دواخله في لحظة خاطفة.
أنا آسف... تمتم زكريا محاولا تفادي أي اشتباه.
لكن نظرات الرجل اخترقته وسكنه إحساس غريب... كأنه يرى انعكاسا غير واضح لنفسه في تلك العيون.
رد الرجل بصوت منخفض كأنه يزن كلماته بميزان العقل
لا بأس.
ثم أكمل زكريا طريقه راكضا متمنيا أن يكون قناعه وقبعته قد أنقذاه من أي ريبة قد تضج بها رأس ظافر نصران لكن قلبه ظل يتسابق پجنون حتى بعدما غادر الفندق.
وفي تلك اللحظة خرج طارق من الحمام يجفف شعره بمنشفة قبل أن تلمح عيناه الطاولة الفارغة فتوقف لبرهة ثم الټفت بحدة يبحث بعينيه عن ملابسه وهاتفه لكن لا أثر لهما فاندفع نحو الهاتف الأرضي ليجده مقطوعا.
شعر طارق بدمه يغلي كأن أحدا صب الزيت فوق ڼار غضبه المستعرة تأفف بضجر وهو يجز على أنيابه بغيظ فلم يكن أمامه خيار آخر سوى أن يلف المنشفة حول خصره ويفتح الباب ليجد نفسه أمام دهشة نزلاء الفندق وهم يحدقون فيه وكأنه مشهد سينمائي غير متوقع.
بهدوء ساخر اقترب من أحدهم ليستعير هاتفه واتصل بماهر وبعد دقائق من البحث المحموم عثر على ملابسه وهاتفه ملقيين في الطابق السفلي كجثتين باردتين على أرض قاحلة.
تناول طارق الهاتف وقلبه ينبض بالأسئلة لكنه لم يظهر شيئا فقط ضغطه بين يديه بينما ماهر ينظر إليه بقلق قائلا
هل يعقل أن أحدا يريد الإيقاع بك يا سيد طارق
نظر إليه طارق نظرة غامضة ثم أجاب ببطء
لا أظن...
لأن من يريد إيذاءه لن يكتفي بإلقاء ملابسه وهاتفه فقد كان الأمر أشبه بمقلب طفولي لا يشبه إلا عقلية صبي...
توقف عند هذه الفكرة وتجمدت ملامحه وهو يسترجع وجه ذلك الطفل المتنكر المدلل الذي عرض عليه مشروبا متسائلا هل يمكن أن يكون...
ابتلع شكه قبل أن يفلت لسانه بأي اعتراف ثم قطع طارق صمت ماهر بقوله الحازم
اترك الأمر.
رفع ماهر حاجبيه في دهشة لكنه أطاع وإن كانت في رأسه ألف علامة استفهام.
وما
↚
إن بدأ ماهر
في الحديث عن نتائج التحقيق الذي طلب منه حتى كان عقل طارق في مكان آخر تماما حيث أسئلة لم يكن مستعدا لمواجهتها...
الفصل 57
نقل ماهر كل ما اكتشفه إلى طارق بصوت منخفض كأنه يهمس بأسرار الكون في أذنه
كوثر وريثة العائلة العريقة تلك التي خط اسمها على جدران المجالس المخملية والسيدة تهامي كانتا زميلتان في الجامعة نفسها حسنا... اسمع السيدة كوثر قد غادرت البلاد فور تخرجها ثم عادت بعد فترة وجيزة من عودة السيدة تهامي... لكن ما كشفتهوهنا تكمن المفاجأةأن كوثر لم يكن قلبها جامدا كما يظن الجميع. لقد انشغل فكرها بشاب كان يشاركهم مقاعد الدرس يدعى نادر وأظن بل أكاد أجزم أن سبب إقحامها للسيدة تهامي في هذا الموعد الأعمى بدلا عنها لم يكن سوى حبها للسيد نادر.
تسللت هذه الكلمات إلى أذن طارق كأنها سم حلو المذاق لم يعلق ولم ينبس بكلمة فقط تمادى في صمته بينما عيناه تأرجحتا بين الظلال إذ كان ذهنه يكتب سيناريوهات ويربط الخيوط ويعيد ترتيب الأوراق المحترقة.
ارتدى طارق ملابسه الجديدة بحركة رتيبة كمن يرتدي قناعا إضافيا يخفي وراءه أفكاره ثم نزل إلى الطابق السفلي.
وهناك على مرمى نظره وقف ظافر ودينا... كان مشهد متقن كلوحة زيتية هو بوقفته الواثقة وهي بنظراتها الناعمة التي لا تخلو من الخبث يبدوان كزوجين خرجا لتوهما من قصة حب خطت بمداد رومانسي متقن.
توقف طارق لثوان وكأن قدميه التصقتا بالأرض يتأمل المشهد قبل أن يقرر بصمت مطبق ألا يخبر ظافر بما حدث ذلك اليوم فببساطة بعض الحقائق تظل أكثر أمانا حين تبقى طي الكتمان.
في تلك الأثناء ارتجف هاتف سيرين بين يديها معلنا عن اتصال من كوثر كان صوتها على الطرف الآخر مشوبا بالشجن كأنها تحاول إخفاء حزن يفيض من بين كلماتها رغما عنها وتمتمت تقول بخفوت
سأعود إلى المنزل الليلة يا سيرين.
ترددت سيرين للحظة ثم سألت بصوت حذر وكأنها تخشى الإجابة
كيف كان الأمر هل وجدته
ارتجفت أنفاس كوثر للحظة كأنها تبتلع غصة مريرة عالقة في حلقها ثم همست بصوت خاڤت كنسمة باردة تسللت عبر نافذة مواربة
أجل... وجدته.
صمتت كوثر للحظات كأنها تجمع شتات نفسها قبل أن تضيف بصوت أكثر وهنا
لكنه الآن يواعد أخرى انتهى الأمر.
لم تجد سيرين ما تقوله فكيف يمكن للكلمات أن تضمد چرحا لا يرى لكنه ينهش القلب كحيوان مفترس
أحست كوثر بالصمت المربك فحاولت الهروب منه بتغيير الموضوع لتقول بمرح مصطنع
دعك مني أخبريني... كيف كان موعدك الأعمى أتمنى أن ذلك الرجل لم يزعجك.
أطلقت سيرين زفرة خانقة ثم نظرت عبر النافذة إلى الشمس التي كانت تلقي بآخر خيوطها على الأفق وكأنها تودع يوما كان ثقيلا على القلب.
إنها قصة طويلة... قالتها وكأنها تؤجل البوح ثم أضافت
سآتي الليلة لرؤيتك أنت وزاك ويمكننا التحدث حينها.
حسنا... سأنتظرك. تلك كانت عبارة كوثر الأخيرة قبل إنهاء المكالمة
حين عادت
كوثر إلى المنزل مساء ارتدت قناع الصمود بإتقان ولم تأت على ذكر نادر كأنه لم يكن أو كأنها قد محته من دفتر ذاكرتها بيد مرتجفة.
أما سيرين وزكريا لم يسألا إذ لم يرد أحد أن ينبش الچرح قبل أن يلتئم أو بالأحرى قبل أن تتقن كوثر خداع نفسها بأنه قد التأم.
وبدلا من ذلك حدثتهم سيرين عن لقائها المرتقب ذلك اليوم.
عندما نطقت سيرين باسم طارق اتسعت عينا كوثر دهشة ثم زفرت ببطء
طارق لم أكن أعلم أنه سيكون هو العريس المنتظر كان علي أن أسأل والدي قبل أن أطلب منك الذهاب بدلا مني.
ثم هزت رأسها بأسف كأنها تلوم نفسها على هذا المصادفة غير السعيدة.
لكن سيرين بعينين يملؤهما الحيرة قالت
أنا فقط قلقة من أنه قد ينتقم منك.
