رواية تحت سلطان الحب يعقوب ورفقة كاملة جميع الفصول بقلم ساره اسامه
رواية تحت سلطان الحب يعقوب ورفقة كاملة جميع الفصول هى رواية من تأليف المؤلفة المميزة ساره اسامه رواية تحت سلطان الحب يعقوب ورفقة كاملة جميع الفصول صدرت لاول مرة على فيسبوك الشهير رواية تحت سلطان الحب يعقوب ورفقة كاملة جميع الفصول حققت نجاحا كبيرا في موقع فيسبوك وايضا زاد البحث عنها في محرك البحث جوجل لذلك سنعرض لكم رواية تحت سلطان الحب يعقوب ورفقة كاملة جميع الفصول
رواية تحت سلطان الحب يعقوب ورفقة كاملة جميع الفصول
– أيه البجاحة وقلة الأدب دي، مفيش لا حياء ولا كرامة .. حقيقي إللي استحوا ماتوا..
مبحلقة فيا بدون أيّ خجل حتى مفيش أي إحترام للحجاب إللي هي لبساه، وإللي يشوفها يقول عليها ملاك، واخدين الحجاب ستر لقذارتهم حقيقي بقرف من الصنف القذر ده..
قالها وهو يجلس خلف مكتبه المُحاط بزجاج شفاف يطلّ على بهو المطعم بالكامل ويكشفه له، ليلفت أنظاره هناك في أقصى المطعم حيث سلّات الأزهار القابعة عند السور المُطلّ على بُحيرة تتدفق بالماء الجاري، كانت فتاة تجلس على تلك الطاولة المجاورة للأزهار والمجاورة للبحيرة التي يعلو خرير الماء منها..
كانت الفتاة تُحدق به بشكل مُباشر وأعين متسعة غير آبهة بشيء وابتسامةٌ بلهاء تعلو ثغرها نجحت في إستفزازه وجعلته يستشيطُ غضبًا ناعِتها بعدم الحياء وانعدام الأخلاق..
بقى يطرق بأصابعة على سطح المكتب وانصرف بأنظاره المُشمئزة عنها لتُراقب أعينه العاملين بإنتباه..
زفر بضيق وهو يقول:-
– لو استمرت في البجاحة بتاعتها دي هخلي العُمال يطردوها براا هي نقصاها..!
بينما على الطرف الأخر كانت تجلس بإبتسامة واسعة، سعيدة بالهواء العليل الذي يضرب وجنتيها، ورائحة الأزهار العبقة، وخرير الماء.
ماذا تُريد بعد هذا؟!
تشعر وكأنها تمتلك العالم بحذافيره الآن.
تعشق هي الطبيعة وكل ما خلقه الله..
ظلت تتنفس بعمق وهي تتحسس بأنفها الحسّاس رائحة الهواء، ورائحة الزهور والماء..
حقًا هذا المكان جنة…
أتت العاملة تجاهها وقالت بوِد ولطف:-
– تحبي تاكلي أيه يا جميلة، طلبك المُعتاد!
ابتسمت لها “رِفقة” وقالت:-
– أكيد يا آلاء .. كريب بالنوتيلا..
– من عيوني يا أجمل رِفقة.
– تسلملي عيونك وربنا يديم نورهم عليكِ يا لولا.
رحلت الفتاة بعدما رمقتها بحزن لتظلّ رِفقة تستمتع بالهواء العليل وأصوات الطبيعة حولها، لأجل ذلك هذا المطعم هو المُفضل إليها وبالأخصّ هذا المكان تحديدًا، تأتي إليه كل يوم فهو يخفف عنها الكثير..
بينما هو فالتفت إلى جِهتها مرةً أخرى لتتوسع أعينه بدهشة وهو يراها مازالت تُحدق به مُبتسمة بينما تُسند ذقنها على كفها..
استشاط غضبًا ليستدعي أحد المسؤولين على المطعم أثناء غيابه.
ردد بغضب وهو يُشير تجاهها:-
– عبد الرحمن طلع البنت دي برا، اطردها حالًا..
التفت الشاب نحو ما يُشير إليه فتتوسع أعينه بدهشة وجاء يستفهم بتعجب:-
– بس يا يعقوب دي….
قاطعه الأخر بحِدة وكبرياء:-
– مليش علاقة دي مين تتحرق بجاز، اطردها ونفذ إللي بقول عليه من غير نقاش بدل ما أطلع أنا أطردها وأخلي إللي يسوي وميسواش يتفرجوا عليها..
انصدم عبد الرحمن من هجوم يعقوب الشديد على الفتاة التي تُدعى “رِفقة” والتي من رواد المطعم المُهذبين..
لكن لم يجد إلا أن يُنفذ أمر مالك المطعم
“يعقوب بدران”..
خرج وهو يُفكر كيف يُخرجها دون إحراجها، قام بمنادة أحد الفتيات العاملين..
– آنسة آلاء .. لو سمحتي..
اقتربت آلاء بهدوء وقالت باحترام:-
– نعم يا أستاذ عبد الرحمن .. اتفضل..
توتر عبد الرحمن ثم حسم أمره وهو يرى يعقوب الذي ينظر له بترقب..
قال بجدية:-
– حاولي تخرجي آنسة رِفقة من المطعم، أستاذ يعقوب قال اطردوها..
↚
شهقت آلاء بصدمة لتتسائل بعجب:-
– إزاي .. طب وليه .. إنت عارف ظروفها وهي أبدًا ما بتعمل مشاكل..
زفر عبد الرحمن بضيق وهو لا يعلم ماذا يُجيب، فقال باستسلام:-
– مش عارف والله .. هو قالي كدا ومعطنيش فرصة أفهمه ولا أعرف منه حصل أيه..
قالت آلاء بتوتر:-
– طب أنا أقولها أيه دلوقتي .. مش عايزه أجرحها.
فكر عبد الرحمن قليلًا ثم قال:-
– بصي قوليلها حصل ظرف وإحنا بنفضي المطعم، اتصرفي يا آلاء..
حركت رأسها وهي تتجه نحو طاولة رِفقة المبتسمة حتى وقفت أمامها..
شعرت بها لترفع رأسها تقول بحماس:-
– أيه يا لولا الكريب اتأخر ليه كدا مش عوايدكم..
تنحنحت آلاء ثم قالت بصوت حزين:-
– للأسف يا رِفقة حصلت مشكلة وإحنا مضطرين نفضي المطعم ودي أوامر صاحب المطعم أستاذ يعقوب..
كان يعقوب يراقب ردة فعلها عندما اقتربت منها العاملة، لتنصرف أنظارها عنه حيث الفتاة، همس باحتقار وغرور:-
– أشكال واقعة..
أما عند رِفقة تربد وجهها بالحزن وتسائلت بقلق:-
– خير في حاجة حصلت .. أنا ملحقتش أقعد إنتِ عارفة إن متعلقة بالمكان قد أيه وبحسه بيجدد نشاطي..
نظرت لها آلاء بشفقة ثم قالت:-
– خير يا رِفقة متقلقيش، بصراحة هي دي أوامر أستاذ يعقوب ولازم ننفذها..
حركت رِفقة رأسها بإيجاب وهي تبتسم بينما تستقيم بخيبة أمل وهي تقول:-
– يلا تتعوض إن شاء الله يا لولا، أهم حاجة مفيش أي حاجة وحشة تصيب المكان الجميل ده.
في هذا الأثناء رمق يعقوب خيبة الأمل التي ارتسمت على ملامحها باحتقار ليهمس بازداء:-
– حقيقي وساخة وقلة أدب .. إنسانة مهزأة ومصطنعة .. قال ولابسه حجاب وفضفاض..
التفت للجهة الأول وهو يراها تستقيم..
بينما أخذت آلاء بيد رِفقة التي سحبت العصا الخاصة بالمكفوفين تفردها لتساعدها في السير..
تركتها آلاء خارج المطعم لتتسائل:-
– هتروحي إزاي يا رِفقة..
ابتسمت لها رِفقة ببراءة وقالت:-
– إنتِ عارفة تاكسي عمّ أشرف بيجيلي في ميعاد كل يوم بس طالما خرجت بدري عن الميعاد هقعد هنا أستناه لغاية ما يجي، أنا لا عارفة رقمه ولا معايا الموبايل وأنا مش هأمن أروح مع أي حد ومش هعرف أروح لواحدي.. بس ساعديني أقعد في أي مكان على جمب لغاية ما هو يجي..
سحبتها آلاء برفق نحو أحد الدِكاك المتواجدة بالقرب من المطعم ثم أجلستها بلطف وقالت وهي ترمقها بشفقة:-
– خليكِ مكانك أوعي تتحركي، كان بودي أقعد معاكِ بس لازم أرجع المطعم علشان الشغل..
هتفت رِفقة بطيبة وهي تربت على يدها بلطف:-
– على شغلك يلا يا جميلة، ولا يهمك خالص ومتقلقيش عليا .. ربنا يعينك يارب ويفرح قلبك الطيب يا لولا..
ابتسمت لها آلاء بحزن ثم قالت وهي تبتعد:-
– خدي بالك من نفسك يا روفا..
رحلت لتترك رِفقة جالسة بمفردها فوق دِكة خشبية على رصيف الشارع..
تنفست بعمق سرعان ما عقدت حاجبيها وهي تشعر بالسُحب تنقشع عن أشعة الشمس لتتسلط عليها بحرارة حارقة..
– ليه بعدتي يا سحابة، الشمس حراقة أووي..
مرّت عشرون دقيقة وهي مازالت في موضعها، رفعت طرف حجابها القطني تُجفف جبينها المتعرق وهي تحرك يديها ذهابًا وإيابًا أمام وجهها لتجلب بعض الهواء..
– وبعدين بقاا هفضل كدا كتير، عمو أشرف باقي عليه شوية لسه..
تحسست ساعتها الخاصة بالمكفوفين لتستعلم الوقت لتقول بحيرة:-
– لسه نص ساعة، أنا ممكن أتحرك في أي مكان ضلّ لغاية ما يجي..
رددت بنفي خائف بداخلها:-
– لا لا افرض بعدت عن المكان ولا عمو أشرف جه ومش لقاني، ساعتها مش هعرف أرجع البيت وأنا مش معايا موبايل..
أسلم حلّ إن استحمل وأنتظر في مكاني..
أخرجت من حقيبتها المُعلقة بكتفها كتاب بلغة المكفوفين ذا النقاط البارزة، وضعت اصبعها فوق الصفحات وأخذت تقرأ وهي تبتسم بنقاء حتى مرّ الوقت وجاء العمّ أشرف ليقيلها حيث منزلها..
******************
ولج عبد الرحمن الغاضب حيث غرفة مكتب يعقوب وهي يصيح:-
– بقالك سنين بتباشر الفرع ده من الموبايل ورافض تنزل … ويوم ما تنزل وش تعمل مشكلة..
أيه التصرف ده يا يعقوب وليه عملت كدا..!.
أجاب الأخر بكِبر ولامبالاة وهو يفرد ظهره على المقعد:-
↚
– أنا حرّ يا عبدو أعمل إللي يريحني في مطعمي وأقعد إللي أنا عايزه، وبعدين دي بنت مش مظبوطة وممكن تسيئ للمكان ببجاحتها دي..
توسعت أعين عبد الرحمن بصدمة وهتف بغضب:-
– إنت إزاي تقول عليها كدا .. الآنسة رِفقة من زباين المكان من أكتر من سنة وإنسانة خلوقة ومحترمة..
اشتعلت نيران الغضب بأوردته وصرخ بإشمئزار:-
– خلوقة ومحترمة!!
ومالك محموق عليها ليه كدا .. أيوا من حقك هي شكلها معلقة الشباب هنا كلهم..
دي بت مش تمام من ساعة ما دخلت وهي ما شالت عينها عني وبتضحكلي وعينها في عيني بنظرات مصطنعة فيهم البراءة..
تفهم أيه من ده .. إنها خلوقة ومحترمة..!
صُدم عبد الرحمن من حديث يعقوب ليصرخ بما جعل يعقوب يتجمد:-
– إنت فهمت غلط يا باشا…
البنت كفيفة يا مجنون…
“الفصل الثاني” -٢-
– خلاص كدا يا عمّ أشرف أنا قدام السلم..؟
ابتسم الرجل بطيبة ثم قال بلطف:-
– أيوا يا ست البنات حطي رجلك واطلعي عالطول.
قالت رِفقة بإبتسامة واسعة لا تفارق فمها:-
– ربنا يجازيك خير يا عمّ أشرف كلك ذوق..
قال الرجل وهو يستدير للركوب:-
– ربنا يسترها معاكِ يا بنتي ويبعد عنك ولاد الحرام..
صعدت رِفقة الدرج ببطء وهي تستند على الجدار وتتحسس طريقها بعصاها، توقفت أمام تلك الشقة المنشودة، تنهدت تنهيدة مطولة قبل أن تطرق فوق الباب بهدوء..
مرّ عشرون دقيقة وهي مازالت تترقب أن يفتح لها أحد الباب..
بينما في الداخل..
كانتا يقفان خلف الباب يضحكان بشماتة وحقد وهم يشاهدونها تقف أمام باب المنزل من العين السرية..
تراهم للوهلة الأولى توقن أنهم مرضى، نعم مرضى بالحقد..!!
قالت إحداهم بتشفي:-
– كفاية عليها كدا وقفناها بما فيه الكفاية..
قالت الأخرى مُجيبة:-
– يلا مش مهم هنحنّ عليها وندخلها البيت، بس المقلب إللي إحنا محضرينه لها أيه .. ملهوش حلّ.
– يلا حلال فيها العاميه..
كانت رِفقة مازالت تطرق الباب إلى أن توقفت وهي تهمس:-
– يمكن مرات خالي مش في البيت، وأمل وشيرين يمكن برا البيت ولا مش سامعين الباب، وأكيد خالي في الشغل..
هنتظر شوية مفيش مشكلة..
تفاجأت بالباب يُفتح فعاد وجهها يُشرق وهي تتسائل بينما تلج للداخل:-
– مين.
وبمجرد أن وطئت أقدامها المنزل لا تعلم كيف تعثرت وسقطت لتصتدم رأسها بمزهرية مملؤة بالماء فيسقط فوق وجهها..
في هذه الأثناء اصطنعت شيرين أنها قادمة من المطبخ حاملة طبق طحين أبيض، تعثرت عمدًا فسقط الطحين على وجه رِفقة المبتلّ لينفجر الاثنان ضحكًا..
انكمشت رِفقة بينما تحاول الوقوف لتُسارع أمل بلطف كاذب:-
– رِفقة على مهلك داخله مستعجلة كدا ليه ملحقتش أسندك..
نظرت شيرين إلى أمل بخبث وهي بالكاد تتماسك من ألا تنفجر ضحكًا على مظهر رِفقة التي التصق الطحين بوجهها المبتل..
قالت بخبث:-
– أنا آسفة يا رفقة، كنت خارجة مستعجلة من المطبخ علشان أسأل أمل كمية الدقيق ومأخدتش بالي إنك واقعة على الأرض..
أضمرت الحزن بداخلها وهي تُرجِع العثرات التي تحدث معها بسبب الإعاقة البصرية التي تمتلكها وكل ما يحدث لها مجرد حوادث عابرة غير مقصودة..
ابتسمت بصفاء وقالت بطيبة:-
– ولا يهمكم يا حلوين حصل خير، أنا هدخل أغير هدومي وأغسل وشي..
قالتا بحقد يملأ قلبيهما عديميّ الرحمة:-
– اتفضلي يا حبيبتي..
وأخذت رِفقة تتحسس طريقها حتى الغرفة المشتركة بينها وبين أمل وشرين..
سارت حتى الأريكة المخصصة لنومها؛ فالغرفة تحتوي على فراشان أحدهما لأمل والأخر لشرين، ولم تُرد أن تزعج أيًّا منهما بنومته فاختارت النوم فوق الأريكة التي بأقصى الغرفة..
جاءت تجلس لكنها توقفت صارخة بألم وهي تستشعر وجود دبابيس حادة فوق الأريكة..
دلكت مكان الألم وهي تقول:-
↚
– تلاقيهم تبع شغل شيرين وهي نست تشيلهم..
جلست على ركبتيها أمام الأريكة وأخذت تجمعهم بهدوء ثم وضعتهم على سطح المكتب..
توقفت قائلة بطاقة:-
– هغير هدومي وأخد دش وأتوضى وأصلي..
تذكرت المطعم لتعجّ التساؤلات داخلها عن ماذا أحلّ به..!
– يا ترى أيه إللي حصل، ليكون في مشكلة ويقفلوه، لا لا يارب ما يحصله مشكلة، دا أنا بحب المكان هناك أووي ومتعلقة بيه لأنه بيخفف عني كتير..
إهدي يا رِفقة أكيد مش هيحصل حاجة إن شاء الله خير..
ظلت تبحث عن ملابسها ومنشفة حتى وجدتهم بعد مشقة، خرجت تتحسس الطريق المعروف بالنسبة لها لكنها أخذت تصتدم بأشياء عديدة متعجبة من وجودها بغير أماكنها المعروفة لها..
تألمت من إصتدام قدمها بأحد المقاعد للتعثر وتسقط..
كانت كُلًا من أمل وشيرين التي أعمى الحقد أعينهم يقفون على مقربة من رِفقة يشاهدونها باستمتاع..
توقفت رِفقة باضطراب وهي تنادي:-
– أمل … شيرين .. إنتوا هنا..
ظلت تناديهم بينما يقفون وكأنهم لم يسمعوا شيء ينظرون إلى بعضهم البعض مبتسمين بغلّ..
– أمل .. شيرين .. إنتوا فين، ممكن بس حد يوصلني الحمام .. شكلكم غيرتوا الديكور..!
اصطنتعت شيرين أنها تأتي من بعيد وهي تقول:-
– رِفقة في حاجة..!!
ابتسمت بهدوء قائلة:-
– هو إنتوا غيرتوا الديكور وبدلتوا نظام الشقة ولا أيه..!
أجابتها بأسف مزيف وهي تصطنع التذكر:-
– آآه صحيح حقك علينا يا رِفقة، أصل قولنا أنا وأمل نغير في الجزء ده من الشقة، ملينا من شوفنا لنفس الحاجات كل يوم..
بس نسينا نعرفك يا رِفقة بما إنك حفظتي الأماكن القديمة، معلش بقاا..
سارعت أمل نحوها تقول برفق كاذب وهي تسندها:-
– معلش يا رِفقة، تعالي معايا أوصلك الحمام، إنتِ كويسة..
هتفت رِفقة بطيبة:-
– عادي .. حصل خير يا أمل، وشكرًا جدًا لكِ..
تركتها أمل أمام باب المرحاض وذهبت لتدخل رِفقة بحذر وما يحاوطها الظلام فقط..
ظلت تتمسك بكل ما يقابلها وهي تستشعر وجود بعض الأشياء وتغيّر أيضًا في المرحاض..
دبّ الخوف داخلها من أن تسقط شاعرة بالعجز يملأ قلبها ونفسها أصبحت تهُون عليها كثيرًا، أصبحت تشفق على حالها وهذا شيءٍ لا تُريده..
ألقت الخوف بعيدًا قائلة بتشجيع:-
– وفيها أيه لما أقع وأقوم، وما بيقع ألا الشاطر يا ست رِفقة، متخافيش من الوقوع..
خطت عِدة خطوات إلى الأمام بينما أصابع أقدامها تتشبث بالأرض، ثم استدارت لتدخل حوض الإستحمام لكن كان هناك إناءٌ معدني على الحافة تعثرت به لتسقط وتصطدم رأسها بحافة الإناء البارز..
توجعت رفقة بألم:-
– آآآه أيه ده .. وأيه جابه هنا ده دلوقتي..
راسي وجعتني أووي دي المرة التانية إللي اتخبط فيها .. مش مهم هحط تلج عليها لما أطلع أهم حاجة أخلص..
كانت تعتقد أنه مجرد اصطدام فقط فهي لم ترى ولم تشعر بقطرات الدماء التي تسير على وجهها ممتزجة بالماء..!
وبعد مرور نصف ساعة خرجت رفقة ثم أخذت ترتدي ملابس الصلاة وأدت فرضها بسكينة..
همست تدعو برجاء بينما الدموع تتساقط من أعينها التي سرقت لون الكستناء:-
– يارب بابا وماما هما إللي كانوا ليا في الدنيا، وهما راحوا يحجّوا يعني راحوا عندك من سبع سنين وتاهوا ومحدش يعرف عنهم حاجة..
يارب رجعهملي بالسلامة..
كل يوم هدعي مش هيأس أبدًا..
هما وحشوني أووي وكمان أنا متقلة على خالي ومرات خالي.
اعتدلت وهي تمسح على وجهها لتتفاجئ بسائل لزج يسير على جانب وجهها..
أخذت تتحسس وجهها بخوف وأصابعها تعلو حيث جبهتها فتجد جُرح غائر ينزف بينما بوادر دوار تجتاحها وشحوب أخذ يغزو ملامحها..
↚
ثقلت رأسها وشعرت أنها على وشك فقدان وعيها فأخذت تنادي باستنجاد:-
– أمل … شيرين … يا أمل تعالِ شكلي اتعورت..
شيرين … خالو .. يا طنط عفاف..
لكن لا حياة لمن تنادي وأغمضت أعينها وسقطت في لُجةٍ فوق لُجةٍ..
*******************
وقف يعقوب قائلًا بصدمة:-
– نعم .. كفيفة!!
وإنت إزاي مقولتليش.؟!
قال عبد الرحمن بنفاذ صبر:-
– وهو إنت إديتني فرصة أقولك يا يعقوب..
الآنسة رِفقة حد محترم جدًا ومن رواد المكان الدائمين، في تاكسي بيجي ياخدها كل يوم في ميعاد محدد، وإنت لما أمرت نطردها البنت طلعت انتظرت في الشارع، وأظن بنت بظروفها مش أمان أبدًا ولا كويس التصرف معاها كدا، الناس نفوسها مريضة..
نهج صدر يعقوب وهو يُعيد المشاهد بعقله ثم قال قبل أن يركض للخارج:-
– مكونتش أعرف إنها كفيفة .. أنا فكرت حاجة تانية..
تسائل عبد الرحمن وهو يخرج خلفه:-
– في أيه يا يعقوب إنت خارج فين..
مسح بأنظاره الأرجاء وهو يتسائل بلهفة:-
– هي فين .. قاعدة فين..!!
ردد عبد الرحمن بسخرية:-
– أيه يا باشا دا فات أكتر من ساعة أكيد هي روحت..
زفر بحدة ومشاعر غريبة تموج داخله..
هي ليست بتلك الصفات التي نعتها بها!
للمرة الأولى يُسيئ فهم أحد، وأول مَن تكون فتاة عمياء..
لماذا يشعر بهذا الإحباط والألم الداخلي الآن؟!
هو لم يكن يعلم، ومن أين له أن يعلم!!
كان داخله وقلب المغرور يبث إليه تلك المبررات..
ولج لمكتبه شاعرًا بضيق شديد، ألقى بجسده فوق المقعد وهو يُعيد تلك المشاهد بذاكرته مرةً أخرى..
وفجأةً..
نمت بعقله فكرةً ما!!
فتح حاسوبه المحمول وأخذ يبحث في سجلات كاميرا المراقبة التي تقبع أمام المطعم ولم يكن الأمر بالعسير..
وجد المقطع أمامه لتتجمد أطرافه وهو يشاهدها تجلس تحت أشعة الشمس الحارقة ويبدو على ملامحها التعب والإرهاق والتردد والحيرة..
ظلت أعينه المتسعة بصدمة معلقة بالشاشة ورُقعة الندم التي بداخله تتسع..
شعر بألم لا يُضاهي بقلبه بينما يتأمل ملامحها الرقيقة البريئة التي هي أبعد بكثير جدًا مما وصفها به..
مشهد أذاب كل ذرة غرور داخله..
همس دون أن يدري:-
– أنا مكونتش أعرف ظروفها .. مكونتش أعرف..
لو كنت أعرف مستحيل كنت سبتها تخرج..
ماذ يفعل الآن؟!
أخذ يدور في حجرة مكتبه كالأسد الحبيس ذهابًا وإيابًا..
وفي الأخير خرج نحو عبد الرحمن..
– عبد الرحمن.
استدار الأخر ينظر له بحاجب مرفوع:-
– يعقوب باشا .. خطوة سعيدة أفندم يا باشا..
ماذا سيتحدث الآن..؟!
توتر وهو لا يدري كيف يُخبر عبد الرحمن الذي لن يُمرر تساؤلاته مرور الكرام..
تنحنح وهو يمسح على عنقه في حركة يفعلها عند توتره، وقال بجبين معقود وهو يرسم الجدية على وجهه:-
– احمم .. كنت يعني عايز أقولك إن مكونتش أعرف..
↚
ردد عبد الرحمن بجمود:-
– ودا بسبب أيه يا يعقوب، بسبب غرورك وإنك عايز تصدق بس صوتك، بسبب سوء ظنك..
ما أنا كنت هكملك بس إنت مش عايز تسمع علشان مانفيش شكوك المُبجلة..
صاح يعقوب بنفاذ صبر:-
– ما خلاص بقى يا عبد الرحمن هو أنا كنت بشم على ضهر إيدي .. أنا مكونتش أعرف قولتلك ألف مرة..
– والمطلوب..
زاد توتره محاولًا تجميل الكلمات بصيغة جادة وتسائل بحروف اسمها:-
– رِففة..
عقد عبد الرحمن حاجبيه بتعجب مستفهمًا:-
– مالها..!!
أكمل يعقوب باضطراب:-
– يعني هي هتيجي بكرا صح، إنت قولت هي من رواد المطعم وبتيجي كل يوم..
رمقه عبد الرحمن بنظرات غامضة تكاد أن تخترق يعقوب، وقال بخبث لحاجةٍ في نفسه:-
– لا .. ما هي معدتش هتيجي؛ لأن وصلتلها إن صاحب المطعم قال معدتش تدخل هنا..
جأر يعقوب بغضب ناري مصدوم بينما قلبه ينتفض إنتفاضات غريبة:-
– نــــــــــعــــــــــــم!!!!!
يتبع….
اقترب يعقوب من عبد الرحمن حتى وقف بوجهه وهتف بوجه متغضن بالغضب:-
– وهو أنا قولتلك حاجة زي دي علشان تقولها..
كانت ملامح عبد الرحمن ثابتة ليقول ببرود:-
– مش إنت إللي قولتلنا يا ابني وكنت مضايق على أخرك وقولت لو مخرجتهاش هتطلع تطردها قدام كل إللي في المطعم وتهينها..
سبحان الله طبعك غريب يا أخي..
بس قولي يا يعقوب إنت أيه مضايقك كدا، لو عايزنا نكلمها نقولها صاحب المطعم رجع في كلمته وحسّ بغلطه و….
ابتلع الباقي من حديثه عندما اقترب يعقوب مُمسكًا إياه من تلابيب١ه وقال من بين أسنانه بغضب:-
– اسكت .. اسكت خلاص يا عبد الرحمن..
وخرج يدك الأرض وتكاد شرارات الغيظ أن تنبثق من عيناه..
بينما عبد الرحمن التقط حبة من التفاح يقضمها وهو يردد بمكر:-
– مغرور .. بس أكيد غرورك ليه نهاية، وشكل الأيام إللي جايه أنا هستمتع بيها أووي، أيوا بقى خلينا نتسلى..
عند يعقوب فقد دخل غرفة مكتبه والسُخط يقطر من وجهه، أخذ يدور في الغرفة والكثير من الأفكار العجيبة، ويتقدمها تساؤلًا لحوح لا يعلم لماذا يزعجه!!
هل هكذا انتهت؟!
هل لم يعد لديه فرصة لُقياها؟!
زفر بحدة وهو يقول بمكابرة وتبرير:-
– دا بس علشان ظلمتها في تفكيري، وبسببي قعدت تحت الشمس مدة طويلة..
بس أنا أصلًا مكونتش أعرف .. أنا مليش ذنب، يعني أنا أيه إللي عرفني.!
رمى بجسده فوق المقعد ووضع رأسه بين يديه يُفكر في تلك الأشياء التي خرجت له من العدم لتُضيف الحِراك لحياته الراكدة..
رفع رأسه ينظر لشاشة الحاسوب الذي أمامه يُعيد هذا المشهد الذي ألآمه..
ظلّ يعبث في الحاسوب في سجلات الكاميرات الداخلية للمطعم لينغمس دون أن يدري يُقلّب بتلك السجلات التي تم إلتقاطها منذ أسابيع..
بقى يُشاهد كل الأوقات التي قضتها في المطعم، يُنقّب عنهم من بينهم ولم يكن الأمر بالعسير؛ وذلك لوجود وقت مُحدد تأتي به كل يوم..
ظلّ يُسجل بقلبه قبل عقله، ابتسامتها، نقائها، وبساطتها المُطلقة، هدوءها واستمتاعها بالطبيعة من حولها..
لم يشعر بالوقت الذي مرّ وانفرط، التفت من حوله ليجد أن الظلام نشر أثوابه حوله..
– يااااه أنا محستش بالوقت..
أخرج شريحة الكترونية وبدأ ينقل إليها تلك المقاطع ثم التقطها بجيبه وخرج راكبًا سيارته نحو منزله منتظرًا صباحٌ جديد على أحرّ من الجمر .. علّها تأتي..
_______بقلم/سارة أسامة نيل______
استفاقت شاعرة بثقل برأسها، تأوهت بخفوت وهي تضع يدها فوق رأسها..
تحسست مُحيطيها لتجد نفسها فوق الفراش، عقدت جبينها وهي تتسائل ما الذي حدث:-
– أنا فين .. أيه إللي حصل..
– أخيرًا فوقتي .. الحمد لله على سلامتك يا رِفقة، أيه إللي حصلك..؟
كان صوت خالها فابتسمت قائلة:-
– الله يسلمك يا خالو، مفيش حاجة شكل الخبطة دي من الوقعة إللي وقعتها في الحمام، بس شكله جرح بسيط..
قال خالها بهدوء:-
– الجرح البسيط ده اتخيط أربع غرز، أمل دخلت لقيتك مغمى عليكِ في أرضية الأوضة والدم مغرق وشك..
اتصلنا على الدكتور فتحي وخيطلك، وابقي خدي بالك يا رِفقة..
أجابته بذات الإبتسامة التي لا تختفي من فوق فمها:-
– حاضر يا خالو .. ومعلش تعبتكم معايا .. أنا محستش بالجرح خالص يمكن من الخبطة..
قالتها وهي تتحسس الضماد الذي فوق جبينها وبالتحديد فوق عينها ببعض الإنشات القليلة..
حرك عاطف رأسه وقال بهدوء:-
– طب يلا الجماعة بيتغدوا، تعالِ يلا اطلعي كُلي..
بالفعل كانت معدتها تتلوى جوعًا، حركت رأسها بإيجاب وتحركت من فوق الفراش بخجل ليقوم خالها بإسنادها للخارج..
كانوا ثلاثتهم يجلسون حول المائدة بملامح مكفهرة فور رؤيتهم لرِفقة بصحبة عاطف، سحب أحد المقاعد لها وأجلسها ثم تحرك نحو غرفته وهو يهتف:-
– بالهنا والشفا..
أردفت شيرين تتسائل:-
– هو إنت مش هتاكل يا بابا؟!
↚
– لأ أنا تعبان وعايز أنام..
وتوارى خلف باب الغرفة لينظر كلًا من شيرين وأمل لبعضهم البعض بخبث وتقول والدتهم باستياء:-
– الله يكون في عونه، يعني جه من الشغل مرهق ومش شايف قدامه ولقى رِفقة واقعة وحالتها حالة..
شعرت رِفقة بالخجل وهي تبتلع غصة مريرة بحلقها لتُلقي باللوم على نفسها لتلك المشاكل التي تقع على أعتاقهم بسببها، فركت يديها بتوتر وهي جالسة تتمنى أن لو تنشق الأرض وتبتلعها..
بينما عفاف والدة أمل وشيرين كانت ترمق رِفقة بكرهٍ وضيق شديدين ثم سحبت الطبق الذي كان يحتوي على قطع الدجاج والذي كان بالقرب من رِفقة وهي تتشدق قائلة بكذب:-
– وكله كوم وبناتي كوم تاني، إللي ربنا قدرهم عليه يطبخوا شوية مكرونة وبطاطس..
ضحكت أمل بخبث وهي تقضم قطعة الدجاج بشهية ثم قالت بحزن مصطنع:-
– طب نعمل أيه يعني يا ماما، أنا وشيرين طلع عنينا في الشقة النهاردة وطول النهار نشيل ونحط ويدوب ده إللي لحقنا نعمله، كل حاجة علينا ومحدش بيساعد، والله طلع عنينا..
كانوا يتهامسون بينما يقصدونها بحديثهم السام، شحب وجه رِفقة شاعرة بالخجل والخزي يحتلها..
نظرت شيرين لأمل نظرة ذات مغزى وهي تسحب أحد الأطباق المملؤة بالمعكرنة تضعه أمام رِفقة ثم أخذت تقول بوِدْ كاذب تستعطف رِفقة بخداع:-
– دوقي بقاا إنتِ يا رِفقة، أنا متأكدة إنك إنتِ إللي هتنصفيني يا بنتي، أمل بتقعد تتريق على الأكل إللي بعمله هي وماما، دا يرضيكِ أتعب وأعمل الحاجة بكل حب وملقيش أي تقدير، مش كفاية إن وقفت وعملتها يا رِفقة ولا أيه، من الحق أنا منفعش لأي حاجة!!
أمسكت رِفقة بكف شيرين وهي تقول بطيبة وحب صادق:-
– أوعي تقولي كدا يا شيري، دا إنتِ زي القمر وأي حاجة من إيدك جميلة وحلوة شبهك..
مش من حقك تقولي كدا يا أمل ولا حضرتك يا طنط .. شيرين ست البنات وكفاية إنها وقفت وعملتها بكل حب..
عانقتها شيرين بتمثيل قائلة بسعادة كاذبة:-
– حبيبتي والله يا رِفقة ربنا يفرح قلبك زي ما فرحتيني، يلا دوقي إنتِ بقاا وقوليلي رأيك إللي متحمسة ليه جدًا ويارب ما تكسري فرحتي وتاكلي الطبق لأخر معلقة..
ابتسمت رِفقة وهتفت بحماس ولُطف:-
– أنا واثقة من قبل ما أدوق..
ثم رفعت رِفقة الملعقة الممتلئة نحو فمها تحت أنظار ثلاثتهم الشامتة فهم مثل الأفاعى المليئة بالسم بينما قد خدعوا تلك الرقيقة بنعومتهم الخارجية..
وضعت رِفقة الملعقة بفمها وأخذت تلوك الطعام لتتوقف بجزع وهي تشعر بملوحة شديدة بالطعام، أوشكت أن تلفظ الطعام المغمور بالملح لتشعر بشيرين تُمسك ذراعها متسائلة بترقب:-
– هاا قوليلي طعمها حلو ولا أيه يا رِفقة .. من الحق وحشة زي ما بيقولوا..
قالت جملتها الأخيرة بحزن كاذب لتبتلع رِفقة الطعام بينما تربت على يدها ثم رددت بابتسامة واسعة ولُطف وهي لا تُريد إحزانها ولا خزلها:-
– تحفة جدًا يا شيري .. حقيقي تسلم إيدك، ما أنا قلتلك إنك متعمليش حاجة وحشة خالص..
– بالهنا على قلبك يا رِفقة، يلا بقاا عايزاكِ تاكليها كلها وخدي البطاطس كمان..
وأخذوا ثلاثتهم يتناولون الطعام بإستمتاع ويلتهمون قطع الدجاج بشهية بينما ينظرون لرِفقة التي كانت تبتلع الطعام المالح بصعوبة شديد..
ظلّوا يرمقونها بتشفي وحقد قد ملئ قلوبهم مطمئنين بأن لا أحد يراهم، مطمئنين أنها لن تشعر بهم لفقدانها نور عينيها مستغلين كونها كفيفة … لكنهم غفلوا عن العزيز المنتقم الواحد الجبار الذي يُمهل ولا يُهمل..
اطمئنوا أنه لا حِيلة لها وتناسوا أن الله قد أقسم بجلاله بأنه سيُدبر الحيلة لمن لا حيلة له حتى يتعجب أصحاب الحيّل..
بمنتصف الليل كانت رِفقة تجلس فوق الأريكة التي تنام فوقها تتمسك بمصحف خاص بالمكفوفين تتحسس صفحاته حيث النقاط البارزة وتقرأ تستمد منه طاقتها وتربت على قلبها بكلام المولى عزّ وجلّ..
توسعت إبتسامتها وترقرق الدمع بأعينها بينما تردد تلك الآية من سورة يوسف..
{فَلَمَّآ أَن جَآءَالْبَشِيرُ أَلْقَـٰهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا}
توقفت هامسة بيقين:-
– وأنا مش هفقد الأمل واليقين أبدًا يارب..
أنا راضية يارب مش زعلانة، بس مش هنكر إن طمعانة في كرمك .. مش عايزة بصري يرجعلي علشان حاجة قد ما إن أشيل الحِمل من على خالو ومراته وعيال خالو، مش عايزه أحسّ إن تقيلة على حدّ ويتضرروا مني..
وبابا وماما يارب أنا عشمانة فيك يارب، عشمانة إنهم يرجعوا ويكونوا بخير..
ورددت بأمل ويقين:-
{عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا}
وقبل أن تُكمل حديثها سمعت صوت زوجة خالها تتشاجر مع خالها بصوت ملأ سكون الليل..
استقامت وسارت نحو الباب النصف مفتوح تقف خلفه لتستمع إلى أقسى كلمات توقعت سماعها يومًا ما .. كلمات كانت كالخناجر تمزق بقلبها..
كانت تصرخ بغضب واستياء:-
– “خلاص إحنا مش قادرين نستحمل أكتر من كدا، مش ذنب علينا إنها تبقى عِبء العمر كله، وعيالي وأنا نبقى خدامين لها، ومصاريف وأكل وشرب .. دا رزق عيالك إللي هي عايشة فيه يا عاطف..
قولت بلاش تروح عند أعمامها وعمتها علشان عندهم شباب، طب ما ابني خلاص هانت وهيرجع .. ناوي تحرمني منه وتقوله يروح يشوف أي مكان يقعد فيه علشان الغندورة..
قولتلك كام مرة وديها أي دار رعاية..
وقبل ما تعارض وتقولي زي كل مرة ما هي مسيرها تتجوز وأكيد مش هتفضل قاعدة معانا العمر كله..
أحب أقولك فوق يا أخويا .. جواز أيه لبنت أختك، دي عامية لو إنت ناسي..
مين هيرضى بيها .. مين يرضى بالبلوة دي، مستحيل واحد يقبل بيها بأي شكل، ولو حصل شوف هيكون معيوب ولا معاق..
دي هتفضل لازقة العمر كله فينا يا عاطف وأنا معدتش قادرة أستحملها خلاص فاض بيا، الدنيا غالية وإحنا أولى بأي قرش.”
شخصية عاطفة لم تكن سوى شخصية ضعيفة لا يستيطع أن يجابه زوجته في الحديث والمناقشات ينقاد خلفها بطبعِه الضعيف..
قال لها بهدوءه المعتاد ونبرته اللينة:-
– وطي صوتك يا عفاف عيب كدا البنت تسمعك..
قالت بمنتهى القسوة:-
– ياريت يا شيخ تسمع وتخلي عندها دم وتمشي من هنا..”
عند رِفقة التي تقف خلف الباب، وضعت كفها فوق فمها تكتم شهقات كادت أن تنفلت من بقاع الحناجر، تدحرج الدمع من أعينها وهي تتخبط تعود للخلف لتسقط على ظهرها بضعف وقلبها يتألم مما سمعت..
ظلت تعود زاحفة للخلف حتى وصلت الأريكة لتجلس فوقها باكية بشهقات مكتومة تتمزق لها القلوب..
تكومت على نفسها بينما تمسح دمعها بظهر يدها وهمست من بين بكاءها:-
– مكونتش أعرف إن مرات خالي شايلة في قلبها كدا من ناحيتي، مكونتش أعرف إنهم متضررين مني للدرجة دي..
طب أروح فين يارب .. دلني أعمل أيه!!
أنا مش عايزة أكون عالة على حدّ..
وتمددت فوق تلك الأريكة الضيقة وغرقت في نومٍ عميق ودموعها تُغرق وجهها بينما تلك الشهقات الخافتة لم تهدأ..
غرفت في النوم تهرب من واقعها الأليم ومن الصدمة التي تلقتها لعَلّ ما هي به يكون مجرد كابوسٍ مزعج..
********************
↚
سار يعقوب داخلًا للمنزل الغارق في الظلام نظرًا لتأخر الوقت..
كاد أن يصعد للأعلى لكنه توقف على هذا الصوت القاسٍ..
– استنى عندك..
لم يكن منه إلا أنه استدار بملامح وجه باردة، وقال باقتضاب:-
– نعم.!
استقامت بشموخ تدق عكازها الفضي بالأرض واتبعته بصوتها الذي يشبه الرعد قائلة بقسوة حُفرت على معالم وجهها قبل صوتها:-
– البيت ده ليه قوانين، وبما إنك رجعت وجيت تقعد معانا يبقى تحترم قوانينه..
دخولك ورجوعك نصّ الليل ده حاجة مش مقبولة وبلاش تكتر من حسابتك عندي علشان سجلك مليان أووي يا يعقوب باشا..
تأمل جبروتها الذي عاناه منذ طفولته واستقى منه الويلات، نمت إبتسامة ساخرة على جانب فمه ثم حك بأطراف أصابعه لحيته الشائكة وهتف ببرود وهو يصعد للأعلى:-
– أنا طالع أنام..
وعندما أكمل صعوده قابلهما ينظران له بحزن وندم فهما المسؤولان لكل ما حدث له..
أهداهم إبتسامة ساخرة وأكمل سيره نحو غرفته القاصية..
نظرت من الأعلى لتجدها جالسة بالأسفل والجمود مرتسم على محياها، همست بحزن لتقول لزوجها:-
– مش هسامح نفسي أبدًا يا حسين على سفرنا وإحنا سايبين يعقوب معاها، دماغنا كانت فين ساعتها…
طبطب على ظهر زوجته وقال بندم:-
– أمي ربت يعقوب غلط يا أم يعقوب وإحنا غلطنا غلطة لا تغتفر لما سيبنا يعقوب معاها وهو طفل على أساس إن إحنا بنبني مستقبله ومرجعناش ألا وهو شاب بعد ما فات الأوآن..
هي طول عمرها كدا حتى لما ربتني بس الله يرحمه أبويا وعمتي هما كانوا بيصلحوا وراها علشان كدا أنا محستش بيها..
وأمي كانت عايزه كدا، عايزانا نطور من شغل العيلة ونكبره ومن ناحية تانية تستغل يعقوب وتخليه نسخة مصغرة منها وتتحكم فيه..
أنا موافقتش أسيب يعقوب ألا لما لقيتها فعلًا متعلقة بيه وبتحبه.
قالت بحزن:-
– يعقوب مستحيل يسامحنا على الغلطة دي..
ابني عاش عمره محروم من أبوه وأمه ويادوب مكاملة التلفون إللي كانت حماتي بتسمح بيها..
وإحنا عشنا محرومين من إبننا يا حسين..
ردد بحنان:-
– بس صدقيني يا أم يعقوب هو مكتسبش منها قسوتها ولا جمودها هو لسه يعقوب الحنين المرح، بس يمكن بس المشكلة شوية غرور ولامبالاة ودول ساهلين .. مسيرهم يدوبوا في يوم من الأيام..
– يارب .. يارب يا حسين..
داخل غرفة يعقوب..
تمدد فوق الفراش وهو يسحب حاسوبه المحمول أمامه، وضع تلك الفلاشة في إحدى الفرجات الجانبية ليتضح أمامه تلك المقاطع الذي عمل على تجميعها لها على مدار زيارتها للمطعم خلال أسابيع بل شهور..
ظلّ يشاهدها باهتمام عجيب حتى غلبه النعاس وذهب بثباتٍ عميق أملًا في اللقاء غد..
______بقلم/سارة أسامة نيل______
في صباح يومٍ جديد..
هبط من سيارته أمام المطعم وهو بقمة نشاطه..
جاء يدخل المطعم لكن تسمرت أقدامه وهو يراها تأتي على مقربة منه..
ابتسم باتساع وهو يحبو نحوها بينما هي تقترب بإبتسامتها الدائمة التي تسحرهُ، وعندما أوشك للوصل إليها تخشب بصدمة وهو يجأر بصوت تردد صداه بالأرجاء واهتزت له الأبدان:-
– رِفـــــــقـــــــة…
فزع من نومته ليستقيم بوجه متعرق من هذا الكابوس اللعين..
زفر وهو يمسح على وجهه قائلًا:-
– أيه الكابوس الغريب ده.!!
أخذ يسير نحو المرحاض وهو يقول بشرود:-
– دا أكيد علشان أنا بس فكرت فيها كتير قبل ما أنام وزعلان على سوء الفهم..
وبعد مرور مدة قصيرة كان قد ارتدى ملابسه وهبط الدرج ينتوي الخروج حيث المطعم بلهفة لكن قبل خروجه قاطعه هذا الصوت الذي افتقده لسنوات:-
– يعقوب .. ممكن تفطر قبل ما تخرج الأول.
كانت والدته التي ترمقه بندم وأعين تحمل الكثير من الإعتذارات التي لا تُكفر عمّا حدث..!
أجابها بملامح وجه جامدة:-
– شكرًا .. تعبتي نفسك.!
وخرج دون أن يلتفت خلفه تحت نظرات تلك الناقمة على تصرفاته لتطرق بيدها على طاولة الطعام صائحة بنفاذ صبر:-
– أنا مش فاهمه تصرفات الولد ده، العِناد إللي هو فيه ده عواقبه وخيمة..
يعقوب لو مفاقش لنفسه مش هيطول من أملاك العيلة ولو ورقة واحدة .. أنا صبري بدأ ينفذ..
لم يتحمل كم هذا الظلم الموجه لولده البِكر يعقوب، كان دائمًا يحترم قرارات والدته، يخشى عقوقها .. حتى وصل به الأمر إلى الإفتراق عن يعقوب ظنًّا منه أنه في مأمن معها..
حاول كظم غضبه وإلجام كلماته الغاضبة لكن رغمًا عنه لم يعد يتحمل هذا الكبت..
– لو سمحتي يا أمي كفاية بقى الأسلوب ده، يعقوب مبقاش ولد صغير علشان تتحكمي فيه، مش شرط يطلع زي ما إنتِ عايزه، سيبيه يعيش حياته وكفاية إللي عملتيه فيه وطفولته إللي شوهتيها .. تربيتك ليعقوب كانت غلط..
بس الغلط مش غلطك لواحدك .. دا غلطي أنا.
غلطي إن سيبت ابني وسافرت وأنا مفكر إن هو هيكون معاكِ أحسن من معايا..
تحكماتك يا أمي والمثالية إللي مارستيها على تربية يعقوب دمرته..
لم تُحرك ساكن وكأنه لم ينفجر لتوه، بل اكتفت برفع عينيها وقالت بهدوء ساخر:-
– بقى بعد ده كله جاي تعاتب أمك على أخر الزمن وتقولها إن هي إللي دمرت ابنك..
دي التربية الصحّ، الولد ملوش ألا التربية دي أمال عايزه يدلع زي البنات، مش كفاية خيبتي فيك بسبب تربية عمتك وأبوك، وتربيتك في ابنك التاني إللي لين زي البنات وحنين أووي ننوس عين أمه..
أنا ربيت يعقوب زي ما أنا عايزه بس للأسف بدأ يتفلت من إيدي وعارفة هرجعه تاني إزاي..
أنا ربيته إن لا يتأثر بالعواطف ولا المشاعر يبقى زي الآلة كل إنتاجه إنجازات ويكبّر ويعلي في شغلنا … علشان يبقى خليفة جده الكبير
مُحي بدران..
عَلا صوت بكاء والدة يعقوب على ما آل إليه حال ولدها، ركضت نحو الجدة “لبيبة بدران” ثم انحنت تُقبل يدها وأردفت متوسلة ودموعها تُغرق وجهها:-
– بالله عليكِ يا أمي سيبي يعقوب .. كفاية عليه كدا .. سيبيه يعيش حياته، سبيني أعوضه عن الأيام دي كلها..
يعقوب مبقاش صغير ومستحيل تعرفي تاخديه تحت جناحك تاني..
سيبيه يبني أحلامه زي ما هو عايز، مش لازم يشتغل ويمسك شغل الشركات، موجود أنا وحسين ويامن وإنتِ بتراجعي الشغل شهريًا..
شركات العيلة إحنا موجودين وكفاية عليها..
يعقوب مش هاوي الشغل ده، اجتهد وبقى ليه سلاسل مطاعم، وهو حابب كدا..
دا شغفه … سيبيه يا أمي أرجوكِ..
رددت بكل قسوة ولم تبالي بقلب هذه الأم المكلوم:-
– أنا سيباه بمزاجي مع اللعبة إللي بيلعباها بتاعة المطاعم دي ولو حابه أنهيها هنهيها..
والكلام في الموضوع ده إنتهى..
↚
واستقامت منصرفة برأس شامخ وتكبر يطفو على ملامحها عملت على بثه وزرعه بقلب يعقوب خلال سنوات عمره الثلاثون، وهي التي لم تفشل في أمرٍ قط!! فكيف لها أن تقبل بخسارة عدم جعل يعقوب نسخةً عنها وعن أجدادها!!
________بقلم/سارة نيل________
انتصف النهار ومازالت هي حبيسة غرفتها وتلك الكلمات التي هزّت بدنها أمس تدور بعقلها دون براح، تفكر في حلّ يُخلص زوجة خالها من عبئها كما قالت..
تشعر بالغربة والخجل من كونها مجرد ثقل على قلوبهم، تؤلمها فكرة أنها غير مرغوبة..
بين الحين والآخر تخرج لتُغرق وجهها بالماء في محاولة لتغطية الدموع التي تُغرق عينيها ووجهها..
كانت تتضور جوعًا لكن لم يتأتّى لها أن تتناول الطعام لحَرجِها..
فكرت بالخروج لإستنشاق الهواء وذهابها لمطعم 《بوب》لكن الدوار الذي كان يُحيطها نتيجة تلك الصدمة والجرح الذي برأسها، وأيضًا إنطفاءها وكثرة الأفكار التي تأتي لعقلها فلم تشعر بالرغبة في الخروج..
همست بحزن:-
– يارب دلني وارشدني للطريق الصحّ، مش عارفة أعمل أيه حقيقي.!
**********************
بينما عند يعقوب الذي أمضى النهار يبحث بين سجلات الكاميرا يُشاهد المقاطع التي تظهر بها رِفقة دون كلل أو ملل..
كان كمن يجلس على جمر وأمضى النهار أعينه مُعلقة بالباب عَلها تأتي..
كبرياءه اللعين يحجبه لأن يذهب إلى
عبد الرحمن يُبرحه ضربًا ويُجبره على الإتصال بها والأعتذار منها وجعلها تحضر..
وقف يسير في الحجرة حتى وقف أمام الشرفة الواسعة ينظر للبحر الثائر من بعيد…
شردت أعينه بتلك الذكريات التي حُفرت بعقله مهما مرّت عليها السنون..
طفل صغير في عمر السابعة يبقف أمام جدته قائلًا برجاء طفولي وهو يبكي:-
– علشان خاطري يا تيتا خليني أكلم بابا وماما بقالي كتير مش كلمتهم..
أتى صوتها الجامد كقلبها تقول بتحذير:-
– وبعدين يا يعقوب مش قولنا هي مرة في الشهر لأنهم مش قاعدين فاضيين هناك .. هما مسافرين بيشتغلوا..
– طب ليه مش خدوني معاهم .. ما هما معاهم يامن أخويا .. ليه سابوني..!!
قالت ببعض القسوة:-
– هو إنت مش بتحبني يا يعقوب، إنت هنا معايا، وبعدين بلاش عياط .. مش اتفقنا إن إللي بيبكي هو الضعيف بس..
قال بحزن طفولي:-
– بس إنتِ مش بتخليني ألعب بالكورة مع أصحابي، ومش راضية تخليني أشوف أصحابي كمان، ولا راضية تخليني أكل الأكلات إللي بحبها ولا البسبوسة..
ولا أتفرج على الكرتون، وبتخليني أنام وأنا مش عايز أنام … بفضل على السرير ساعتين لغاية ما عيني توجعني من الضلمة… ومش بتخليني أسمع حكاية زي ما ماما كانت بتعمل..
أردفت بهدوء ولم يرقّ قلبها:-
– لأن دا الصح يا يعقوب، إنت مش بقيت طفل علشان تلعب، في حاجات مهمة لازم تتعلمها بدل اللعب، كمان الأكل إللي بتحبه كله مش صحي، لازم تاكل أكل صحي بمواعيد، والحلويات مش كويسة علشان سنانك..
والكرتون ده كلام فاضي ولازم تنام بدري في ميعادك علشان ده النوم الصحي لجسمك..
وواصلت بتحذير:-
– لازم تسمع الكلام من غير إعتراض يا يعقوب وبلاش المقاوحة دي..
دي قواعد لازم تلتزم بيها علشان تبقى إنسان ناجح..
صمت بوجه متذمر فلقد حرمته جدته من كل الأشياء التي يحبها..
ألعابه .. وكرة القدم .. وأصدقائه .. والحلوى والبرجر .. حتى الحكايات والكرتون..
قال بإلحاح فربما توافق على هذا الرجاء الأخير:-
– طب مش هتفسحيني وتوديني الملاهي يوم الجمعة..
أردفت بحدة وهي تشير نحو أحد الغُرف:-
– مفيش خروجات ولا ملاهي .. ويلا على النوم من غير إعتراض .. اغسل سنانك ونام يا يعقوب عندك تدريب الساعة سابعة الصبح..
ذهب لغرفته ثم جلس على فراشه الذي تمت إزالة كل ألعابه من فوقه..
ترقرق الدمع بأعينه بحزن وهمس وهو يبكي:-
– ليه يا بابا إنت وماما سبتوني معاها، إشمعنا أخدتوا يامن وأنا لأ .. أنا زعلان منكم أووي .. يعقوب زعلان منكم، أنا هنا لواحدي…
سحبه من شروده صوت عبد الرحمن الذي أخذ يناديه:-
– يعقوب .. يعقوب..
أعاد فتح وغلق أعينه مراتٍ عدة ليمنع تلك الدموع التي ترقرقت بأعينه واستدار يقول بهدوء:-
– خير يا عبد الرحمن..
تعجب عبد الرحمن من حالته ليتسائل:-
– الوقت اتأخر .. إنت مش راجع البيت؟
قال باقتضاب:-
– لأ .. اقفل المطعم في الميعاد أنا هفضل هنا..
شعر عبد الرحمن بالحزن لأجله، فهو يعلم ما مرّ به يعقوب جيدًا..
للحظة شعر بالندم أنه كذب عليه بشأن رِفقة فالحُسن الحظ رِفقة لسببٍ ما لغير العادة لم تأتي اليوم ويبدو أن هذا سبب حزنه وانزعاجه، وأوشك أن يُخبره بحقيقة الأمر لكنه تراجع، فهو يرى إهتمام يعقوب بأمر رِفقة على غير عادته فليتركه يُخرج ما بجعبته..
وخرج عبد الرحمن بعد أن قال بإبتسامة ماكرة:-
– تمام .. تصبح على خير يا بوب وأشوفك بكرا..
تمدد يعقوب فوق الأريكة وهو يسحب اللاب توب أمامه يُشاهد تلك السجلات بلا ملل لا يعلم سببه … يتسائل كيف له أن يلتقيها؟!
لكن لماذا!!
لماذا يريد لُقياها.؟!
ظلت العديد من الأسئلة تدور بعقله حتى غفى وذهب بثباتٍ عميق لتكون هي سيدة أحلامه للمرة الأولى..
________بقلم/سارة نيل________
بصباح يومٍ جديد حملت شمسه الكثير من المفاجأت..
جلست أمل بجانب شيرين تهمس:-
– متأكدة إن خطتنا هتنجح، إنتِ واثقة إن هي هتخرج..
– أيوا يا بنتي متقلقيش هي أصلًا محضره هدومها من بليل … وبعدين إحنا خلصنا كل حاجة من غير ما هي تحسّ أصلًا…
ضحكت أمل بخبث قائلة:-
– دي هتبقى مسخرة يا بنتي …يلا خلي إللي يسوى وميسواش يتفرج عليها..
هتبقى فضيحة..
قالت شيرين بحقد دفين:-
– تستاهل خليها تشرب …فاكره زمان وإحنا صغيرين كانت بتتنطط علينا إزاي وكانت الدلوعة بتاعة الكل ورِفقة راحة ورِفقة جات..
دلوقتي كل حاجة اتقلبت، هي إللي بقت محتاجلنا .. بقت عاجزة وعالة على غيرها..
لا أهل ولا جمال بعد ما اتعمت ولا أي حاجة وابقى قابليني مين هيقبل ببنت عامية زيها.
↚
أما عند رِفقة التي استيقظت وغسلت وجهها وأخذت ترتدي ملابسها بهدوء ثم خرجت بعدما سمعت بوق سيارة الأجرة الخاصة بالعم أشرف يُخبرها بوصوله..
ابتسمت وهي تهبط الدرجات بهدوء تساعدها عصاها حتى وصلت ليفتح لها العمّ أشرف الباب وهو ينظر لها بتعجب شديد متسائلًا لماذا تفعل رِفقة مثل هذا الشيء..؟!
– إزيك يا عمو أشرف، عامل أيه يا طيب.
تنحنح الرجل مستفيقًا محركًا رأسه وهو يُقنع عقله أن هذا ربما لحاجةٍ في نفسها ولم يُرد إحراجها..
ردد بطيبة وحنان:-
– الحمد لله في فضل ونعمة يا بنتي..
– ربنا يزيدك يارب..
بعد قليل كانت سيارة الأجرة تقف أمام مطعم 《بوب》 لتهبط رِفقة مُبتسمة وهي تسير نحو المدخل الذي يبعد عنها ثلاث خطواتٍ فقط..
في هذا الأثناء عندما يأس يعقوب من الإنتظار أقنع نفسه أن يخرج ليُبدل ملابسه ويُخرج هذا الهوس من عقله..
كان على وشك الخروج لكنه تسمرّ وهو يراها تدلف بإبتسامة واسعة جعلت السعادة تشق قلبه..
لكن كان لمن في المطعم رأيٌ أخر، فَفور أن وقعت أنظارهم على رِفقة توسعت بصدمة ومنهم من انفجر ضاحكًا..!
خرج صوت أحد الشباب الساخر والذي جعل يعقوب وطاقم العمل يستفيقون من صدمتهم، ليقول وهو يرشق رِفقة بنظرات محتقرة:-
– ودي طريقة جديدة لجذب الأنظار ولا أيه!!
لتكوني مفكرة نفسك ظريفة ولا حاجة..
رنّ صوت ضحكات أحد الشباب المختلطة بالفتيات المُجلجلة لتقول إحداهنّ:-
– شكلها شبه المهرجين..
– قصدك الشحاتين!
– أنا مش عارف إزاي سمحوا لواحدة زي دي تدخل مكان محترم زي ده..!
– تلاقيها داخله تسترزق يا ابني، يا عمّ الأشكال دي كترت أووي، والمشكلة إنها عاملة نفسها عامية، الناس دي مش خايفة ربنا يبليها بجد..!
اختلط لغط الجميع بينما رِفقة فكانت تقف بالمتتصف تشعر أنّ العالم يدور حولها، لا تفهم ما الذي يحدث!!
وهل هي المقصودة بهذا الحديث..؟!
إذًا لماذا!!
لماذا يقولون مثل هذه الأشياء الجارحة..؟!
ارتجفّ قلبها وتجمدت دموعها وهي تقبض على عصاها لا تعلم كيف تتصرف! تشعر نفسها غارقة..
بينما على الناحية الأخرى، كان هناك يــعــقـــوب..
شكّلت تلك الكلمات حلقة كانت تدور حول أذنيّه وبعقله، شعر وكأن خنجرٌ بارد يخمش بقلبه وهو يراها بمثل هذه الحالة..
حتمًا هو تصرف غير أخلاقي من أُناس نُزع من قلبهم الإنسانية والرحمة..
قبض على كفيّه حتى ابيضت مفاصله، ونفرت عروق عُنقه ووجهه وأعينه أصبحت تنضح نارًا أُضرِمت في قلبه قبل أعينه..
حينها ركضت آلاء وبعض الفتيات التي تعمل بالمطعم نحو رِفقة المرتجفة، سحبتها آلاء للداخل برفق وهي تقول:-
– تعالي جوا معانا يا رِفقة..
لكن قبل دخولهم زلزل كيانهم صوته الراعد صائحًا بهؤلاء المستهزئين:-
– برااا …كلكم برا ومعدتش أشوف وش كلب فيكم هنا …. يلا إنتَ وهي…
دي أطهر من أي حدّ فيكم يا أعمى البصر والبصيرة..
فِكركم إنتوا كدا حاجة كويسة وظريف إنتَ وهو لما تقعدوا تنكتوا على واحدة إنتوا مش عارفين ظروفها .. أكيد حدّ عديم الإنسانية والرحمة زيكم هو إللي استغل حالتها…
يلا براااا وممنوع دخول المكان ده تاني؛ لأن دا مكان محترم زي ما قولتوا ومش بيدخله ألا ناس محترمة وراقية..
وأخذ ينادي بعصبية شديدة:-
– عبد الرحمن … طلع شوية المهرجين دول براااا..
حرك عبد الرحمن المصدوم من ردة فعل يعقوب رأسه وأخذ ينفذ تعليمات يعقوب بسعادة من موقفه..
بالداخل كانت رِفقة تنكمش على نفسها وتبكي بإرتجاف وأخذت تقول بكلماتٍ مرتعشة:-
– آلاء بالله عليكِ فهمني في أيه .. يعني هما ليه كانوا بيضحكوا عليا وبيقولوا عليا الكلام الوحش ده .. قوليلي لو سمحتي في أيه..
تمزق قلب آلاء وجميع الفتيات التي كانت بالغرفة، سحبتها آلاء بين أحضانها وظلت تربت على ظهرها بحنان قائلة:-
– ناس مريضة .. متشغليش بالك يا رِفقة .. والأستاذ يعقوب أخدلك حقك..
تشبثت رِفقة بيدها وقالت برجاء:-
– لو سمحتي يا آلاء عرفني ..قوليلي علشان أرتاح..
اقتربت منهم أحد الفتيات وهمست بأذن آلاء:-
– لازم تقوليلها يا آلاء؛ لأن الواضح إللي عمل كدا حد هي بتستأمنه ومستغفلها وهي لازم تفوق وتعرف حبيبها من عدوها..
تنهدت آلاء ثم سحبت رِفقة للجلوس وقالت وهي مُمسكة كفيها برِفق:-
– مش عارفة مين عمل فيكِ كدا بس واضح إن حدّ معاكِ في البيت، واستغل نومك مثلًا..
في ميكب أب على وشك بطريقة فجة..
يعني روچ على بوقك لونه فاقع ومحطوط بطريقة عشوائية..
وحوالين عينك بألوان كتير فاقعة، غير الفاونديشن الفاتح إللي محطوط بطريقة مبالغ فيها والحُمرة إللي على خدودك..
أما فستانك الأبيض فهو مليان بُقع كتير، زيّ ما تقولي بُقع فحم على طماطم جافة وألوان معرفش أيه مصدرها..
هبطت تلك الكلمات على قلب رِفقة كالصاعقة، شهقت بصدمة واضعة كفها على شفتيها وأخذت تقول بتقطع من غير إستيعاب:-
– أمل وشيرين … طب ليه …ليه يعملوا كدا..
الناس دلوقتي إللي شافوني قالوا أيه عليا..
علشان كدا وأنا بغسل وشي الصبح كنت حاسة بحاجة غريبة كأن وشي جافّ … بس أنا مجاش في بالي والله … أنا متوقعتش يعملوا كدا..
دا أنا مستأمناهم .. ليه يضحكوا الناس عليا..
استضعفوني واستقوا عليا علشان أنا عامية…
احتضنتها آلاء بقوة وأخذت دموعها تهطل من هذه القسوة والشرّ الذي يملأ هذا العالم..
ما ذنبها ليفعلوا بها ما فعلوا..!
تأثر جميع من في الغرفة لكن هذا الماثل أمام باب الغرفة والذي سمع هذه الكلمات التي سقطت على قلبه كأنياب ليث مزقته..
زادت وتيرة أنفاسه وأخذ صدره يعلو ويهبط وهو غير متوقع إنعدام الضمير الذي وصل إليه البشر..
لكن مَن هم الفتاتين؟!
وكيف هي حياة رِفقة، وأين تسكن؟!
كل هذه التساؤلات وأكثر كانت تدور بفلك يعقوب، وهو في طريقه لمعرفة كل شيءٍ عنها ولن يتراجع أبدًا ولن يتركها مادامت الحياة تدق بجسده، فهي قد أصبحت تتشعب في حناياه شيءً فشيء..
في داخل الغرفة عملت الفتيات التي أحاطت رِفقة على إزالة ما على وجهها برِفق، لكن أردفت آلاء من بين أسنانها بغضب:-
– وكمان مُثبت، ومش أي مُثبت .. مثبت قوي كمان..
قالت أحد الفتيات:-
– علشان لو غسلت وشها ميتمسحش، كمية سواد في قلوبهم مش معقولة..
كانت رِفقة جامدة، تهبط دموعها فقط، تتوجع على نفسها وقلة حيلتها..
هل كل الحوادث التي مرت بها داخل منزلهم كانت عن قصد..!!
نعم كانت تتجاهل بعض الأشياء، مثل تلك الأيام التي يُخبروها أنهم لم يطهو الدجاج واللحوم وكانت تشتم الرائحة لكنها كانت تتجاهل الأمر..
لماذا!!!
لماذا هذا الحقد الدفين؟!
ماذا فعلت لهم لكل هذا!!
– جيبي مزيل المكياج يا إيمان من عندك..
حاوطها الجميع بحب وحنان وأخذوا يصلحون ما قاموا به هؤلاء الحاقدين ويحاولون إخراجها من تلك البؤرة..
هتفت آلاء بمرح:-
– إنتِ متعرفيش إللي كان مستنيكِ النهاردة..
يا سلام لو تعرفي يا بت يا ريفو..!
قلبها الصافٍ رغم الصدمة التي تلقتها لا يخذل أحد حتى في المزاح وإن كانت في أسوء حالتها..
رفعت وجهها النقي وأعينها التي أحمرت جفونها تتسائل بلطف:-
– يا ترى أيه يا آلاء قوليلي..
– يا ستي الأستاء يعقوب حب يقدملك إعتذار علشان اليوم إللي خرجتي فيه من قبل ميعادك..
ويا ترى أيه هو الاعتذار..
يعني مثلًا وجبات رِفقة المفضلة..
زي كريب النوتيلا .. كوردون بلو .. بيج ماك مثلًا..
ابتسمت رِفقة قائلة:-
↚
– تصدقي أنا كنت جايه متحمسة أووي وجعانة وناوية أكل كل الأكلات إللي بحبها لأن جعانة وبقالي يومين مأكلتش..
قالت آلاء بحماس وهي تمسح وجه رِفقة بالمنشفة:-
– وأيه يقلل حماسك يا ست الحلوين إنتِ…
إحنا هنطلع ناكل لغاية ما نشبع وبصي براحتنا بقااا …أستاذ يعقوب مشّى الكل..
سَبَح الحزن على وجهها وقالت بإنتباه:-
– صحيح هو بسببي طرد الكل ودا أكيد مش كويس للمكان … أنا حقيقي آسفة..
يعني لازم أعتذرله..
– متشغليش بالك يا رِفقة هو أكيد مش يشرفه وجود أشخاص زي دول في المكان..
– معلش يا آلاء بس أنا لازم أعتذرله وأشكره، ممكن تخرجيني ليه..
– إللي يريحك يا ست الحلوين، تعالِ يلا..
أسندتها حتى خرجت من الغرفة.
كان يعقوب يجلس عند أحد الطاولات يضع رأسه بين يديه والعديد من الأفكار تعصف به..
همست آلاء عند رؤيته في أذن رِفقة:-
– رِفقة .. هو قاعد هناك .. تعالِ هوديكِ لغاية الترابيزة..
– تمام..
شعر بأحد يقف فوقه، رفع رأسه ليرى آخر شيء توقعه، أخذ قلبه يطرق بقوة عند رؤيتها تقف أمامه بتلك الطلة الساحرة..
جرى صوتها الذي كان كترنيمة ساحرة بالنسبة له، تقول بلطف غير مصطنع:-
– أستاذ يعقوب … لو مش عندك مانع ممكن أقولك حاجة..؟
كان ينظر لها كالمسحور رغم محاولته في أن يبقى جامدًا أمام عبد الرحمن الذي يرميه بنظرات ماكرة ونظرات العاملين المُترقبة..
تنحنح وقال دون أن يشعر:-
– قولي حـــــاجـــــات..
أردفت رِفقة بعدم فهم:-
– نعم.!.
أجلى صوته وقال بتدارك:-
– أقصد اتفضلي..
ساعدتها آلاء في الجلوس لتجلس أمامه ثم شرعت تقول بأسف وحزن:-
– أنا بعتذر جدًا لحضرتك … أنا اتسببت في أذية كبيرة للمكان وحقيقي أنا مكسوفة جدًا .. يعني..
وقبل أن تُكمل حديثها قاطعها بحزم:-
– أنا عملت إللي المفروض يتعمل يا…
وصمت عن عمد، لتبتسم هي قائلة بخجل:-
– اسمي رِفقة…
ابتسم بإشراق وهو يتذوق اسمها سرًا بتلذذ، وهتف بمزاح مستجد على شخصيته ليجعل عبد الرحمن يفغر فاهه بصدمة:-
– وأنا يعقوب..
تنحنحت بحرج وهي تُبعد عيناها عن مرمى صوته وقالت:-
– شكرًا جدًا لحضرتك يا أستاذ يعقوب، إللي عملته مش هنساه أبدًا..
جزاك الله خيرًا..
ردد باندهاش:-
– جزاك الله خيرًا .. دي دعوة صحّ..
– أيوا … مستغربها ليه..!
– أصل أول مرة حدّ يقولهالي، بس حلوة .. عجبتني يا رِفقة..
لم يُرد أن يبني قبل اسمها ألقاب، وأكمل يقول باعتذار وندم صادق:-
– أنا إللي آسف على الموقف إللي حصل .. وأتمنى تقبلي الإعتذار المقدم من المطعم..
قالت بحُسن نية:-
– مفيش ولا إعتذار ولا حاجة، أنا مش زعلانة أنا كنت قلقانة على المطعم يمسّه ضرر .. وبعدين أنا خرجت زيّ زي أي زائر خرج..
ابتلع غصة مريرة بحلقه، فكيف إذا علمت أنه كان مثل هؤلاء الأُناس الحقيرة وقد ظنّ فيها السوء مثلهم!!
ماذا لو كانت تفلتت نفسه من عِقالها وخرج وأسمعها تلك الكلمات الحقيرة التي كانت تدور بخلده..
كانت ستكون القاضية له…
ولو ظلّ جالسًا هكذا للصباح لم يكن ليرتوي أبدًا، لكن ذلك الأهوج عبد الرحمن الذي تدخل بخبث قائلًا:-
– آنسة رِفقة اتفضلي على الترابيزة بتاعتك وأتمنى تقبلي إعتذارنا..
وواصل بمكر وهو بالكاد يُمسك ضحكاته:-
– وجزاكِ الله خيرًا..
عقدت رِفقة جبينها بتعجب بينما رمقه يعقوب بنظرات يتساقط منها الشرر، ويتواعده بالكثير…
تدارك عبد الرحمن نفسه وهو يدرك أن كذبته قد كُشفت والويلات له من يعقوب..
جاءت آلاء تساعد رِفقة تحت نظرات يعقوب الناقمة، ليسرع عبد الرحمن في الفرار من أمامه..
جلست رِفقة في مكانها المفضل ومن حولها الفتيات الذين أخذوا في المرح معها والمزاح حتى يُنسوها هذا الموقف الذي مرت به..
↚
كانت تضحك من قلبها وهي تشعر بالألفة بجانبهم بينما يعقوب كان بعالمٍ موازي غافلة هي عنه تمام الغفلة..
________بقلم/سارة نيل________
عندما أقبل المساء وأفاض الشفق على زاوية السماء كانت رِفقة تدلف للمنزل بهدوء خارجي..
سارت حتى الداخل، ورفعت صوتها بهدوء:-
– أمل … شيرين..
أتوا مسرعين حتى يشاهدوا ماذا حدث لها بعد هذا اليوم المليء بالسخرية، لكنهم تخشبوا حين شاهدوا وجهها الخالي من حقارتهم وملابسها النظيفة..
وقفت رِفقة أمامهم برِفعة ثم هتفت بجمود:-
– أنا عملت أيه فيكم علشان تعملوا كدا معايا..
يعني كان هدفكم تضحكوا الناس عليا وتخلوني مسخرة في الشارع..
أسرعت شيرين تقول ببكاء مصطنع:-
– ليه كدا يا رِفقة .. ليه سوء الظن ده إنتِ عمرك ما عملتيها..
دا أنا كنت عاملة مقلب فيكِ إنتِ وأمل..
عملت في أمل بردوه كدا وهي مأخدتش بالها..
أنا مكونتش أعرف إنك هتنزل النهاردة..
وكمان كنت هقولك يعني بس اتصدمت لما عرفت إنك خرجتي ومن ساعتها وأنا بعيط..
وانغمست في بكاءٍ كاذب، لتسرع أمل تقول:-
– أنا مش عارفة مالها رِفقة جاية حامية علينا من برا …أنا بردوه حصل معايا نفس الموقف بس ما أساءتش الظن في شيرين وعرفت إن الموضوع هزار….
يعني نهزر معاكِ مش عاجبك ومنهزرش مش عاجبك، علشان تعرفي إحنا بنتجنبك ليه.. علشان بتقفشي عالطول كدا..
عمومًا يا ستي محدش فين هيهزر معاكِ تاني..
وسحبت شقيقتها قبل أن تنبث رِفقة بأي كلمة..
لتقف شاعرة بالحيرة والندم من تسرعها..
لقد جعلت شيرين تبكي وأساءت الظن بها..
تنهدت بثقل وكانت على وشك الذهاب إليهم لكن أوقفتها زوجة خالها..
– رِفقة .. لو سمحتي عيزاكِ في كلمتين يا بنتي..
ابتسمت لها رِفقة لتجلس قائلة بطيبة:-
– أكيد طبعًا يا طنط عفاف..
– كنت عايزه منك طلب ويارب ما ترديني يا بنتي..
– اتفضلي أكيد يا طنط .. عيوني لكِ..
همست سرًا بسخرية:-
– أعمل بيهم أيه يا حسرة، هما لهم لازمة..
أردفت عفاف بصوت مرتفع بحسم مُباشر، كان أمر أكثر مما هو طلب ورجاء:-
– عيزاكِ …. تسيبي البيت..
– بصي علشان متفهمنيش غلط يا رِفقة..
خلاص ابني جاي وطبعًا وجودك في البيت هيبقى غلط يا بنتي وهيسبب كلام الناس..
بس أكيد أنا مش هسيبك كدا.
استمعت إليها رِفقة بهدوء لتُواصل عفاف حديثها:-
– إنتِ ما شاء الله أبوكِ سايبلك مبلغ كويس، وبصراحة في حاجة اتعرضت قدامي افتكرتك عالطول..
في شقة صغيرة كدا على قدك في مكان قريب مننا، يعني كام شارع كدا على الطريق..
وشقة لُقطة يا رِفقة هتفرحي بيها جدًا، صاحبها عايز يبيعها بالعفش وشقة راقية جدًا، هي أه صغيرة شوية بس شغالة..
أيه رأيك تشتريها..
خيم الصمت على رِفقة قليلًا، لكن رفعت رأسها وقالت بقوة:-
– أنا موافقة يا طنط عفاف، دا فعلًا القرار الصح..
انفرجت أسارير عفاف وشعرت بأن قلبها يرفرف بسماء السعادة، وهتفت بلهفة:-
– طب يلا بينا .. أنا عارفة محامي كويس هيكتبلنا العقد..
تعجبت من تسرعها متسائلة:-
– دلوقتي عالطول كدا..