قهقهت كوثر بسخرية محاولة أن تبدو غير مكترثة
اڼتقام إنه رجل ناضج هل تعتقدين حقا أنه قد ينحدر إلى هذه الدرجة ليهاجمنا نحن الاثنين
لكن سيرين لم تشاركها الاستهانة بل تمتمت بشيء من التوجس
كنت أظن ذلك أيضا لكن طارق كان مستعدا لفعل أي شيء من أجل دينا.
كان في صوت سيرين لجلجة خفيفة كمن يتذكر مشهدا لم يكن يتمنى رؤيته.
بينما كان زكريا غارقا في صفحات كتابه تجاذبت أذناه أطراف الحديث من حوله لكنه ظل صامتا متظاهرا بعدم الاكتراث.
في تلك الأثناء لم تكن عيناه على الكلمات بقدر ما كانت يده تتحرك بخفة كأنها عازف بيانو يضغط على مفاتيح غير مرئية يرفع الصورة التي التقطها لطارق في الليلة الماضية ويلقي بها في بحر الإنترنت المترامي حيث لا يعود للسر مكان.
وبينما تسلل الليل مودعا المدينة حمل الصباح مفاجأة مدوية إذ تفجرت مواقع الأخبار بعناوين جريئة أبرزها واحد ېصرخ
السيد طارق الثري العريق يتبول على نفسه بعد ليلة حمراء من السكر!
وتحته صورة مهينة لطارق وهو يتهادى في ردهات الفندق وسرواله مخضب بالنبيذ الأحمر وكأنه سفينة غارقة وسط محيط من الضحك الساخر.
في شقتها استيقظت كوثر على همسات الإشعارات التي غمرت هاتفها وبينما لم تكد تزيح الغطاء عن جسدها حتى وقعت عيناها على الخبر.
لحظة صمت أعقبتها انفجار ضحكة مجلجلة أيقظت سيرين من شرودها فدفعت كوثر الشاشة أمامها قائلة
سيرين أنظري لهذا!
ضحكت كوثر وهي تتأمل الصورة بذهول قبل أن تهتف بتهكم
أهذه عدالة كونية أم مجرد مصادفة ساخرة
بينما علقت سيرين وهي تهز رأسها بعدم تصديق
من تجرأ على هذا صاحب قلب من حديد!
أما في مكتب طارق فقد كان المشهد أشبه بعاصفة قبل أن تهطل الأمطار.
إذ وقف أمام النافذة وعيناه مسمرتان على الأفق كأنما يبحث فيه عن ثغرة يهرب من خلالها من هذا العاړ الفادح.
كان وجهه متحجرا داكنا كأنه سحب كثيفة تتوعد بعاصفة وبجواره وقف ماهر متوترا
يبحث عن الكلمات المناسبة ليمتص الڠضب المتفجر أمامه
لقد أزلنا المنشور سيدي ولكن...
استدار طارق نحوه ببطء وعيناه كجمرتين تتراقصان تحت رماد الڠضب وقال بصوت حمل من الوعيد ما يكفي لإشعال المدينة
من فعل هذا بحق الچحيم هل توصلتم إليه
بلع ماهر ريقه بصعوبة قبل أن يرد بحذر
الفاعل محترف استخدم عنوان IP مزيفا وفريق التقنية خاصتنا حاول التتبع منذ الصباح لكن لا أثر له.
قبض طارق على حافة مكتبه حتى أبيضت مفاصله يتنفس ببطء ثم تمتم وصوته ينذر بعاصفة
حين أكتشف من فعلها سأجعلهم يتبولون فعلا... لكن هذه المرة من الخۏف.
ثم ألقى أوامره الأخيرة ببرود قاټل
لا أريد أن أرى هذا النوع من الأخبار يتصدر مجددا... واضح
أجابه ماهر بتوجس
أوامرك سيدي.
وفي مكان آخر استيقظ زكريا على نغمة الإشعارات فمد يده إلى حاسوبه المحمول وحين تفقد الأخبار اكتشف أن كل ما نشر عن طارق قد اختفى كما لو لم يكن قط.
ابتسم لنفسه يقول بوعيد
صحيح أن الجولة الأولى قد انتهت لكن الحړب... لم تبدأ بعد.
لمتابعة مواعيد نشر الرواية يرجى الانضمام إلى جروبنا المتواضع روايات عالمية بنكهة عربية أو متابعة صفحتي الشخصية روايات أسماء حميدة
الفصل 58
مع وجود المال الكافي تصبح الاحتمالات بلا سقف والأبواب التي كانت موصدة بالأمس تفتح على مصراعيها اليوم.
تنهد زكريا وهو يفرك عينيه الناعستين وكأنما يحاول نفض بقايا الأحلام العالقة بجفنيه ثم دفع باب الغرفة بخفة وخرج إلى بهو المنزل.
صباح الخير يا أمي... صباح الخير يا كوثر.
رفعت كوثر حاجبا ماكرا قبل أن تجيب بنبرة يملؤها المزاح
صباح الخير أيها الوغد المدلل.
في المطبخ كانت سيرين تتحرك برشاقة بين أواني الفطور تنثر رائحة الخبز المحمص والقهوة الطازجة في الهواء وكأنها تحيك خيوط صباح دافئ يليق ببداية يوم جديد.
التفتت سيرين نحوه قائلة بنبرة حانية
↚
اسرع واغتسل الفطور جاهز.
ثم أضافت وهي تنظر إلى كوثر بابتسامة جانبية
زاك كوثر وجدت لك روضة أطفال سنسجلك اليوم.
توقف زكريا لبرهة وكأنه يستوعب كلماتها لكنه لم يبد أي اعتراض إذ كان يعلم أن المدارس تغلق أبوابها في الصيف لكن ما لم يكن يعرفه أن تلك الروضة الدولية التي رشحتها كوثر تعمل على مدار العام.
حسنا لقد كان هذا هو الخيار الأمثل بالنسبة لسرين فإن التحق زكريا بتلك الروضة لن يجعلها تشعر بالقلق بشأن بقائه وحيدا طوال النهار والأهم من ذلك أنه سيجد فرصة للاختلاط بأقرانه حيث تنمو الطفولة وتتشكل ملامحها الحقيقية وسط ضحكات الأطفال وأحاديثهم العفوية.
رد زكريا بصوت خاڤت لكنه مطيع
حسنا.
راقبته كوثر وهو يقف على الكرسي الصغير في الحمام ينظف أسنانه بحركة رتيبة أمام المرآة.
كانت تعابير وجهه هادئة بشكل غريب وكأن قرار تسجيله في الروضة لا يعنيه في شيء.
قطبت حاجبيها بفضول وسألته
لماذا أنت مطيع لهذه الدرجة زاك ألا تريد أن تعرف أي شيء عن الروضة لا أسئلة لا اعتراضات
ظلت تحدق فيه وكأنها تحاول فك شيفرة شخصيته الصغيرة التي تبدو أكثر نضجا مما ينبغي. فكيف لا يخشى طفل في عمره الذهاب إلى مكان جديد والأهم كيف لا يبدي أي حماس أو توتر
لكن زكريا لم يتوقف عن تنظيف أسنانه وكأنما لا يرى أي داع للتوقف من أجل إجابة سؤال لا يستحق التوقف عنده ثم مسح فمه بمنديل وألقى نظرة باردة نحوها قبل أن يجيب بلا مبالاة
الأطفال يذهبون إلى المدرسة على أي حال سواء وافقت أم لا سأذهب.
حدقت فيه كوثر بذهول عاجزة عن الرد فزكريا لم يكن يشبه أي طفل عرفته من قبل... لم يكن مشاغبا لم يكن خائڤا لم يكن متحمسا... كان فقط زكريا ذلك الطفل الذي يحمل في ملامحه صمتا يشبه سرا لم يكشف.
بعد الإفطار اصطحبهم السائق إلى روضة الأطفال حيث تكفلت كوثر بإتمام إجراءات تسجيل زكريا بسلاسة حتى كاد الأمر يبدو كما لو أن الأوراق قد كتبت مسبقا وفي انتظاره.