قالت عفاف وهي تتحرك لترتدي ملابسها:-
– امال أيه، خايفة تروح علينا أصلهم مستعجلين عليها أووي ولها مشتريين كتير، مش بقولك لُقطة، إنتِ لابسه هدومك أهو، وأنا هلبس عالطول وننزل..
قالت رِفقة ببعض القلق من فكرة العيّش وحيدة، فكيف لها أن تتأقلم، الكثير من التساؤلات يعجّ بها عقلها..
– طب مش نستنى خالي..
أردفت عفاف مسرعة:-
– لا خالك أيه يا بنتي، خالك قدامه أسبوع على ما يجي من سَفرُه .. تكون الشقة طارت من إيدينا..
ومتقلقيش خالص يا رِفقة إنتِ زي بنتي وخايفة عليكِ، وأنا مش هتقطع من عندك.. هفضل رايحة وجاية عليكِ، إنتِ كدا كدا قريبة مني، هو يدوب شارعين بينا..
هأهتم بكل حاجة تخصك دا إنتِ بردوه أمانة الغاليين…
بس في مشكلة دلوقتي..
أردفت رِفقة بغفلة عمّا تنويه تلك الأفعى لها، وقد انطلت تلك الحيلة عليها وانخدعت في نعومة جلد تلك الحيّة..
– في أيه يا طنط .. مشكلة أيه..
قالت بمكر بنبرة حنون:-
– والله يا بنتي كان بوِدّي لو حيلتي حاجة كنت قدمتهالك بس إنتِ عارفة إللي فيها..
بما إننا هنكتب العقد فلازم ندفع الفلوس، يعني لازم تسحبي الفلوس من الفيزا..
ابتسمت لها رِفقة وهتفت بينما عقلها بدأ يرسم لها أنها ستحيا بمنزل دافئ هادئ وستجاهد لتتعلم طُرق التكيّف مع حياتها الجديدة..
– مفيش مشكلة الفيزا معايا وإحنا هنكون سوا، هقولك على الرقم السري وإنتِ اسحبيهم قبل ما نروح…
اتسعت إبتسامة تلك الشيطانة وقالت بطيبة مصطنعة:-
– على بركة الله يا بنتي…
وولجت للداخل ليسحبها كلًا من شيرين وأمل داخل غرفتهم وتبادر شيرين تتسائل بحقد:-
– هو إنتِ هتروحي تشتري الشقة فعلًا..!
وقالت أمل بعدم فهم:-
– فهمينا إنتِ ناوية على أيه.!
انبلجت إبتسامة شيطانية على فم عفاف وقالت بغموض:-
– اصبري عليا … مفاجأة من العيار التقيل..
بس أهم حاجة على ما أنا أرجع تجهزوا شنطة هدومها علشان هتغور بكرا..
وخرجت بصحبة رِفقة التي تجهل مصيرها الذي يقبع بين ثلاث شياطين…
********************
ولج للمنزل في وقت مُبكرًا بوجه يشعّ سعادة وراحة، أكمل سيره حيث غرفته لينطلق في فلك جديد بسماء هذا الحب الذي بدأ ينمو ويترعرع بقلبه..
– يعقوب تعالَ عيزاك..
أردفت لبيبة بوجه معقود وهي تجلس على أحد المقاعد العتيقة وبجانبها والد ووالدة يعقوب اللذان يرتسم على وجههم القلق من هذا الأمر الهام الذي تريد الجدّة لبيبة التحدث عنه..
زفر يعقوب وجلس بإهمال على أحد المقاعد ثم ردد ببرود:-
– نعم .. خير.
دقّت بعصاها الخشبية ثم قالت بهدوء ظاهري:-
– لغاية دلوقتي أنا صابره عليك يا يعقوب، بس إنت عارف ومتأكد إن إللي أنا عيزاه هو إللي هيمشي…
أظن كفاية لعب كدا وتسيبك من المطعم إللي شاغل نفسك بيه ده وترجع لعقلك وتشتغل بالمؤهل بتاعك، مكانك في الشركة مستنيك..
حرك رأسه بمعنى لا فائدة وأردف بسخط:-
– في حاجة تانية تقوليها قبل ما أطلع أنام..
↚
تزايد الغضب على ملامح وجهها لكنها انحنت تلتقط كوب القهوة خاصتها وترتشف بضع رشفات ثم أردفت بقسوة:-
– في فعلًا موضوع مهم تاني..
موضوع رجعوك مفيش أدني شك بحصوله، يعني أقل حاجة فروع مطعمك إللي فرحان بيها دي، يوم مشرق منعش يوصلك أخبار بحريق المطاعم بتاعتك أو بلاغات للمسؤولين بوجود مواد غذائية فاسدة بتستعملها وساعتها مش هيبقى لمطعمك وجود وهيكون إنتهى أمره..
المهم الموضوع التاني..
مش أظن جه الوقت إنك تتجوز بقاا .. كفاية كدا..
شهقت والدة يعقوب وصُدم والدهُ، لكن لم تتبدل ملامح يعقوب وظلّ محتفظًا بهدوءه، ثم تسائل بابتسامة ساخرة:-
– ويا ترى مين بنت الحلال إللي عليها العين والنية يا لبيبة هانم، إللي حضرتك شيفاها مناسبة.
رمتهُ بنظرة ثاقبة ثم أجابت بهدوء:-
– مع إنك بتتريق بس هجاوبك..
بنت فاضل زكريا .. بنوته مناسبة ليك ومن مستوانا وتناسب اسم عائلة بدران، والجوازة هتوطّد علاقة العيلتين والشغل إللي بينا..
استقام يعقوب بطوله الفارع واضعًا كفيّه في جيبه ثم أردف بنفس هدوءه:-
– تصبحي على خير يا لبيبة هانم..
وصعد لغرفته وهو يُصفر باستمتاع وكأن شيئًا لم يحدث ليجنّ جنون لبيبة وهي تصرخ بغضب:-
– يعقوب …. يعقوب.. استنى هنا.
لكن لا حياة لمن تنادي، صعد لغرفته يستلقى فوق الفراش بعد أن بدل ملابسه ثم وضع على حاسوبه المحمول تلك المقاطع التي تضحك بهم رِفقة بإشراق وسعادة وبقى يشاهدها قبل أن يذهب بنومٍ عميق..
بينما في الأسفل..
قال حسين والد يعقوب باعتراض:-
– لو سمحتي يا أمي إللي بتعمليه ده غلط وأنا مش هسمح بيه أبدًا…
رشقته بنظرة حادة واستقامت ذاهبة نحو غرفتها بغضب..
ولم تلبس إلا قليلًا حتى رفعت هاتفها وفور أن أجاب الطرف الأخر قالت آمرة بصرامة شديدة وحسم:-
– من بكرا كل خطوات يعقوب توصلني..
كل حاجة تخصه، بيعمل أيه، وأيه علاقاته..
الصغيرة قبل الكبير عايزه أعرفها عنه..
تراقبه بكل دقة وتوصلني المعلومات أول بأول..
– أمرك يا لبيبة هانم…
*******************
صباح يوم جديد استيقظت رِفقة بنشاط، أدّت صلاة الضحى وبقت تقرأ الأذكار ثم تلته بوِردها في القرآن..
وقفت بجانب النافذة وهمست برجاء ويقين:-
– يارب كُن معايا وكُن ليا الصاحب يارب..
حياة جديدة أنا مش عارفة هيكون فيها أيه بس واثقة وعندي يقين بيك، وعارفة طالما أنا معاك مش هتوه أبدًا وواثقة إنك هتفضل معايا ومش هتسبني أبدًا..
أنا مليش أي حيلة يارب غير إنِّ معتمدة عليك وتوكلي كله عليك، قلبي مليان بالرضا وعندي أمل كبير، خلي الخير والسعادة كلها في طريقي..
ثم خرجت بهدوء من غرفتها لتُلاقي الثلاث أفاعي اللواتي يكِدنّ أن يُقِيموا الأفراح لخروجها من منزلهم اليوم غير تلك اللعبة القذرة التي قامت بها عفاف بالأمس..
– أنا هخرج شوية وهرجع عالطول يا طنط..
قالت عفاف مسرعة:-
– هبقى أكلمك وأقابلك بالشنطة بتاعتك ونروح من برا برا شقتك الجديدة، أرتبلك فيها أمورك وحالك، إحنا ميعادنا أخر النهار..
ابتسمت لها رِفقة وقالت بطيبة:-
– خلاص يا طنط، وشكرًا جدًا على كل حاجة عملتيها علشاني وقدمتوها ليا، وعيزاكِ تعرفي إن كل إللي عملتيه علشاني ربنا هيجازيكِ مثله..
أنا مش بإيدي مقابل أديهولك بس هدعي ربنا يجازيكِ بأعمالك معايا، وربنا كريم أووي..
لم تبالي عفاف بما قالته رِفقة، جُلّ ما يشغلها ما اكتسبته وغفلت أن الله رقيب .. عزيزٌ منتقم..
بعد قليل كانت رِفقة تجلس خلف طاولتها في مطعم “البوب” الخاص بيعقوب، كانت ترتشف مشروبها البارد بشرود وهي تفكر بأشياء عديدة حتى قاطعتها آلاء بقولها:-
– الجميل ماله النهاردة .. سرحانة في أيه.!
أردفت رِفقة بحماس وابتسامة واسعة:-
– تعرفي يا لولا النهاردة هنقل لشقتي، اشتريت شقة خاصة بيا وهستقر فيها..
طفق الحزن على وجه آلاء وتسائلت بقلق:-
– طب وهتبقي لواحدك يا رِفقة؟!
واصلت بنفس الحماس:-
– ربنا معايا أحسن من أي حد..
بس متقلقيش مرات خالو هتجيلي عالطول، وأنا عندي أمل إن ربنا هييسرها وهيتكفل بيا وهيوقفلي ولاد الحلال إن شاء الله..
وأنا أبدأ بقى أعتمد على نفسي، وبصراحة أنا مش زعلانة من مرات خالو، هي عندها حق بردوه، ابنها هيجي وهي أم وحقها تشبع بابنها، لو كنت فضلت قاعدة كان ممكن يروح يعقد في فندق ودا ميصحش..
أردفت آلاء ببعض القلق:-
– ربنا ييسرك كل عسير يارب يا رِفقة ويحفظك من كل سوء، حقيقي إنتِ جميلة وتستاهلي كل خير…
وواصلت بمرح:-
– وأنا لو فضلت أرغي معاكِ كدا مش هبطل ولا هشبع من كلامك وبعدين أنطرد من الشغل..
يلا أروح أشوف شغلي وأبقى أرجعلك..
– ماشي يا لولا ربنا يعينك يارب..
ورحلت آلاء وتركتها تحت أعين هذا الصقر الذي لم تبرح أعينه من فوقها يشاهدها من خلف زجاج مكتبه بشرود وشيء واحد فقط يدور بعقله…
لقد قرر وانتهى الأمر..
هذا هو القرار الصحيح .. وما يشعر به حقًا..
سيتبع شعوره واللعنة على غروره..
خرج بخطوات رزينة ثابتة حتى وقف أمامها..
تنحنح وقال بهدوء:-
– رِفقة…
رفعت رأسها بإبتسامة نقيّة وهتفت:-
– أستاذ يعقوب!
– عرفتيني عالطول كدا إزاي؟!
– أنا بحفظ الأصوات من أول مرة أتكلم مع الشخص ومش بنساها أبدًا.
حرك رأسه وقال:-
– ممكن تسمحيلي .. عايزك في موضوع..
عقدت حاجبيها بتعجب ونبض قلبها بغرابة لتتشدق بتقطع لتوترها:-
– أكيد …اتفضل..
جلس يعقوب بشموخ ومباشرةً ودون أدنى تردد أردف وهو يُعلن رفع راية المُحاربة لأجلها ولأجل قلبه، فدائمًا هو شخص صريح وتلك مرتُه الأولى التي يشعر وكأن قوة ما خفيّة تقوده إليها:-
– اتـــــجــــوزيــــنـي..
– “اتـــــجـوزيــنـي”
سعلت بشدة والكلمة تتردد بعقلها بإلحاح، توسعت أعينها بصدمة وظلت تفتح أعينها وتغلقها بعدم تصديق..
ابتلعت ريقها بصعوبة لتسحب كوب الماء ترتشف منه بتوتر، وابتسمت بشحوب وقالت بنبرة خرجت متقطعة متحشرجة:-
– أستاذ يعقوب … هزارك مختلف أوي يعني..
أقصد يعني…
قاطعها يعقوب بجدية وهو يستند على الطاولة:-
– أنا مش بهزر أبدًا يا رِفقة، زي ما أنا قولتلك أنا بحب أكون واضح ومش بعمل أي حاجة أنا مش مقتنع بيها..
خدي وقتك في التفكير، وعلشان تعرفي يعني أكيد طلبي فاجئك بس مكانتش أول مرة أشوف يوم الموقف إللي حصل..
هعرفك على نفسي .. أنا يعقوب بدران عندي ٣٠ سنة .. عندي سلسة مطاعم دا واحد منهم ودا كان حلم حياتي وخريج هندسة إلكترونية بس مش شغال بالمؤهل بتاعي..
كانت رِفقة تشعر بأن العالم يدور حولها، ما هذا الذي تسمعه ليُكمل يعقوب يقول:-
– أكيد بتسألي دلوقتي عايز تتجوزني ليه..
هقولك علشان أنا جوايا عايز كدا، وإحنا مناسبين جدًا لبعض .. وفي سبب تاني أكيد هتعرفيه بس بعد ما نتجوز..
توسعت أعين رِفقة من هذه الجُرأة وشعرت بالخجل لكنها تجرأت تقول باعتراض:-
– يعني إنت ما شاء الله عندك كل حاجة ومحوطاك كل النِعم، وحسيت نفسك من جوا عايز تتجوز وأنا طلعت قدامك يبقى خلاص هي دي..!
تنهد يعقوب ثم أردف ببعض السخط:-
– مين قالك إن عندي كل حاجة .. عادي أنا عندي إللي عند الكل بل أقل من ناس كتير واتاخد مني كتير.. حياة عادية..
ابتسمت رِفقة وأردفت بيقين ورضا:-
– العادية إللي بتقول عليها دي نعمة كبيرة، حياتك كلها مليانة نِعم، قعدتك دي وإنك قادر تتكلم وتاكل .. الصحة والعافية والنفس إللي بتتنفسه دا نعمة كبيرة، أهلك وأصحابك، بص على الناس إللي حوليك وإنت تعرف … لازم تملى قلبك بالرضا وتحمد ربنا على كل نِعمُه عليك.
قال بتلقائية دون أن يقصد:-
– إنتِ بتقولي كدا بس علشان إنتِ عامية، يعني علشان ناقصك حاجة…
تخشبت رِفقة للحظات ومعها يعقوب الذي لم يُصدق ما تلفظ به ليُسرع يقول مُتداركًا:-
– أنا مقصدش كدا .. أنا آسف .. أنا أقصد يعني إنك حاسه بقيمة النِعم..
انقشعت غيمة الحزن التي حلّت على وجه رِفقة سريعًا وطفقت تهتف بإبتسامة رضا:-
– أنا عارفة إن عامية ومش بشوف إنت مقولتش حاجة جديدة … سمعتها كتير من غيرك، إنت لا أول ولا أخر واحد تقولها..
بس الحمد لله أنا راضية جدًا يا أستاذ يعقوب لأن أخذ الله عطاء بشكل أخر، أنا اتحرمت البصر بس لم أُحرم من نور البصيرة، ودي في حد ذاتها نعمة لا تُقدر بتمن..
أنا أبدًا مش ناقصة حاجة .. أيه البصر مقابل نِعم كتير ربنا عطهالي، أنا مديونة بكتير أووي لرب العالمين …لو فضلت عمري كله أعبده مقابل نعمة واحد مستحيل أوافي منها شيء..
واقفة بصحتي وعافيتي ومستورة، كل يوم بتنفس وبحسّ بالجمال إللي حوليا، مش علشان حاجة واحدة بس اتحرمت منها تسود جمال الدنيا في عيني، بشوف الجمال بقلبي وبحس بيه ودا يكفيني..
أنا راضية أووي يا أستاذ يعقوب ومش بعتبر أي حاجة ربنا عطهالي عادية، كل نعمة مُميزة، حتى العَمَى تمييز…
ربنا ليه حكمة في كل شيء ومش بيحرمنا من حاجة ألا رحمة بينا لأن أنا عندي يقين إن ربنا رحمن ورحيم بيا أكتر من نفسي وواثقة إن دا أختبار ولازم أنجح فيه علشان المكافأة إللي منتظراني..
كان يعقوب ينظر لها مأخوذًا بها مبهورًا بهذا الرضا الذي يملأها واليقين الذي يشع من عينيها وكم استحقر ذاته أمامها، شعر بالخجل وجاء يتحدث ليجدها تقف وتقول بهدوء:-
– عن إذنك لازم أمشي..
وخرجت تحت صدمته لكنه استيقظ وهو يتبعها بلهفة للخارج وهتف يقول بأسف:-
– رِفقة استني .. أنا مقصدش حاجة وحشة..
حركت رأسها وجاءت تُكمل المسير لكن أوقفها صراخ يعقوب المرتعب:-
↚
– رِفقة …أقفي عندك أوعي تتحركي..
وأسرع يعقوب حتى أصبح أمامها ثم انحنى أمام أقدامها يُلملم قطع الزجاج المتهشمة وهو يقول:-
– كان في قزاز قدامك .. كنتِ هتنجرحي..
بداخل المطعم كان كلًا من عبد الرحمن وآلاء وغيرهم من الفتيات ينظرون من خلف الزجاج المُطلّ على الشارع بأفواه متسعة لا يصدقون ما يرون..
همس عبد الرحمن بدهشة متسائلًا:-
– هو في أيه .. مكونتش أعرف إن الموضوع هيوصل معاك لكدا يا يعقوب باشا، دا إنت شكلك متبهدل!!
ابتسمت آلاء وضحكت الفتيات ليُسرع عبد الرحمن بتدارك نفسه متنحنحًا يقول بحزم:-
– في أيه يا بنات .. يلا كل واحد على شغله..
بينما رِفقة فقالت بإمتنان:-
– جزاك الله خيرًا.
يا الله .. كم يعشق تلك الجُملة وكأنها تُربِت عليه وتُدثره..!
اعتدل يعقوب وهتف بنبرة صادقة وأعين أضحى ينصب منها العشقُ والحنان صبًا صبا:-
– صدقيني يا رِفقة أنا معنديش أيه مشكلة فيكِ ولا شايفك إنك ناقصة حاجة، بالعكس اليومين إللي عرفتك فيهم كانوا يكفوا ويوفوا إنهم يعرفوني إنك أنقى وأطهر حد قابلته في حياتي..
إنتِ إنسانة قوية وشجاعة وأنا لا شفقان عليكِ ولا شايفك ناقصك حاجة..
وأكمل بداخله سرًا:-
– أنا إللي ناقص وكلنا إللي ناقصين..
وافقي بس وأنا هرجّع كل اندفن في يعقوب وهاخدك وأبعد بيكِ لأخر مكان في الدنيا وخلي السعادة تاج على راسك وهعيش معاكِ كل إللي اتحرمت منه .. بس فرصة واحدة .. أنا استحق فرصة واحدة كتعويض لكل إللي شوفته، أنا تعبت من القيود إللي محوطاني وعايز أتخلص منها..
ضيق عينيه وهو يتأمل خجلها والشفق الذي طفق على خديها ليلحظ هذا الضماد الذي يغطي جانب جبينها، كيف لم يلحظه مسبقًا!!
لقد كانت لهفته لرؤية رِفقة فقط تُعمي عينيه عن رؤية ما سواها…
استفهم بخوف:-
– أيه الجرح إللي فوق جبينك ده .. أيه إللي حصل..
رفعت أصابعها تتحسيه لتُجيبه برقة غير مصطنعة:-
– دي حاجة بسيطة … ولاد خالي كانوا غيروا ديكور البيت وأنا اتخبط غصب عني..
عَلا رنين هاتف رِفقة فأخرجته من جيبها وأجابت بهدوء:-
– السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لم تكن سوى عفاف زوجة خالها التي قالت:-
– أنا راكبة التاكسي وقربت منك انتظريني برا..
أردفت لها رِفقة بوِد:-
– متقلقيش يا طنط عفاف أنا منتظراكِ برا..
تحركت رِفقة بعيدًا عن يعقوب بعد أن قالت بلطف:-
– بعد إذنك هنتظر مرات خالو..
سمعت صوت إنذار يُعلمها بإقتراب نفاذ بطارية الهاتف لتقول براحة:-
– الحمد لله إن لحقت أرد عليها قبل ما تخلص شحن..
ولم تلبس إلا يسيرًا وقبل أن يُجيبها يعقوب كانت سيارة أجرة تقترب من رِفقة حتى توقفت أمامها تحت نظرات يعقوب الدقيقة جدًا…
قالت عفاف بلُطف مصطنع بينما ملامح وجهها تنضح شرًا وكُرهًا تجاه رِفقة:-
– يلا يا رِفقة .. يلا يا حبيبتي..
لا يعلم يعقوب لماذا انقبض قلبه عندما وقعت أنظاره على تلك السيدة والذي أيقن من النظرة الأولى لوجهها أنها تضمر شرًا لرِفقة وقد كان واضحًا جدًا من طريقتها في النظر إليها..
بقى يعقوب ينظر لأثر السيارة بشرود ولا يعلم ما الذي انتابه، رفع كفه يقبض على قلبه ليهمس بقلق:-
– هو أنا ليه قلبي مقبوض كدا!!!
********************
ولجت رِفقة بصحبة زوجة خالها إلى تلك الشقة، لتُسرع عفاف بوضع الحقيبة الخاص برفقة في أحد الزوايا وتقول:-
– شقة جميلة تشبهك يا رِفقة، يارب تكون وشّ السعد عليكِ…
وأكملت تقول بأسف مصطنع:-
– معلش يا بنتي شيرين عن دكتور الأسنان ولازم أكون معاها هضطر أسيبك بعد ما أطمنت عليكِ وإن شاء الله هرجعلك تاني..
تساءلت رِفقة ببعض القلق:-
– مش بيتكم قريب من هنا..
أجابت الأخرى بكذب:-
– بينا وبين بعض شارعين بس يا حبيبتي متقلقيش..
أهدتها رِفقة إبتسامة جميلة وقالت:-
– شكرًا جدًا يا طنط عفاف وألف سلامة على شيرين أبقي سلميلي عليها..
ضحكت عفاف بشماته وقالت وهي تخرج مسرعة وكأنها تتخلص من حملٍ ثقيل يقبع فوق أكتافها:-
– الله يسلمك يا رِفقة..
↚
وقفت رِفقة وحيدة بحيرة لتهمس لنفسها بشجاعة:-
– طب أنا دلوقتي هتعرف على الشقة إزاي..!!
تقدري تعمليها لواحدك يا رِفقة يا قمر إنتِ، بس أهم حاجة ألاقي العصاية بتاعتي..
وتحركت وهي تقول:-
– يا ترى طنط عفاف حطتها فين..
اصتدمت ساقها بقوة في شيء صلب لتسقط بألم شديد، إتكأت تجلس وهي تُدلك موضع الألم، استقامت مرة ثانية تقف بتيهة والظلام فقط يحاوطها، تحركت بضع خطوات لتتعثر بأحد المقاعد وتسقط مرةً أخرى بألم ويسقط المقعد الثقيل فوق ساعدها..
– اااه … أيه الوجع ده، أنا لازم ألاقي عاصيتي علشان أعرف أمشي..
ظلت تُدلك ساعدها بألم فقد تركت تلك الصدمة كدمة زرقاء فوق ذراعها بالتأكيد لم تراها رِفقة..
استقامت من جديد وأخذت تتحسس الأشياء حولها وتسير بحذر لكن تلك المرة كانت الصدمة القوية من نصيب خصرها..
لكن لم تيأس رِفقة وبقت تحاول وتسقط لتستقيم وتحاول ليُصبح جسدها وذراعيها خرائط كدمات زرقاء..
سقطت فوق ركبتيها بعجز لا تعلم بأي ركن هي من المنزل، لا تعلم كيف تعود للباب الرئيسي لتطلب المساعدة..
لكن مِن مَن ستطلب، وكيف تأمن؟!!!
عجز تام تشعر به..
مضت ساعات وحلّ الليل وهي تجلس بنفس البقعة بمكان غريب لا تعلم كيف تصل حتى للمرحاض..!!
همست بفضول وهي تضم جسدها إليها:-
– يا ترى الشقة دي شكلها أيه..
تحسست الأرضية لتجدها مليئة بالغبار تنهدت بحزن لتهمس:-
– أعمل أيه يارب … ساعدني إنت الحنان وأنا العاجزة وإنت القادر..
استقامت وواصلت تحسسها حتى وقع كفها على مقبض باب، أدارته بسعادة وولجت للداخل لتكتشف بأنها غرفة نوم عندما وصلت للفراش…
قالت رِفقة بإختناق:-
– ياااه الدنيا كاتمة أووي هنا، أما أشوف أي بلكونة ولا شباك هنا..
وظلت تبحث بترقب حتى وجدت باب الشرفة، ابتسمت وهي تقول بسعادة:-
– دي أحلى حاجة بقاا .. بحب البلكونات أووي وهتلاقي الجو دلوقتي أيه …جميل..
افتحها أشم شوية هواا، ومرات خالو قالت إن الشقة في الدور الخامس يعني الجو هيكون لطيف في البلكونة..
ظلت تحاول فتحها لتجدها مغلقة بشدة والكثير من المسامير معكوفة ومثنية على فتحة الباب…
حماسها لم يجعلها تتراجع وظلت تُبعد كل مسمار على حِدة وحركت المزلاق لتنجح أخيرًا بفتحها ليُقابلها موجة هواء شديدة جعلتها تضحك بسعادة وخطت خطوة للخارج جاهلة أن الشُرفة دون جدار ولا يحفها سور وإن مدّت قديمها خطوتين ستهوي أرضًا من الطابق الخامس……..
– تعرفوا أيه عن رِفقة..؟
سؤال ألقاهُ يعقوب بنفاذ صبر لكلًا مِن عبد الرحمن وآلاء الماثلان أمامه واللذان تفاجئا من صراحته..
هتف عبد الرحمن يتسائل بمكر:-
– ليه.!!
صاح يعقوب ببوادر غضب:-
– ما تخلص يا عبد الرحمن وبلاش الأسلوب ده معايا والبرود ده، أنا على أخري..
قال عبد الرحمن بتهكم:-
– سلامة أخرك يا يعقوب باشا، بس أنا معرفش حاجة عن آنسة رِفقة ألا إنها من رواد المطعم من فترة طويلة جدًا..
وجه يعقوب أنظاره لِألاء وقال بصوت صَلب والظنون تفتك به:-
– قولي إللي تعرفيه يا آنسة آلاء وياريت تكوني عارفة عنوان بيتها..
احتفظت آلاء بهدوءها وأردفت بقوة وشجاعة:-
– لما أعرف حضرتك عايز أيه من رِفقة، يعني أعرف النية خير ولا لأ..
رمقه عبد الرحمن بشماتة ورمق آلاء بتقدير على ما فعلت ليجعلوا يعقوب على شفا حافة الجنون والغضب، ألقى أحد المزهريات التي أمامه على طول ذراعه واستقام صارخًا بسخط من بين أسنانه:-
– مش محتاج أبرر لحد تصرفاتي ومش عايز أعرف منكم حاجة .. أنا هعرف كل حاجة بطريقتي..
وخرج وهالة من الغضب تحاوطه والأرض ترتج من أسفل أقدامه..
ركب سيارته بملامح وجه متشنجة وانطلق نحو منزله وبداخله عزم للوصول إليها والتخلص من تلك القبضة التي تُحيط قلبه..
وقبل أن يصل لقصر آل بدران ارتفع صوت رنين هاتفه، أخرجه وهو يزفر ليجد المتصل “كريم” اليد اليُمنى لِلبيبة بدران..
لوى ثغره وهو يُجيب بضجر:-
– خير يا كريم!!
أتى صوت كريم من الجهة الأخرى متوتر بعض الشيء:-
– بصراحة كنت عايز أقولك على حاجة يا يعقوب، بس أنا عارف إن دي خيانة لِلبيبة هانم بس مقدرتش أعمل كدا..
ضيق يعقوب عينيه وقال بتساؤل مهتم:-
– اتكلم عالطول يا كريم .. أيه إللي حصل..!!
– بصراحة يا يعقوب لبيبة هانم طلبت مني أوصل كل تحركات لها، كل حاجة إنت بتعملها، علاقاتك وشغلك .. بتقابل مين وبتعمل أيه..
وأي حاجة جديدة في حياتك وأي تفصيلة تكون عندها .. بصراحة أنا مش قادر أعمل كدا…
مقدرش أخون ثقتك إنت كمان بعد المعروف إللي عملته معايا … وبالذات لو وصلت الأخبار إللي عرفتها لِلهانم … الأخبار إللي تخصّ رِفقة، البنت مش حِمل لبيبة بدران ولا حِمل عمايلها…
اشتعل صدر يعقوب بالغضب وعاصفة عنيفة ضربت جدران قلبه وقد تحفزت كل خلية من خلايا جسده وقدح الغضب من عينيه وهو يقبض بشدة على المقود حتى ابيضت مفاصله، أردف ببطء كلماتٍ مُحذرة كانت تنفث سعيرًا بوجه مُقطب:-
– إياك يا كريم …إياك حروف اسم رِفقة تذكرها قدام لبيبة، اقسم برب العباد يا كريم لأكون مخلص عليك … لا لبيبة ولا إنت لسه تعرفوا يعقوب يقدر يعمل أيه..
أنا لسه محتفظ بهدوئي بس لو الموضوع وصل لها هحرق الكُل ومش هيهمني لا غالي ولا عزيز، ساعتها أقسم برب العزة هتشوفوا وش متعرفهوش أبدًا… مــــــفـــــــهــــــوم..
جأر بالكلمة الأخيرة بوجه محتقن نافر العروق ليسمع صوت كريم يقول بعتاب:-
– عيب يا يعقوب أمال أنا اتصلت بيكِ ليه، أنا بنبهك تاخد حذرك … واتأكد إن لبيبة هانم مش هتعرف أي حاجة تخص الموضوع ده أبدًا…
أردف يعقوب بنبرة متأججة بنار مُستعرة:-
– وأنا مش هسمح بغير كدا أصلًا…أتجوزها الأول بس وتبقى في حمايتي وتحت عيني وأنا ساعتها لا يهمني لبيبة ولا غيرها، هواجه بيها العالم كله..
↚
وأغلق الهاتف وأكمل طريقه ليكون بعد دقائق أمام أبواب القصر الذي لا ينتمي إليه البتة..
أخذ يضربه بنظرات ناقمة وولج للداخل بخطوات مشتعلة..
– يعقوب فينك دا كله، بقالنا كتير بنتصل بيك موبايلك مقفول..!
استدار يعقوب برأسه يرميه بنظرات باردة مُقطب ما بين حاجبيه ثم أردف بلامبالاة صريحة:-
– أيوا ما أنا حاظر أسماءكم كلكم..
شحب وجه يامن شقيق يعقوب الأصغر وسرعان ما قال بإستياء:-
– أنا مش عارف ليه كل تصرفاتك دي يا يعقوب باشا، دا كله علشان إللي عملته تيتا وإن بابا وماما مكانوش معاك، ما دا كله لمصلحتك وليك بلاش أنانية وانسى بقا وخلينا نعيش أسرة واحدة..
اكتفى يعقوب بأن يرميه بنظرة نارية مشمئزة ثم أزاحه من طريقه ببرود وحِدة وأكمل سيره نحو الأعلى لكنه توقف على قول يامن:-
– مش تسلم على الضيوف الأول قبل ما تحبس نفسك، دي لبيبة هانم عزماهم مخصوص علشان خاطرك ومش بطلت إتصال بيك، أحرجتها أووي قدام ضيوفها وهي على أخرها..
لم يُلقي بالًا لحديثه وأوشك أن يُكمل طريقه لكنه توقف حين رأى جدته بصحبة فتاة ما … ورجل الأعمال “فاضل زكريا”، علم على الفور من تكون الفتاة..
أغمض أعينه بمعنى لا فائدة وألم فمازالت جدته تُصدق بأنه مازال سجينها، ألا تعلم أن السجّان يتمرد ويتجبر..
قالت لبيبة بهدوء وهي تنتصب في وقفتها بشموخ تتكأ على عصاها:-
– أهو يعقوب وصل … سلّم على فاضل بيه وبنته الآنسة غادة يا يعقوب..
قلب يعقوب عينيه والتفت يصافح الرجل بوقار وقال باقتضاب:-
– أهلًا وسهلًا .. نورت يا فاضل بيه..
بادله فاضل بوِدّ وأردف:-
– أهلًا بيك يا يعقوب يا ابني .. دا البيت منور بأهله..
تدخلت لبيبة تقول بوقارها المُعتاد:-
– زي ما قولتلك يا فاضل .. يعقوب أكيد كان عنده شغله علشان كدا اتأخر في الرجوع..
تسائل فاضل وهو يقول:-
– شكلك حريف شغل يا يعقوب، إنت استلمت الشركات بتاعة آل بدران..؟
وقبل أن تُجيب لبيبة بالإيجاب أسرع يعقوب يردف بحسم وتحدي:-
– لأ ومش هستلمها علشان عندي شغلي الخاص..
ناطحته لبيبة بنظرات قاتلة يتدحرج منها غضبٌ أعمى من تصرفاته التي أصبحت تضيق بها ذرعًا، ليُفجر يعقوب قنبلته بوجهها وهو يقول ببرود وبشبه إبتسامة باردة لم تصل لعينيه:-
– طب أنا بستأذنكم علشان هطلع أنام، وبأكد تاني البيت بيتكم يا فاضل بيه…
وصعد تحت نظرات فاضل المصدوم وابنته ولبيبة التي قبضت على عصاها بغضب ناري لتدارك الموقف بقولها الجامد الذي لا يلين حتى وإن كانت هي الطرف الخاطئ، فمَن يتمنى أن يُصاهر آل بدران ويُزوج ابنته بالوريث الأول لآل بدران، هو بالتأكيد الطرف الرابح وعليه أن يتحمل عواقب هذا الربح:-
– أكيد الفُرص جايه كتير وهنتقابل وهيكون في فرصة تجتمعوا مع يعقوب وغادة تقعد معاه ويتعرفوا…..
إن كنت تنتظر من لبيبة بدران أن تقدم إعتذار، فدعني أُخبرك بأنه سُحقًا لأحلام البُسطاء عزيزي؛ فحروف الإعتذار لم تمرّ يومًا على لسان تلك المُتعجرفة “لبيبة بدران”!!
شعر فاضل بالإهانة وكظم غيظه فبالمقابل هذا الزواج وتلك المصاهرة ستعود عليه بالكثير بل بالكثير جدًا والذي لا يحلم به، فيكفي أن يرتبط اسمه بآل بدران..
في الأعلى بداخل غرفة يعقوب، وقف خلف الشُرفة يتأمل السماء بنظرات شاردة ويتنهد تنهيدات ثقيلة، لا يعلم لماذا تلك القبضة تقبع على قلبه…!!
التفت ينظر لشاشة حاسوبه المحمول المُنير بصورة رِفقة المُبتسمة، أغمض عينيه وهو يشعر بالضعف وهمس بداخله وهو ينظر للسماء:-
– أنا أول مرة أطلب منك طلب، بترجاك تحفظها وتفتحلي الطريق لها وتقولي أعمل أيه..!!
وليه أنا قلبي مقبوض كدا!!!
لم يشعر حينها يعقوب بتلك الأعين المتلصصة والتي وقعت على شاشة الحاسوب بتعجب شديد وصدمة وتسائل اخترق أذنه وأخرجه من شروده..
– يعقوب مين البنت دي..؟!
________بقلم/سارة نيل________
وقفت رِفقة وكادت أن تتحرك لكنها شعرت بشيء أثار رِيبتها، ثمة تيار هواء بارد يصطدم بأقدامها من الأسفل..
كيف هذا؟!
جلست ببطء ومدت قدمها بهدوء وحذر للأمام للتفاجئ بقدمها معلقة في الهواء، شهقت بخوف وهي تعود للخلف مسرعة برعب..
إذًا الشرفة ليس لها جدار!!!
عادت رِفقة تزحف للخلف وأخذت تُغلق باب الشُرفة بإحكام..
كانت تتنفس بسرعة وصدرها يعلو ويهبط لتجثم على ركبتيها باكية وتهمس بإمتنان:-
– شكرًا يارب … اللهم لك الحمد يارب العالمين، إنت أنقذتني يارب لولا الهوا إللي حسيت بيه شديد على رجلي كان زماني دلوقتي……
صمتت وهي تتخيل الموقف لتُغطي وجهها بكفيها باكية وتقول من بين شهقاتها:-
– كان زماني وقعت دلوقتي من البلكونة…
لُطفك يارب… اللهم لك الحمد حمدًا يليق بجلال وجهك وعظيم سلطانك..
لكنها تذكرت شيء لتقول باستنكار:-
– إزاي طنط عفاف مقاليتش حاجة زي دي ليا، إزاي مش تحذرني وأكيد هي شايفة الشقة..!!
↚
تنهدت بثقل لتقول وهي تتحسس ساعة اليد الخاصة بها:-
– دلوقتي أنا فاتتني صلوات .. أصلي إزاي دلوقتي، لا أعرف اتجاه القِبلة ولا مكان الحمام..
ربنا يسامحني بقاا، وإن شاء الله لما طنط عفاف تيجي بكرا هخليها تعرفني على الشقة وقِبلة الصلاة وهصلي إللي فاتني..
دلوقتي أسلم حلّ إن أنام علشان أنا تعبت جدًا..
وسارت تتحسس الأرجاء حتى وجدت الفراش، تمددت فوقه بعد أن أزالت حجابها وتركته جانب رأسها، لكنها وجدت الفراش بدون شرشف ولا دِثار…
استقامت تبحث عن أي غطاء لكن دون فائدة، لا شيء…
زفرت بإحباط قائلة:-
– دا حتى شنطة هدومي مش عارفة طنط عفاف حطيتها فين علشان أغير لبسي.!!
تحسست ملابسها لتُخرج هاتفها وظلت تضغط على الأزرار لكن لم يصدر عنه أي صوت لتكتشف نفاذ البطارية..
– كمان خلص شحن …دلوقتي مستحيل أوصل لمكان الشاحن ومش عارفة إذا كان في شنطة الهدوم ولا طنط عفاف نسيته…
بعد أن يأست من الوصول لشيء تمددت فوق الفراش متكومة على نفسها وتحتضن جسدها بذراعيها..
أغلقت عينيها لتأتي تلك الذكرى على إستحياء تُداعب عقلها وتلك الصدمة التي تلقتها اليوم من يعقوب….
ظلت تتذكر صوته وتُكرر سماع تلك الكلمات داخل عقلها، وبتلقائية وبدون شعور منها تولدت إبتسامة دافئة فوق شفتيها..
خرجت من تلك الذكرى لتتذكر كيف دافع عنها بذلك الموقف المشؤوم..
شعور دافئ مجهول أجنبيٌ عنها تتذوقه للمرة الأولى بعد إختفاء والديها …. ألا وهو الشعور بالأمان..
همست بحيرة قبل أن تغفو وتسحبها دوامة النوم داخلها:-
– يا ترى يقصد أيه، وأيه السبب التاني إللي عايز يتجوزني علشانه وإللي قالي هتعرفيه بعدين!!!
********************
وقف كلًا من عفاف وبناتها الاثنين ينظرون لهذا المجهول بدهشة شديدة ويتأملانه بدقة يتعجبون من وجود مثل هذا الشخص بمنزلهم، شاب وسيم خشن الملامح تتجلى عليه سيمات الرجولة والشدة، راقي المظهر ويبدو عليه الثراء..
تسائلت عفاف بحيرة:-
– اتفضل يا أستاذ .. حضرتك طالب مين وعايز أيه!!
تنحنح يعقوب وقال بجدية وملامح وجه ثابتة:-
– أنا جاي أقابل الأستاذ عاطف .. في موضوع كله خير إن شاء الله..
ابتهج قلب عفاف وكذلك كلًا من شيرين وأمل معتقدين بأنه شاب جاء ليتقدم لخطبة أحدهم..
قالت عفاف بلهفة وسعادة:-
– اتفضل يا ابني …تقدر تقولي أيه بس الموضوع أصل الحاج عاطف مش هنا بس أنا أكيد هبلغه..
كانت أعينه تبحث عنها بلهفة لكن لا أثر لها، رمق تلك المرأة بشك وقال:-
– أنا جاي طالب القرب منه…
كادوا ثلاثتهم أن يُحلقوا من فرط السعادة وأصبحت كلًا من شيرين وأمل يدعون الله بداخلهم أن تكون هي المقصودة، أسرعت عفاف تقول بتساؤل:-
– أكيد يا ابني بيتنا مفتوح في أي وقت، بس معلش بس إستفسار … إنت طالب القرب في مين من البنات..
أردف يعقوب بعشق صافٍ:-
– رِفقة … أنا أطلب رِفقة للجواز على سنة الله ورسوله…
صاعقة بل موجة رعدية ضربت ثلاثتهم ليتخشبوا متوسعين الأعين غير مصدقين ما سمعوا والحقد يغلي بقلوبهم ليصرخوا ثلاثتهم بذات اللحظة بنبرة متبرمة بها شرّ وحقد واضح جعلت يعقوب يتيقن أن هُناك شيء خطأ في هذا المنزل…
– نــــــــــعـــــــــــم …. رِفــــــــقــــــــــة!!!!
– يعقوب مين البنت دي..؟!
التفت يعقوب مُسرعًا وهو يُغلق الشاشة بحِدة وقال بملامح جامدة وهو يرمق والدته المُبتسمة:-
– ميخصش حدّ … ومفيش مخلوق يتدخل في حياتي..
رددت بابتسامة واسعة وهي تقترب منه:-
– بس شكلها بنوتة رقيقة ولطيفة أووي، غير إنها جميلة جدًا يا بوب..
أشاح بوجهه وقال يُنهي هذا الحوار وهو يتجه نحو الفراش:-
– أنا هنام…
هرعت نحوه ومدت يدها بكوب دافئ قائلة:-
– دي كوباية سحلب سخن، إنت جاي من برا والجو برد اشربها علشان تدفى..
لم يُحرك ساكن وهو يرمق الكوب بيدها بملامح مُبهمة، وعندما طال صمته وضعته على وحدة الأدراج بابتسامة حانية، وجاءت تقترب تتلمس شعره لكن عاد للخلف برفض بينما داخله يحترق وقلبه مكلوم، يقف بقلب وادٍ مُفعم بالأحزان والذكريات السيئة الموجعة لا يستيطع تجاوزها بتلك السهولة..
طفق الحزن والحسرة على وجه والدة يعقوب لتغمغم بنبرة مرتعشة حزينة:-
– يعقوب … سامحني.. صدقني يا يعقوب مكونتش أعرف بإللي بيحصل هنا، أنا كنت مفكرة إنك مرتاح وإن ده إختيارك لما مكونتش بتتكلم وتشتكي … أنا….
صمتت بحزن ليبتسم يعقوب بسخرية ويقول بعذابٍ واصب:-
– مش عارفة تتكلمي تقولي أيه ولا تبرري بأيه…
ولا يهمك يا هانم محصلش أي حاجة، مجرد يعقوب بس هو كان ضحية طموحك إنتِ وحسين باشا .. طول عمرك وإنتِ النجاح والطموح بيجروا في دمك…
وحققتي كل أمنياتك ومكانش ناقصك حاجة، جوزك معاكِ وابنك…. وأنا…
صمت برهة ليواصل بحرقة واختلج قلبه بالألم:-
– أنا مكونتش في حساباتكم، ماله يعقوب يعني…
عايش في قصر طويل عريض مع واحدة عارفة كويس هتربي يعقوب إزاي وتطلعه وريث يستحق لقلب بدران..
عادي يعني أيه إللي حصل .. ولا حاجة..
ولا حاجة … أنا كنت ولا حاجة يا أم يامن…
انتصب يستدير وهو يكبح دموع تتلألئ خلف سجن جفونه، يطمر حشرجة مريرة بصدره، فيكفيه مستعمرات الحزن التي تتشعب بداخله..
هتف بصلابة:-
↚
– لو سمحتي متفتحيش السيرة دي معايا تاني، أظن ملهاش لازمه بعد العمر ده كله…
وبعد إذنك هنام…
أخذ دمعها يفور من مقلتيها ويلطمها الندم وليتها لم تتركه والإكثار من “ليت” لا يكون إلا بعد فوات الأوان…
خرجت تجرّ ساقيها لكنها كانت تجرّ ما هو أثقل من ذلك …همّ .. حزن .. حسرة …وندم..
وفور خروجها تهادى يعقوب فوق الفراش بخوار وقد سقط قناع البرود عنه لتسقط دمعة حارة تحمل كُل معاني الألم لتتشربها لحيته سريعًا…
لكن لا ضير .. فالحزن .. الوجع .. الوحدة، كل هذا ألِفه حدّ الإدمان..
وكل هذا لم يعد بالأمر الهام … فقد أصبحت له رِفقة حطمت كل معاني الوِحدة بحياته…
يكفيه رِفقة .. وهذا جزاءه وجائزته بل هي خير جزاء على كل ما مرّ به…
ظلّ يفكر كيف ستكون إجابة رِفقة غدًا على طلب الزواج، ويُفكر ما ينتوي فعله حتى سقط بنومٍ عميق وداخله أمل كبير في الغد جاهلًا عمّا يواريه القدر له…
*********************
– يعقوب … يعقوب..
صوت شجيّ مُستغيث يتردد في الأرجاء في تلك الحديقة الخضراء، أخذ يركض بلهفة باحثًا هُنا وهُناك بقلبٍ مرتعش واجف حتى تراءت له تأتي تتهادى بمشيتها من بين الأشجار الخضراء في هالة من النقاء، نقاء لم يرى بمثله في حياته المظلمة المنسوجة بالتكبر والتعالِي والقواعد، ثوبها الأبيض يُرفرف من حولها يسير خلفها على العُشبة الخضراء النديه .. كان هذا وقت الشروق وأشعة الشمس التي أخذت تنمو على زاوية السماء تُطارد أخر خيوط الظلام..
ابتسم يعقوب بسعادة وأخذت أقدامه تلتهم الخطوات التي تفصلهم يذهب نحوها بلهفة وأعينه مثبتة على وجهها الوضّاء الذي ينبع منه النور بحجابها الأبيض الذي يُماثل قلبها وأعلاه إكليلٌ أخضر ممتزج بورود بيضاء..
وعندما أقترب منها تسمرت أقدامه أرضًا وهو يتفاجئ بهذا الأخدود الذي يفصله عنها…
نظر لها بخوف وهو يرى الرعب الذي بعينيها ليهدر لها وهي تقف على الحافة المقابلة:-
– خليكِ مكانك .. متتحركيش أنا هنقذك مش هسيبك.. رِفقة أوعي تتحركي…
هبطت دموعها وهي تمد يدها له باستجداء تقول باستغاثة:-
– يعقوب … يعقوب متسبنيش .. هما ورايا .. متسبنيش… يعقوب … يعقوب…
فزع يعقوب من نومه يشهق بأنفاس ضائعة مسحوبة ووجهه شاحب مذعور…
أخذ يمسح على وجهه المتعرق وهو يتنفس بهدوء في محاولة لاسترداد أنفاسه المسروقة..
ارتفع صوت أذان الفجر ليملأ الأركان ليهمس يعقوب بتوجس وقلبه يُرفرف بجنبه كالذبيح:-
– في حاجة مش مظبوطة، أنا قلبي مقبوض والكوابيس دي ملهاش ألا معنى واحد..
ولا أنا فاهم غلط ودا من كتر ما بفكر في الموضوع، يمكن أنا ببالغ…
وفي هذه اللحظة اقترب صوت رِفقة من أذنه وهي تقول..
“أنا لما بحتاج حاجة وببقى خايفة أول واحد بجري على بابه هو رب العالمين، مستحيل يرد إيدي فاضيه أبدًا .. مستحيل يخذلني….”
استقام يعقوب وذهب باتجاه المرحاض وهو على موعد مع أشياء جديدة لم يفعلها من قبل أو قلّما حدثت، لقد بدأ يُقدّر أشياء كان يحتسبها حق مكتسب مفروض له..
توضئ بهدوء وخرج وأعضاءه تقطر ماءًا ثم أخذ يستقبل القِبلة ويؤدي صلاة الفجر للمرة الأولى بحياته…
كان جسده يرتعش وهو يشعر بهالة عجيبة من السكون تُحيطه، مذاق مختلف، مذاق عذب جدًا يتذوقه لمرته الأولى…
انتهى ليظلّ صامتًا بُرهة يشعر بحلاوة تلك المشاعر ثم رفع رأسه لتُهاجمه مشاعر عجيبة من اليقين … تُخبره بأنه لو ارتفع صوته الآن مترجيًا بأي مطلب .. حتمًا لن يُخذل…
يقين عجيب أن حتمًا الاستجابة قادمة لا محالة..
همس برجاء تائه:-
– ارشدني للطريق الصحيح، أنا مش عارف أعمل أيه، خرجني من الدوامة دي .. ووجهني للإتجاه الصحيح … رتبلي كل أموري…
________بقلم/سارة نيل_______
مضى الليل وانسلخ منه النهار، استيقظت رِفقة بتيهة لا تعلم كيف هي، ومتى يكون التوقيت..!
تحمد الله أن ساعة اليد خاصتها مازالت معها..
تحسستها لتجد الساعة تعدت العاشرة صباحًا..
همست بحزن:-
– ياااه أنا نمت كل ده، حتى محستش بالفحر..
بس حتى لو كنت حسيت كنت هصلي إزاي..
صمتت قليلًا وهي تجلس بضياع لا تعلم كيف ستواجه ما هي به، تشعر بأنها بدوامة مظلمة ولا ثمة ثُقب مُنير يُضيء لها عتمتها..
لكنها قالت بإصرارٍ وعزم:-
– لازم أحاول .. مينفعش أقعد كدا…
أضاءت في عقلها فكرة لتصرخ قائلة:-
– أنا ممكن أقعد أخبط وأنادي لغاية ما يجي حتى يرن جرس الباب وأنا اتتبع الصوت وأفتح…
لكنها تراجعت تُحدث نفسها بإحباط:-
– لا لا .. وأنا أيه يضمنلي، أنا مش عارفه أنا في مكان شكله أيه ولا مين ممكن يجي ويستغل الوضع..
انتصبت تسير للخارج وهي تتحسس جميع ما يُقابلها بحذر حتى خرجت من الغرفة..
وقفت تقول بحيرة:-
– يا ترى الحمام بأي جهة … ولا المطبخ بس أكيد مفيش أي حاجة للأكل هنا .. أنا جعانة أووي..
واصلت الإستكشاف لتسقط ويصطدم جبينها بالحائط، تأوهت تقول بخفوت:-
– اااه يا الله .. دي شكلها طُرقة باين..
يبقى أكيد الحمام هنا…
استقامت تُدلك جبينها بألم وأخذت تسير بشكل أكثر حذرًا لتجد نفسها أمام باب صغير..
ابتهجت وفتحته بفضول وجاءت تدخل لكن لم تشعر بوجود حاجز صغير عند المدخل “عتبة الباب” لتتعثر بها وتسقط فوق ركبتيها بشدة جعلتها تتأوه ببكاء وهي تشعر بعجز كبير يُصيبها..
أخذت تتحسس الأرضية لتعلم من الوهلة الأولى بأنها بالمرحاض لتشعر بسعادة لهذا الإنجاز الكبير بالنسبة لها..
ابتسمت بسعادة وهي تهمس:-
– شطورة يا رِفقة..
استقامت وهرعت تكتشف المكان بحذر لتقترب من الصنبور تفتحه لتنفجر منه الماء بقوة جعلتها تفزع وجاءت تغلقه لكن بلا فائدة يبدو أن الصنبور تالف .. وليس هذا وحسب بل يبدو بأنه قديم مهجور…
تناثر الماء بجميع الأرجاء وهي تحاول غلقه بشتى الطرق لينخلع بيدها..
ارتعب قلبها وهرعت تبحث عن المفتاح الرئيسي لغلق الماء بحذر كي لا تسقط لكن بلا فائدة كان الأمر يزدادُ سواءًا وتيقنت أن هذا المرحاض قديم جدًا مهجور .. إذًا هذا حال الشقة بالكامل…
غرقت ملابسها جميعًا بالماء الذي ينفجر من جميع الأرجاء فلم يكن منها إلا أن فرت مسرعة من المرحاض بخوف وعجز وقد بدأ الماء يتسرب من فوق تلك العتبة المائلة وينتشر بالخارج…
زحفت رِفقة أمام أحد الجدران تستند أمامه وهي تضم جسدها ببكاء وشعور مرير بالعجز يُقيدها، تكومت على نفسها تبكي بحرقة وتهتف من بين شهقاتها الذي تُمزق القلوب:-
– أنا خايفه …خايفه أووي ومش عارفه أعمل أيه… أروح فين وأنا مش عارفه أنا فين ولا مكان أي حاجة وشكل مفيش حد هيسأل عليا…
مرات خالي ليه عملت كدا .. قالتلي هتيجي وسابتني لواحدي وشكلها معدتش جايه، أعمل أيه ياربي … أنا مش عارفه أتصرف إزاي…
↚
أنا غلطانه .. كان المفروض القرار الصح إن أروح أي دار رعاية … على الأقل كنت عرفت أنا فين ولقيت أشخاص معايا..
أنا كدا ممكن اتنسى هنا وأنا مليش حد يفتكرني ويسأل عليا …يارب يارب بسألك يا ذا الجلال والإكرام انقذني …متسبنيش يارب خليك معايا أنا مليش غيرك في الدنيا دي ومعرفش ألا إنت…
وظلت على هذا الحال تبكي خائفة لتمر الساعات ويحلّ الليل ومازالت هي لم يتغير شيء..
تحتضن جسدها المرتعش المليء بالكدمات ويُحيطه ملابسها المبتله، لم يتغير شيء سوى تلك المياه التي أصبحت تُحيطها وأصبحت هي تجلس بداخلها…
فتك الجوع بها والعطش لكن لا وسيلة لها لأي شيء…
********************
كان يعقوب يدور حول نفسه عندما انتظر النهار كاملًا على أحرّ من الجمر لكن لصدمته لم تأتي رِفقة، ليعتقد أنها امتنعت عن المجيء لأجله، بسبب طلب الزواج المُباغت..
لم يعد يطيقُ صبرًا ولا يعلم كيف يتصرف…!!
في هذا الاثناء كان فتيات المطعم مجتمعون يتسامرون فيما بينهم ولم يكن محور الحديث إلا يعقوب…
قالت إحداهم بسخط:-
– إنسان متكبر أووي ومش بيراعي..
ونظرت لألاء وقالت:-
– تلاقي رِفقة مجاتش النهاردة بسببه، تلاقيه مش عجبه وجودها بعد الموقف إللي حصل وبكدا سُمعة المطعم هتتأثر…
أيدتها فتاة أخرى:-
– عندك حق .. هو بصراحة إنسان متكبر ومغرور لأبعد الحدود دايمًا عاقد وشه وقاعد لواحده واخد جمب وكأنه مش مستنضف يكلم خلق الله.
قالت فتاةٌ أخرى:-
– حقه بقى يا بنتي ما هو من عيلة بدران…
هتفت آلاء باعتراض:-
– مش حقكم تقولوا الكلام ده يا بنات، دا سوء ظن، وإحنا بنشتغل مع الأستاذ يعقوب من زمان وأبدًا ما شوفنا منه أي حاجة مش كويسة ولا ظلم حد فينا، بالعكس إحنا أكتر ناس شاهدة على نزاهة المطعم ده والأمانة إللي عنده..
وبخصوص رِفقة إحنا كلنا شوفنا موقفه ساعتها وعمل أيه في الشباب مع إن كدا يأثر على سُمعة المطعم بس هو مهمهوش…
وبعدين مش كل إنسان في حاله مش بيندمج مع إللي حوليه وبيقعد لواحده يبقى هو كدا مغرور ومتكبر وفي كل الصفات إللي مش كويسة…
عارضتها أحد الفتيات بقولها:-
– هو إنتِ ناسيه لما أمر نخرّج رِفقة برا ونطردها وفضلت المسكينة قاعدة في الشمس يجي ساعة ومش هامه ظروفها…
وقبل أن تُجيبها آلاء كان عبد الرحمن مُقبل عليهم وأردف بهدوء:-
– آلاء … أستاذ يعقوب عايزك..
حركت آلاء رأسها بهدوء وخرجت باتجاه غرفته ليتسائل يعقوب بعدم صبر فور أن رأها:-
– فين رِفقة…!!
تعجبت آلاء من حالته التي لا تُبشر بالخير وقبل أن تُجيب صاح وهو يطرق على المكتب بغضب:-
– الأحسن تقولي إللي إنتِ عرفاه..
أردفت آلاء وهي تشعر للحظة بالخوف من هيئته التي يرتسم عليها وسم الجحيم:-
– أنا حقيقي معرفش يا أستاذ يعقوب، نهال صاحبتها رنت عليا بردوه تسأل عليها إذا كانت جات النهاردة المطعم ولا لأ لأنها بترن عليها وموبايلها مُغلق وراحتلها بيتها أكتر من أربع مرات وقالولها إنها مش موجوده، وأنا رنيت عليها كذا مرة موبايلها مُغلق..
تشعب القلق بقلب يعقوب وهو يتذكر كابوسه ليستفهم بتعجب:-
– قالولها .. قصدك والدها ووالدتها.!!
نفت آلاء وقد بدأ القلق يستتب بها وقالت:-
– لا يا أستاذ يعقوب .. رِفقة عايشه عند خالها مع مراته وبناته لأن أهلها تقريبًا متوفيين..
قال يعقوب بصرامة:-
– قولي عنوان بيت خالها..
– أنا معرفوش بس أقدر أكلم نهال أجيبه منها…
أردف بحسم:-
– يلا حالًا….
***********************
وقف كلًا من عفاف وبناتها الاثنين ينظرون لهذا المجهول بدهشة شديدة ويتأملانه بدقة يتعجبون من وجود مثل هذا الشخص بمنزلهم، شاب وسيم خشن الملامح تتجلى عليه سيمات الرجولة والشدة، راقي المظهر ويبدو عليه الثراء..
تسائلت عفاف بحيرة:-
– اتفضل يا أستاذ .. حضرتك طالب مين وعايز أيه!!
تنحنح يعقوب وقال بجدية وملامح وجه ثابتة:-
– أنا جاي أقابل الأستاذ عاطف .. في موضوع كله خير إن شاء الله..
ابتهج قلب عفاف وكذلك كلًا من شيرين وأمل معتقدين بأنه شاب جاء ليتقدم لخطبة أحدهم..
قالت عفاف بلهفة وسعادة:-
– اتفضل يا ابني …تقدر تقولي أيه بس الموضوع أصل الحاج عاطف مش هنا بس أنا أكيد هبلغه..
كانت أعينه تبحث عنها بلهفة لكن لا أثر لها، رمق تلك المرأة بشك وقال:-
– أنا جاي طالب القرب منه…
كادوا ثلاثتهم أن يُحلقوا من فرط السعادة وأصبحت كلًا من شيرين وأمل يدعون الله بداخلهم أن تكون هي المقصودة، أسرعت عفاف تقول بتساؤل:-
– أكيد يا ابني بيتنا مفتوح في أي وقت، بس معلش بس إستفسار … إنت طالب القرب في مين من البنات..
أردف يعقوب بعشق صافٍ:-
– رِفقة … أنا أطلب رِفقة للجواز على سنة الله ورسوله…
صاعقة بل موجة رعدية ضربت ثلاثتهم ليتخشبوا متوسعين الأعين غير مصدقين ما سمعوا والحقد يغلي بقلوبهم ليصرخوا ثلاثتهم بذات اللحظة بنبرة متبرمة بها شرّ وحقد واضح جعلت يعقوب يتيقن أن هُناك شيء خطأ في هذا المنزل…
– نــــــــــعـــــــــــم …. رِفــــــــقــــــــــة!!!!
خرجت شيرين من صدمتها لتقول سريعًا بكره:-
– على فكرا دي عامية مش بتشوف…!!
كور يعقوب كفيه ورمقها ببرود قائلًا وقد فهم ما يدور بين هؤلاء الحاقدين:-
– بس قلبها كله نور وفي عيني أجمل البنات…
أسرعت أمل تقول بخبث بينما وجهها شاحب:-
– يا عيني .. شكلها خدعتك إنت كمان بمظهرها البريء ااه لو تعرف إللي فيها .. بس مسيرك تعرف أكيد…
تجاهل يعقوب حقدها الواضح وتسائل بثبات:-
– فين رِفقة..
هُنا خرج صوت عفاف التي أجابته ببرود:-
– العنوان غلط يا باشا … معندناش حد بالاسم ده، أو كانت موجوده بس راحت لحال سبيلها واتخلصنا من حِملها…
اتقدت أعين يعقوب بالجحيم ليتسائل بهدوء يسبق العاصفة:-
– يعني هي نقلت بيت تاني .. تمام .. قولي العنوان..
رددت عفاف بذات الثبات والبرود:-
– معرفوش .. ويلا لو سمحت ميصحش وقفتك دي زي ما إنت شايف أنا وبناتي لوحدنا…
وأغلقت الباب بشدة ممزوجة بالحقد والغلّ…
اشتغلت كل خلية من جسد يعقوب بسعير متقد وأخذ يضغط فوق أسنانه يطحنها حتى اشتد عظام فكيه وهو يُقسم بداخلها بأغلظ الأيمان أنه سيجعلهم يرتشفون الويلات…
وضع هاتفه فوق أذنه ثم هدر من بين أسنانه:-
– كريم … عشر دقايق تكون قدامي إنت وتلاته من رجالتك…
وانحنى نحو سيارته وأخرج شيئًا ما وهو يتوعدهم بالجحيم فقد أخرجوا شياطين غضبه الخامدة…
******************
↚
عند رِفقة التي مازالت على حالتها إلا أنها وضعت حجابها فوق رأسها تحسُبًا بأنها من الممكن أن تُفارق روحها ذاهبة إلى باريها … فمَن يأتي لإخراجها يجدها مستترة..
وأخذت العديد من السيناريوهات تتلاعب بعقلها عن طريقة موتها…
هل من الممكن أن تفارق الحياة هنا ولا أحد يعلم عنها شيء ولا عن وجودها سوى الرائحة التي ستنفذ تُخبر الجميع أنه يوجد هنا من فارق الحياة…!!
وبغمرة شرودها سمعت صوت رنين الباب المصحوب بطرقات هادئة، ابتهج قلبها وأسرعت تتابع مصدر الصوت وتتحسس الأرجاء بلهفة حتى شعرت بِباب المنزل لتفتحه بلهفة شديدة…
جاءها صوت غليظ بعض الشيء:-
– أيه يا آنسة ساعة على ما تفتحي الباب..
ابتلعت رِفقة ريقها وجاءت تتحدث لكن قاطعها هذا الصوت يقول:-
– عمومًا أنا انتظرت لما استقريتي وقولت أجي أقولك على الإيجار…
توسعت أعينها بصدمة ورددت بعدم فهم:-
– إيجار … إيجار أيه لو سمحت…
زفر هذا الشاب بملل وقال:-
– سلامة عقلك يا آنسة إيجار الشقة إللي حضرتك قاعده فيها … أنا ورب الكعبه لازم أخد الإيجار قبل ما رجل الزبون تخطي باب الشقة بس لما خالتك دي ولا قربتك قعدت تترجاني قولت مش مهم اصبر يوم يا واد علشان حالتها…
لم يستوعب عقل رِفقة ما يحدث لتهتف بعدم تصديق:-
– بس طنط عفاف قالتلي إنها اشترت ليا الشقة يعني الشقة مِلك..
صرخ الرجل باستنكار:-
– شوفوا بقاا الواحد يعمل خير يتقلب عليه عكننة على المسا … لا مؤاخذة مِلك أيه يا آنسة العمارة كلها إيجار أنا مش بملِك…
شعرت رِفقة وكأن دلو ماء مُثلج سقط فوقها، صدمة عاتية لم تتخيلها بأحلامها…
أردفت تقول بتيهة ورجاء قد فسره الشاب بطريقة خاطئة:-
– طب لو سمحت .. أنا الدنيا عندي متبهدلة ممكن بس تساعدني .. يعني هتصل بحد وكدا أصل موبايلي فصل شحن…
التمعت أعينه بالمكر وهو يتأملها، ثيابها الملتصقة على جسدها بفعل الماء وغمغم بنبرة خبيثة وهو ينظر لداخل الشقة بينما رِفقة تترك جزءًا صغيرًا مفتوح وتُحدثه بنصف جسد من خلف الباب تحسبًا لأي شيء، ليحاول المرور وتخطيها:-
– أووي أووي غالي والطلب رخيص دا إنتِ شكلك بتمسحي وهتخلي الخرابه إللي جوا دي جنة…
دخليني وأنا أظبطلك الدنيا…
على الفور اشتشعرت نبرة الخُبث بحديثه وعدم صفاء نيته، نبض قلبها بشدة لتُسرع بإغلاق الباب مُسرعة بخوف وتسحب المزلاق…
لتسمع صوته يقول من خلف الباب:-
– ناس ملهاش في الطيب نصيب .. عمومًا في طلعة النهار هكون هنا علشان أخد الإيجار وإلا تلمي هدومك وتتكلي على الله…
سقطت رِفقة بصدمة تبكي وهي لا تُصدق ما هي به .. كيف تفعل زوجة خالها هذا الشيء بها..!!
كيف يتحجر قلبها بهذه الطريقة؟!
لماذا هذا الحقد الدفين، والكره الشديد لها..!!
والأموال!!
أين الأموال التي تركها لها والدها!!
لا تحتاج إلى إجابة … لقد خدعوها..
لقد كانت تحيا داخل كذبة افتعلها ثلاث أفاعي، كانت تحيا وسط نعومة جلدهم بينما هم ينثرون السُم بحياتها…
أخذت تشهق ببكاء عنيف يُذيب القلوب بينما تحتضن جسدها:-
– ليه …ليه يعملوا كدا … ليه استغلوني وضحكوا عليا … يعني هي جابتني هنا علشان تتخلص مني … طب ليه …ليه كدا..
طب أعمل أيه دلوقتي.. يارب رحمتك يارب، كل الأبواب اتقفلت في وشي بس بابك إنت مفتوح ليا..
***********************
وقف كريم أمام يعقوب الذي يراه للمرة الأولى بتلك الحالة لا يفهم ما يحدث..
– في أيه يا يعقوب.. أيه إللي بيحصل..!!
جذب يعقوب السلاح الناري ثم شد أجزاءه وقد فقد تعقله على الأخير، ارتقى الدرج ليقول بغضب جحيمي:-
– هتعرف دلوقتي..
صعد كريم خلفه وبصحبته ثلاث رجال حتى وقف أمام أحد المنازل..
توسعت أفواههم بصدمة عندما ضرب يعقوب الباب بقدمه يدفعه بعنف..
ركضت عفاف المذعورة تفتح الباب بصدمة عندما رأت يعقوب أمامها في هيئة جعلت أوصلها تتجمد وهو يُشهر السلاح على رأسها، وصاح بتحذير:-
– كنت ذوق معاكِ وسألتك بكل هدوء لكن أظن الأسلوب الراقي مينفعش مع أمثالك، بس أظن الطريقة دي هتجيب نتيجة..
انطقي يا ست أنتِ قولي العنوان ولا أفرغ السلاح ده في راسك…
صرخ بأخر جملة لترتعش عفاف وبناتها رُعبًا، وفور أن اقتربت فوهة السلاح من رأسها مع نظرة يعقوب النارية المُحذرة أسرعت تقول بارتعاش وهي تبتلع ريقها بخوف:-
– خلاص .. هقول هقول..
-“متسبنيش يا يعقوب”
جملة تتكرر بعقله دون رحمة، تُخبره أن هناك شيء سيء أصابها فكانت تزداد حِدته على تلك الشيطانة عفاف وتزداد قتامة نظرته…
نطقت عفاف برعب:-
– هقولك …هقولك العنوان..
وأخذت تُدلي به وفور إنتهاءها انحنى يعقوب نحوها وردد من بين أسنانه بنبرة نارية محذرة:-
– شكلك ولية مش سالكة، تعرفي لو عرفت إنك لكِ دخل بأي ضرر مسّها هيحصلك أيه!!
قولي على نفسك يا رحمن يا رحيم ومبقاش يعقوب بدران لو مدفعتكيش التمن غالي وغالي أووي كمان…
وركض يقفز لأسفل مسرعًا ليُقابله عبد الرحمن الذي أتى بعد أن حدّث يعقوب عندما أخذ العنوان وأخبره أن بالفعل رِفقة غير متواجدة بمنزل خالها وأنها انتقلت لمنزل آخر..
↚
كان بصحبته كُلًا من آلاء ونهال صديقة رِفقة والتي أخذت تتواصل مع آلاء لمعرفة أخبار رِفقة..
تسائل عبد الرحمن بقلق:-
– هاا عرفت العنوان..!!
قال يعقوب وهو يركض باتجاه سيارته:-
– أيوا…
سار خلفه عبد الرحمن وشرع يجلس بجانب يعقوب وهو يقول للفتيات:-
– يلا يا بنات أكيد رِفقة هتحتاجهم…
جلس الفتيات بالخلف لتُسرع نهال تقول ببكاء وقلق:-
– هي هتكون كويسة صح .. إزاي يسبوها كدا لوحدها في مكان غريب، أنا كنت عارفه إنهم بيكرهوا رِفقة ومش سالكين بس رِفقة عمرها ما اشتكت وكانت بتحبهم وتقول دول عيلتي..
حسبي الله ونعم الوكيل فيهم، ربنا ينتقم منهم، بقالها يومين أهو لوحدها يا عالم حصلها أيه وحالها إزاي .. ويا حبيبتي موبايلها مقفول وأكيد لا تعرف مكان الشحن ولا مكان حاجة..
أنا غلطانة أنا قصرت معاها اليومين دول بس والله غصب عني…
أردفت آلاء بحزن وبكاء صامت:-
– الغلط عندي أنا .. هي قالتلي إنها هتنقل لشقة جديدة بس راح عن بالي غير إن مصدقتش إنها ممكن تنقل الشقة عالطول بالسرعة دي..
يعني بعد ما قالتلي عالطول، لو كنت أعرف كنت
روحت معاها على الأقل..
كان حديثهم يهبط على قلب يعقوب كأسواطٍ من نار، تفاقم غضبه ليشعر بقبضة قوية تعصر قلبه وتزداد سرعة السيارة وهو يقبض على المقود بشدة حتى ابيضت مفاصله…
بعد قليل وصل يعقوب ومن معه عند تلك المنطقة التي وصفتها عفاف لهم وبالأخصّ أمام تلك البناية المتهالكة، كانت منطقة عشوائية قديمة، ولم يطيق يعقوب إنتظارًا وأخذ يركض مسرعًا فوق الدرج قاصدًا الطابق الخامس وخلفه كلًا من عبد الرحمن وآلاء ونهال صديقة رِفقة…
وبالفعل وجد نفسه أمام الشقة، بل ليست شقة إنما زائد ضيق بسطح البناية، تدفق الرعب بقلب يعقوب وأخذ يطرق على الباب يقول بلهاث:-
– رِفقة …رِفقة إنتِ سمعاني … افتحي الباب…
في هذا الحين كانت رِفقة منكمشة فوق نفسها بوسط تلك المياه بين الوعي واللاوعي وقد أصبحت على وشك فقدان الوعي، وأخذت تهلوث:-
– لا …لا .. أكيد هما جايين يإذوني..أنا مش هفتح.. يارب احميني منهم .. هما جايين يإذوني..
كان صراخ يعقوب المرتعب يزداد وهو يقول برجاء:-
– يعقوب .. أنا يعقوب يا رِفقة …إنتِ سمعاني…
حركت رأسها نافية بمعني لا ورددت وهي تضع كفيها فوق أذنها بينما تزداد إنكماشتها حول نفسها بدون وعي:-
– لا أكيد لأ ….هو هيعرف مكاني إزاي أصلًا ولا هيوصلي إزاي …هو أكيد مش هيلاحظ غيابي زي الناس كلها…
في الخارج كان يزداد بكاء كلًا من نهال وآلاء وقلبهم يغمره القلق لأجل رِفقة…
قال يعقوب بحسم وهو يُشير لهم:-
– ارجعوا ورا .. أنا هكسر الباب..
أيده عبد الرحمن قائلًا:-
– والباب قديم أصلًا وهيتفتح عالطول..
وبقوة مُحملة بالقلق والخوف ضرب يعقوب الباب بقدمه مرات متتالية غافلًا عن تلك المنهارة التي أخذت تبكي بشهقات تمزق القلوب معتقدة بأنه هجوم عليها…
وأخيرًا انكسر مزلاق الباب وفُتح على مصرحيه ليسقط قلبه حين وقعت أعينه فوق رِفقة، مشهد كان له أقسى شيء رأه .. لقد أدمى قلبه، لقد حُفرت حالتها تلك بأعمق نقطة بقلبه وعقله، هو لم يتوجع بهذا القدر من قبل…!!
تخشب بأرضه وأعينه تجري فوق ملامحها الشاحبة المليئة بالكدمات..
تتكوم منكمشة … خائفة .. تائهة .. حزينة..
ظلّ يضغط على أسنانه حتى برزت عظام فكيه وهو يُقسم بأغلط الأيمان أن المتسببين بحالتها تلك سيجعلهم يتجرعون الويلات..
بينما آلاء ونهال بمجرد أن فُتح الباب حتى هرعوا نحو رِفقة يحتضونها لتهمس لها نهال بحنان ولهفة:-
– رِفقة .. حبيبتي إهدى .. أنا نهال .. إحنا جمبك ومفيش أي حاجة وحشه هتحصلك أنا هنا أنا وآلاء كمان..
كان جسد رِفقة يرتعش وهي تهزي ببكاء ودون تصديق:-
– لأ .. لأ محدش يعرف مكاني …أنا أكيد بحلم من كتر محاولاتي إن حد يساعدني..
مسحت آلاء على وجهها برفق وقالت بإبتسامة بينما تسحبها برفق للوقوف والخروج من الماء وتساندها نهال من الجهة الأخرى..
– لا يا ست البنات إنتِ مش بتحلمي وعلشان أاكدلك هتغيري هدومك وهنطلع على مطعم البوب تاكلي كريب بالنوتيلا…
ارتعش شفتي رِفقة وأخذت تردد بعدم تصديق بينما تقف بين نهال وآلاء:-
– بجد يعني إنتوا جيتوا أنا فكرت إن هموت هنا أنا كنت خايفة أووي وجعانة جدًا..
ترقرق الدمع بأعين نهال وأحتضنتها قائلة:-
– بعيد الشر عنك يا رِفقة .. حقك عليا أنا إللي قصرت معاكِ أخر يومين.. حقك عليا..
تمسكت رِفقة بهم وقالت بطمأنينة:-
– المهم إنكم جيتوا..
تسائلت آلاء وهي تسمح الأرجاء بأعينها:-
– فين شنطة هدوك يا رِفقة..
أجابتها رِفقة بحزن:-
– مش عارفه .. أنا دورت عليها كتير ومش عرفت أوصلها … تلاقيها في أي مكان.. طنط عفاف هي إللي حطيتها..
وبالفعل وجدتها آلاء في أحد الزوايا الخفية التي يصعب على رِفقة وجودها لتقول نهال بسخط وغضب:-
– يوعدها عفاف المجرمة بقطيع نحل يعفّ على وشها يورمها، لها يوم حسبي الله ونعم الوكيل فيها هي وبناتها الأفاعي .. كتير حذرتك منهم يا رِفقة كتير..
كان يعقوب واقفًا مكانه لم يتحرك بينما عبد الرحمن فكان ينتظر بالخارج..
ليستمع يعقوب إلى كلمات رِفقة التي صدمت الجميع، نبرتها كانت حزينة منكسرة مغدورة:-
– مش عارفه هما ليه عملوا فيا كدا، ليه بيكرهوني كدا مع إني كنت بحبهم واعتبرتهم أهلي … كنت مفكراهم بيحبوني علشان هما إللي قبلوا بيا بعد ما الكل اتخلى عني بعد بابا وماما بس اتضح إن الناس إللي رفضتني في وشي كانوا أرحم مليون مرة من ناس استغلوني وخدعوني..
طنط عفاف جابتني هنا علشان أموت، أنا كنت مأمناهم .. هما ليه خدعوني كدا..
تخيلي ضحكت عليا وقالتلي إنها اشترت الشقة دي والراجل صاحبها لسه قايلي من شوية عايز الإيجار..
↚
أنا كنت هموت وهقع من البلكونة علشان ملهاش سور يا نهال ولولا ستر ربنا…
مش قولتلك يا نهال أحسن حاجة أروح دار رعاية دا القرار الصح…
هنا أتى صوت يعقوب الراعد وهو يقول بجزم:-
– مفيش دار رعاية .. إحنا هنتجوز يا رِفقة..
ولم تنتبه ولم تشعر بوجوده سوى الآن شهقت قائلة دون إدراك:-
– يعقوب … إنت هنا .. أنا كنت مفكره إن بهلوس بصوتك..
ابتسم يعقوب بخفة وأردف:-
– بداية مُبشرة طالما اعتقدتي إنك هلوستي بيا، يعني يعقوب في بالك..
احمرّ وجه رِفقة خجلًا وانكمشت بآلاء قائلة بتدارك متقطع:-
– لا .. لا أنا مقصدش كدا …أنا يعني أصل .. كنت مفكره إن حد عايز يإذيني..
نظر كلًا من آلاء ونهال لبعضهم البعض بعدم فهم وهم يسمعون صوت يعقوب الراعد:-
– لا عاش ولا كان إللي يمسّ شعره منك، أنا بعت لخالك شغله وعلى الصبح هيكون هنا وهنكتب الكتاب .. ومن هنا ورايح أنا موجود إللي عايز يوصلك لازم يتخطاني الأول…
مازال شعور رِفقة بالغدر والخيانة طازجًا، فكيف تأمن لأحد بعد الآن!!
أشخاص كانوا لها مأمن وعائلة كانوا يمكرون لها رغم حديثم الناعم معها..!!
نفت رفقة سرعًا وهي تقول بقوة:-
– أستاذ يعقوب أنا مقدره معروفك وشعورك بالشفقة عليا، بس موضوع الجواز ده أنا مش قبلاه .. أنا مش هتجوز بالطريقة دي وأنا قولتلك قبل كدا…
قال يعقوب بهدوء وهو يتجه للخارج:-
– يلا يا رِفقة غيري هدومك أنا منتظرك برا، لنا قاعده طويلة مع بعض، وأوعدك إن أول ما نكتب الكتاب هقولك على كل أسبابي وكل إللي فيها..
وخرج لتسحبها كلًا من آلاء ونهال للغرفة الوحيدة لتُبادر نهال تتسائل بعدم فهم:-
– دا أنا في حاجات كتيرة أووي فيتاني يا ست رِفقة … جواز أيه ويعقوب أيه..
رددت رِفقة بحزن:-
– ولا حكاية ولا غيره … زي ما شوفتي كدا بعد ما شفني أول مرة وطلب مني زي ما سمعتي كدا، أكيد علشان صعبت عليه…
أنا بصراحة معدتش هأمن لحد ولا أثق في حد تاني يا نهال بعد إللي شوفته من مرات خالي، أنا لغاية دلوقتي مش مصدقة، أنا أيه يعرفني إذا كان هو بيمثل عليا ولا بيخطط لحاجة زي ما مرات خالي وعيالها عملوا .. كانوا بيكلموني كويس ومعايا حلوين وهما من ورا ضهري بيكرهوني وخدعوني…
زي ما قولتلك أنا المكان المناسب ليا دار الرعاية أما مش ضامنه مين يستغل حالتي تاني أنا بقيت خايفه أووي، هطلب منكم بس توصلوني لدار رعاية كويسة محترمة وتسبوني فيها ومش تنسوني وتبقوا تيجوا تزروني..
قالت آلاء باعتراض مسرعة:-
– لا يا رِفقة كدا غلط … عندك حق في صدمتك منهم بس مش علشان نموذج سيء تحكمي على الناس كلها بيه وتقسيه على الجميع…
إنتِ مشوفتيش يعقوب كان عامل إزاي طول النهار وبالذات لما فات ميعادك ومش جيتي، لولا هو مكوناش وصلنالك، متعرفيش هو عمل أيه علشان عفاف تنطق بالعنوان …كان بيدور عليكِ زي المجنون…
وأخذت نهال تسرد لها ما حدث تحت صدمة رِفقة وعدم تصديقها لتختم وهي تردف بحنان:-
– مش كنتِ دايمًا بتقوليلي إنت عيني يا نهال وبتقولي إنك بتثقي فيا..
ولو سألتيني يا نهال إنتِ شايفه أيه…
هقولك شايفه الصدق في عيونه الحكاية فعلًا أكبر بكتير من إللي إنتِ مفكراه ومن إللي هو بيقوله، أقدر أقولك إن شوفته عوض رِفقة وأمانها …أقدر أقولك إن واضح من عيونه إن هو شخص بيحب رِفقة أووي ورِفقة عنده الجنة…
إديله فرصة يا رِفقة…
إنتِ تستحقي الحرية وهو حُريتك، إنتِ مفيش أي حاجة تمنعك إنك تبقى أسعد واحدة في الكون، متحرميش نفسك من السعادة لأسباب ملهاش وجود..
ترقرق الدمع بأعين رِفقة وهي لا تصدق أن مثل هذه الأشياء من الممكن أن تحظى بها في يومٍ ما، تثق في نهال وتعلم إن قالت شيء فهو كذلك…
إنها رفيقتها والشخص الذي هوّن عليها الكثير وعينيها في هذه الحياة…
شرع كلًا من نهال وآلاء يساعدونها في ارتداء ملابسها لتتوسع أعينهم بصدمة وهم يرون كم الكدمات المنتشر على ذراعي رِفقة بل المنتشرة بكافة أنحاء جسدها…
كتمت آلاء البكاء بينما انبثق الغضب بأعين نهال وقلبها يتمنى أن ترى بتلك المجرمة عفاف وبناتها ما يشفي غليل قلبها..
انتهت رِفقة من إرتداء ملابسها وقد ابتسم وجهها بعد كلمات آلاء ونهال..
قالت بقلق وهو يخرجون من الشقة ويهبطون لأسفل:-
– طب أنا هروح فين دلوقتي .. والشقة دي صاحبها عايز الإيجار…
رددت نهال بغضب:-
– تولع بجاز يا رِفقة إنتِ متعرفيش شكل المخروبة دي عامل إزاي …حسبي الله ونعم الوكيل في إللي كانت السبب ربنا ينتقم منها وأشوف فيها يوم، الشقة غير آدمية ومينقعدش فيها يا رِفقة حتى صاحبها إللي أجرها راجل معندوش من الضمير ذرة..
قالت رِفقة باعتراض:-
– بس أنا قعدت يوم في شقته ولا يوم ونص ودا حقه بغض النظر الشقة عامله إزاي..
خلينا نعدي على أي ماكينة لسحب الفلوس ونسحب فلوس ونبعتهاله…وكمان علشان أشوف أي فندق وأقضي فيه يومين على ما ألاقي شقة
تسائلت آلاء:-
– مش مرات خالك سحبت فلوس للشقة على أساس إنها هتشتريها…
رمقتها نهال بنظرة ذات مغزى وهي تهمس بينما تتوقع ما سيحدث:-
– ربنا يستر…
وصلوا لأسفل فلكزت آلاء رِفقة وهمست بمكر:-
– يعقوب باشا واقف قدام العمارة زي الحرس..
ارتجف قلب رفقة وتلونت وجنتيها بلون الشفق لتبتسم بصفاء وهي تقف أمام يعقوب الذي ابتسم بحنان وهمس برِقة ورفق:-
– رِفقة..
رددت دون أن تشعر بشرود بما زلزل قلب يعقوب وجعله يطرق بجنون شاعرًا بنبض قلبه في عنقه:-
– أُوب..
اتسعت أعينها بصدمة لتُسرع تقول بتوتر متداركة هذا الخطأ:-
– آسفة جدًا …أنا كنت بس بفكر في حاجة، يعني علشان كدا قولت إللي بفكر فيه .. مشهد في كرتون كنت بتفرج عليه وأنا صغيرة …علشان كدا
تنهد يعقوب تنهيدة مطولة وقال وهو يفتح الباب بهدوء:-
– ماشي يا رِفقة أما نشوف أخرتها معاكِ …يلا اركبي على مهلك..
قالت بلطف:-
– شكرًا جدًا على كل إللي عملته، ممكن بس توصلني لأي فندق كويس..
أردف يعقوب بحسم:-
– مفيش فنادق ويلا اركبي..
تسائلت باعتراض:-
↚
– أمال هروح فين … لو سمحت سيبني براحتي..
– قولت اركبي وهنتكلم يا رِفقة..
وبالفعل ركب الثلاث فتيات في الخلف وقاد يعقوب يخرج من هذا الحي المشبوه…
وبعد مدة قصيرة لكزت رِفقة نهال التي قالت:-
– لو سمحت وقف عند ال Atm الجايه دي هنشوف حاجة في دقيقة…
أوقف يعقوب السيارة ليهبطوا ثلاثتهم قبل أن يلقي يعقوب الأسئلة..
وقفت نهال أمام الماكينة ووضعت البطاقة الائتمانية الخاصة برِفقة والتي أملتها الرقم السري…
وبعد لحظات اتسعت أعين نهال بصدمة كانت تتوقعها ورمقت آلاء التي أغمضت أعينها بحزن لأجل رِفقة..
تسائلت آلاء بحزن:-
– إنتِ كان معاكِ كام فيها يا رِفقة..
ابتسمت رِفقة وقالت بحنين:-
– تحويشة بابا وماما .. كانوا نصّ مليون، كان بابا باع نصيبه في الأرض بتاعته وحطّ الفلوس دي باسمي تحسبًا لأي حاجة وكأنهم كانوا حاسين إنهم مش هيرجعوا … وفعلًا علشان لسه مش لاقيه مكان شغل يقبلني فبصرف منهم..
توقفت نهال بحيرة لا تعلم كيف تخبر رِفقة، في الأساس هي كامن متوقعة هذا الشيء لكن رِفقة جُل ما عرفته عن زوجة خالها أنها أردات فقط أن تتخلص من عبئها…
لكن حسمت أمرها ففي النهاية يجب أن تعلم رِفقة الحقيقة وإن كانت مريرة، قالت نهال بثبات:-
– بصراحة يا رِفقة … الحساب فاضي .. الفيزا مفيهاش فلوس … النصابة سرقتهم..
في تلك الأثناء بينما يقف يعقوب أمام السيارة ينظر إلى ما يفعله الفتيات بتعجب وما الذي تُخبأه رِفقة، ارتفع صوت رنين هاتفه ليُخرجه من جيبه وأجاب على الفور:-
– أيوا يا كريم…
قال كريم مسرعًا وهو يلهث:-
– يعقوب إنت لازم تيجي قسم الشرطة بسرعة علشان تنهي المهزلة دي قبل ما توصل لِلبيبة هانم..
اعتدل يعقوب ليتسائل بقلق:-
– في أيه يا كريم أيه إللي حصل..!!
– الست إللي اسمها عفاف مقدمة بلاغ فيك إنك اتهجمت عليها في بيتها واعتديت على بناتها تحت تهديد السلاح…
تربد وجه يعقوب بالغضب ونطق بنبرة خطيرة جحيمية:-
– الولية دي شكل دماغها هبت منها على الأخر ومحتاجة تتربى وتتعلم الأدب..
بس هي معذورة يا كريم .. هي لسه متعرفش بتتعامل مع مين، ومين يعقوب!!
نطق كريم يُحذره:-
– يعقوب أتصرف بحكمة وبلاش تسرع علشان ميوصلش لبيبة بدران حاجة من الدوشة دي، أنت ناسي إن الست دي ذكرت اسمك في قسم الشرطة ولو اتسربت معلومة من دي أكيد هتوصل للبيبة بدران..
صرخ يعقوب بتفلت أعصاب حتى وصل صوته للفتيات ليُخرجهم من صدمتهم:-
– ولا تهمني لبيبة بدران ولا غيرها إللي عنده حاجة يعملها أنا خلاص شبعت من عميلها…
قال كريم يُهدئه:-
– طب اهدى اهدى وخلينا نحلها سوا…
قولي إنت عايز حاجة أعملها دلوقتي..
أردف بوعيد من تحت أنفاسه اللاهبة:-
– الولية دي متطلعش من مركز الشرطة ألا ما أنا أجي … أنا جاي حالًا..
عند رِفقة التي تسمرت تُردد بصدمة:-
– مش فاهمة .. يعني أيه الحساب فاضي!!
قالت نهال بحزن:-
– للأسف يا رِفقة الحساب مسحوب منه كل الفلوس … احكي أيه إللي حصل معاكِ الفترة الأخيرة .. لأن المبلغ ده كبير مينفعش يتسحب من الماكينة مرة واحدة وفي يوم واحد، أكيد عفاف عملت مكيدة تانية..
قالت رِفقة بتيهة وأعين باهتة والحزن يمور بداخلها بينما تتذكر الأحداث الأخيرة التي حدثت معها:-
– أنا معرفش .. معرفش حصل أيه .. هي بعد ما كلمتني وقبل ما نروح الشقة .. روحنا البنك وهي قالتلي هنسحب الفلوس بتاعة الشقة إللي كانت ٢٥٠ ألف بس … وبعدين صاحب الشقة قالي إن الشقة إيجار مش تمليك .. قولت يمكن هي مرضتيش تقولي إنها إيجار ووفرت الفلوس والمهم إنها خلصت مني وخلاص..
أنا وثقت فيها وعطيتها الرقم السري بتاع الفيزا، ماشي تكرهني وأبقى عِبء عليها لكن إنها تضحك عليا وتاخد الفلوس إللي أهلي سايبنها ليا وهما عارفين إن لا أملك غيرها وبصرف منها لأن لغاية دلوقتي مفيش شغلانه بتقبلني..
اشتد حزن كلًا من آلاء ونهال بينما يعقوب الذي وقف على مقربة منهم يستمع لما يدور وقد صُبّت النيران في دمه، ومزق الألم قلبه لما حدث لِرفقة..
بينما طفقت نهال تتسائل:-
– طب مش فاكره هي خليتك تمضي على حاجة يعني أي أوراق..
أخذت رِفقة تعود بذاكرتها للخلف وهي تشعر أن الأرض قد ضاقت عليها بما رحبت لتُسرع تقول بينما تساقطت من أعينها دموع الأسى:-
– أيوا .. هي في وقت قبل كدا كانت جابت كام ورقة وقالتلي إنهم إجراءات يخصوا بابا وماما ولازم أمضي عليهم .. أنا عمري ما شكيت فيهم خالص .. أنا وثقت فيهم .. ليه عملوا معايا كدا..
احتضنتها نهال بحنان وأخذت آلاء تمسد على ذراعها..
قالت نهال بحرقة تحرق جوفها:-
– حسبي الله ونعم الوكيل، ربنا ينتقم منها يارب..
– رِفقة..
التفتت رِفقة بأعين دامعة عندما سمعت صوت يعقوب لتهمس بنبرة مرتعشة حزينة:-
– نعم..
نبرة كانت كألف سوط على قلب يعقوب العاشق العاكف في محراب هواها…
قال برِفق وتحنان:-
– يلا علشان ترتاحي..
وقفت كالتائهة تلتفت من حولها تعشر بشعور قاتل، شعور بالعجز والإنهزام والوحدة..
ذلك الشعور الذي تسببتم في أن أشعر به الآن، سيُحاسبكم به الله حتمًا، فقد أخبرته بكل شيء..
همست رِفقة بصوت متقطع ضعيف تائه:-
– أروح فين … أنا … أنا أعمل أيه…
قال يعقوب بحنان ولهفة:-
– أنا موجود … معايا يا رِفقة .. بكرا الصبح هنتجوز وهتكوني معايا في بيتك..
وأكمل بوعيد:-
– ورب العباد لأدفعهم تمن كل إللي عملوه .. بس ثقي فيا يا رِفقة..
هوصلك دلوقتي لشقتنا ومن بكرا الصبح كل حاجة هتتغير…
يلا بينا..
سارت بصحبة آلاء ونهال بانهزام خائرة القوة ودموعها تتساقط شاعرة بالشفقة على نفسها، شعور مؤذي لأبعد حدّ…
إنها مجرد زائد في هذا الكون، لا أحد لها، لا أهل..
↚
لا سند … لا أحد يُحبها ولا أحد يُريدها، مجرد عِبء يحاول الجميع التخلص من ثقله…
لكن ما ذنبها .. وماذا فعلت؟!
ليس ذنبها أنها فقدت البصر، تلك مشيئة الله ولا يحق لها الإعتراض..
إن صار كل نافع ضار فليرحمنا الله، فإن كان هم من تحمل دماءهم فكيف يكون الغريب..!!
ظلت جالسة بين آلاء ونهال تهبط دموعها الكاسفة على وجنتيها بصمت على روحها المنهكة..
كان يعقوب ينظر لها بالمرآة الأمامية بقلبٍ مكلوم يتقد بنار الإنتقام، يُقسم أنهم سيدفعون ثمن كل دمعة تذرفها عينيها الجميلتان..
رفع هاتفه ثم أرسل رسالةً ما وأغلقه وهو يُكمل طريقه…
بعد مدة قصيرة كان يقف أمام إحدى البنايات الراقية، هبط ليهبط الجميع..
قال عبد الرحمن وهو يُشير ليعقوب:-
– أنا هنتظرك هنا يا يعقوب..
حرك يعقوب رأسه بإيجاب وصعد للأعلى لتصعد خلفه الفتيات حتى وقف أمام إحدى الشقق والصمت يُزين الأرجاء…
فتح يعقوب الباب ليقول بهدوء:-
– اتفضلوا..
وقف قليلًا ثم قال:-
– رِفقة .. الشقة هنا آمنة جدًا وفيها كل حاجة…
أنا نازل وهرجع عالطول وإنتوا لو سمحتوا تفضلوا مع رِفقة لغاية ما أرجع…
أقترب من رِفقة فابتعد كلًا من آلاء ونهال ليتركوا لهم مساحة، وأردف بهدوء:-
– الصبح مجرد ما تكوني على ذمتي كل حاجة هتتغير، هيبقى عندي الحرية والحق أقولك على كل إللي جوايا واحتوي حزنك ووجعك..
وبوعدك يا رِفقة إن هرجعلك حقك وادفعهم تمن كل إللي عملوه..
لا تعلم أتحزن أم تضحك؟!
هناك بروحها أصبح حاجزًا يمنعها من الثقة المطلقة والأمان بعد ما رأته..!
نعم هي فاقدة للبصر لكنها تستشعر صدق نبرته إلا إذا كان منافقًا متلونًا بالخداع مثلما فعلت عفاف وبناتها..
نعم كانت تعلم أنها تُثقل كاهلهم لكنها لم تعلم خداعهم وكرههم لها..
– أستاذ يعقوب..
كان صوت أحد شباب توصيل الطعام بمطعمِه يقف أمام باب الشقة الذي تركه يعقوب مفتوحًا..
أقترب منه يعقوب وأخذ الطعام ثم عاد للداخل وقال لرِفقة بحنان:-
– دا كُل الأكل إللي بتحبيه .. كُلي واشبعي وامسحي دموعك .. أنا اتعلمت منك إن ربنا أبدًا مش بيجيب حاجة وحشة .. مش إنتِ قولتيلي كدا، وإننا لازم نرضى بالأقدار إللي ربنا يكتبها لنا، وإن أي حاجة تحصل لنا أكيد خير…
كمان إللي حصل ده خير؛ لأن ربنا بيّن لكِ أشخاص كنتِ مخدوعة فيهم وإلا كنتِ فضلتي كدا العمر كله، وناس زي دي ملهومش أمان يعني تتوقعي منهم الأسوء، أنا المرة دي بقولك مع إن محدش علمني ولا رباني على كدا .. قولي الحمد لله … واستعدي علشان أنا بوعدك إن بكرا هيبقى يوم سعيد …دا وعد من يعقوب..
أنا هنزل أعمل شغله وأرجع وهبقى في الشقة إللي قصادك..
وخرج راحلًا تحت إندهاش قلب رِفقة التي ابتسمت بدموع بينما قلبها فيطرق بشدة ووجهها الذي يتغضن بالألم أصبح يومض بالحُب للمرة الأولى… والأهم أنها تشعر بالأمان يتسرب لقلبها رويدًا رويدا..
********************
بعد خروج يعقوب تاركهم في حالة من الصدمة التي لم يتخيلوها بأحلامهم يومًا..
صاحت أمل بغلّ:-
– إنتوا شوفتوا إللي شوفتوا .. مين يعقوب ده ويعرف رِفقة منين، شوفتوا كان بيدافع عنها إزاي وملهوف عليها..
أردفت شيرين بحقد وكره:-
– دي عاميه… إزاي قدرت توقع واحد زي ده..
تسائلت أمل بحيرة:-
– يكون عارف بالمبلغ إللي معاها وعايز يلهفه منها..
رددت شيرين برفض:-
– مبلغ أيه يا بنتي .. إنتِ هبله .. دا منظر واحد يبصّ على مبلغ زي ده .. بالنسبة ليه فكة..
العاميه إللي اسمها رِفقة قدرت فعلًا توقعه وتوهمه بقلبها الطيب يا عيني وبراءتها..
هنا نطقت عفاف أخيرًا بأعين مليئة بالشرّ:-
– بح .. الفلوس إللي كانت معاها مبقاش لها ولا مليم..
تسائلت أمل بعدم فهم:-
– قصدك أيه يا ماما..!!
– قصدي إن الفلوس بقت ملكنا .. دي حقنا إحنا بقلنا قد أيه مقعدنها ومستحملين قرفها وأكل وشرب ولبس ويدوب مكانتش بتسحب ألا ملاليم، دا تعويض لنا على كل إللي عملناه، وبعدين واحدة عاميه زي دي ملهاش مستقبل هتعمل بالفلوس دي أيه، دي المفروض تقعد في أي دار رعاية ويبقى حلو أوي عليها وتستنى الموت لما يجيلها…
فلوس جهاز أيه .. ولا جواز أيه إللي هتتجوزه..
رددت شيرين بحماس وفرحة:-
– بجد بجد يا ماما .. يعني إنتِ دلوقتي معاكِ نصّ مليون جنيه … يعني المبلغ ده حقيقي بقى ملكنا..
إزاي عملتي كدا يا ماما .. حقيقي إنتِ دماغك سم..
أخرجت عفاف من حقيبتها ورقة بتوكيل عام لجميع ما تمتلكه رِفقة وأسفلها توقيعها وبصمتها، أي أن لها مُوجب التصرف بكل شيء حتى بسحب الأموال من حسابها البنكي..
قال عفاف بفخر وكأنها قامت بأحد الإنجازات العظيمة:-
– أنا خليتها تمضي عليه من غير ما تحسّ، وسعد ابن عمك شغال في البنك وسهّل الموضوع عليا..
ضحكوا جميعًا في سعادة، لتقول شيرين بقلق:-
– بس دلوقتي رِفقة هتتجوز إللي اسمه يعقوب ده، دا فعلًا شكل الموضوع بجد..
ابتسمت الأفعى عفاف وقالت بشر يعبق قلبها:-
– مبقاش عفاف لو خليت الجوازة دي تتم…
– هتعملي أيه يعني!!
استقامت وهي تقول:-
– عايزاكم بس تبهدلوا نفسكم كدا وشعركم وتقطعوا هدومكم … وبصوا تمثلولي دور المنهارين لأبعد الحدود…
تسائلت أمل بعدم فهم وتعجب:-
– طب إنتِ هتعملي أيه … وخارجة ليه دلوقتي..
ابتسمت بخبث وقالت وهي تخرج متصنعة الإنهيار والبكاء:-
– واحد اتهجم على بيتي وبناتي والجيران شاهدين هروح فين يعني..
وخرجت تركض منهارة تحت شفقة الجيران لتوقفها أحدهم متسائلة:-
– أيه يا عفاف …في أيه عندكم ومين كان داخل يتهجم عليكم كدا..
ازدادت عفاف في البكاء وأخذت تقول بتمثيل:-
– شوفتي إللي حصلنا يا أختي بسبب مقصوفة الرقبة إللي اسمها رِفقة، دا واحد تعرفه وجاي يهددنا …يعني ده جزاءنا بعد ما فتحتلها بيتي، مش كفاية سابتنا من كام يوم وقالت أنا قرفت من القاعدة والعيشة معاكم … ودا كله ليه …علشان بنسألها لما بترجع متأخر ولا تقعد من أول النهار لأخره في الشارع..
ألقت كذبتها وركضت منهارة بالشارع لتعلو همهمات الجيران وسخطهم لما حدث…
↚
بعد قليل كانت عفاف تقف أمام رئيس المركز بعد أن سردت له أكاذيبها وهي تتصنع البكاء والإنهيار وبمجرد ذكرها لاسم يعقوب بدران ثار الضابط المسؤول وهو يطرق فوق سطح المكتب وصاح بانفعال:-
– إنتِ اتجننتي يا ست إنتِ .. إنتِ تعرفي بتتهمي مين …دا وريث عائلات بدران يا كيداهم، روحي دوري على غيرها وخدي بعضك واتكلي على الله من هنا بدل ما تروحي في شربة ميا…
حتى لو إللي بتقوليه حصل أحسنلك تنسي الموضوع ده وتروحي على بيتك أحسنلك..
ررد ضابط آخر يقول بحقد دفين تحت أسماع عفاف:-
– وتنسى الموضوع ده ليه يا باشا، هما زيهم زي أي مواطنين ولازم فضايح آل بدران إللي عاملين نفسهم صفوة المجتمع تبقى على كل لسان علشان رفعة الراس الكدابة إللي هما فيها دي نخلص منها..
إحنا لازم نمشي في التحقيق والإجراءات وكل واحد ياخد حقه…
– ودا رأيي بردوه يا سعادة الباشا، كل واحد لازم ياخد حقه …ولازم تشوفوا شغلكم وتبدأوا التحقيق والتحري فورًا…
كان هذا صوت يعقوب الذي ولج للمكتب برأس شامخ وجسد مشدود، كانت طلته كفيلة ببث الرعب بأوصال عفاف وما جعل هلعها يبلغ عنان السماء حين قال يعقوب:-
– أنا كمان عندي أدلة أكيد هتفيدكم عن عمليات سرقة ونصب واحتيال وضيف لهم الشروع في القتل……
– يعقوب باشا .. اتفضل..
ولج يعقوب للداخل ثم جلس بهدوء فوق المقعد واضعًا قدمًا فوق الأخرى بكبرياء بينما يرمي عفاف المرتجفة بنظرات مستحقرة من أعلى لأسفل…
قال أحد الضُابط وهو يرمق يعقوب بغضب مكتوم:-
– أكيد يا يعقوب إنت متهم لغاية ما تثبت براءتك..
ابتسم يعقوب بخفة وردد عاقدًا جبينه:-
– بس إنتوا بتقولها باين .. المتهم بريء حتى تثبت إدانته، جات عندي واتغيرت ولا أيه..!!
وأكمل يعقوب وهو ينظر للضابط المسؤول الأعلى رُتبة:-
– ممكن أعرف مين إللي هيبقى مسؤول عن التحقيق علشان أتكلم معاه..
ردد المقدم “براء” بجزم وهو يُشير للضابط الأخر:-
– اتفضل يا سيادة النقيب على شغلك .. أنا ويعقوب هنتكلم..
خرج الضابط على مضض بينما يكبت إعتراض يلوح فوق لسانه في حين يرشق يعقوب بنظرات ناقمة..
استرخى يعقوب بجسلته دون مبالاة ثم هتف بتسلية يتلاعب بأعصابها:-
– يلا نبدأ وكل واحد يقول إللي عنده يا براء باشا، عندي تسجيلات من قلب البنك هتعجبكم أووي وأوراق وكالة عامة على أعلى مستوى..
وبالمقابل طبعًا إنت عارف إن الطب متطور أوي وأكيد السيدة الوقورة عفاف مش هتعترض أبدًا إن بناتها يتعرضوا على الكشف الطبي، وأنا مجرم متعاون جدًا…
ولا أيه يا عفاف … الجرب..
شحب وجه عفاف أكثر وهي تُسرع تقول بنفي:-
– لا .. لا يا باشا .. أنا غلطانة مش هو ده الشخص، يمكن غلط في الأسماء…
أنا همشي يا باشا بعد إذنك .. أنا مش عايزه حاجة..
وقفت تفرك يديها ليغمز يعقوب لبراء فيقول:-
– غوري ودي أخر مرة تهوبي هنا..
أطلقت لقدميها العنان تفرّ خارجة وكأن وحوشًا كاسرة تطاردها وهي تتيقن أن تلك الطريقة لن تُجدي نفعًا مع هذا المتكبر المتفاخر..
هي تعلم ما الذي سيجعله ينسحب من تلك الحرب..!!
تعجب براء وهو يتسائل بغرابة:-
– ليه سبتها تمشي يا يعقوب، الأدلة إللي معاكِ توديها في ستين داهية…
أسند يعقوب ظهره للخلف وقال بنبرة غامضة يتخللها المكر والخُبث:-
– مش بالساهل كدا يا براء … السجن ده أخر خطوة، لازم أعيشها الرعب والمذلة إللي عيشتها لرِفقة … لازم تدفع التمن غالي قبل ما تتعفن في السجن..
تنفس بعمق وهو يستقيم ثم قال وهو يمد يده يُصافح براء:-
– شكرًا جدًا لك يا براء وأكيد هنبقى على تواصل..
أردف براء بصدق:-
– وأنا في الخدمة يا يعقوب والولية دي هتاخد جزاءها أكيد..
– تسلم يا باشا..
خرج يعقوب وسار نحو سيارته ليتنهد براحة قبل أن ينطلق نحو مكانٍ ما، غاب بداخله أقل من ساعة ثم خرج يبتسم بينما يحمل بعض الأشياء بسعادة عرفت طريق عُقد وجهه التي لم تسري السعادة فوقها من قبل…
*****************
بمجرد أن رحل يعقوب هاتفت نهال والديها وأخبرتهم أن ستظل مع رِفقة لظرفٍ ما وعلى مضض وافق والديها لمعرفتهم برِفقة وحالها..
نظرت نهال بحزن على رِفقة التي لم تتناول بالكاد سوى لُقيمات قليلة بانطفاء، أردفت تقول بضجر:-
– إحنا هنفضل قاعدين كدا يا بت يا رِفقة، تعالِ أعرفك على الشقة وأوصفهالك شبر شبر ما هي بردوه هتكون بيت صاحبتي وأختي..
وأكملت تقول بمكر:-
– وبعدين هو سي يعقوب قالك أيه كدا مخليكِ سرحانة أوي كدا..!!
بس ما شاء الله عليكِ يا بت يا رقرق وقعتي واقفة، جايبلك كل الأكل إللي بتحبيه حتى المشروبات .. ألا قوليلي هو عرف عنك دا كله إزاي..!!
ابتسمت رِفقة بشحوب فهذا يعقوب لم ينبثق إليها إلا في أشد الأوقات ظُلمة، فهكذا يكون الفجر الصادق لا ينبعث إلا من الظلمة الكاحلة..
همست تقول بحيرة:-
– مش عارفه والله … بس يمكن علشان أنا مثلًا كنت بزور مطعمه عالطول .. بس أصلًا هو مش كان بيبقى موجود ألا يجي مرتين أو تلاته..
اقتربت منها نهال وهتفت بسعادة:-
– يلا بقاا أهي مصلحة .. كل يوم والتاني هروح مطعم البوب أكل لما أشبع ووقت الحساب أقول أنا تبع مدام يعقوب..
لكزتها رِفقة وأردفت بوجه متخضب:-
– بطلي بقااا يا بت يا نهنه وبطلي تقوليلي رقرق دي..
– أنا مش عارفه أيه الهباب إللي إحنا فيه ده، حتى اسماء الدلع إللي مختارينها كلها مُشتقه من النكد والعياط.. نهنه وترقرق… حاجة أخر انشكاح ما شاء الله علينا..
– كله منك يا نكديه..
جذبتها نهال برفق وأردفت:-
– تعالي يلا أعرفك على الشقة القمر دي..
سارت معها رِفقة لتبدأ نهال تشرح لها كل شيء وتجعل يدها تتحسس مكان المقاعد والأثاث وتوصف لها كل شيء بدقة .. الألوان والتصاميم وكل شيء…
وقالت بانبهار وهي تفتح الشُرفة:-
– ما شاء البلكونة مليانة زرع وورد زي ما بتحبي يا رِفقة وفيها نجيلة صناعية .. شكلها مُبهج أوي..
وكمان أغلب ألوان الشقة فاتحة زي ما بتحبي…
وأكيد يعقوب هيعدلها على حسب ذوقك كمان..
ابتسمت رِفقة وهي تتحسس الأرضية بأقدامها وأصابعها تتلمس الورود والزرع بفرحة فيالعشقها للطبيعة والزهور…
قالت نهال وهي تتأملها:-
– بس واضح إنها معموله قريب مش من بعيد..
أبلج يُشرق وجهها ثم قالت بهدوء:-
– ممكن بس يا نهال تساعديني أتوضى وتعرفيني مكان القبلة عايزه أصلي وأقعد شوية لواحدي..
سارت بصحبتها نهال وتمتمت:-
– حاضر يا رِفقة وأنا هشوفلك إتجاه القِبلة في الموبايل…
وبعد مرور القليل كانت رِفقة تجلس فوق سجادة الصلاة شاردة تتذكر الأحداث الماضية وما لاقته على يد زوجة خالها وبناتها وتلك الصدمة التي تلقتها منهم، نعم كانت تعلم بأنهم لا يستحسنون مكوثها لديهم، لكن ما فعلوه يبرهن كرهمم وحقدهم الدفين تجاهها…
↚
اشتعلت النيران بقلبها ليسقط دمعها، همست بإصرار وهي تجمع كفيها تمدهم لأعلى:-
– أنا رِفقة يارب … بوعدك إن دي أخر مرة هبكي فيها، وبوعدك إن من هنا ورايح هبقى قوية ومش هسمح لحد يإذيني ولا يوجعني…
أقولك على حاجة .. أنا أصلًا قوية بيك، طول ما إنت معايا أنا مش هخاف من أي حاجة في الدنيا دي، علشان عارفه إنك موجود وهتحميني..
أنا واثقة إن كل دا حصل لحكمة لا يعلمها إلا أنت، ويكفي إن عرفت حقيقة ناس كنت مخدوعة فيهم وكانوا بيضحكوا عليا…
أنا هشكيلك من حاجة يارب، دلوقتي أنا الحمد لله والله مش زعلانة فقدت البصر وأنا راضية، ليه الناس بتستغلني وتمكر ليا، ليه يعاقبوني على حاجة أنا مليش ذنب فيها…
وبما إنك تعلم ولا أعلم يارب فأنا بوكلك بكل شيء وأنت خير وكيل، بوكلك يا عادل تاخد حقي وتحميني…
اللهم من أراد بي سوءًا أو شرًا فرد كيده في نحره وأشغله في نفسه واجعل تدبيره تدميرًا عليه يارب العالمين..
اللهم اضرب الظالمين بالظالمين…
اللهم أهلك الظالم لظلمه اللهم إنه أبكى عيونًا وقهر قلوبًا فأرني فيه عجائب قدرتك..
اللهم يا منتقم انتقم من كل مَن أذاني، اللهم إنك تعلم أنني لا أستطيع دفع هذا الأذى عن نفسي، اللهم اكفني مكرهم ورد كيدهم في نحورهم…
وهمست بإيمان وتلك الآيه حضرتها:-
– {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِه}
كفكفت دموعها وهي تأخذ على نفسها عهدًا أنها لن تبكي مرةً أخرى إلا سعادةً…
همست برضى:-
– الحمد لله يارب .. الحمد لله على ما أعطيت وعلى ما منعت .. أنا راضية واجعلني دايمًا كدا قلبي مليان بالرضى..
وأخذت تردد بامتنان ويقين:-
– { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا }
تذكرت يعقوب لتستقيم وهي تؤدي ركعتي استخارة تطلب من رب العالمين أن يرشدها ويسددها لما فيه خير، كانت دائمًا عند أي أمر تهرع إلى بابه تسأله وتستخيره وإلى الآن لم يردها الله خائبة فقد أحسنت التوكل عليه وقد كفاها… ركعتي الإستخارة والدعاء طوق نجاتها من أمورٍ كثيرة..
همست برجاء ويقين:-
– يارب ارشدني ودلني على الطريق الصحيح، أنا محتاره ومش عارفه أعمل أيه وإنت علّام الغيوب وجيت أخبط على بابك..
يارب لو هو خير ليا فسهل ليا كل الأمور وقربه مني، ولو هو شر فابعده عني يارب..
يارب أنت خير صاحب فكن ليا الصاحب في كل خطوة من حياتي…
وجلست تتنهد براحة وهي تشعر أن أثقال كالجبال انزاحت من فوق قلبها، وتلك السكينة والطمأنينة لا تنالها إلا بجوار خالقها…
ضمت ساقيها نحو صدرها وقد جال بعقلها تلك الأحداث الأخير ليتغلغل إلى ثنايها يعقوب…
كلماته … وعوده .. وصدقه … رجولته..
وبالأخير تلك النبرة الحانية العاشقة التي كان يُحدثها بها…
بزع فوق فمها إبتسامة حالمة مطمئنة وصدى صوته يتكرر داخل عقلها وجدران قلبها..
انبعثت التساؤلات والفضول حوله، هو ليس الشخص فقط الذي حدثها عنه هناك من هو أعمق من هذا، هناك كثير داخل جُعبة يعقوب الذي تجهله!!
أفاقت من شرودها وهي تسمع رنين جرس الباب لبُرهة انكمشت على نفسها لكنها تذكرت وجود نهال معها…
بعد دقيقة ولجت نهال المسرعة بلهفة نحوها تهمس بحماس:-
– رِفقة .. رِفقة …يعقوب برا .. تعالِ عايزك..
اضطرب قلبها وشعرت بنبضاتها تتعالى بشكل جديد لا تألفه، همست بتوتر:-
– طب .. هو مقالش عايزني ليه وكدا..!!
ابتسمت نهال على خجلها وأردفت بمرح:-
– عريس يا ست رقرق .. وهيقولي ليه يعني .. بس جايب حاجة كدا معاه متحمسة أعرف هي أيه .. يلا يا بت قومي كلمي جوزك .. أقصد إللي هيبقى جوزك بكرا..
لكزتها رِفقة تردف بخجل:-
– بطلي يا نهال .. دا إنتِ فظيعة.. إنتِ كدا بتكسفيني بجد..
– طب يلا يا أخت المكسوفة الراجل برا مستني وأظن عيب نسيبه كدا وهو واقف والباب مفتوح، والله جنتل أووي وذوق ومحترم…
– نهاااااال افصلي..
– سكتنا يا ست رقرق محدش هيعرف يكلمك بقاا.. يلا يلا تعالي نطلع…
خرجت بصحبة نهال تشعر بالخجل والتوتر وتختبر تلك المشاعر العذرية للمرة الأولى…
رفع يعقوب وجهه الذي ينبثق منه مشاعر السعادة والارتياح للمرة الأولى بعد الشقاء والقيود الذي عَان منها كل تلك السنوات الثقال وأخيرًا يشعر بالحرية، فتقع أعينه فوق وجهها الذي أضاء بشعاع من الطُهر والنقاء كان كفيل بأن يُبدد ظُلمته لأخر نقطة..
تأملها بدون تصديق، وجهها النقي الذي تُلطخه حُمرة الورد برداء الصلاة الأبيض المزركش بالزهور، تأتي على استحياء مضطربة خافضة الرأس حتى وقفت أمامه، إنها جائزة صبره، حقًا يعقوب الأسير يستحق كل هذا النقاء والطُهر…
وزادت هي الأمر سوءًا على صبره حين ابتسمت برِقة غير مصطنعة وخجل وهمست:-
– نعم .. نهال قالت إنك عايزيني..
ابتلع ريقه وهمس يعقوب بتلقائية وهو يُترجم عن قلبه:-
– وسط حياة مليئة بالقيود، كُنتِ أنتِ الشعاع الذي انبثق ودكَّ جميع العُقد.
ارتفعت وتيرة أنفاسها ورددت بعدم فهم وهي تكتم صدمتها:-
– نعم .. مش فاهمة .. قصدك أيه.!!
تنحنح وهو يقول بتدارك:-
– مفيش .. أنا بس كنت جاي أقولك إن بكرا إن شاء الله هنروح العصر وهنكتب كتابنا في بيت خالك قدام الناس كلها وقدام الحرباية عفاف وبناتها الأفاعي .. والكل هيبقى شاهد..
هتبقى فترة زي الخطوبة هنتعرف فيها على بعض بس هنكتب الكتاب علشان أبقى بحريتي معاكِ…
رددت بصدمة وتوجس:-
– نعم … قصدك أيه..
أغمض أعينه وعاد مسرعًا يُعيد صياغة حديثه:-
– يعني أقصد علشان أقدر أحميكِ وتكوني قدامي عالطول ونتكلم براحة أكتر … يعني أقصد أكيد لغاية ما ترتاحي وساعتها هنعمل فرح وكدا…
لم يمر هو بتلك المشاعر والأضطرابات، من يراه الآن وهو كالطفل أمامها ينتقي مفرداته ويسعى لِلَحظ الرضى منها لا يُصدق أنه ذاته يعقوب المتعجرف المتكبر، بالتأكيد إذا رأته لبيبة الآن ستصاب بذبحة صدرية..
قالت رِفقة مبتسمة تخبره بأول ملاحظة لها عليه:-
– على فكرا إنت جريء أوي..
رفع يعقوب كفه يتحسس نهاية شعره وعنقه ونطق بأول كلمات قالتها له وأحبها:-
– جزاكِ الله خيرًا…
كتمت رِفقة الضحك بشق الأنفس ليُسرع يعقوب يقول قبل أن يتفوه بحماقات أخرى فهي حقًا خطر على قلبه:-
– أنا جبت كل الحاجات إللي هتحتاجيها بكرا، ولو ناقصك أيه حاجة قوليلي….
وأكمل يقول قبل أن يهرع هاربًا:-
– أنا في الشقة المقابلة لكم عالطول لو احتاجتكي أي حاجة أنا موجود…
تصبحي على خير..
وخرج وقد أغلق الباب من خلفه ليتوقف يتنفس بعمق واضعًا كفه فوق قلبه وهتف بجدية:-
– ما تِركَز يا يعقوب في أيه…
بينما في الداخل ضحكت رِفقة بشدة لتأتي نهال مسرعة تفتح الأشياء التي جاء بها يعقوب…
– تعالي يا بت يا رِفقة نشوف هو جايب أيه…
فتحت مغلف كبير لتشهق بانبهار وقد اتضح أمامها فستان باللون الأبيض رقيق ناعم جدًا، رغم جماله فهو بسيط..
صاحت تقول بحماس:-
– فستان يا رِفقة …فستان أبيض جميل أوووي..
لم تُنكر رِفقة سعادتها كطفلة سعيدة بملابس العيد، تلك اللافتة قد جبرت جزء كبير جدًا من قلبها، ترقرق الدمع بأعينها بفرح وهي تهمس بعدم تصديق:-
– بجد يا نهال .. بجد فستان .. يعني أنا هلبس فستان…
احتضنتها نهال بسعادة وقالت بحنان:-
– جد الجد يا حبيبتي، إنتِ تستاهلي كل ما هو جميل يا رِفقة وإنتِ مش أقل من أي عروسة تلبس فستان يوم كتب كتابها…
ثم سحب أيدي رفقة ووضعتهم فوق الفستان لتبدأ يدها ترى تفاصيله بينما تشرح لها نهال تصميمه بدقة…
وأردفت تقول:-
– كمان موجود معاه جذمة بيضا بكعب صغير مربع شكلها قمر أووي … اااه علشان كدا عرفت البت آلاء قبل ما تمشي كانت بتبص على قفا جزمتك ليه … والله ما حد سهل وخصوصًا يعقوب بتاعك ده..
↚
أشرق وجه رِفقة بالسعادة وهي تتحسس الحذاء والحجاب الطويل المرفق لهم فرحة طفولية…
أردفت نهال وهي ترى سعادة رِفقة:-
– حقيقي واضح أووي عليه إنه واقع فيكِ يا رِفقة وبيحبك … جوازه منك مش شفقة ولا ليه أي سبب ألا كدا ودا هو إللي مأجل يقولهولك بعد الجواز…
للمرة الأولى تغفو رِفقة بتلك السعادة تنتظر الغد بفارغ الصبر…
تتمد فوق الفراش الناعم ليس فوق الاريكة الضيقة بمنزل خالها أو الفراش الخشن بتلك الشقة المهجورة، وأمامها مُعلق فستانها وحجابها وأسفلهم حذاءها ينتظروها من أجل الغد…
وكذلك استغرق يعقوب في النوم بينما يحتضن الوسادة سابحًا ببحر أحلامه المتدفق وملامح وجهه منفرجة مرتاحة…
******************
– عملتي أيه يا ماما .. ومال وشك كدا .. أيه إللي حصل .. سجنوا إللي اسمه يعقوب ده..
رمقتها عفاف بسخرية وقالت:-
– سجنوه .. دا أنا إللي كنت هتسجن وهتسحل يا روح أمك … إنتِ متعرفيش يعقوب ده طلع مين..
ناولتها أمل كوب ماء بارد لتتسائل بسخرية:-
– وطلع مين يعني … ابن رئيس الوزراء…
قالت عفاف بخبث وحقد:-
– طلع حاجة هتخدمنا جدًا … يبقى حفيد عيلة كبيرة أووي في البلد اسمها بدران، ناس متعنظين ومناخيرهم في السحاب، وليه جِده أجارك الله…
رددت شيرين بحقد:-
– يعني أيه …عايزه تفهميني إن رِفقة العاميه هتتجوز واحد بالهيلمان ده كله…
دا جاي يتجوزها هنا بكرا في المنطقة وقدام كل الناس!!!
أردفت عفاف بشر متوعدة:-
– على جثتي لو ده حصل ولا إن هنيت بنت نرجس في حياتها … اصبروا على إللي هعمله بكرا، هقلب الترابيزة عليها وهخليها نُكته ومسخره قدام الكل …هتبقى فضيحة للرُكب وإللي يسوى وميسواش هيتفرج…
*********************
مات الليل وانبعثت شمس النهار ليوم جديد يترقبه قلبان لا يطيقان صبرًا…
كانت تجلس بوجه متجهم تحتسي قهوتها بوجوم وغضب من تصرفات حفيدها الأكبر يعقوب الذي لا نهاية لعناده ولا لتصلب عقله…
أصبح لا يرضخ لأي تهديد واهٍ منها وهي التي تموت إن أصاب مكروه لخصلة من خصلات شعره لذلك تُمسك نفسها بشق الأنفس..
قطعت عليها خلوتها مساعدتها الشخصية التي قالت بوقار:-
– بعتذر جدًا من حضرتك يا لبيبة هانم، بس في حاجة مهمة جدًا لازم حضرتك تعرفيها…
نطقت بصرامة وهي مازالت على حالتها:-
– قولي…
أردفت الأخرى بتردد:-
– هي بصراحة حاجة غريبة شوية…
في رسالتين وصلوا لحضرتك على أرقام الشركة..
الأولى بتقول إن يعقوب باشا كان في مركز الشرطة ليلة إمبارح … احممم علشان يعني…
التفتت لبيبة ترمقها بنظرات نارية وصاحت:-
– كملي…
– بيقولوا إن هو اتهجم على بيت في أحد المناطق المتوسطة واعتدى على بنتين…
صرخت لبيبة بغضب أعمى:-
– إنتٍ اتجننتي…يعقوب بدران مستحيل يعمل القذارة دي …اعرفي مين بعت الرسالة دي ويكون قدامي في أقرب وقت…
رددت المساعدة بتوتر من حالتها التي لا تُبشر بالخير بينما تدك الأرض بعصاها:-
– بس في حاجة تانية يا فندم أفظع…
ثم وضعت الجهاز أمامها لتتبين محتوى الرسالة أمام أعين لبيبة التي توسعت بصدمة…
“حفيدك الغالي يعقوب هيبقى كتب كتابه على بنت عامية معدومة فقيرة النهاردة بعد العصر، لو حابة تشوفي جنون عشق حفيدك والحياة الغرامية إللي عايشها من ورا ضهرك تعالي على العنوان ده وإنتِ هتشوفيه وأنا واثقة إنك هتفرحي بيه أوي”
صرخت لبيبة صرخة هزت أرجاء القصر:-
– لااااااا … مُــــــســـــــــتـــــــــحـــــــيــــل..
– مفيش أجمل من دا صباح، الصبح إللي أقوم فيه من النوم على صوتك..
دا أجمل صباح مرّ بحياة يعقوب كلها..
همس بها يعقوب الذي يقف بالشرفة مع شروق الشمس، فقد استيقظ على صوت رِفقة تتلو القرآن بالشرفة الملاصة لنافذة الغرفة التي كان ينام بها بالشقة المجاورة..
استغل الفرصة وركض حيث الشرفة ليقف يستمع إليها بشغف وعشق شديدين وهو يتسائل بداخله ما الذي قام به في حياته لينال تلك النعمة العظيمة ألا وهي رِفقته…!!
نعم… فهي لهُ نِعمة لا تُقدر بالأثمان، فإن كانت هي جزاء صبره على تلك السنوات المريرة فدعهُ يُقبل تلك السنوات عامًا عام وشهرًا شهرا ويومًا يوما حتى ودقيقةً دقيقة ولحظةً لحظة إذا كان ثوابه في النهاية …. رِفقة..
بينما رِفقة فقد استيقظت قبل شروق الشمس بحماس لم تبلغه من قبل بحياتها، أدت صلاة الفجر بصحبة نهال .. انفرط شغفها متحمسة للجلوس بالشرفة التي وصفتها لها نهال أمس بأنها مليئة بالزهور والزروع…
جلست بحماس في تلك الأرجوحة المجوفة وهي بقمة سعادتها وهي تشتم رائحة نسمات الصباح المختلطة برائحة الزهور بنهم ثم فتحت مصحفها الخاص بالمكفوفين وأخذت تُردد صورة البقرة بصوتٍ خاشع رقيق وهي تتحسس الصفحات بأصابعها غافلة عن هذا المتلصص…
وبمجرد أن انتهت من الترتيل ومن ترديد أذكار الصباح كانت تشعر براحة كبيرة وطاقة عالية..
أتت نحوها نهال تضع فوق المنضدة الصغيرة كوبان وبعض البسكويت وهتفت وهي تجلس:-
– لقيت هنا نسكافيه بالفانيليا قولت أعملنا كوبايتين أنا عارفة إنك بتعشقيه وللصدفة العجيبة لقيت بسكوت بالحليب إللي بتعشقيه..
وأكملت بمكر:-
– أكيد دي كلها مش صُدف .. شكل يعقوب عارف إنتِ بتحبي أيه وجايبه..
تنهدت رِفقة وأردفت بتحذير:-
– اصطبحي يا نهال..
وبعدين ينفع نشرب كدا مش المفروض كنا عرفناه على الأقل..
وضعت نهال الكوب بيد رِفقة وناولتها بعض البسكويت وقالت وهي ترتشف بلامبالاة:-
– يا أختي الجدع هيبقى بعد كام ساعة جوزك وتقولي نستأذن … دا ده بقاا بيت صاحبتي يا بت يا رِفقة … خلاص أنا بقيت من أهل البيت يا عالم..
رددت رِفقة ببعض التوتر:-
– ربنا يستر..
تسائلت نهال بخبث:-
↚
– بس قوليلي يا بت يا رِفقة .. صاحية يعني النهاردة بدري وبقمة نشاطك وحيويتك، أنا حاسه إنك معرفتيش تنامي من الفرحة والحماس واضح واضح عليكِ …دا كله تأثير يعقوب وكتب الكتاب.!
أصاب قلب رِفقة الاضطراب لكنها تصنعت الإمتعاض تواري بِه هذا الشعور وأردفت بسخط:-
– إنتِ عارفة إن طول عمري بصحى في الوقت ده يا قدري البرتقالي علشان ألحق أعمل روتيني الصباحي…
هنا تذكرت نهال شيئًا ما لتتسائل بفضول:-
– ألا قوليلي يا رِفقة إنتِ كل يوم بتقرأي سورة البقرة … وبتلحقي تخلصيها دي كبيرة أوي..
ابتسمت رِفقة ببشاشة ورددت بلُطف:-
– مش شرط تخلصيها كلها في قاعدة واحده، ممكن تقسميها على مدار اليوم .. وبعدين واحدة واحدة … أنا الموضوع كان الأول عندي صعب بس تدريجي بقى سهل جدًا وبقيت متعوده، وبعدين لما تعرفي فضل سورة البقرة مش هيهون عليكِ تسيبيها وهتعافري إنك تحافظي عليها مهما كانت الظروف ومش هتستغني عنها..
تعرفي الرسول صلّ الله عليه وسلم بيقول عليها أيه…
بيقول(اقرأوا البقرة فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعُها البطلة)
بتبقى بركة في قلبك وحياتك وبيتك ومعاملاتك وكل حاجة … وكمان بتحصنك جدًا لدرجة إن السحرة مش بيقدروا على إختراق تحصينها للي بيقرأها…
يعني هتشوفي الفرق في حياتك ملموس جدًا…
شعرت نهال بالخجل أمام رِفقة لكن رغم هذا تشعر بحديث رِفقة يغمرها بالحماس والطاقة لتقول:-
– إن شاء الله أكيد هبدأ أنظم الدنيا وهقرأها على مدار اليوم … ربنا يجازيكِ خير يا رِفقة ويزيدك يا حبيبتي..
ابتسمت رِفقة ببشاشة وأردفت بحنين وصوت به مسحة من الحزن:-
– ماما الله يباركلها ويردها هي وبابا سالمين كنت دايمًا أشوفها بتقرأها كل يوم الصبح من بدري ولما سألتها قعدت تشرحلي، علشان كدا بيتنا كان كله راحة وسكينة .. كان بيتنا دافي أوي يا نهال بوجود بابا وماما…
وصمتت وهي تمنع سقوط هذا الدمع الذي أخذ في النمو فوق عسليتيها الصافيتين وأكملت بغصة:-
– بعد ما بعدوا عني مالقيتش حد يعلمني وحالتي مكانتش بتساعدني لأن مكونتش بعرف أوصل للكتب إللي تناسبني بلغة برايل ومش كانت كلها متوفره .. وعلى ما اتعلمت طريقة القراءة بيها، اعتمدت على السماع … فاكرة لما ساعديني أشتري موبايل Touch وعرفتيني كتير في إستخدامه وبقيت أجي عندك تنزليلي دروس على اليوتيوب وأما أروح أسمعهم…
ساعدني كتير أووي الموضوع ده لغاية ما الموبايل باظ…
نفخت نهال قائلة بغضب:-
– أيوا لما الأفاعي ولاد خالك الكذابين كانوا يقولوا معندناش واي فاي بالرغم من إن شوفته عندهم الرواتر علشان مش يخلوكي تستخدميه..
غير بقاا متقوليش الموبايل باظ .. هما وقعوه في الميا عن عمد .. حسبي الله ونعم الوكيل..
تذكرت رِفقة تلك الحوادث التي كانت تحدث معها وهي كانت تصدق أنها تحدث بالخطأ بسبب حالتها، كانوا يستغلون إبتلائها…
شعرت بالحُرقة بقلبها وقالت:-
– ربنا عادل وأنا راضيه بعدله، ربنا شاهد على كل شيء ودا يكفيني .. ربنا سمع ورأي كل شيء يا نهال ودا مطمني…
بسببهم بقيت خايفة من كل الناس…
أردفت نهال بتذمر:-
– بلاش السيرة العِكره دي على الصبح، جفاف والأفاعي عيالها…
– لسانك متبري منك يا نهال هانم…
ابتسمت ثم تنحنحت نهال لتتسائل بحذر:-
– بقولك يا رِفقة كنت عايزه أسألك سؤال…
هو إنتِ لسه عندك أمل إن طنط نرجس وعمو يحيى يرجعوا..!!
ابتسمت رِفقة كعادتها ثم تحدثت بيقين:-
– تعرفي يا نهال أنا مؤمنة بالله حدّ المعجزة، أيوا انتهى زمن المعجزات لكن لم تنتهي قدرة الله..
عندي ثقة ويقين بالله إنهم هيرجعوا حتى لو كانت الأسباب كلها مستحيلة…
وبعدين بعد ما عرفت نوايا مرات خالي الأمل جوايا كبر وفكرت من زاويا تانية، بما إنهم كانوا بيكذبوا عليا في كل حاجة إذًا إن موضوع بابا وماما فيه كلام تاني وإن كلامهم مش مظبوط…
وواصلت بحزن متنهدة:-
– كان نفسي يكونوا موجودين معايا في يوم زي ده، ويمكن لو كانوا موجودين مش كنا وصلنا للمرحلة دي..
استقامت نهال وجذبت رِفقة بمرح قائلة:-
– النهاردة يوم مش عادي ومش عايزين ننكد يا ست رِفقة … النهاردة فرح …. فرح وبس..
يلا قومي نعمل شوية ماسكات ونجهز حالنا…
وولجوا للداخل تاركين يعقوب الذي تعددت مشاعر شتى بقلبه….
هذا مجرد شيء بسيط بحياة رِفقة، مجرد خيوط رفيعة في نسيج معاناتها.. إنها مجرد البداية فقط..
أقسم بداخله أنه سيعوضها عن كل ما لاقته..
*****************
صدمة جمدت أوصلها، عقلها المغرور يرفض تصديق هذا الأمر حتى وإن رأته بأم أعينها…
استقامت وهي تحرك رأسها بنفي وتقنع نفسها بأنه محال أن يفعل يعقوب هذا .. محال أمر زواجه .. إنها مجرد كذبة لا أكثر…
أيقظها صوت مساعدتها تقول بإحترام:-
– أوامرك يا لبيبة هانم … تحبي نتصرف إزاي…
استدارت لبيبة وقالت بقسوة بملامح جامدة:-
– الخبر الأول دا مفروغ منه لأن أنا واثقة إن يعقوب مستحيل يعملها، وإللي وصل الخبر ده تجيبوه من تحت الأرض علشان يدفع تمن تجرأه على يعقوب باشا وإتهامه الإتهام القذر ده…
أما بالنسبة للخبر التاني فأنا هروح بنفسي أتأكد
قبل الميعاد وواثقة إن هيكون خبر كاذب علشان يعقوب ميعملهاش..
خليهم يجهزوا العربية هنروح على العنوان…
*******************
وقف يعقوب أمام باب الشقة ليُخبر رِفقة التي تقف أمامه بداخله الشقة بصوت هادئ ونبرة غريبة:-
– اعملي حسابك يا رِفقة هنمشي بعد الضهر، جهزي نفسك…
عقدت رِفقة ما بين حاجبيها متسائلة:-
– مش إنت قولت بعد العصر..!!
ابتسم يعقوب لها بحنان قائلًا:-
– كل حاجة جاهزة مفيش داعي للتأخير، كلمنا المأذون وكريم راح يجيبه…إنتِ كمان يلا اجهزي…
طرق قلب رِفقة واحمرت وجنتيها واكتفت بتحريك رأسها لتتسع إبتسامة يعقوب وقلبه يُحلق من فرط سعادته، وقال برِفق قبل أن يذهب:-
– يلا أسيبك تلبسي وأروح أنا كمان ألبس علشان مش نتأخر…
حركت رأسها بتوتر وأغلقت الباب لتركض نحوها كلًا من نهال وآلاء التي أتت لتشارك رِفقة سعادتها وتساندها…
صرخت نهال بمرح:-
– مش باقي ألا ساعة على الضهر .. يلا يا رِفقة علشان تجهزي…
جذبها كلًا من آلاء ونهال نحو الغرفة وأخذوا في مساعدتها لإرتداء الفستان ولّف الحجاب بطريقة مميزة ساترة، لتصبح رِفقة في هيئة ملائكية تزينها طهارتها ونقاء قلبها وعِفتها..
مدت آلاء أصابعها تضع شيء فوق وجه رِفقة التي ابتعدت باعتراض هاتفة:-
– لا مش تحطي حاجة على وشي يا آلاء .. أنا مش بحب الحاجات دي وميصحش أطلع بيها برا البيت..
هتفت آلاء بتوضيح:-
↚
– دا مرطب بس يا رِفقة علشان المُقشر إللي عملتهولك نهال …مفهوش أي مشكلة متقلقيش…
تنهدت رفقة وهي تتركها لتتنفس بعمق وهي تشعر بسعادة كبيرة تغمرها، ظلت تتحسس الفستان بأناملها تستشعر جماله ورِقته وتستشعر نفسها بداخله، رفعت أناملها تتحسس وجهها أيضًا وكأنها هكذا ترى نفسها بقلبها…
قالت آلاء بانبهار:-
– ما شاء الله اللهم بارك يا رِفقة حقيقي زي القمر، كمية براءة في وجهك غير طبيعية…
تأملتها نهال بأعين دامعة من الفرح لتهمس بحب صادق:-
– طول عمرك جميلة بطبيعتك يا رِفقة وجمال قلبك وروحك … حقيقي يا سَعد يعقوب وهناه بيكِ…
احتضنتها بحنان قائلة:-
– أنا فرحانة أووي يا رِفقة .. ربنا يسعدك العمر كله يا ست البنات…
بادلتها رِفقة العناق وانضمت آلاء لهم، لتقول رِفقة بامتنان:-
– مش هنسى أبدًا وقفتكم جمبي .. إنتوا نعمة من ربنا ليا … ربنا يباركلي فيكم وما يحرمني منكم ويسعد قلبكم ويجبره يارب…
بينما عند يعقوب الذي جاء من الخارج مسرعًا يحمل بيده شيء وضعه بعناية فوق الأريكة ثم اتجه نحو المرحاض ليقابله عبد الرحمن يقول بمرح:-
– اتأخرت يا عم العريس .. دايمًا يقولوا العروسة هي إللي بتتأخر في المواقف دي …بس شكلنا مع يعقوب هنشوف كل حاجة مختلفة…
كان لازم يعني تنزل تجيب بوكيه الورد بنفسك، ما أنا قولتلك هروح أنا .. بس إزاي دا يعقوب الهيمان، والله يا جدع الواحد لغاية دلوقتي ما مصدق إن ده كله يطلع من تحت راسك …
بقا دا كله تأثير جزاك الله خيرًا…
كان يعقوب قد تركه منذ أول جملة وولج للمرحاض لينعم بحمام بارد سريع ليظل عبد الرحمن يتحدث وهو يجلس فوق الأريكة مرتدي ملابس أنيق بارتياح باسطًا ذراعيه على ظهر الأريكة متمتمًا بشرود بدون تصديق:-
– يعقوب … بقاا يعقوب البارد … يعقوب المتكبر المنعزل … والله الدنيا اتقل خيرها يا جدع .. لو كان حد حكالي مكونتش صدقت .. دي أخر حاجة أتوقعها في الدنيا بل من الأساس هي خارج التوقعات…
قفز بفزع نتيجة صفعة قوية فوق رأسه وبصوت يعقوب الساخر يقول:-
– وأنا أفهم الكلام ده مدح ولا ذم إن شاء الله، إنت هطلع عليا سُمعة ولا أيه، تعرف لو نطقت بكلمة من هزارك ده قدامها إنت حر يا عبد الرحمن.
أطلق عبد الرحمن صفيرًا قائلًا بمكر:-
– واجب عليا أوعيها دا جواز يا يعقوب باشا..
انقلبت نبرة يعقوب إلى الجدية ونمت بعض المخاوف بداخله وتسائل بنبرة بها غصة مريرة:-
– وهو أنا فيّا الصفات دي فعلًا، يعني إنت شايفني كدا….
شعر عبد الرحمن بالندم وأسرع يقول بتدارك:-
– لا طبعًا يا يعقوب … أنا بهزر مش أكتر…
أردف يعقوب بجدية:-
– يبقى متخوفهاش مني … هي لسه متعرفش يعقوب ودي المرحلة الجاية هبدأ أعرفها عليا واحدة واحدة وعلى كل حاجة الوحش قبل الحلو..
ابتسم عبد الرحمن بوقار شاعرًا بالسعادة حقًا ليعقوب فهو صدقًا يستحق هذا العوض، بل هو بأشد الحاجة لرِفقة أكثر من حاجتها هي إليه..
اقترب منه عبد الرحمن واحتضنه بأخوية قائلًا بصدق:-
– ألف مبروك يا يعقوب وأخيرًا العوض عن كل المرار إللي شوفته يا بوب..
طبطب يعقوب فوق ظهره قائلًا:-
– الله يبارك فيك عقبالك يا عبدو…
تأمل عبد الرحمن يعقوب بتقيم، ملابسه المنمقة الأنيقة .. بنطال باللون الأبيض وكذلك قميص بنفس اللون يعلوه سُترة باللون الأزرق الغامق، وخصلاته المشذبة بعناية ولحيته الخفيفة التي تُظلل وجهه..
قال بتقيم:-
– طول عمرك أنيق وباشا يا بوب، أيه الأناقة دي..
ضرب يعقوب على كتفه وقال بغرور مصطنع:-
– عارف يا عبدو … ويلا قدامي على تحت كريم مستني ومعاه المأذون..
خرج عبد الرحمن متذمرًا وهو يتمتم بسخط:-
– بخربيت تواضعك يا أخي…
هبط للأسفل ليترك يعقوب أمام باب رِفقة يشعر بقلبه يكاد أن يدكّ أضلعه ويفرّ، للمرة الأولى يشعر بهذا الشعور .. للمرة الأولى يشعر بكم السعادة الوفير هذا .. سعادة أولها وأخرِها رِفقة فقط..مأواه وعالمه الجميل…
طرق الباب وهو يحاول أن يحتفظ بملامحه الثابته…
بالداخل بعد أن أدت رِفقة صلاة الظهر وجلست تُردد بداخلها بعض الذكر والدعاء..
ارتعش قلبها فور أن سمعت طرق الباب وكاد أن يغشى عليها من فرط التوتر..
تحرك آلاء ونهال بحماس واللتان انتهوا للتو من إرتداء ملابسهم الجميلة…
قالت آلاء وهي ترتب حجاب رِفقة:-
– أنا هروح أفتح وإنتِ يا نهال اطلعي مع رِفقة ورايا…
قالت نِهال:-
– تمام يا لولو…
التفتت نحو رِفقة ثم قالت وهي تمسك كفيها برِفق تجعلها تستقيم:-
– بصي يا رِفقة أنا عيزاكِ تهدي خالص، إنتِ هتقابلي الحرباية عفاف والأفاعي عيالها عيزاكِ تكوني سعيدة لأبعد حد وتفرحي وتستمتعي باليوم ومش تسمحي لحد يعكر عليكِ اليوم…
ابتسمت رِفقة رغم اضطراب قلبها وأردفت بثقة وقوة:-
– متقلقيش يا نهال أنا عارفة أنا هتصرف إزاي…
جذبتها نهال بسعادة وقالت:-
– طب يلا نطلع العريس منتظر..
تنفست رِفقة بعمق وهي تُمسك بكف نهال هامسة بتوتر:-
– أنا مكسوفة أوي يا نهال ومتوتره …خليكِ معايا.
همست لها نهال بحنان وهم يسيران للخارج:-
– عيزاكِ تعرفي أن أنا معاكِ وفي ضهرك دايمًا ومستحيل أسيبك، واهدي وعيشي كل مشاعرك، دي كلها ساعة ويبقى جوزك على سنة الله ورسوله وقدام كل الناس…
وقف يعقوب وأعينه معلقة بالممر بلهفة ليشعر بأن العالم توقف من حوله فور أن وقعت أعينه فوقها تأتي إليه في هالة من النقاء لا يقوى قلبه المسكين على تحملها..
اتسعت أعينه وقد فقد الشعور بمن حوله، لا يدري بالزمان ولا بالمكان… فقط كتلة البراءة تلك المجسدة بهذا الرداء الأبيض..
شعور لا تصفه كلمات، شعور أكبر من كلماته…
أسرع يُبعد عينيه عنها فإن طال الأمر دقيقة واحدة فهو لا يدري بالنتائج وسيخرج الأمر عن سيطرته..
وقفت أمامه رِفقة مخفضة الرأس ملطخة الخدين بالورد وهي تفرك يديها بتوتر شديد وقلبها ينبض بقوة جعلتها تشعر أن من حولها يسمع تلك الطرقات المجنونة وهذا فقط عندما وصل إليها رائحة عِطره الأخّاذ…
أيعقل أن رائحة العطور تجعل القلوب تثور إلى هذا الحد المخبول..؟!
تنحنح يعقوب يستدعي صوته المبحوح ليخرج متحشرجًا وهو يقول بينما يضع بين يديها باقة من زهور الأقحوان:-
– اتفضلي..
انبلجت إبتسامتها على الفور بمجرد أن لامست أصابعها الباقة وشعرت بأنها زهور الأقحوان المفضلة لديها، بالتأكيد هذه جميعها ليست محض صُدف إنها دراسة دقيقة من جهة يعقوب لرِفقة لمعرفة ما تُفضل، هذا ما قامت باستنتاجه نهال بعبقريتها…
همست رِفقة بسعادة:-
– أقحوان…
– إللي بتحبيه…
↚
رفعت أعينها الجميلة نحوه ولم تدري أنها رشقت بأعينه وقالت بإمتنان وسعادة تدفق من أعينها:-
– حقيقي شكرًا جدًا…
غمرت السعادة قلب يعقوب لرؤيتها سعيدة وهمس بهدوء:-
– يلا بينا..
حركت رأسها بإيجاب لتتحرك الفتيات بجانب رفقة يخرجون من الشقة وأغلقوا الباب، تحرك يعقوب يسبقهم وهبطوا خلفه حتى وقفوا أمام السيارات..
ساعدت نهال رِفقة في الجلوس في الخلف وجلس يعقوب بجانبها ليتصاعد التوتر بداخلها مرةً أخرى وعطره يحاوطها رغم وجود مسافة كبيرة بينهم..
قالت رِفقة بتوتر وهي تلتف من حولها:-
– نهال .. وآلاء..
أردف يعقوب بهدوء:-
– متقلقيش هما في العربية التانية مع كريم ومعاهم المأذون..
يلا يا عبد الرحمن..
******************
– أيه إللي حصل في غيابي يا عفاف..؟!
تسائل عاطف خال رِفقة، فأجابت عفاف بكذبتها للمرة العاشرة:-
– زي ما قولتلك كدا يا عاطف أنا هقعد أعيد كتير، بنت أختك المحترمة كانت ماشيه مع واحد على حلّ شعرها وجابك من سفرك على ملا وشك علشان يتجوزها…
ردد عاطف بسخرية:-
– هو أنا تايه عنك يا عفاف .. اتقي الله إنتِ عندك بنات…
استقامت عفاف بضجر وهي تصيح:-
– يووووه بقااا ..إنت حر صدق إللي تصدقه..
ولجت غرفة بناتها ثم اتجهت نحو الخزانة ووضعت زجاجة ما فوق سطحها بحذر..
تسائلت شيرين بتعجب:-
– أيه ده يا ماما…
قالت عفاف بشر وحقد:-
– دي إحتياطي …. لو حصل أي تغيير في الخطة..
قالت أمل بقلق:-
– ليه هي ممكن جدته متصدقش ولا يكون مش وصلها الرسالة.. دا كدا ممكن الجوازة دي تتم ومش باقي كتير على العصر..
أردفت عفاف بحقد:-
– دا على جثتي …على جثتي لو تمت الجوازة..
ولم تُكمل حديثها حتى سمعوا طرق الباب فهرع الجميع للخارج وفور أن فتح عاطف الباب تجمد ثلاثتهم عند رؤيتهم لرِفقة في ثوبها الأبيض بغاية الجمال تقف بجانب يعقوب جامد الملامح شامخ الرأس والذي يرميهم بنظرات لو كانت النظرات تقتل لأسقطتهم صريعًا..
كانوا يرمون رِفقة بحقد وغيرة واضحة وهم في حالة من الصدمة لهذا الذي يحدث والذي هو خارج الخطة تمامًا وخارج ما رسموه..
أسرع عاطف بالترحيب:-
– اتفضل يا يعقوب باشا … تعالي يا رِفقة عاملة أيه يا بنتي..
ولج يعقوب بصحبة رِفقة للداخل وخلفهم آلاء ونهال التي ترمي عفاف وبناتها بنظرات مشمئزة مبتسمة بشماته..
جلس الجميع .. المأذون وكريم وعبد الرحمن كشاهدين بينما مازالت عفاف وشيرين وأمل يقفون متجمدين في صدمتهم..
قال يعقوب بصرامة:-
– أستاذ عاطف أتمنى تنادي على جيرانك وأهل منطقتك علشان يشرفونا ويبقى في إشهار والكل يعرف إن رِفقة هانم بقت على اسم يعقوب بدران شرعًا وقانونًا…
حرك عاطف رأسه وأخذ يُجري بعض المهاتفات ولم يلبثوا إلا قليلًا حتى حضر الجميع بحماس بعض الرجال والنساء اللواتي يحبون رِفقة…
في هذا الاثناء كانت عفاف تدور بالغرفة كمن مسه جان وقد جنت من الرنين على تلك الأرقام التي تعود لشركة بدران لكن لا فائدة…
ضربت أمل الفراش تقول بجنون:-
– شوفتيها كانت لابسه أيه … شوفتي الفستان شوفتيه واقف يحميها إزاي وبيبصلها إزاي…
بقى رِفقة العامية بقت هانم..
هتفت شيرين بسخرية:-
– ولا شوفتيها وهي رافعة راسها ونافخة نفسها إزاي وطايره من الفرحة…
همست عفاف بتوعد ونار الحقد تكويها:-
– حتى لو لحق واتجوزها مكونش أنا عفاف لو خليتك تبص في خلقتها تاني يا يعقوب باشا..
وقالت بصرامة لبناتها:-
– يلا يا بنات على برا علشان الناس متتكلمش..
كان المنزل مُكتظ بالجيران الطيبون الذين أخذوا في تهنئة رِفقة، وأمام الباب يقف أخرون وبعض الأطفال وأسفل المنزل مما أعطى الأجواء نكهة الفرح..
ابتسم يعقوب وقال للمأذون:-
– يلا يا شيخنا توكل على الله..
على مدخل الحي كانت سيارة تعود لآل بدران تقتحم الحي بحثًا عن المنزل المنشود وبها لبيبة بقلبها الذي يتلوى قلقًا…
بداخل المنزل…
فتح المأذون دفتره لتهمس آلاء بمرح لنهال:-
– هو جاب صورة لرِفقة منين، وعمل التحضيرات دي كلها إمتى!!!
ضحكت نهال قائلة:-
– أنا أعرف يا أختي … الرجل ده فظيع يتخاف منه، هنبقى نخلي رِفقة تسأله…
انتشر الصمت فور أن بدأ المأذون يذكر الله والصلاة على رسول الله وأخذ يتلو بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية..
ثم أشار لعاطف قائلًا:-
– ردد ورايا…
إني استخرت الله العظيم وزوجتك موكلتي رِفقة يحيى عبد المنعم عثمان البِكر الرشيد على كتاب الله وعلى سنة رسول الله وعلى الصداق المسمى بيننا عاجله وآجله والحضور شهود على ذلك والله خير الشاهدين.
ردد بهدوء والعيون الحاقدة والقلوب التي يأكلها الحقد والكره تترقب بمرض…
التفت الشيخ ليعقوب المبتسم وقال:-
– ردد ورايا يا ابني..
إني استخرت الله العظيم وقبلت زواج موكلتك رِفقة يحيى عبد المنعم عثمان البِكر الرشيد على كتاب الله وسنة رسول الله وعلى الصداق المسمى بيننا عاجله وآجله والحضور شهود على ذلك والله خير الشاهدين.
ردد يعقوب وأنظاره مُعلقة برِفقة يشعر أنه الآن امتلك الدنيا بحذافيرها..
ترقرق الدمع بأعين رِفقة بتأثر وقلبها ينبض بجنون ولم تستطع كلًا من نهال وآلاء كبح دموع السعادة بينما هؤلاء الثلاث يقفون يشاهدون مكتوفي الأيدي عاجزين والحقد يفور بداخلهم…
ردد المأذون بإبتسامة:-
– بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير…
يلا كل واحد يمضي هنا ويبصم..