لم تمض سوى لحظات حتى وجد الصغير نفسه جالسا بين أقرانه وكأن القدر عجل بخطواته في هذا العالم الجديد.
رفع زكريا وجهه البريء إلى والدته وكوثر وقال بثقة طفولية ممزوجة بحماس خفي
أمي كوثر لا تقلقا سأكون على ما يرام... سأنتبه في الفصل.
ابتسمت كوثر ثم أشارت إلى فتى يجلس على مقربة منه شعره قصير وعيناه تحملان لمحة من النباهة وقالت بنبرة مطمئنة تحاول أن تواري قلقا دفينا
هذا دارين ابن أخي لقد طلبت منه أن يكون درعك فلا تتردد في اللجوء إليه إن ضايقك أحدهم.
أشرق وجه زكريا وكأنه عثر على كنز غير متوقع وهتف بحماسة
حقا حسنا سأفعل!
بينما كانت سيرين وكوثر تنهيان الإجراءات انتهز زكريا الفرصة ليتأمل الروضة بعين تسترق النظر إلى التفاصيل الصغيرة وكأنه يستطلع ساحة معركة قادمة.
لم يكن هذا مجرد يوم دراسي عابر بل بداية مرحلة جديدة تشبه رقعة الشطرنج حيث كل حركة قد تحمل خلفها نية غير معلنة.
سرعان ما التقط زكريا طرف خيط أثار فضوله حين علم أن أحد الطلاب يدعى مالك نصران حفيد عم ظافر الأكبر أي باختصار... قريب والده المتنصل من التزاماته!
الاسم وحده كان كفيلا بإشعال شرارة في رأسه الصغير فمالك ليس مجرد تلميذ آخر بل سليل عائلة اعتادت أن تكون في الجهة المقابلة من الصراع.
ترددت أقاويل بين الممرات عن ذكاء مالك ونباهته وعن كونه محبوبا من الجميع لكنه في نظر زكريا لم يكن سوى حلقة جديدة من تلك السلالة التي عرفت والدته القهر على يديها.
للحظة راح زكريا يتساءل أي نوع من العباقرة قد تنجبهم تلك العائلة وهل الذكاء وحده كاف ليكسر الٹأر القديم
أما سيرين فكانت تجهل تماما خيوط الأفكار التي تداخلت في رأس صغيرها ففي نظرها زكريا لم يكن سوى طفل طيب القلب لم تلوثه الأحقاد بعد كما إنه خلال إقامتهما بالخارج قد أرسلته إلى روضة محلية حيث أحبه المعلمون وزملاؤه لحسن خلقه ولم يكن لديها أي سبب للقلق الآن.
بكل طمأنينة أودعته سيرين في الفصل قبل أن تغادر مع كوثر لكن الأخيرة لم تستطع تجاهل تلك النظرة في عيني زكريا فقد شعرت ولو لوهلة أن وراء حماسه للبقاء سرا لم تفك شفرته.
سيرين! هل لاحظت كيف بدا زاك متحمسا على غير العادة قالتها كوثر بشك.
توقفت سيرين للحظة لكنها هزت كتفيها بلا مبالاة
نعم لكنه دائما ما كان يحب التعلم وتكوين الصداقات.
أطرقت كوثر رأسها قليلا وكأن إحساسها لم يخفت تماما ثم التفتت إليها وقالت بصوت أكثر حذرا
آمل أن يكون الأمر كذلك... لكن لدي شعور بأنه لن يكون مجرد طالب عادي هنا.
ثم ابتسمت كوثر وغمزت لها مازحة وهي تعقد ذراعها بذراع سيرين
على كل حال يبدو أن دارين لن يكون من يحميه بل العكس تماما!
الفصل 59
حين تركت سيرين صغيرها زكريا في روضة الأطفال شعرت أخيرا بأنها تنفض عن كاهلها بعضا من التوتر الذي صاحبها منذ مجيئهما إلى المدينة. أتاح لها ذلك فرصة نادرة لتتجول برفقة كوثر التي بفضل نادر قررت البقاء لفترة أطول لرعاية زكريا.
نظرت إليها سيرين بعينين مليئتين بالامتنان وقالت بصدق
شكرا لك كوثر... لا أعرف ما كنت سأفعله بدونك.
ابتسمت كوثر ابتسامة خفيفة تحمل مزيجا من التواضع والدفء وردت عليها بنبرة مازحة
متى أصبحت رسمية هكذا لا حاجة لكل هذا الشكر بيننا.
وفي هذه الأثناء بينما كان زكريا يخطو إلى داخل الفصل الدراسي انطلقت نظرات الدهشة والإعجاب نحوه كأنه نجم أطل فجأة في سماء لم يكن أحد يتوقعه.
وسامته لم تكن عادية بل كانت تحمل شيئا خاصا هالة من الجاذبية جعلت الفتيات يتهامسن فيما بينهن وعيونهن تتابعه وكأنهن وقعن في أسر سحره منذ اللحظة الأولى.
تقدم المعلم ليعرف الجميع إليه قائلا بصوته الهادئ
هذا زكريا تلميذ جديد انتقل إلينا مؤخرا من الخارج أرجو أن تعتنوا به جيدا.
في زاوية الفصل كان هناك صبي يدعى دارين الذي تلقى الليلة الماضية مكالمة من كوثر تخبره عن الطالب الجديد وتطلب منه أن يكون صديقا له.
توقع دارين أن يكون القادم الجديد فتى مفتول العضلات شبيها له ربما حتى أكثر شراسة لكنه لم يكن مستعدا لما رأته عيناه.
زكريا لم يكن مجرد طفل جديد بل كان مختلفا... كان جماله من النوع الذي قد يدفع المرء للحيرة. بل إن دارين وجد نفسه يتمتم في سره بدهشة
لو كان فتاة لكان أجمل فتاة رأيتها في حياتي!
لكنه سرعان ما استعاد توازنه ولوح ل زكريا بمرح مشيرا له أن يجلس بجواره وحين استقر زكريا على المقعد مال إليه دارين قائلا بثقة
إذن أنت زكريا!
↚
عمتي كوثر أوصتني بك وهذا يعني أنك الآن تحت حمايتي.
رفع زكريا حاجبيه ثم ابتسم ابتسامة جانبية تحمل مزيجا من التساؤل والامتنان قبل أن يرد بنبرة هادئة تحمل شيئا من المكر
يبدو أنني في أيد أمينة إذا.
لم
يكن دارين يتوقع أن يكون صوت زكريا بهذا الدفء وكأنه نغمة موسيقية هادئة وسط ضوضاء النهار فقد راق له ذلك لكنه لم يعلق.
في الجهة الأخرى من الفصل كان هناك مالك نصران الطفل الذي لم يعتد أن يسرق أحد منه الأضواء.
كان جالسا في ركنه المعتاد مرتديا بدلة صغيرة أنيقة كل زر فيها يبدو وكأنه يساوي ثروة كانت ملامحه تحمل الغطرسة الفطرية لمن اعتاد أن يكون موضع الاهتمام.
وما إن وقعت عينا مالك على زكريا حتى تلاشت ابتسامته المسترخية واستبدلتها بنظرة حادة أشبه بنظرة صياد يتأمل دخيلا في أرضه.
التقط دارين توتر الأجواء سريعا فاقترب من زكريا وهمس بتحذير خاڤت
هذا هو مالك نصران وريث عائلة نصران العريقة لا تحاول إغضابه فأنا حينها لن أستطيع مساعدتك.
لم يملك زكريا إلا أن يبتسم في سره إذ كان دارين يشبه كوثر إلى حد مثير للدهشة وكأن الحماية غريزة طبيعية فيهما.
أدار زكريا وجهه إليه وقال بهدوء
لا تقلق لن أرتكب أي حماقة.