سحب يعقوب الدفتر ونقش إمضته بسرعة البرق ثم غمس إبهامه في ذاك الحِبر الأزرق وطبعه فوق الأوراق..
وضعه أمامه رفقة ووضع القلم بين أصابعها ثم اقترب منها هامسًا بحنان:-
– هتعرفي…
قاطعته تقول مبتسمة:-
– مش تقلق أنا بعرف أكتب عادي بس بحتاج توجيه لأن كنت بكتب وبقرأ قبل ما أفقد البصر.
امسك يدها بحنان يوجها إلى موضع الإمضاء، ارتعش بدنها لهذا التماس الأول من قِبل رجل…
أسند يدها وهي تنقش اسمها تحت توجيهاته ونظرات الجميع السعيدة لأجلها…
كرر المأذون مرةً أخرى:-
– بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير…
صفّق الجميع بحرارة تزامنًا مع تلك التي صرخت صرخة تردد صداها بالأرجاء بينما تقف بأعين متوسعة مصدومة غير مصدقة ما تراه وكأنها بكابوس لعين يجب إنتهائه، بينما التفت الجميع على إثر صرختها ينظرون إلى مصدر الصوت والذي لم يكن إلا لِلبيبة بدران الذي يجري على وجهها المتشنج غضبًا جمًا ليس لتمرد يعقوب فقط بل تعدى الأمر حدودها والقوانين التي استنتها:-
– يعـــــــــــــــــقوب….!!
ارتجف داخل رِفقة فور سماعها هذا الصوت ذا النبرة الشديدة والذي ينم على أن هناك شيء سيء..
بينما يعقوب فابتسم بهدوء والتفت ينظر لها ببرود وحوّل أنظاره لرِفقة التي جلى عليها التوتر، استقام وانحنى يُمسك كفيها برِفق حتى وقفت أمامه، اقترب منها وهو يرمقها بسعادة وطبع قبلة طويلة فوق جبينها جعلت قلب رِفقة يُرفرف كالذبيح مغمضة أعينها..
أخرج من جيب سترته عُلبة مخملية غير آبهٍ بنظرات لبيبة المستشيطة غضبًا..
أخرج حلقة زواج ذهبية رقيقة وأمسك بيد رِفقة اليُسرى وجعل أصبعها يتحسس نقش داخل الحَلقة ثم همس بحبٍ صافٍ تحت أسماع لبيبة التي يسري بدماءها حُمم بركانية:-
– أنتِ عميائي .. عمياءٌ أنتِ عن جميع الشرور التي تقبع بهذا العالم..
مشاعركِ العمياء عن كل ما يغضب خالقك..
عمياء القلب عن حب كل شيء بغيض..
↚
وقد خنع القلب المتكبر لِعمياء.. وإني لعاشقٌ لهذا العَمى الذي يتوجكِ مُميزة على عرش جميع نساء الأرض.
طفقت حُمرة على وجنتي رِفقة من كلماته العميقة جدًا وشعرت بخفقات قلبها تتزايد بجنون وهي تسمع يعقوب يقول:-
– هي دي الجملة إللي منقوشة جواها
“وخنع القلب المتكبر لِعمياء” دي جملة بتوصف حكايتنا وبوعدك إن هفهمهالك على أقل من مهلنا…
وضع حلقة الزواج برقة بخنصرها ثم سحب يدها الأخرى ووضع خاتم مُرصع بالألماس بأصبعها تحت صدمة عفاف وبناتها وهم ينظرون لرِفقة بحقد وغيرة شديدة متيقنين أن هذا يعقوب واقع في عشق رِفقة حدّ النخاع…
وضع يعقوب حلقته الفضية بإصبعه هو الأخر، ثم أمسك يد رفقة بحنان وهو يهمس لها:-
– هخليكِ النهاردة تعيشي يوم ولا في الأحلام.
ابتهج قلب رِفقة بسعادة وسارت بجانب يعقوب الذي توقف أمام جدته بشموخ ينظر لها بأعين ضيقة وقال بجفاء:-
– كنت منتظرك يا لبيبة هانم … عمومًا على غير العادة وصلتي متأخر..
المهم أحب أعرفك … رِفقة..
وصمت وهو يقول بإبتسامة عريضة:-
– مراتي…
لف ذراعه حول خصر رِفقة التي ارتجفت نتيجة فعلته وأخبرها بهدوء:-
– رِفقة …. دي لبيبة بدران … أم أبويا..
كانت نظرات لبيبة كلها تحدٍ صارخ ترمقه بهدوء وصمت رغم غضبها الناري، يحفظها يعقوب عن ظهر قلب … لذلك يفهم تلك النظرات جيدًا…
رفعت رأسها بشموخ وغرور وقالت وهي تضغط على كل كلمة … نبرتها كانت مُبطنة بالتهديد:-
– كويس إنك قولت لبيبة بدران ومقولتش جدتي يا يعقوب بدران … وأكيد واثق إن لبيبة بدران مش هتسمح أبدًا إن نسلها واسم بدران يتلوث بجوازتك دي … أموت أهون يا يعقوب باشا..
وأكملت ببرود بنبرة مُخيفة لا تعلم رِفقة لماذا بثت تلك السيدة الخوف بقلبها وبتلقائية تشبثت بذراع يعقوب ووقفت خلفه بحماية:-
– بس افتكر يا يعقوب إن إنت إللي رميتها في طريقي … طريق النار وأظن البُنية الكفيفة مش حِمل كدا … ولا أيه!!
التفت يعقوب لرِفقة المتشبثة بذراعه بينما أعين لبيبة كانت مسلطة فوق كفها المتمسك بذراع يعقوب باستخفاف..
رفع يعقوب يد رِفقة يُقبل باطن كفها بحنان تحت أنظار لبيبة التي توسعت بصدمة من هذا الانحناء في شخصية يعقوب…
بينما أردف يعقوب بنبرة قوية:-
– من هنا ورايح مفيش خوف، طول ما فيا نفس مش هسمح لمخلوق أيًّا كان هو يمس شعرة منك، متخافيش أنا معاكِ…
وأشار لنهال التي تقف تنظر بترقب لأخذ رِفقة بعيدًا عن مرمي حديث لبيبة الشائك..
ثم همس لها:-
– عشر دقايق وهنمشي من هنا..
حركت رأسها بإيجاب وهي تبتعد مع نهال بقلق..
وبمجرد أن أطمئن يعقوب بإبتعادها ارتسم البرود على وجهه واضعًا ذراعيه خلف ظهره وأحنى رأسه على جانب مبتسمًا بسخرية وهتف:-
– كنتِ بتقولي أيه…
طرقت بعصاها بالأرض وأردفت بصرامة واستنكار:-
– أيه المسخرة دي يا يعقوب باشا، انهي المهزلة دي فورًا..
وأكملت وهي ترمق الأرجاء باشمئزاز:-
– وإزاي يعقوب بدران يوصل لمناطق زي دي ويدخل بيت زي ده!!!
احتفظ يعقوب بجموده وزمجر بشراشة من بين أسنانه:-
– ابعدي عن طريقي يا لبيبة لأن إللي قدامك مش يعقوب الطفل إللي هتقدري تتحكمي فيه وتمشي تحكماتك عليه…
وواصل بنبرة نارية وأعين تقدح شرًا:-
– والله في سماه لو طال شعره من مراتي أقل القليل من الأذى لأحرق الدنيا كلها .. إنتِ لسه متعرفنيش…
رددت هي باستنكار:-
– مراتك..
أردف بتحدي:-
– أيه عندك إعتراض..
رفعت إحدى حاجبيها وهتفت وهي تحرك كتفيها لأعلى:-
– تمام يا يعقوب واضح إنها سيطرت على عقلك، أكيد نزوة وهتروح لحال نصيبها …بس أتمنى مش تطول … يعني يومين شهرين وهتزهدها وتملّ منها ويتم الطلاق في السر زي الجواز إللي في السر، ما هو مش معقول يعقوب باشا بدران يبقى خدام مراته العميا العمر كله، وممنوع الصحافة ولا أي مخلوق يشم خبر بالموضوع ده..
انفجر يعقوب ضاحكًا قائلًا بقوة:-
– مش بقولك متعرفنيش، مين قالك إن جوازي في السر …دا أنا هاخدها حالًا وألف الدنيا بيها، ومش فارق معايا أي مخلوق لا صحافة ولا أي مخلوق..
أنا هكون لها كل حاجة خدامها، أهلها، جوزها، حبيبها وكل حاجة…
هتفت لبيبة برفض قاطع:-
– صدقني مش هيحصل يا يعقوب، اسم بدران إللي فضل أجدادي محافظين على شموخه ومبادئه وقوانينه مش هسمح أبدًا لأي مخلوق مهما كان هو يلوث الاسم ده..
البنت دي أنا هعرف أتصرف إزاي وأخفيها من حياتك للأبد..
ارتفع صوت يعقوب بثوران:-
– التزمي حدودك يا لبيبة هانم واعرفي إن مش هسمح لأي مخلوق يتدخل في حياتي …الزمن ده انتهى … أما بالنسبة لاسم بدران إللي عيشتيني عمري كله أسير قيوده فأنا مستعد اتنازل عنه وأتبرى منه عمري كله…
ضربت صدمة عنيفة جسد لبيبة من هذا التهديد الخطير من قِبل يعقوب، وأيقنت بدهاءها أن العِناد لن يُجدي نفعًا مع يعقوب الذي وصل إلى تلك الدرجة وعليها أن تركن حيث الذكاء والخبث..
أردفت بصدمة ممزوجة بالغضب:-
– والله عال يا يعقوب بترفع صوتك على جدتك وأمك إللي ربيتك … تطور ملحوظ يا يعقوب باشا بهنيك…
بيما في الداخل عندما شعرت عفاف أن الأمور تخرج عن السيطرة وتمت تلك الزيجة لجأت للشق الثاني من خطتها..
أخذت الزجاجة من فوق الخزانة بملامح يرتسم فوقها الشر وغمغمت وهي تفتح الزجاجة ذات العُنق المتسع وقالت بشرّ:-
– همشي عادي وهي في إيدي بحجة راحة أنضف حاجة وبعدين أعمل نفسي اتكعبلت ويقع إللي في الإزازة على وشها..
وخرجت من الغرفة بتعجل ولم تلخظ الأحذية الملقاه بإهمال أمامها ولا ابنتيها شيرين وأمل اللتان يأتون مسرعين وهما يلتفتون من حولهم بتوتر ليخبروا والدتهم أن رفقة رحلت بصحبة يعقوب…
تعثرت عفاف مصتدمة ببناتها لتتناثر محتويات الزجاجة ساقطة بقسوة فوق وجهي أمل وشيرين وخاصةً بداخل أعينهم لينفجر الصراخ يعم أرجاء المنطقة بينما عفاف تنظر بأعين متسعة تشعر بقلبها يتوقف وهي تشاهد موقف لن يُمحى من ذاكرتها للأبد…
ــــــــــــــــــــــــــ•❥❥❥•ـــــــــــــــــــــــــ
جلست بجانبه بداخل السيارة بوجه متربد بالقلق وداخلها الكثير من التساؤلات حول يعقوب…
التفت يعقوب ينظر لها مبتسمًا وهو غير مُصدق أن كل شيء قد تم وأنها الآن بجانبه ولَهُ للأبد..
مدّ يده يُمسك كفها برِفق ليرتجف قلبها ليقول يعقوب يطمئنها:-
– مش عايزك تخافي وشيلي القلق من حياتك تمامًا … انسي كل حاجة النهاردة وخلينا نستمتع بيومنا .. وأنا وعدتك إن هفهمك كل حاجة…
ابتلعت ريقها وقالت بإرتجاف:-
– بس أنا مش فاهمه حاجة … غير كدا جدتك شكلها بتكرهني…
قاطعها يعقوب بقوله الساخر:-
– مش حكاية بتكرهك .. هي لبيبة بدران مش بتحب حد ألا قواعدها وقوانينها وتراث آل بدران إللي يتحرق بجاز..
ضحكت رِفقة على جملته الأخيرة وشاركها يعقوب الضحك لتتسائل باستنكار:-
– هي مش دي عيلتك بروده ولا أنا غلطانة.!
أردف بتلقائية:-
– أنا عيلتي رِفقة وبس..
اخفضت رأسها بخجل وشعرت بخفقات قلبها تتزايد بشكل جنوني، تنحنحت تقول لتخرج من تلك الدائرة وتهرب من خجلها:-
– بس يعقوب هي شكلها مش موافقة على جوازنا، وشكلك كنت عارف إنها هتيجي علشان كدا إنت غيرت الميعاد…
كان يعقوب قد توقف إستيعابه عند ثاني كلمة “يعقوب”، أبلج وجهه يُشرق ونهج صدره بسعادة وارتجّ نبض قلبه يمور بشدة خلف أضلعه وكأنها ألقت على أسماعه أشد قصائد الغزل العفيف..
تعجبت رِفقة من صمته وعدم إجابته، كرمشت جبينها وتمتمت على إستحياء:-
– يعقوب..
نبرة سرت على إثرها رجفة في أوصاله فتعالى لها خفقان قلبه، حمحم يستدعي ثباته وجرفها ببصره في لمحةٍ واحدة وقال بصوتٍ أجش:-
– نور عين يعقوب..
كلمات كانت هجوم غاشم على مشاعرها البتول وقد سرقت وجنتيها لون شقائق النعمان..
تنفست بعمق وامتزجت إبتسامتها مع قولها الخجل:-
– أصل يعني مش رديت … كنت بقول إنت أكيد كنت عارف إنها جايه..
أردف يعقوب بعتاب:-
↚
– مش قولنا مش عايزين النهاردة سيرة تعكنن علينا … أنا أكتر واحد عارف دماغ لبيبة بدران ومش هسمح لها تتدخل في حياتي تاني، وإحنا قدامنا العمر كله وأنا مش هسيب حاجة مش هحكيهالك..
كان حديثه يزيد فضولها نحوه أكثر وأكثر، لا تطيق الإنتظار حتى تعلم كل شيء عنه..
بينما يعقوب فتذكر ما حدث في صباح هذا اليوم وغرق عقله بتلك الذكرى…
¤فلاش باك¤
فور أن ترك الشُرفة بعدما استرق السمع على حديث رِفقة وتلاوتها القرآن الكريم، ولج لداخل الغرفة ارتفع صوت رنين هاتفه فسحبه بكسل ليجد المتصل رقم مجهول، تجاهله وهو يُلقي الهاتف بلامبالة لكن أصرّ الرقم على الإتصال إصرار عجيب ليتيقن يعقوب أنه أحد يعرفه..
رفع الهاتف وأجاب بجمود:-
– نعم..
أتاه صوت ملهوف مُسرع:-
– يعقوب .. يعقوب لازم أقولك على حاجة مهمة ضروري..
ردد بتعجب:-
– مين…
– أنا أمك يا يعقوب..
ابتلع ريقه وتشنجت ملامح وجهه وهو يُجيب مُضيقًا عينيه:-
– خير..
قالت مُسرعة بنبرة حزينة وهي تلتفت من حولها:-
– يعقوب أنا رغم إن حزينة وكان نفسي أبقى معاك وجمبك بس مش وقت الكلام ده يا يعقوب..
المهم دلوقتي إن جدتك وصلها الموضوع وعرفت إنك هتكتب كتابك بعد صلاة العصر وهتيجي توقف كل حاجة…
اتصرف يا يعقوب وخلص قبل وصولها، أبوك معاها وبيعطلها وبيقاوح معاها وهي شاده معاه..
متسمحش لحد يقف في طريق سعادتك يا نور عيني وافرح وعيش حياتك زي ما إنت عايز..
طالما دي إللي أختارها قلبك وحارب ومتسمحش لحد يقف في طريقك..
تنهدت وهي تقول بسعادة وحنان أموي:-
– شكلها البنوتة إللي شوفت صورتها، ربنا يسعدك يا حبيبي..
خرج يعقوب من شروده على تساؤل رِفقة الفضولي:-
– هو إحنا هنروح فين..!
ابتسم لها قائلًا بمرح وهو يتوقف بالسيارة على جانب الطريق:-
– وصلنا أهو وهتعرفي يا فضوليه..
هبط من السيارة ودار حولها وهو يفتح الباب لرِفقة ثم أمسك يدها يساعدها في النزول وهو ينحني يُبعد زيل فستانها عن مرمى خطواتها كي لا تتعثر…
سار للأمام وهو يُمسك بيدها..
تنفست رِفقة الهواء النقي بعمق وأردفت بسعادة:-
– المكان ده في شجر وزرع كتير صح..
ابتسم يعقوب وقال بإيجاب:-
– كله شجر وورد كتير …مكان كله أخضر زي ما بتتمني…
اندهشت رِفقة من معرفته بهذا الشيء والكثير من الأشياء عنها لتشعر بالسعادة وهي تدرك إهتمامه بأدق التفاصيل الخاصة بها.
كانت ردة فعلها أن شددت بكفها على كفه تتمسك به بتشبث أذهب عقل يعقوب…
توقفوا أسفل شجرة كبيرة تتدلى فروعها من حولها، سحب يعقوب رِفقة بحنان وجعلها تقف أمام شيء ما ثم وقف خلفها يُحيطها وأمسك كفيها يضعهم فوق شيئًا ما..
أخذت رِفقة تتحسس هذا الشيء مدة قصيرة لتصرخ بفرحة وهي تقفز بسعادة:-
– دي مُرجيحة… صح..
غمر النور قلب يعقوب عندما رأها بتلك السعادة، فقد أصرّ على صُنع أرجوحة مُعلقة بجزوع الشجرة وحبليها مُزينان بالورد المختلف الألوان…
لم تُصدق رِفقة ما شعرت به فتلك كانت أحد أمانيها وأحلامها، أرجوحة معلقة بأحد الأشجار مُزينة بالورود…
ومن فرط سعادتها لم تشعر إلا وأنها تستدير تعانق يعقوب بقوة مُفعمة بالسعادة..
تخشب يعقوب بينما هوت به الريحُ في مكانٍ سحيق ووقع قلبه صريع ردة فعلها ولم يكن منه إلا أن فعل ما أملاه عليه قلبه، رفع ذراعيه يطوقها مُبادلًا عناقها بآخر أشد وهو يشتم عَبقها الطاهر بنهم…
لكن حرمته من الجنة حين ابتعدت عنه بسعادة طفولية تقول بلهفة:-
– دي كانت أمنية من أمنياتي… كدا اتحققت واحدة من قائمة أمنياتي…
يلا عايزه أجربها جدًا..
افترّ ثغره عن إبتسامة خفيفة وهمس لها بنبرة صادقة:-
– يعقوب موجود علشان يحققلك أمنياتك واحدة ورا التانية … مش هسيب أي أمنية قيد الإنتظار وبوعدك إن هنزود لقائمة الأمنيات أمنيات جديدة كتير أووي..
وسحبها بهدوء وهو يُجلسها فوق الأرجوحة ووقف خلفها هامسًا:-
– مستعدة…
ارتفعت ضحكتها السعيدة قائلة بلهفة:-
– أووي أووي … يلا طيرني في السما يا أوب..
أتقصد أن تُصيبه بسكتةٍ قلبيه اليوم أم ماذا، تأمل سعادتها الطفولية وبراءتها ونقاءها وهي تتمسك بالأحبال المزينة بالورد بحماس شديد وفمها لم يُوصد على إبتسامتها الجميلة..
أخذ يعقوب يدفع الإرجوحة لترتفع برِفقة وأخذ فستانها الأبيض يتطاير من حولها بينما تُغمض أعينها والهواء العليل يحتضن وجهها، صرخت بحماس وبهجة:-
– كمان .. طيرني فوق أكتر .. أنا فرحانة أووي..
– بوعدك يا رِفقة إن عيونك هتكون السعادة مُقيمة فيها للأبد … بوعدك إن الفرحة متخرجش من قلبك أبدًا…
انغمسوا مع بعضهم البعض والسعادة تحفهم غير مدرك يعقوب لهذا الرجل الذي يقف خفيةً خلف أحد الأشجار والذي خرج خلف يعقوب منذ خروجة من منزل خال رِفقة…
يقف يلتقط صور لهم بجميع الوضعيات ثم أرسلها لأحد الأرقام هاتفًا بأن “تمت المهمة”..
ـــــــــــــــــــــــــ•❥❥❥•ـــــــــــــــــــــــــ
جلست لبيبة والغضب يحفها من كل جانب، تتأمل تلك الصور المُرسلة لها بأعين تتقد بنار السعير وهي منكرة تلك الحالة التي وصل لها حفيدها يعقوب، لا تصدق أنه ذاته يعقوب الذي بذلت كل غالٍ وثمين بتربيته وإنشاءه على قوانين أجداده.
دمدمت بشر ووعيد:-
– ماشي يا يعقوب إنت إللي اختارت..
ــــــــــــــــــــــــ•❥❥❥•ـــــــــــــــــــــــــ
كانت صرخاتها تعمّ أرجاء المشفى وهي تستمع لطبيب العيون يقول بجدية:-
– للأسف المواد الكيميائية وصلت لسطح عين بناتك وحصل حروق كيميائية للقرنية ودا علشان المواد الكاوية إللي كانت مختلطة مع ماية النار، دي مواد خطيرة مدمرة إزاي وصلت بالكمية دي كلها لعين بناتك يا ست إنتِ…!!
أضافت عفاف بارتعاش تتسائل بحذر:-
– وهو … هو حصل أيه يا دكتور للبنات دول بيصرخوا جامد أووي..
قال الطبيب بأسف:-
– للأسف عيونهم تتضررت بشكل كبير جدًا، غير وشهم إللي اتشوه وأطباء الجلدية معاهم..
بس الأهم دلوقتي إنك لازم تعرفي علشان تتصرفي على الأساس ده…
بناتك للأسف فقدوا البصر…
كلمات قاسية سقطت على أذان عفاف جعلتها تسقط أرضًا بانهيار وهي تنال أسوء عقاب بعمل يديها وتلك المرة أتت العدالة من السماء، وقد جعل الله تدبيرها تدميرًا عليها وكفى رِفقة شرهم فقد استغاثت به جلّ جلاله وحاشاه أن يرد عبدًا بكى عبدًا شكى عبدًا حنى رأسه ثم دعى…
ساد صراخ عنيف الأرجاء من جوف عفاف التي سقطت تلطم وجهها باعتراض وجهل….
ــــــــــــــــــــــــ•❥❥❥•ـــــــــــــــــــــــــ
يوم جديد أشرقت شمسه بازدهاء وكأنها تعلم السعادة التي تُعبأ القلوب…
وقفت رِفقة ترتب ملابسها بوجه مُشرق شاردة في أحداث الأمس بأعين هائمة وتتنهد بين الحين والآخر تنهيدات ناعمة..
بينما يعقوب وقف يُحضر الإفطار بطاقة كبيرة…
انتهى سريعًا وجاء يذهب ليستدعيها لكن قطع مُراده رنين جرس الباب…
تأفف وهو يتجه صوب الباب معتقدًا أنه ربما عبد الرحمن القاطن في الشقة المقابلة له…
وفور أن فتح الباب اتضح أمامه آخر شخص توقع وجوده وجعل وجهه يتجهم ويعبس على الفور…
رمقهم يعقوب بجمود وتحدث بضيق:-
– خير..!
ابتسم والديه وقالت والدته بحنان:-
– جايين نباركلك يا حبيبي ونتعرف على عروستنا القمر إللي جابت يعقوب على بوزه..
قال والده بهدوء:-
– أيه مش هدخلنا ولا أيه..
تنهد بثقل وهو يفسح لهم المجال للمرور وأغلق الباب..
ولجت والدته تتأمل أركان الشقة راقية الطراز، ابتسمت وهي تهتف:-
– شقتك حلوة أوي يا يعقوب، ما شاء الله، ربنا يجعلها دايمًا مليانة بالحب والوِد..
اكتفي بتحريك رأسه وأشار نحو غرفة الإستقبال، جلس والديه فوق الأريكة لتضع والدته بعض الأشياء فوق المنضدة وهتفت بحماس:-
– فين بقاا عروستنا..
نظر لها يعقوب نظرة خامدة وغمغم بشراسة:-
– لو ناويين على شرّ أو دي خطة من لبيبة فأكيد دا مش هيبقى خير لأي حد…
ابتعلت والدته غُصة حادة بحلقها وهي ترى إنعدام ثقته بهم، لكن هذا من صُنع أيديهم وعليها تحمل العواقب..
أردف حسين والد يعقوب بجدية وعتاب:-
– قصدك إن إحنا كلاب لبيبة ولا أيه يا يعقوب، إحنا مش وحشيين زي ما إنت مفكر أوي كدا، وبعدين تبقى تنقي كلامك يا يعقوب باشا وتتكلم مع أبوك وأمك بوش مفرود شوية..
ربتت والدة يعقوب على ذراع زوجها تنظر لها برجاء ألا تصدر عنه أي كلمات قاسية ليصمت على مضض وقد أصبح يشعر بالعجز من تصرفات يعقوب العنيدة وأصبح لا يدري ماذا يفعل ليكسب مودته وثقته من جديد..!!
في حين تركهم يعقوب بصمت والسخرية ترتسم فوق ملامحه التي تبدلت فور أن وقف أمام غرفة رِفقة، طرق عدة طرقات قبل أن يدلف للداخل، لكن بمجرد أن وطأت قديمه الغرفة حتى توقف متسمرًا ينظر إلى تلك التي بالنسبة له الفتنة بحدّ ذاتها…
كانت رِفقة تقف مرتديه فستان قطني باللون الأبيض المنقوش بورود صفراء يصل إلى قبل الكعب بقليل وتصل أكمامه لمنتصف ساعديها، بينما خصلاتها التي التمعت أعين يعقوب بشغف فور رؤيته لشلال العسل هذا الذي يُماثل عينيها، خصلات عسلية متوسطة الطول ناعمة رغم وجود بعض التجاعيد اللطيفة بها والتي زادته بهاءًا…
كانت رِفقة جميلة بجمال أخلاقها وبساطتها، وقد انطبع صفاء قلبها وروحها وحُسن أخلاقها على ملامح وجهها فجعلتها فاتنة برِقتها وبراءتها الغير مصطنعة، فجمال الروح الذي ينطبع فوق الملامح لا يُضاهيه أي جمال..
اقترب يعقوب حتى صار أمامها، ابتلع ريقه وهو يُحملق بها بعاطفة مجنونة ليهمس بصوت مُجعد:-
– إنتِ جميلة أووي يا رِفقة، تاخدي العقل والقلب والروح…
توسعت أعين رِفقة من تلك الجراءة وارتفع توترها وخجلها لتقبض على فستانها وهي تُخفض رأسها … نعم هي لا ترى نظراته التي تخترقها لكنها تشعر بها فتجعل بدنها يرتجف كورقة شجر مسكينة أسفل صيبٍ عظيم..
رفعت أعينها اللامعة فهمس يعقوب بوجدان دون أن يتجمجم:-
– لو بات سهمٌ من الأعداءِ في كَبدي..
ما نالَ مني ما نالته عيناكِ..
إنبثقت بسمة مرتعشة فوق فم رِفقة رغم أن قلبها يسبح في فضاء السعادة من كلماته التي عزفت الألحان على أوتار قلبها المُستجد في تلك الأمور..
قالت لتُغير مجرى الحديث:-
– أنا سمعت جرس الباب .. في حاجة..!
أفاق يعقوب من وخمته فقد كان يشعر بأنه بجناتٍ ألفافًا بينما حشد من الطيور بقلبه تتلو خطب الحُب..
اقترب أكثر وما يتمناه قلبه الآن أن تجري أصابعه في ستائر العسل هذه المتجسدة بشعرها يتحسسها حيث اللانهاية، رغبة تُمزق عقله..
قبض على كفها يحتضنه بكفه الدافئ وقال بهدوء:-
– عندنا ضيوف برا..
وسحبها برِفق للخروج لتتسائل هي بفضول:-
– ضيوف مين!!
كان قد دلفوا لغرفة الإستقبال وجاء ليُخبرها بمن يكونوا لكن سارعت والدة يعقوب التي انتصبت واقفة فور أن لمحت رِفقة واقتربت تستقبلها بانبهار وهي ترى كيف ولدها يتشبث بيدها..
وقالت بسعادة بينما طبقة رقيقة من الدموع تطفوا فوق عينيها لأجل تلك السعادة التي على وجه يعقوب:-
– ما شاء الله تبارك الرحمن أجمل من الصورة بمراحل يا يعقوب..
أنا فاتن أم يعقوب يا حبيبتي .. وكمان موجود حسين أبو يعقوب..
وجذبتها فاتن بأحضانها بحنان وهي تقول بصدق:-
– مبروك يا بنتي ربنا يسعدك ويفرح قلبك وأشوفك إنتِ ويعقوب دايمًا فرحانين..
ابتسمت رِفقة وهي تُبادلها العناق وتستشعر حنان تلك السيدة ولينها عكس جدة يعقوب الصلبة..
أردفت رِفقة بطيبة وترحاب:-
– الله يبارك فيكِ يا طنط .. مبسوطة أووي إن قابلت حضرتك..
جذبتها فاتن نحو الأريكة وجلستا لتردف بعدها بحماس:-
– لأ طنط أيه بقاا يا حلو إنت … اسمها ماما..
قالتها وهي ترمق يعقوب المتذمر وواصلت تقول بحذر:-
– دا لو مش عندك إعتراض طبعًا يا حلو إنت..
نفت رِفقة برأسها مُردفة بوِدّ:-
– أكيد طبعًا يا ماما دا شيء يشرفني…
ردد حسين قائلًا بحنان:-
– ألف مبروك يا بنتي ربنا يجعل أيامكم كلها سعادة وهنا..
قالت رِفقة بإبتسامة واسعة وقد غمرت الراحة قلبها لطيبة والديّ يعقوب اللذان عكس جدته تمامًا:-
– الله يبارك فيك يا عمو .. والله إنتوا نورتوا ومبسوطة إن اتعرفت عليكم..
↚
قال حسين باعتراض مرِح:-
– يعني هتقولي لأم يعقوب ماما وأنا من المغضوب عليهم .. لأ أنا زعلان يا ست البنات..
ابتسمت رِفقة وهتفت:-
– بعيد الشر طبعًا يا بابا..
كان يعقوب يجلس مستمع فقط وهو يرى الحنان المتدفق من والديه ليتسائل أين كان هذا الحنان وهم يتركونه وحيدًا برِفقة جدته القاسية كل تلك السنوات غير آبهين بوضعه، ظلّ ملتزم الصمت بينما يرمقهم بتعجب وسخرية لاذعة وعتاب يوجعهم ويُذكرهم بأخطاءهم وسهوهم..
تسائلت والدة يعقوب وهي تربت على يد رِفقة:-
– ويا ترى بقى اسم الحلو أيه..
أجابتها رِفقة:-
– اسمي رِفقة..
– يا ما شاء الله حتى الاسم مُميز يا حسين..
همست رِفقة بخجل:-
– شكرًا يا ماما فاتن تسلميلي..
واندمجوا في الحديث فيما بينهم والذي لم يشارك به يعقوب ولو بحرفٍ واحد ممت أثار تعجب رِفقة من هذا الوضع حتى أنها ظنت أن يعقوب غادر المكان فأسرعت تتحسس المكان بجانبها بريبة فاصتدمت يدها بقدم يعقوب واحتواها هو بداخل كفه وهو يهمس لها بحنان:-
– أنا هنا يا حبيبي..
خفق قلبها بجنون وتمنت أن لو تنشق الأرض وتبتلعها وثوت بمكانها ولم تقوى أن تنطق ببنت شِفة..
ابتسمت فاتن بمكر تغمز لزوجها ثم استقامت تقول بخبث:-
– يلا بينا يا حسين .. كدا كفاية هما بردوه عرسان جُداد…
جفّ حلق رِفقة وتوسعت أعينها بصدمة لتدمع أعينها من هذا الخجل وأسرعت تسحب كفها من كف يعقوب وهي تُبادر بالوقوف قائلة بتوتر وهي تهرع للهروب من الأرجاء شاعرة بأنفاسها تضيق..
– عطشانة .. هشرب .. يعني وبردوا هجيب حاجة تشربوها… أنا آسفه أخدنا الكلام ومأخدتش بالي..
وتحركت بعشوائية لتكاد أن تصتدم بحافة المنضدة الحادة فسارع يعقوب يجذبها وهو يصيح بلهفة:-
– رِفقة … حاسبي..
جذبها يعقوب إليه ليشحب لونها متسائلة بقلق:-
– في أيه..
أحاط خصرها قائلًا بعتاب:-
– كنتِ هتتخبطي يا رِفقة .. ينفع كدا..
قال والد يعقوب وهو يتحرك بصحبة زوجته نحو الباب:-
– عادي يا بنتي مفيش مشكلة، مرة تانية إن شاء الله، وإحنا بإذن الله هنكرر الزيارة..
ابتسمت رِفقة بهدوء وقالت بتلقائية:-
– دا بيتكم في أي وقت تشرفوا وتنورونا…
أقبلت نحوها فاتن تُقبلها وتُعانقها قائلة:-
– مع السلامة يا رِفقة مبسوطة إن اتعرفت عليكِ..
بادلتها رِفقة العناق وودعتها وابتعدت قليلًا، فاقتربت فاتن من يعقوب وجاءت تُمسد على يده فابتعد عن مرماها ليعلو الحزن وجهها وقالت:-
– خد بالك من رِفقة وحافظ عليها بالحنية والحب.
ابتسم يعقوب بسخرية وأردف من بين أسنانه بتهكم:-
– إنتِ بالذات متتكلميش عن الحنية يا فاتن هانم لأنها بريئة منك وإنتِ متعرفيش لها طريق..
فإياكِ تتكلمي عنها تاني.
استمعت رِفقة لحديث يعقوب بتعجب لتفزع فور أن سمعت صياح والد يعقوب المُحذر بغضب..
– يــــــــــعــــــــقــــــــوب..!
وأكمل حسين بتحذير:-
– إياكِ تتكلم مع أمك بالطريقة دي تاني مهما كان السبب..
هدر يعقوب باستهزاء:-
– حسين باشا إللي زيّ متعتبش عليه..
دي تربية لبيبة هانم أمك العزيزة، معلش بقاا يا باشا أهلي مكانوش معايا أو بالأصح مكانوش فاضيين يربوني…
لم يستطع حسين الرد وهتف بغضب:-
– يلا يا فاتن من هنا…
وخرجوا تاركين يعقوب المشتعل بالغضب خلفهم وقلبه يتمزق ألمًا، بينما رِفقة فتيقنت أن هناك الكثير بينهم والكثير مما تجهله عن يعقوب..
كانت تستمع إلى أنفاسه العالية المسفوكة والتي تنم عن غضبه وألمه لتشعر بالألم يضحن قلبها من أجله…
همست برقة وهي تتحسس طريقها إليه:-
– أوب…
ذهب غضبه أدارج الرياح مع همسها الرقيق واستدار ليذهب إليها يحوي كفيها وهمس بحنان:-
– نور عينه..
قالت بشفافية تسأله بقلق:-
– مالك .. في أيه …أنا سمعت غصب عني الكلام مش كنت أقصد والله … أنا عارفة إن مش من حق…..
قاطعها وهو يسحبها نحو الأريكة بلطف وأجلسها ثم تمدد وهو يضع رأسه فوق قدمها منتنهدًا تنهيدة ثقيلة، تفاجأت رِفقة وشعرت بالخجل لكن شعرت بحزنه وهو يغمغم بينما يتنفس بعمق:-
– كل حاجة تخصّ يعقوب حقك يا رِفقة حتى يعقوب نفسه حقك إنتِ وبس..
خفق قلب رِفقة لتسمعه يكمل بنبرة مصبوغة بالوجع:-
– هعرفك على يعقوب وكل حاجة مرّ بيها…
بدأ يسرد لها القصة منذ الطفولة وما مرّ به من ألآم … ترك والديه له مع جدته .. قوانين لبيبة بدران الصارمة … كل الأشياء الطفولية التي حُرم منها … هذا لا يجوز .. هذا لا يصح أن يقع من حفيد آل بدران البكري حتى وإن كان طفل..
هذا غير مُباح … لا يُسمح له أن يفعل هذا…
جميع القيود التي عاش أسيرًا لها حتى أحلامه التي حُرم منها لمجرد أن هذا ما تُريده لبيبة بدران فقط….
الحنان الذي حُرم من مذاقه حتى الآن…
ليخلق كل هذا بداخله التمرد ورفض كل ما لا يُريده..
ختم بقوله النازف:-
– تعرفي كان ساعتها أقصى أمنياتي أيه، فاتن تيجي تحضني وتقعد جمبي تحكيلي الحكاية لغاية ما أنام، كنت بفضل فاتح عيني في الضلمة ومش جايلي نوم بس لازم أكون على السرير في الميعاد ده ومش أخالف القوانين..
لما بيجوا يصحوني من النوم كان بيبقى نفسي أنام بس ولو عشر دقايق كمان .. بس كان لازم أقوم في الميعاد ده أصل دي القوانين..
مينفعش تعيط علشان إنت مش ضعيف، مفيش حاجة اسمها ألعب ولا ألعاب دا كلام فاضي ومضيعة للوقت، لازم تروح درس السباحة بس طبعًا لواحدي مش مسموح بوجود أي طفل تاني علشان مختلطش معاه …. ركوب الخيل علشان دي سِمة لأفراد بدران إللي بيجري في عروقهم عسل بدل الدم…
↚
إنت يعقوب بدران ولازم تتصرف على الأساس ده..
لغاية ما كبر يعقوب … وحيد … منبوذ علشان هو متكبر من عيلة رافعة راسهم في السما..
أصل سواق بيجيبه وسواق بيوديه من على باب المدرسة لباب البيت ودا علشان ميختلطش بحد..
ودروسه كلها في البيت لواحده…
كان يعقوب قدام المجتمع الشخص المتكبر المغرور وهو كان جواه لو حد أخده بالحضن هينفجر في العياط… وكتير وكتير..
بس هي دي حكاية يعقوب المتكبر…
كانت رِفقة تستمع إليه بقلب يتمزق وهي لا تصدق ما تسمع … كم هذه القيود لطفل في الخامسة حُرم من أقل حق له..!
غرق وجهها بالدموع ورفعت أصابعها تُمسد رأسه الموضوع فوق فخذها وتتحسس شعره بحنان جارف ليُغمض يعقوب عينيه بتأثر ليسمعها تقول بشهقات مكتومة:-
– حقك عليا … حقك على قلب رِفقة…
سحب يدها وأخذ يُقبل باطن كفها وهمس:-
– دا إنتهى يا رِفقة .. أنا اتحررت من قيود لبيبة بدران وبنيت حلمي وشغفي وبقى عندي سلسلة مطاعم البوب بعيدة عن اسم بدران نهائي..
كمان كل الوجع إنتهي بوجود رِفقة..
رِفقة خلاص بقت موجودة وهي عوضي عن كل حاجة…
ارتعش شفتي رِفقة من درجة الصدق في حديثه وشعرت بقلبها يرف مُحلقًا وعشق يعقوب يتأصل بقلبها للجذور وتمنو غصون وارفة الظلال..
حاجةٌ بنفسها جعلتها تسير بأصابعها بتروي على ملامح وجهه لتراه بطريقتها..
تحسست لحيته .. جبينه .. أنفه .. عيناه..
وتركها يعقوب وهو مستمتع بفعلتها ليتسائل بمرح:-
– هاا .. حلو ولا..
ابتسمت بخجل قائلة بمراوغة:-
– لأ .. مش حلو..
رفع أعينه يرمقها بصدمة لتُكمل هي بلطف:-
– وسيم…
ضحك برضى وأردف بمرح:-
– إذا كان كدا مقبولة…
تنحنحت رِفقة وقالت بجدية ممزوجة بالترفق:-
– أوب .. كنت عايزاك تسمعني..
حقك تزعل من والدك ووالدتك وأنا عذراك ومقدرة إنك مجروح منهم..
بس عايزه أقولك على حاجة، دول أبوك وأمك وواجب عليك برهم والإحسان إليهم حتى لو كانوا مش مسلمين ودا إللي دينا أمرنا بيه وإللي رسولنا الكريم وصانا بيه يا يعقوب..
اسمعهم وأعطي لقلبك فرصة للمسامحة ومتقفلش عليه .. عارفة إنها صعبة وإن دي النفس الإنسانية وحاجة بتبقى خارجة عن إرادتنا…
بس الدين والإيمان لما بيسكنوا القلب مش بيخلوا مكان للحقد والضغينة وبيساعدنا نتخطى، متفكرش في إللي فات فكر في إنك تعوض كل إللي فات وافتكر إنك واجب عليك بِرهم مهما عملوا … وعايزاك تعرف إنك بكدا هتبقى من المحسنين إللي ربنا بيحبهم ودا إللي ربنا قاله..
(وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)
أنا حاسه بيك وعارفة إنها مش هتحصل مرة واحدة … بس جرب وأنا معاك…
رغم حزنه وألمه لكن ثمة راحة عجيبة انبثت لقلبه من حديثها الرقراق…
حقًا هي نعمة من الله له، هي الجزاء لصبره، هي العوض لحرمانه، هي الجبر لقلبه…
اعتدل ثم اقترب منها طابعًا قُبلة طويلة فوق جبينها وهمس بابتسامة:-
– جزاكِ الله خيرًا يا رِفقة، وبوعدك إن هحاول…
قالت بسعادة:-
– أيوا كدا دا أوب إللي أعرفه … ويلا بقاا أنا جعانة أووي …أيه اليوم إللي مفهوش أكل ده، لتكون بخيل يا أوب…
استقام يعقوب وجذبها إليها وهو يهتف بسعادة:-
– آآه نسيت إنك زي دلوقتي بتكوني في مطعم البوب بتاكلي فطيرة بالتفاح وكريب بالنوتيلا وقايمة طويلة عريضة إنتهاءًا بالكوردون بلو…
رددت بتذمر طفولي:-
– ألاه بقااا هو إنت كنت بتراقبني بقاا يا سي يعقوب..
وصحيح قولي أيه موضوع الصورة إللي ماما فاتن قالت عليه ده..
↚
سحبها نحو المطبخ ضاحكًا وهو يقول:-
– إنتِ متعرفيش لسه حكاية يعقوب مع رِفقة…
ناكل نشحن طاقة وبعدين أحكي…
رددت بفضول وهي تجذب ذراعه بإصرار واعتراض:-
– لأ قولي دلوقتي..
رفع حاجبيه بعجب وانحنى يحملها من خصرها يضعها فوق طاولة المطبخ وردد بسخرية وهو يسحب أنفها:-
– شايف دلوقتي إن الجوع ما شاء الله معدش ليه أثر..
أبعدت خصلاتها عن وجنتيها قائلة بضحك:-
– هو إنت متعرفش حكمة الفيلسوفة رِفقة…
اسمع .. اسمع يا سيدي..
وتنحنحت تكمل:-
– رِفقة تقول .. إذا حضر الفضول مات الجوع..
نعم شكرًا شكرًا ولا داعي للتصفيق عارفة إن شاعرة وحكيمة…
انفجر يعقوب ضاحكًا وقرص وجنتيها ثم ردد:-
– طب اسمعي بقاا يعقوب بيقول أيه…
يعقوب يقول … إذا حضر الجوع غاب كل الفضول..
تذمرت عاقدة وجهها كالأطفال وجاءت تعترض لكنه قاطعها بحسم:-
– هناكل الأول يا رِفقة خلص الكلام..
عقدت ذراعيها وهي تُحرك قدميها بيأس وتسائلت بفضول وهي تشعر أن الجدران التي بينم تسقط هاوية:-
– طب هتأكلني أيه..!!
ردد بعجب:-
– هي الناس بتفطر بأيه..!!
أشاحت وجهها باعتراض قائلة:-
– لا لا .. وقت الفطار خلاص عداا، يلا بينا نمزج فطار وغدا سوا…
دلوقتي بصراحة كدا نظرًا لظروفي طبعًا مش بطبخ، بس أنا نفسي أوي أجرب شعور إن أطبخ..
تنفست بعمق وأكملت بشغف وثقة تحت نظرات يعقوب وأسماعه:-
– وطالما إنت معايا يبقى هتحققلي الأمنية دي، يعني يلا بينا نطبخ سواا وبصراحة نفسي دلوقتي في مكرونة بالباشميل وبانيه بس يكونوا من عمايل إديا … عايز أجرب الشعور ده..
وأنا عارفة طريقة عمايلهم سماعًا كدا…
ممكن إنت تساعدني…
تذكر شيء ما ليبستم بسخرية، فلو علمت لبيبة بدران أن أحد أفراد العائلة العزيزة دلف للمطبخ ستقوم القيامة..
فمن ضمن قوانينها أنه ممنوع الجلوس وتناول الطعام بالمطبخ وإلزامها بساعات محددة لتناول الطعام على المائدة باجتماع الجميع وهذه واحدة ضمن آداب المائدة لديها..
لكن الآن الأمر مختلف هو قد تحرر من تلك القيود لم يعد أسيرها، ابتسم بشغف وقال بإيجاب وحماس:-
– يلا بينا نبدأ مفيش وقت نضيعه أنا واقع من الجوع..
هبطت رفقة وجمعت شعرها بأحد مشابك الشعر وفركت يديها بحماس..
– يلا بينا…
أخرج يعقوب كل المكونات وأخذ يساعدها وهو يوجهها بكل خطوة وهو حريص على عدم إصابتها بأي شيء … يقف خلفها يلف ذراعيه حولها بينما يمسك يديها واضعًا يده فوق يديها يساندها بينما هي تقطع وتُقلب وتمزج المكونات في جو من المرح والمودة والعشق…
ــــــــــــــــــــــــــ•❥❥❥•ـــــــــــــــــــــــــــ
قالت المساعدة الشخصية بجدية:-
– لبيبة هانم .. المعلومات إللي حضرتك عيزاها عن رِفقة كلها جاهزة وطبعتها في الملف ده…
حركت لبيبة رأسها لتناولها إياه وأخذت تتفحصه بدقة بوجه مشدود، رفعت رأسها وهتفت بنبرة مخيفة:-
– اسمعيني كويس وإللي أقوله يتنفذ بالحرف الواحد أنا مش هسمح بأقل غلطة تحصل…
وأخذت تُملي عليها أوامرها الدقيقة…
ــــــــــــــــــــــــــ•❥❥❥•ـــــــــــــــــــــــــ
كانت رِفقة تقف بشرود لتشعر بشيء غريب يطوف بها، تلبسها الرعب وشحب وجهها لتصرخ بذعر:-
– يــــــــــعــــــــقــــــــوب …. إلــحــقـنـي…
استمع يعقوب لإستغاثتها به لينتفض جسده وهو يترك ما بيده بإهمال وسعى إليها بتلهف مشوب بالوجل..
وقف أمامها وهو يرى إنكماشها ليقترب منها يحوي ذراعيها متسائلًا بهلع:-
– في أيه .. مالك يا رِفقة..!
تشبثت بذراعه وهي تُحرك رأسها بينما تضم ساقيها ملتفتة حولها:-
– يعقوب .. في حاجة هنا، في حاجة كانت بتتحرك على رجلي .. حاجة ناعمة!!
التفت يعقوب ينظر للأسفل بترقب وحرص وأخذ يبحث بجوانب الغرفة حتى تيبس وهو ينظر باندهاش لهذا الضيف المتطفل، انحنى وقد انشرح صدره واتسعت إبستامته، ثم بحذر التقته قبل أن يقفز هاربًا…
وقف أمام رِفقة يُمسد فوق جسده بنعومة وقد تفجرت بداخله ذكريات مليحة..
أخذ يد رِفقة بحنان يضعها فوق فروه الناعم وهو يقول:-
– دا ضيف جديد يا رِفقة…
تحسسته رِفقة بحذر حتى وصلت إلى أذناه لتصيح بحماس وهي تجذبه من بين يديّ يعقوب تحمله بحنان:-
– أرنب…
↚
أجابها بمرح:-
– شطورة..
قالت هي بحماس وسعادة ظاهرة:-
– وأنا صغيرة كان عندي هوس بالأرانب البيضا لدرجة إن ماما وبابا بدأوا يربوهم وكان عندنا كتير جدًا … أنا مكونتش ببطل ألعب معاهم وكان عندي أصحاب كتير أووي منهم…
رينبو .. وتوتو .. وأطلس .. ومادي .. وأزل..
ضربت الدهشة عقل يعقوب لتلك الومضات المتشابهة معه جدًا وشعر بالسعادة والامتنان لرؤيتها بهذا الحماس والفرح…
ابتسم بحنان وهو يرى حنانها على هذا الأرنب الرقيق ذو اللون الأبيض النقي، استمع لها وهي تقول بحماس بينما تتحسس الأريكة لتجلس فوقها…
– بص إحنا هنخليه معانا ونربيه ونهتم بيه، كمان أنا أخترت اسمه .. هنسميه رينبو .. أيه رأيك..
حرك رأسه وقال بإيجاب بينما يجلس بالقرب منها:-
– اسم جميل .. أكيد موافق يا رِفقة..
توسعت إبتسامتها بفرح ومدت يدها على استحياء تُمسك كفه لتنفجر مشاعر كامنة بقلب يعقوب لتلك المبادرة وتعلو وتيرة نبض قلبه وهو يسمعها تقول بغبطة وانشراح:-
– حقيقي أنا عيشت أجمل يومين في حياتي، إمبارح والنهارده … واليومين دول حققت فيهم كتير من أحلامي..
الفستان الأبيض..المُرجيحة .. زهور الأقحوان .. وكمان جربت الطبخ وطبخنا سواا .. وفي الأخر الأرنوب ريبو…
أنا حاسه إن اليومين دول خففوا أي وجع شوفته قبل كدا..
وواصلت تهمس بمشاعر تترعرع بجنبات قلبها:-
– لقد قيل أنه عامٌ فيه تُغاث القلوب، وقد تمت الإغاثة لقلبي بلُقياك، ورؤياك، لا تستعجب فأنا أملك من هو أثقب في الرؤية من نور عيني،
وهو نور قلبي….
ثباته أصبح كرمادٍ أشتدت به الريحُ في يومٍ عاصف، فار قلب يعقوب واحتلته القشعريرة من كلمات كانت بمثابة مفاتيح لأبواب النور التي انقشع لأجلها جميع الظلام الذي لاقه…
زلف منها وكوّب وجنتيها الدائرتين القطنية الملمس يتحرك بإبهامه فوق تلك الحُمرة اللطيف بحنان وهمس لها بمشاعر مُتأجحة:-
– أنتِ الشمس التي انقشع لها ضباب الأسى بطيات قلبٍ مكلوم، تعاهدتِ مطاردة الدُجى لآخر خيط حتى انبلج الضياء يُشرق بإزدهاء مرةً أخرى بفؤاد محروم الإحسان بالتَحْنَإن…
اشتعل قلب رِفقة وأعماقها شاعرة بقلبها يزداد بالثوران وقد أصبح لا مناص من الفرار من هذا العشق المتدفق من قلبها وقلبه…
أخفضت رأسها وأصابعها منغمسة بفرو “رينبو” تُمسد فوق ظهره بحنان فاعترافه بتلك الكلمات أحيا رميم قلبها…
تنحنحت تغمغم متسائلة بعجب:-
– بس قولي يا أوب مين جاب الأرنوب ده هنا..!
مسحت أعينه الأرجاء ليرى تلك الحقيبة الورقية الملقاه بإهمال بجانب الباب ليتيقن من الفاعل، وكيف لا!! لا أحد غيرها يعلم ذلك الأمر وتلك المغامرة السرية التي كانت تحدث من خلف ظهر لبيبة بدران…
أردف بشرود وحنين انبثق من عينيه:-
– فاتن …
وأكمل يسرد وكأن تلك الأحداث تقع أمام ناظريه الآن:-
– في نقطة مشتركة بين طفولتك وطفولتي..
أنا كان نفسي أوي يبقى عندك أرنب، كنت مهووس بيهم نفس هوسك وكنت عايز أربي أرنب..
دا كان أيام ما فاتن كانت معايا…
ساعتها كان وجوده في القصر ممنوع ولو عرفت لبيبة هانم هتخرب الدنيا..
وقتها لما رفضت أنا زعلت فقامت فاتن أشترت واحد في السر .. كان أرنب أبيض وكانت بتخبيه في مُلحق القصر وأول ما لبيبة تخرج برا القصر كانت تطلعه عالطول ونلعب بيه في الجنينة..
تنهد بثقل قائلًا بألم لتلك الذكري السيئة:-
– كان صاحبي أوي واتعلقت بيه، بس في يوم عرفت لبيبة بالموضوع وطبعًا الدنيا اتقلبت وفاتن اترجتها كتير علشان تسيبه بس لبيبة أمرت بد’بحه قدام عيني وقالتلي إنت راجل والتصرفات دي ميصحش تصدر من خليف آل بدران والوريث الأول…
شهقة متألمة خرجت من جوف رِفقة وارتعشت شفتيها مُهددة بنوبة بكاء وهي تشعر بوخز الألم يضرب قلبها لأجله، ابتسم يعقوب بوجع على حالتها ليُسرع يلتقف كفها الصغير ويطبع العديد من اللثمات الحانية بباطنه في عادة اكتسبها ولا يظن أنه سيستطع الأقلاع عنها…
دمدم برجاء يهدهدها وهو يرى الدموع تطفر بمحاجر عيني رِفقة:-
– عيون رِفقة متخلقيتش علشان الدموع.
خلاص هو ماضي وفات زي ما إنتِ قولتي..
وبعدين دلوقتي بقا عندنا رينبو وهنجيب غيره كتير … هنعمل عشيرة هنا..
قال جملته الأخيرة بمزاح، مَن يسمع الآن هذا الحديث يظن أنه يتحدث عن أطفاله منها وليس مجرد أرانب بيضاء..!!
ضحكت رِفقة لتهمس وهي تمسح طرف أنفها:-
– بجد..
قال يعقوب بتأكيد:-
– جد الجد كمان..
قالت رِفقة بحزن:-
↚
– بس لبيبة هانم قلبها قاسي أووي، قولي أيه ممكن يلين قلبها ويخليها ترتاح..
جثمت السخرية على ملامح يعقوب ليردف بسخط وتشنج:-
– أبدًا … تشوف يعقوب تحت طوعها من جديد ورهن إشارة منها … وينفذ أوامرها وإللي هي عيزاه بالحرف الواحد ويترأس مجموعة شركات آل بدران ويشيل الشغل على أكتافه…
يتجوز إللي هي تحددها ويتصرف وفق هواها…
يبقى شخص معدوم العاطفة وميتأثرش ولا تتهز في شعره حتى لو العالم انهار من حواليه..
بس كدا … شوفي بساطة لبيبة..!!
علقت رِفقة برفض واستنكار:-
– ليه .. آلة .. دي الآلة بيجي عليها وقت وبتعطل..
هتف في تبرمٍ ساخط:-
– بس يعقوب مش آلة علشان يقف ويتعطل، كدا ده مش مسموح في قوانين لبيبة بدران..
استقام ثم سحبها جاعلها تقف برِفق وهو يقول:-
– يلا سيبينا من السيرة دي، والبسي علشان نخرج شويه..
تسائلت رِفقة بتعجب:-
– هنروح فين..!!
تشدق يعقوب بسعادة وهو يتجه بها نحو غرفتها الخاصة:-
– هنطلع نتمشى شوية ونشم هوا… أيه مش عايزه تاكلي آيس كريم بالحليب ولا أيه..
أجابته بحماس:-
– عشر دقايق وهتلاقيني قدامك..
تركها على أعتاب الغرفة وانصرف ليرتدي ملابسه سريعًا حتى يعود ليقف بانتظارها لأجل إن أرادت شيئًا…
بعد قليل خرجت رِفقة التي تحكم حجابها فوق رأسها بتعجل فأوقفتها يد يعقوب أمامه وأخذت أصابعه تُعدّل من وضع حجابها بهدوء تحت تبسم رِفقة الخجِل..
رمقها بتقييم وهو يتأمل الحجاب الذي زادها جمالًا ونقاء وفستانها الفضفاض صاحب الأكمام المتسعة ويصل لكعبها بلونه الأبيض الممزوج بورود صغيرة باللون الكاشمري..
انحنى يطبع قبلة عميقة فوق جبينها هامسًا بصوتٍ أجش:-
– يَا حُسنَهُ وَالحُسنُ بَعضُ صِفَاتِهِ
وَالسِّحرُ مَقصُورٌ عَلَى حَرَكَاتِهِ
بَدراً لَوَ انَّ البَدرَ قِيلَ لَه اقتَرِح
أمَلاً لَقَالَ أَكُونُ مِن هَالاتِهِ
ابتسمت رِفقة بخجل وراحت تقول بقلب مضطرب:-
– أنا بحب الشعر أوي..شكلك كمان بتحب الشعر.
قال من بين خفقاته التي أصبحت رهينة اسمها:-
– الشعر اتقال علشان خاطر رِفقة، وكلمات الشعر قدام رِفقة قليلة وعاجزة…
التمعت عيناها ببريق دافئ وتفاقم خجلها ليرحمها يعقوب وينحني يُمسك راحتها يجعلها تنام داخل كفه وهو يسير معها برفق للخارج…
عاش كل واحدٍ منهم ما حُرم منه، وأخذ يعقوب ينهل من تلك السعادة وهو يشعر أنه لا طريق للإرتواء من رِفقة … نعم فداخله أرض جدباء شديدة القحط والتصدع وأخذت رِفقة تغمر أرضه بسخاء حتى تصبح يومًا ما غابة خضراء مليئة بالعديد من الأشجار المُثمرة وارفة الظلال رطبة..
تجول يعقوب برفقتها وهو يحتضن كفها بتشبث والإبتسامة لم تنطفئ من فوق فمهما..
تمرح، وتمزح، وتسرد، وتحلم بجانبه وهو أكثر من مُرحب بهذا…
للمرة الأولى يتناول الآيس كريم بصحبتها وكانت رِفقة تلتهمه بشهية وهي تتمتم:-
– متعرفش بعشق آيس كريم الحليب قد أيه..
أخذت أصابعه تمسح المتناثر حول فمها يُذكى أُوار الحب .. ضحكت قائلة وهي تمسح حول فمها:-
– اعمل أيه … دي عادة عندي..
ترنحت أنامله بحنو فوق كفها يحتويه وجعلها تستقيم وهو يقول:-
– مش عايزك تتخلصي منها أبدًا ووعد هاجيبلك آيس كريم بالحليب كل يوم..
تشبثت هي بذراعه وهي تتسائل بينما يسيران:-
– هنروح فين تاني..!
– لسه الليلة طويلة يا أرنوبي..
ولج لأحد المولات المتكاملة غافلًا عن هذا الذي يتبعه منذ خروجه ويلتقط الصور بدقة بكل وضع وكل تصرف…
ردد يعقوب وهو يصف لها كل قطعة من الملابس المعروضة لتسرع هي تقول باعتراض:-
– يعقوب حقيقي أنا مش محتاجة هدوم، أنا عندي..
أخذ يعقوب بيدها وهتف بحسم:-
– تمام يا رِفقة هتختاري ولا أختار أنا وألبسك على مزاجي..
زفرت بإحباط ورددت:-
– إنت عنيد أوي ومش بتسمع الكلمة..
ابتسم يعقوب قائلًا بمزاح:-
– ماشي يا ماما رِفقة لما نرجع البيت ابقي عاقبيني..
بدأت تنتقي الملابس بصحبته وهو يصف لها كل قطعة بدقة ويحتضن ملامحها طول الوقت بعينيه …. فكان يعقوب بمثابة عيناها..
هتفت باعتراض وهو يجعلها تجلس فوق الأريكة بمنتصف متجر الأحذية:-
– كمان جِزم يا يعقوب .. صدقني أنا مش محتاجة..
– إنتِ عارفة إني مشاغب ومش بسمع الكلمة فريحي نفسك وقوليلي بتحبي أي إستايل في اللبس..
تنهدت وهي تُحرك رأسها بمعنى لا فائدة وقالت:-
– أي حاجة بس المهم مش تكون حاجة مكشوفة وتبين رجلي..
اقترب حاجباه متسائلًا بغرابة:-
↚
– ليه .. اشمعنا يعني!!
أجابته بتلقائية:-
– علشان طبعًا رجلي مش تبان لأن ميصحش، مينفعش يبان مني ألا الوجه والكفين..
حتى أبسط المعلومات عن الدين كان يجهلها يعقوب لكن ها هو يشرع في التعلم من الصفر على يد رِفقة..
حرك رأسه وهو يشعر بالخجل بداخله ويتأمل رِفقة بفخر وعشق فهي أصبحت تضع النقاط على حروف أبجديته المفقودة..
انحنى يعقوب يجلس على عقبيه أمام رِفقة يساعدها في إرتداء الحذاء تحت إعتراضها الخجِل..
وضع قدمها فوق ركبته وأخذ بالحذاء يُلبسه لها وفي هذا الموضع أُلتقطت العديد من الصور التي ستنشب الحرب بسببها.
كانت العاملتات يتهامسان وهم يتأملون يعقوب بصحبة رِفقة همست إحداهن:-
– ما شاء الله شوفي حنيته عليها، شكله بيحبها..
أجابتها الأخرى تقول:-
– ربنا بيعوض يا بنتي .. وهي واضح إنها بنوتة رقيقة وتستاهل .. هي مش ناقصها حاجة علشان تعيش حياتها سعيدة كفاية التخلف إللي بقاا في المجتمع..
❀❀❀❀❀❀❀❀❀❀
بعد ليلة مُحملة بالكثير من المرح عاد يعقوب ورِفقة للمنزل لترتمي هي فوق الأريكة بتعب وارتمى يعقوب بجانبها لتقول هي برأس ثقيلة:-
– تعبت أوي رغم إنها ليلة جميلة .. حقيقي مش قادرة أصلب راسي بس لازم أقاوم علشان اقوم أصلي…
للحظات تخشب جسد يعقوب لكنه قال مُشجعًا:-
– طب يلا قبل ما النوم يغلبك..
انتصبت واقفة وقالت بحماس:-
– عندك حق .. يلا هتوضى وأصلي..
حاوط كتفيها وأخذ يدعمها ويساعدها في الوضوء وشرعت تؤدي فرضها بينما يجلس يعقوب يشاهدها بتمهل حتى انتهت…
سحبته من شروده قائلة:-
– يعقوب …. ممكن نصلي سواا..
صمت قليلًا وقلبه يطرق بشدة …نعم هو لم يحظى من جهة لبيية بتعلّم تعاليم دينه وقد كان بين الحين والآخر يؤدي صلاة الجمعة لكن الآن يشعر بتعطش شديد لتلك الروحانيات وقد أثارت رِفقة تلك الرغبة والمشاعر بداخله..
حرك رأسه بإيجاب وأردف:-
– أكيد …. دقيقة أتوضى..
أتى إليها بعد عدة دقائق وقطرات الماء تتساقط من فوق وجهه مرورًا بلحيته ليراها تقف بحماس وسعادة..
تنحنح في خشونة وغمغم:-
– يلا…
تحركت بحماس وأخذت تخبره وهي تُحرك كفيها أمام وجهها:-
– بقولك يا أوب .. أيه رأيك نبدأ نعمل تحدي مع بعض كل يوم ونشوف مين هيكسب في أخر اليوم…
هنبدأه من بكرا .. والتحدي هو إللي يصلي الصلاة في ميعادها .. يعني نشوف مين إللي هيصلي الأول أول ما الأذان يأذن وإللي هيتأخر هو الخسران..
وأكملت تقول:-
– والتحدي التاني إننا نبدأ حفظ قرآن ونسمع لبعض من بكرا .. ونبدأ بجزء النبأ..
وإللي مش هيطلع حافظ يوم هيتفرض عليه عقاب ويطلب من التاني إللي هو عايزه…
أيه رأيك…
فطن أنها تُريد جذبه للمسار الصحيح وهذا ما بدأ يُسيطر عليه، جذب كفها وأخذ يطبع العديد من القُبل بباطن كفها وهمس لها:-
– طبعًا موافق واستعدي للخسارة يا أرنوبي..
قفزت بحماس وهتفت:-
– استعد إنت للخسارة يا أوب، دا أنا عندي أفكار وحاجات كتيرة أووي نفسي نجربها سواا..
– هنخوضها سواا وهنزود عليها كتير، أنا مشتاق لكل إللي منك يا رِفقة..
تسائلت تواري عن خجلها:-
– أمال فين رينبو..
– نايم في القفص بتاعه..
– تمام يلا نصلي بقاا وتبقى إنت إمامي..
ابتسم يعقوب على سعادتها وتقدم وشرع في الصلاة يتلو قِصار السور الذي كانت تحرص والدته على تحفيظه إياها وهو في سن الخامسة فباتت محفورة بقلبه وعقله..
كانت رِفقة تطوف في سماء السعادة وهي تقرر بداخلها بأنها ستكون له سُراجه المنير وسط العتمة وقارب نجاته الذي سيرسو به على شاطئ السكينة والعوض … ستكون له كل شيء وتستسير معه من بداية الطريق…
وعند سجودها تقدم هو كُل دعائها ودثرته بدعاءٍ ذاخر .. وذكرته في رجاءها لربها..
فور إنتهاءهم من أداء الركعتين ارتكزت رِفقة على ركبتيها وجلست بجانب يعقوب ثم سحبت يده وهي تهمس:-
– تقبل الله..
ابتسم وهو ينظر ليده التي بين يديها وقال:-
– منا ومنكم..
ترقب يعقوب تصرفها فأدهشته عندما بدأ تُسبح على أنامل يده فخفق قلبه بشدة لتلك الفِعلة ليُمسك على قلبه أن يطير…
❀❀❀❀❀❀❀❀❀❀
توسعت أعينها التي يُحيطها كحلها السميك تنظر لأخر شيء توقعت رؤيته أمامها…
احترق قلبها بألسنة نيران الغضب وهي تنظر ليعقوب الذي ينحني عند قدم تلك الفتاة بتلك الراحة والسهولة…
العديد من الصور لكن تلك من أشعلت النيران بقلبها ودماءها..
قبضت على عصاها بشدة وكشرت عن أنيابها، ثم همست بنبرة غريبة:-
– ماشي يا يعقوب .. ماشي..
❀❀❀❀❀❀❀❀❀❀
بالمشفى التي ضاقت ذرعًا بعفاف التي تجلس فوق الأرض الصلبة الباردة بين ابنتيها وترى بتحسر الحالة التي أصبحوا عليها والصرخات التي تشق صدرها..
وقف زوجها عاطف فوق رأسها يرمقها بغضب وصاح بغل:-
– حسبي الله ونعم الوكيل، ربنا ما يكسبك يا عفاف …كله بسببك يا مجرمة، ضيعتي ولادي ربنا ينتقم منك..
إلهي كنتِ إنتِ وارتحنا من قرفك..
أنا مكونتش أتوقع توصلي للدرجة دي، تسرقي فلوس بنت غلبانة كفيفة وتنصبي عليها وترميها في شقة مهجورة وسط الكلاب…
↚
ربنا انتقم منك ورد حقها بس للأسف كان في بناتي إللي خليتي قلبهم مليان بالحقد وبوظتي تربيتهم..
أنا كنت فين من ده كله..عمري ما فكرت إنك ممكن توصلي للدرجة دي..
لم تقوى على نبذ كلمة واحدة بل إنها لم تستمع لحديثه من الأساس … فقط الدموع التي لم تتوقف عن الجري فوق وجهها تتأمل ابنتيها بينما شرارات الحقد بدأت تنمو من حزنها وهي تهمس بداخلها بغلّ وحُرقة:-
– كله بسببها … بسبب الحقيرة رِفقة…
بناتي اتدمروا وهي عايشة حياتها بالطول والعرض … طالما بناتي بقوا كدا يبقى مش هسيبها أبدًا ولا أرتاح ألا ما أشوفها زيهم…
❀❀❀❀❀❀❀❀❀❀
انبلجت شمس يومٍ جديد بحماسٍ جديد…
أدى يعقوب ورِفقة صلاة الفجر بموعدها وجلسوا سويًا حتى شروق الشمس ليغفوا ساعتين واستيقظ يعقوب بطاقة يُحضر وجبة الإفطار ليتناولوها في جو مليء بالمرح..
وقف يعقوب عند الباب ليُقبل وجنتي رِفقة هامسًا:-
– مش هغيب عليكِ يا أرنوبي .. ساعتين وهرجعلك، موبايلك جمبك وعرفنا إزاي نتصل، لو في أي حاجة كلميني، ومتتحركيش من غير العصايه علشان متتخبطيش، إحنا بقينا عارفين تفاصيل الشقة كويس صح..
ابتسمت على مخاوفه وأردفت تقول تُطمئنه وهي تتلمس يده بحنان:-
– مش تقلق يا أوب …وأصلًا نهال جايه بعد شوية..
قبل رأسها قبل أن يقول:-
– خلاص يا أرنوبي يلا سلام..
تنفست بعمق وهي تكتم توترها وحزنها من خروجه وتركه لها وهمست برقة:-
– في رعاية الله..
أغلقت الباب وسارت بحذر نحو الأريكة وهي تجذب كتابها تتحسس بأصبعها وتقرأ لتلهو عقلها عن غيابه…
بعد مرور نصف ساعة كانت رِفقة غارقة في القراءة لكن انتشلها رنين جرس الباب، وهج قلبها وتوسعت إبتسامتها بسعادة لمجيء صديقتها نهال وهي تتجه باندفاع وتحمس نحو الباب الذي أصبحت تعلم طريقه جيدًا..
فتحت الباب بلهفة وهي تهتف بإبستامة واسعة:-
– نهال..
قابلها الصمت العقيم لتُمحق وتتبدد إبتسامتها من فوق وجهها ويتبدل مكانها الذعر وهي تعود للخلف بفزع حين اخترق أسماعها هذا الصوت ذا النبرة القاسية الشديدة والذي جعل قلبها يرتجف..
– لأ …. لبيبة هانم بدران.
برّدت رِفقة من حِدة توترها ورعدة قلبها، وأفسحت المجال تبتعد عن مدخل الباب وهي ترقش إبتسامة عريضة فوق فاهها أثارت بها غيظ عفيفة دون قصد بينما قالت بإحترام رغم أعصابها المهتاجة من هذه المواجهة:-
– اتفضلي يا نينا لبيبة..
توسعت أعين لبيبة في حِدة ورمقتها بغضب وتلك الإبتسامة تثير حنقها واكتفت لبيبة بالصمت ثم دلفت للداخل حتى جلست على أحد المقاعد بشموخ ورأس يكاد يُلامس عُنق السماء من قدر الكِبر الذي يملئها..
لكن رغمًا عنها رفعت أعينها تُراقب رِفقة التي أخذت تتحسس الأرجاء حتى وصلت للأريكة وجلست عليها بهدوء وقد بدى عليها التوتر..
ظلت لبيبة تتأملها بدقة من أعلى لأسفل، حتى التقطت خيط الكلمات تقول بنبرة جافة وهي تُبعد أنظارها أمامها عن رِفقة قسرًا:-
– أكيد أنا مش جايه أباركلك بيعقوب، أنا هقول كلمتين واسمعيهم كويس أوي وبتركيز..
وصمتت بُرهة لتبتلع رِفقة ريقها بتوتر لتتصاعد موجة كلمات لبيبة الحادة مرةً أخرى تقول بوجه معقود:-
– عرفت عنك إنك بنت كويسة..
وبما إن قلبك طيب زي ما بيقولوا فأكيد مش هترضي ليعقوب الضرر ولا أيه..
اضطربت رِفقة وجاءت تُسرع تقول بلهفة:-
– أكيد…
قاطعتها لبيبة بحِدة:-
– أنا لما بتكلم محدش بيقاطعني .. إنتِ تسمعيني وبس..
يعقوب بدران هو حفيدي الكبير والوريث لكل شغلنا وجموعاتنا، دا مستقبله وحياته الطبيعية..
أكيد مش هترضي إن يتحرم من مكانته ومن جميع أملاكه..
بجواز يعقوب منك هيبقى لا مستقبل ولا مكانة ولا أي شيء حتى سلسلة المطاعم إللي أنا ساكته عنها مش هيبقى ليها وجود…
هيبقى صفر اليدين من كل شيء، إنتِ دلوقتي واقفه في طريقه..
طريق جوازته إللي مستنياه وإللي مصلحته فيها، المفروض يعقوب متحدد جوازه من بنت رجل أعمال كبير وإنهاء خطة الجواز دي هتبقى عواقبها مش خير أبدًا..
يبقى الأحسن لو إنتِ شخص كويس تسيبي يعقوب لحياته.
دا أنا بكلمك بطريقة مش بستخدمها ومتضطرنش استخدم طُرق تانية لأن مهما كان التمن مش هتكوني ليعقوب لأن ده غلط أنا مش هسمح بيه مستحيل…
كانت تتحدث بقسوة شديدة انهمر شظاياها على قلب رِفقة كلسعات سعيرية، وجفت دماءها من هذا التهديد شديد اللهجة..
ورغم هذا أردفت رِفقة بشجاعة تُحسد عليها وإيباء ممزوج باللين في محاولة لإقناع لبيبة:-
– إنتِ إللي بتعمليه ده غلط كبير يا نينا لبيبة، يعقوب مش صغير لطريقة تحكمك دي فيه، هو يقدر ياخد قراراته بنفسه وميعملش حاجة هو مش عايزها أو مجبور عليها..
الجواز أبدًا مكانش مصلحة ولا مُجرد صفقة زي صفقات الشغل.. الجواز حب ومودة واختيار ورضا..
سيبيه يعمل إللي هو عايزه وبلاش القيود دي، صدقيني مش مستاهلة ولا الدنيا مستاهلة المشاكل ولا كل الوقت إللي بيعدي وهو زعلان وبعيد عنك..
حاولي تسمعيه وتسبيه براحته وهتعيشوا مع بعض في جو هادي .. حاولي بس مرة واحدة مش هتخسري حاجة..
قالت رِفقة ما بداخلها وما تؤمن به دون أي تحفظ لتشتعل لبيبة غيظًا، استقامت بجمود ثم أردفت ببرود:-
– أنا نبهتك وعليكِ إنتِ تختاري، لإما تمشي بكل هدوء أو استخدم أنا طُرقي…
ولو عايزه رأيي فأختاري الأول علشان خاطر يعقوب قبلك.
ورحلت تاركة رِفقة في صدمتها متخشبة من عدم تأثر لبيبة بحديثها ولو قليلًا…
أحاطها اليأس وارتجف قلبها رُعبًا من نبرة حديث لبيبة التي بثت بنفسها الجزع…
ضمت قدميها لصدرها ووضعت رأسها فوق قمة ساقيها متكومة على نفسها بحزن وسقطت الدموع من عينيها بعجز…
ماذا تفعل الآن..!!
لماذا هذا يحدث معها!!
طريقة واحدة للخلاص من هذا، هو الحل الأنسب، هي مُجبرة..
❀❀❀❀❀❀❀❀❀❀
لم تتغير حالتها ولم يتجدد شيء، مازلت جالسة تشاهد ابنتيها لكن عقلها يعمل بجميع الاتجاهات كيف ستنال من رِفقة…!!
وصل إليها غمغمة ابنتها شيرين المتألمة:-
– دا حق رِفقة بيخلص مننا … بقيت عامية ومشوهة ولا أنفع لأي حاجة … مكونتش برحمها لا تريقة ولا استغلال لحالتها..
كنت أقعد أقولها دا إنتِ عندك كذا في وشك، بصراحة بشرتك بيها وعليها، كنت بكرهها في وشها وشكلها وأشككها في نفسها..
أنا بقى بقيت مشوهة وبإيدك يا ماما..
ربنا أخذ حقها مننا كلنا…
حديث شيرين لم ينال إعجاب كُلًا من أمل وعفاف التي ثارت بغضب تصيح:-
– إنتِ بتقولي أيه … البت دي تستاهل إللي حصلها وبعدين أنا عملت فيها أيه مش كفاية مستحملنها وقاعدة في بيتي بقالها كام سنة…
أنا مش هرحمها ومش بعد ما إللي حصلكم بسببها أسيبها تعيش حياتها بالطول والعرض..
هتفت أمل تُأيد والدتها بغلّ بينما وجهها مُغطى بالكثير من الضمادات وأعينها المُغلقة التي عجزت عن فتحها:-
– عندك حق يا ماما هي أصلًا بت مش ساهلة وخبيثة ومش هرتاح ألا ما يحصلها زي ما حصلي..
رددت عفاف بحقد:-
– هيحصل .. والفلوس إللي معايا هعالجكم بيها وهترجعوا زي الأول وأحسن كمان..