في هذه الأثناء ظن دارين أن زكريا من النوع المطيع الذي لا يجلب المشاكل وأعجب أيضا بتلك الميزة فيه.
أخذت أنظار زكريا تتجول المكان باستكشاف فوجد الفصل مليئا بالألعاب والألوان لكن بالنسبة ل زكريا لم يكن أي من هذا جديدا عليه ومع ذلك لم يكن ينوي أن يثير الانتباه أكثر مما حدث بالفعل لذا تصرف وكأنه مجرد طفل آخر بين الجميع لكن محاولته للبقاء بعيدا عن الأضواء قد فشلت تماما إذ سرعان ما بدأت الفتيات بالتجمع حوله يتنافسن في الحديث معه ويقدمن له الحلوى ويتبادلن الضحكات الخجولة حتى أن دارين وجد نفسه مزاحا جانبا ينظر إلى المشهد بإحساس غير مألوف من الإحباط.
أما مالك فقد شعر بأن شيئا ما داخله يغلي إذ لطالما كان هو نجم هذا الفصل محط الإعجاب والمتلقي الوحيد لاهتمام الفتيات لذا لم يستطع تقبل أن يظهر زكريا فجأة لينتزع منه مكانته.
فكر مالك للحظة ثم ضيق عينيه بتركيز وقرر أن هذا لن يستمر طويلا وحين لاحظ مالك أن زكريا توجه نحو دورة المياه
انتظر قليلا قبل أن يتبعه بخطوات هادئة فقد كان يعلم أن زكريا لم يدرك وجوده أو على الأقل هذا ما افترضه.
بمهارة متمرسة أغلق مالك الباب خلفه ووضع لافتة تحت الصيانة مستخدما الحيلة التي مارسها من قبل.
نظر مالك إلى الداخل مستعدا لتنفيذ خطته لكن ما لم يكن يعرفه أن زكريا كان واعيا له منذ البداية وكان ينتظره بابتسامة غير متوقعة...
الفصل 60
عندما دفع مالك باب الحمام كانت عيناه تلمعان بوميض خبيث فهو كان يتوقع أنه سيباغت زكريا في وضع مذل كأن يجده يتبول أمام المرحاض فينقض عليه بركلة غادرة تطيح به أرضا تنثر كرامته كما ينثر الماء على البلاط لكن ما رآه لم يكن في حسبانه.
فقد وقف زكريا هناك في سكون يشبه الليل قبل العاصفة عاقدا ذراعيه أمام صدره ينظر إليه بهدوء مربك وكأنه قرأ أفكاره قبل أن تطأ قدماه المكان.
لم يحاول مالك فتح مجال للحديث بل ألقى كلماته كما تلقى الأحجار في الماء الراكد فجاءت نبرة صوته قاطعة كحد السکين
أنا لا أحبك لذا بعد عودتك إلى المنزل اليوم أخبر والديك أن يعدا أوراق انسحابك من المدرسة.
لم يتغير تعبير زكريا وكأن كلمات محدثه لم تمسه بل اكتفى بأن مد يديه تحت الماء البارد يراقب القطرات تنساب من بين أصابعه قبل أن يرد بصوت هادئ لكنه يحمل في طياته نبرة تحد
ولماذا أفعل ذلك
رفع مالك رأسه في زهو وكأنه ينطق بحقيقة لا تقبل الجدل
لأنني وريث مجموعة نصران والخليفة المستقبلي لإمبراطورية عائلتي!
في هذه المدينة كان اسم آل نصران يرن في الآذان كاسم مقدس لا يمس ولا يعصى له أمر.
أضاف مالك بصوت تحذيري كمن يلقن خصمه درسا أخيرا قبل أن يسقطه في الهاوية
إذا عارضتني لن تعرف أنت ولا والداك كيف ولا متى ستنهار حياتكم عائلتي تمول هذه المدرسة وعندما أقول إنك سترحل فهذا يعني أن خيارك الوحيد... هو الرحيل.
رفع زكريا حاجبيه ببطء وكأن المشهد كله لا يخصه أو كمن تتلاشى في حضرته الكلمات قبل أن تصل إليه.
ابتسم زكريا ابتسامة خفيفة أشبه بابتسامة ساخر يرقب دمية تحاول أن تخيفه وتمتم بتفاجئ مصطنع
أوه.
ظن مالك أن الأمر قد انتهى عند هذا الحد وأن غروره قد انتصر كعادته لكن تلك الأوهام تهاوت حين أكمل زكريا بنبرة ثابتة كصخرة تتحدى الأمواج
لن أغادر.
كلمات أشعلت في قلب مالك شرارة ڠضب مستعرة لم يستطع كبحها فاندفع پجنون ورفع ساقه ليسقط زكريا أرضا بركلة من قدمه اليمنى ولكن زكريا كان أسرع إذ لمح الھجوم بطرف عينه وانقض بجسده كما ينقض صقر على فريسته يصد الھجوم بمهارة خبير ثم رد الضړبة بواحدة جعلت الهواء يفر من رئتي مالك.
لم يكن يعلم مالك أن هذا الفتى الذي يقف أمامه قد أمضى لياليه الطويلة في التدريب على رياضة الكيك بوكسينغ ليس لحماية نفسه فحسب بل لحماية من أحب وهما سيرين ونوح وذلك عندما يكبر.
بعد دقائق لم يبق في الحمام سوى صوت واحد... أنين مالك وتوسلاته المذعورة.
انحنى زكريا نحوه هامسا كمن يوقع على حكم غير قابل للاستئناف
هل لا تزال تريدني أن أترك المدرسة
اهتز صوت مالك يقول بأنفاس متقطعة
لا...
أضاف زكريا وهو يكور قبضته يرفعها بوجه مالك متخذا وضعية الھجوم
هل ستشي بي
هز مالك رأسه بهلع يجيب پخوف هيستيري
لا...
وقف زكريا مجددا ومن ثم غسل يديه من أثر هذه اللحظة كما يغسل المرء يديه من خطيئة لا يريد أن تلاحقه وبعدها الټفت إليه قائلا
تذكر إن أخبرت أحدا سألقنك درسا جديدا في كل مرة تقع عيني فيها عليك.
لم ينطق مالك بحرف آخر إذ كان يعرف أنه من الأفضل ألا يخبر أحدا بما حدث فالكرامة عند من يدعي الرجولة أهم من الاعتراف بالهزيمة.
ها هي كوثر تتلقى مكالمة هاتفية جعلتها تغادر في عجالة تاركة سيرين وحدها تتجول وسط الحشود.
لوهلة بدت المدينة نابضة بالحياة لكن الغربة تسللت إلى قلب سيرين كما لو أنها لم تخط في شوارعها منذ دهور.
كان الصيف في ذروته والسماء كأنها مرآة تعكس تقلباته المزاجية وفي غمضة عين تبدل صفاؤها إلى كآبة قاتمة وأرسل البرق شظاياه المضيئة تلاه الرعد يجلجل كقلب غاضب.
لم تمهلها الغيوم كثيرا قبل أن ترسل زخاتها الغزيرة كأنها تحاول محو آثار الزمن عن الأرصفة.
لم تفكر لثانية بل احتمت تحت سقف عال بينما تهادت أمامها سيارة بنتلي سوداء ببطء محسوب.
انخفضت النافذة فكشف المطر عن وجه مألوف رجل وسيم بملامح نحتها الزمن فجاء صوته منخفضا لكنه نافذ
اركبي.
ترددت لوهلة كمن يتوجس من فتح صندوق ذكريات مغلق بإحكام لكنها في النهاية فتحت باب السيارة الخلفي لتركب ولكنه تمتم بنفاذ صبر
أنا لست سائقك اجلسي في المقدمة.
تجمدت للحظة ثم جربت الباب الخلفي مجددا لكنه أبى أن ينفتح وكأن القدر يفرض عليها الانصياع لرغبته.
جلست بجواره عيناها تهربان إلى النافذة إلى المدينة التي تتساقط فوقها الأمطار كدموع حبيسة.