ولم تمكث كثيرًا حتى تفاجأت بضُباط الشرطة يدلفون إلى الغرفة لتفزع واقفة برعب متسائلة:-
– في أيه يا باشا..
قال الضابط الذي يترأسهم:-
– مطلوب القبض عليكِ بتهمة الإحتيال والسرقة، وتم الحجز على الفلوس إللي سرقتيها وحفظتيها في حسابك المستعار..
يلا قدامي يا ست إنتِ…
❀❀❀❀❀❀❀❀❀❀
كأن الدنيا مُدبرة أدبارها لها، فروض لبيبة الأشد وطئًا على قلبها ظلت تطوف بعقلها دون رحمة وهي مازالت على حالتها تبث من الدموع أمرّها..
استمعت صوت رنين هاتفها الذي يبعدها قليلًا تحركت تمد يدها تتحسس الأرجاء حتى التقطته أجابت ليصل إليها صوت نهال قائلة:-
↚
– رِفقة عاملة أيه..
مسحت وجهها وتنحنحت تطرد أثر البكاء لتُجيب بهدوء:-
– أنا كويسة يا نهال الحمد لله .. أمال اتأخرتي ليه كدا..
– معلش يا رِفقة الجماعة خرجوا برا البيت وأنا اضطريت أبقى علشان أحضر الغدا..
إن شاء الله تتعوض مرة تانية..
المهم عرفتي أخر الأخبار … أكيد لأ ما إحنا مش راضين نعكر مزاجك علشان عروسة جديدة..
جعدت رِفقة جبينها متسائلة:-
– أيه إللي حصل يا نهال أنا معرفش حاجة..
– يوم كتب الكتاب أول ما إنتِ مشيتي..
المجرمة عفاف كانت ناوية ترمي ماية نار على وشك لما فشلت إنها تخرب الجوازة بس لطف ربنا وحكمته يعقوب خدك ومشيتوا عالطول بعد ما شد ما جدته، شيرين وأمل إللي كانوا بيراقبوا لها الوضع راحو علشان يقولولها إنك مشيتي وهي خارجة من الأوضة اتكبلت ووقعت وقزازة ماية النار في إيديها كانت مفتوحة فوقعت على وش عيالها وفي قلب عنيهم…
شهقت رِفقة وقالت بذعر وحزن:-
– طب هما كويسين حصلهم حاجة..
– للأسف الولية الحقيرة دي كانت خالطة مواد كاوية وحاجات تانية مع ماية النار .. البنات اتشوهوا غير إنهم فقدوا البصر..
اغتم قلب رِفقة لهذا الحدث الأليم فهي ليست بعديمة الرحمة حتى تنبسط أساريرها في آلام الأخرين حتى وإن كانوا أسوء الأشخاص…
سمعت نهال تُكمل بفرحة:-
– وكله كوم وإللي حصل دلوقتي كوم تاني، أنا لسه واصلي الخبر طازة ومستنيتش أما أقابلك..
قبضوا على الجربانة عفاف علشان سرقتها لفلوسك… بيقولوا يعقوب قلب الدنيا وعمل شكوى في البنك ولما راجعوا الكاميرات شافوها وهي مع الواد قاريبها إللي شغال هناك وهو اعترف بلعبتها القذرة ونصبها..
وخلاص فلوسك رجعتلك يا رِفقة أكيد رجعت لحسابك أو يعقوب هيقولك..
يعقوب واضح إن شخص كويس جدًا وبيحبك يا رِفقة … ربنا يسعدك يارب إنتِ تستاهلي كل خير..
بدأت أعينها تُذْري الدمع واسترسلت في البكاء كاتمة شهقة مؤلمة بصدرها ليرتعش قلبها فتقول:-
– طب الحمد لله ربنا كبير .. خلاص بقى أنا هستناكِ يا نهال..
– تمام يا رِفقة أنا هروح بقى أكمل الغدا، مع السلامة..
همست رِفقة بصوت ضعيف متحشرج:-
– مع السلامة..
تهدل كتفيها وأسندت رأسها على ساقيها باكية وهي ترى أنه فعل لأجلها كل شيء وسيخسر بسببها كل شيء…
❀❀❀❀❀❀❀❀❀❀
وجهه المشرق وحالة الحماس التي تجري عليه جعلت جميع من يعرفونه يتيقنون بأن ثمة تغيّر جذري أصابه..
أنهى يعقوب عمله مُسرعًا وهو يعدّ الدقائق ويسارع الوقت حتى يعود إليها…
خرج وهو يسحب مفاتيحه ليقع مع عبد الرحمن الذي هتف بخبث:-
– ألاه هتمشي بدري بدري كدا يا يعقوب باشا..
زفر يعقوب وهو يردف ببرود:-
– أيوا في عندك إعتراض ولا حاجة..
أكمل عبد الرحمن يقول بخبث وهو يغمز بعينه:-
– الله يرحم لما كنت من أسبوع مقيم هنا ليلك ونهارك..
ابتسم يعقوب ليقول ببحته الرجولية المُميزة قبل أن يخرج واللهفة تتلبسه:-
– علشان إللي كنت بقيم علشانها هنا ليل ونهار خلاص بقت في بيتي فلازم أنقل الإقامة هناك..
وخرج على الفور يصعد لسيارته ثم انطلق نحو المنزل فابتسم عبد الرحمن في سعادة لأجله..
دق يعقوب على سطح هاتفه ثم وضعه فوق أذنه ليأتيه صوت كريم فتسائل يعقوب بإهتمام:-
– كريم …مفيش جديد عن لبيية بدران..
ضحك كريم من الجهة الأخرى وهتف بسخرية:-
– استغنت عن خدامتي يا يعقوب باشا واعتبرتني خاين لها فخلاص معدتش عارف تحركتها..
بس احذر علشان هي مش ساكته..
قبض يعقوب على المقود بغضب وردد من بين أسنانه:-
– عارف يا كريم عارف بس أنا لها بالمرصاد..
وشغلك موجود عندي متقلقش..
قال كريم بإمتنان:-
– دا من غريب عنك يا يعقوب، بس هي مخلتنيش أسيب الشغل خالص هي نقلتني المصنع بعيد عنها…
تمتم يعقوب باقتضاب وقد صال الجحيم على وجهه:-
– تمام يا كريم هنبقى نتكلم..
كان قد وصل للبناية التي بها شقته فهبط يصعد بقلب نابض وسعادة يدلف للشقة وهو يهتف بعشق:-
– رِفقة … أرنوبي..
وعندما استدار سقط قلبه وأصابه الهلع حين وقعت أنظاره عليها تضم جسدها إليها وتبكي بانتحاب..
أسرع نحوها وقد سقطت دموعها على قلبه كالجمر، جلس على عقبيه أمامها وهو يهتف بفزع وأصابعه تمسح الدموع من فوق وجهها:-
– مالك يا رِفقة بتعيطي ليه يا نور عيني، أيه إللي حصل .. ليه الدموع دي يا حبيبتي..
نظرت له بأعينها الكاسفة لتهرب الدماء من وجه يعقوب ويتوقف قلبه عن الهدر حين قالت:-
– يعقوب إنت عملت علشاني كتير وحقيقي شكرًا لكل حاجة مش عارفة أعمل أيه علشان أوافيك إللي عملته…
بس إحنا علاقتنا لازم تنتهي وتقف لغاية هنا، إحنا مش لبعض يا يعقوب .. إنت وصلتني لبر الأمان ووفيت بوعودك…
لو سمحت طلقني يا يعقوب..
شعر يعقوب بخفقان قلبه بعنقه واختنقت أنفاسه وأنظاره مُعلقة على دموعها بينما توقفت أصابعه فوق وجنتيها..
ورغم هذا ولصدمة رِفقة هدر يعقوب بنبرة غاضبة شرسة تسمعها منه لمرتها الأولى حتى أنها تسببت في خوفها وقال:-
– ٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠
هدر يعقوب بنبرة غاضبة شرسة تسمعها منه لمرتها الأولى حتى أنها تسببت في خوفها وقال بدمٍ فائر:-
– هي كانت هنا صح … هي جاتلك هنا وهددتك إنك تمشي .. دا كلامها مش كلامك يا رِفقة صح.!
أعماهُ غضبه من تصرفات لبيبة الهوجاء ولم يُدرك صياحه بوجهها بتلك النبرة التي يكسوها غضبه الجحيمي والتي جعلت رِفقة تجفل وترتاع..
هذا فقط لنبرته فماذا لو رأت رِفقة وسم الجحيم على ملامحه التي ضُخّ فيها الإهتياج وغضب العالم أجمع .. فملامحه التي انبجست فيها الحياة توارت وحلّت أخرى غائمة بالسواد، فكلماتها كانت كخِنجر مسمومًا قد أُوقد عليه وغُرز في قلبه…
أسرعت رِفقة تُمسك يده هامسة بغصة بكاء بنبرة نقيّة كالندى:-
– يعقوب بلاش تزعق … متخوفنيش.
كانت كلمات أشبه بمُسكن أعاد يعقوب لبعض من طبيعته معها ورُشده لكن مازال عليه رجفان من الغضب، استقام وجلس بجانبها، كوّب وجهها بين كفيّة وراح يقوم بعتاب:-
– صدقتيها مع إن حكيتلك كل حاجة يا رِفقة.
شرقت أعينها بالدمع ووضعت كفها فوق كفه الموضوع على خدها وهمست له بنبرة مرتعشة:-
– أنا خوفت منها عليك يا يعقوب، هي قالتلي بالمعنى إن كل حاجة عندك هتدمر وهتحرمك من كل حاجة .. وإن كدا الأحسن والأفضل لك..
وإن بوجودي هيبقى لا ليك مستقبل ولا مكانة ولا أي حاجة..
هسهس يعقوب بنبرة محتدمة:-
– أنا إللي ليا حرية الإختيار .. محدش ليه الحق يتحكم في حياتي، ولا يعرفني الأحسن ليا..
لانت نبرته وأكمل بصدق وهو يضع جبينه فوق جبينها:-
– وبعدين مين قالك أنا عايز منها حاجة، بيكِ أو من غيرك يا رِفقة أنا مش هنفذ إللي لبيبة عيزاه مني، وهي بقالها كام سنة بتحاول ومنفذتش ولا هنفذ..
بس هي عندها حق في حاجة، أنا مش هيبقى ليا مستقبل..
عقدت رِفقة حاجبيها وطفى الحزن على ملامحها ليُكمل يعقوب قبل أن تستفهم:-
– مليش مستقبل في عالمها .. لأن مستقبلي كله بقى مع رِفقة..
وحتى لو مليش أي مكانة في العالم ده، يكفيني مكانة في قلب رِفقة..
احتقن وجنتيّ رِفقة بالأحمر وذاب قلبها من كلماته التي جبرت كل الكسور والعطوب التي كانت بها من الداخل، همست هي بصدق ورِقة:-
– مكانتك في قلب رِفقة عالية أوي ومش وصلها حدّ من قبلك وهي المُنتهى فأكيد مفيش بعدك..
ما هذا الضوء الذي يشعر به يكتسح ظلمات النفس، هدر قلبه بعتوّ فابتسم لها ثم لثم رأسها وأردف بلوم ممزوج بالحزن:-
– كدا يا رِفقة يهون عليكِ تسيبي يعقوب..
↚
هان عليكِ يعقوب..!!
تمزق قلبها من فحوى تلك الجملة، هي كانت تنتوي تركه والإختفاء من حياته للأبد، وهل تظن هذا هيّن يا سيّدي بعد تعلُق الفؤاد!!
لكن يبدو أن كل مَن يتعلق به قلبها يتحتم فقدانه كالسراب…
كان ردها ثلاث كلمات فُراتَا سقطوا على قلب يعقوب كالمُعصرات:-
– علشان خاطر يعقوب..
[ويبقى محفوظ هذا العتاب الليّن المُميز…
– ويهون عليكِ تسيبي يعقوب..
– علشان خاطر يعقوب.. ]
قَبل باطن كفها وأردف:-
– يعقوب مش عايز غيرك إنتِ وليحترق العالم..
أنا مستعد أحارب وعندي القوة والقدرة إن أحارب العالم كله ودا وإنتِ معايا…
لكن لو سبتيني يا رِفقة مش هقدر أقوم تاني..
نهض بجسد متأهب مشدود بغضب وهتف بنبرة ترمي بشرر:-
– أنا خارج يا رِفقة .. خدي بالك من نفسك ومتفتحيش الباب لحد..
انتصبت رِفقة مسرعة وهي تُدرك نواياه وأسرعت تُمسك ذراعه وقالت برجاء:-
– بلاش بالله عليك يا يعقوب .. بلاش مشاكل.. هي مهما كان جدتك وبتحبك بطريقتها ومفكره كدا الصح..
حاوط كتفيها وأجلسها برِفق قائلًا بحزم:-
– رِفقة اسمعي الكلام وأوعي تفتحي الباب لحد لغاية ما أرجع …. لازم أعرف أخر لبيبة بدران أيه..
وخرج كالعاصفة دون أن يأبه بشيء حتى نداء رِفقة المرتجي..
رفع هاتفه قبل أن يصعد لسيارته..
– كريم … خمس دقايق وتكون قدام البرج إللي فيه شقتي ومتتحركش من قدام بابه لأمّا اقسملك بإللي رفع السما من غير عمد محدش هيتحاسب قدامي ألا إنت ولا هيدفع التمن ألا إنت…
– تمام يا يعقوب متقلقش..
كان ينطلق بسيارته بسرعة عُظمى، وجهه باسرًا عابسًا وكلمات رِفقة تطوف به، كلما تذكر أنها كانت على أعتاب تركه بسبب تلك ذات القلب المتكبر المتجبر يزداد عُنفه ويزداد وجهه شراسة، ظلّ يقبض على المقود حتى ابيضت مفاصله .. وكل ما يمرّ على جسده الآن هو دلائل إنفجار عنيف…
بعد وقت وجيز جدًا كان أمام بوابة قصر آل بدران العتيقة والذي سارع رجال الأمن بفتحها على مصارعها ليمرّ يعقوب للداخل بعنف تاركًا مثار النقع يتطاير من خلفه..
توقفت السيارة بقساوة وبأس مُحدثة صوت مُزعج مرتفع ناجم عن إحتكاك الإطارات بالأرض المرصوفة الناعمة..
هبط مُغلقًا الباب بعنف وخطى بخُطى واسعة يدك الأرض دكًا..
دفع باب القصر بقدمة بضراوة وأغلقه خلفه بذات الشدة لتتزلزل الجُدران ممزوجة بصياحه الهادر وهو يقف بساحة البهو الواسع:-
– لبيبة بدران … يا لبيبة هانم .. إنتِ فيييين..
احتشد عُمّال القصر يتهامسون على هيئة يعقوب المُميتة وهم يرونه للمرة الأولى بتلك الحالة..
واصل يجأر وعروق رقبته ووجه منتفخة بارزة:-
– مكونتش أعرف إنك بتستخدمي أسلوب المكر والخداع ده … جديد عليكِ ده يا لبيبة يا بدران..
تدلّت لبيبة من فوق الدرج الذي يتوسط البهو تهبط بهدوء ظاهري ووجوم يحتل وجهها لتُقابلها نظرات يعقوب الشرسة..
وقفت أمامه ودقت بعصاها الأرضية اللامعة ثم قالت بنظراتٍ قاسية:-
– أيه يا باشا إللي بيحصل ده …شكلك نسيت قواعد وقوانين القصر ده إللي عيشت أعلمهالك عمرك كله … وبما إنك نسيت خليني أفكرك يا يعقوب باشا..
هنا ممنوع الصوت العالي ولما تتكلم مع لبيبة بدران بالذات لازم تطبق القاعدة دي يا …. باشا..
أثارت حفيظته المستيقظة بالأساس ليصدح صوت يعقوب عاليًا متمردًا:-
– تتحرق القواعد والقوانين بتاعتك بجاز يا لبيبة هانم ميهمونيش … وللمرة الأخيرة بقولك أنا مش باشا يا هانم … أنا يعقوب وبس…
جرت أنظارها على وجه يعقوب بُرهة ثم أردفت بجمودها المُعتاد ورأس شامخ:-
– طول ما إنت من بدران فإنت باشا وغصب عن أي حدّ … ومش أي باشا .. إنت يعقوب باشا حفيدي .. وخليفة أجدادك ووِجهه وعلامة مُميزة لاسم بدران … يا باشا..
ضرب يده بعنف شديد على أحد قطع الزينة الزجاجة الموضوعة بمنتصف منضدة دائرية لتتهشم بعنف مُحدثة ضجة مُزعجة وتاركة جُرح بباطن كفه وقد وصل غضبه إلى أقصاه لدرجة أعمت أعينه من طريقة تحكمها به التي بات يبغضها حدّ الجحيم…
صاح وهو يدور أمامها كمن مسه جان وأوداجه كأنها على وشك الإنفجار:-
– ابعدي عني وعن حياتي ….ابعدي عني وعن مراتي .. لبيبة بدران صدقيني إنتِ لسه متعرفيش مين هو يعقوب أنا صبري قرب ينفذ ودا شيء مش كويس أبدًا…
لو قربتي من رِفقة تاني صدقيني هحرق العالم إللي إنتِ بنياه ده … مش هرحم حدّ وهعيش الباقي من عمري علشان أهد إللي عمرتيه وهجيب اسم بدران إللي عيشتيني أسيره الأرض..
أبعدي عني يا لبيبة هانم واحذري البركان إللي جوايا…
ركضت فاتن التي انتهت من أداء فرضها بلهفة على الدرج حين سمعت صراخ ولدها الغاضب المُعذب…
بينما خرج حُسين والد يعقوب من غرفة مكتبه القاصية على صوت الضوضاء والصراخ..
فتفاجأوا بهيئة يعقوب التي تُدمي القلب والذي أخذ يُهشم كل ما تطوله يداه ويضرب الأثاث بقدمه…
ركضت فاتن تجاه تُمسك ذراعه قائلة بدموع:-
– يعقوب ابني حبيبي مالك .. في أيه … اهدى يا عمري..
مسح على وجهه وسحب ذراعه من بين يديها مستديرًا تجاه والده ثم هدر بسخرية:-
– شوف إللي سبتني لها تربيني… بعد ما حرمتني من كل حاجة وأنا صغير ومعرفتش أعيش طفولتي .. مش عارف أعيش حياتي كمان وأنا كبير…
والدتك المُبجلة لبيبة هانم مسلطة كلابها يراقبوني ويراقبوا خطواتي وراحت لمراتي بتهددها إنها لازم تسيبني…
خنقتني بقيودها واسم بدران إللي يعتبر لعنة حلت عليا مش راضية تسيبني…
التفت حسين لوالدته قائلًا بسخط واعتراض والحزن يفتك به وهو يرى ولده بتلك الحالة:-
– ليه يا أمي كدا … سيبيه يعيش حياته زي ما هو عايش … كفاية على يعقوب كدا .. كفاياك يا لبيبة هانم..
بينما صرخت فاتن والدة يعقوب بتمرد وقوة مليئة بالتحدي:-
– ابني اختار حياته وهيعيشها غصب أي حدّ، يعقوب بيحب رِفقة وأنا هقف في وش أي حدّ يقف في طريقه … أنا غلطت غلطة كبيرة لما سيبته معاكِ وبدفع تمنها لغاية دلوقتي غالي أوي..
بس جه الوقت أعوض إللي فات..
ضربت لبيبة بعصاها وصاحت بصوت زلزل الأرجاء بوعيد:-
– والله عال أووي عال أووي يا فاتن .. بتعلي صوتك عليا وواقفة بتتحديني..
أيه يا حسين مش تعرّف مراتك إن أنا أمك ولا أيه..
يعقوب أنا مش هسيبه أبدًا يعيش زي ما هو عايز والجوازة دي لازم تنتهي وأنا بوعدكم إن هيحصل، دي بنت متلقش باسم بدران ومتستحقش تشيل اسم أجدادي وإن أحفادي يكونوا منها … أنا مستحيل أسمح بحاجة زي دي تحصل …
ابنك المحترم جاي يعلي صوته على جدته ويكسّر بعد ما المحروسة اشتكتله وعيطت واتمسكنت قدامه وهو كالعادة بيريل قدامها والأحسن من كدا إن بينزل عند رجليها…
يعقوب بدران قاعدة تحت رِجل بت جايبها من الشارع … وماشي معاها في قلب الشوارع زي المراهقين مش مراعي إن ممكن الصحافة تتعرف عليه ولا حد يصور القرف إللي كان هو فيه ويفضحنا ويلطخ اسمنا..
وجذبت الهاتف ثم قذفته باتجاه حُسين الذي التقطه يرى العديد من صور يعقوب بجانب رِفقة في أوضاع مختلفة ليقف أمام صورة يعقوب الذي ينحني أمام رِفقة أسفل أقدامها يُساعدها في إرتداء الحذاء..
اقتربت منه فاتن تنظر إلى ما ينظر إليه لتتوسع أعينها بصدمة سُرعان ما ارتفع صوت ضحكتها قائلة بسعادة وهي تنظر للصورة بحالمية:-
– مش قولتلك بيحبها يا حسين .. شكلهم حلو اووي مع بعض..
رمقتها لبيبة نظرات متمهلة متوعدة لتنقل أنظارها إلى يعقوب الذي زمجر بشراسة رغم الصقيع الذي بدى عليه:-
– الكلام إللي قولتيه عليها دي يا لبيبة هانم تأكدي إن هيبقى ليه مقابل كبير أوي ودا وعد رجال من يعقوب…
أنا مستعد أبقى عند رجليها العمر كله وفي خدمتها ودي حاجة متنقصش من رجولتي..
وعندك حق هي فعلًا متناسبش العالم ده ولا تليق بيه .. لأنه كله نفاق وكذب وهي أبعد ما يكون عن كدا … هي أنقى حاجة شوفتها في حياتي ونقاءها ميناسبش سواد العالم بتاعك..
↚
إللي عندك اعمليه يا هانم وأما نشوف هتوصلي لفين..
وتركها ورحل مُخلفًا خلفه عاصفة كما جاء بأخرى..
وقفت لبيبة وعقلها يغلي كالمرجل لترمق حسين وزوجته نظرة غريبة ثم انصرفت لغرفتها بهدوءٍ مُخيف…
•◆◇◆◇◆◇◆◇◆◇◆•
ولج للمنزل بإرهاق ومازال من الداخل يرتعش بالغضب وكلمات لبيبة تدور حول رأسه..
كان قد مات النهار ابن الصباح وحلّ الليل بثوبة الأسود..
وقعت أنظاره على رِفقة التي تجلس برداء الصلاة الخاص بها على المصلاة بالرُدهة فبعد ذهابه توضأت وأخذت في الدعاء له..
انتفضت تقول بلهفة فور أن سمعت صوت غلق الباب:-
– يعقوب..
اقترب منها ثم جلس أرضًا أمامها بوجه مهموم وقلب مكلوم وهمس وهو يتمدد واضعًا رأسه بحِجرها:-
– نور عين يعقوب..
استشفت الحزن الذي بنبرته وبتلقائية وضعت يدها على رأسه وسط خصلاته متسائلة بقلق:-
– أيه إللي حصل .. إنت كويس..
ردد بسخرية:-
– كويس .. دا كفاية عيلتي إللي بتقابلني بالأحضان..
تنهدت وقالت بهدوء:-
– الحمد لله .. قول الحمد لله إنها جايه على قد كدا، الحياة لازم تكون كدا وإلا مش يبقى لها طعم، في وسط كل النعم إللي ربنا أنعمها عليك مفيش ألا الموضوع الصغير ده إللي منغص عليك..
نِعم ربنا كتيرة أوي حوليك ومغرقنا…
مسيرها تتحل وربنا يفرجها كل حاجة لها نهاية صدقني..
وجاءت تُكمل حديثها لكنها تفاجأت بأخر شيء تتوقعه على الإطلاق، شيءٌ ضرب الصدمة ببدنها بقوة عاتية…
•◆◇◆◇◆◇◆◇◆◇◆•
بمساء اليوم التالي..
وقف يعقوب أمامها بشموخ ثم أردف بجمود بما جعل لبيبة تتصنم:-
– أنا مستعد أبيع فرعين من مطعمي لكِ بالسعر إللي تحدديه .. وهحتفظ بالفرع التالت..
جاءت تُكمل حديثها لكنها تفاجئت بأخر شيء تتوقعه على الإطلاق، شيءٌ ضرب الصدمة ببدنها بقوة عاتية…
دموع يعقوب التي شعرت بها تسقط على يديها، دموع حسرة، دموع هذا الذي بات الألم من عناصر حياته..
شعرت رِفقة وكأن ثمة سكين حادة تمرّ فوق قلبها فتمزقه..
رفعت أطراف أصابعها المرتعشة تسير بهم على وجهه مرورًا بلحيته وهي تشعر به يتشعب بروحها، همس يعقوب بتساؤل متعجب:-
– إزاي يا رِفقة قادرة تحسي بالنِعم إللي إنتِ بتقولي عليها دي كلها وإنتِ كدا..
أنا بس بستغرب منك ومن تفكيرك..
تعرفي أنا رغم كل إللي حوليا ده والنعيم إللي كنت عايش فيه من وجهة نظر الناس، بس عمري أبدًا ما حست بإحساس الرضا أو إن عندي حاجة مش عند حد…
يعني عادي .. مش حاجة مُميزة بل بالعكس كنت بقول إن أقل من أي حدّ في سني، تعرفي عمري ما حسيت إحساسك ده..
ابتسمت رِفقة ببشاشة ثم قالت بهدوء:-
– تعرف يا يعقوب .. أنا كُنت زيك كدا، كنت بنت أقل من العادية بمراحل..
عايشة بالطول والعرض كل إعتمادي على بابا وماما، مش مقدرة أي حاجة في حياتي..
لغاية ما حصلت الحادثة وغيرت كل حاجة في حياتي..
انتبه يعقوب لها معتدلًا وانصت لما تقوله باهتمام فيسمعها تُكمل وهي تتذكر تلك الأحداث المنصرمة:-
– كنت في أولى إعدادي في الصيف .. بابا قرر يودينا المصيف ويفسحنا بعد سنة شديدة..
كنا أسرة بسيطة وبابا وماما كانوا أحن أب وأم في الدنيا وكانوا مغرقني حنان ودلع..
روحنا واتفسحنا وصيفنا وإحنا راجعين كنا بعد نص الليل على الطريق الصحراوي، بابا وهو سايق شاف راجل وست مغمى عليهم على جانب الطريق..
بابا نزل جري وماما نزلت علشان الست من غير تردد، وبمجرد ما نزلوا اتفاجئنا إن فخ من قُطّاع الطُرق، حاصروا بابا وماما وأنا اتصدمت وأنا راكبه في العربية ونزلت جري لهم بس قبل ما أوصلهم حسيت بحاجة زي ما يكون حديدة حد ضربني بيها على راسي من ورا…
وساعتها مش حست بالدنيا حوليا..
ألا بعدها باسبوعين فوقت في المستشفى وفتحت عيني بس كانت الدنيا سودا .. كل حاجة حوليا سودا..
ابتلعت رِفقة ريقها بألم وتدحرجت دموعها رغمًا عنها وهي تشعر بمرارة تلك الذكرى..
اقترب منها يعقوب وأخذ يمحق تلك الدموع المُعلقة بأهدابها بحنان ثم أحاطها لتستند على كتفه برأسها ثم التقطت خيط الحديث تُكمل:-
– ساعاتها بقيت أصرخ وأعيط وأنا مش مستوعبة وجالي إنهيار عصبي حاد وعيشت فترة طويلة على المهدئات … بس إللي هداني شوية لما عرفت إن بابا وماما بخير وعايشين وهما رغم تعبهم فضلوا معايا ورفضوا أي علاج..
عرفنا ساعاتها إن فقدت البصر .. وعرفت ساعاتها إن معدتش هشوف ألوان ألا الإسود..
طبعًا كان إنهيار ورا إنهيار وأنا مكونتش بستوعب أبدًا..
بس بابا وماما مش سبوني رغم حزنهم وحسرتهم لكن هما كانوا بيخبوا جواهم ومش بيبينوا ليا..
وبقوا يحمدوا ربنا إن الحادثة دي جات على قد كدا، لأن عرفت إن حالتي كانت صعبة وكان عندي نزيف..
عرفت إن هما طعنوا ماما وبابا فضل يقاوم واتأذى بشكل كبير …إحنا كنا انتهينا بس ماما قالتلي إن إللي حصل معانا مُعجزة ولطف ربنا بنا كان كبير..
في عربيات لناس مهمة عدت في نفس التوقيت..
قُطّاع الطريق خافوا وأخدوا عربية بابا وهربوا بيها وسابونا .. والناس دي إللي أنقذتنا..
أنا وقتها كنت بين الوعي واللاوعي وكانت الرؤية ضبابية … بس قدرت أحسّ بناس بتتحرك حوليا وأشوف وشوش ضبابية مش واضحة..
عند تلك المرحلة من السرد شرد يعقوب شرود عميق ثم اتسعت أعينه بصدمة وهو ينظر لها بعدم تصديق لكنه اكتفى بالصمت المطبق..
ابتسمت رِفقة وهي تنغمس أكثر بأحضانه وواصلت حديثها:-
– مش أنا بقولك رب الخير لا يأتي إلا بالخير..
في بداية الأمر ولما تبص عليه من بعيد، تلاقي الموضوع إبتلاء صعب ومحنة شديدة..
بس بفضل الله ثم بفضل أمي … هديت بعد شهرين تقريبًا من الإنهيار…
كانت ماما تقعد تقرأ جمبي قرآن وتحكيلي عن الصالحين والإبتلائات وإزاي الإبتلائات دي حولت المُبتلين وغيرت حياتهم للأفضل..
وساعاتها الكلام نزل على قلبي ولقيت نفسي في وسطهم أقل إبتلاء، وعرفتني جزاء الصبر على الإبتلاء والرضا بقضاء الله..
بدأت اتأقلم مع حياتي الجديدة وحددت لنفسي أهداف تناسب حالتي..
سجلت في دورات بتدعم إللي زيّ، واتعلمت اقرأ إزاي …وماما وبابا مقصروش معايا في حاجة..
بس الأحسن من ده كله … إن اكتشفت في رحلتي دي حاجات كتيرة أووي يا أوب واتعلمت أكتر..
وأكتر حاجة اتعلمتها واترسخت فيّا، يقيني بالله وحُسن ظني بيه إللي مستحيل خاب وإن ربنا بقى صاحبي في كل حاجة في حياتي..
قدّرت حاجات كنت شيفاها عاديه.. قدرت نعمة البصر إللي كانت معايا وفي غمضة عين ربنا لحكمته ورحمته نزعها مني، عرفت إن ربنا كبير أوي ولا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، عرفت إن الحياة دي بسيطة أوي ومش مستاهلة إللي بقينا نعمله في بعض، مش مستاهلة الكُره والغيرة والعداوة إللي بقت في قلوبنا..
والله ما مستاهلة يا يعقوب..
عرفت إن أبلع ريقي من غير ألم دا نعمة تستحق تحمد ربنا عليها عمرك كله..
أهو بلع الريق ده ممكن تكون في نظر البعض حاجة يعني عاديه ممكن مش ياخدوا بالهم منها أصلًا بس في مقابل إللي عنده مشاكل عارف قيمتها كويس…
طب دا إحنا غرقانين بالنِعم .. دا حتى شوية الهوا إللي بناخدهم نِعمة عظيمة..
طب الواحد يحمد ربنا على أيه ولا على أيه بس..
علشان كدا بدأت أعمل ورقة النِعم..
وبما إن الورقة والقلم صعب مع إللي زيّ، ورقة النِعم تكتب فيها كل حاجة ربنا عملها علشانك، موقف حصلك وربنا أنقذك، مشكلة ربنا حلها لك..
ولا وجع ولا مرض كنت بتعاني منه وربنا شافاك وعافاك .. ولا حتى إمتحانات كانت صعبة وربنا عداها .. أي حاجة ربنا عطهالك..
كل صغيرة وكل كبيرة .. بس بديل الكتابة أنا بدأت أحفظ في دماغي كل التفاصيل دي وأراجعها كل يوم حرفيًا قبل ما أنام وأحمد ربنا عليها .. ودا لما عرفت إن أكتر حاجة ربنا بيحبها من عبده هو الحمد وإن الحمد سبب في تفريج كل كرب وسبب في إنهمار العطايا علينا..
وخلاص أنا مش زعلانة أبدًا على حالتي بالعكس يا يعقوب دا أنا ممتنة جدًا لها..
طب أقولك على سرّ..
كان يعقوب يستمع إليها بقلب قد ذاب وخجل اعتراه وهو يستدرك ما تقول ويُسجله بقلبه وعقله، ابتسم وهو ينظر لها نظرة مطولة مغمورة بالمعاني التي لا حصر لها..
وهمس لها وهو يُقبل باطن كفها:-
– قولي يا أرنوبي..
رددت وهي تتنفس بعمق:-
– هي حاجة مجنونة شوية يمكن تستغربها..
من النِعم إللي بحمد ربنا عليها نعمة فقدان البصر..
أيوا أنا بعتبرها نعمة، لأن لولاها مكونتش وصلت لهنا ولا كنت عرفت إللي عرفت ولا قدرت إللي عندي ولا قربت من ربنا وحبيته الحب ده كله..
لم يقوى يعقوب على الصمود أمام هذا الكم من الرِقة والصفاء والجمال فجذبها لأحضانها باحتواء وحنان فاستقرت هي براحة وأمان..
وبعد مدة لا بأس بها هتف يعقوب متسائلًا:-
– طب يا رِفقة مجربتيش تكشفي على عيونك وتشوفي لو في أمل إن البصر يرجعلك تاني، عملية مثلًا…
رددت رِفقة بهدوء:-
– طبعًا .. بابا وماما مش سكتوا .. بس إحنا انتظرنا مدة بعد الحادثة على ما أموري تستقر لأن كنا خايفين مش يبقى في أمل ونتصدم صدمة جديدة بس ماما أقنعتني وبعدين بدأنا في رحلة الكشف والأشعة والكلام ده كله .. بس الرحلة وقفت لما الحج جه لبابا وماما .. كانوا مقدمين واسمهم جه..
بس هما كانوا عايزين يلغوها بس أنا أصريت عليهم لإن كان نفسهم فيها أوي وقولتلهم يروحوا ويدعولي..
وفعلًا سافروا وبقيت عند خالي عاطف بس هي مكانتش تعرف إن مرات خالي كدا..
↚
المهم لما بابا وماما اتأخروا في الرجعة، روحت كشفت مع مرات خالي عفاف..
بس الصدمة إن الدكتور قالنا إن مفيش أي أمل إن ممكن أرجع أشوف تاني وبلاش نتعلق بأمل كذاب..
ومن وقتها وأنا شيلت الموضوع من دماغي واتعودت على حياتي..
هتف يعقوب بعد أن فكر بُرهة:-
– طب مين كان قالك كدا .. يعني مين قالك إن مستحيل ترجعي تشوفي تاني..
تعجبت رِفقة من سؤاله لكنها أجابته بهدوء:-
– يوميها أنا كشفت وخرجت والدكتور اتكلم مع عفاف مرات خالي، وهي لما خرجت قالتلي الدكتور قال كدا .. هي مكانتش عايزه تقولي بس أنا أصريت..
سبّ يعقوب تحت أنفاسه وراودته الشكوك فهتف بحماس:-
– طب أيه رأيك نكشف تاني نروح لمركز عيون متخصص..
أنا واثق إن كلام الحربايه عفاف دي غلط وهي كدابه .. أكيد لعبة قذرة من ألاعيبها..
رفعت رِفقة أعينها له لتتسائل بغُصة علِقت بحلقها:-
– يعني إنت .. مش عايزني .. علشان قصدك كدا أنا مش مناســ..
قاطعها يعقوب مسرعًا بصدمة:-
– رِفقة .. أيه الكلام ده .. إزاي تقولي الكلام ده، يعني ده إللي مفكراه عليا..
أنا مستحيل أفكر بالطريقة دي ولا عندي أي إعتراض .. أنا راضي بيكِ في كل حالاتك وتكفيني بل إنتِ كمان كتير عليا..
حوى كفيها بين كفيه بحنان ثم همس لها بحب:-
– أنا أقصد علشانك إنتِ..
علشان ترجعي تشوفي الألوان..
علشان ترجعي تشوفي السما والسحاب..
عشان ترجعي تشوفي الورد وكل حاجة بتحبيها..
علشان ترجعي تشوفي البحر والأقحوان..
كوّب وجهها وأكمل بنبرة حانية ممزوجة بالعتاب:-
– مش عايزه تشوفي يعقوب..
ولا ولادنا .. لما يبقى عندنا بنات وصبيان، مش هيبقى نفسك تشوفيهم وتشوفي ملامحهم وتهتمي بكل تفاصيلهم..
صمتت رِفقة تطرق مُفكرة بأعين دامعة فيذوب قلبها شوقًا لتلك المغريات..
قالت بإرتعاش بتيهة مختلطة بالخوف:-
– بس أنا خايفة أوي يا يعقوب..
خايف من خيبة الأمل، خايفة أتعلق بأمل كذاب..
جذبها لأحضانه بحنان يمتصّ جزعها وقلقها طابعًا قُبلة على مقدمة رأسها ثم همس برعاية:-
– مش هنخسر حاجة يا رِفقة .. أنا بقولك المرة دي خلي عندك يقين بالله، مش إنتِ علمتيني إن اليقين بالله والثقة بتعمل المعجزات..
مش إنتِ قوليلي إن زمن المعجزات إنتهى لكن لم تنتهي قدرة الله…
شعشع الأمل داخل قلبها لتردف وقد غمر قلبها الراحة:-
– ونعم بالله … خلاص إنت عندك حق فعلًا خلينا نجرب مش هنخسر حاجة .. لن يُصيبنا إلا ما كتب الله لنا…
استقام يعقوب بفرحة ثم جذبها ليجعلها تقف بسعادة هاتفًا:-
– طب يلا بينا .. ادخلي البسي على ما أعمل إتصال علشان ننزل حالًا..
اندهشت رِفقة من تسرعه لتقول بتعجب:-
– دلوقتي عالطول..
– طبعًا .. خير البر عاجله يا أرنوبي، يلا قدامك عشر دقايق مش أكتر..
انعقد لسانها أمامه ولم يكن منها سوى أن
دلفت للغرفة قبل أن تنقضي العشر دقائق..
بينما يعقوب فجذب هاتفه وهو ينتوى دقّ أول مسمار في تابوت كبرياء لبيبة بدران..
عبث قليلًا بالهاتف بتطبيق (الفيسبوك) ولو يكن منه سوى نقرة واحدة لتغيير الحالة الإجتماعية من أعزب إلى متزوج..
لم تستهويه حياة مواقع التواصل الإجتماعي كان دائمًا منغمسًا في تشييد حُلمه، وبذل كل غالٍ وثمين لتطوير سلسلة مطاعمه والعمل الدائم..
لكن لا بأس بهذا التطبيق الآن فحالة الانقلاب التي سيتسبب بها هي المُراد..
ولم يلبث إلا قليلًا حتى انهالت التساؤلات والدهشة التي تم التعبير عنها بوجه مصدوم، غير مرات المشاركات التي تخطت المئات بالعشر دقائق..
غمغم بسخرية:-
– عالم تافهة..
❀❀❀❀❀❀❀❀❀❀
اجتمع رجال الأمن يمنعون اقتحام الصحافة قصر آل بدران بصعوبة بالغة..
أعداد جما يحملون الكاميرات وبعض الأجهزة وتداخل لغطهم حتى حلت ضجة وضوضاء وصلت لمسامع لبيبة التي خرجت غاضبة من هذه الضوضاء التي لا تعلم سببها..
قابلها رئيس الأمن الذي أتى راكضًا ومساعدتها الشخصية..
تسائلت لبيبة بغضب:-
– في أيه … أيه السوق والهمجية دي..
قال الرجل وهو يُخفض رأسه:-
– صحافة كتير أوي يا لبيبة هانم …محصلتش قبل كدا..
وقبل أن تتسائل لتشفى عجبها قالت المساعدة:-
– كلهم مقلوبين على جواز يعقوب باشا، وعايزين يعملوا مقابلات ويعرفوا التفاصيل ومين هي العروسة..
فزعت لبيبة في مكانها لتشعر بدوار عنيف يجتاحها من هذا الخبر المروع لها، ملامحها مسطور فوقها الصدمة ولم تمكث دقيقة حتى سقطت فاقدة للوعي..
❀❀❀❀❀❀❀❀❀❀
بعد فحص دام أكثر من ساعة تحت يد أمهر أطباء العيون ويعقوب يُمسك يدها بدعم حتى انتهى الطبيب وجلس أمامهم مبتسمًا ببشاشة ليستفهم يعقوب بلهفة:-
– أيه يا دكتور خير .. في أمل..
ابتسم الطبيب لتلهفه الواضح ليقول بتعجب رغم هدوءه:-
– مش عارف إزاي دكتور قالكم الكلام ده، وإن مفيش أمل من إن مدام رِفقة ترجع تشوف..!
بعد الكشف المبدئي المشكلة مش كبيرة ولا صعبة بالطريقة دي..
شوية فحوصات وتحاليل وهنأكد كل حاجة يا يعقوب باشا .. عيونها هتحتاج عملية مهمة ودقيقة جدًا..
توسعت أعين رِفقة بصدمة من هذا الحديث المغاير تمامًا لما قاله لها الطبيب السابق عن طريق زوجة خالها عفاف..
بينما ابتهج قلب يعقوب، يُقسم أنه لم يسعد بحياته من قبل هكذا..
ودون أن يتجمجم هتف يعقوب وازدهاء السعادة ينبثق من عينيه، سعادة تملئ ما بين خوافق السموات والأرض:-
– مفيش مشكلة يا دكتور .. أنا مستعد لأي حاجة، لو حتى محتاج تسفرها برا لأكبر المستشفيات أنا من دلوقتي هبدأ في الإجراءات..
قال الطبيب بعملية:-
– أكيد هنعمل كل إللي نقدر عليه واللازم يا يعقوب باشا، بس بإذن الله مش هنضطر للسفر برا..
ثم نظر تجاه رِفقة وضَّاحة الوجه وقال:-
– مدام رِفقة هتروحي مع الدكاتره والممرضات على الأشعة وياخدوا منك عينة لشوية تحاليل..
حركت رِفقة رأسها بإيجاب وسحبت يدها بخجل من يد يعقوب وهي تتحرك بصحبة الممرضات ليهتف يعقوب بحنان:-
– جاي وراكِ مش هتأخر..
خرجت لتتجه أنظاره للطبيب متسائلًا بقلق:-
– كل حاجة تمام يا دكتور .. لو في مشكلة قولي عليها …وقولي كل التفاصيل
أردف الطبيب بصوت ثابت:-
– متقلقش يا باشا مفيش أي مشكلة، حالة عينيها مش بالسوء ده .. وفي أقرب وقت إن شاء الله هيرجعلها النظر .. نسبة نجاح العملية ٩٠٪.
بس بصراحة….
صمت الطبيب قليلًا ليسرع يعقوب يهتف بقلق:-
– في أيه … في مشكلة .. مش إنت قولت مفيش مشاكل..
أكمل الطبيب حديثه:-
– هي بس تكاليف العملية كبيرة حبتين…
قاطعه يعقوب براحة:-
– مفيش مشكلة أيًّا كانت التكاليف أنا مستعد لأي مبلغ فداها أي حاجة…
حتى لو فيه زرع قرنية معنديش أي مشكلة..
حتى لو الموضوع وصل لتبرع قرنية أنا مستعد..
طالعه الطبيب بدهشة وتسائل مصدومًا:-
– يعني إنت ممكن تتبرع لها بعينك .. بالقرنية بتاعتك..!!!
صمت يعقوب وأغمض عينيه ثم همس بداخله:-
– “أن أُهديكِ مُقلتاي على صحفة مُزينة بالأقحوان يكونانِ لكِ سراجًا مُنيرًا، ويكفيني أن ترِي صفو السماء بعينايّ..
هَا لكِ عينايّ فصُونِيهما جيدًا ليكونان تذكارًا لعشقي وتخليدًا له، فلن أَضل أبدًا إن قادتني يداكِ ويكفيني أن أشعر بأعيُوني تبتسم بمقلتاكِ وقد امتزجتا بملامح وجهكِ، وأصبحت عيناي عيناكِ..
↚
ابتسم الطبيب بوِدّ وقال بتقدير:-
– حقيقي يا بختها بيك يا يعقوب باشا، بس الموضوع مش مستاهل ومش هنضطر للتبرع بالقرنية، العملية نسبة نجاحها كبير إن شاء الله بس كل الموضوع إنها بس تكلفتها عالية..
تنهد يعقوب براحة فكما توقع تلك لُعبة قذرة من زوجة خالها عفاف، وما خفي كان أعظم من ألاعيب تلك المرأة القبيحة..
حرك يعقوب رأسه وأردف:-
– مفيش مشكلة يا دكتورة، بس اكتبلي كل التكلفة والمطلوب وأيه الإجراءات إللي هنعملها علشان تدخل العمليات، ياريت ميبقاش في تأخير، لأن مفيش داعي للتأجيل، ابدأ بتجهيزها يا دكتور لو سمحت..
ابتسم الطبيب على عشقه الجليّ وسحب بعض الأوراق وأخذ يُسجل بعض الأشياء ثم هتف:-
– تمام .. إن شاء الله هنعمل بعض الفحوصات والأشعة قبل العملية وأول ما تنتهي هنحدد وهتدخل العمليات فورًا .. متقلقش كل حاجة تمام..
سلّم ليعقوب الذي انتصب بوقفته بعض الأوراق، والذي قال بهدوء:-
– تمام يا دكتور صلاح هنبقى موجودين في الميعاد وهطبق كل التعليمات..
– ألف سلامة عليها يا يعقوب باشا، وإن شاء الله معافاه..
خرج يعقوب يبحث عن رِفقة كالملهوف وقد أرشدته ممرضة على موقعها..
ولج للغرفة بعد أن طرق بخفة ليفزع قلبه منتفضًا فور أن رأى وجهها المذعور وأعينها الدامعة، التهمت أقدام الخطوات التي تفصلهم بتلهف وجلس على أعقابه أمامها يُمسك يديها بحنان مستفهمًا بتلهف وقلق:-
– رِفقة مالك يا جميل زعلانه ليه .. حد كلمك ولا حد أذاكِ..
تشبثت بيده بشدة وكأنه طوق نجاتها ثم أخذت تقول وهي تجذبه نحوها تتدثر وتحتمي به قائلة بفزع:-
– يعقوب هما عايزين ياخدوا مني دم كتير وأنا بخاف أوي من كدا .. دي حاجة بتخوفني، أنا مش بدلع والله بس أنا بخاف حقيقي .. هما بيقولولي بلاش دلع بس والله أنا بخاف..
جلس بجانبها مطوقًا كتفيها باحتواء رامقًا الثلاث ممرضات بغضب ناري وأعين مشتعلة بينما رِفقة تختبأ بكتفه، هدر يعقوب بحِدة:-
– متخافيش أنا هنا .. ولو بتدلعي..ادلعي طولك وعرضك يا ست البنات محدش ليه عندك حاجة..
وقبل رأسها بحنان هامسًا بجدية ممزوجة باللين:-
– بصي يا أرنوبي أنا موجود أهو مش هسمح لأي مخلوق يمس شعره منك، سيبي نفسك وامسكي فيا وفكري في حاجة مهمة أو لحظة حلوة مريتي بيها وهتلاقي في ثواني خلصنا ومحستيش بحاجة..
جاءت تتكلم باعتراض فقاطعها وقد أخذ يكشف ذراعها بحنان:-
– رِفقة .. حبيبة ونور عين يعقوب لازم الخطوة دي علشان العملية …علشان خاطري أنا استحملي واسمعي كلامي..
حركت رأسها بإيجاب على مضض وهي تغمس وجهها في كتف يعقوب الذي يُمسك ذراعها بحنان ورِفق ثم أشار للممرضة بحِدة، بينما رِفقة فأخذت تذكر الله ثم تتلو آية الكرسي وعملت بنصيحة يعقوب لتتذكر وتشرد في أكثر اللحظات سعادةً لها .. بعد عقد قرآنها على يعقوب وتلك اللحظات التي جمعتهم..
صدر عنها صوت متألم فور أن سحبت الممرضة الإبرة من ذراعها فدلّك يعقوب موضعها هامسًا بحنان:-
– خلاص خلصنا كل حاجة انتهت .. حسيتي بقا بحاجة..
ابتعدت قليلًا عن يعقوب التي تتشبث به وقد أفل ذعرها لتقول:-
– بس شوية صغيرين..
ضحك يعقوب وقرص وجنتها مردفًا بمشاكسة وهو يسحب ذراع فستانها للأسفل يحكم ستر ذراعها:-
– بردوه يا شقية …طب يلا بينا علشان نتغدى برا ونروح علشان ترتاحي..
جعلها تستقيم فتُمسك بذراعه بينما يخرجان تحت أنظار الممرضات الحانقات..
كانت رِفقة تسير بجانب يعقوب تحتضن ذراعه فنظر هو لتشبثها به بقلب منتفخ بالعشق ليتسائل بنبرة سعيدة:-
– قوليلي عايزه تتغدى فين النهاردة..
قالت بدون تردد بصوت حماسي:-
– مطعم البوب أكيد…
ضحك وقال بتعجب:-
– طب خلينا نغير طيب، مزهقتيش منه بقالك سنة بتاكلي فيه..
تسائلت هي بتعجب:-
– وإنت عرفت منين إن بقالي سنة باكل فيه، كمان في حاجات وتفاصيل كتيره أوي إنت تعرفها عني مش عارفه تعرفها منين … غير موضوع الصورة إللي ماما فاتن قالت عنه…!!
ردد يعقوب وهو يفتح لها باب السيارة ويجلسها وقال بمرح:-
– الأرنوب عنده فضول غير عادي .. المهم هي قصة بسيطة تبان بس هي أحسن حاجة وأهم حاجة حصلتلي في حياتي، وأكيد من حقك تعرفيها وهحكيلك بس استني نوصل المطعم..
رددت بإصرار ممزوج بالدلال الفطري:-
– أوب .. يلا قولي دلوقتي على ما نوصل..
ضحك وهو ينطلق بالسيارة:-
– خلاص بقاا لما نوصل هحكيلك على كل حاجة…
المهم كنت عايز أقولك على حاجة..
جعدت جبينها وهمهمت باستماع ليُكمل يعقوب:-
– بالنسبة لفلوسك إللي كانت سرقتها عفاف رجعت … فتحتلك حساب جديد برقم سري جديد وأمنته كمان..
غرقت رِفقة في صمتٍ براق ثم ابتسمت هاتفة بخجل:-
– طب تقدر تسحب المبلغ كله علشان تكاليف العملية..
التفت لها يعقوب وهدر بصوت متأجج:-
– أيه يا رِفقة للدرجة دي مش شيفاني ولا أيه..
ليه أنا معدتش موجود علشان تقولي كدا..
هتفت مسرعة بلهفة:-
– لأ مش أقصد بعيد الشر عنك بس….
قاطعها يعقوب بصرامة:-
– مفيش بس يا رِفقة الموضوع ده منتهي، وكمان في حاجة تانية لازم أقولك عليها بس لما نوصل المطعم..
انتعش قلبها ومكانته تتفاقم بداخلها أكثر وأكثر من رجولته وشدته اللينة التي تأسرها فإن اللين في القوة الرائعة أقوى من القوة نفسها، لأنه يُظهر لك موضع الرحمة فيها..
التفتت برأسها تجاهه وللمرة الأولى تتمنى من كل قلبها أن لو كانت تستطيع الرؤية لتراه، لتتشرب ملامحه الحنون … لكن كالعادة الظلام فقط من يُقابلها…
ورغم هذا تشعر أن عالمها مُضيء بل زاهي مُزين بالورود ساطعًا شمسه…
انبلجت ابتسامتها فيلتفت يعقوب ليراها على تلك الحالة لتُدثره بتلك النظرة التي أخبرته بالكثير وأَربت العشق بداخل قلبه فقد أصبح مُقرن بأصفادها للأبد وأصبح ضيُها يبزغ وسط ظلمات قيوده..
أوقف السيارة أمام المطعم والتفت إليها يتدبر ملامحها النقية بتروي، نعم هي جميلة، جميلة لا مِراء، ليست أجمل من رأى يعقوب في حياته؛ ولكنها جميلة جمالًا لا يختلط بغيره في ملامح النساء..
أردف يعقوب بهدوء:-
– يلا وصلنا يا رِفقة..
تنحنحت تُبعد أنظارها في إبتسامة متوترة، فهبط يعقوب ودار أمامها يفتح الباب ثم يأخذ بكفيها برِفق لتسير بجانبه والسعادة تتدفق من عينيها..
في كل مرة كانت تلج لمطعم “البوب” تكون بمفردها مُثقلة بالهم لكن الآن لقد اختلف الأمر كُليًا، تلج بصحبة يعقوب مُفعمة بالسعادة..
وفور أن وطأت أقدامهم المطعم التفّت جميع الفتيات من حول رِفقة بينما قابل يعقوب عبد الرحمن الذي سلّم عليه بحفاوه قائلًا بمكرهُ الدائم:-
– يا أهلًا وسهلًا بيعقوب بدران باشا، نورتنا يا باشا والله مطعمنا المتواضع زاده الشرف ونور..
لكزه يعقوب بكتفه وسحب رِفقة نحو المنضدة المفضلة لديها ثم أجلسها وجلس مقابلها براحة قائلًا:-
– إحنا النهاردة ضيوف مش أصحاب المكان فيلا وروني أحسن ما عندكم يا أستاذ عبد الرحمن..
فرقع عبد الرحمن باصبعيه مشيرًا لِألآء وهو يقول بجدية:-
– يلا يا آنسة آلاء انزلي بالمنيو على ترابيزة يعقوب باشا..
اقتربت آلاء ثم قبلت رِفقة قائلة بطيبة وحُب صادق:-
– رِفقة أيه المفاجأة الحلوة دي .. وحشاني أووي بجد..
قالت رِفقة باشتياق:-
– وإنتِ أكتر والله يا لول …رغم إنهم كام يوم بس أنا كنت متعودة أقابلك كل يوم..
تنحنحت آلاء ورددت بحماس وجدية وهي تضع قائمة الطعام أمام يعقوب:-
– شرفتونا .. مطعم البوب في خدمتكم .. تقدروا تختاروا الأكل إللي تحبوه .. المنيو مزود بكل حاجة..
ثم انصرفت ليعود يعقوب بظهره للخلف مبتسمًا بوقار وهو يتناول القائمة بين يديه يقرأ محتواها وكأنه لا يعرفه..
بينما رِفقة فأغمضت أعينها تستنشق الهواء العليل المُحمل برائحة الزهور بنهم وخرير الماء قد أضاف للأجواء لمسة ساحرة…
همست باشتياق:-
– المكان هما وحشني أووي بجد، حقيقي لو قعدت هنا اليوم من أوله لأخره مش بشبع..
إنت إللي أخترت تصميم المكان بالطريقة دي..
وإزاي كان حلمك إنك يبقى عندك سلسلة مطاعم بالرغم من إنك خريج هندسة!!
تنفس يعقوب بعمق وأردف والذكريات مازال عودها طريّا تمر بعقله كأنها حدثت بالأمس ثم أردف بأعين غائمة:-
– من وأنا طفل كنت بتمنى في الأجازات لبيبة تاخدني ونروح أي مطعم نتعشى فيه كتغيير زي كل الأطفال مع أهلهم..
↚
بس دي كمان كانت حاجة ممنوعة عند لبيبة بدران، فكتفكير طفولي قولت لما أكبر هعمل مطاعم كتيره وهخلي وجبات كتيره للأطفال مجانية، وفضلت أحلم وأتخيل ومتوقعتش إن الحلم يكبر معايا ويعشش جوايا…
وأول ما بدأت أخرج من ثوب لبيبة وأتمرد عليها كنت في الجامعة وبدأت أشتغل من الصفر بعيد عنها، وطبعًا دي حاجة معجبتهاش بس أنا مرجعتش أبدًا بعد ما اتحررت من سجنها وقيودها وبدأت أنفذ فكرة المطعم وأثبت أول حجر في حلمي بمالي الخاص، كل تصميم المكان والأفكار إللي فيه من دماغي أنا وأفكاري الخاصة، واخترت البساطة والرِقة، غير جودة الأكل والأسعار المناسبة للجميع…
وأفكار الطفولة فادتني أكيد، وجبات الأطفال مجانية تمامًا .. وبما إن كان عندي أفكار متشددة على موضوع الإختلاط، فخصصت مكان للبنات ومكان للشباب، ومكان للثنائيات سواء أزواج أو أُسر وهكذا…
رفع رأسه ينظر لكل ركن في المكان بأعين لامعة وأكمل تحت أسماع رِفقة التي تستمع بإصغاء شديد بقلبها لا بأذنها:-
– المكان هنا مش حلمي بس …دا حلم كل واحد هنا، أحلام شباب وبنات كانوا منتظرين فرصة علشان يثبتوا نفسهم بس مكانتش بتيجي..
كلنا هنا كبرنا ونجحنا مع بعض…
الشيفات إللي هنا لما بدأوا كانوا لسه عند الصفر، رفضت أختار ناس متمرسة أو شيفات كبيرة، كنت حريص أختار الناس إللي كان نفسها في فرصة، وكل واحد اتوظف في المكان إللي كان حلمه، والحمد لله كلهم أثبتوا جدارتهم ونجحوا، كل واحد كان بيجتهد علشان حلمه، كنا كلنا بنجتهد علشان نبني اسم..
وفعلًا لمع اسم “البوب” وفتحنا بدل الفرع تلاته..
بس هنا كان أول فرع … دا كان بداية الحلم..
وعلى الرغم إن بحب المكان هنا جدًا بس مكونتش باجي هنا وكنت بباشر الشغل عن طريق عبد الرحمن إللي مستلم كل حاجة في الفرع ده..
وقبل أن يُكمل حديثه تسائلت رِفقة بفضول ولهفة:-
– طب ليه!!
قال دون مراوغة:-
– لأن الفرع ده قريب من لبيبة كنت عايز أبقى بعيد عنها على قد ما أقدر، استقريت في مدينة تانيه وبقيت أباشر شغلي من هناك..
لغاية ما كلمني عبد الرحمن علشان شوية شغل وبصراحة حنيت للمكان هنا وقولت أجي، والواضح إنها كانت إرادة ربنا علشان أجي هنا وأقابلك كانت تدابير ربنا وجابني من هناك لهنا بأسباب مش مفهومة…..
ربنا ساقني من هناك لهنا لأجل رِفقة وبس…
أومض الحُب بأعين رِفقة مبتسمة بشغف وهي تتذكر تمسكها الدائم بهذا المكان وتشبثها به واستمرارها على المجيء هنا رغم كل شيء…
رددت بهمس بوجه متورد:-
– ورِفقة كانت بتيجي هنا كل يوم لأجل تدبير الله عزّ وجل، رِفقة كانت بتيجي هنا كل يوم منتظره قدرها .. منتظره يعقوب…
مدّ يده يحتضن كفها بحنان ثم قال بنبرة تزلزل الجبال الراسخات:-
– أنتِ مُعجزتي بأوآنٍ انتهت به المُعجزات، أنتِ الربيع الذي ظلل قحط قلب يعقوب.
همست له رِفقة أيضًا بقلب ينهمر منه العشق الصادق وقد أصبح قلبها مِلكًا خالصًا ليعقوب، رِهن له فقط، تقرّ هي دون تلجلج بأن يعقوب قد نال قلبها وعشقها وكيانها..
– لقد مكثتُ في الظلام طويلًا لكن حين حللتْ أُضِيء عالمي..
كانت تتحدث وهي مثبته أعينها باتجاه عيناه، لم ترفق بحالته المستعصية، فحتى حروف اسمها قادرة أن تتحكم بملامحه فكيف بعينيها؟!
فماذا عساه أن يفعل بعد هذا!!
وقبل أن يهتف تسائلت رِفقة بحماس:-
– يلا بقى قولي على إللي قولتلي هتقولي عليه، وأيه موضوع الصور ده..
ابتسم يعقوب على حماسها وبدأ يسرد لها القصة منذ أن رأها وسوء الظن الذي اعتقده بها، وكل ما مرّ به وكيف أنه أخذ يتتبع سجلات الكاميرات التي توجد هي بها…
كان حديثه تحت دهشة رِفقة وصدمتها وحزنها على سوء ظنه تجاهها، ليختم حديثه بقوله المُزين بالحزن والألم والصدق:-
– رِفقة أنا مكونتش أعرف والله، دا علشان أنا مليش اختلاط بالناس وأنا راجل صريح ومش بيعجبني الحال المايل، حقك عليا وعلى عيني وقلبي … أنا مكانش واجعني ألا قعدتك في الشمس ولغاية دلوقتي مش مسامح نفسي عليها، تعرفي إن بعدها خرجت وفضلت قاعد في نفس مكانك ساعتين تحت الشمس…
الكوابيس مكانتش بتسيبني، وكنت بلف وراكِ زي المجنون، أنا من بعد ما شوفتك ومبقيتش يعقوب إللي أنا أعرفه…
رفع كفها يُقبل باطنه بحنان وأكمل بندم مختلط بالحُب:-
– سامحيني على الغلطة دي، سامحيني على تكبري وقتها، غيرتي يعقوب وغيرتي نظرتي لحاجات كتيره أوي يا رِفقة، وعلمتيني أكتر، اتعلمت منك أقدر النِعم إللي ماليه حياتي..
رغم الدموع التي نمت بمقلتيها لكنها تبسمت ثم أردفت بهدوء:-
– تعرف يا يعقوب لما الإنسان بيرتكب ذنب حرام ومش بيبقى عارف إنه حرام، ربنا بيسامحه ولا كأنه عمل حاجة، بس بعدها بيتعلم إن الذنب ده حرام وبيتجنبه…
إنت مكونتش تعرف إني كفيفة وحكمت عليا حكم جائر، بس دا يعلمك إن ده سوء ظن…
مش من حقك ولا من حق أي حدّ يحكم على غيره من مجرد موقف، التمس لأخيك مئة عذر..
إنت مش عارف ظروفه أيه…
وإنت مش حِمل تحمل ذنب سوء الظن يا يعقوب..
كان المفروض تستفسر أو تسمع على الأقل…
صمتت برهة تحت نظرات يعقوب المتوترة المترقبة، ابتلع ريقه بصعوبة وتسائل بصوت خافت مُجعد:-
– ما أنا قولتلك إني غلطت…وإني وحِش يا رِفقة..
هاا إنتِ ساكتة ليه، سامحتي يعقوب..
ابتسمت باتساع وأردفت برِفق يُشبهها ونبرة الحزن والندم بصوته جلية لها:-
– أوب … لقد سامحتك على ما كان منك..
رفرف قلبه سعادةً وقال بفرحة:-
– هو دا قلب رِفقة إللي أعرفه..
وأخرج ورقة من جيبه ثم بسطها أمامها وقال:-
– يلا بقاا امضي هنا..
تسائلت بعدم فهم:-
– أيه ده!!
وضع القلم بين أصابعها ووقف يجلس بجانبها وهو يرشدها لموضع الإمضاء يخبرها:-
– دا عقد تمليك لشقتنا، الشقة خلاص بقت باسمك، دا تقدري تقولي تنازل مني لكِ يعني عقد بيع وشراء..
سحبت رِفقة يدها وتوسعت أعينها بصدمة قائلة باعتراض:-
– لأ يا يعقوب مينفعش وبعدين ما إحنا مع بعض أهو أيه لازمتها ملهوش داعي…
أمسك كفها مرةً أخرى ووضع القلم بين أصابعها ثم أردف:-
– ريحيني يا رِفقة، أنا عايز أطمن عليكِ علشان مهما حصل يكون عندك بيتك ومعاكِ فلوسك وإن شاء الله هزودهالك، لما تكون باسمك أحسن ما تكون باسمي..
انتفض قلبها من هذا الحديث المخيف وشعرت بألم حاد يغزوها والخوف يعتريها من مجرد التفكير بعدم وجود يعقوب يومًا ما..
رددت مسرعة بغصة وهي تقبض على يده بقوة وقد ملأ أعينها الذعر والرعب:-
– قصدك أيه بالكلام ده يا يعقوب، إنت ليه بتخوفني بكلامك ده..!!
همس لها وهو يُخلل أصابعه بأصابعها:-
– رِفقة …أرنوبي حبيبي متقلقيش مفيش حاجة هتحصل اطمني … بس لو عملتي كدا هتريحيني، علشان خاطر يعقوب..
فتحت فمها لتعترض لكنه قاطعها بقوله الحاسم:-
– اسمعي الكلام يا رِفقة وريحي قلب يعقوب..
حركت رأسها على مضض ليأخذ بيدها الممسكة بالقلم ثم ساعدها لتنقش اسمها بهدوء…
تنفس براحة وأثنى الورقة وأعادها لجيبه، ثم سحب شيئًا ما أخر ووضعه بين يدي رِفقة فأخذت تتحسسه بهدوء فابتسمت بسعادة فور أن عرفت ماهية هذا الشيء…
قلادة يتدلى من زهرة الأقحوان المزيجة باللونين الأبيض والأصفر..
أخذها يعقوب من يدها ثم اقترب يمد يده من أسفل حجابها يضعها حوله عنقها بهدوء ثم طبع قبلة خفيفة فوق جبينها…
وقال بمرح:-
– أحسن حاجة إن إحنا في مكان بعيد مش وسط الناس..
وأخذ يشتم عبقها الطاهر مُقبلًا يدها وواصل بمرح:-
– علشان أتصرف براحة..
سحبت يدها وابتعدت عنه بخجل قائلة بإمتنان:-
– شكرًا جدًا على السلسلة يا أوب ….حقيقي النهاردة من أجمل الأيام…
– لو شوفتك خلعاها من رقبتك هعرف إنك زعلانة من أوب، أتمنى متتخلعش يا أرنوب..
– أكيد مش هخلعها حتى لو زعلانه منك، لأن هعاقبك بطُرق تانيه كتيره…
ضحك يعقوب بصخب لتُكمل هي بتحذير:-
– جرب بس وإنت هتشوف…
ردد من بين ضحكه:-
– مقدرش على زعلك يا أرنوب مع إني مشتاق أعرف أيه طُرق العقاب بتاعتك..
– لا متقلقش الأيام جايه كتير وهتشبع منها مش بس هتعرفها يا أوب..
أجلت صوتها ثم قالت بجدية:-
– بقولك يا يعقوب .. أنا كنت عايزه أروح لأي دار رعاية تكون كويسة..
↚
انتفض قلب يعقوب وتسائل بصدمة ووجه شاحب:-
– ليه … أيه جاب السيرة دي يا رِفقة..
شعرت بصدمته ومخاوفه فابتسمت تطمئنه وأردفت موضحة:-
– لأ ..بس كنت عايزه اتبرع بجزء من الفلوس إللي معايا وعايزه أوديها لمكان أمين يستحق..
في ناس بتتبرع كتير للمستشفيات ودار الأيتام، بس دور الرعاية محدش واخد باله منهم مع العلم إنهم يستحقوا جدًا..
تأملها بفخر وقال بتفهم:-
– أنا عارف دار رعاية كويسة جدًا بتبرع ليهم شهريًا، متقلقيش الدنيا لسه فيها خير وفي ناس بتتبرعلهم، وعندك حق فعلًا هما يستاهلوا..
إن شاء الله بكرا أخدك ونروح..
– إن شاء الله..
ومرّ الوقت وهم من بين مرح وهي تسرد له الكثير عنها وهو يبادلها الذكريات التي لم يجد منها سوى السيء الموجع، إن كانت هي ذكرياتها خليط ما بين السعادة والوجع، فذكرياته هو يملأها الألم المصائب والوجع فقط…
_________بقلم/ سارة نيل_________
بعد أن أوصلها المنزل هبط يقود سيارته وهو يُفكر بأن هذا هو القرار الصحيح..
ماله الخاص لا يُغطي تكاليف العملية الجراحية لأعينها وليس أمامه سوى هذا الحلّ..
منذ فترة كانت قد اقترحت لبيبة بدران عليه بيع مطعمه لها .. ويبدو أن الآن هو الوقت المناسب لتنفيذ هذا الإقتراح..
وصل أمام قصر آل بدران لكنه تفاجئ بكم هائل من الصحافة أمام القصر وفور رؤيتهم له تجمعوا من حوله ووميض الكاميرات تلمع على وجهه، والكثير من التساؤلات تتطاير في الوسط..
“يعقوب باشا، هل خبر زواجك صحيح فعلًا..؟”
“يعقوب بدران ليه زواجك في السرّ ومقدرناش نشوف صورة زوجتك على مواقع التواصل الإجتماعي؟”
“هل هي من الوسط المخملي، وليه مسمعناش عن أي حفل زفاف.؟”
“يا ترى من هي إللي قدرت تكسر انعزال وريث آل بدران يعقوب باشا وتوقعه في شباكها.؟”
زفر يعقوب بسخط بينما رجال الأمن يحاولون تخليصه من بينهم لكنه توقف باستياء ثم هدر بصوت قوي مُحتد خشن:-
– أظن دا شيء شخصي وحياتي متخصكوش، بس علشان أريحكم، أيوا كتبت كتابي على إللي اخترها قلبي وعقلي .. وبعد فترة هيبقى زفاف يليق بيها..
أما بالنسبة لصورتها فأنا مراتي مش بنزلها صور على مواقع التواصل لأن مقبلش بحاجة زي دي ولا هي تقبل، ولأني مش ديوث وبغير على مراتي، وأكيد تشوفها أو لأ دي حاجة مش هتفيدكم …ويلا كلكم اتفضلوا..
وانسلّ من بينهم للداخل وصعد مباشرةً تجاه غرفة جدته متجاهلًا نداء شقيقه يامن…
لكنه توقف بتعجب وهو يرى خروج الطبيبة من غرفة جدته بصحبة المساعدة الشخصية لجدته..
سألها بوجه جامد:-
– في أيه..
أجابته باحترام:-
– يعقوب باشا …لبيبة هانم ضغطها وطى شوية وأغمى عليها …بس مفيش أي قلق يا باشا هي بقت بخير..
دلف يعقوب للداخل ليجد جدته تتمدد مستنده على ظهر الفراش ويبدو على ملامحها الجامدة التعب والإرهاق..
اقترب حتى وقف على مقربة منها فشعرت بأحد فوق رأسها لتلتفت فوجدته لتهمس بلين وهي تمد إليه ذراعها فمهما حدث يبقى العالم أجمع بجهة ويعقوب بمفرده على جهة خاصة جدًا، حتى وإن كان تعبيرها بالحُب خاطئ..
اقترب يعقوب وهو يتذكر كلمات رِفقة ونصائحها وجلس بجانبها على طرف الفراش، رفعت كفها المجعد تضعه على يده ذات العروق المنتفخة، وهمست بإجهاد:-
– يعقوب … ابني وحفيدي … وسندي وضهري وشرفي وعِزي وكبريائي..
دمدم بإرهاق وهو يتذكرها عندما كان يمرض ماذا كانت تفعل:-
– مش كفاية كدا يا لبيبة هانم …كفايانا كدا…
سعلت بخفة وقالت بجمود رغم وهنها:-
– إنت عارف إن مينفعش يا يعقوب باشا..
زفر بإحباط وانتصب واقفًا وقال ببرود:-
– عمومًا أنا مش جاي علشان أتكلم في الموضوع ده…
استدار ووقف يعقوب أمامها بشموخ ثم أردف بجمود بما جعل لبيبة تتصنم:-
– أنا مستعد أبيع فرعين من مطعمي لكِ بالسعر إللي تحدديه .. وهحتفظ بالفرع التالت..
أخيرًا خرج صوتها المصدوم:-
– يآآآه .. في حاجة أهم من حلمك إللي ضحيت علشانه بكل حاجة وحاربتني لأجله، غريبة تتنازل عنه بالسهولة دي.!!
بس بغض النظر عن كل حاجة أنا موافقة…
همس يعقوب وهو يخرج بإصرار:-
– في الأهم … نـور عــيــون رِفـقــة..
بعد أن فاقت من صدمتها رفعت هاتفها وقالت بحزم وصرامة شديدة:-
– بكرا تنفذ إللي اتفقنا عليه، وتاني حاجة يعقوب واضح إن محتاج مبلغ كبير، تعرفلي هو عايزه في أيه…
__________بقلم/سارة نيل_________
وقفت أمام الضابط تصرخ وهي تلطم وجهها وصاحت برجاء:-
– طب أخر طلب … أنا عايزه رِفقة تجيلي…ممكن أشوفها واتكلم معاها قولها إن أنا عيزاها ضروري..
أشار براء للعسكري بنفور:-
– خدها يا ابني الحبس .. إنتِ بكرا هتتعرضي على النيابة يا ست إنتِ وابقي قولي إللي إنتِ عيزاه…
جذبها العسكري من الأصفاد وصراخها المعترض يملأ أركان المكان … تشعر وكأن مسّ من جنون أصابها…
__________بقلم/سارة نيل__________
في وسط الظلام كانا يجلسان أسفل الشجرة أعينهما سابحة في شرود بعيد جدًا وكأنهم ليسوا بالواقع .. وهم بالفعل ليسوا بالواقع..
التيهة مرتسمة على وجههم وأيامهم عنوانها المجهول كما كانت منذ عشر سنوات إلى الآن..
ما يدل أنهم مازالوا على قيد الحياة، أنفاسهم المنتظمة وأعينهم التي ترجف بين الحين والآخر..
بالداخل أمام أحد النوافذ قالت إحدى العاملات لصديقتها:-
– روحي يا بنتي جبيهم من البرد علشان يناموا، دول لو فضلوا الليل كله كدا مش هيتحركوا
قالت صديقتها باشفاق:-
– الله يكون في عونهم، شوفي بقالهم كام سنة على نفس الحال من وقت ما وصلوا دار الرعاية لا فاكرين هما مين ولا ظهر لهم حد .. يا ترى أيه إللي حصلهم وصلهم لكدا..!!
سؤال بنسأله من عشر سنين وحالتهم لسه زي ما هيّا مش بتتحسن..
أيدتها الأخرى بعطف:-
– لولا السلسلة إللي في رقبة الست مكوناش حتى عرفنا اسماءهم..
يــحـيــى ونــــــــرجــس..
– إللي سمعته صح يا لبيبة هانم..!!
كان هذا تساؤل “فاضل زكريا” بنبرته الذي جاهد لجعلها هادئة بعد هذا الخبر الصاعق الذي تلقاه بزواج يعقوب بدران بفتاة مجهولة، وانتشار مقطع مصور باعتراف يعقوب..
لم تُحرك لبيبة ساكنًا وبقت على حالة جمودها، وهتفت بكل برود باقتضاب:-
– أيوا صح..
هتف الرجل وهو على حافة الجنون من فكرة عدم زواج ابنته بالوريث الشرعي الأول يعقوب بدران:-
– بس ده مكانش إتفاقنا يا لبيبة هانم، مش اتفقنا يبقى فيه نسب بينا، وحضرتك اتكلمتي على بنتي ليعقوب باشا..
انتصبت بغضب ودقت بعصاها بشدة وصاحت من بين أسنانها:-
– ولسه على كلامي يا فاضل، ومش بسمح لأي مخلوق مهما حصل يكلمني بلهجتك دي..
وبنتك لو مش عايزه تخسر يعقوب يبقى تتحرك وتنفذ إللي قولتلها عليه..
وانصرفت بتكبر وغرور شديد وتذر هذا الغاضب الذي يغلى عقله كالمرجل ويقسم في قرارة نفسه بأنه لن يخسر تلك الجولة بتاتًا…
________بقلم/سارة نيل________
اقتحم حُسين والد يعقوب غرفة مكتب والدته بغضب ولم يبالي بقوانينها البالية..
هدر بغضب أعمى:-
– عملتي أيه وخليتي يعقوب يقتنع ويوافق يبيع لكِ المطاعم بتاعته، هددتيه بأيه .. عملتي فيه أيه يا لبيبة هانم … أنا متخيلتش توصلي للدرجة دي يا أمي..
عادت بظهرها للخلف وهي تسحب عويناتها من فوق وجهها ورددت ببرودها المعتاد:-
– طب وأيه لازمتها أمي .. يا حسين باشا..
اقترب من سطح المكتب يطرق فوقه بجنون بعروق وجه منتفخة وهدر بحدة:-
– فهميني إنتِ عايزه أيه من ابني، إنتِ مش راضيه تسيبي يعقوب في حاله ليه..
دي حياته إللي اختارها، ليه مش قابلة تشوفيه سعيد..
في هذا الأثناء ولجت فاتن والدة يعقوب بخُطى مهزومة ورفعت أنظارها لتتبين أعينها المنتفخة من البكاء ورددة بنشيج باكٍ:-
– دا ابني يا لبيبة هانم، ابني إللي خسرته بسببك وبسبب قسوتك وجبروتك، يعقوب مش هيكون النسخة إللي إنتِ عيزاها..
أنا عارفة إنك بتحبي يعقوب وإن هو عندك الدنيا كلها، بحلفلك بإللي رفع السما بدون عمد إن شوفت سعادة في عيون يعقوب والحياة رجعت لوشه واختلف تمامًا عن يعقوب إللي شوفته بعد ما رجعت…
اقتربت منها ثم فجأة جثت على ركبتيها بحزن أم يتمزق قلبها على وليدها، أمسكت يد لبيبة برجاء بينما تقول ودموعها تغرق وجهها تسألها بتذلل:-
– لو يهمك سعادة يعقوب ابعدي عنه، لو بيهمك فرحته وراحته اتنازلي عن كبريائك والقواعد بتاعتك…
بلاش تهدمي فرحته وتدمري أحلامه، مش إنتِ بتقولي إن هو مش بس حفيدك وأنه ابنك علشان الأم إللي ربت مش إللي ولدت، لو إنتِ ليه الأم، اعملي إللي الأم بتعمله … الأم مش بيهون عليها تشوف قلب ابنها محروق…
أنا مستعدة أعمل أي حاجة بس تبعدي عنه..
كانت تنتحب ولم تشعر بشيء سوى بحرقتها على يعقوب وخوفها ورعبها من تصرفات لبيبة على ولدها يعقوب..
↚
انحنت تُقبل يدها لتسمع لبيبة تقول بقسوة ناهرة بسخرية:-
– وإنتِ تعرفي أيه عن الأمومة يا فاتن، قوليلي أكون زي الأم إللي سابته وهو لسه ابن خمس سنين وسافرت مع جوزها علشان تحقق أمجادها وتبني اسم في مؤسسة بدران..
وقبل ما تتحججي بالاسطوانة بتاعتك وتقولي دي أوامري .. بس إنتِ كُنتِ مُخيره وكنتِ تقدري تقولي لأ .. بس إنتِ إللي اختارتي المجد عن يعقوب…
كانت تتحدث وتنثر المِلح على جُرح فاتن لتنفجر الأخيرة ببكاء مرير وهدرت بينما تضرب على صدرها:-
– عندك حق … أنا إللي غلطانة …الحق كله عليا..
ياريتني كانت طلعت روحي وربنا خادني أهون عليا … اتحرمت من إني أشوف ابني بيكبر قدامي … أنا السبب في الويل والعذاب إللي ابني شافه … أنا هنا المجرمة..
شحب وجهها وشهقت بحِدة جعلت زوجها حُسين الذي يحاول جذبها يحتضنها بحنان ويحاول إبعادها لكنها كانت متشبثة بملابس لبيبة وصاحت بعذاب ودموعها تقطر من ذقنها:-
– قلبي محروق عليه .. أنا أستاهل إن هو يكرهني وميبصش في وشي تاني..
كل ما افتكر حياته كانت إزاي النار إللي في قلبي تزيد … يا كبدي يا ابني …يا نور عيون أمك يا يعقوب إزاي استحمل ده كله..
وفي غمرة الأحداث من وسط بكاءها تفاجأت بكفين قويتين يُحيطان كتفيها يجعلها تستقيم، رفعت رأسها بأعينها التي تتسرب منها دموع مريرة لتكون صدمة تهزّ بدنها حين رأت يعقوب أمامها يُساعدها في الوقوف…
لم تكن صدمتها أقل من لبيبة وحُسين الذي تعلقت أنظاره بيعقوب…
وقفت فاتن ووجهها مرفوع تجاه يعقوب ولم ترحم أعينها من الدموع، تنظر له بندم وحسرة وحب وحنان لطالما حرمته منه..
خرجت شهقتها التي تمزق أوتار القلوب وهي تشعر أنها على وشك فقدان الوعي بينما قد اعترض الهواء للولوج لرئتيها..
رفعت أصابعها المرتعشة تتحسس ذراعي يعقوب الصلبة ثم ارتفعت تضعهم فوق صدره على موضع قلبه وكأنها تُطمئن قلبها بأنه أمامها..
وبتردد شديد تعلم ردة فعله جيدًا من النفور والإبتعاد، ارتفعت كفيها تتحسس وجهه، لكن الرعدة التي ضربت الجميع بعنف حين ظل يعقوب ثابتًا لم يبتعد عن مرمى يديها، اكتفى بالنظر إليها بهدوء نظرة كانت مستكشفة لأشياء ومشاعر جديدة غابت عنه أعوامًا عديدة..
هزت السعادة قلب فاتن لتتجرأ وتُلقى نفسها تجذبه لأحضانها وهي تهمس بوجع:-
– يعقوب ابني .. حبيبي يا نور عيني، حقك عليا يا يعقوب حقك عليا يا روح فاتن..
وهنا كانت الصاعقة التي ضربت الجميع وأولهم لبيبة، حين أغمض أعينه بتأثر ورفع ذراعيه بعد قليل من التردد والتوتر يُطوق والدته يُبادلها العناق بشوق شديد … عِناق تمناه بعمر الخامسة إلى الآن … عِناق حُرم منه سنوات طويلة..
فقد استمع لحديثها وتذللها للبيبة وندمها الشديد ليتمزق قلبه ولم يستطع رؤيتها هكذا..
لم يهدأ بكاء فاتن بل إزداد وارتفع صوته فقد ظفرت أخيرًا بأخذ ولدها البِكر لأحضنها الذي اغترب عنها منذ عمر الخامسة..
كان كفيها يجريان على ظهره وكأنها تمسح تباريح الشجون من داخله، تشتم رائحته بنهم وتمسح على شعره بحنان..
انتصبت لبيبة تنظر لهم بوجه معقود بالغضب والصدمة تنضح على وجهها لتقبض على عصاها بشدة حتى برزت عظامها بشدة..
بينما والد يعقوب فلم يقوى على الصمود أمام ما يراه ونبتت الدموع من أعينه بتأثر فهو الأخر لا يقل شوقًا عن زوجته بأخذ ولده بين أحضانه واشتمام رائحته…
ابتعد يعقوب يخرج من أحضانها على مضض بملامح وجه متحفظة ثم ردد بصرامة ونبرة شديدة:-
– أوعي تنحني وتركعي قدام حد تاني …إياكِ..
وتابع يقول بوجه مُغلف بالقسوة:-
– مفيش حدّ يقدر يجبرني على حاجة مهما كان، أنا إللي محتاج أبيع فرعين من مطعمي وأحتفظ بالتالت وبكامل إرادتي..
وألقى بعض الأوراق فوق سطح المكتب أمام لبيبة وقال بحسم:-
– الورق جاهز .. هيتملي وهنمضي بس، والمحامي براا..
رفعت لبيبة أحد حاجبيها بتعجب بينما تعلقت أنظار كُلًا من والديه ببعضهم البعض، ليُدرك حُسين أن يعقوب بحاجة ماسة للأموال، وبالتأكيد الأمر في غاية الأهمية لجعلِه يتنازل عن أحلامه وسعيهُ بتلك السهولة..
رددت لبيبة بسخرية وهي تعود للجلوس مرةً أخرى:-
– دا إنتَ مستعجل أووي..
وجاءت تسحب الأوراق لكن سبقها مُسرعًا والد يعقوب وهو يقول بدون تردد:-
– يعقوب أنا مستعد أشتري المطاعم أنا…
أنا محتاج لمشروع مهم، وبالسعر إللي تحدده..
يعلم بل لديه يقين أنه لن يقبل منه أدنى مساعدة مادية، لكن هذه الطريقة هي الحلّ الأمثل..
فهمت لبيبة مراد ولدها على الفور، ابتسمت بسخرية وهي تُحرك رأسها بصمت ثم هتفت بكل سهولة كلمات غامضة يتلبسها الكثير من علامات التعجب والإستفهام:-
– مفيش مشكلة اشتريه إنت … هو في كلا الحالتين إللي هيحصل واحد..
مُبارك عليك مطاعم البوب يا حسين باشا..
قالت جملتها الأخيرة وهي تنظر ليعقوب نظرة مليئة بالفخر أثارت تعجب الجميع..
رفع يعقوب كتفيه بلامبالاة وردد بدون اكتراث:-
– مش فارقة … يلا علشان نتمم كل حاجة..
حضر المحامي وبهدوء بعد بعض الإجراءات نقش يعقوب إمضاءه عن التنازل دون أن يرف له جفن وكأنه ليس الآن يتنازل عن حلمه وحصاد سعيه في هذه الحياة…
جذب (الشيك) وخرج بخطواط ثابتة دون أن يلتفت خلفه…
_____وخنع القلب المتكبر لِعمياء_____
________بقلم/سارة نيل________
هبط من السيارة يحتضن كفها بحنان وهم يتجاوزون بوابة دار الرعاية المرتفعة..
كانت رِفقة تشعر بشعور عجيب من الإرتياح والحماس..
سألها يعقوب بحنان:-
– هاا مستعدة تخوضي التجربة دي يا رِفقة..
ابتلعت ريقها وأردفت ببعض الحزن بغصة حادة وهي تزيد من تمسكها بيعقوب:-
– أكيد ورا الباب ده كتير أووي من القصص الحزينة يا يعقوب، هنا كل واحد عنده قصة حزينة غيرت مجرى حياته .. هنا كل قصص الخذلان..
صمتت قليلًا وواصلت بصوت متحشرج:-
– لو إنت مكونتش موجود كان زماني هنا في وسطهم …صح يا يعقوب .. كنت…
وضع أصابعه على شفتيها يمنعها من إكمال هذا الحديث الذي لا يُرضي قلبه..
ردد بحنان مُغلف بجسارة شديدة:-
– رِفقة إنتِ قدرك مع يعقوب بس .. قدرك مع يعقوب بس إنتِ فهماني..
↚
قدرك يعقوب..
مش عايز أسمع الكلام ده تاني علشان بيوجعني..
ابتسمت له بحبٍ صافٍ وواصلت السير بجانبه وهمست له بمرح:-
– فاهمه يا سي يعقوب .. فاهميني يا سيدي..
ابتسم وهو يُحيطها بينما يدلفان للداخل لتقابلهم المسؤوله الشابة التي ابتسمت ببشاشة قائلة بترحيب:-
– أهلًا بيعقوب باشا ….المرة دي مش جاي لواحدك جاي معاك ضيف..
قال يعقوب محاوطًا رِفقة:-
-أهلًا وسهلًا آنسة شفاء، لا طبعًا مش حد غريب دي رِفقة مراتي..
رددت الفتاة بوِدّ واضح من نبرتها:-
– بجد إنت اتجوزت يبقى الأخبار صح بقى يا باشا، مش مصدقة حقيقي إن يعقوب باشا اتجوز كدا مرة واحدة..
ضحك يعقوب بمجاملة لتشتعل نيران غريبة بقلب رِفقة التي احتفظت بثباتها وهدوءها بينما تنهر نفسها على هذا الشعور المؤلم الذي اختلج قلبها مستنكرة إياه…
أمسكت شفاء ذراع رِفقة قائلة بمرحها الزائد:-
– أنا هاخد منك رِفقة نتعرف على بعض وأعرفها على المكان وإنت روح لحبايبك هتلاقيهم في نفس المكان..
وقبل أن تبتعد بصحبتها رِفقة، انحنى يعقوب يهمس لرِفقة:-
– خدي راحتك ومتقلقيش أنا في إنتظارك هنا..
حركت رأسها وسارت بصحبة شفاء التي أخذت تشرح لها بتوضيح جميع التفاصيل هاتفه:-
– هنا يا رِفقة هتلاقي كل الأشخاص والظروف والغدر إللي ممكن يحصل..
هنا آباء وأمهات العاقيين إللي تم طردهم على إيد ابنهم وفي بناتهم..
في المريض إللي ملوا منه ورموه، في العاجزيين، وفي أصحاب البصيرة إللي سحبوا إديهم من مساندهم..
هنا كل إللي اتغدر بيهم وكل إللي الجميع دار لهم ضهرهم..
غير إن هنا إللي مقطوع من شجرة ومحدش يعرف عنهم أي حاجة بسبب إنعزالهم وصدمتهم النفسية…
سقطت دموع رِفقة من هذا الألم ومن هذا الجبروت الذي أصبح يملئ القلوب وتلك القسوة التي أشد من قسوة الحجارة، أين الرِفق واللين الذي وصّانا به حبيبنا محمد..!!
أين الرِفق الذي يحبه الله..!!
ماذا سيقولون عندما يقفون أمام قاضي السموات!
لماذا هذه القسوة الذي أصبحت تعج هذا العالم..
عندما رأت شفاء دموعها قالت مبتسمة تحاول التخفيف عنها:-
– دا إنتِ شكلك طريه أووي، أمال لو عرفتي القصص هتعملي أيه، دا قطرة بسيطة من إللي موجود هنا .. دا أنا بشوف أشكال وألوان وقصص أعجب من العجب…
مسحت رِفقة وجهها وتسائلت بفضول:-
– ليه إنتِ بقالك هنا قد أيه، والمكان هنا بتاعك..؟
شرحت لها شفاء بهدوء:-
– أنا يا ستي عندي سابعه وعشرين سنة، المكان ده إللي فكر فيه وفتحه هو والدي الله يرحمه، وكنت ساعتها عندي ١٥ سنة وبقيت أنا وأمي وأخواتي البنات بنهتم بيه..
أمي الله يديها الصحة كبرت وأخواتي اتجوزوا وأنا مواصله بحافظ على وصية بابا وبزود كل يوم ميزان حسناته..
رغم البشاعة إللي بقت موجوده بس في ناس لسه جميلة أووي من جوا..
ناس كتير بتتبرع للمكان ومتكفلة بأشخاص معينة، عندك مثلًا يعقوب متكفل باتنين هنا غير التبرع الشهري للمكان، الله يبارك فيه ويزيده، حقيقي إنسان رائع بما تحمله الكلمة من معني، وراجل أووي..
وزادت تمدح في محاسن يعقوب تحت جنون رِفقة التي أخذت تنهر نفسها مما تشعر به، فكيف لها أن تفكر في مثل هذه الأشياء وهي بهذا المكان والفتاة فاعلة خير…!!
همست بداخلها باستنكار بينما الغيرة تأكل قلبها:-
– أيه الجنان ده يا رِفقة … حقيقي إنتِ بقيتي شريرة..
***********************
عند يعقوب فور أن ذهبت رِفقة بصحبة شفاء، اقترب منهم بهدوء وهم على نفس الحال يجلسون أسفل هذه الشجرة المتطرفة، وجههم لهذا الحائط وظهورهم للأرجاء….
جلس يعقوب أمامهم ورسم إبتسامة هادئة وقال:-
– إزيك يا عمّي يحيى .. عامل أيه وأخبار صحتك..
كالعادة لم بقابله سوى الصمت فقط ينظر له بهدوء ممزوج بالتيهة لكن هناك الإرتياح الذي ينمو بأعينهم فور رؤيتهم له، أصبح يجيد قراءة تعبير الأعين على أيديهم…
وكما اعتاد كل هذه السنوات يجلس ويأخذ في سرد ما يحدث له وما يجِد بحياته، آلامه وأحلامه، لكن تلك المرة أخذ يسرد لهم شيء مختلف فريد من نوعه..
الفتاة التي سرقت لُبه وكيانه وغيرت كثير بداخله، لم يغوص في التفاصيل، فقط يسرد لهم عن فتاة مجهولة بالنسبة لهم ولم يصدف في حديثه أن ذكر اسمها…
بعد قليل خرجت رِفقة بصحبة شفاء فتحرك يعقوب تجاههم بعد أن قال:-
– بعد إذنكم …هرجع تاني..
وفور أن شعرت به رِفقة تمسكت بذراعه بشدة تعجب لها يعقوب لكنها أسعدته وجعلته يبتسم..
جاء يتحدث لكن قاطعه صوت رنين هاتف رِفقة، أخرجته من حقيبتها مسرعة، نظر يعقوب نحو الشاشة وقال لها من فوره:-
– دي نهال..
ابتسمت برقة وقالت:-
– طب هرد عليها..
وسارت بحذر مبتعدة عنهم تُحدّث نهال بحماس شديد… فتقف على مقربة هذان الثنائي الغائبان في الحزن والتيهة، يعطوا لها ظهرهم فلم يروها وهي لم ترهم…
تنهد يعقوب وتسائل وهو يُشير برأسه لكلًا من يحيى ونرجس:-
– بروده مفيش أي جديد..
أردفت شفاء بيأس:-
– للأسف لأ يا يعقوب، لسه مستمرين مع الدكتور النفسي وهو مُصّر على كلامه، بيقول إنهم في حالة صدمة شديدة مخلياهم مش حاسين بالواقع زي المغيبين كدا، وبيفقدوا بالتدريج أجزاء من الذاكرة لو مش فاقدينها كلها يعني…
بيقول إن لازم يحصل حاجة تثير العقل، حاجة من ماضيهم وحياتهم القديمة…
بس زي ما إنت شايف..
زفر يعقوب زفرة مطولة وتسائل وأعينه مُعلقة برِفقة:-
– يعني مفيش أي أمل نوصل لحد من أهلهم..
– بقالنا كام سنة بندور يا يعقوب، وهما على نفس الحال مش بيستجيبوا معانا ولا بأي شكل من الأشكال، ولا نعرف حصلهم أيه وصلهم لكدا..
بعد ما وصلنا من كام سنة على الناس دي وكان عندنا أمل يبقوا عارفنهم، يومها الست قالت منعرفش حد بالاسم ده…
حرك يعقوب رأسه ليقول بتفكير:-
– طب ما تديني عنوان البيت ده يا شفاء أو اسم الناس دي..
استفهمت بعجب:-
– ليه .. ما أنا روحت وورتها الصور كمان وهي قالت متعرفهمش..
ردد يعقوب بتفكير:-
– يمكن في نفس المنطقة حد يعرفهم، يمكن عنوان البيت بس غلط وحد من المنطقة يدلنا، خلينا ندور ونحاول مرة كمان مش هنخسر حاجة، أنا مش هيهدالي بال ألا ما أوصلهم لبر الأمان..
ابتسمت شفاء وقالت بفخر:-
– ربنا يجازيك خير يا يعقوب، حاضر ثواني أروح أشوف العنوان وأكتبه.
وسارت للداخل على الفور..
عند رِفقة كانت اقتربت من المقعد حتى أصبحت خلفهم على مقربة شديدة وهي تستمع لحديث نهال بتركيز وصمت والتي تسرد لها أمرًا هام..
وقفت رِفقة قليلًا ثم استدارت تبتعد مرةً أخرى وعندما شعرت بيعقوب يمسك يدها أنهت الحديث مع نهال على وعد بالحديث لاحقًا…
ابتسمت رِفقة وتسائلت باهتمام:-
– خلاص كدا خلصنا…
حدثها يعقوب بهدوء:-
– خلصنا يا أرنوب باقي بس حاجة بسيطة، قوليلي ارتاحتي للمكان وصدّقه..
أردفت براحة:-
– أيوا المكان هنا شكله مريح، وشفاء ما شاء الله واضح إنها بنوته صادقة ومكافحة وحنينة جدًا على الناس هنا..
أيدها يعقوب:-
– دا حقيقي فعلًا .. شفاء حد محترم وناجحة جدًا في المكان ده وصادقة…
وأخذ يُعدد حُسن أخلاقها لتتقد أعينها بشرار عجيب ثم هدرت تقول بحدة يسمعها يعقوب منها للمرة الأولى:-
– لو سمحت كفاية يا يعقوب، أنا فهمت .. الرسالة وصلت..
أدار رأسه لها يتأمل ملامحها التي لطالما تقطر لُطف أصبحت أكثر شراسة بينما تعقد وجهها وتزّم شفتيها بشكل لطيف وتقبض على فستانها بغضب..
هي له شفافة صافية مثل الماء يستطيع قراءتها فشماعرها تنعكس على عينيها بشكل صريح..
فهم ما تشعر به لينتفض قلبه سعادةً وهو يشعر بالغيرة السعيرية على ملامح وجهها..
ابتسم باتساع ليهمس ببهجة وكأنه فاز بأحد الجوائز:-
– شكل الأرنوب بيغير غيرة جامدة..
أردفت تتسائل بلهجة حادة:-
– بتقول حاجة..!!
توسعت ابتسامته وقال وهو يُمسك يدها:-
– بقول حاضر هسكت يا رِفقة…
وأكمل يتسائل وهو يسير بها نحو الخارج لتشعر هي بانقباضة غيربة تحتل قلبها..
– قوليلي عايزه تروحي فين النهاردة..
تجاهلت شعورها ثم أخذت تفكر مدة لم تُكمل دقيقة وقالت بحماس:-
– وديني الملاهي..
قال بطواعيه:-
– وماله نروح الملاهي…
وصل لسيارته الموضوعة أمام البوابة مباشرة، توقف وهو يتذكر أمر العنوان وتوديع العم يحيى فقال:-
– بمجرد ما بتكلم معاكِ بنسى الدنيا وإللي فيها..
هدخل بس أجيب حاجة في دقيقة وجايلك، ولا أقولك تعالي معايا…
ابتسمت هاتفة وهي تستنشق الهواء العليل نتيجة لاتساع الفراغ في تلك المنطقة ووجود الأشجار:-
– لأ ادخل إنت وأنا هستناك هنا أشم شوية هوا من الحلوين دول..
قال يعقوب قبل أن يهرول للداخل بينما هي تقف أمام البوابة بجانب السيارة:-
↚
– تمام يا أرنوبي..
وضع الورقة بجيبه وأسرع نحو يحيى ونرجس يودعهم…
في الخارج بينما رِفقة تستمتع بملمس الهواء لبشرتها لم تشعر سوى بقبضة قوية تنتزعها ثم كف كبير يُكمكم فمها فأصبحت مُقيدة بأزرع حديدية، ظلت تقاوم وتتحرك بعنف تحاول إنتزاع جسدها بعنف..
قضمت كف الرجل الموضوع على فمها وسارعت تستغيث بفزع بالاسم المرقوش على قلبها من بين أنفاسها اللاهثة:-
– يــــــــــعــــــــقــــــــوب..
لم تشعر سوى بفمها يُكتم من جديد وشيء حاد يُغرز بذراعها لتسقط على إثرها في عالم مُظلم ليسحبها الرجال نحو سيارة سوداء وينطلقون بسرعة شديدة..
عند يعقوب الذي كان يقف أمام يحيى يُحدثهم، تخشب جسده فور سماع صراخ رِفقة وشحب وجهه ولم يتهمل حتى أخذ يركض بلهفة وقلب مرتعب مضطر قبل أن يصيح بروع:-
– رِفــــــــقـــــــــــة… !
وفور سماع هذا الاسم توسعت أعين كلًا من يحيى ونرجس لينظران لبعضهم البعض بصدمة هزت سكون أبدانهم
رجت الصدمة كيانه حين وجد مكانها خاليًا إلا من صدى صوتها المستغيث الذي يتردد بأذنه وعقله، ونداءه المُعلق الذي لم يجد له إجابة..
إنها نهاية بلا قاع..
خيم عليه صمت عجيب يعتريه فراغ وهو يقف خائر اليدين يُكلله العجز المقيت..
الفزع يحتضن ملامحه وقلبه يجأر بشدة يشعر بطرقاته بعُنقه وبكل عروق وجهه المنتفخة…
سار وتجاوز سيارته حيث الطريق الرمادي، ثم جلس على عقبيه ينظر للأثار التي تركتها إطارات السيارة التي تبخرت ليعلو الغضب وجهه وقد علم على الفور من مدبر تلك اللُعبة القذرة..!
جرى غضب سعيري بجسده وهو يشعر بصدره يكاد ينفجر من مشاعر الغلّ التي ملئته.
قبض كفيه حتى انبلجت عروقه، زمجر بغضب وهو يطرق بيده على مُقدمة سيارته بملامح وجه أصبحت مرعبة تتوعد بالويلات..
صعد لسيارته ثم انطلق بسرعة جنونية تحمل بين طياتها أطنانٍ من الحقد والإهتياج..
بعد قليل جدًا كان أمام إمبراطورية آل بدران للإلكترونيات..
هبط من سيارته مغلقًا الباب بقوة أحدثت فرقعة شديدة، وبخطى جحيمية ووجه مُظلم مُغلف بقسوة مُرعبة كان يدلف للمرة الأولى بعد سنوات طويلة من الباب الرئيسي متجاهلًا تحية رجال الأمن الذين وقفوا بإحترام رغم صدمتهم لرؤية يعقوب بدران هُنا…
كان طريقه معروفًا نحو غرفة العرض لإنتاجات المؤسسة، أجهزة تُقدر بمليارات الدولارات..
لم يجرؤ أحد بالوقوف بوجهه وهو يسحب بيده قطعة طويلة من الحديد ويضرب الباب الإلكتروني بقدمه قبل أن يضع بصمته على موضع ما فانفرج الباب يُفتح ولم يتمهل ثانية وهو يهبط بعزمه كله فوق جميع الأجهزة بكل الكبت والحقد والألم والوجع والرعب الذي يأكل قلبه على حبيبته…
كان يحطم كل ما تطوله يده من غالٍ وثمين وهو يُدرك خطورة ما يفعله وكم الخسارة الطائلة التي ستحط على لعنة بدران تلك…
انطلقت صوت الأنذرات تدوى في جميع أركان الصرح العظيم ليهرول الجميع برعب وهم يدركون ما معنى هذا الإنذار…
كان على رأسهم لبيبة بدران التي رغم توترها الداخلي كانت ملامحها ثابتة جامدة…
وقف الجميع بصدمة وأعين جاحظة وهم يرون آخر شخص توقعوه….
المهندسون والمصممون ينظرون للأجهزة المُهشمة لألآف القطع أرضًا والتي لم تعد تصلح سوى للقمامة…
توقف يعقوب أخيرًا بصدر يعلو ويهبط بجنون وأنفاس متسارعة بينما العرق يقطر من وجهه وجسده حتى ابتل قميصه الأسود…
جاء بعض رجال الأمن للسيطرة على يعقوب وهم يرفعون السلاح بوجهه، لكن لم يُسمع سوى صوت ارتطام السلاح بالأرض وصدى قوي لصفعتان قويتان على وجه الرجلان، ولم يكن صاحبتهما إلا لبيبة بدران التي أصبح وجهها يبث الرعب في قلوب الجميع..
تعالَى صوت هدرها تصيح بصوت قوي جهوري:-
– إزاي تتجرأ وترفع السلام في وش يعقوب باشا وهو في بيته يا مجرم … فهمني جبت الجُرأة دي منين …. يا ويلك مني…
ووزعت أنظارها وواصلت هدرها:-
– محدش يقرب منه … إياكم تقربوا منه…
وقف يعقوب بمواجهتها ينظر لها بشرّ نظرة نارية ومازالت أنفاسه لم تهدأ وصدره يعلو ويهبط بانفعال واضح..
اقتربت منه ثم رفعت يدها تضعها على كتفه قائلة بنبرة دافئة:-
– كله فداك يا يعقوب … كله فداك يا نور عيني..
المهم تكون فرغت كل الطاقة إللي جواك، متعرفش أنا فرحانة قد أيه إن شوفتك هنا في مكانك وكل حاجة تغور في داهية المهم إن شوفتك هنا…
اقترب أكثر منها بينما أخذت يدها تمسح على وجهه تزيل عرقه بحنان، ثم همس هو بجانب أذنها بنبرة تهتز لها الأوصال:-
– إنتِ خسرتي يعقوب للأبد يا … لبيبة هانم..
للأبد…..
وقبل أن يستدير راحلًا بوجه مكفهر ألقى قطعة الحديد من يده لتُحدث ضجة صاخبة ممتزجة بصرخة ساخطة تتلظى بنيران الوجع..
ارتفع صوتها وقالت بقوة غريبة وظهره لوجهها:-
– مستحيل أخسر يعقوب خليك فاكر ده كويس يا باشا … مستحيل أخسرك مهما كان التمن…
نمت على زاوية فمه بسمة ساخرة ورحل خارجًا دون أن يستدير وقدمه تدك الأرض دكًا…
_________بقلم/ سارة نيل________
اقتحم غرفة مكتب براء بسرعة ليقفز الأخر بفزع من رؤية هيئة يعقوب الناطقة بالحال دون الحاجة لسؤاله القلق:-
– في أيه يا يعقوب حصل أيه..؟!
لم يتهمل يعقوب وهو يصرخ:-
– بسرعة يا براء حالًا مفيش وقت نضيعه، افتح البرنامج بتاع جهاز التتبع إللي في سلسلة رِفقة…
بسرعة يا براء…
هرول براء وخلفه يعقوب نحو أحد الغرف دون المزيد من التساؤلات..
صاح براء مسرعًا:-
– أكرم افتح بسرعة برنامج جهاز التتبع (…)
نفذ الضابط الذي يجلس أمام الكثير من الأجهزة ليردف يعقوب وهو يدور بالغرفة كالأسد الحبيس يمسح على خصلاته يكاد أن يقتلعهم من جذورهم ثم يستند على طرف المكتب منكسًا رأسه للأسفل مُطبقًا أسنانه بشده يطحن نواجذه حتى برزت عروق جبهته من فرط كبحه لغضبه وتلك التخيلات التي لا ترحم عقله عن حال رِفقة قطعة من قلبه بل قلبه كله، همس بنبرة يشوبها البكاء رغم قوتها وحسمها:-
– جايلك يا رِفقة مش هسيبك يا حبيبتي ومش هسمح لمخلوق يمسّ شعره منك..
حقك عليا رِفقة …حقك عليا أنا غلطان…
صرخ أكرم:-
– براء باشا الموقع أهو … السلسلة مستقرة في المكان ده…
اتجه يعقوب نحوهم بلهفة مُخرجًا هاتفه الحديث وهو يقول:-
– بسرعة انقل ليا البرنامح بسرعة..
حرك أكرم رأسه وبعد عدة دقائق سحب يعقوب الهاتف وهم بالهرولة للخارج وأمامه خريطة التتبع…
لكن أوقفه براء بقوله:-
– نيجي معاكِ يا يعقوب بقوة..
نفى يعقوب مسرعًا قبل ركضه للخارج:-
– لأ الموضوع مش مستاهل أنا هجيبها وأرجع محدش هيقدر يوقفني…
– طب متقلقش إحنا هنا كمان مش هنتنقل من قدام البرنامج…
ركض يعقوب للخارج وهو يهمس بينما ينطلق بسيارته:-
– جايلك يا رِفقة … جايلك يا عمري…
↚
_________بقلم/سارة نيل_________
– أنا مش هعمل إللي بتقول عليه ده يا بابا مستحيل، وأنا أصلًا مش ميته على يعقوب بدران ومش عايزه أتجوزه من الأساس.
حديثها بالطبع لم ينال إعجاب والدها فاضل، صرخ يقول بقسوة:-
– وأنا قولت هتتجوزيه، أنا إللي أحدد يا غادة، وأنا أديت للبيبة هانم كلمة ومش هتكسري كلمتي يا بت إنتِ…
مصالحنا كلها متعلقة بجوازك منه، لازم تعملي اللعبة دي وتحطي يعقوب تحت الأمر الواقع وتجبريه يتجوزك..
ثكلت ثباتها وهبت واقفة تصيح بدموع منهمرة:-
– وأنا مش هدفن نفسي بالحيا وعلى جثتي أتجوز يعقوب ولا أفكر أعمل أي لعبة قذرة من إللي بتقول عليها، ولا كرامتي تسمحلي أجري ولا راجل هو مش عايزني..
مليش علاقة بمصالح حضرتك يا بابا..
أنا مش هدمر حياتي..
حتى لو أنا هنت عليكِ، أنا مش تهون عليا نفسي..
وواصلت بسخرية لاذعة:-
– وبعدين دا واحد اتجوز واتكلم بكل جُرأة قدام البلد كلها ومش هامه حاجة..
وهي لبيبة هانم عارفة تسيطر عليه أصلًا ولا قادرة تطوله.
خُلاصة الكلام يا بابا أنا مش هتجوز ألا إللي أختاره قلبي، ومش هتجوز أبدًا بالطُرق دي، أنا هتجوز جوازه طبيعية زي باقي البنات، هتجوز من واحد عايزني أنا لشخصي مش علشان أي أسباب تانيه، وأظن دا شرع ربنا صح..
رماها بنظرات غاضبة ثم تسائل بنبرة خطيرة:-
– ودا مين بقاا إن شاء الله!!
صمتت برعب وهي تُدرك مدى الصدمة التي ستقع عليه فور نطق اسمه الذي لم تقوى على ذِكره…
≡≡≡≡≡≡≡≡≡≡
صفعة عاتية تردد صداها بأرجاء قصر آل بدران، سقطت على وجه يامن شقيق يعقوب والذي جعلت وجهه يلتف للجهة الأخرى..
اعتدل ينظر بأعين مِحمرة مليئة بالغضب المكبوح، بينما هي ترميه باستحقار وغضب لم تغضبه لبيبة بدران من قبل…
شهقت فاتن واضعة كفيها على فمها وركضت تقف أمام ولدها بدفاع ثم أردفت باعتراض وتمرد:-
– ابني معملش حاجة يا لبيبة هانم، إنتِ خلصتي على يعقوب وهتديري على يامن ولا أيه، بس لا أنا ولا حسين هنسكت أبدًا..
تجاهلت لبيبة حديثها واعتراضها واتجهت بأنظارها المحتقرة حيث يامن القابض على يديه بشدة، وهدرت لبيبة بإزدراء:-
– نظرتي فيك كانت صح من البداية، إزاي تتجرأ وتحط عينك على البنت إللي أخوك هيتجوزها يا حقير .. دي بقت تخصّ يعقوب باشا..
جاي بأي عين تقولي إنت هتخطبها، دا أنا أمحيك من على وش الدنيا..
نجحت في إخراجه من كبوته وصرخ بكل غضبه يفيض بتمرد:-
– غادة مش هتكون ألا ليا، وهي كمان عيزاني وموافقة عليا ومحدش هيتجوزها ألا أنا…
كل حاجة يعقوب يعقوب .. دا أنا إللي همحيه من على وش الدنيا لو قرب منها…
هو يعقوب بس إللي حفيدك، قاعدة بتجري وراه وهو مش معبر حد فيكم وعايش بالطول والعرض زي ما هو عايز، راح اتجوز من ورانا واحدة محدش يعرف عنها حاجة واعترف بكل جُرأة قدام كل العالم وهو بيتحداكِ وبيتمرد عليكِ..
أنا عملتلك أيه علشان تفضليه عليا، في دراستي دخلت التخصص إللي يخدمك ويخدم عيلتي، ومن ساعة ما وعيت وأنا شغال وبخدم وبكبر اسم بدران وشغلنا، وإنتِ من ساعة ما أنا رجعت مش مدياني ريق حلو، كل إللي في بالك وعلى لسانك يعقوب يعقوب يعقوب، متخلنيش أكره أخويا بتصرفاتك دي…
غادة مش عايزه يعقوب ومش موافقة عليه والجواز مش بالغصب…
أنا بقولك أهو إن هتجوزها غصب عن أي حد….
جامدة من الخارج لم تتأثر بحديثه أو هكذا تظن…
ورغم هذا نطقت بثبات وبرود عجيب:-
– يبقى برا بيتي ومسحوب منك كل المميزات، محدش ليه حاجة عندي، إنت ناسي إن كل الهلُمه إللي إنتوا فيها دي على صوتي أنا، وكل حاجة هنا ملكي أنا وحفيدي يعقوب..
برا من غير كروت البنك والعربية وشغلك في صرح آل بدران..
لو إنت مفكر نفسك راجل فأحب أقولك إن إللي عاملك قيمة هو اسم بدران بس، إنت من غيره ولا حاجة…
أمّا أخوك إللي بتقل منه، فهو إللي وصله من جهده وتعبه حتى لو كنت بنكر شغله، بس هو إللي خلق إللي وصله من غير مليم من أملاكه هنا مش طلع لاقاه على الجاهز…
عرفت الفرق إللي بينك وبين يعقوب، ولسه في كتير لو حابب تسمع…
أوعى مرة تانية تقارن نفسك بالباشا يعقوب؛ لأن فرق كبير أووي بين إللي عاشه يعقوب وإللي إنت عيشته…
________بقلم/سارة نيل________
– في أيه يا دكتور طمني هما ليه حالتهم اتقلبت كدا، أيه الجديد..!!
رفع الطبيب رأسه وأردف بهدوء بينما يتأمل نرجس الباكية بكاء مرير ويحيى الذي يحتضنها بحنان بأعين دامعة وهو يطبطب على ظهرها برِفق:-
– في حدث من الماضي مرّ قدامهم، في حاجة جديدة حصلت خرجتهم من صمتهم وأحيت الذكريات المنسية..
في حدث أثار العقل، أنا هنا إللي بسأل في حاجة غريبة أو جديدة حصلت النهاردة مروا بيها…
صمتت شفاء تُعيد الأحداث السابقة لكن دون فائدة لا شيء واحد مختلف عن الأحداث المتكررة…
وَمَض عقلها بأخر مشهد..
هم لم يخرجوا عن صمتهم إلا بعد ركض يعقوب وصياحه باسم (رِفقة)..
لكن لماذا!!
أهذا المشهد يُذكرهم مثلًا بحدث مروا به في حياتهم في الماضي..!!!
_________بقلم/سارة نيل_________
تأوهت بخِفة وهي تشعر ببعض الدوار يحتل رأسها، فتحت أعينها وهي تتحسس المكان المتواجده به فيداهم عقلها الحدث الأخير..
تكومت على نفسها بخوف وطفق الذعر بعينها بينما تحتضن جسدها وتعود للخلف..
همست برعب:-
– يعقوب..
– صحيتي .. مأخدتيش وقت طويل علشان المخدر إللي إنتِ وخداه خفيف…
طرق قلبها بشدة وابتلعت ريقها الجاف محاولة إخراج كلمات مُفيدة وأن تستجمع نفسها..
– إنتوا مين .. وأنا فين .. إنتوا عايزين مني أيه..؟
كانوا رجلان قال أحدهم بصرامة دون رحمة:-
– إحنا مش جايبينك هنا علشان نإذيكِ…
باختصار كدا وبكل هدوء إنتِ هتسافري برا البلد بعيد عن هنا في طريق محدش يقدر يوصلك فيه، ومعدش لكِ حرية الإختيار للأسف؛ لأن بعد ساعتين هتكوني في قلب الطيارة إللي هتاخدك من هنا بدون راجعه..
ومتقلقيش حياتك هناك متأمنة بس طريق العودة مش هتعرفيه لأن بكل بساطة هتكوني هناك بس عايشة، حتى أبسط الحاجات مش هتعرفيها ولا حتى اسم البلد إللي هتتسجني فيها..
فإهدي ومتتعبيش نفسك وتتعبينا، مفيش فرار…
شحب وجهها وقد أدركت أن من خلف هذا الأمر هي جدة يعقوب…
كانت رِفقة جاثية بوهن ورغم ذعرها إلا أنها قالت بقوة:-
– مش هتقدروا .. مش هتقدروا هتفرقوني عن يعقوب، أنا واثقة إن يعقوب هيجي، ربنا هيرشد يعقوب على مكاني..
ضحك الرجل بسخرية وأردف:-
– بصراحة كان ليا الشرف أشوف يعقوب باشا ولو مرة واحدة كنت حكمت هيقدر ولا لا، بس للأسف أنا راجل بتاع شغل ولازم أنفذ المطلوب مني بالحرف ومش بهتم بتفاصيل.
في هذا الأثناء وصل يعقوب المكان المتواجد به جهاز التتبع المُلحق بقلادة رِفقة التي أهداها لها وحثها على عدم نزعها…
اقترب مسرعًا بتلهف وهو يقتحم المكان..
بالداخل كانت رِفقة تجلس باتجاه والرجلان يقفان على بُعدٍ منها وبينهما بمنتصف المسافة الباب..
نظر الرجل لصديقه مسائلًا بتعجب:-
– أنا سمعت زي ما يكون صوت عربيه كدا برا، إنت سمعت حاجة..
سحب الرجل عصا ثقيلة من المعدن وقبل أن يُجيب كان يعقوب يقتحم المكان وهو يصرخ بلهفة:-
– رِفقة .. رِ….
قُطع الباقي من حديثه وهو يشعر بضربة حادة شديدة على رأسه من الخلف جعلت العالم يدور من حوله، لكنه ظلّ يصمد عندما وجد أمامه رِفقة تتكوم بأحد الأركان بخوف، يحاول فتح جفونه التي أصبحت ثقيلة..
وضع يده على رأسه وهو يجاهد لعدم السقوط لكن كان الألم أشد منه وسقط في بئرٍ مُظلم بينما أعينه مُعلقة برِفقة وقد ارتسم الألم على وجهه..
صرخت رِفقة وهي تتحرك من مكانة على ركبتيها تتحسس المكان وتتفحصه بجنون باحثة عن يعقوب الذي كُتم نداءه…
– يعقوب .. يعقوب إنت فين … يعقوب..
إنت مش بترد عليا ليه…!!
نظر الرجلان إلى بعضهم البعض بصدمة وأعين جاحظة وهما يدركان أن هذا الراقد أمامهم ليس سوى يعقوب بدران حفيد لبيبة بدران نفسها..
قال الرجل بفزع:-
– الله يخربيتك إنت عملت أيه، إنت وديتنا في داهية .. دا يعقوب بدران..
دي لبيبة هانم مش هيكفيها روحك لو حصله حاجة..
ألقى الرجل ما بيده وقد تحول إلى جرو جبان وهرول للخارج وكأنه يهرب من وحش مخيف..
– بسرعة لازم نهرب .. أنا هختفي ومش هقب تاني..
لحقه الأخر بخوف مماثل فغضب تلك السيدة يطول الجميع عندما يتعلق الأمر بحفيدها يعقوب، حينها تحرق الأخصر واليابس…
↚
في هذا الأثناء كانت تدور تلك البائسة بالأرجاء تتحسس الأرض المليئة بالقشّ بلهفة وهي تبكي بانتحاب شديد وتصرخ باسم يعقوب…
اصتدمت يديها بجسده فجلست وهي تشهق ببكاء ثم حملت رأسه على فخذيها برعب وقد انقطعت الكلمات بحلقها …همست بشحوب وفزع والرعب يدق قلبها دقًا..
– يعقوب … يعقوب .. مالك .. اصحي .. حصل أيه …
ظلت تهزه بقوة والدموع تغرق وجهها لتصرخ بينما تحتضن رأسه لصدرها:-
– لا يارب … لا يارب بسألك بأسمائك الحسنى بلاش يعقوب لأ .. طب علشان خاطر قلب رِفقة، مش هستحمل يحصله حاجة..
كانت يدها تتحسس وجه بلهفة تنحني برأسها فوق رأسه حتى سقطت دموعها على وجهه وتترجاه بصوت يمزق القلوب:-
– يعقوب .. يلا قوم .. يعقوب … حبيبي، إنت بطلي والأبطال مش بيحصلهم حاجة..
إنت إللي ليا بعد ربنا في الدنيا دي..
يعقوب .. يعقوب .. طب يلا يا أوب اصحى..
شوف أنا بنادي عليك إزاي وإنت مش بترد عليا، حقيقي رِفقة زعلانة منك يا أوب…
تتحسس رأسه فوق خصلاته بجنون لتتوقف يدها بصدمة وهي تستشعر سائل لزج يُغرق كفها بينما تحتضن رأسه لصدرها بحنان..
انسحبت معالم الحياة من وجهها، فها هي نفس الحادثة السيئة التي فقدت فيها بصرها تتكرر أمامها مع يعقوب وهي تقف عاجزة مكتوفة اليدان..
تعيش التجربة المريرة مرتان..
حركت رأسها نافية بجنون وهي ترفض هذا الهاجس المؤلم، همست برعب ودموعها لم تتوقف:-
– لا .. لا .. لا .. لا … مستحيل يحصل كدا..
جاثية بعجز تحتضن رأسه برعب انجلى على ملامحها الشاحبة وتناديه بإصرار يُدمي القلب، أخذت تهتف من بين شهقاتها الباكية ترفع رأسها لأعلى برجاء:-
– يارب أنا هنا .. أنا رِفقة، انقذه يارب…
أعمل أيه .. أنا مش عارفة أعمل أيه، قولي إنت وارشدني…
أنا واثقة إنك هتخرجني من الأزمة دي، هو إنت سبتني قبل كدا علشان تسبني دلوقتي..
أنا رِفقة إللي رحمتك ولُطفك مغرقنها متسبنيش المرة دي … مش إنت قولت وعزتي وجلالي لأُدبرن الأمر لمن لا حيلة له حتي يتعجب أصحاب الحيّل، وأنا معنديش أي حيلة يارب، معرفش المكان إللي أنا فيه ولا عارفة أروح فين..
مش تأذيني فيه يارب … أبعد عنه أي حاجة وحشه … احفظه يارب…
كانت تنادي رب العالمين بنحيب شديد وحُرقة ممزوجة بيقين أن حتمًا لن يتركها الله..
ظلت تمسح على وجه يعقوب برِفق ثم أخذت بطرف فستانها تكوّمه ووضعته على موضع الجرح خلف رأسه…
ولم يمر سوى القليل حتى ارتفع صوت رنين هاتف يعقوب، التفتت رِفقة بلهفة تبحث بتلهف وهي تعتمد مصدر الصوت .. تبحث مسرعة قبل أن ينتهي الرنين…
أخرجته من جيب يعقوب وظلت تتحسس الهاتف، تنفست بعمق وقد نضحت حبات العرق الباردة فوق جبينها ثم حركت اصبعها باتجاه مُعين ووضعته بسرعة فوق أذنها ليأتيها صوت أحدهم يقول بلهفة…
– أيوا يا يعقوب … قولي وصلت ولا لأ .. مقدرتش أنتظر ورنيت عليك، إحنا أصلًا وراك على بُعد شوية إحتياطي علشان لو احتجتنا..
صرخت رِفقة بلهفة وهي تُمسك الهاتف بشدة وكأنها تمسك طوق نجاتها من الغرق الأسود هذا:-
– أنا رِفقة .. لو سمحت أنقذنا .. يعقوب .. تعال بسرعة أنا مش عارفه يعقوب حصله أيه مش بيرد عليا … وانجرح…
هنا كان براء يتحرك بسيارته بصحبة بعض رجال الشرطة بسرعة شديدة وهو يتكلم مسرعًا يطمئنها:-
– متخافيش .. خمس دقايق وأكون قدامك أنا ضابط شرطة .. متقلقيش يعقوب كويس مش هيحصله حاجة…
أنا هفضل معاكِ على الخط لغاية ما أوصلك…
تنهدت براحة وظلت تمسح على وجه ورأس يعقوب بوجه متغضن بالألم وهي تهمس بقلب مهموم بثقة:-
– مش هيحصلك حاجة يا أوب .. أنا واثقة إن مش هيحصلك إللي حصلي..
وبعد مرور خمس دقائق كانت قوة من الشرطة تقتحم المكان على رأسهم الضابط براء الرفاعي الذي أخذ يبحث عنهم بلهفة حتى وقت أنظاره عليهم…
أسرع نحوهم يجثو بجانب يعقوب وهو يُملي التعليمات على رجاله وأخذ يتفخص يعقوب تفحص مبدأي ثم قال:-
– مفيش وقت لعربية إسعاف هتشيلوا يعقوب باشا براحة وهننقله بسرعة على المستشفى..
حملوه برِفق وظلت رِفقة متشبثة به ليقول لها براء بهدوء:-
– ممكن حد يوصلك البيت ترتاحي…
قاطعته رِفقة بإصرار وتلهف:-
– أنا مش هسيب يعقوب ولا لحظة.. يلا علشان مش نضيع وقت…
وبالفعل بعد مرور بضع دقائق كانوا بالمشفى يدفعون يعقوب الغائب عن الوعي ورِفقة تتمسك بالفراش المتحرك ولم يتوقف دمعها..
اتجهوا ناحية الطوارئ وقال الطبيب بحسم:-
– من فضلكم انتظروا برا..
وقفت بالخارج ومعها براء لتتمتم برعب:-
– يارب يارب نجيه وميكونش فيه أي حاجة…
ظلت متيبسة أمام الباب وقلبها يبتهل وأعينها تزيد في البكاء حتى مرّ ثلاثون دقيقة تقريبًا..
خرج الطبيب وبصحبته طاقم التمريض، تسائل براء بلهفة:-
– في أيه يا دكتور .. يعقوب كويس..
اتجهت أسماع رِفقة لتُسارع تقول ببكاء متسائلة بحذر مُميت لقلبها:-
– قولي يعقوب كويس … عيونه كويسه هو حصله حاجة..
تنحنح الطبيب وقال بهدوء:-
– اطمنوا … في جرح في راسه من ورا خيطناه، هو فاقد للوعي نتيجة الصدمة ولما يفوق هنقدر نحسم الأضرار..
هندخله الأشعة … وإن شاء الله هيبقى بس إرتجاج بسيط..
وبالرغم من هذا لم يهدأ قلبها المكلوم، ترجت الطبيب باكية:-
– ممكن أفضل معاه … مش هعمل أيه حاجة والله بس هكون جمبه…
تسائل الطبيب بعملية وهو يقيمها بنظراته حيث ملابسها المُلطخة بالدماء:-
– هو إنتِ تبقي أيه ليعقوب باشا..
هتفت دون تجمجم:-
– أنا مراته..
ردد بتأسف:-
– بعتذر جدًا مكونتش أعرف علشان كدا بلغنا عيلة بدران بإصابة يعقوب باشا..
دبّ الرعب بقلبها وقالت بإلحاح:-
– طب بالله عليك خليني مع يعقوب، سيبني أدخله..
هنا خرج صوت براء:-
– خليها معاه يا دكتور مش هيحصل حاجة..
حرك الطبيب رأسه بإيجاب وأردف:-
– تمام مفيش مشكلة..
وأشار للممرضة بإدخال رِفقة التي كانت ملامح وجهها تحكي رُعبًا وفزعًا من معرفتها بإتيان عائلة يعقوب … وخاصةً جدته..
كانت تريد فقط أن تلوذ بجانبه بحماية ليطمئن قلبها، فحتى وإن كان غائبًا عن الإدراك فيبقى هو أمانها ويكفيها شعورها بأنفاسه..
قال لها براء قبل أن تدلف للغرفة:-
– متقلقيش يا مدام رِفقة، إنتِ في حمايتي لغاية ما يعقوب يفوق، محدش هيقدر يقرب منك..
حركت رأسها ودلفت للداخل وقادتها الممرضة تُجلسها برفق فوق مقعد بجانب فراش يعقوب..
جلست بهدوء ثم أخذت تتحسس الفراش حتى أمسكت بكفه تحويه بين كفيها وأخفضت رأسها تضعه فوقه وهمست بوجع:-
– الحمد لله يارب تعدي على خير يارب..
يلا فوق يا أوب أنا خايفه وأنا لواحدي كدا، يلا فوق علشان تحميني يا أوب … أنا خايفة أووي..
وظلت تردد بعض الدعاء وأيات القرآن حتى شعرت بهمسه اللحوح المتتابع من بين اللاوعي:-
– رِفقة …. رِفقة .. رِفقة..
رفعت رأسها بفرحة ورددت بلهفة:-
– أوب .. أوب .. أيوا إنت كويس .. أنا هنا قدامك أهو إنت شايفني .. قول إنت شايفني..
يعقوب إنت سامعني..
خفت همسه وهو يشعر بألم يجتاج رأسه، لم يقوى على فتح عيناه ودوار عنيف يهاجمه..
رفعت صوتها تنادي بلهفة:-
– دكتور يا دكتور .. حد يجي هنا بسرعة..
أسرعت الممرضة باستدعاء الطبيب الذي أخذ يفحص يعقوب الذي سقط في غيابه مرةً أخرى..
قال الطبيب بحسم:-
– يلا على الأشعة..
هتفت رِفقة بفزع:-
– في أيه يا دكتور هو ماله، دا إتكلم ونادى عليا..
تكأكأ على فراش يعقوب طاقم التمريض يسحبونه لغرفة التصوير بينما قال الطبيب:-
– متقلقيش هو بخير، دا طبيعي علشان الخبطة إللي على راسه كانت شديدة، هنعمل أشعة ونرجعه عالطول..
تهافتت على المقعد والقلق يستبد بها لتظل تدعوا الله وتبث شكواها إليه حتى عادوا بيعقوب بعد مدة لا بأس بها لتظل جالسة بجانبه تتحدث إليه وهي تُمسك بيده تسرد له أشياء عديدة عن حياتها السابقة..
برواق المشفى كانت تركض لبيبة التي شحب وجهها فبالكاد تقف على أقدامها بعد سماعها هذا الخبر المروع وتتمسك بالقوة والتماسك الزائفين..
كان أمامها يركض حسين والد يعقوب بتلهف وقلب سيتوقف عن الهدر رعبًا على ولده..
وخلفهم تركض فاتن والدة يعقوب المنهارة ببكاء حاد بشهقات تملأ المشفى…
اقتحمت لبيبة الغرفة بسطو لتقع أنظارها وتثبت فوق تلك اللعنة المُسماه برِفقة كما تنعتها…
انتفضت رِفقة برعب على صياح لبيبة المصحوب بنظرة قاتلة ترشق رِفقة بوعيد فتنكمش بردة فعل مباشرة نحو يعقوب الغافي:-
– كله بسببك … كل إللي حصله بسببك ولازم تدفعي التمن ومحدش هيقدر يمنعني أيًّا كان هو، إنتِ بلاء على نزل عل راسه ولازم تبعدي عنه!!
ارتفع صراخ حاد بأرجاء الغرفة جعل الأجواء تغرق في الصمت، صراخ مرير مُعذّب لم يعد يطيق الصمت والصبر أكثر من هذا…
ولم يكن مصدره سوى حنجرة حُسيّن والد يعقوب الذي اقتحم الغرفة وأخذ برِفقة خلف ظهره وصاح ببأس شديد:-
– كفاية بقاا كــــــفايــــــــة، مش مكفيكِ إللي حصل لإبني .. دا وقت تهديدك وكبريائك ده..
في الحقيقة يا أمي سبب رقدة يعقوب كدا هو إنتِ … إنتِ السبب الرئيسي وإنتِ إللي هدمري يعقوب وهتخليني أخسره للأبد…
↚
رِفقة مرات يعقوب ومش هتبعد عنه شبر واحد، أيوا يا أمي لازم تتخطيني الأول، وأنا هحمي البنت دي بروحي لغاية ما يعقوب يفوق واسلمهاله في إيده…
كفاية بقاا حرام عليكِ .. حتى اعملي حساب لرقدته دي .. يلا يا لبيبة يا بدران اعملي إللي تقدري عليه..
كانت لبيبة تشد على قبضتها وأعينها لم تبرح من فوق يعقوب الهامد فوق الفراش ورأسه المُلتفة بالضمادات البيضاء، تنظر له نظرات ملتحفة بالغموض ثم بهدوء عجيب انصرفت من أمام مدخل الباب…
استدار حسين يذهب حيث يعقوب وفاتن التي ركضت نحوه وهبطت تحتضنه وهي تردد ببكاء:-
– يعقوب ابني حبيبي .. مالك يا ابني … رد عليا يا يعقوب .. حقك عليا يا يعقوب حقك عليا يا نور عيني…
شهقت رِفقة ببكاء وهي تهمس بلوم:-
– أنا السبب … يعقوب بيحصله دا كله بسببي، هي عندها حق … رقدته دي بسببي لو مجاش ورايا كان زمانه بخير..
يمكن هي عندها حق في إن لازم أبعد عنه في مكان ميقدرش يوصلي فيه..
استمعت فاتن لحديثها لتهرع نحوها تحاوط كتفيها بكفيها وتهزها متشدقة برجاء وبكاء:-
– إياكِ يا رِفقة أوعي تبعدي عن يعقوب، والله يموت فيها …. والله ابني ينتهي يا رِفقة…
بيكِ أو من غيرك يعقوب طلع من ثوب لبيبة بدران من زمان…
اتمسكي بيه زي ما هو متمسك بيكِ يا رِفقة، لو بتحبيه خليه يفتح عينه يلاقيكِ..
انصبت الدموع على وجهها حتى شعرت بعينيها تحترقان من شدة الألم وقالت بتقطع بهسترية:-
– أنا خايفه عليه أووي يا ماما … فاتن.. أنا خايف يحصل ليعقوب زي … أنا مرعوبة … كان هيحصله أيه لو الضابط براء مكانش اتصل …كان هيحصل أيه ليعقوب…
جذبتها فاتن لأحضانها تهدهدها وهي تمسح على ظهرها بحنان وقالت وهي تكبح بكاءها:-
– متفكريش بالطريقة دي يا حبيبتي، ربنا كبير يا رِفقة .. مستحيل يسيبكم … ربنا رحيم..
وأنا واثقة إن يعقوب هيبقى كويس ومش هيحصله حاجة …علشان يعيش متهني معاكِ ويفرح بقااا..
كان حُسين في عالم أخر بعيدًا عنهم وهو يجلس بجانب فراش يعقوب بدموع حبيسة وهو يُطالعه بحنان، وضع يده فوق كفه وسنوات الطفولة القصيرة التي قضاها معه تلّف عقله، ويوم ولادته اليوم الذي اشتم به رائحته للمرة الأولى..
هو أول من رأت عينه، وأول فرحته، وبه ابتدت أبوته…
يتذكر كيف تركه بصحبة والدته وهو مؤمنٌ بأنه معها أفضل بكثير من وجوده بصحبتهم؛ وذلك لحبها الشديد له وتعلّق يعقوب بها…
والدته من اقترحت عليه تركه معها وهو الجاني الذي وافق معتقدًا أن الأفضل هذا، فهُم سيسافران لبناء فرع أخر من إمبراطورية بدران وتشييد مجد جديد ووجب عليهم التفرغ…
يتذكر كيف تمسّك يعقوب بأقدامه وترجاه ببكاء وهم يرحلون بأن لا يتركوه أو يبقون بجانبه لكنه قد وعده بأنهم سيأتون مرةً أخرى ويعودون بأقرب وقت، وبأن هنا منزله الذي يحبه وأصدقاءه وعالمه الذي لا يُريد أن يقطعه عنه…
تطوف به أيضًا تلك الذكرى المؤلمة التي أدرك فيها فداحة ما قام به…
حين عودته هو وزوجته متلهفين لرؤية يعقوب الذي تركوه طفلًا وعادوا إليه رجُلًا…
تركوه في ذات المكان وعادوا إلى ذات البقعة لكن لم يجدوه كما تركوه … حتى أنهم لم يجدوه باستقبالهم بعد غياب…
وعندما رأهم لم يكن منه سوى صمت .. جفاء
.. برود ولا مبالاة مصحوبين بجملة ساخرة “الحمد لله على السلامة .. حققتوا أمجادكم؟!”
وعندما صرخ بوجه لائمه على هذا الجفاء فاض يعقوب وانفجر أمامهم يروي لهم بنبرات متحسرة متألمة عن كل ما لاقاه وغفلوا عنه وما اقترفوه بحقه لتبتلعهم حينها أمواج الصدمة وتلقفهم يد الندم … وماذا يُفيد الندم عن اللبن المسكوب!!
همس حُسين بخزي ونبرة تحمل ندم العالم أجمع:-
– حقك عليا يا ابني .. سامحني يا يعقوب..
•••••••••••بقلم/سارة نيل••••••••••••
بالطابق الأخير المرتفع جدًا للمشفى تقف ثابته ملامح وجهها لا تُفسر، بؤبؤ عينها ثابت بنقطة ما في الفراغ الشاسع أمامها…
قبضتيها المزين بخنصرها الأيمن خاتم ألماسي به أحد الأحجار الغريبة الهيكل..
هدوء مُخيف يحاوط الأرجاء إلا من صوت صفير الرياح الكئيب الذي يدور بالوسط…
رفعت هاتفها فوق أذنها برتابة وقالت بنبرة يغشها الويل وهي تصرّ على أسنانها بعصبية:-
– الكلاب إللي هربوا توصل لهم وتجبهم لو من تحت الأرض..
انتهت لبيبة من إملاء أمرها ثم سارت بهدوء حتى دلفت المصعد لتهبط حيث الطابق المتواجد به غرفة يعقوب..
وقفت أمام الغرفة ثم ولجت بهدوء يناقض النيران المتقدة بداخلها.
كانت الغرفة خالية إلا من يعقوب الذي مازال يغرق بنومته الطويلة وممرضة تتفحص المحلول المُعلق بذراعه..
أردفت الممرضة باحترام:-
– الدكتور خرّج الزوار إللي كانوا هنا علشان مش كويس لغاية ما يفوق..
أشارت لبيبة لها بالانصراف فانصاعت الفتاة وخرجت مُغلقة الباب بهدوء تاركة لبيبة أمام يعقوب..
سارت بخطوات رزينة حتى أصبحت بجانب الفراش، جلست بجانبه بهدوء شامخ وظلت تتأمل ملامحه الغافية لتلين ملامحها المشدودة على الفور..
رفعت يدها اليُمنى تسير بها على رأسه بحنان صارخ، انحنت تُقبل رأسه ثم اعتدلت وهي تهمس بينما أنظارها مازلت مُعلقة به:-
– يعقوب ….يا اسم غالي عليا…
يا نقطة ضعف لبيبة في الدنيا دي كلها…
خفت عليك من الهوا الطاير نفسه، خُفت عليك علشان كدا قفلت في وشك كل أبواب العاطفة، كنت عيزاك متتأثرش لو حتى الدنيا اتهد قدامك..
عيزاك متنكسرش ولا تنهزم أبدًا، أنا خوفت تطلع ضعيف فتنجرح..
حتى جرح القلب خوفت عليك منه…
مكونتش عايزه يحصل معاك أي حاجة من إللي حصلت مع لبيبة زمان…
إنت أغلى حاجة في حياة لبيبة ومستعدة أحرق الدنيا دي كلها لو حد مسّ شعره منك…
أنا ربيتك بالطريقة إللي تحميك يا يعقوب بس واضح إن يعقوب كبر أوي ونسى لبيبة إللي كان بيجري على حضنها أول واحدة، نسى كل حاجة عملتها لبيبة..
وحط جدته موضع المجرم والمتسبب الرئيسي لكل همومه… بس صدقني يا يعقوب باشا الدنيا دي عايزه كدا لإما هتنداس…
في الخارج تخشب كلًا من حسين وفاتن الّذين جاءوا للإطمئنان على يعقوب بعدما أقنعوا رِفقة بشق الأنفس أن تبقى بغرفة أخرى بعيدة عن مرمى أنظار لبيبة ووقف لحمايتها كالسد المنيع الضابط براء الرفاعي..
وقفوا يستمعون إلى حديث لبيبة بدران والحنان المتدفق منها بصدمة وعندما صمتت قرر حسين الدلوف للداخل فمهما حدث ومهما كان هي والدته لا يُجوز حديثها بتلك الطريقة التي حدّثها بها، هي والدته ولا يجوز أن يرفع صوته أمامها..
وفور أن دلوفوا استقامت لبيبة بشموخ وانبلجت ملامحها القاسية الباردة مرةً أخرى…
اقترب والد يعقوب منها ثم انحنى يُقبل يدها وأخذ يُقبل رأسها وقال بأسف:-
– آسف يا أمي أن كلمتك بالطريقة دي، بس دا من خوفي ورعبي على يعقوب، بس الحمد لله الدكتور طمنا وقالنا إن يعقوب بخير وإن الأشعة كويسة مفيش حاجة…
– رِفقة … رِفقة…
كان هذا همس يعقوب الضعيف الذي جذب كل أسماعهم وأنظارهم وطرقات قلوبهم..
ليسرع حسين وفاتن نحوه بلهفة وتقول والدته بإلحاح:-
– يعقوب … يعقوب حبيبي إنت سامعني..
فتح أعينه وظل يغلقهم ويفتحهم مرارًا حتى اعتاد الضوء متأوهًا بخفة..
ظلّ ينظر في الوجوه من حوله بلهفة بحثًا عنها ليُفزع من فوق الفراش بتلهف بسرعة جعلت رأسه تدور..
استقام يدور في الغرفة تحت رجاء والدته، يسير حافي القدمين يبحث عنها بجنون، صاح بغضب وهو يضع يده يُمسك رأسه ويقف أمام لبيبة:-
– رِفقة فين … عملتوا فيها أيه … عملتي فيها أيه المرة دي … ودتيها فين … والله لأدمركم وأخلص عليكم لو شعره منها اتأذت..
هي فين … رِفقة فين انطقي…. إنتِ فاكره إنك تقدري تبعديها عني .. دا أنا أحرق الدنيا دي كلها، ولو وديتها كوكب تاني هوصلها بردوه…
تلاحقت الدموع من بين جفون فاتن وحاولت تهدأته لكن دون جدوى، أصبحت ردات فعله جنونية، فقد انتزع الإبرة من ذراعه بعنف وأصبح يدور في الغرفة بملابس المشفى رغم عدم اتزانه الواضح..
اقترب منه والده يضع يده على كتفه يقول بهدوء:-
– إهدى يا يعقوب .. هي…
قاطعه يصرخ بانفعال وتوحش:-
– ابعدوا عني … ابعدوا عني … سيبوني في حالي بقاا … انطقوا عملتوا فيها أيه..
في هذا الحين بالغرفة التي تبعد غرفتين عن غرفة يعقوب، كانت رِفقة جالسة ولسانها لم يجف من الدعاء والتوسل لرب العِباد…
↚
اقتحم براء الغرفة وهو يهتف بلهفة:-
– مدام رِفقة … يعقوب فاق … بسرعة تعالي بسرعة..
توقف قلبها عن الهدر وتوقفت مسرعة تهرول بتعثر ولهفة للخارج وهي تتسائل بتلعثم:-
– حصله أيه .. ماله يعقوب .. خدوني ليه بسرعة…
وخرجت وهي ترهف بسمعها صوت صياح يعقوب الحادة…
داهمت الغرفة وهي تنادي بنشيج باكٍ بلهفة سبقها بها قلبها قبل لسانها:-
– يعقوب … أوب…
التفتت للخلف بسرعة البرق ليراها تقف على أعتاب الغرفة وعينيها الصافيتان تغرقان في بحرٍ أحمر تنساب أمواجه على وجنتيها المشربة بالحُمرة…
وثب الخطوات التي تفصلهم بخطوتان ليتلقفها بعمق أحضانه بلهفة حارقة وأصبح يحملها بأحضانه يعتصرها وكأنه يريد زرعها خلف أضلعه والتوصيد عليها..
رفعت ذراعيها تطوق عنقه شاهقة ببكاء تهمس له بنبرة تئن وجعًا:-
– أوب … أنا كنت مرعوبة .. إنت كويس .. إنت شايفني …عيونك حصلها حاجة ..طمني عليك..
كانت لبيبة ملتزمة الصمت والهدوء، فقط تنظر للأحداث بأعين ضيقة وملامح ثابتة غير مقروءة..
دار بأعينه على وجهها وكامل جسدها ليتسائل برعب وهو يرى فستانها السماوي الغارق بالدماء:-
– رِفقة .. حبيبتي فيكِ حاجة … إنتِ كويسه .. أيه الدم ده..!!
ترددت إبتسامة على شفتيها وقفزت بأحضانه من جديد وهي تقول براحة:-
– الحمد لله يعني عيونك كويسة وشايفني..
مش تقلق عليا أنا بخير .. دا مكان جرحك يا أوب..
كفكف دموعها بحنان وتنفس براحة وقد التمعت أعينه بالعشق فيكفيه قربها وحبها الذي فيه ما تشتهيهِ الأعيُن وتلذ الأنفس..
– أنا بخير يا رِفقة .. دا مجرد خربوش بسيط محصلش حاجة..
دلف الطبيب يقول ببشاشة:-
– الحمد لله على سلامتكم يا يعقوب باشا، خوفتنا عليك يا راجل .. دا إنت كان شكلك جعان نوم..
ضحك يعقوب وقال وهو يحوي رِفقة تحت ذراعه باحتواء:-
– حاجة زي كدا يا دوك .. المهم أقدر أمشي من هنا صح..
اعترضت والدته تقول:-
– تطلع إزاي يا حبيبي مش تنتظر تشد حيلك شوية..
قال الطبيب بتفهم:-
– بص إنت كويس مفيش أي حاجة فيك ألا الجرح إللي في راسك من ورا، وإرتجاج طفيف..
بس مطلوب منك راحة وهدوء كدا، الحمد لله إن الضربة مكانتش قوية على مكان خطير زي ده، ربنا لطف بيك يا يعقوب..
رددت رِفقة تُكرر بصوت مرتفع:-
– الحمد لله يارب …الحمد لله، اللهم لك الحمد حمدًا يليق بجلال وجهك وعظيم سلطانك..
لك الحمد حتى ترضى ولك الحمدُ إذا رضيت ولك الحمد بعد الرضى..
ابتسم يعقوب وردد بصدق وامتنان:-
– ألف حمد وشكر لك يارب..
طب يا دكتور أنا همشي بقاا من هنا…
ردد الطبيب بمزاح:-
– دا إنت عايز تخلص مننا بقاا..
قال يعقوب بهدوء:-
– أبدًا يا دكتور بس مش برتاح في المستشفيات وهكون مرتاح أكتر في بيتي..
– خلاص تمام .. تتغذى بقا كويس واتفضل دي الأدوية إللي هتمشي عليها..
ضحك يعقوب بخفة وقال بمزاح:-
– يعني احطها دلوقتي وأمشي فوقيها، دا يصح بردوه يا دكتور … أنا مش عارف أيه نصايح الدكاتره الغريبة دي يا أخي…
ضحك الطبيب وردد بمزاح متبادل:-
– وأنا مش عارف أيه المرضى إللي بيهلوسوا بفضايح وحاجات غريبة أووي..
– ما خلاص بقاا يا دكتور إن الله حليم ستار..
– خلاص يا باشا لقد عفونا عنك، استروا من في الأرض يستركم من في السماء…
المهم ألف سلامة عليك يا باشا..
وخرج الطبيب بهدوء تاركًا الجميع في جو مشحون، يعقوب الذي ينظر للبيبة نظرات ناقمة يتطاير منها الشرر..
بينما رِفقة فمتشبثة به بقوة كأنه طيف سيتسرب منها..
تسائلت والدته وهي تبتسم له بحنان:-
– هتيجوا معانا على القصر صح يا يعقوب..
قال بنفي حاد:-
– لأ أنا مليش مكان هناك، أنا هرجع على بيتي أنا ومراتي..
جثم القلق على قلب فاتن لتقول باعتراض:-
– بس أنا بقول علشان أهتم بيك و….
قاطعها بحسم:-
– مفيش داعي يا فاتن …أنا بخير ومعايا رِفقة دا كفاية عليا…
قالت هي بعناد:-
– يبقى جيب المفتاح أسبق وأعملك أكل على ما تحصلني.
••••••••••••بقلم/سارة نيل••••••••••••
بعدما بدّل ملابسه خرج بصحبة رِفقة التي لم تتركه طرفة عين..
– الحمد لله على سلامتك يا يعقوب، خوفتنا يا باشا..
ردد يعقوب بإمتنان:-
– الله يسلمك يا براء … وشكرًا جدًا على وقفتك دي وإللي عملته .. أنا مش هنسى معروفك أبدًا..
– ولا معروف ولا حاجة يا يعقوب دا واجبي..
تنحنح بخفة ونقل أنظاره نحو رِفقة وقال ببعض التردد:-
– مدام رِفقة بما إنك موجوده وأنا شوفتك، في حاجة لازم تعرفيها..
أنا عارف إن مش وقته بس..
أثار حديثه قلق يعقوب فقاطعه باهتمام:-
– قول عالطول يا براء …في حاجة..
– بصراحة عفاف هتترحل على النيابة، بس هي صرعتنا وبتصرخ على أخيرها إنها عايزه تقابل مدام رِفقة … غير إن إحنا لازم ناخد أقوال مدام رِفقة علشان بردوه تكون كل حاجة تمام..
امتقع وجه يعقوب وهدر بحِدة:-
– لا طبعًا رِفقة مش هتقابل المجرمة دي .. وهي عيزاها ليه .. ليها عين وجرأة تجيب اسمها على لسانها إللي عايز قاطعه..
تنفست رِفقة بعمق ورددت بهدوء وهي تضع كفها على ذراع يعقوب:-
– إهدى يا يعقوب … مفيش مشكلة أما أقابلها، هي خلاص مش هتقدر تعملي حاجة..
وكمان بعد دا كله أنا محتاجة أشوفها..
أنا هروح مع حضرة الضابط بس بعد ما نوصلك البيت الأول علشان ترتاح..
هدر يعقوب باعتراض:-
– بيت أيه وراحة أيه يا رِفقة، طبعًا هاجي معاكِ طالما إنتِ عايزه كدا…
يلا بينا..
جاءت تعترض:-
– بس…
قاطعها بحسم:-
– متبسبسيش يا رِفقة …يلا بينا..
قال براء وهو يمد يده بشيء:-
– دا مفتاح عربيتك … مركونه قدام المستشفى..
ردد يعقوب وهو يتجه للخارج:-
– خليك سوق إنت أنا حاسس أنا مش مركز كفاية…
حرك براء رأسه بإيجاب وسبقهم للخارج…
وعندما وصل عند السيارة وفتح الباب لرِفقة وأجلسها تفاجئ بشقيقة يامن يركض نحوه يقول بتلهف:-
– يعقوب إنت كويس .. أيه إللي حصل..
ردد يعقوب باقتضاب:-
– أنا كويس..
انجلي الخبث على وجه يامن وشمله بنظره من أعلى لأسفل ثم قال وهو يحاول النظر داخل السيارة:-
– كنت عايز أشوفها .. إللي إنت متجنن عليها أوي كدا..
رماه يعقوب بنظرة غاضبة وقال بتحذير:-
– اكسر عينك علشان هتوحشك ومصفاهاش لك..
همهم يامن ببرود ثم قال بمكر:-
↚
– على فكرا غادة فاضل رفضتك ومش عيزاك، وإحنا هنتجوز؛ لأنها عيزاني أنا، يعني اتقدمتلها وقبلت..
نمى على فم يعقوب إبتسامة جانبية ساخرة وهو يضع نظارته السوداء فوق عينيه وقال وهو يرميه بنظرة تقيمية باستخفاف من الأعلى لأسفل:-
– ااه ما واضح إن ذوقها وحِش….
وصعد للسيارة تاركًا هذا الذي احمرّ وجهه غيظًا وغضبًا..
••••••••••••بقلم/سارة نيل••••••••••••
بمركز الشرطة وقفت رِفقة باضطراب من وجودها في مثل هذا المكان جانب يعقوب الذي شعر بها فدعمها وهو يُمسك بيدها بحنان…
فور أن ولجت عفاف التي أصبحت حالتها يُرثى لها بعدما اجتمعت عليها النسوة الشديدات وأبرحوها ضربًا فينكسر كبرياءها للأبد..
فور أن رأت رِفقة هرولت نحوها ثم فجأة جثت عند أقدام رِفقة التي عادت للخلف مسرعة.
أردفت ببكاء وتوسل:-
– أنا مجرمة أستاهل العذاب ألوان وإنتِ الكرم والخير والطيبة كلها يا رِفقة…
إلهي تنستري وتنجبري يا بنتي … عيالي مرميين في المستشفي وحالتهم تصعب على الكافر، مش لاقيين حد يخدمهم ولا علاج يعالجهم..
مش هتشوفي وشي للأبد بس سامحيني …سامحيني بقلبك الكبير واتنازلي علشان أقدر أرجع لعيالي وأخدمهم..
خلاص أنا أخدت عقابي .. مفيش أسوء من كدا وكفاية الذل إللي شوفته اليومين دول..