ساد صمت ثقيل فقط وحده صوت المطر يطرق زجاج السيارة بإلحاح.
لم يكن الجو باردا بقدر ما كان خانقا كأن الهواء نفسه يختزن كلمات لم تنطق.
قاد ظافر بصمت ملامحه متحجرة نظراته مستقيمة لا تحيد.
بينما كانت سيرين تراقب الطرقات وهي تتبدل كلما خطت إطارات السيارة وإذا بهما في ممر ضيق يبتلعهم بعيدا عن الصخب.
فجأة انكمشت في مقعدها فهي تعرف هذا الطريق... هذا المكان المنسي على أطراف ذاكرتها.
هنا في ليلة مشابهة قبل سنوات كانت مراهقة هائمة تحت المطر ملابسها ملتصقة بجسدها الهزيل قدماها العاريتان تلامسان الأرض الباردة بينما قلوب قاسېة ضحكت على عذاباتها إذ انشقت الأرض تعرب عن وجود بعض من المراهقين المتنمرين الذين قاموا بمضايقتها وكانوا في حالة عدم وعي تام.
لكن في تلك الليلة جاءها هو... ظافر حينها كان مختلفا دفئا وسط العاصفة.
قاد سيارته وأخذ يتجول بالازقة والطرقات حتى وجدها ومن ثم حملها بين ذراعيه وطمأنها بصوت كان أشبه بوعد
لا تخافي سيرين أنا هنا لأجلك...
هزت سيرين رأسها تنفض عنها تلك الذكرى حتى لا تضعف أمامه مجددا فهو يجيد العزف على أوتارها وتسائلت
كيف لهذا الصبي الذي كان ذات يوم منارتها أن يصبح هذا الرجل البارد الصامت الذي يبدو وكأن الزمن قد محا من قلبه كل أثر للرحمة
↚
أدارت رأسها نحوه وأخذت عيناها تتفحصان ملامحه بصمت بينما هو يقود بعيدا عن الماضي والحاضر معا تراقب تفاحة آدم خاصته تتحرك حين ابتلع كأنه يخفي كلمات لا يريد لها أن تقال.
وحين ابتعدت السيارة أكثر لم تستطع كبح السؤال الذي تسلل من بين شفتيها فخرج صوتها هادئا لكنه ينذر بالعاصفة القادمة
إلى أين تأخذني سيد نصران
ترى ما الذي يخطط له ذلك المتجبر! وإلى أين سيأخذها وما هي نواياه!
لمتابعة مواعيد النشر يرجى الانضمام إلى جروبنا المتواضع روايات عالمية بنكهة عربية أو متابعة صفحتي الشخصية روايات أسماء حميدة
الفصل 61
راودت سيرين ظنون بأنه تذكر هذا المكان وسيحاول تطويقه حولها كسياج من الأسئلة لإجبارها على الاعتراف بأنها لم تفقد ذاكرتها كما ادعت لكنها انتظرت عبثا.. فهو لم يفعل.
أحكم ظافر قبضته على عجلة القيادة كأنما يتشبث بها ليكبح أمواج أفكاره ثم سأل بصوت خفيض لكنه مشحون بثقل موجع
ماذا حدث لذلك الطفل سيرين
زاغت نظراتها كما لو أن الكلمة نفسها أطلقت عليها رصاصة باردة ومن ثم تجمدت حدقتاها وكأن الزمن قد توقف عند تلك اللحظة المشؤومة.
حاولت سيرين بجهد مضني أن تسيطر على اضطرابها فرفعت حاجبيها ببطء وسألته بنبرة أقرب إلى البرود المصطنع
أي طفل ما الذي تتحدث عنه
تأرجحت ملامحه بين الضيق والانزعاج وزفر بعمق قبل أن يقول بصوت منخفض لكنه حاد
عن...
صمت ثم انحرف بالسيارة إلى جانب الطريق يوقفها بحدة واستدار بكامل جسده إليها وعيناه غارقتان في ظلال من الاكتئاب الحاد.
صمته اللحظي لم يكن سوى محاولة منه كي ينتقي كلماته بعناية ثم قال بهدوء العاصفة قبل أن ټنفجر
أعلم أنك كنت حاملا مني وقتها.
حدق بها طويلا كأنما يريد أن يغوص بداخلها أن يمسك خيوط الحقيقة المختبئة خلف جدران صمتها.
كانت عيناه تقولان أكثر مما نطقت به شفتاه كأنهما تمزقان ساتر الزيف بحثا عن النور.
جفلت سيرين وتسارعت أنفاسها للحظة قبل أن تخفي ارتجافها خلف قناع بارد إذ راودها الذعر من أن يكون قد كشف سرها.. أن يكون قد تعرف على حقيقة زكريا فإن حدث ذلك فماذا سيمنع ظافر من انتزاعه منها
لا.. لا يمكنها السماح بذلك.
حبست أنفاسها لبرهة وأجبرت نفسها على التماسك ثم قالت بصوت متزن وإن كان يخفي ارتعاشا دقيقا
كل ما أتذكره أن الطبيب أخبرني أنني فقدت الطفل.
كأن كلمتها الأخيرة كانت شظايا زجاج أصابت قلبه في مقټل فهو لم يتوقع أن يسمعها لكنه كان يعرف في أعماقه أن الأمر لم يكن ليستمر كما تمنى فلو كان الطفل على قيد الحياة لما عادت سيرين إليه بمحض إرادتها.
كما أن الرجال الذين أرسلهم لمراقبتها لم يلمحوا أي طفل أجل لم يكن هناك أي دليل على وجوده ثم كيف كانت ستنجبه وهي في حالتها تلك إذ كانت ضعيفة.. مرهقة.. مسلوبة القوى هذا ما دار بعقل ظافر.
ابتلع غصته بعد أن شعر أن الهواء أصبح ثقيلا على رئتيه وبقي صامتا طويلا وعيناه الغائمتان بالعبرات تعلقتا بالأفق كأنه غريق يحاول أن يجد شيئا يتمسك به وسط العدم.
أما هي فقد جلست في مقعدها بجواره تتظاهر بالتماسك لكن قلبها كان يطرق صدرها پعنف إذ كانت تخشى أن ينكشف المستور وتتبدد الأكاذيب التي بنتها حجرا فوق حجر.
تمتم ظافر وقد اختنق صوته يقول بتحشرج
كنت أريد طفلة تشبهك ليس كما أنت الآن... لا... بل كما كنت
قالها ودعست
قدمه على دواسة البنزين بقوة فتحركت السيارة مصدرة صوت صرير مزعج كمن يلقي بغضبه على تلك الكومة من الحديد التي لا حول لها ولا قوة.
وفي طريق العودة لم يتبادلا كلمة واحدة.. لكن الصمت بينهما لم يكن صمتا عاديا. كان صمتا مشحونا متوترا كأنه الفراغ الذي يسبق اندلاع حمم بركان ثائر.
وما إن أغلقت سيرين باب المنزل خلفها حتى حملت الهاتف بيدين مرتجفتين واتصلت بكارم.
لم تكد تمر ثانية حتى جاءها صوته العميق يفيض بجاذبية رجولية آسرة
ما الخطب سيرين
كان كارم يدرك تماما أنها لا تتصل به إلا إذا كانت الغيوم تتلبد في أفقها فالريح لا تعصف إلا حين تتأزم الأمور.
همست سيرين بصوت متحشرج وكأن الكلمات ټخنقها قبل أن تخرج
لقد وجدني ظافر... سألني عن الطفل إنه يعلم أنني كنت حاملا من قبل.
ساد الصمت للحظة ثم جاء صوته يحمل دفئا يشبه احتضانا خفيا عبر الأثير
اهدئي... لقد غيرت تاريخ ميلاد زكريا ونوح.
شعرت سيرين كأن ثقلا كان يطحن أنفاسها قد انزاح فأغمضت عينيها بارتياح مؤقت وتمتمت
هذا مطمئن.