رِفقة قولي حاجة …بحلفك بالله يا رِفقة …وعلشان خاطر بناتي الغلابة…
تقوست شفتيّ يعقوب وهدر بغضب وكُره:-
– إنتِ تستاهلي كل إللي يجرالك يا مجرمة دا قليل عليكِ … وإللي بتطلبيه ده في أحلامك…
كانت عفاف تتطلع لرِفقة بترقب ورجاء لتردف رِفقة بما اهتزّ له بدن يعقوب:-
– ماشي أنا مسمحاكِ وبتنازال عن المحضر والشكوى..وتقدري ترجعي لبناتك علشان هيحتاجوا خدمتك…
بعد مرور ساعة كانت رِفقة تدلف للمنزل بصحبة يعقوب الواجم والذي التزم الصمت منذ أن كانا بمركز الشرطة…
تنفست رِفقة بعمق وقالت براحة:-
– أخيرًا وصلنا البيت… فين رينو .. إنت حاطه في قفصه في البلكونة صح..
– ليه..؟!!!
كان هذا تساؤل يعقوب بنبرته الحادة المعترض كُليًا لما حدث قبل قليل..
أمسكت رِفقة كفه وقالت وهي تسحبه وتسير بحذر:-
– يلا نقعد أنا تعبت أوي يا أوب..
كرر تساؤله اللحوح الغاضب:-
– ليه يا رِفقة، ليه سامحتيها بعد كل إللي عملته..!!
تنفست بعمق ثم قالت بهدوء مبتسمة:-
– حاضر يا يعقوب هقولك…
أولًا هي خلاص أخدت أشد عقاب لها ومفيش أسوء من إللي حصلها، ودي عدالة رب العالمين..
كمان أنا أكتر واحدة عارفه إن بناتها هيحتاجوها في حالتهم دي قد أيه، وأنا مقدرش أحرمهم من إللي اتحرمت منه..
أنا عفيت عنها علشان أكون من المحسنين إللي ربنا بيحبهم لما قلنا (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)
أنا بس حاولت أكظم غيظي، أيوا أنا بشر وزعلت واتقهرت منها وطلبت من ربنا يجيبلي حقي، وصفحي عنها مش ذُلّ ولا عار، بل هو إحسان بيقربني لله عزّ وجل ويخليني أكسب محبته سبحانه..
الغضب بيتحول لحقد دفين .. والحقد من أمراض القلوب ربنا يكفينا شره وأنا مش عايزه أبقى كدا..
الغيظ والغضب حاجة تقيلة في القلب وبيخلوا القلب مشغول ومش مرتاح أبدًا لكن إحساسك وإنت بتعفوا وتصفح بتحس نفسك اتخلصت من التقل ده..
تعرف يا أوب الرسول قلنا أيه عليه أفضل الصلاة والسلام..
قلنا “مازاد اللهُ عبدًا بعفو إلا عِزًّا”
أنا مش ملاك ولا مثالية يا يعقوب بس أنا بحاول اقتدي بحبيبي محمد..
هقولك على حاجة، تعرف لما الرسول فتح مكة ووقف قدام الناس إللي خرجوه منها وحاربوه وأذوه وعذبوا أصحابه، تعرف قالهم “ماذا تظنوني أني فاعلٌ بكم”
ردوا عليه بكل عشم “خيرًا أخٌ كريم وابن أخٌ كريم”
وقتها كان في إيده يعذبهم ويرد إللي عملوه فيه وأصحابه، لكن هو بقلبه الرحيم قالهم “اذهبوا فأنتم الطُلقاء” الرسول كان مثال للعفو والتسامح، ودا ديني وتعاليمه وأنا بجاهد نفسي وبحاول أطبق منه على قد ما أقدر.
الحقد ملهوش مكان في قلب المسلم الحق الواعي لتوجيهات دينه يا يعقوب، لازم ندرك قيمة العفو وصفاء القلب في مغفرة الله علشان نعيش مرتاحين البال.
وكمان الرسول قلنا إن صفاء القلب سبب في مغفرة الله لما قال صلّ الله عليه وسلم في الحديث..
“ثلاث من لم يكن فيه غفر له ما سواه لمن شاء: من مات لا يُشرك بالله شيئًا، ولم يكن ساحرًا يتبع السحرة، ولم يحقد على أخيه”
وبس كدا دي أسبابي يا سي يعقوب، فمفيش أي سبب يخليني شايله في قلبي، وأنا كدا ارتاحت..
كان يعقوب ينظر لها بانبهار ويسأل نفسه، أي نقاءٍ هذا، أي طهارة قلب تلك..!!
لقد فاق النهاية في عشقه لها، لم يعد هناك المزيد، لقد ضعضعت كل حصونه حقًا…
تعجبت رِفقة من صمته لتتسائل بتعجب:-
– أوب إنت ساكت ليه…!
جذبها يعقوب إليه وقبل مقدمة رأسها وباطن كفها وردد بصدق:-
– أنا مش عارف أنا عملت أيه حلو في حياتي علشان ربنا يرزقني بيكِ يا رِفقة..
الحياة قلبك مكانتش حياة، يعقوب قبلك مكانش عايش…
تخضبت وجنتيها بالشفق لتقول بخجل:-
– خلاص بقاا يا أوب أنا عارفة إن حاجة محصلتش..
قهقه يعقوب وقرص وجنتيها وقال متسائلًا بمكر:-
– بس أنا سمعت إنك كنتِ هتتجنني من خوفك عليا..
أردفت بمزاح:-
– بيني وبينك كنت خايفة أوي ليحصل حاجة لعيونك وتبقى زي…
ساعتها يا حسرة هنقعد نطقش في بعض زي البطيخ وكانت هتبقى حكايتنا حكاية..
بس المشكلة كان مين هيعملي الأكل والوصفات إللي ناويين نجربها … يا نهار دا أنا كان ممكن يحصلي حاجة … أمال البانيه والحوواشي والمكرونة بالبشاميل وغيره وغيره دا كله هيروح فين.. لا لا مش قادرة أتصور…
انفجر يعقوب ضحكًا وشاركته الضحك حتى أخذها بأحضانه وهدأ ضحكهم فيقول بصدق:-
– إنتِ ضي عيوني يا رِفقة، من غيرك كل الدنيا ضلمه في عيني..
•••••••••••بقلم/سارة نيل••••••••••••
– لبيبة هانم …إحنا وصلنا للسبب إللي علشانه عايز يعقوب باشا المبلغ ده كله…
همهمت لبيبة بصمت وهي مازالت على وضعها، فأكمل الرجل يقول:-
– عملية خاصة برِفقة …علشان ترجع تشوف…
وعرفنا ميعاد العملية .. بعد يومين ورغم إللي حصله هو مأجلهاش…
قالت بثبات:-
– تمام …هتنفذ إللي هقولك عليه بالحرف..
وأخذت تُملي عليه بعض التعليمات المهمة جدًا والذي جعلت أعين الرجل تتسع بصدمة لكنه التزم الصمت..
ثم أشارت إليه بالانصراف..
رددت بأعين شادرة:-
– البنت دي بقت خطر على يعقوب..
ران على قلبه الرُعب عندما وقعت أعينه فوقها فور أن دلف الغرفة ووجد وجهها غارق بدموعها الصامته..
قطع الخطوات التي تفصله عنها بلهفة وجلس على أعقابه أمامها وهو يهتف بلهفة وأصابعه تعمل على محق دموعها البلورية بحنان:-
– رِفقة … حبيبتي مالكِ، في حاجة وجعاكِ، ليه الدموع، مين زعلك..
كان شعرها متوسط الطول يُكلل وجهها وينبسط فوق ظهرها، رفعت أصابعها تُرجع خصلاتها للخلف، وابتسمت من بين دمعها تقول بشوق:-
– بابا وماما وحشوني أوي يا يعقوب، وحشني وجود ماما ولمساتها على حياتي ويومي، ودلال بابا ليا … لما كان بيقعد ويسرحلي شعري ويعملي تسريحات مختلفة..
قلبي واجعني عليهم والوجع مخفش بعد مرور السنين دي كلها..
حرقة قلبي لسه زي ما هي..
حزنها ودموعها شواظٌ من نار تسقط على قلبه، لا يطيق حزن قلبها، يوّد أن لو يستطيع إعادة عجلة الزمان ويمنع حدوث ما حدث، أو لو أنه بقى بجانبها منذ هذا الحين ولم يتركها…
أستتذكره عندما يعود نور أعينها، أستذكر ذاك الوجه الذي طلّ عليها من وسط الظلام بينما هي راقدة بحالة اللاوعي، أستذكر تشبثها بقمصيه ونظرات الرجاء التي ملأت جفونها وكلمتها المتقطعة حينها(متسبناش)..
وقتها كانت مازلت صغيرة، وقد تبدلت وتغيرت ملامحها لذلك لم يتعرف عليها، لكن ملامحه مازالت كما هي فقد كان في أخر سنوات جامعته، لم يتغير سوى مسحة البرود التي نُقشت فوقها، وبعض الجفاء والبؤس الحزين، أستذكر ملامحه من وسط الضباب في يوم الحادث؟!!
↚
انحنى يضع قُبلة حنون بباطن كفها ثم اعتدل وانحنى يحملها برِفق بين ذراعيه وخرج بها من الغرفة..
أجلسها أرضًا وتحرك يجذب بعض الأشياء ثم جلس خلفها..
قبل رأسها من الخلف وقال بوعد:-
– هبدأ أدور على أهلك يا رِفقة، ووعد مني مش هسيبهم أبدًا..
وأكمل بمرح وهو يتحسس خصلاتها العسلية برِفق يُخلل أصابعه بينهم بنهم:-
– أما نبدأ نعمل إللي عمي يحيى كان بيعمله أما نشوف رأيك فيا وهعرف ولا لأ..
ضحكت بسعادة وهي تستعد بحماس بينما ترفع رأسها وقالت بخوف:-
– بس إنت تعبان يا أوب، متجهدش نفسك علشان مش تدوخ..
قال بلامبالاة وهو يضع الفرشاة ذات الأسنان الناعمة لتجري بشلال العسل المموج برأسها:-
– أنا مش متعود إن أنام عالطول كدا، وبعدين أنا زهقت وإنتِ حاكمه عليا أفضل في السرير وأنا مش بحب كدا، وأنا الحمد لله بخير جدًا وفي أفضل الأحوال، من ساعة ما رجعنا البيت وأنا نايم … المهم قوليلي إنتِ عايزه تسريحة أيه، أعملك ضفيرة..
حركت رأسها بنفي وقالت بسعادة:-
– لأ مش ضفيرة عادية.. اعملي ضفيرة السُنبلة..
بتعرف تعملها..!
توتر يعقوب وقال متنحنحًا:-
– ااه ااه طبعًا بعرف، دا مفيش أسهل منها..
ابتسمت باتساع ورفعت رأسها بحماس مُردفة:-
– يلا وريني إبداعك بقاا يا أوب..
مسح على وجهه باضطراب وظل يُعيد ويُكرر مرور أصابعه بشعرها، وخفيةً أخرج هاتفه وفعّل وضع الصامت وأخذ يبحث في صندوق البحث (طريقة عمل ضفيرة السُنبلة)..
فتح أحد مقاطع الفيديو وأخذ يُطبق ما يراه ببطء..
ابتسمت رِفقة باتساع واستمتاع لما يفعله وبدأ النوم يتغلغل لجفونها..
تنهدت براحة وقد مرّت ثلاثون دقيقية ويعقوب في عالم أخر مع هذا البلاء الذي يُمسى (السنبلة) عاقد جبينه وبين عينيه بتركيز لم يفعله من قبل…
تنهد براحة أخيرًا وقال بسعادة:-
– أخيرًا .. الحمد لله عملتها..
رفع الصورة بالهاتف يضعها بجانب رأس رِفقة ليشعر يالإحباط وهو يرى أنها بالكاد تحمل ملامح بسيطة لما قامت به السيدة لكنه تمتم برضا:-
– حلو بردوه، الله عليا فنان يا يعقوب..
كتمت رِفقة ضحكتها ورفعت أصابعها تتحسس رأسها بهدوء تحت ترقب يعقوب، أردفت بإعجاب وتقدير توّج حروفها:-
– تسلم إيدك يا أوب، سُنبلة غالية على قلبي..
حاوطها يعقوب بحنان وقال مُقبلًا رأسها:-
– وإنتِ أغلى أرنوب في حياة يعقوب، يلا هتعلم فيكِ علشان أبقى أعملها لبناتنا…
قالت بامتنان وهي تشعر بتميمة الحب التي دارت بأفلاكها:-
– ربنا يديمك ليا يا أوب، قولي إنت حطيت أكل لرِين!
– أيوا يا ست البنات حطيت..
تذكرت شيء ما ثم استقامت مسرعة وهي تتحسس طريقها وتتوجه باتجاه المطبخ..
سار يعقوب خلفها لتتسائل وهي تبحث في خِزانة المطبخ:-
– مفيش هنا عيش ناشف أو أي حبوب يا يعقوب..
أخرج لها بعض الخُبز الجاف ووضعه بين يديها لتقوم بتفتيته فقال باستفهام متعجب:-
– عايزاه ليه يا رِفقة، ما أنا قولتلك حطيت لرِين أكل..
قالت بتوضيح وهي تتجه نحو الشُرفة:-
– لأ يا أوب أنا مش عيزاه علشان رِين، أنا هحط الطبق ده في البلكونة دايمًا للعصافير..
أنا اتعودت أعمل كدا لأن ماما دايمًا كانت بتعمل كدا، وفي بيت خالي كانت نهال بتساعدني وبنحطه على صدفة الشباك إللي كنت بنام تحته، متتخيلش بقاا صوت العصافير الصبح بيبقى عامل إزاي، حاجة أخر بهجة بجد يا أوب..
طالعها بفخر وحب وعشق عميقان وارتجف جسده بخفقان قلبه وهو يود أن يعلم ويتشرب أدقّ التفاصيل بحياة رِفقة، لديه نهم غير طبيعي في معرفة كل أمرّ يخصها حتى وإن كان من وجهة نظر الجميع شيء ليس بالضروري..
جلس على أحد مقاعد الشُرفة وجلست هي بجانبه بعدما ساعدها بوضع الطبق في مكانٍ مناسب وبعدما دلف للداخل وقام بصنع القهوة المُثلجة لها وله، وجلسوا يتسامران في جو مليء بالمرح والسعادة والعشق بينما أواني الزهور تحاوطهم وقد فاح عبقها…
تسائل يعقوب بفضول:-
– قوليلي يا رِفقة إنتِ أيه حلمك، يعني نفسك تبقي أيه، أو لكِ مثلًا هواية معينة..
رفرفرت بأعينها وتوسع فمها بإبستامة مشرقة وهتفت بحماس وهي تتحدث بينما تُحرك يديها بطريقة عشوائية:-
– أنا خريجة لغات وترجمة، قسم اللغة الفرنسية..
بس أنا تعرف نفسي في أيه وأيه موهبتي..
دبلجة الكرتون … الأصوات الكرتونية يعني بعرف أقلد الأصوات بشكل كبير جدًا..
اسمع كدا..
ثم أجلت حلقها وبدأت تُقلد الأصوات بصوت مختلف تمامًا جعل أعين يعقوب تتسع بصدمة ومفاجأة:-
«أنا لستُ جين الأرنبة أنا آن شيرلي تنتهي بالـ(e)، وأنا لستُ مثلكُن، أنا مختلفة عنكنّ أيتها الحُثالة القادمة من الشوارع، كانت لي غرفتي الخاصة، أبي وأمي كانا مدرسين محترمين، إنني أحفظ أشعار براوننج وقرأت لشكسبير أيضًا…
روميو قالها في روميو وجوليت .. ما لم يختبر الألم يسخر من جِراح الأخرين…
كُلكنّ جهلة وخاليات من الخيال ولا تعرفنّ من هو شكسبير، لهذا من السهل أن تسخرنّ من الأخرين، إنني احتقر كل من في هذا المكان … أنا احتقركنّ جميعًا … اتفهمنّ ما أقوله، أنا أفضل منكنّ أيتها الفتيات اللاتي لا يشعرنّ بألآم الأخرين.»
رفعت رأسها له بخجل وقابلها صمته المُزين بإعجابه الذي يتنامى وعيناه تدوران عليها دون كلل، قالت بخفوت:-
– دي آن في البراري الخضراء..
وواصلت بصوت مختلف:-
-«أتعلمان؟!
هممم … أود أن أكون ما خلقني الله لأجله..
– آآه … لا أفهم ما تقولين..
– أما أنا فسأصير كاتبة..
– كاتبة!!
– أجل، وأتمنى أن يقرأ الناس في كل مكان قصائدي وقصصي …. سأكتب قصصًا تدفع قارئيها لإخبار من حولهم عنها، هذا ما أطمح إليه..»
تنهدت وقالت وهي تبتلع ريقها:-
– ودي إيميلي…
وواصلت تقول بصوت مختلف تمامًا:-
« – وهل لديكِ وقتٌ للقراءة يا آنسة؟!
– يجب عليها أن تجد الوقت للقراءة، فالقراءة تُغني العقول وكما تعلم ميزان الشخص عقله لا مظهره..»
ورددت وقد تنامت نظرات الفخر بأعين يعقوب:-
– ودي ريمي..
وقالت للمرة الأخير وقد تكاثر شغفها واتقد:-
«مهما كانت الظروف صعبة .. نحنُ لها..
أيوااا … اديني أكتر…»
قالت بإبتسامة:-
– ودي حاجة بسيطة لتيمون..
وبس كدا … دي بعض الأصوات، كانت نهال بتساعدني وسجلتلي كام مرة وجالي عرض شغل من قناة كرتون واشتغلت حاجة بسطة معاهم بس الموضوع كان عايز وقت ودعم وبصراحة مش لقيت فانسحبت بس لسه الشغف جوايا…
وكمان وأنا صغيرة كان عندي شغف بالفن الإسلامي لو تسمع عنه … وكنت برسم كتير فيه..
وماما وبابا كانوا بيشجعوني جدًا…
ترنحت أنامله بحنو على وجنتيها وقال بنبرة يغمرها الكثير والكثير:-
– حتي أحلامك وموهبتك مميزة تشبهلك يا رِفقة، أنا خلاص معاكِ وبوعدك إن كل الأحلام إللي على قيد الإنتظار هتتحقق كلها..
انتظرت كتير أووي العوض يا رِفقة .. وما أجمل الإنتظار عندما تكون نهايته أنتِ..
همست له برِقة مفعمة بالمشاعر:-
– لا أعلم كيف بدأت قصتي معك، ولكنني أُدرك جيدًا أنك أصبحت أغلى من روحي..
قبل باطن كفها بحنان متدفق وهمس وهو يجذبها لأحضانه:-
– وأنتِ أصبحتي أغلى من الروح يا حبة القلب ونور العين…
ابتسمت بخجل لينظر لها بأعين ضيقة وقال فجأة:-
– قوليلي بقاا أيه حكاية اسم أوب…!!
•••••••••بقلم/سارة نيل••••••••••
– يا ترى مين رَجع هنا يا عفوف.؟!
كانت جالسة بصدر الرُدهة تبكي قهرًا على ابنتيها، فقد تم إخراجهم من المشفى بعدما حدد لهم الأطباء الكثير من العمليات التجميلة وأخرى بأعينهم، وهم لا يملكون حتى القليل من الأموال..
لكنها وسط لُجة حُزنها وبكاءها اخترق أسماعها هذا الصوت المألوف، اعتقدت أنها تتوهم فرفعت أصابعها تُدلك رأسها بإرهاق..
لكنها أدركت أنها بأرض الواقع حين شعرت بيد دافئة على كتفها…
رفعت رأسها ببطئ لتقع أعينها على أخر شخص توقعته، همست بصدمة وأعين متسعة بينما قلبها فأخذ يسبح في فضاء السعادة:-
– راجح..!!!
↚
وقفت بأقدام مرتعشة وأعينها تجري على ملامحه الغالية المحببة لها، إنه ولدها الغالي الغائب..
ابتسم هو ببشاشة ثم اقترب يأخذها في عناقٍ واسع وهو يُردد بتنهيدة مرتاحة:-
– أمي .. عفاف..
طوقته بذراعيها تحتضنه بقوة وهي تبكي بكاءًا شديدًا وتُقبل كل جزء بوجهه ورأسه وكتفيه مُرددة بنبرة ممتزجة بالبكاء غير مستوعبة:-
– راجح … ابني …حبيبي… راجح إنت قدام عيني … أنا مش مصدقه يا ابني…
قبل رأسها ويديها ببِرّ وأردف بوقار:
– قولت أعملهالكم مفاجأة يا أمي، إنتِ وأبويا وأمل وشيرين..
وصمت قليلًا ثم همس باشتياق حدّ الألم وعشق شديد:-
– ورِفقة…
وأكمل راجح بمرح:-
– أكيد كالعادة أمل وشيرين برا خاربينها فُسح..
بس رافي أكيد هنا، متعرفيش أنا جاي على مَلى وشي إزاي يا أمي، اشتغلت كل السنين دي وهريت نفسي علشان أقدر أقف على رجلي وتكون رِفقة ليا..
والحمد لله كونت نفسي وأقدر دلوقتي أطلب إيد رِفقة وأجيبلها كل إللي تتمناه، حتى هجري بيها على عيونها علشان ترجع تشوف تاني..
خيم عليها شبح الموت واصفر لونها، فهي أعلم بمدى تعلق راجح ولدها الأكبر برٍفقة، وتلك الغُربة والإبتعاد عن الأوطان كل هذه السنوات لأجلها ولأجل توفير حياة تليق بها دون الإعتماد على أموال أبيها..
اضطرب قلب راجح وهو يرى تربد لون والدته بالشحوب، ابتلع ريقه بتوتر وتسائل بحذر مترقب:-
– في حاجة أنا معرفهاش يا أمي، رِفقة كويسة …هي فين..
وأخيرًا خرج صوتها المتحشرج تقول بانكسار وقد خمد جبروتها وانكسر غرورها:-
– لازم تنسى رِفقة يا راجح وتعيش حياتك، هي راحت لحال سبيلها … انساها يا راجح..
تصلب بدنه وجرت حمم لاهبة بأوردته، همس بصوتٍ أجشّ وأعصاب متماسكة بأخر عزمه:-
– مش فاهم …معنى أيه الكلام ده، مالها رِفقة، إنتِ عملتي فيها حاجة!!
الآن حصحص الحق، ومهما غابت الحقيقة مُدثرة بالكذب والنفاق عليها أن تخرج للأفق يومًا ما، أخفضت رأسها بخزي وبدأت تسرد له الحكاية منذ سفره وما لاقته رِفقة بينهم ومخططتها التي عملت عليها للإيقاع برِفقة واستغلالها واتبعت بسردها زواجها بيعقوب وحمايته لها…
بأي طريقة كان سيعلم الحقيقة فلتكن عن طريقها لعلّ هذا يشفع لها لديه ويقلل من حجم جُرمها ويشفع لها ندمها واعترافها بالذنب…
لكن هذا الذي شعر بفُتات قلبه المتهشم تذريه الرياح في مكانٍ سحيق، شعر وكأن ثمة جاثوم يطبق على صدره، مُحقت الإبتسامة من فوق فمه وأفل رونق الشعاع الوضاح بوجهه وسقط على المقعد من خلفه بجسد متهدل شاعرًا بالعالم يدور من حوله وجميع أحلامه الوردية قد احترقت وأصبحت رماد، أن تأتي مُحمل بالتلهف والسعادة في أنك أخيرًا ستنال جائزة سعي تلك السنوات والحرمان والمشقة، لتجد أن من ظللت تسعى لأجلها قد أصبحت من المُحال…!!
ألم ساحق احتل قلبه وغصة مريرة علقت بحلقه وغامت أعينه بدموع حارقة وقد أصبح الفؤاد مغمورًا في جوٍّ من الغم وسقط قلب عاشق في غيابة الظلام الدامس لن يُخرجه منه إلا نورٌ قوي يُبدد هذا الظلام لأخر قطرة…
•••••••••••بقلم/سارة نيل••••••••••••
رفرفت بأهدابها ثم قالت بإيتسامة عريضة:-
– بص يا سيدي … هو خرج تلقائية مني كدا، بس بردوه في حد اسمه أوب … هو محدش بياخد باله منه بس أنا بحب الشخصية دي جدًا، وهو أوب يعقوبيان..
تسائل يعقوب بفضول وجبين مُجعد:-
– ويطلع مين أوب يعقوبيان ده..!!!
رددت رِفقة باستنكار:-
– معقول متعرفش هو مين، طب أكيد عارف كرتون عائلة رُبّسوس أو روبنسون..
ضحك يعقوب وقال بتدارك:-
– ااه هي شخصية كرتون، لا بصراحه معرفهوش، ما أنا قولتلك كل الحاجات دي كانت ممنوعة عند لبيبة بدران ومكانش ينفع أتفرج عليها..
شعرت بالألم لأجله فقد حُرم من جميع نُزه الطفولة، احتضنت كفه وقالت بحنان:-
– وأيه يعني … نقدر إننا نعوض دلوقتي ونتفرج عليهم من أول وجديد .. أنا كنت بتفرج وأنا صغيرة ولما فقدت البصر بقيت أسمع بالصوت الحاجات إللي كنت شيفاها قبل كدا..
مسح على شعرها بحنان وقال بصدق:-
– المرة الجايه مش هتعتمدي على السمع وبس وهتشوفي كل الألوان وكمان هتشوفي جديد، بوعدك يا رِفقة … خلاص هانت كلها يومين..
قالت باعتراض:-
– أجلها يا يعقوب لغاية ما تخف شوية الدنيا مش هتتهد ومش هيحصل حاجة..
هتف بحسم:-
– رِفقة حبيبتي أنا الحمد لله بخير ومفيش أي داعي إننا نأجلها دي مجرد خياطة مش أكتر..
ويلا تعالي هنا علشان أحطلك القطره إللي الدكتور قال عليها..
وجذبها نحوه ليجعلها تتمدد ويضع رأسها فوق ساقه لتقول بتذمر:-
– لا يا أوب دي بتحرق أووي..
ردد بحسم ممزوج باللين:-
– يلا يا سُكرتي استحملي عشر دقايق والدنيا هتبقى تمام وهيروح كل الوجع..
وبعد الكثير من التملل منها استطاع السيطرة عليها وقطّر بأعينها بعض القطرات تحت تذمرها واعتراضها، قال ليصرف ذهنها عن الوجع:-
– بس مقولتليش يعني مين أوب يعقوبيان، وهو شخص كويس ولا أيه..!!
قالت بتلقائية:-
– دا كان الشرير في الكرتون..
أردف بعتاب:-
– بقاا كدا يا رِفقة … وإنتِ شيفاني شرير كدا..
رددت ببسمة بشوشة:-
– لأ طبعًا هما كانوا مفكرينه شرير، بس محدش كان عارف وراه أيه وأيه إللي حصله..
هو كان صديق لِمض في الأوضة في الملجأ وكان لِمض مخترع وبيسهر طول الليل على إختراعاته وأوب مكانش بيعرف ينام وكان بيبقى عنده ماتش بيسبول الصبح ولما كان يروح كان ينام على نفسه ومش يمسك الكوره وياكل علقة محترمة…
أوب عاش حياة صعبة أووي واتظلم ومحدش كان بيرضى يتبناه وعاش وحيد والكل كان مفكر إن هو شرير..
بس لِمض صحح الغلطة دي وقبل ما يقدم إختراعه نادى أوب وقدر يمسك الكورة وفاز وفي أسرة اتبنيته وعاش سعيد..
كان يعقوب يستمع لها بتركيز وشغف ليقول بهدوء:-
– هتعملي العملية وكل يوم هنعمل سهرة حلوة ونسهر نتفرج كل يوم على حاجة مختلفة ونعوض كل إللي فاتنا..
فتحت أعينها وهمست له بشرود:-
– تعرف يا يعقوب أنا مكانش عندي أي مشكلة إن أفضل طول عمري كفيفة والحمد لله راضيه أووي أووي..
بس مش هكذب عليك كنت ساعات بتمناها وبزعل أووي .. تعرف إمتى!
لما كان يجي العيد الكبير وكنت أقعد أسمع التلبية الخاصة بالحجاج، الكعبة وحشتني أووي ونفسي أشوفها وأشوف الحُجاج يوم عرفة..
لأن أنا وماما وبابا كنا دايمًا نفضل فاتحين التلفزيون ونقعد نتفرج وإحنا بنعيط لأن كان نفسنا نروح …ولما ربنا كتبها لبابا وماما راحوا ومش رجعوا تاني..
تمزق قلبه لتلك النبرة الحزينة التي تحرق روحه وعزم داخله وأقسم بأغلظ الأيمان بأنه سيمحق ويبدد كل قطرة حزن داخلها..
جذبها يحتويها داخل أحضانه بحنان وهو يهمس:-
– هانت يا رِفقة … بوعدك كل حاجة تبقى تمام..
••••••••••بقلم/سارة نيل•••••••••••
ذاهبة في ثباتٍ عميق يبتلعها كابوسٍ مزعج وجسدها يتلوى فوق الفراش..
اقترب منها يحتضنها ويحاول السيطرة على حركاتها العنيفة وهدهدة بكاءها وشهقاتها العالية أثناء نومها غير الهمهمات الغير مفهومة…
↚
فزعت من فوق الفراش بأعين متسعة ووجه متعرق تنظر بأرجاء الغرفة بفزع شديد حتى وقعت أعينها فوق زوجها الذي جذبها يحتضنها محاولًا بثّ الأمان لقلبها بصمت ووجه مليء بالحزن والقهر…
لكنها تمسكت بملابسه تجتذبه منها بقوة وهي تجاهد بشق الأنفس لتحريك لسانها لتهتزّ حنجرتها وينطلق لسانها من وسط بكاءها بتلهف وروع:-
– بــنتـــــــــــي رِفــــــــقـــــــــــة…
••••••••بقلم/سارة نيل•••••••••
صوت الضحكات الصاخبة السعيدة يغمر أرجاء المطبخ..
قالت رِفقة بامتعاض:-
– أووب كفاية بقاا أكلت خلطة الكيكة كلها وهي لسه طرية، هو أنت فاكرني مش حاسه بإيدك ولا أيه .. المقادير باظت كدا..
ناطحها يعقوب باعتراض وهو يمسح بأصابعه البقع الحمراء من فوق خديها المُلطخين برِفق:-
– إنتِ مش أحسن مني .. ما إنتِ كمان خلصتي الكرز كله ومعدش في حاجة نحطها في قلب الكيكة … صدقيني هي كدا حلوة خلينا ناكلها كدا أنا بحبها كدا أحسن ما تطيب…
صرخت بنفاذ صبر:-
– يــــــــــعــــــــقــــــــوب .. شيل إيدك من البوله..
واعمل حسابك إنك هتعوضني عن العجينة إللي كلتها دي..
– اللاه هو إحنا فينا من كدا..
– أمال أيه .. كل حاجة بحسابها..
الكيكة حسابها حوض سمك وعصافير هتجبهوملي..
وكوباية النسكافية بكتاب عالطول..
متقلقش هحطلك القايمة وحساب كل حاجة وهلزق نسخة على التلاجة ونسخة ورا باب الشقة..
– والله طلعتي مش ساهلة يا رِفقة..
– إللي أوله شرط أخره نور يا أوب..
وقبل أن يُجيبها قاطعهم صوت رنين جرس الباب عقد يعقوب ما بين حاجبيه بتعجب وردد:-
– مين جاي دلوقتي لنا..
قالت رِفقة ببعض التوتر من الأحداث الأخيرة التي حدثت معهم:-
– طب روح افتح وإن شاء الله خير..
– هرجعلك عالطول..
وسار نحو باب المنزل وفتحه بهدوء ليجد شاب ما مجهول، تسائل يعقوب بتعجب:-
– محتاج مين … وإنت مين..!!
قال الأخر بلهفة واضحة من نبرته وأعين لامعة:-
– رِفقة … مش رِفقة موجودة هنا .. أنا عايز رِفقة..
انصبت حُمم بركانية بدماء يعقوب وشعر بقلبه يحترق من نبرة هذا الرجل وطريقة تلفظه لاسم رِفقة وملامحه الحالمة، قبض على كفيه بشدة واسودت ملامحه وقال من بين أسنانه بغضب:-
– وتطلع مين أنت..!!
قال الأخر بوجه مكفهر:-
– قولها راجح…
يُتبع..~
في جو خليط بين التوتر والسعادة وبعض الحذر نطق حُسين بوقار:-
– إحنا جايين النهاردة يا فاضل بنطلب إيد بنتك الآنسة غادة لابني يامن على سنة الله ورسول..
اضطرب فاضل بشدة وصمت بُرهة ثم أردف بتيهة وقلب مختلج:-
– بس يا حسين إنت عارف إن إحنا كدا هندخل في مشاكل ملهاش أول من أخر، لبيبة هانم طلبت إيد غادة ليعقوب، وإنت كدا بتعرضني لها..
تنهد حسين بثقل ثم قال بنبرة حاسمة:-
– دول عيالي يا فاضل، وإنت عارف لبيبة هانم عايزه كدا ليه، الزواج مش لعبة ولازم يكون برضى الطرفين، يعقوب من الأخر اتجوز وشاف حياته واختار إللي هتكون شريكته فيها، وبنتك مش راضية بالجوازه دي، متكونش السبب في تعاسة بنتك العمر كله يا فاضل، وأنا مستحيل أكون طرف في تعاسة حد من ولادي الأتنين ومش هسمح بحد يخطط أبدًا لتعاستهم..
– كلام جميل يا حسين باشا..
التفت الجميع بصدمة زلزلت أبدانهم من سماع هذه النبرة الشديدة التي يألفها الجميع ولم تكن صاحبتها سوى لبيبة بدران..
خيم الصمت على الأرجاء بينما هي فتحركت بشموخ حتى جلست على أحد المقاعد التي يتوسط المقاعد الأخرى…
وأردفت بهدوء بما جعل أعين الجميع تتوسع:-
– مكانش ينفع أسيب حفيدي في يوم زي ده..
أنا بنفسي جايه المرة دي أطلب إيد بنتك غادة لحفيدي التاني يامن..
تلجلج فاضل وظل الجميع ينظر لبعضهم البعض بعدم فهم، لبيبة لا تفعل هذا الشيء من فراغ، ما الذي تُخطط له وماذا تنوي..!
كان أول صوت خرج هو صوت حسين الذي أردف بأعين ضيقة:-
– بتخططي لأيه يا لبيبة هانم، تقصدي أيه بكلامك ده..؟!
رددت بذات الهدوء العجيب:-
– يعني أنا كدا غلطانه يا حسين باشا، مش ده إللي حفيدي عايزه …وأنا لا يمكن أقف في طريق سعادة أحفادي..
واتجهت بالحديث نحو فاضل:-
– خلينا نتكلم في التفاصيل يا فاضل ونحدد أقرب معاد للخطوبة..
نظرت فاتن لحُسين بتعجب وخوف داخلي يملئها، بينما ابتهج قلب يامن واستقام وذهب باتجاه جدته ثم انحنى يُقبل يدها وهو يقول بامتنان:-
– شكرًا يا أحلى وأحن جدة في العالم، كنت متأكد إن مش ههون عليكِ..
ابتسمت له بهدوء ثم وضعت يدها على رأسه والجميع ينظر لبعضهم البعض لا يستطعون تصديق ما يحدث أمامهم..
__________بقلم/سارة نيل__________
نارٌ مستعرة تشتعل داخله وهو يقف أمام المدعو راجح الذي فور أن أخبر رِفقة بأنه في الخارج انفرجت أساريرها وقفزت ترتدي ثوب الصلاة الخاص بها..
خرجت من الغرفة مسرعة وهي تتحسس طريقها وفور أن وقعت أعين راجح فوقها لم يستطع إلا أن يتأملها بعشقٍ جارف..
وهنا لم يطيق يعقوب الصبر ووقف حائلًا أمام رِفقة ثم لكز راجح بقوة في صدره وهو ينظر له بتحذير شديد بخفض عينيه..
توسعت إبتسامة رِفقة وقالت بسعادة:-
– راجح…
اشتعل قلب يعقوب بالغيرة وصاح بنبرة حادة غاضبة:-
– ودا مين راجح ده إن شاء الله..
لم تأفل إبتسامة رِفقة ومازالت زهراء اللون كالقمر الطالع ورددت:-
– راجح يبقى ابن خالو عاطف ويبقى أخويا الكبير وقدوتي في حاجات كتيره أووي منهم أخلاقه..
كلمات كانت عالأسواط على قلب راجح الذي غلّف وجهه الظلام وكتم جميع ألآمه بقلبه، كعادته يُجيد إخفاء ألمه وحزنه وفقط القوة من تراها على وجهه بينما بالداخل هو يتمزق..
هي له كل شيء وهو لها مجرد شقيق أكبر..
قالت رفقة بسعادة لم تلقى استحسان عند يعقوب:-
– الحمد لله على سلامتك يا راجح، دي كلها غيبة غيبتك عُمر … رجعت إمتى؟
قال راجح بنبرة ثابتة غزاها اللُطف كعادته عندما يتحدث معها:-
– بقالي يوم، أعمل أيه إنتِ عارفه إن كان لازم أسافر علشان ابني حياتي..
المهم إنتِ عاملة أيه وأخبارك يا رافي مبسوطة ومرتاحة كدا..
رمقه يعقوب شذرًا بينما أردفت رِفقة بسعادة :-
– أنا بخير يا راجح وكويسة جدًا وسعيدة، اطمن عليا متقلقش..
وأمسكت بيد يعقوب وأكملت:-
– يعقوب شخص كويس جدًا فوق ما تتخيل، وأنا معاه في أمان وهو شايلني في عيونه..
ومبسوطة أوي إنك افتكرتني أول ما رجعت، كنت مفكره هتنساني..
نغزات قاسية بجانب صدره الأيسر، داخله أصبح حطام لكن هيئته وملامحه مازالت يعلوها القوة والصمود، ابتسم راجح مُجبرًا لتخرج رغمًا عنه إبتسامة شاحبة فاترة وأردف بانكسار وخذلان:-
– حقك عليا يا رِفقة … أنا أسف وبعتذر لكل حاجة عملتها أمي وأخواتي فيكِ..
أنا مش عارف أقولك أيه بعد إللي إنتِ عملتيه بعد كل إللي عملوه فيكِ..
أنا أسف لكل لحظة وجع وعجز وحزن مرت عليكِ، أقسملك بالله مكونتش أعرف عمايلهم ولا إللي جواهم من ناحيتك، وأنا مسافر كنت بسأل عليكِ عالطول بس هما دايمًا كانوا يقولولي نايمه أو برا إلا الكام مرة إللي كلمتك فيهم، علشان كدا أنا مكونتش بشك ولو مجرد شك بسيط..
قوليلي أعمل أيه علشان أكفر على كل إللي عملوه مع إني متأكد إن مفيش أي حاجة تغفر وتعوض إجرام عفاف وبناتها..
بدأت نظرة يعقوب تجاه راجح تتبدل، فالصدق والخجل من أفعال والدته باديان على وجهه، من الجلي أنه شخص جيد يختلف عن العقرب عفاف وبناتها .. يبدو أنه النبتة الوحيدة الصالحة بكومة أشواك تلك المجرمة..
رددت رِفقة ببشاشة:-
– إللي فات إنتهى يا راجح وكل واحد أخد جزاءه، مش دايمًا كنت تقولي وأنا صغيرة جُملتك الشهيرة “كل مؤذي سيؤذى، إنها الأيام”..
وأنا مش هنكر وأقول إن خالتي عفاف وأمل وشيرين مش أذوني، لأ هما أذوني كتير أووي واستغلوني وجرحوني، بس أنا سامحتهم وقفلت على صفحتهم، إنت طول عمرك وإنت قدامي مثال للأخلاق والتسامح كنت أخ كبير ليا وعلمتني كتير أووي .. ونصايحك وكلامك عمري ما نسيتهم واتحفروا بعقلي وبدأت اطبقهم في حياتي..
إنت ملكش أي ذنب في إللي حصل يا راجح، وطالما هما ندموا واعترفوا بأخطاءهم فربنا غفور رحيم..
نظر لها راجح بفخر واستقام ليقول:-
↚
– يبدو إن التلميدة اتفوقت على أستاذها يا رافي..
طول عمرك قلبك صافي ونقية، ربنا يسعدك في حياتك وتحققي كل أحلامك، ولو في أي حاجة أو محتاجة لأي حاجة هتلاقي أخوكِ الكبير في ضهرك..
واتجه يصافح يعقوب وهو بالكاد يتماسك وقال له:-
– خد بالك منها وشيلها جوا عينك، رِفقة أطهر حد ممكن تقابله في حياتك وهي تستاهل كل خير..
بادله يعقوب المصافحة وطالع رِفقة بعشق وحماية:-
– من غير ما تقول دي أغلى من روحي..
إنت شرفتنا يا أستاذ راجح..
قال راجح وثمة غصة مريرة تكومت بحلقه:-
– أنا هستأذن أنا .. خدي بالك من نفسك يا رِفقة..
قالت رِفقة مسرعة وهي تهم بالسير تجاه المطبخ:-
– طب استنى تشرب حاجة يا راجح …هو إنت لحقت..
قال باعتراض وهو يقف أمام الباب للخروج بصحبة يعقوب:-
– مرة تانية إن شاء الله، معلش علشان ملحقتش أرتاح من السفر … يلا السلام عليكم..
وخرج مسرعًا قبل أن ينهار أمامهم..
لم يُبالي بعدد الدرجات التي هبطهم فظلّ يهبط بسرعة وكأن وحشًا يُطارده حتى أصبح أسفل البناية..
سار تجاه دراجته النارية بترنح ليستند عليها بلهفة وهو يشعر بأن العالم يدور من حوله، إنهزام وكسرة لم يشعرها بحياته..
المحاربها لأجلها ولأجل عشقه ستأذيها وستقف عائق أمام حياتها التي اختارتها..
ما يُقدمه الآن لرِفقة لأجل سعادتها هي التضحية والتخلي والرحيل … يجب عليه أن يتخلى عنها لأجلها ولأجل سعادتها..
ركب دراجته والكلمات التي صرخ بها وهو يبكي، بكاءٍ تخور له الجبال بمواجهة والدته حين أخبرته الحقيقة تدور بعقله..
“دمرتيني .. إنتِ كسرتيني يا عفاف كسرة مش هتتصلح تاني العمر كله … دمرتيني وضيعتي سنين عمري …بسببك اتحرمت منها..
إنتِ دمرتيني أنا وعيالك .. إنتِ السبب في كل حاجة ولسه عقاب ربنا لكِ هيكون أشد…”
كان يقود دراجته النارية دون تركيز، بتيهة وتذبذب بينما دموعه تتساقط على وجهه والهواء يداعبها لتطير بقوة للخلف وقد أخفت صوت شهقاته الدامية صوت السرعة والرياح..
رفع رأسه للسماء المتشحة بالسواد التي تنبسط أمامه وقد لبسها الليل، همس برجاء وضعف لا يظهران بشخصية راجح القوية سوى لخالقه سبحانه:-
– يارب ريحني يارب لا تحاسبني فيما لا أملك..
يارب شيلها من قلبي وخلصني من العذاب..
لكن اختفى صوت رجاءه وصوت السرعة والرياح وتبدلوا بصوت تهشم وارتطام شديد وانطراح جسده القوي أسفل إطارات شاحنة ضخمة…
وسكن كل شيء .. سكن الألم .. الوجع .. العذاب..
فقط جسدٌ هامد غارقًا بالدماء ووجه تعلوه الجروح وسكون كئيب فوق سكون الليل بينما الضباب يحاوط الأرجاء..
توقفت حركة المرور وتخشب الجميع في صدمة يشاهدون ما حدث دون تصديق وكأن على رؤسهم الطير..
لكن كان السبق لها..
تركض وسط الجميع بتلهف شديد تقتحم الزحام حتى وصلت لجسده وجثت بجانبه بشجاعة ولم تبالي بنداء والدتها الصارخ باسمها برعب:-
– فـــــــــريـــــدة…
وإلى هنا تنتهي قصة عنوانها البذل والتضحية، وتخرج قصة أخرى من رحم العدم عنوانها “رُجحانِ قلب”
[راجح & فريدة] هم أبطال لحكاية أخرى، ومن هُنا بدأت وانتهت حكايتهم وهُناك ستكتمل..
_________بقلم/سارة نيل_________
مع قطرات الفجر الأولى استيقظت رِفقة من نومها الهانئ على أصابع تُداعب جبينها ثم قُبلة حانية امتزجت بحديث يعقوب الحماسي:-
– يلا صحّ النوم يا كسولة، الشروق قرب وإنتِ مصلتيش الفجر .. أنا سبقتك.. النهاردة الجمعة..
ابتسمت بنقاء وتمطّت في استرخاء ثم أخذت تبعد الغطاء الخفيف عنها وتستقيم بحذر..
قالت بمشاكسة:-
– بس قولي يا أوب أيه الحماسة دي كلها!!
جذبها للخارج وهو يضعها أمام المرحاض وقال بطاقة إيجابية لم تكن من صفاته لكنها انتقلت له عبر رِفقة التي غيّرت له الكثير والكثير:-
– النهاردة الجمعة وبصراحة متحمس ننفذ الخطة إللي إنتِ بتحطيها ليوم الجمعة..
غير إن بكرا السبت أخيرًا .. ميعاد عمليتك يا حلوة وخلاص هانت وهبدأ أنا أنفذ مخططاتي إللي منتظراكِ يا أرنوبي..
يلا اتوضي علشان تلحقي صلاة الفجر..
ابتسمت رِفقة وتنهدت براحة ثم أخذت تتوضئ وخرجت نحو غرفتها وارتدت رداء الصلاة الخاصّ بها وشرعت بتأدية صلاة الفجر في سكينة..
وبعد إنتهاءها استقامت وأدت ركعتي الأستخارة وختمتها بدعاءها المرتجي..
– اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فأنت تقدر ولا أقدر وأنت تعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب..
اللهم إن كنت تعلم أن هذه العملية خيرًا لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فأقدرها لي ويسرها لي ثم بارك لي فيها، وإن كنت تعلم أن هذه العملية شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفها عني واصرفني عنها واقدر لي الخير حيث كان ثم ارضني به…
هكذا تشعر بالراحة داخلها فهي قد اعتادت استخارت رب العالمين في جميع أمورها، تلجأ إليه تستشيره وتُحدّثه ولم يخذلها أبدًا ولم يردها خائبة…
همست براحة ورضا يغمر قلبها ورفعت كفيها:-
– الحمد لله عدد ما خلق، الحمد لله ملئ ما خلق، الحمد لله عدد ما في السموات والأرض، الحمد لله عدد ما أحصى كتابه، الحمد لله على ما أحصى كتابه، الحمد لله عدد كل شيء الحمد لله ملئ كل شيء..
يارب أنا راضية بحالتي زي ما هي، يارب أنا أُشهدك على ما في قلبي فأنت تعلم ما تُخفي الصدور .. أنا مفيش جوايه ذرة سخط وضيق، كل إللي بطلبه منك يارب إن دايمًا أكون راضية ويكون الرضا مالي قلبي مهما حصل، شعور الرضا إللي بحسّ بيه مفيش حاجة في الدنيا دي تقدره..
اللهم صاحبني يارب، اللهم أنت الصاحب في كل قراراتي وكل خطوة في حياتي..
أنا عندي يقين يارب إنك هتكرمني وهترزقني وتسعد قلبي وتعوضني وتجير بخاطري..
ظني فيك يارب جميل..
وبعد قليل كانت تجلس بجانب يعقوب يقرأ بصحبتها سورة الكهف بعدما قاموا بترديد أذكار الصباح معًا..
ومرّ بهم الوقت بين مرح وإفطار وصُنع طعام وتعلّم يعقوب منها الكثير من الأشياء التي يجهلها ثم ذِكر وتلاوة قرآن والتحدي فيما بينهم على التسميع الجيد فيخسر يعقوب ويقع عليه عقابها بغسل جميع الأواني وقائمة شراء كُتب طويلة..
وانتهى يوم لم يحيا يعقوب مثلة طوال سنوات عمره الصارمة، شعر بنفسه يتخلص من جُبّ الظلام الذي كان بداخله للأبد..
وأخذ يرتب الأشياء التي سيحتجونها غدًا لأجل جراحة رِفقة..
بينما حدّثت رِفقة كلًا من نهال والآء حتى يكونان بصحبتها..
وبينما كان يعقوب يرتب الحقيبة كان هاتفه الذي جعله على وضع الصامت يُضيء ويتكرر الرنين بإلحاح ولم يكن المتصل سوى “شفاء” صاحبة دار الرعاية .. لكن لا فائدة فقد كان الهاتف في هذا اليوم أخر إهتمامات يعقوب بل لم يكن منها بالأساس..
________بقلم/سارة نيل________
عمّ المكان الضجة والهرج ووقفت شفاء عاجزة مصدومة بعدما ولجت للطمئنان على الجميع لتتفاجئ باختفاء الثنائي “يحيى ونرجس”..
قالت بقلق وهي تسأل أحد العاملات:-
– أخر مرة شوفتيهم كانوا إزاي وكانوا فين..؟
قالت السيدة باضطراب:-
– إنتِ عارفة يا آنسة شفاء إنهم من اليوم إللي كان هنا يعقوب باشا وهما مش طبيعيين خالص وبالأخصّ نرجس..
بتعيط كتير وهو بيهدي فيها ومره عيط معاها وطبعًا مش بيتكلموا معانا..
أخر مرة شوفتهم كانوا قاعدين تحت الشجرة دي وكانوا هاديين خالص عكس الحالة إللي شوفتهم عليها الصبح..
ولما جه وقت العشا دورت عليهم كتير بس لقيتهم اختفوا وقلبنا المكان مفيش لهم أي أثر..
أخرجت شفاء هاتفها وجعلت تتصل على يعقوب تطلب منه العون علّه يجد تفسير لما يحدث..
وبعد العديد من محاولة الوصول إليه استسلمت وزفرت بإحباط وقد وقف عقلها عن العمل لإيجاد تفسير لحالة نرجس ويحيى والتي انتهت بهروبهم..
فهذه ليست المرة الأولى التي يرون بها يعقوب ولم يحدث شيء مختلف هذا اليوم.
حتى رِفقة التي أتت بصحبة يعقوب هم لم يروها وقد تبدلت حالتهم الصامتة فور خروجه..
أخرجتها أحد العاملات متسائلة بقلق:-
– هنعمل أيه يا آنسة شفاء..
قالت دون تردد:-
– هنبلغ الشرطة أكيد..
≡≡≡≡بقلم/سارة نيل≡≡≡≡
وسط الظلام في بقعة خالية مهجورة تسير وهي متمسكة بذراعه بقوة وعقلها مازال شاردًا يتردد بصداه نداء يعقوب باسم رِفقة هذا اليوم..
قال يحيى بتيهة بينما يساعدها في السير:-
– إنتِ ليه متأكده كدا يا نرجس إن بنتنا رِفقة عايشه؛ مش علشان يعقوب قال اسم رِفقة يومها تبقى بنتنا..
رددت بعزم أكيد وقد غمر الأمل قلبها:-
– أنا واثقة إنها عايشة يا يحيى، اسمها في اليوم ده كانت إشارة من ربنا ليا..
صدقني دا مكانش عشوائي كدا، دا لُطف رب العالمين … دا جزاء صبري يا يحيى..
صدقني رِفقة عايشة .. قلبي بيقولي كدا، كل إللي قالوه يومها كان كذب..
غمر النور قلب يحيى لكنه قال باعتراض:-
– مش كنا استنينا يعقوب وسألناه عن رِفقة إللي كان بيصرخ باسمها … أو سألنا المشرفة أو إللي شغالين في الدار عن مواصفات رِفقة إللي كانت معاه … أصل إحنا دلوقتي هنروح على فين يا نرجس..
رددت هي بتفكير:-
↚
– كنت هننتظر قد أيه على ما يرجع تاني، مش هطيق أنتظر شهر..
غير إن هي تقريبًا مدخلتش الدار لأن لما اتلفت أدور لقيته خارج برا يعني كدا هي مكانتش موجوده جوا علشان حد يعرفها..
هنحارب علشان رِفقة حتى لو في شُعلة واحدة من الأمل .. يُخفى تعبي في داهية بس عيني تشوف بنتي وأطمن إنها كويسة..
أحسن طريقة إن نروح بيت عاطف أخويا، هناك هنفهم كل حاجة..
≡≡≡≡بقلم/سارة نيل≡≡≡≡
جحظت أعينه وكرر بصدمة وعدم تصديق لما يسمع:-
– لبيبة هانم .. إنتِ بتقولي أيه..!!
إللي بتقوليه ده مستحيل وخطر جدًا..
مستحيل أعمل كدا..
استرخت بمقعدها ثم غمغمت بهدوء ماكر:-
– هتعمل كدا علشان عندك حاجات كتيره تخاف عليها..
وبعدين إللي بقوله بيتنفذ بالحرف الواحد من غير نقاش..
دي حاجة بسيطة وهتتنفذ بحذر يا دكتور صلاح ولما أشرحلك إللي هتعمله بالضبط هتوافق عالطول.
– قولتلِك بلاش يا نرجس .. بلاش..
بقينا الفجر وإحنا مش عارفين نوصل لأي حاجة..
الدنيا والأماكن اتغيرت بعد السنين دي، والتعب إللي تعبناه والصدمة إللي عشناها لسه مأثرة على تركيزنا وعلى الذاكرة..
قضينا الليل كله في الشارع وإنتِ تعبانه..
جلست على إحدى الأحجار الكبيرة بجسد مُنهك وحالة مرزية ليجلس بجانبها يحيى ولم تختلف حالته عنها، جذبها بحنان لأحضانه لتبكي بقهر وهي تقول:-
– أنا حاسه إنٍ تايهة أووي يا يحيى، حاسه كأني كنت في كابوس وفوقت منه، حاسه إن كنت محبوسه في الضلمة ويا دوب شوفت النور ومش عارفة أمشي فيه..
الدنيا دي غريبة عليا ومعرفش فيها حد ألا إنت يا يحيى..
يا ترى أيه إللي حصل لرِفقة في غيابنا، ومين إللي عمل فينا كدا وعلشان خاطر أيه، ومين إللي وهمنا بإن رِفقة ماتت وهي عايشة..!!
مسح على وجهها الملطخ بالأتربة وداخله يحترق كمدًا من نيران العجز المشتعلة بقلبه، شعور العجز الذي ليس له إلًا ولا ذمة، وأردف بارتعاب:-
– أنا خايف يا نرجس نكون عايشين في وهم، خايف يكون ده أمل كداب ورِفقة بنتنا تكون….
كان يقول هذه الكلمات الثقيلة بصعوبة لتقاطعه نرجس بصراخ باكٍ وجسد يرتعش:-
– متقولهاش يا يحيى .. أوعى تقولها بنتي عايشه أنا واثقة من كدا..
ورفعت رأسها للسماء تقول بحُرقة تكوي جنبات روحها:-
– يارب .. إحنا هنا يارب.. إنت العادل القادر..
يارب وصلني ببنتي يا حنان.. واحفظها من أي مكروه يارب .. يارب وصلني لها بقدرتك يارب..
اللهم أرني عجائب قدرتك في إستجابة دعواتي..
لو كان إختبار لنا يارب فإحنا بنشهدك إننا راضيين ومحتسبين الأجر عندك يا أرحم الراحمين..
حَواها يحيى بين أحضانه وهم يشاهدون خروج الفجر الصادق بعدما اشتدت الظُلمة..
وقال بينما ينظر للسماء:-
– هنرتاح شوية ونواصل لغاية ما نخرج من المنطقة دي … مش عارف ليه أنا حاسس إننا على الطريق الصحراوي..
يا ترى الدار كانت في منطقة أيه..!!
•<<<<<<<بقلم/سارة نيل>>>>>>>•
على الصعيد الأخر بمنزل يعقوب ورِفقة، استيقظت هي برهبة تشعر بها هذا اليوم بينما كان يعقوب في أوج نشاطه..
أدوا صلاة الفجر وبقت رِفقة تُردد الأذكار وبدأت في تلاوة سورة البقرة علّها تثبط من شعور القلق بداخلها..
هي لا تعلم لماذا هذا الشعور السيء الذي يجتاحها، تشعر بقبضة قوية تقبض على قلبها بقسوة لا تعلم سببها..
– يعقوب أخدت علاجك..!
اقترب منها وابتسم وهو يُعدّل من وضع حجابها وقال بمرح:-
– خلاص بقاا يا رِفقة، أخدت العلاج وحطيت أكل ومايه لرِين بزيادة علشان لو اتأخرنا، وحطيت أكل في البلكونة للعصافير..
أظن كدا خلصت واجباتي يا أرنوبي..
تصنعت الإبتسامة والمرح لأجل ألا تفسد وتُعكر صفوة ورددت بشحوب:-
– جزاك الله خيرًا يا أوب ربنا يديمك ليا العمر كله..
قبل باطن كفها بحنان وحمل الحقيبة وجعلها تُمسك بذراعه ثم قال:-
– ويديمك ليا في الدُنيا وفي الجنة يا نور عيني..
يلا بينا نتوكل على الله..
ابتلعت ريقها الجاف وشعرت بنبض قلبها يتزايد لتحاول تجاهل هذا الشعور وأمسكت بذراعه وخرجا سويًا بينما تُردد رِفقة بداخلها:-
– بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..
اللهم إني أعوذ بك أن أضِلّ أو أُضل أو أذِل أو أُذل أو أجهل أو يُجهل عليّ..
أجلسها يعقوب بالسيارة برِفق واستدار يجلس لتسأله رِفقة:-
– هو إنت مقولتش لماما فاتن وبابا حسين..
أجابها يعقوب بهدوء:-
– لأ .. سبتها مفاجأة..
•<<<<<<<بقلم/سارة نيل>>>>>>>•
طرقات قلبها تدوي كالرعد خلف أضلعها، تجلست بأحد الغُرف المُخصصة لها بعدما تم تجهيزها للولوج لغرفة الجِراحة..
تمسكت بكف يعقوب الذي يجلس بجانبها فوق الفراشة لتهمس له برعب وجسدها أصبح متيبس باردر:-
– يعقوب أنا خايفه أووي..
شعر بملمس جلدها البارد فأخذ يحتضنها بحنان وهو يسير بيده فوق ظهرها يطمئنها وهمس لها بحنو:-
– رِفقة حبيبتي إهدي … هتدخلي وهتخرجي ليا بكل خير … مش إنتِ علمتيني وقولتيلي لن يُصيبنا إلا ما كتب الله لنا وإن أقدار ربنا كلها خير، توكلي على الله وكل إللي ربنا هيأمر بيه إحنا راضيين بيه يا رِفقة..
متخافيش أنا معاكِ وهتطلعي تلاقيني في إنتظارك وهكون أنا أول حد تشوفه عيونك الحلوة…
تشبثت بأحضانه بقوة تزرع نفسها بداخله تتمسك به فهو أمانها ومأمنها ورددت بأعين دامعة:-
– أنا شيفاك بقلبي وروحي يا أوب..
هناك الكثير من الأشياء السيئة بداخلها الآن على غير المعتاد، فهي ليست تلك الشخص السلبي المتشائم، لكن رغمًا عنها شعور غريب يغمرها..
تود أن تصرخ به … عانقني لينتهي كل شيء سيء بداخلي..
وهو دون أن تخبره بث لها الأمان..
بعد قليل ولج الطاقم الطبي وعلى رأسهم الطبيب صلاح الذي يتلبسه التوتر والذي يجاهد لإخفاءه بشق الأنفس..
رسم إبتسامة فاترة فوق فمه ثم قال:-
– يلا يا مدام رِفقة .. حان وقت دخولك للعمليات..
قبضت على يد يعقوب تحتمي به من خطر يُحدق بها لكنها أخذت تردد بعض الذِكر لتستقيم بصحبة يعقوب الذي قال:-
– تمام يا دكتور صلاح .. يلا بينا..
خرجوا جميعًا وهبطت رِفقة بصحبة يعقوب والتي رفضت ترك يده والخروج بصحبة الممرضات حتى وصلوا أمام غرفة الجراحة..
قالت أحد الممرضات:-
– اتفضلي معايا يا جميلة، الدكتور راح علشان يجهز ويتعقم وإنتِ لازم تجهزي..
خفق قلبها بجنون وتمسكت بيعقوب بشدة..
لثم مُقدمة رأسها وهمس لها بحنان:-
– رِفقة حبيبتي أنا هفضل هنا قدام أوضة العمليات مش هتحرك لغاية ما تخرجي .. أنا معاكِ وفي ضهرك ومستعد أضحي بأي حاجة في سبيل سعادتك حتى روحي ونفسي..
ألقت نفسها بأحضانه مرةً أخيرة تتشبث به بقوة وهو طوقها باحتواها وبحنان العالم أجمع لتهمس هي له:-
– يعقوب أوعى تسيبني..
كوّب وجهها وقال بصدق:-
– اليوم إللي يعقوب يسيبك فيه روحه وقلبه يسيبوه يا رِفقة .. إنتِ بقيتي ليا العالم كله والحياة يا رِفقة..
قالت رِفقة بسعادة:-
– أنا فرحانه إنك هتكون أول حد أشوفه لما أفتح، وإن أخيرًا هشوف الألوان من تاني وهشوف النور وهشوف الفراشات والأقحوان ورِين..
شكرًا من قلبي يا أوب .. شكرًا على كل حاجة..
ابتهج قلبه لرؤية سعادتها، فأحلامه وسعي عمره جميعًا فداء تلك السعادة التي يراها بأعينها، أردف لها بحنان:-
– عمري كله فدا الفرحة دي يا رِفقة .. يعقوب فدا السعادة دي..
ابتسمت الممرضة وقالت بوِد:-
– ربنا يخليكم لبعض …. إن شاء الله تخرج بألف خير..
وقبل أن تدلف للداخل أوقفها هذا الصوت اللاهث:-
– رِفقة … رِفقة..
ابتسمت بسعادة قائلة:-
– آلاء … نِهال..
اقتربوا منها يحتضنوها بحب صادق لتقول آلاء بفرحة واضحة:-
– رِفقة .. أنا فرحانة أووي .. تخرجي بألف خير يا رِفقة..
ورددت نهال:-
↚
– إن شاء الله هتخرجي بالسلامة وهتلاقينا منتظرينك في أوضتك ومزيننها لكِ..
أمسكت رِفقة أيديهم وقالت بإمتنان:-
– تسلمولي يا بنات … ربنا يخليكم ليا..
قالت الممرضة ببشاشة:-
– يلا بينا يا رِفقة..
تركت يد يعقوب بصعوبة ودلفت للداخل بصحبة الممرضة ليشعر يعقوب أن روحه وقلبه انسلوا منه وركضوا معها للداخل..
ابتسمت نهال وقالت ليعقوب:-
– إن شاء الله تخرج بالسلامة، أنا ونهال هنطلع غرفتها علشان نبدأ نزينها..
اكتفى يعقوب بتحريك رأسه ووقف أمام هذا اللوح الزجاجي العريض يشاهد رٍفقة التي تتحدث مع الممرضات بتوتر ويبدو أنهم يحاولون زعزعت توترها وطرده..
همس برجاء:-
– يارب احفظها واحميها وخرجها ليا بكل خير..
التفت ليجد الطبيب يدلف للداخل، اقترب منه يعقوب وقال بلهفة:-
– كل حاجة تمام صح يا دكتور..
هرب الطبيب بعينيه وقال باقتضاب:-
– كله تمام … متقلقش هتخرج وهي بتشوف بوعدك .. عمليتها بسيطة..
ودلف الطبيب للداخل ليقف يعقوب أمام الزجاج يتنهد براحة مبتسمًا لرِفقة بحماس..
لكن ذهبت كل راحته فور أن سمع هذا الصوت..
– أهلًا بيعقوب باشا..
التفت بصدمة ليجد لبيبة تقف أمامه بكل ثبات وغرور لا يخنع أبدًا..
صاح بغضب:-
– إنتِ أيه جابك هنا..
ابتسمت ببرود وهي تقف أمامه ثم رفعت يدها تُشير للطبيب فيُشير لها بأن كل شيء جاهز..
سقط قلب يعقوب أرضًا وتوسعت أعينه بصدمة وأعينه تدور بينها وبين الطبيب..
ابتلع ريقه بصعوبة وهو يرى رِفقة التي أصبحت تبتسم بحماس بين الطاقم الطبي الذي سلمها لهم بيده..
حرك يعقوب رأسه بنفي وهو يشعر بالأرض تمور من تحت أقدامه، خرج صوته متقطعًا فالأمر الآن لا يتعلق به إنما برِفقة وفي موقف صعب المخاطرة بأي شيء..
– لا …لا مش للدرجة ..دي .. صح مش للدرجة دي..
قالت بجمود وصلابة:-
– علشان تعرف إن كنت معاك لأخر خطوة يا يعقوب…
هتختار حاجة من اتنين..
يتعملها العملية وتخرج سليمة بتشوف بعنيها وتكون إنت كدا وصلتها لبرّ الأمان وتسيبها لحال سبيلها وطريقها وطريقك ميتقاطعوش تاني وترجع يعقوب بدران وريثي وابني…
والاختيار التاني..
تخرج من غير عنيها خالص وتتحمل إنت إللي هيحصلها، ودا متوقف على اختيارك وعلى حسبه هتم إشارة واحدة مني للدكتور صلاح والطاقم الطبي إللي بالمناسبة هما والمستشفى بقوا تحت أمر مني…
دا الإختبار الأخير يا يعقوب باشا…
اختار….!!
لقد ضاقت عليه الأرض بما رحُبت، وضاقت عليه نِفسه..
كان كمَن انفصل عن الواقع، ملامح وجهه اسودت وانطفأت مصابيح الحياة بوجهه وبروحه كل العذاب…
نظراته ثابته فوق لبيبة ينظر لها نظرات لن تنساها ما حيت، نظرات كانت كالخناحر تتوغل بقلب لبيبة..
أبعد أنظاره يرمق رِفقة التي أشرقت السعادة بوجهها وتبتسم باتساع في ترقب حياة جديدة ووعود كثيرة برؤية الألوان والزهور والفراشات..
كيف له أن يحرمها من هذه الحياة التي تستحقها؟!
لكن …. حياة بدون رِفقة!!!
كيف ستكون!!
قبلها كانت حياته باهتة شاحبة ازدهرت فور أن اقتحمت أحرف اسمها سماء أيامه..
يشعر بأن روحه هي من تُعذّب، ألم عَرِم بقلبه، يشعر كأن قلبه قد انكسر كسر لن يُجبر من بعده أبدا..
هو لم يكن أبدًا بالضعيف، كان يقتحم الحياة بكل جُرأة لا يخاف لومة لائم، عُرف بالتمرد عن كل شيء لا يُريده … لكن حين يتعلق الأمر برِفقة تنسلخ كل معانِي القوة عنه ويقوم بحساب كل ردة فعل وكل خطوة يخطوها..
رفع ملامحه التي سطرت الدنيا عليها ريب منونها، رفع وجهه الذي احتضنته أشباح الظلام، وخرجت كلمات بأثقال الأرض جاهد وجاهد لتخرج حتى أصبح داخله خوار .. قالها ليرتعش على إثرها كل خلية بداخله، قالها والعالم قد إسودّ بعينيه ومارت الأرض من تحت أقدامه وهو لا يعلم على أي أرضٍ يقف، قال بانطفاء وبروحٍ منشطرة:-
– موافق …. بس أطمن عليها … هشوفها من بعيد لبعيد بعد ما تخرج من العملية، هطمن إنها بخير .. ومتخافيش هي حتى لو شافتني مش هتعرفني..
أشارت لبيبة للطبيب ليبتسم ووقف يعقوب لتنسدل أمامه هذا الستار الأخضر من الداخل وتبدأ الجراحة المنتظرة…
ظلت لبيبة تتحدث إليه وقد نضحت أعينها بنظرة غريبة وانشطر قلبها لرؤية وجهه بهذا السوء..
كانت تتحدث لكنه لم ينبث ببنت شفة حتى أنه لم يصدر منه أي ردة فعل تدل على أنه يستمع لحديثها من الأساس .. فقط الجمود..
↚
<<<<<<بقلم/سارة نيل>>>>>>
بعد مرور بعض الوقت انتهت كلًا من نِهال وآلاء من تزيين غرفة رِفقة، اردفت نهال بسعادة:-
– ما شاء الله الأوضة بقت تحفة، وأحسن حاجة إننا عملناها باللون الأصفر لونها المفضل والفراشات والورد..
قالت آلاء بحماس:-
– فعلًا بقت رقيقة أووي تشبه رِفقة، يلا بينا بقاا نخرج ونستناها برا أوضة العمليات، تلاقيها خلاص قربت تخرج..
أيدتها نهال وهم يخرجان:-
– يلا بينا..
وفور خروجهم دلف يعقوب للغرفة المليئة بالنور والبهجة لكن هو كان يمشي كمن سُلبت منه الحياة..
سار حتى توقف بجانب وحدة الأدراج المجاورة للفراش ووضع على سطحها ورقة مطوية أعلاها مفتاح عريض وبجانبهم باقة كبيرة من الورود الحمراء وأخرى من زهور الأقحوان المفضلة لديها..
شمل الغرفة بنظرة شاملة وهو يتذكر المخططات التي كان ينتويها..
تحدث قلبه وهو صامت لم يعد يستطع الوقوف، يشعر أن قوته ستخونه:-
– يارب أنا تايه … أنا عارف إن كنت دايمًا بعيد عنك .. بس هي علمتني القرب منك وخدت بإيدي وعرفتني على قدرتك وقوتك ورحمتك..
اتعلمت منها اليقين والثقة..
هي مؤمنة بيك حد المعجزة، متعاقبنيش على بُعدي عنك ببعدي عنها يارب .. في حاجات كتير أوي لسه عايز أعلمها معاها، متحرمنيش منها يارب..
أنا حاسس بضعف وتوهان عمري ما حسيت بيه في حياتي … أنا حاسس بالعجز..
يارب أنا بطلب معجزة .. يارب تحصل معجزة..
كان صامت حتى الحديث لا يقوى عليه، يتحدث وهو صامت ..
وخرج ببطء وهو يضع قبعة على رأسه وتميل على وجهه بدرجة كبيرة وقناع طبي على فمه وأنفه … فانطمست ملامح وجهه…
على مقربة من غرفة العمليات وقف بأحد الزوايا النائية ووقف يترقب بقلبٍ نازف…
بالداخل…
وقف الطبيب أمام رِفقة الغافية وتنهد براحة وشرد في أغرب موقف مرّ عليه منذ عمله كطبيب..
عاد بذاكرته إلى ما حدث عندما قابلته لبيبة بدران وبقية خطتها التي لا يعلم المغزى منها..
– أنا مستحيل أعمل كدا وأخون مهنتي، مستحيل أأذيها…
نطقت لبيبة بحدة وقوة عجيبة:-
– وأنا مش هسمحلك أصلًا تإذيها، أنا لسه مخلصتش كلامي..
وخد تحذير مني … البنت دي لو حصلها خدش بس مش هتكفيني روحك..
في كل الحالات تخرج بخير وبعيونها بتشوف بيها، إياك ثم إياك يحصلها حاجة..
كل إللي بطلبه منك حركة واحدة قدام يعقوب توهمه إنك تبعي وإن اشتريتك…
توسعت أعينه بصدمة وردد بذهول:-
– طب ليه .. ليه تعملي كدا!! دا شكله هيموت عليها…
غرقت أعينها في شرودٍ عميق وهمست دون وعي:-
– لازم يحصل كدا .. لازم..
أفاقت وقالت بصوت واضح وبحسم:-
– وبالنسبة لتكلفة العملية فأنا حولتها على حساب المستشفى وحسابك والشيك إللي دفعه يعقوب باشا ميتصرفش ويرجع على حسابه..
وبحذرك للمرة الأخيرة، البنت دي تخرج بخير واتأكد إنها كويسة جدًا…
خرج الطبيب من شروده ينظر لرِفقة التي ستبدأ مرحلة الإفاق لديها وجاء الوقت المرتقب لمعرفة ناتج الجراحة…
في الخارج كان يقف كلًا من نهال وألآء التي قالت بتوتر:-
– هما اتأخروا ليه كدا .. ربنا يستر..
التفتت نهال من حولها وتسائلت بتعجب:-
– خلاص هانت ورِفقة تخرج ويعقوب مش موجود، يا ترى اختفى فين في وقت زي ده..
ومن ساعة ما إحنا وصلنا هنا وهو مختفي..
وما كادت أن تنتهي من حديثها حتى وجدوا الباب يُفتح وخرجت رِفقة التي بين الوعي واللاوعي ومن حولها الطاقم الطبي يدفعون الفراش المتحرك نحو الغرفة المخصصة لها..
بينما بعيدًا بأحد الزوايا فور أن وقعت أعينه فوقها جأر قلبه وشعر بأوردته تكاد أن تنفجر من فرط نبض قلبه المجنون..
كاد أن يركض تجاهها دون أن يشعر ويأخذها في رِحابه لكنه تصنم بأرضه وهو يتذكر أن أي تصرف خطأ هنا صادرًا منه سيُعرض حياتها للخطر، فهي هنا مازالت وسط الذئاب..
توقف بقلب مكلوم وقد بات يشعر بوجود ألم عاتٍ بجانبه الأيسر..
نُقلت رِفقة لغرفتها بصحبة الطاقم الطبي ونهال وألاء الذين ساروا بجانبها بلهفة واضحة..
بينما يعقوب فتحرك خلفهم بحذر فقد ظهرت لبيبة ووقفت تنظر له نظرات غريبة غامضة جدًا..
لكنه تجاهل كل شيء وصعد حيث غرفة رِفقة ووقف على مقربة منها بأحد الزوايا المخفية…
بداخل غرفة رِفقة…
أخذت تأن بضعف وتهلوس بكلمات غير مترابطة كان أوضحها هو اسم “يعقوب”..
تتلفظه من بين أنّتها الضعيفة..
استدارت نهال تسأل الطبيب بينما تدور بأعينها تبحث عن يعقوب بقلق متفاقم:-
– هي هتفوق إمتى يا دكتور .. وهي كويسة … يعني هتشوف عالطول ولا أيه..
قال الطبيب بهدوء:-
– هي هتفوق عالطول … يعني هي حالًا بتفوق وأول ما تسترد وعيها هنبدأ نشيل الشاش واحدة واحدة ونشوف نجاح العملية…
بالنسبة للعملية محتاج أشرح لحد حالتها وإللي لازم يحصل والتعليمات، فين يعقوب باشا…
تفاقم توتر نهال ودارت أعينها بالغرفة وهي تقول:-
– مش عارفة … شكله راح يجيب علاج أو أي حاجة ..أكيد هيجي دلوقتي..
أنا أختها تقدر تقولي…
تنهد الطبيب وقال بهدوء:-
– أولًا هي هتبدأ تشوف بضبابية، يعني مش هتشوف بشكل طبيعي والرؤية بتتحسن تتدريجي خلال من شهر لتلاته يعني خلال ثلاث شهور … بعد ما تفوق هيبقى في تشوش في الرؤية ودا طبيعي..
ولازم تتبع التعليمات ويكون في مرافق معاها دايمًا..
هتتجنب الفرك في العين والضغط عليها وأي مجهود بدني عنيف، طبعًا هكتبلها على قطره وعلاج هتستمر عليه..
وهيبقى فيه واقي للعين علشان يحميها من أي كدمة أو دخول حاجة غريبة…
طبعًا ممنوع دخول المايه لعنيها، يدوب قماشة أو قطن مبلول مايه وتمشي بيه على وشها..
ولو خرجت في النهار هتلبس نضارة شمس علشان تحمي العين من أشعة الشمس المباشرة..
هي هتحسّ بصداع ودا طبيعي بعد العملية..
على الرغم من إن عمليتها بسيطة لكنها دقيقة، وأهم من العملية الحفاظ عليها بعد الخروج من العمليات…
طبعًا تبعد عن الضوء المباشر زي التلفزيون والموبايل..
التعليمات دي هسلمهالك مكتوبة ولازم يتم الحفاظ عليها..
حركت نهال رأسها بإيجاب وهي تحفظ كل كلمة قالها الطبيب…
بينما رِفقة فقد أخذت تستعيد وعيها بشكلٍ كامل لتهمس بتعب وهي تشعر بصداع حاد ودوار يطوف برأسها:-
– يعقوب … أوب..
ركضت نهال وآلاء باتجاهها لتقول نهال بلهفة:-
– رِفقة .. إنتِ كويسة..
قالت رِفقة بصوت متحشرج وهي تتعجب لعدم سماعها لصوت يعقوب من بينهم:-
– أنا كويسة الحمد لله يا .. نهال..
اقترب الطبيب وتسائل:-
– مدام رِفقة إنتِ حاسه بأيه..