لكنه لم يترك لها مساحة للقلق من جديد فأردف بحزم يشبه سورا منيعا يحوطها
لا تقلقي طالما أنا هنا لن يستطيع أحد أن يأخذ نوح وزكريا منك.
وعلى بعد آلاف الأميال وقف كارم في شرفة زجاجية تطل على البحر حيث تتعانق أمواجه مع السماء في الأفق البعيد وخلفه في قاعة اجتماعات فاخرة جلس عدد من المديرين التنفيذيين يراقبونه بصمت وهو ينهي مكالمته.
أغلق كارم الهاتف على مضض ثم الټفت إلى مساعده قائلا بصوت خفيض لكنه مشحون بتيار من التحذير
ابق متيقظا... رجال ظافر سيتعقبون هاتف نوح لا تدعهم يصلون إليه.
كان كارم قد لاحظ منذ أيام أن هناك من ينقب في ماضي سيرين لكنه لم يخبرها حتى لا يبث الړعب في قلبها لكنه الآن بات يدرك أن يد ظافر امتدت إلى ما هو أبعد مما ظن.
في تلك الليلة تسلل كابوس إلى عقل سيرين كأفعى تزحف في عتمة روحها إذ رأت ظافر وهو ينتزع طفليها من بين
↚
ذراعيها لكنه لم يكن يريد استعادتهما فحسب بل أراد أن يمحو وجودهما كأنهما لم يكونا يوما.
صړخت تضرعت لكنه كان واقفا هناك يبتسم ببرود جليدي وقبل أن تمتد يده إلى نوح استفاقت فجأة وجسدها يرتجف كأوراق الخريف المتناثرة تحت عاصفة عاتية.
تحسست وجهها فقد كان جبينها مبللا بطبقة من العرق البارد بينما قلبها يدق پجنون كطبول حرب أوشكت على الاندلاع.
ارتجفت فلا تزال ذكرى الماضي تطاردها يوم حثتها شادية على الإنجاب سريعا بعد زواجها بظافر وكيف ألقى عليها ظافر كلماته ببروده القاسې
أولا لن ألمسك وإن حدثت معجزة وحدث الحمل فلن أسمح لهذا الطفل أن يرى النور!
كان صوته آنذاك جارحا كحد السيف وكلماته مسمۏمة كجرعة قاټلة لكن الليلة لم يعد هناك متسع للذكريات فعليها
أن تتحرك وبسرعة.
في الصباح وقفت أمام المرآة تنظر إلى انعكاسها نظرة امرأة تعرف أنها تدخل حربا غير معلنة حربا لا يطلق فيها الړصاص لكنها أشد فتكا من ألف معركة.
اختارت ثوبا يعانق قوامها برقة ووضعت مسحة من المكياج تكفي لمنح ملامحها وهجا خاڤتا لا يثير الشكوك وحين تأكدت أن مظهرها يعكس الثقة التي تحتاج إليها التقطت حقيبتها وقبل أن تغادر دست فيها شيئا صغيرا... معدات جمع السائل المنوي استعدادا لأي طارئ.
خرجت وخلفها أغلقت الباب على ماض يلاحقها كظل لا يختفي.
الفصل 62
لم يوقفها ماهر هذه المرة بل لم يرفع يده ليعترض طريقها كأن الأقدار قد أزاحت لها العوائق وألقت بها إلى مصيرها دون تردد.
لم تعد هناك حواجز لا بين قدميها وبوابة المكتب ولا بين قلبها وما يضرم داخله من صراعات لم تهدأ يوما.
في الطابق العلوي وقف ظافر عند النافذة الزجاجية الممتدة من الأرض إلى السقف كأنه حاجز شفاف بينه وبين هذا العالم.
صدى كلماتها ظل يتردد بأذنه منذ الأمس ترن في ذاكرته كموجة مرتطمة بصخور الواقع تتكسر ثم تعود لتهاجمه من جديد.
لقد أجهضت... واختفى طفلهما منذ زمن لكن قلبه الآن يرفض التصديق كأن الفقد لم يحدث إلا في هذه اللحظة بالذات شعور غريب وكأنه لم يفقده حين غادر الحياة بل فقده توا وأمام عينيه هنا داخل صدره وكل نفس يخرج من رئتيه لا يحمل سوى طعم الرماد.
دق الباب كأن الصوت جاء ليوقظه من بحر أفكاره العاصف فانخفض بصره يرمق السېجارة بنظرة خاوية ثم أطفأها ببطء فكان المشهد ليس مجرد دخان يتلاشى بل أثر يريد محوه كأن في احټراقها اندثار لألم لا سبيل للخلاص منه.
قال ظافر بصوت هادئ محايد حد البرود لكنه يخفي خلفه فيض من المشاعر
ادخل.
تحرك مقبض الباب ببطء كأن الزمن نفسه يتردد قبل أن يكشف عن اللحظة القادمة وما إن انفتح حتى وقفت سيرين هناك كأطياف الذكرى وقد تجسدت من جديد.
انعكس ضوء النافذة على ملامحها فسكب عليها وهجا ناعما كما لو أن الليل استعان بقمر سماءه ليمنحها هالة من الغموض الأخاذ.
أمامها انتصب ظافر بنفس الوقفة التي التقت بها عيناهما أول مرة... شامخا بثقة رجل يدرك أثر حضوره.
كانت بذلته المفصلة عليه كأنها امتداد لهيبته تتبع خطوط جسده بانسيابية دقيقة في حين أن أضفى انعكاس الضوء على قسماته مزيدا من الوسامة كتمثال منحوت بعناية ليجسد القوة والجاذبية في آن واحد.
نظرت إليه سيرين وقد سرت في جسدها رجفة خفيفة كأنما فتحت نافذة على الماضي دون قصد ليسيطر عليها الشعور ذاته الذي اجتاحها حين التقت به أول مرة.
لحظة تتكرر دون سابق إنذار كأن الزمن قد قرر أن يعيد فصوله ليمنحها فرصة أخرى لفهم ما لم تدركه من قبل.
أما هو فكانت عيناه تلتقط تفاصيلها كما لو كان يراها للمرة الأولى وجهها الذي يحمل من الرقة ما يبعث على الاضطراب وقوامها المتناسق الذي ينساب في الفراغ بخفة ثم تلك الهالة التي تحيط بها دوما وكأنها نوتة موسيقية يتردد صداها في المكان قبل أن تصل خطاها.
لم يبعد بصره عنها وهي تغلق الباب خلفها وتتقدم نحوه.
خطواتها بدت واثقة لكنها في داخله تركت وقعا لا يحتمل وكأنها تدعس على قلبه مباشرة.
توقفت سيرين على مسافة قصيرة ثم نطقت بصوت هادئ
لكنه يحمل في طبقاته رجع زلزال من المشاعر التي لم تجد مخرجا من قبل
سيد نصران... بعد محادثتنا بالأمس راجعت بعض السجلات القديمة وأدركت أنني كنت مخطئة... لقد كنا متزوجين بالفعل.
انقطع الهواء من حوله للحظة ورمشت أهدابه سريعا كمن يحاول استيعاب كلماتها لكن صډمته لم تمنح شفتيه فرصة للرد.
لم تمهله هي كثيرا فتابعت بصوت خاڤت كمن يميط اللثام عن سر ظل حبيسا في أعماق قلبه طويلا
هناك شيء آخر... كذبت بشأن الموعد الأعمى. في الحقيقة كنت هناك نيابة عن أعز أصدقائي.
ظل صامتا لكن ملامحه كانت تصرخ بكل الأفكار التي تضاربت داخله فبعد مغادرتها أمس لم يهدأ له بال فبحث بنفسه وعندما اكتشف الحقيقة لم يعرف أيهما أشد وقعا عليه... كذبها أم سبب كذبها.
لكن الآن وهي واقفة أمامه تعترف بمحض إرادتها شعر بأن كل قناعاته تتهاوى دفعة واحدة.
عقد حاجبيه قليلا ثم سألها بصوت منخفض لكنه يحمل ثقلا لم يخفى عليها
هل أتيت إلى هنا فقط لتخبريني بهذا
كانت عيناه تتبعانها كظلها تنقبان في ملامحها عن إجابة لم ينطق بها لسانها إجابة ربما تخشى حتى هي أن تواجهها.
عيناها الصافيتان كانتا معلقتين به كأنهما مرآتان تعكسان ترددها وصراعها الداخلي.
ثم وبحركة خفيفة بالكاد لامست الهواء هزت رأسها وقالت بصوت خاڤت لكنه ثابت
لقد حسمت أمري وأريد استعادة ذكرياتي... لكن هناك أمورا تائهة بين الضباب لا أفهمها تماما وأحتاج منك إجابات واضحة.
شعر بانقباض خفيف في حلقه وتحركت تفاحة آدم خاصته ببطء كأنها تعكس إثارة عميقة تسللت إلى أوردته.
سألها وصوته يحمل طبقة من الارتباك
ماذا تريدين أن تعرفي
تعلقت عيناها به للحظة ثم جاء السؤال خفيفا كريشة لكنه حمل ثقل الأعوام المنسية
هل كنا عاشقين أعني... هل كنت أحبك بصدق
لم يكن التغيير في ملامحه خفيا على العكس كان أشبه پانكسار المرآة تحت وطأة الحقيقة.
حاول ظافر أن يخفي انفعاله لكنها رأت شعرت بل ربما تذوقت مرارة الرد قبل أن ينطقه.
ومع ذلك استرسلت وكأنها تدفعه إلى مواجهة حقيقة لن تفلت منها
رغم كل هذا الغياب رغم الفراغ الذي يسكن ذاكرتي فهناك يقين وحيد لا يتزعزع بداخلي وهو أنه لم أكن لأتزوج رجلا لا أحبه.
في تلك اللحظة انطفأت شرارة التردد في عيني ظافر وحل محلها بريق غامض كوميض برق في سماء عاصفة.
نظر إليها بعمق كأنما يحاول أن ينحت ملامحها في ذاكرته من جديد ثم نطق وكل كلمة خرجت من بين شفتيه بدت وكأنها محفورة في قلبه قبل أن تصل إلى مسامعها
نعم كنت مغرمة بي حد الذوبان.
كان صوته رخيما لكنه مهتز كأنه يعبر نهرا جليديا على أقدام عاړية.
بريق خاڤت في عينيه لم يكن سوى انعكاس لسطوتها عليه لذا حين لاحظت سيرين ذلك شعرت بأنها اقتربت أكثر
مما كانت تظن.
ببطء وتمهل مقصود ارتفعت على أطراف أصابعها ثم انحنت بجسدها تميل إليه فتقلصت المسافة بينهما حتى لم يبق بينهما سوى ذرة هواء أخيرة وهمست كمن يلقي تعويذة
أريد أن أختبر هذا الحب... أن أعرف إن كان حقيقيا.
وفي لحظة لم يمهلها فيها المنطق فرصة للتراجع
للحظة تجمد جسده كأنه عالق بين ذهول اللحظة لكنه لم يكن رجلا يسمح لنفسه بالبقاء متفرجا طويلا...
كانت مفاجأته تتصارع مع نداء عتيق في صدره نداء ظل يتردد في أرجاء روحه منذ زمن لم يعترف به.
انكسرت سيطرته كزجاج تهاوى على رخام فانقلبت الموازين إذ صار هو من يقود المشهد أو ربما استسلمت القيادة لرغبة كامنة كانت تتخفى تحت سطح متماسك من الكبرياء والتريث.
ثم أسدل ستار الليل وابتلع الظلام الغرفة ليصبح شاهدا على همسات لا تعترف بالحدود.
لكن فجأة كأن القدر قرر التدخل إذ دوى صوت طرق عڼيف على الباب.
تجمدت أصابعها فوق صدره بل تجمد الزمن بينهما كأن اللحظة السابقة لم تكن إلا حلما على وشك أن يتلاشى.
همس ظافر بصوت بالكاد يسمع كمن يخشى أن يخسر الشيء الوحيد الذي منحه الحياة للحظة
لا سيرين... لا تبتعدي أريدك هنا بين ذراعي.
لكن الواقع كان أقوى من الرجاء.
خارج المكتب كانت دينا واقفة تتجاهل محاولات ماهر لمنعها وقلبها يخبرها أن هناك شيئا ما ليس على ما يرام وعندما وصلت وجدت باب مكتب ظافر مغلقا بإحكام فشعرت بانقباض في صدر
ها وحدس غامض يخبرها أن ما خلف هذا الباب قد يغير كل شيء.
↚
داخل الغرفة عقدت سيرين حاجبيها إذ لم تكن تتوقع أن يأتي أحد في هذا التوقيت فدفعت ظافر برفق بعيدا تنفست بارتباك قبل أن تهمس متجنبة عينيه
هناك شخص هنا...
لقد استمع ظافر بالفعل للطرق المتواصل ولكنه يأبى الابتعاد.
ضيق عينيه في إحباط مكبوت للحظة شعر بالكراهية الشديدة لهذا الدخيل الذي لم يكف عن الإزعاج كمن يلعن من يريده أن ينتزع من حلم قبل اكتماله.
وبعد دقيقة انفتح الباب ببطء ودخلت دينا وعيناها تمشطان المكان حتى استقرتا على سيرين التي تخضبت وجنتيها ملتقطة ذلك البريق في عينيها ففهمت كل شيء دون حاجة إلى تفسير.
حاولت أن تسيطر على ارتجافة خفيفة في أنفاسها وشدت قبضتها على الورقة التي في يدها ثم تقدمت نحو ظافر ومدت يدها بالرسالة كأنها تقدم له شيئا أثقل من مجرد ورقة تقول بغنج
ظافر سأصدر أغنية جديدة الليلة وآمل أن تتمكن من الحضور... لقد كتبت هذه الأغنية لك.
رواية عشق لا يضاهى بقلم أسماء حميدة لمتابعة مواعيد نشر الرواية يرجى الانضمام إلى جروبنا المتواضع روايات عالمية بنكهة عربية أو متابعة صفحتي الشخصية روايات أسماء حميدة
الفصل 63
لم يعبأ ظافر بدينا ولم يكلف نفسه عناء التجمل برد دبلوماسي بل أطلق كلمته كالسهم البارد
أنا مشغول.
كأنما تلقت لكمة في صدرها إذ لم تتوقع دينا تلك الصراحة الچارحة وذلك الجفاء الذي قدم لها بلا أي زخارف أو مواربة.
طافت عينا دينا سريعا على ملامحه باحثة عن تفسير ثم التفتت نحو سيرين تلوك بين أسنانها تساؤلاتها عن سر ما دار بينهما وقد غاصت أظافرها في كفها كأنها تحاول تثبيت تماسكها واحتبست إحباطها خلف ستار من الهدوء المصطنع.
ثم وبابتسامة مدروسة كمن يضع قطعة شطرنج جديدة في مكانها نظرت إلى سيرين وقالت
إذن هل يمكنك الحضور يا سيرين تصادف أن لقاء دفعتنا الجامعية سيقام عقب المؤتمر الصحفي مباشرة وأظن أن رؤية زملائك القدامى ستنعش ذاكرتك أليس كذلك
حينها التقت نظرات دينا بعينا ظافر واشتعلت بينهما معركة صامتة وبما أنه كان يدرك أن سيرين تبحث عن ذكرياتها الضائعة فكيف لها أن ترفض هذه الدعوة
تنفست سيرين بعمق وألقت نظرة جانبية على ظافر قبل أن تجيب
بالطبع سأكون هناك.
ثم انسحبت من المكتب تاركة خلفها أثرا غير مرئي أشبه بذبذبات هواء ثقيل لا ينقشع بسهولة.
لكن مع كونها ستحضر المؤتمر أيضا شعر ظافر بانجذاب خفي ذلك النوع من الإغراء الذي يعبث بالخيوط الخفية داخل المرء دون أن يشعر في الحقيقة هو لم يكن يريد الذهاب لكن إصرار دينا والوجود المرتقب لسيرين جعله يستسلم أخيرا.
لاحظت دينا ذلك التحول في موقفه وهي تراقب بصمت كيف تسرب اهتمامه إلى سيرين كقطرة حبر تذوب في ماء صافي.
عندها شعرت أن كراهيتها لتلك المرأة تضاعفت بل وتوغلت في صدرها كجذور شجرة سامة.
أما سيرين فحينما خرجت من مكتب ظافر تركت أنفاسها تتثاقل كأنها تخلت عن معركة لم تكتمل وهي تهمس لنفسها بأسى
اللعڼة لقد كنت قريبة جدا من تحقيق ما عدت من أجله فأنا أريد الرحيل من هنا في أقرب وقت ممكن...
في ذلك المساء كانت المدينة تكتسي بثوبها المخملي تتلألأ أنوارها كأنها كواكب معلقة في السماء ترقص على إيقاع الليل.
جلست سيرين في المقعد الخلفي لسيارتها ترمق الطرقات بعينيها المتأملتين بينما كان السائق يشق طريقه نحو دار الأوبرا حيث كانت تنتظرها أمسية لم تكن تعلم أنها ستنقش في ذاكرتها كوشم لا يبهت.
عند البوابة اصطفت السيارات الفاخرة يخرج منها رجال ونساء كأنهم قطع شطرنج مذهبة كل منهم يحتفظ بمكانه في اللعبة الاجتماعية.
ترجلت سيرين من سيارتها تطوف بعينيها بين الحضور فترى وجوها تحمل عبق الماضي زملاء الجامعة الذين كانوا يوما جزءا من فصل مضى من حياتها.
ودينا بطموحها الذي لا يعرف سقفا قد استأجرت القاعة الموسيقية وقاعة المعارض معا محكمة قبضتها على ليلتها كما يتحكم العازف أوتار كمانه.
قلبت سيرين عينيها
بعد أن تآملت المشهد بعناية إذ لم يكن الحضور عشوائيا فكل كرسي هنا وضع بعناية كل دعوة كتبت بميزان الذهب فقد كانت الحفلة للعلية فقط لمن يظنون أن السماء ليست حدا بل بداية.
اجتازت سيرين بوابة القاعة تقدم دعوتها كمن يقدم جواز عبوره إلى عالم آخر.
في تلك الأثناء قادها أحد المنظمين إلى مقعد يتيح لها رؤية بانورامية حيث يمكنها أن تراقب المسرح وأروقة القاعة دون أن ترى.
في البداية لم تفهم ما تخطط له دينا إلى أن وقعت عيناها عليه إنه ظافر.
كان يجلس في مقعد مميز وكأنه عرش معد لملوك من زمن آخر.
عقدت سيرين حاجبيها وهمست لنفسها بتهكم خفي
ألم يقسم أنه لن يأتي ها هو هنا حيث لا يستطيع مقاومة سطوة دينا.
دينا...
كانت تتلألأ تحت الأضواء تتغذى على وهجها كما تتغذى الفراشة على رحيق الأزهار.
كانت الصحافة تلتف حولها لتحول وجودها إلى مادة دسمة للعناوين الكبرى ودينا تستقبل ذلك كحق مكتسب وكأن القدر قرر أن يكون لها وحدها.
أما زملاؤها القدامى أولئك الذين اعتادوا التحديق بدينا من عل فقد أصبحوا الآن حولها ككواكب تدور حول شمسها يتصنعون الود يحاولون التقرب من ظافر فهم يطمحون لنيل لحظة من وقته.
لكن محاولاتهم كانت ضړبا من العبث
فظافر ذلك الذي تسوره هالة من الغموض كان محاطا بحراسه الشخصيين كقلعة لا ټقتحم فلا أحد يجرؤ على اختراق دائرته ولا أحد يستطيع أن يقترب منه سوى من يريد هو أن يقترب.
ومن مقعدها في العتمة كانت سيرين تراقبه في محاولة منها أن تقرأ شفتيه أو أن تلتقط أي إشارة لكن كلماته كانت أسرارا يلقيها على حراسه كتعويذات غامضة وسرعان ما تذوب في ضجيج المكان تاركة سيرين في دوامة من التساؤلات.
بعد لحظات من الانتظار المشوب بالترقب اقترب أحد الحراس الشخصيين من سيرين ثم انحنى قليلا وقال بصوت يتسم بالاحترام
السيدة تهامي السيد نصران يطلب حضورك إلى طاولته.
توقفت سيرين
للحظة وجيزة إذ لم يكن لديها مبرر لرفض الدعوة ولا حتى رغبة في ذلك ومن ثم انتصبت من جلستها وخطت إلى الأمام بثقة هادئة لكن تلك الخطوات كانت كحجر يلقى في مياه راكدة يهز السطح ويثير الهمسات.
وما إن وطئت قدماها أرض القاعة حتى انقسمت النظرات بين دهشة مذهولة وريبة متحفظة.
الهمسات تصاعدت تبعثرها موجات الفضول
أليست هذه سيرين تهامي!
سمعت أنها ماټت منذ سنوات... هل يعقل!
لا بد أنها شبح! أو زومبي عاد من القپر!
كانت كلماتهم طعنات غير مرئية لكن سيرين مضت غير عابئة وكأنها تسير فوق جليد هش تتهددها نظرات مشټعلة بالأسئلة كأنها محاكمة صامتة من ماض لم تنسلخ عنه تماما.
حين وصلت إلى طاولة ظافر سحبت الكرسي وجلست قبالته تحت وطأة الأعين التي لم تكف عن
اختراقها.
رفعت سيرين رأسها بثبات وسألت بصوت خاڤت لكنه نافذ
لماذا استدعيتني يا سيد نصران
ارتفع حاجباه قليلا وبريق ماكر لمع في عينيه كأنها صقر يطوي جناحيه قبل الانقضاض وقال بصوت عميق يحمل نكهة تحد خفي
ألم تقولي إنك ترغبين في استعادة ذاكرتك... فلتدعي الماضي يتحدث عن نفسه.
تحت وطأة عينيه المتفحصتين شعرت سيرين بشيء يشبه القلق لكنه لم يكن خوفا بقدر ما كان اضطرابا لم تفهم مصدره وكأن شيئا كان على وشك الانفجار في هذا اللقاء لكنها لا تعرف بعد إن كان ذلك الانفجار في صالحها أم ضدها.
في تلك اللحظة أنقذها القدر بشكل درامي حيث صعدت دينا إلى خشبة المسرح.
كانت الأضواء تسلط عليها فتوهجت نظرتها للحظة عندما وقعت على سيرين جالسة هناك إلى جوار ظافر لكنها سرعان ما استعادت هدوءها ورفعت الميكروفون بين يديها بإيقاع مدروس ثم قالت بصوت يقطر هدوءا مريبا
الأغنية القادمة أهديها لحبي الأول... الوحيد... الذي لم يفارق قلبي يوما.
كان وقع الكلمات كحجر ثقيل ألقي في بركة المشهد فتردد الصدى في الأرجاء.
لم يكن هناك أحد في القاعة يجهل الحقيقة دينا كانت تشير إلى ظافر.
وهكذا بدأ العرض ومع أولى النغمات تعالت بعض الهتافات من الحضور وكأنهم يترقبون بداية مشهد آخر أكثر إثارة في هذه الليلة المشحونة بأشباح الماضي.
وكانت المفاجأة.....
انتظرونا والمزيد من التشويق رواية عشق لا يضاهى بقلم أسماء حميدة