↚
أردفت بانزعاج وهي تتململ لتعتدل:-
– أنا عايزه أتعدل…
اسندها آلاء ونهال برِفق لتقول ألاء:-
– على مهلك علشان مش تدوخي يا رِفقة..
رددت رِفقة بألم وهي تُمسك رأسها:-
– راسي بتوجعني أووي .. عندي صداع فظيع..
أشار الطبيب للمرضة لتُضيف إبرة بالمحلول المُعلق بذراعها وأردف:-
– متقلقيش دا طبيعي .. ودي حقنة مسكنة هتسكن الصداع .. واستحملي الصداع كام يوم معلش..
وأكمل وهو يضع يده على الضماد المطوق لعينيها ورأسها:-
– دلوقتي تدريجي هنشيل الشاش وتقوليلي حاسه بأيه والرؤية أخبارها أيه..
عادت رِفقة للخلف مسرعة كمن لدغها عقرب وقالت برفض شديد وقلبها يطرق بجنون:-
– فين يعقوب .. أنا مش سامعه صوته، وأنا مش هشيل الشاش ألا ما يعقوب يكون موجود..
وأخذت تصيح باسمه:-
– يعقوب … يعقوب .. إنت فين … إحنا متفقين إن هو أول حد هتشوفه عيني. .
هو فين يا نهال .. آلاء هو بيجيب علاج أو حاجة..
إزدادت حدة التوتر في الغرفة وقد عجزوا عن الإجابة وانتشر الصمت بالغرفة…
وجمت ملامح رِفقة وازداد توترها وقد شحب وجهها لتهتف بجنون وهي تتحرك للوقوف فيسرع الجميع بإمساكها:-
– محدش فيكم بيرد ليه … يعقوب فين … هو حصله حاجة..
وجعلت تنادي بصوت أصبح على مشارف البكاء:-
– يعقوب … يعقوب إنت فين .. إنت موجود وبتعمل فيا مقلب ولا أيه..
قال الطبيب بتحذير:-
– مدام رِفقة لو سمحتي اهدي إللي بتعمليه ده غلط عليكِ وبلاش دموع أرجوكِ..
لازم نشيل الشاش علشان أطمن على عينك..
ثارت بشدة وصرخت بقلب مضطرب:-
– أنا مش هشيله ألا في وجود يعقوب..
محدش فيكم راضي يقولي هو فين ليه..
تشجعت نهال وجلست بجانبها وهي تراها على مشارف الإنهيار:-
– بصراحة يا رِفقة يعقوب اختفي مرة واحدة من بعد نص ساعة من دخولك العمليات ومحدش يعرف هو فين…
سقط قلب رِفقة وشحب وجهها شحوب الأموات وتمزق قلبها وجعًا من سماع هذه الكلمات، جمعت كلماتها بصعوبة وأخذت تقول بتقطع وعدم فهم:-
– مش فاهمة .. قصدك أيه …يعني حصله .. حاجة .. يعقوب..
لاحظت آلاء ما فوق وحدة الأدراج لتمد يدها متسائلة بفضول:-
– أيه ده..!!
اتجهت أنظار نهال نحوها وأسماع رِفقة التي قالت بلهفة:-
– في أيه … يعقوب جه..
رددت آلاء وهي تفتح الورقة:-
– لأ دي ورقة كانت محطوطة جمبك وباقة كبيرة ورد أحمر وباقة من زهور الاقحوان … ومفتاح..
أسرعت نهال تقول:-
– طب أيه مكتوب في الورقة…؟!
أخذت آلاء تقرأ بصوت مرتفع ما جعل الموت يجثم على قلب رِفقة:-
“رِفقة …. حبيبتي الأبدية … يا من أعادت الحياة لقلب يعقوب البائس..
لغاية هنا وصلتك لبر الأمان، تقدري تكملي من غير ما تحتاجي لحد، بخروجك من أوضة العمليات هيكون كدا يعقوب إنتهى…
خدي بالك من نفسك وعايزك تفضلي سعيدة ومبهجة زي ما عرفتك..
المفتاح إللي جمب الورقة مفتاح بيتك، هتلاقي عقد تمليك الشقة في مكتبي وكل حاجة هتحتاجيها… كدا أنا أمنت عليكِ ومحدش هيقدر يقرب منك..
خليك بخير دايمًا وعيشي حياتك وكل إللي اتحرمتي منه … بس أوعي تنسي أوب..
إنتِ دخلتي الحياة لقلب يعقوب وعشقك، ومن بعدك قلبه اتكسر ومات…”
(يعقوب)
وضعت نهال كفها فوق فمها بصدمة بينما انزلقت دموع ألاء وهي لا تصدق ما قرأت…
بينما رِفقة ….الكلمات وجميع حروف العربية تقف عاجزة عن وصف ما تشعر به..
استقامت فجأة ليهاجمها دوار عنيف لتمسك رأسها بكفيها وهي تترنح وصرخت بجنون بينما تضحك بهسترية وشهقاتها العالية تمزق القلوب:-
– يعقوب …. يعقوب…لا لا مستحيل …هو وعدني بحاجات كتيرر… يعقوب قال مش هيسيب رِفقة، وإن هو أهل رِفقة…
يعقوب رد عليا يلا ….قولي دا كلام كذب..هونت عليك يا أوب … هانت عليك رِفقة..
طب ليه … ليه دا أنا مليش حد غيرك…
قال الطبيب وهو ينظر لحالتها بصدمة:-
– كدا غلط يا رِفقة .. خطر على عينك إللي بتعمليه ده…
نهال وألاء يحاولون جعلها تجلس واثنين من الممرضات لكنها أخذت تقاومهم بشراسة ليُشير لهم الطبيب بتركها كي لا تبذل مجهود عنيف ووقف الجميع حولها لتلقفها ومنعها السقوط إثر ترنحها…
أمسكت رأسها وحركته بنفي وهي تهتف دون تصديق:-
– لا لا …يعقوب ميعملهاش … يعقوب بيحب رِفقة …مستحيل يسيب رِفقة أصلًا …هو وعدني بكدا..
بتقولي أكون سعيدة …طب إزاي .. إزاي يا يعقوب…
دا بر الأمان إللي بتقول عليه…
عملتلي العملية علشان تسيبني… ياريتني فضلت عميا يا يعقوب..
لا …لا مستحيل رِفقة تهون على يعقوب .. هما أجبروه … أيوا أكيد أجبروه وهددوه بيا…
هو مستحيل يعمل كدا من غير سبب..
أنا واثقة في يعقوب … واثقة فيه…
وفور أن تلفظت أخر كلمة لم يستطع الواقف أمام باب الغرفة الصمود وتحرك يبتعد عن الباب ليستند على أحد الجدران وأخذ يبكي بكاءًا شديدًا وقلبه يحترق كمدًا..
بكاءًا لم يبكيه حتى حين سافرا والديه وعاش بدونها..
يستند بعجز على الحائط وهو يشعر بأن أقدامه لم تعد صامدة لحمله..
يشعر بروحه تفارقه … نعم قد فارقته..
تحرك يخرج بجسد متهدل وبخطى بطيئة، يخرج بدون روح … نعم فلقد تركها خلفه..
كانت على بعد منه …خلفه تقف لبيبة التي استمعت لكل ما حدث…
قبضت على يديها بشدة حتى جرحت أظافرها جلدها … أعينها كانت تحمل الكثير من المجهول والآن قد أخذت إجابة ما تريد معرفته..
سارت خلف يعقوب الذي يسير كالميت لا يشعر بما حوله ولا يستمع لأي صوت سوى صوت بكاء رِفقة وكلماتها وصراخها باسمه الذي يمزق أوتار القلوب..
وقبل خروجه من مدخل مركز العيون توقف وهو لا يستطيع مواصلة السير أو التحرك، رفع كفه يضعه فوق موضع قلبه وهو يشعر بألم لا يُطاق وقبل أن يُقرر فعل أي شيء سقط هامد القوة كارهًا للحياة همسًا بصوت متقطع بحروف اسمها:-
– رِ …. فـ .. قة…
تخشبت لبيبة وهي ترى جسده المُلقى أرضًا لتصرخ بصدمة وقلبها على وشك التوقف:-
– يــــــــــعــــــــقــــــــوب….
↚
في هذا الأثناء كان على المدخل كريم الذي حدثه يعقوب لأجل أن يأتي من أجل حماية رِفقة..
وقبل دلوفه شاهد يعقوب يسقط ليركض بلهفة وصدمة نحوه…
بينما في الأعلى عند رِفقة التي تُمسك برأسها بألم وقد أخذوا يقيودن حركتها وأخذ الطبيب يُبعد الضماد من فوق عينيها لتظل تفتح وتغلق أعينها باستمرار حتى فتحتهم على وسعهم لتتضح الرؤية أمامها وإن كان بها بعض التشويش، فتحت أعينها مستعيدة البصر لكن نظراتها كانت باهتة فاقدة للحياة…
شهقت بشدة وهمست بألم قبل أن تسقط فاقدة للوعي بين أيديهم:-
– يعقوب..
<<<<<<بقلم/سارة نيل>>>>>>
في ذات الأثناء كان كلًا من حسين وفاتن ويامن يقفون أمام باب منزل يعقوب يطرقون الباب مراتٍ عديدة لكن لا فائدة..
قال يامن بضجر:-
– وبعدين بقاا يعقوب باشا مش عايز يفتحلنا ولا أيه..
شكله شاف من جوا إن أنا موجود معاكم علشان كدا مطنشنا ومش راضي يفتح..
نهرته فاتن وقالت بغضب:-
– بطل سوء الظن وأفكارك السودة دي بقاا يا ابني..
قال بثقة:-
– طب أراهن على أيه إن هو جوا، دا أنا اتهريت عليه رن ومش مكلف نفسه يرد…
قال حُسين بعتاب:-
– التمسله مية عذر يا يامن وبعدين أخوك يعقوب مش كدا … يلا رن عليه مرة أخيرة قبل ما نمشي..
قال وهو يضغط على ذر الإتصال بلامبالاة:-
– أكيد يعني مش هيرد … اشمعنا المرة دي إللي هيرد..
لكن تمت الإجابة وأتته صوت ضجة كبيرة ليقول بتعجب:-
– ألوو مين معايا..
نظر له والديه بترقب ليستمع إلى الصوت المرتعب من الجهة الأخرى ولم يكن سوى صوت كريم يقول ببكاء:-
– يامن … إلحقوا يعقوب … بسرعة تعالوا على مستشفى بدران الخاصة..
ارتعشت يد يامن وتوسعت أعينه بصدمة وقد تزايد معدل نبض قلبه وصاح برعب:-
– يــــــــــعــــــــقــــــــوب…
بعد بضع دقائق كان يامن يقود سيارته بسرعة جنونيه ووالده بجانبه تهبط دموعه بصمت ووالدته تبكي بمرارة وصوت رجاءها لرب العباد يملأ السيارة..
وبنفس التوقيت بالقرب من حافة الطريق السريع صرخت نرجس بحماس رغم هوانها وتعبها الجليّ فور أن رأت حدود الطريق، قالت بسعادة:-
– أخيرًا يا يحيى .. الطريق قدامنا …يلا بسرعة..
أسرعوا وهما يُمسكان بأيدي بعضهم البعض حتى توقفوا على جانب الطريق، قال يحيى بحذر:-
– هنقطع الطريق يا نرجس، خليكِ ماسكة فيا كويس..
– يلا بسم الله مش عارفة الطرق سريع ليه كدا.!!
وأسرعوا يقطعون الطريق وقد حدث كل شيءٍ سريع ولم يُسمع سوى صراخ نرجس الذي اختلط بصراخ فاتن، وصوت حسين الصارخ بقوة ليامن الشارد والذي دعس على المكابح بشدة ليتفادهم..
– حااااااسب..
لكن تمت مشيئة الله واصدمت السيارة بجسدهم لينطرحوا أرضًا بشدة…
مرّ الليل والصباح حتى منتصف النهار وهي تجلس في الشرفة تترقب عودته بقلب مكلوم مفجوع، أصبح وجهها باهتًا وعينيها غائرتان يُظللهم دوائر سوداء تُحيط بهم..
جذبها من شرودها صوت إغلاق الباب لتهرع بلهفة تجاهه لتقول بتلهف لزوجها عاطف الذي دلف بإرهاق يتلبسه:-
– عاطف .. لقيت راجح .. راجح فين؟؟
رمقها بغضب واشمئزاز أصابه بعد علمه بحقدها الدفين وإجرامها، أردف وهو يجلس فوق الأريكة بإرهاق:-
– إنتِ السبب .. إنتِ دمرتي عيالي كلهم..
عيالي اتعاقبوا على إجرامك..
إنتِ السبب في كل حاجة حصلتلهم…
راجح مش هيرجع لهنا تاني … أنا واثق إن مش هيرجع لوكر القذارة ده تاني..
كسرتيه وخلتيه يحسّ بالعار…
أنا قلبت الدنيا على راجح وملهوش أثر وموبايله مغلق…
منك لله ربنا ينتقم منك يا مجرمة بسببك بعد غُربة ابني كل السنين دي اتحرمت أشوفه..
وبناتك حالتهم تصعب على الكافر، اتعموا واتشوهوا … ودا بسبب قلبك الأسود…
كانت ترتجف بوجل وجميع جرائمها تمر أمام أعينها، لقد انقلب السحر على الساحر، وكيدها سقط عليها…
لقد حُرمت من ولدها للأبد كما فعلت هي من قبل وحرمت فتاة من والديها .. وأب وأم من ابنتهم..
رِفقة ليست أولى جرائمها، لقد سبقها يحيى ونرجس والديّ رِفقة…
السرّ الذي لا يعلمه أحد، السر الذي دثره الزمان…
من لدى والديّ رِفقة تبدأ الحكاية، حكاية حقدها وانتقامها…!
<<<<<<بقلم/سارة نيل>>>>>>
لم تهدأ إلا بإبرة مُهدئة جعلتها تصمت بعد سقوطها..
تململت وفتحت أعينها التي انسحبت منها نور الحياة، أصبحت منطفئة زابلة وتنزلق دموعها بصمت مؤلم..
اعتدلت وهي تتحامل على نفسها بينما ألم قاتل يفتك برأسها وأعينها..
ساندتها نهال وألاء الصامتتان بقهر لأجلها، قالت نهال بلهفة:-
– رِفقة إنتِ كويسة..
لم تلقى منها سوى الصمت، تنظر أمامها وأعينها مثبتة عند نقطة ما في الفراغ، الكلمات التي سقطت على أذنها المكتوبة بالورقة عملت كإغارة على قلبها … فأحدثت به نكبة…
لقد أصبح داخلها خراب…
دلف الطبيب وقال بهدوء وعملية:-
– مدام رِفقة لازم تكوني حذره ومتنسيش إنك لسه خارجه من عملية وانهيارك ده وانفعالك مش في صالحك خالص..
تقدري تخرجي وترجعي البيت بس لازم تطبقي التعليمات وتتغذي كويس وتاخدي علاجك في وقته…
لم يلقى منها أي رد، مازالت على حالتها نظراتها الخالية تطوف بالمكان..
أسرعت ألاء تقول:-
– تمام يا دكتور إحنا معاها متقلقش وهنطبق كل التعليمات..
خرج الطبيب، فأخذت كُلًا من ألاء ونهال ذراعي رِفقة وقالت نهال:-
– يلا يا رِفقة علشان تلبسي هدومك ونخرج..
لم تستجيب معهم ولم يتغير سوى دموعها التي أخذت في الإستزاد، فأخذوا يساعدونها في إرتداء ملابسها…
رفعت نهال أصابعها تمسح وجه رِفقة وقالت بدموع تلمع بأعينها:-
– علشان خاطري يا رِفقة … كفاية دموع .. كفاية علشان خاطر نفسك..
إهدي يا حبيبتي إهدي…
بعد إنتهاءهم من مساعدتها خرجوا وهي بينهم تسير كجثة هامدة وتقبض بيدها على الورقة التي كتبها لها يعقوب كوداع مرير…
وصلت بصحبة الفتيات أمام باب المنزل الذي كانت تمكث به بصحبة يعقوب ودلفوا للداخل..
أزالت واقي العين وللمرة الأول تتذكر أنها أصبحت ترى ولو بشكل جُزئي..
دارت أعينها الغارقة بالدموع بأرجاء المنزل الذي حمل رائحته، ظلت تنتقل من مكان لأخر بصمت ودموع … قدرت على تمييز الأماكن التي كانت تجلس بها بصحبته بين أحضانه ويفيض بالحديث لها..
الرُدهة .. المطبخ .. غُرف النوم … والشرفة..
دلفت لغرفته لتقابلها رائحته، أخذت تتأملها بهدوء وتتحسس أشياءه الخاصة وملابسه..
جذبت قميصه الموضوع بإهمال بجانب الفراش..
تحسسته بأصابع مرتعشة ثم رفعته أمام أنفها تشتمه بعمق فيزداد خفقان قلبها بجنون..
تمددت فوق الفراش واحتضنته بقوة وارتفع صوت بكاءها الذي يمزق القلوب، همست بعذاب من بين شهقاتها:-
– ليه يا أوب … ليه دا أنا رِفقة..
بس أنا واثقة إن يعقوب مستحيل يسيب رِفقة..
يعقوب هيرجع لرِفقة … هيرجع أنا عارفة..
<<<<<<بقلم/سارة نيل>>>>>>
بروح مُفتتة إلى أشلاء بين أضلعه ينتقل عبر سيارة الإسعاف المسرعة بجنون وفوق صدره العاري الكثير من الأجهزة الباردة والأنابيب الرفيعة..
بجانبه تجلس لبيبة بدران تُمسك يده وتمسح على شعره بحنان، بالكاد تتماسك وأصبحت تشعر بألم قوي بجانب صدرها الأيسر..
تفتح أعينها بشق الأنفس كي لا تسقط في بئرٍ مُظلم، لقد احتفظت بقوتها لأجله … لأجله فقط..
بِهِ تسقط كل حصونها … بِهِ تثكل كل ثباتها..
همست بوجع وأعين كاد الدمع أن يتدحرج منها:-
↚
– كنت خايفة عليك يا يعقوب … وكان لازم أعرف إن هي تستحقك وإنت تستحقها وإنك بتحبها بجد ومش شفقان عليها ولا بتتحداني بيها، ومستعد تعمل أي حاجة علشان خاطرها..
كان لازم أتأكد إن هي عندك أولى من أي حاجة وإن إنت مش أناني معاها .. وإن إنت مش هتتخلى عنها…
العواقب دي بتسيب جروح يا يعقوب حتى الزمن مش بيقدر عليها..
لا لا مش جروح دي بتغيرك وبتحولك لشخص تاني إنت مش عارفه .. دي بتقتل روحك يا يعقوب …. بتخليك تفقد الأمان إللي في الدنيا دي .. والثقة..
وقفت سيارة الأسعاف أمام مشفى بدران ليقابلهم فوج من الأطباء والطاقم الطبي وتم سحب يعقوب الغارق في الظلام حيث العناية المركزة وأخذوا يركضون للداخل وقد أصاب المكان حالة من الهرج الشديد وانقلب حال جميع من فيه..
وقفت لبيبة بمنتصف الرُدهة وصاحت بصوت مرتفع جهوري يحمل الكثير من التهديد والتحذير الشديد والرعب:-
– لو خدش بس صاب يعقوب باشا هأهد المستشفى دي على راسكم واعتبروا نفسكم انتهيتوا..
انحنى الأطباء باحترام وولوجوا للداخل يركضون ثم شرعوا في فحص يعقوب بدقة بعدما تم وضع جسده أسفل الأجهزة وقناع التنفس فوق أنفه..
كانت صامدة من الخارج لكن داخلها ممزق، فقط هدوء ظاهري، تدك الأرض ذهابًا وإيابًا والرعب يأكل قلبها..
أقترب كريم الذي يقف بأخر الممر منها وهو يرى شحوبها الظاهر التي تحاول إخفاءه والظهور بشكل قوي..
مدّ يده بزجاجة الماء وقال لها برفق يتخلله الثقة:-
– لبيبة هانم، إهدي علشان صحتك .. اتفضلي اشربي مايه .. أنا واثق إن يعقوب قوي وهيرجع ويبقى كويس .. مستحيل يحصله حاجة علشان خاطرها .. هي ملهاش غيره في الدنيا دي..
ترقب غضبها وثورانها لكنها ظلت هادئة ووقفت أمام غرفة العناية تنظر إلى محاولات الأطباء في إفاقة يعقوب … تارة يحقنونه ببعض الأدوية وتارة أخرى يعملون على إنعاش قلبه وهو مازال غارقًا بغيبوبته..
بعد مرور ما يُقارب الساعة خرج الطبيب وهو يتنهد بتعب لتسرع لبيبة تسأله بخوف وفزع:-
– ماله يعقوب .. في أيه..!!
نظر لها بأسف ثم قال:-
– للأسف حالة يعقوب باشا نادرة من وسط حالات قليلة جدًا يا هانم..
كنا مفكرين إن ممكن يكون السبب الجرح إللي في راسه أو الإرتجاح إللي حصل عنده قبل أيام، لكن الواضح إن جسمه متأثرش..
معدلاته الحيوية كويسه جدًا ومفيش أي سبب عضوي يبرر دخوله في غيبوبة…
رددت بصياح وأعين متسعة بينما انتفض قلبها بشدة وانسحبت الحياة من وجهها:-
– غيبوبة..
حرك الطبيب رأسه بإيجاب وقال بتأييد:-
– للأسف غيبوبة نادرة … اسمها غيبوبة نفسية..
واضح إن يعقوب باشا اتعرض لصدمة قوية جدًا فالعقل والقلب مقدروش يستوعبوا الموقف والصدمة ودخلوا في حالة من عدم الإدراك والرضوخ..
الغيبوبة النفسية حالة من عدم الإستجابة وفقدان الوعي وعدم الإدراك، ومفيش أي إستجابة من يعقوب باشا ومفيش أي سبب عضوي يفسر حالته…
للأسف يعقوب باشا مفيش عنده أي إستجابة طبية لنا..
إنهارت لبيبة وخانتها أقدامها للمرة الأولى بعد سنوات مديدة … بعدما أخذت ميثاق على نفسها بعد المرة الأولى للسقوط ألا تسقط أبدًا، لكن الآن الأمر يختلف إنه …. يعقوب..
رفعت رأسها وغرقت أعينها بشرود وهي تتذكر لمحة من الماضي النازف بداخلها والتي لم ينجح الزمن بجعله يندمل ويُشفى..
لقد شمختُ بعد وهن، واكتسبتُ القوة من الضعف، وخنع كبريائي لك دون جهد..
فعندما يصل الأمر ليعقوب تسقط كل حصون لبيبة المنيعة، فخنوع لبيبة بسقوط يعقوب.
رفعت رأسها تنظر للطبيب بقوة ثم هدرت:-
– وأيه المطلوب .. العمل أيه..
خلينا نسفره لبرا ويتعالج .. أنا مستعدة لأي حاجة..
قال الطبيب برفض وتوضيح:-
– لبيبة هانم حتى لو سافر برا مفيش أي فايده، زي ما قولت لحضرتك السبب مش عضوي..
والحل الوحيد إننا نعرضه للمحفزات المنشطة ونخليه يستجيب نفسيًا لأن لو فضل كدا كتير للأسف يعقوب باشا هيتعرض لخساير كتير..
ثكلت ثباتها واهتز بدنها وسقطت بقوة خائرة فوق المقعد، سارع كريم يدعمها..
بينما هي دار العالم بها وأصبح تنفسها ثقيل كأن جبال تجثم على قلبها لتشعر بالظلام يسحبها شيئًا فشيء بأحضانه…
<<<<<<بقلم/سارة نيل>>>>>>
على أعتاب مشفى بدران، هبط يامن من سيارته يصرخ ليجتمع حوله طاقم طبي وقاموا بسحب يحيى ونرجس الفاقدين للوعي حيث الإستقبال..
هبط حسين وفاتن بأقدام مرتعشة بعد الذي تعرضوا له هذا اليوم، قال حسين للطبيب:-
– إحنا مسؤولين عنهم يا دكتور …قولنا حالتهم أيه .. وأي حاجة إحنا مستعدين لها.
قال الطبيب باحترام:-
– متقلقش يا حسين باشا بسيطة بإذن الله، تقدر تكون عند يعقوب باشا وإحنا هنبلغك بالأخبار أول بأول..
كانت فاتن قد ركضت للأعلى بلهفة ولحقها يامن وحسين برعب جليّ حتى وصلوا للأعلى أمام غرفة العناية المشددة لكنهم تصنموا بصدمة حين رأوا الأطباء يركضون بداخل غرفة العناية بفزع…
وقفوا جميعهم خلف لوح الزجاج يرون ما يحدث بالدخل ويعقوب الذي أصبح جسده ينتفض لأعلى بقوة نتيجة الصدمات الكهربائية فوق قلبه في محاولة لإنعاشه…
ليصرخ الطبيب بأمر وهو يُشير نحو جهاز الصعقات بينما يضعه على صدره:-
– قلبه وقف …. زودوا الشدة…
تعالت صرغات فاتن التي ملأت المكان وهي تتشبث بالزجاج وتكاد أن تفقد عقلها حين خرجت صفارات من الأجهزة وقعها مزعج على الأذان..
جأر يامن بعروق منتفخة ووجه شاحب حين رأى جسد شقيقة يسقط هامد دون حول ولا قوة وللمرة الأولى تفرّ دموعه بهذه الغزارة والمرارة:-
-لاااااااااااااااااااااا
↚
بينما تجمدت أطراف لبيبة وسقطت أخيرًا بخنوع للأبد….
<<<<<<بقلم/سارة نيل>>>>>>
الهدوء الكئيب ينشر أثوابه على الأرجاء بعدما ذبل النهار ولبست السماء رداءها الأسود..
نهال وألاء قد يأسوا من المحاولة مع رِفقة وخروجها من تلك الحالة..
مازالت تتكوم فوق الفراش تحتضن ملابس يعقوب وتشتم رائحته بنهم وتحيا بعالم أخر في إنتظار عودة يعقوب..
قالت نهال بحزن وهي تعيد وضع الطعام مرةً أخرى بعد رفض رِفقة أن تتذوقه:-
– هنعمل أيه يا آلاء .. كدا هتروح مننا وحالاتها بتسوء … مقطعة قلبي..
ليه عمل كدا فيها .. ليه بعد ما وثقت فيه وسلمته روحها..
قالت آلاء:-
– أكيد في سبب جبره يا نهال، متحكميش عليه، يعقوب باشا مش كدا خالص ومش خاين ومن يوم ما عرف رِفقة وهو بقى شخص تاني..
هو كمان واضح إن روحه فيها أكتر منها كمان، فالله أعلم أيه إللي حصله..
وأثناء حديثهم فاجئهم رنين جرس الباب اللحوح نظروا لبعضهم البعض بتعجب لتتسائل نهال بوجل:-
– يا ترى مين ممكن يكون جاي.!!
وقبل أن يصلوا للباب بحذر تفاجئوا برِفقة التي خرجت من الغرفة تركض بتعثر حتى أنها اصتدمت بالكثير من الأشياء لكنها لم تبالي وواصلت ركضها وهي تصيح بلهفة تفتح الباب:-
– يعقوب … أوب رجع … أنا كنت واثقة إن هيرجع…
لكنها ابتعلت الباقي من حديثها وهي ترى بتشويش شخص أخر تمامًا…
جاءت خلفها نهال وآلاء ينظرون بتعجب لتتوسع أنظارهم بخوف من هذا الزائر..
كانت رِفقة تنظر بتدقيق وتركيز لتهتف بذكاء وهي تتأمل ملامح وجهها:-
– لبيبة بدران..!!
أردفت لبيبة بنبرة لا تقبل النقاش وحسم شديد:-
– يلا معايا ….. يعقوب محتاجك..
أللقلب أرجُل يركض بها ركض الملهوف؟!
كان قلبها هو الذي يهرول وليست أقدامها، وخفقانه المُرتعب يكاد يصم أذنيها، فقد ترجت لبيبة أن تُخبرها ماذا أصاب يعقوب لكنها التزمت صمتٌ مخيف..
لم تُبالي بألم رأسها ولا برؤيتها المشوشة، فقط تركض ودموعها تتدحرج بسخاء..
هدرت بعذابٍ واصب:-
– مستشفى!! ماله يعقوب .. هو فين .. يعقوب..!
أردفت لبيبة بهدوء:-
– تعالي معايا..
سارت خلفها بركض متلهف حتى وقفت أمام غرفة العناية المشددة، رفعت رأسها ليسقط قلبها إلى سابع الأراضين بعدما لمحت ماهية ما تقف أمامه، ما علاقة هذه الغرفة بيعقوب!!
توسعت أحداقها بدقة شديدة وقد انجلى أمامها من خلف هذا اللوح الزجاجي السميك جسد تحت العديد من الأجهزة الطبيبة ومتصل به مجموعة من الأنابيب الرفيعة الشفافة..
طال سكوتها وعزوفها وقد سكن العالم من حولها بشكل مُخيف، طوفان من المشاعر العاتية يجرفها نحو الهاوية..
تجمدت الدموع على أسطح عسليتيها ورفعتهم نحو لبيبة وشهقة مُميتة تحتجزها داخل جوفها، نظرة وجيعة من أعين رِفقة الصافية كان بها ألف حديث وتسائل..
واكتفت لبيبة بالإجابة بكلمة واحدة كانت كافلة بحدوث خراب عاتٍ بقلبها:-
– يعقوب..
وهنا خرجت شهقة من جوف رِفقة وكأنها شهقة خروج الروح من جسدها، واستدارت مسرعة تتشبث بكفيها فوق الزجاج بينما تُحرك رأسها برفضٍ تام…
اجتُث قلبها من أرضه وتمزقت أوتاره وثباتها أصبح كرمادٍ اشتدت بِه الريح في يومٍ عاصف..
جاء الطبيب فقالت لبيبة بأمر وهي تشير نحو رِفقة:-
– دخلها ليعقوب وخليها جمبه..
كاد الطبيب أن يعترض لكن بنظرة محذرة ابتلع رفضه وأشار للمرضات بتجهيز وتعقيم رِفقة التي هرعت بالركض للداخل لكن أوقفتها الممرضة بلطف:-
– لازم تتعقمي علشان خاطر صحته..
على مضض ارتضت وفور إنتهاءها من التعقيم ركضت للداخل بتوق وتلهف تحت نظرات لبيبة المراقبة بدقة..
داخلها كان مغمورًا بخفقان القلب الجارف فكانت كل خلية من جسدها تنبض بإرتعاش، قابلتها برودة الغرفة الكالحة وهنا تقع أنظارها للمرة الأولى على يعقوب…
عفوًا … هي على بُعد خطوة واحدة لتعلم أنها المرة الثانية وليست الأولى، المرة الأولى كانت منذ سنواتٍ عتيقة ستتذكرها حتمًا..
وقفت أمام جسده الغافي تنظر له بأعين غشاها الدموع وأنظارهم تجري بلهفة على ملامحه المُرهقة..
جلست بركبتيها أرضًا بجانب الفراش وأعينها لم تهبط عنه ثم بأيدي مرتعشة وضعتها فوق يده وهتفت بلوم من بين شهقاتها:-
– كدا يا أوب … وعدتني إن إنت أول واحد هشوفه أول ما أفتح .. وأول مرة أشوفك تكون بالوضع ده ومش حاسس بالدنيا ولا حاسس برِفقة..
بس أنا هنا ومش هسيبك أبدًا يا يعقوب، هتفوق علشان خاطر رِفقة..
رفعت يدها المرتجفة تضعها على جانب وجهه بحنان ثم همست مبتسمة بألم:-
– طلعت أوسم بكتير من تخيلي يا أوب…
ولم تُكمل حديثها فقد قاطعتها تلك الذكرى العتيقة من الماضي البعيد..
تلك الملامح تعرفها جيدًا، تلك الملامح المشوشة قد مرت مشوشة على عقلها قبل ذلك..
عادت بذاكرتها إلى تلك الذكرى الأليمة بعدما تلقت ضربة عنيفة خلف رأسها أسقطتها أرضًا على بُعدٍ من والديها السابحان بدماءهم..
كان الرجل على وشك أن يطعنها طعنة نهائية لكن جعلهم يفرون صوت قدوم سيارات..
كانت ممدة بألم لم تقوى على الحركة تستمع لأنّات والديها ونادئهم المتقطع باسمها..
شعرت بأصوات سيارات تتحرك من حولها تبعها صوت أقدام وأحاديث بسرعة قدوم الإسعاف..
توقفت سيارة يعقوب وخلفها سيارة لبيبة بدران التي تتبعها سيارات رجال الأمن…
هبط يعقوب مسرعًا وأول ما قابله وسط الظلام الذي يتخلله ضوء السيارات .. هذه الفتاة المُلقاه أرضًا…
جثا مُسرعًا بجانبها لتتعلق أنظار رِفقة المُشوشة به وأنفاسها متسارعة تحاول إلتقاطها وصدرها يعلو ويهبط..
كان وجهها شاحب به ذعر لم يره بحياته..
حمل رأسها برفق فوق ساقه لتتشبث به وتقبض على قميصه بقوة رغم هوانها، التصقت أنظارها بوجهه وهمست بضعف وتعسر وقلبها يأكله الرعب على والديها:-
– متسبناش…
كان هذا أخر ما رأته بعدما فقدت أنظارها لسنواتٍ عديدة..
أسرع يعقوب ينحني وحملها ثم وضعها بسيارته والتفت نحو لبيبة التي أخذ رجالها يحملون يحيى ونرجس بداخل السيارة الأخرى ولم يتمكن وقتها من رؤيتهم والاطمئنان عليهم فقد تأكد أنه تم إنقاذهم هم أيضًا..
قالت لبيبة مسرعة:-
↚
– بسرعة على المستشفى يا يعقوب، وإحنا وراك…
حرك رأسه بإيجاب وقاد مسرعًا حتى تم تسليمهم إلى المشفى وتكفلت لبيبة بجميع تكاليف علاجهم..
ترقبت لبيبة حتى تأكدت من سلامته وخرج الطبيب لتتسائل:-
– هما كويسين يا دكتور..
قال الطبيب بإحترام:-
– البنوتة إللي كانت معاهم في القسم التاني..
والسيدة عندها رضوض والطعنة موصلتش للأعضاء يعني مفيش خسارة بالنسبة للسيدة وزوجها..
حالتهم مستقرة بس هما مش قابلين يرتاحوا وعايزين يروحوا لبنتهم..
حركت لبيبة رأسها ثم ولجت للداخل فترى نرجس المنهارة وزوجها الذي يحاول الوقوف، وفور رؤيتهم لها قال والد رِفقة برعب:-
– بنتي فين .. بنتي كويسة..
قالت لبيبة بهدوء:-
– كويسة .. الدكتور بيقول إنها بخير بس هي في قسم تاني، براحتكم هي معاها فريق كامل يعتني بيها ومتخرجوش ألا ما تكونوا بخير..
قالت نرجس بإمتنان:-
– الله يجازيكِ خير .. مش هننسى إللي عملتيه علشانا أبدًا .. إحنا مديونين لكِ بروحنا..
أيدها يحيى وقال:-
– ربنا بعتك لنا في الوقت المناسب يا مدام ودينك في رقبتنا ليوم الدين…
شكرًا جدًا لكِ..
رددت لبيبة باقتضاب:-
– الحمد لله على سلامتكم..
وخرجت ليقابلها يعقوب الذي تلوث قميصه الأبيض بدماء رِفقة، طالعته بلهفة متحسسه جسده وهتفت:-
– يعقوب إنت كويس .. إنت انجرحت..
قال وهو يسير للخارج:-
– لأ .. أنا كويس .. دا دمها..
والدها ووالدتها بخير..
– أيوا بخير وفاقوا .. والبنت كويسة..؟
– أيوا الدكتور بيقول حالتها مستقرة بس لسه مفاقتش..
– طب يلا بينا .. إحنا عملنا إللي علينا هما كدا في أمان.
عادت رِفقة إلى أرض الواقع بصدمة لم تكن بالحسبان، توسعت أعينها واندفعت نحو يعقوب تتحسس وجهه بعدم تصديق وهي تُردد ببكاء:-
– معقول .. إنت نفسك .. يعني إنت إللي أنقذتني اليوم ده .. أيوا أيوا أنا فاكره الملامح دي..
بس إنت مش فاكرني يا يعقوب … للدرجة دي ملامحي اتغيرت من وقتها .. أيوا أنا من وقتها مشوفتش نفسي لغاية دلوقتي..
اقتربت منه تحتضنه وهي تضع رأسها فوق صدره وأخذت تقول:-
– إنت لازم ترجع يا أوب، مش تنسى وعودك ليا، لازم ترجع علشان تفي بالوعود دي..
مش وعدتني إنك هترجعلي بايا وماما .. وعدتني بكتير وإنت دلوقتي نايم هنا حتى مش بترد عليا ولا راضي تفتح عينك..
بس أنا هنا مش هسيبك لغاية ما ترجع .. أنا مش هسيبك أبدًا وهفضل أدعي ربنا وأنا واثقة إن مش هيرد إيدي أبدًا..
أنا كنت واثقة إن أوب مستحيل يسيب رِفقة أبدًا..
اختلج الذي في صدرها وارتفعت صوت روحها وهي تتكلم من العين بهذه المعاني السائلة التي نسميها دموع..
ولج الطبيب ليقطع تحدثها معه وقال بعملية:-
– لو سمحتي يا مدام كفاية كدا النهاردة وغلط إللي بتعمليه ده … لازم نتكلم بخصوص حالة يعقوب باشا..
ابتعدت باضطراب عن يعقوب فأشار لها الطبيب حيث باب الخروج لتقول رِفقة برجاء:-
– ممكن بس تخليني جمبه وأنا بوعدك مش هعمل أي حاجة تضره..
كانت لبيية تقف ثابته أمام اللوح الزجاجي الشفاف تشاهد ما يحدث بالداخل بأعين فائضة بالذكريات الحنظلية..
لكن فور أن لاحظت الطبيب تحركت ودلفت للداخل وهدرت بحسم وثبات:-
– هي مش هتسيب يعقوب ومش هتتحرك من جمبه أبدًا .. وجودها هنا هيحسن حالته..
استفهمت رِفقة بألم:-
– حالته!! هو يعقوب ماله وأيه إللي حصله..!
شرح الطبيب بهدوء:-
– يعقوب باشا دخل في غيبوبة نفسية، وحابب أقول لحضراتكم بعض التعليمات المهمة..
المريض في الغيبوبة بيبقى حاسس بكل حاجة حواليه وبيفهم كل الإشارات..
اتكلموا معاه واحكيله عن أحداث يومكم، امسكوا إيده ولو في عطر مُعين أو ريحة بيحبها ياريت تكون جمبه..وتعرفوه على نفسكم..
هو دخل في حالة كُره العودة للحياة ومش بيستجيب لأي مؤثرات طبية، يبقى إحنا مش قدامنا ألا إننا نرجعه بمؤثرات نفسية، يعني أتمنى السبب إللي اتسبب ليه في الحالة دي يتلاشى وينتهي..
أنا مش بمانع وجود مدام رِفقة بالعكس دا وجودها هيفيده جدًا، لازم يكون حواليه الأشخاص إللي بيحبهم..
لم تستوعب رِفقة ما يقوله الطبيب، فكلماته كانت كأثقال الجبال جثمت على قلبها، كررت بعدم فهم:-
– غيبوبة!! وكره العودة للحياة … أيه الكلام ده!!
↚
خرجت وهي تلتفت من حولها بصدمة جمدت أطرافها لتجد سيدة مفترشة الأرض وبجانبها رجل يبدو أنه زوجها، تبكي بمرارة وهي تردد اسم يعقوب، علمت على الفور أنها والدة يعقوب ومن بجانبها والده..
وعلى الجانب الأخر يقف شاب فور أن رأها بصحبة لبيبة ركض تجاهها بلهفة ولم يكن سوى كريم الذي قال بقلق:-
– مدام رِفقة إنتِ كويسة.!!
ابتعدت لبيبة عنها والتزمت مكانها أمام اللوح الزجاجي بينما تسائلت رِفقة بحذر:-
– إنت مين..!!
قال كريم:-
– أنا صاحب يعقوب وبشتغل معاه، يعقوب كان كلمني وإنتِ في المستشفى علشان تبقي تحت حمايتي..
هو غصب عنه .. كان لازم يختارك، هي أجرته يعمل كدا وهي السبب في حالته دي..
وأخذ يسرد لها ما حدث، وسبب ترك يعقوب لها، وما حدث ليعقوب من بعد ذلك…
التفتت تنظر للبيبة ذات الوجه المغلف بالصمت وقد انبجست عبرات رِفقة من محاجرها..
اقتربت منها وقالت بقوة:-
– ليه كدا … أيه سبب الكره ده كله .. استفادتي أيه لما وصلتيه لكدا!!
ليه مصعبة الدنيا كدا، إنتِ مفكره إنك كدا بتحبيه، فين الحب في كدا…!!
حبك الأناني وصله لأحضان الموت يا لبيبة هانم، يعقوب لو حصله حاجة هيفضل ذنبه برقبتك..
وتركتها رِفقة ودلفت للداخل ولم تُحرك للبيبة ساكن إلا أنها تحركت للطابق الأسفل لمقابلة الطبيب وأثناء سيرها تقابلت مع يامن الذي يقف أمام أحد الغرف بقلق..
توقفت لتتسائل بتعجب:-
– أيه موقفك هنا..
قال بوجه شاحب قلق:-
– يعقوب حصله حاجة .. أنا كنت جاي حالًا..
تنهدت وأردفت بهدوء:-
– مفيش حاجة حصلت يعقوب بخير..
إنت هنا بتعمل أيه..!!
مسح على وجهه وقال بتعب:-
– وأنا جاي على الطريق بعد ما عرفنا إللي حصل ليعقوب خبطت اتنين شكلهم تايه وهما بيعدوا الطريق … ولولا إن ضربت فرامل أخر لحظة خففت السرعة كان زمانهم خلصانين..
تسائلت هي بهدوءها المعتاد:-
– وهما كويسين ولا أيه حصلهم..
ضغط يامن على جسر أنفه بإرهاق وقال بتيهة:-
– عندهم كسور ورضوض وجروح، بس الست حالتها وحشة ومنهارة وبتصرخ إنها عايزه بنتها والدكتور بيقول إنها مريضة قلب وعندها عملية لازم تتعمل بس هي رافضة..
أنا مش عارف أعمل أيه وخصوصًا إنهم شكلهم ناس متبهدلين وشكلهم تايه لا يعرفوا أماكن ولا معاهم أوراق شخصية..
أعمل أيه يا جدتي قوليلي..
كانت نبرة يامن نبرة مستغيثة حركت كل مشاعر لبيبة فرمقته نظرة تطمئنه بها، ثم قالت وهي تسير تجاه الغرفة:-
– طب وديني لهم .. أنا هحل الموضوع..
ولجوا للغرفة لكن فور أن وزعت لبيبة أنظارها ووقعت عليهم نطقت بدهشة:-
– إنتوا..
تمعنت بها نرجس قليلًا هي ويحيى المتمدد فوق الفراش وسرعان ما نطقت نرجس:-
– مدام لبيبة…
وزع يامن أنظاره بينهم بتعجب وهتف:-
– هو إنتوا تعرفوا بعض..!
جذبت لبيبة أحد المقاعد وجلست بهدوء ثم أدرفت:-
– إنتوا متبهدلين ليه كدا وأيه وصلكم لهنا..
تنهد يحيى بثقل ثم قال بأعين غائمة بالحزن وقلب ثقيل بالهموم:-
– إحنا ضحايا الغدر يا مدام لبيبة، حصلت معانا حاجات مش هتصدقيها..
بعد يوم الحادثة وكل حاجة في حياتنا اتقلبت..
مش عارف أقولك أيه ولا أيه..
رددت نرجس بسعادة وأعين باكية بينما تضع يدها فوق قلبها تمسد عليه:-
– بس شوف يا يحيى بعد كل السنين دي نقابل الست لبيبة صدفة زي المرة الأولى..
أكيد دي مش صدفة يا يحيى، دا ترتيب ربنا أنا واثقة من كدا … أنا واثقة من كل الأقدار إللي ربنا كتبها لنا..
على الأقل حد نعرفه وهي ست خير وأكيد هتساعدنا نلاقي بنتنا…
رغم انشغال عقلها الكُلي بيعقوب لكن شيء بداخلها يجذبها ويجترها لأن تستمع إليهم، أدرفت بثبات جعل أعين يامن تتسع بصدمة وهو يتعرف على جانب أخر من جدته بخلاف القسوة والبرود كان يجهله تمامًا بل لم يتوقع وجوده من الأساس:-
– احكوا أنا سامعة..
شرع يحيى في قصّ ما حدث من بعد يوم الحادث الأليم:-
– بعد ما أنقذتينا في اليوم ده والشاب إللي كان تبعك أنقذ بنتي..
وبعد ما رِفقة فاقت للأسف فقدت البصر..
إلى هنا توقف الإدراك لدى لبيبة وكررت وقد نشبت التساؤلات بداخلها:-
– فقدت البصر …. ورِفقة..
↚
واصل يحيى سرده وهو يُحرك رأسه بأسف:-
– للأسف بنتي رِفقة فقدت البصر، وعدت فترة صعبة جدًا علينا لغاية ما تأقلمت..
كنت أنا وأم رِفقة نفسنا في الحج وكنا مقدمين وربنا كرمنا وجاتلنا، بس ساعتها قولنا بلاش ومش هنطلع بس رِفقة أصرت علينا وساعتها قالتلنا روحوا وادعولي هناك..
كان عندي حتة أرض من ورثي والحمد لله ربنا كرمنا وبعتها بمبلغ كبير، حطيت مبلغ منه في حساب لرِفقة، ومبلغ طلعنا بيه الحج، وسيبنا مبلغ في شقتنا في مكان ميوصلوش حد، ومبلغ خدناه معانا علشان نشتري هدايا للكل ونفرح الجميع ونصرف منه..
مكانش حد يعرف بكل ده ألا الناس القريبة مننا زي الحاج عاطف أخو نرجس ومراته، وبصراحة دول أهلنا ونأمنهم على روحنا علشان كدا لما جينا نسافر سيبنا رِفقة عند الست عفاف لأنها كانت بتحب رِفقة أووي زيها زي بناتها استأمنها على بنتنا وبيتنا وكل حاجة..
وسافرنا واتحركنا للمطار بليل بس في طريقنا حصل إللي عمرنا ما تخيلناه ولا توقعناه..
العربية إللي كنا مسافرين بيها والسواق إللي كان بيوصلنا للمطار وإللي كان عن طريق الست عفاف لقيناه بيروح بينا على مكان مقطوع واتفاجئنا إننا مخطوفين ولقينا زي ما يكون عصابة كدا مقبلاه واستفردوا بينا وسرقوا فلوسنا وبهدلوني أنا ونرجس ووقفت عاجز إن أحمي مراتي، حسبي الله ونعم الوكيل يارب … ربنا ينتقم من كل ظالم..
بس إللي كسرنا لما سمعونا صوت صريخ بنتي وصوت رصاص من بعده انقطع صوتها وقالولي إن بنتكم كمان انتهت معاكم وإننا كدا كدا ملناش حد ومفيش حد هيسأل عليكم فحبينا نريحكم ونريح بنتكم وإحنا أولى بالفلوس..
دمرونا علشان الفلوس إللي مش عارف هما عرفوا بيها إزاي..
كان يامن يقف خلف جدته يستمع إلى إنعدام الرحمة والإنسانية والدين لدى من فعلوا ذلك وبالكاد احتجز دموعه وهو يرى القهر المرتسم على وجه هذا الرجل والدموع التي أغرقت وجهه، بسنوات عمره لم يرى هذا الترتيب الرباني واستجابة الدعاء مثلما رأى اليوم، فهو حقًا لا يمتلك هذا اليقين والثقة..
فلقد ساقه الله وساق يعقوب وساق لبيبة ورِفقة ذاتها لتجتمع الأم ذات القلب المكلوم والأب ذا الروح النازفة بابنتهم التي يعتقدون موتها..
وذلك إستجابة لنداء ورجاء مشبع بالرضا واليقين وحُسن الظن صرخوا به إلى رب وملك السموات والأرض جاءت إجابته بترتيبات بها من الرحمة والرعاية أطنان قد أعادت جميع الموازين لوضعها الصحيح واعتدل بها مسار الطريق والحكاية..
ابتلعت نرجس ريقها ومسحت وجهها ثم التقطت خيط الكلمات من زوجها لتُكمل نسج الحكاية:-
– ساعتها أسودت الدنيا في عينا ودخلنا في حالة من الصدمة وفقدان الواقع، أنا دخلت في غيبوبة معرفش لمدة كام شهر ويحيى حالته مكانتش أحسن مني..
بس رحمة ربنا كانت كبيرة، لما سابونا مرميين على الطريق وأخدوا مننا بطايقنا بس هما نسوا سلسلة كانت في رقبتي كان يحيى جايبها ليا في جوازنا، قلب نصّ مكتوب جواه يحيى والتاني مكتوب فيه اسمي نرجس، وإلا مكانش حد عرف اسمنا لأننا كان مُغيبين عن الواقع والصدمة خليتنا نفقد جزء من الذاكرة بس أنا إللي اتأثرت زيادة بالموضوع ده..
وكان في ناس لقيتنا على الطريق ونقلونا لدار رعاية لما معرفوش عننا حاجة..
هناك عشنا عايشين ومش عايشن كنت زي إللي مش حاسة بأي حاجة حوليا، زي الميتة، وربنا يشهد صاحبة دار الرعاية والناس إللي شغالة فيها كانوا ناس لطيفة قد أيه، ربنا يجازيهم خير يارب على إللي عملوه، لغاية ما اتكفل بينا شاب اسمه يعقوب … ربنا يجبر بخاطره وينجيه في كل خطوة في حياتي ويسعده ويحققله كل إللي بيتمناه ويجعل الخير إللي عمله معانا سفينة نجاة من كل سوء… اتكفل بينا والإهتمام بينا زاد، دكاتره ولبس على أعلى مستوى، غير إن كان بيجي يقضي معانا وقت ويكلمنا ويحكلنا ورغم إننا مكوناش بنتفاعل معاه ولا حتى بنرد عليه، لكن كنت بسمعه بقلبي وكنت بحبه أووي ومعتبراه زي ابني … بس كان بيبقى غصب عني..
ويمكن بسببه اتحسنت حالتنا..
لغاية ما جه يوم يشوفنا بس قبل ما يمشى صرخ باسم رِفقة ساعتها وكأن كان شريط ذاكرتي ضايع وفي ثواني حسيت بكل حاجة قدامي، كأن كانت حاجة تايهة مني ولقيتها … وفعلًا كانت هي رِفقة إللي تايهة مني ورجعت لعقلي بس هي كانت في قلبي مخرجتش منه..
ساعتها حسيتها إشارة من رب العالمين لنا، وهربنا من الدار وقولنا لازم نلاقي رِفقة، بس مقدرناش نوصل لبيت أخويا عاطف..
لسه تركيزنا وكل الذكريات الخاصة بالعناوين والأرقام والكلام ده كله مفقود، لغاية ما الأستاذ ده خبطنا بعربيته وإحنا بنعدي الطريق وجينا على هنا..
في قريرة نفس لبيبة تعلم مَن المجرمة المتسببة في كل ما حدث، وتيقنت أنهم هم والدي رِفقة، لكنها قالت بثبات:-
– طب أنا مسؤول مني أوصلكم ببنتكم، والمطلوب منكم تكونوا بخير علشان لما ترجعلكم ميبقاش في أي عقبات وتقدروا تعيشوا مع بعض..
وجهت حديثها لنرجس:-
– أنتِ لازم تعملي العملية وترجعي أحسن من الأول وتقعدوا فترة نقاهة والأفضل نفسيتكم تتحسن..
ومن غير إعتراض، ودا وعد مني إن في أقرب وقت بنتكم هتدخل عليكم من الباب ده..
ارتعش جسد نرجس وهمست بدون تصديق:-
– أنا مش عارفة هنرد معروفك ده إزاي، إنتِ في كل ضيقه ربنا بيبعتك لنا، دي مش أول مرة تنجدينا .. أنا مش هنسى وقفتك جمبنا دي يا مدام لبيبة، ربنا يجعلك دايمًا سابقة للخير..
قال يحيى بأُنفة وترفع:-
– دا دين في رقبتنا يا مدام لبيبة أول ما نخرج من هنا وأمورنا تتحسن هنردلك دينك، إنتِ كتر خيرك..
واتجهت أنظاره نحو يامن وقال:-
– وإنت يا ابني ربنا يسهلك طريقك إحنا مسامحينك وبردوه في غلط علينا..
ردد يامن بمرح تجاوز به صدمته بجدته:-
– أنا على فكرا أبقى حفيدها..
قال يحيى بترحاب:-
– يا محاسن الصدف ويا مليون أهلًا وسهلًا بيك يا ابني..
بعدما خرجا لم يتمهل يامن وأردف بلهفة:-
– إزاي ….إزاي إنتِ مش قولتلهم على بنتهم وإنها في الدور إللي فوقيهم!!
أوعي تكوني هتمنعي لقاءهم..
اكتفت بالصمت ولم تُجيب وصعدت للأعلى لتجد أن الحال مازال كما هو..
رِفقة تجلس بجانب يعقوب لتقف تشهدها وهي تُصلي بجانبه وأخذت تدعو الله بإلحاج ورجاء ووجها يقطر دموعها..
ثم جلست بجانبه ممسكة المصحف وأخذت تتلو من كتاب الله وهي ممسكة بيده بينما تبتسم بثقة وأعينها تقطر عشقًا…
وقفت فاتن بجانب زوجها تنظر نحو يعقوب من الداخل ابتمست فاتن من بين دموعها وقالت بيقين:-
– يعقوب هيفوق يا حسين … أنا واثقة من كدا، عندي يقين بالله كبير وكمان رِفقة جمبه مش هتسيبه…
وافقها حسين بلهفة وردد بثقة:-
– هيرجع … هيرجع يا أم يعقوب وهعوضه عن كل إللي فات..
انسحبت لبيبة من بينهم بصمت حتى وصلت لشُرفة منعزلة، وقفت تنظر للفراغ بصمت وأعين رغم برودها إلا أنها باهتة قد خفت واختفى منها حب الحياة..
هي المُلامة كدائمًا .. أصابع الإتهام نحوها كما كانت أصابع السخرية قديمًا…
أخرجت دفتر مصفر اللون تلمسته برقة بيدها التي غزتها التجاعيد لتُهاجمها ذكريات امتقع لها وجهها بالألم وابتلعت غصة مريرة وهي تتنفس بتكرار كي لا تنهار وتسقط…
أصوات تدور برأسها … أصوات ضحكات صاخبة ساخرة مرددة بجميع الكلمات الساخرة اللاذعة..
فتاة ضعيفة البدن صماء بكماء قد وقعت فريسة نفوس مريضة ناتجة عن ثقتها وطيب قلبها الذي أوصلها حد السذاجة..
كانت مرحة، مُحبة للحياة، لا تنطفئ الإبتسامة من فوق فمها..
وثقت في أصدقاء رسموا لها الوفاء لتُطعن على يد قارئ الحياة لها .. على مَن كان الأذن التي تسمع بها … واللسان الذي تتحدث به..
جاءت به كي لا تُضل فأضلها وألقاها في غيابة الجُب..
مَن أهدته قلبها وروحها ولُبها وأوهمها هو أنها له كل ذلك..
صوت بكاءها المكتوم وهمهاتها التي لا تُفسر وهي تترجاهم بأعينها وهم يسحبونها يقيدونها ويضعون عِصابة فوق أعينها يحجبون الرؤية وهي بكماءٌ صماء وألقوها في أحد الأبار الخالية المهجورة..
فأصبحت في وسط الدُجنة عاجزة قد فقدت جميع الحواس..
الحركة … السمع … الرؤية … والصراخ لأجل الإستغاثة، فقط تذرف دموع غير مرحومة…
لقد حملت جميع معاني العجز وأتاها غدرها من مأمنها.
لقد ثكلوا حتى معنى الإنسانية..
فكتبت في رأس مذكراتها…
“لقد تكبكبوا عليّ دون رحمة لأجل أني صماءٌ بكماء..”
سحبت قلمها ثم نقشت بهدوء…
↚
“لقد خشيت فقط أن يحلّ بالعمياء ما حلّ بالصماء البكماء …لقد خشيت أن يحلّ بها ما حلّ بي، أردتُ إبعادها عن كل معاني الغدر، وإبعاده عن كل معاني الخذلان؛ لتيقُني أن الغدر مدفون بجميع الأرواح واجتثاث تلك النبتة الساذجة التي تسمى ثقة من معجمي وداخلي منذ ذاك اليوم…”
________بقلم/سارة نيل_______
ضافت في دفترها الرقم خمسة وأربعون “45” ووضعت من حوله دائرة، فهذا اليوم الخامس والأربعون على نوم يعقوب..
أدت صلاة الفجر وأخذت تتلو سورة البقرة كعادتها كل يوم، فمنذ اليوم الأول لنومة يعقوب التي طالت فهي تلتزم بروتين خاص يبدأ بقراءة سورة البقرة يوميًا بجانبه وترديد الأذكار عقب صلاة الفجر في الصباح الباكر..
وضعت المصحف برفق فوق وحدة الأدراج بجانبه ثم أخذت تُبعد الستائر التي حرصت على تغيرها من الخاصة بالمشفى إلى أخرى ذات ألوان زاهية موشومة بالورود..
غمر ضوء الصباح النقي الغرفة، لتجلس بجانب يعقوب ممسكة بإناء به القليل من الماء تغمر به قطع القطن ثم تمسح بها وجه يعقوب وانحنت تُقبل جبينه وهي تبتسم باتساع قائلة بنشاط:-
– صباح الورد والفل وخير الدنيا كله على أوب حبيب قلب رِفقة…
أخذت تمسد على شعره وهي تتحدث بتفائل ويقين:-
– مش عارفة ليه قلبي حاسس إن النهاردة هتحصل حاجات حلوة أوي يا أوب..
أنا عارفة إنك سامعني وحاسس بيا، وأنا واثقة إنها فترة إنت بترتاح فيها وهترجع..
ماما فاتن وبابا حسين ويامن وكريم وعبد الرحمن كلهم بيجولك وبيتكلموا معاك كل يوم…
تعرف كمان أنا بقيت أشوف كويس أووي الحمد لله، بروح أحط أكل لرِين وأجيب هدوم وأرجع جمبك عالطول..
أنا غيرت جو الأوضة دي خالص يا أوب، إللي يشوفها دلوقتي مش يصدق إنها أوضة في مستشفى، غيرت ستاير المستشفى الكئيبة وفرش السرير والكراسي والزينة وكل حاجة، لما تفوق هتنبهر بيا…
والأحلى من كدا إن ختمت القرآن على أسماعك مرتين، وقرأتلك كتابة (لا تحزن) أيوا الدكتور أكد ليا إنك بتسمع وبتحس بينا وبتميز الروايح إللي بتحبها..
وعند تلك النقطة شرد عقلها في هذا اليوم عندما كان يتمدد واضعًا رأسه على فخذها وهي تسأل بينما يُجيبها…
وقتها تسائلت بصوتها الهادئ:-
– قولي يا أوب .. أكتر ريحه بتحبها أيه، يعني ريحتك المفضلة..
اتكأ واقترب منها يشتم رائحتها بنهم ثم قال بصدق وعشق:-
– ريحتك يا رِفقة … ريحة الطهارة المنبعثة منك، ريحتك هي بقت هوسي ونهمي، ريحة برائتك ونقاءك ده…
ابتسمت رِفقة بعشق على كلماته الصادقة واقتربت منه تحويه بأحضانها وهي تهمس بغصة باكية:-
– أنا هنا يا يعقوب .. أنا جمبك وريحتي مش بتفارقك ولا لحظة … ليه مش راضي ترجع ليا..!
ابتعدت تنظر له وهي تتحسس وجه بحنان ثم قالت:-
– بس أنا واثقة إنك هترجع وهتفوق، واثقة وعندي يقين، قلبي مليان يقين بالله، لأن دعيت بكل يقين وواثقة إن الإستجابة قريبة مني..
لكن تزلزل فؤادها وهي ترى خطان من دموع يعقوب يهبطان من نهاية عينه المغلقة نحو أذنه، هرعت أصابعها تمحيهم بحنان قائلة ببكاء وهي تضع جبينها فوق جبينه:-
– والله كل حاجة بخير يا يعقوب .. أنا هنا جمبك..
وخرجت مسرعة تنادي الطبيب بلهفة تخبره عن هذا التطور..
قابلها لتقول مسرعة:-
– دكتور .. دكتور في حاجة مهمة حصلت..
استفهم بقلق:-
– خير يا مدام رِفقة، يعقوب باشا حصله حاجة..
أجابت مسرعة:-
– لا .. لا … يعقوب بخير … بس في دموع، عينه نزل منها دموع..
ابتهج وجه الطبيب وردد بسعادة واطمئنان:-
– دا مؤشر كويس جدًا جدًا..
دا بيدل إن يعقوب باشا عنده مقدار من الوعي وحاسس بإللي يحصل حوليه ولو كان نسبة بسيطة، يعني هو مستجيب للمؤثرات إللي حوليه..
تنهدت براحة وأخذت تتمتم بامتنان:-
– الحمد لله .. الحمد لله يارب…
ابتسم الطبيب وقال بعملية:-
– هدخل علشان أفحصه الفحص الصباحي..
حركت رأسها بإيجاب ورفعت رأسها للسماء وهي تضع كفيها على صدرها بسعادة وقالت برجاء ويقين:-
– يارب العالمين أنا صابره وراضية وواثقة في عطاءك .. يارب فرح قلبي .. راضي قلبي يا رحيم يا ذا الجلال والإكرام..
شعرت بأحد يقترب منها التفتت لترى لبيبة التي تقف بثبات ومازالت ملامحها مغلفة بالصمود، فتلك الأيام المنصرمة كانت منعزلة على نفسها لا تتحدث مع أحد، فقط تقف خلف الزجاج تشاهد يعقوب وتارة أخرى تدلف للداخل تجلس بجانبه تكتفي بالنظر إليه بصمت ثم تخرج بعدما تُقبل باطن كفه وجبينه..
طالعت لبيبة رِفقة التي ظلت تنظر لها بلطف ونقاء يُذيب قيود القلوب، تنهدت لبيبة ثم أردفت:-
– تعالي معايا..
لم تعد رِفقة تخشاها؛ وذلك لمعرفتها جوهر لبيبة الداخلي الذي لم يستطع أحد الوصول إليه إلى الآن، تعلم أنها تُدثر بداخلها الكثير وتُغلّف حنانها بهذه الطبقة القاسية لتنزوي بها عن الجميع، لكن أعينها تخبرها بالكثير … لا تعلم لماذا تشعر تجاهها بهذا!!
لكن أعين لبيبة تحمل الكثير الذي مسّ قلب رِفقة، حبها للجميع صامت، حنانها وحبها الشديد ليعقوب أصبحت تسترق النظر لتشاهدها معه، وهذه الأيام كانت كفيلة لإخبارها أن أكثر شخص يستحق الثقة وأن تسلم روحك إليه بإطمئنان هي لبيبة بدران…
سارت بجانبها رِفقة بصمت حتى هبطوا للطابق الأسفل، تسائلت رِفقة بإبتسامة وقلبها يخفق بشدة:-
– إحنا رايحين فين..!
وقفوا أمام أحد الغرف ثم بسطت لبيبة كفها أمام رِفقة التي توسعت أعينها بصدمة ودون تردد وضعت كفها فوق كف لبيبة لتسحبها بهدوء ثم دلفت للداخل….
وهنا ….. اسمحوا للعالم أن يتوقف قليلًا حتى تستوعب القلوب ما يحدث…
إنها الأم … إنه الأب … إنهما الغائبان … إنهما نبض الحياة…
نعم مرت سنوات عديدة لكن هذا الفؤاد فؤاد أم، وهذه الروح جزء من روح يحيى وجزء من روح نرجس فكيف للأرواح ألّا تتلائف وتتلاقى وتتعارف حتى وإن تغيرت الملامح…؟!!
لا تعلم كيف خرج هذا الهمس المشتاق من بين بقاع الحناجر بل من بين جدران القلب وبين أوتارها، وهمست رِفقة بصوت مرتعش:-
– ما…ما …. با…با..
↚
________بقلم/سارة نيل________
في الأعلى بين حنايا ذاكرته، صوتها يتغلغل بقلبه تناديه … تبكي .. تبتسم … تتحدث…
وفي الأخير الجملة الرعدية التي انتفض لها كل ذرة بجسده:-
– يعقوب …. رِفقة عشقاك .. رِفقة روحها في روح يعقوب … رِفقة بتحب يعقوب…
وهنا شهق يعقوب بقوة وتوسعت أعينه مُعلنًا العودة للحياة بأربعة أحرف همس بها بإحتياح:-
– رِفقة…..
-“الـــــخـــــــــاتــمة”-
“نحنُ للأبد، نحنُ قصة لا نهاية لها.”
عينيها المتسع حدقتيها توزع النظر بينهم ببطء وقد انبجست الحياة بوجهها المُشرق، تشعر أنها تسير بجناتٍ ألفافًا، احتشدت المشاعر داخل صدرها ورددت بإرتعاش دون تصديق:-
– بابا … وماما … أنا شايفه صح…
بينما نرجس ويحيى استقاما وهما ينظران لها بشوق أعيا قلوبهم، أعينهم تجري على ملامح ابنتهم التي تغيرت كثيرًا، والأعظم من هذا أعينها..
إنها ترى..!!
ارتعشت أقدام نرجس شاعرة أن قلبها يكاد أن يُهاجر صدرها، كررت بجنون وهي تقترب من رِفقة تُسرف في النظر إلى كل قطعة بها ويديها المرتجفة كورقة يابسة يتلاطمها الماء امتدت لملامسة وجهها:-
– رِفقة .. بنتي حبيبتي .. قولتلك يا يحيى هي عايشة … قولتلك عايشة … أنا قلبي كان حاسس أنا كنت واثقة إن ربنا مش هيخذلني .. مش هيخذلني أبدًا..
ربنا مخذلنيش يا يحيى .. ربنا مردش إيدي خايبة…
هبطت دموع رِفقة أفواجًا وهي تتأمل والدتها ورفعت يدها دون تجمجم تتحسس والدتها وهي تردف من بين بكائها:-
– ربنا مخذلناش يا ماما … ربنا مخذلنيش أنا كمان .. حاشاهُ .. حاشاهُ … حاشاهُ..
أنا كنت واثقة … والله كنت عارفة…
وإلى هنا انسحبت كل المسافات وغمرتها والدتها بعناق بعد فراق سنوات مريرة، تحتضنها بقوة وكأنها ماء سيتسرب من بين أصابعها، امتزج صوت بكائهم فاقترب يحيى يغمرهم بأحضانه ولم يستطع تماسك نفسه من البكاء وظل يُردد بينما يُقبل رأس رِفقة بحنان قائلًا بحمد وامتنان:-
– اللهم لك الحمد يارب لك الحمد يارب العالمين..
يا حنان يا ذا الجلال والإكرام يا ملك الملوك … يا ملك الملوك…
أصبحت رِفقة الآن بين والديها تحاوط والدها بذراع ووالدتها بذراع وهم يحاوطنها متشبثين بها ببأسٍ شديد..
همست وهي تنعم بهذا الدفء الذي حُرمت منه لسنوات، هذا التحنان التي لم تتذوقه بعد رحيلهم منذ سنوات إلا عندما جاء يعقوب، لكن أي شيء يُقارن بهذا الذي هي به الآن..
– بابا .. ماما .. كنت عارفة إنكم هترجعوا، وحشتوني أووي يا غاليين على قلبي، كنت من غيركم غريبة … غريبة ولوحدي..
انتظرتكم كل يوم وكل ساعة وكل دقيقة وكنت واثقة إنكم هترجعوا..
وبعد ما يقارب العشرون دقيقة ابتعدوا عن بعضهم أخيرًا فأخذ والدها يُقبل رأسها بحنان بينما والدتها تربت على ظهرها برِفق..
نظرت لهم رِفقة بإبتسامة واسعة لتقول بحماس وهي تدور حول نفسها:-
– أنا النهاردة أسعد يوم في حياتي …معتدش محتاجة أي حاجة من الدنيا دي..
ثم انحنت تضع جبينها فوق الأرض تسجد سجدة شُكر مطولة تبعها كلًا من نرجس ويحيى..
رفعت رِفقة وجهها ثم نظرت لهم مرةً أخرى بتأمل فهي إلى الآن لا تصدق ما تراه ولا ترتوي من رؤيتهم..
ألقت نفسها بأحضانهم بمرح لترتفع ضحكتاهم السعيدة والآن قد انبثق الفجر الحق..
كانت لبيبة تشاهد الموقف بثبات لتبتسم بخفة بحنين وقد ازدهر هذا الشوق الذي بداخلها والذي لا يخفت بتاتًا…
والدها الحبيب، صاحب القلب الحاني، مَن كان لها كل شيء … كان لها كل الأشخاص..يعقوب بدران.
صوته ذو النبرة المُميزة الذي يتردد صداه بقلبها قبل أذنها وهي فتاة في العشرون من عمرها بينما يكتب لها وهو يحتضنها بحنان وهي تبستم بسعادة وكأن الدنيا قد حِيزت لها…
“يا بيبا إنتِ فرحة عمري وأيامي.. إنتِ حَبة قلب أبوكِ يا بيبا … بكتبلك إللي بقوله وبقول الكلام بلساني كمان وبصوتي علشان عارف إنك سمعاه بقلبك .. أكيد لسه فاكره صوتي ولسه بيتردد في قلبك وعقلك .. روحي فدا إنك ترجعي تسمعي وتتكلمي تاني يا بنتي … متخافيش يا لبيبة أبوكِ معاكِ وفي ضهرك ومش هيسيبك أبدًا وهترجعي تسمعي وتتكلمي تاني يا نور عيني..”
خرجت من شرودها على نرجس التي اقتربت منها ثم فجأة احتضنتها وهي تقول باكية:-
– ربنا يجبر بخاطرك ويريح بالك ويجازيكِ كل الخير على إللي عملتيه معانا … أنا مش هنسى وقفتك دي .. إنتِ زي الملاك إللي ربنا بعته لنا، من يوم ما عرفناكِ وإنتِ بتخرجي لنا فأكتر المواقف ضيق لما بتكون كل الطُرق اتسدت في وشنا … هفضل أدعيلك عمري كله..
تعجبت رِفقة من هذا الموقف ثم هتفت بتسائل:-
– هو إنتوا تعرفوا لبيبة هانم..
أجابها والدها وقال بإمتنان:-
– عِز المعرفة … فاكرة يوم الحادثة لما قولنالك إن في واحدة أنقذتنا … هي مدام لبيبة وحفيدها..
وهي نفسها إللي جمعتنا بيكِ…
وأخذ يسرد لها ما حدث لهم منذ أن رحلوا عنها ووجودهم في دار الرعاية وإهتمام يعقوب بهم ثم هروبهم بعد اليوم الذي استمعوا فيه لاسمها على لسان يعقوب… واصتدام يامن حفيد لبيبة بهم ثم مجيئهم إلى هذه المشفى وتكفل لبيبة بهم من الناحية الصحية ووعدها لهم بأنها ستجمعهم بابنتهم المفقودة..
كان والد رِفقة يسرد لها بينما هي أنظارها مُعلقة بلبيبة التي تحاشت النظر إليها، كانت تعلم أنها ذا معدن نقي جدًا، تعلم أن خلف هذا القناع الصلد الكثير من الألآم التي مهما تفاقمت لا تستطع أن تُدثر المعدن الحقيقي النقي..
لقد خرج حُلم رِفقة السعيد من تحت النوم إلى اليقظة..
لكن ما هذا الترتيب الرباني المغمور بالرحمة، حتى في أعظم أحلامها لم تكن تعلم أن الأمر سيكون بهذا الجمال، حقًا من توكل على الله كفاه وأغناه وكان حسبُه وأتاه من حيث لا يُحتسب..
نعم لقد أتاها الله من حيث لا تتوقع، وعن طريق أخر شخص تتوقعه … لبيبة..
↚
انتفض قلبها بسعادة وهي لا تُصدق أن كل هذه السنوات كان والديها أمام يعقوب، هذا اليوم الذي ذهبت به إلى دار الرعاية كان والديها أمامها، هذا اليوم أخبرتها الفتاة المسؤولة أن يعقوب يتكفل برجل وزوجته ويأتي إليهم بين الحين والآخر، بينما كان يعقوب يبحث عنهم لأجلها، ويبحث لهذا الرجل وزوجته عن أقاربهم كانوا هم نفس الأشخاص…
يعقوب لم يترك والديها كما رجتهُ منذ سنوات، حتى وإن لم يكن يعلم أنهم هم لكنه لم يتركهم..
رددت وعقلها لا يستوعب هذه الحقائق:-
– لما عملنا الحادثة أنقذني وفي نفس الوقت جدته أنقذت أهلي إللي مشفهمش اليوم ده..
وبعدين أقابله بعد سنين ويكون منقذي للمرة التانية هو معرفنيش علشان شكلي اتغير وأنا مش عرفتوا علشان مكونتش بشوف..
وأكيد لما حكيت ليه عن الحادثة افتكرني..
وبعدين ربنا يوقع أهلي في طريقه وهو ميعرفش إنهم نفس الأشخاص إللي أنقذوهم وإنهم نفسهم بابا وماما إللي بيدورلي عليهم، وإن أنا بنتهم وأهلهم إللي بيدورلهم عليهم..
واتخطف اليوم ده ولولا الخطف ده مكانش صرخ باسمي وأهلي فاقوا وهربوا من المكان علشان عربية أخوه تخبطهم وهما رايحين ليه بعد ما عرفوا بإصابته إللي بسببها اتجمعنا كلنا هنا..
ولولا تهديد لبيبة هانم وانهيار يعقوب مكانش يامن جه المستشفى ولا عدا الطريق ولا أنا كنت جيت هنا…
أيه الترتيب ده، أيه الرعاية دي يارب، أيه الرحمة دي..
دي مش افترضات .. ده ترتيب رب العالمين وأقداره إللي كلها خير، دا يعلمني إن كل حاجة مهما كانت بتحصل في حياتنا فهي خير، ده يعلمني إن أخذ الله عطاء بشكلٍ أخر..
دا يعلمني أرضى وقلبي كله رضا ويقين وحُسن ظن بالله رب العالمين..
أنا دلوقتي مهما أقول أن بحبك قد أيه يارب مش هقدر أوفي، وإنت أكيد عالم بقدر الحب إللي في قلبي، أنا بحبك أكتر من نفسي ونور عيني ومن الدنيا دي على بعضها يارب…
علشان كدا بحب إنت تختار ليا كل أقداري ومش تخيرني، عايزاك تكون الصاحب ليا في حياتي وفي قراراتي … لأن واثقة إنك مستحيل مستحيل تضيعني..
إنت الأول في كل حاجة يارب إنت كل حاجة، وجودك بيخليني أطمن مهما كانت الظروف .. مهما كانت المشاكل، وجودك بيخليني أرمي الدنيا ورا ضهري يارب، عايزاك بس تفضل معايا…
اللهم لك الحمد يارب عدد ما خلقت وعدد ما في السموات الأرض..
كانت لبيبة تتفهم ما تقول رِفقة لكن والدها ووالدتها كان هذا الحديث مُبهم بالنسبة لهم، أمسكت والدتها يدها وقبلتها بحنان وهي تتسائل بعدم فهم:-
– أيه إللي حصل يا رِفقة بغيابنا وقصدك أيه بكلامك ده يا بنتي.!
جلست على الفراش ورفعت رأسها بدموع ثم أردفت:-
– حصل كتير أووي في غيابكم يا ماما، حصل إن الوجوه الحقيقية اتكشفت، وعرفت إننا وثقنا في ناس مش أهل ثقة ولا حتى أهل إنسانية…
أنا كدا فهمت الموضوع بالظبط فهمت النقط إللي كانت ناقصة، علشان الفلوس .. عملت دا كله علشان الفلوس والحقد والغيرة إللي كانوا ماليين قلبها، أنا دلوقتي عرفت قيمة نصيحة الرسول صلّ الله عليه وسلم .. استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان…
إحنا إللي عملنا في نفسنا كدا..
أحب أقولكم مش عصابة ولا بلطجية إللي عملوا فيكم كدا اليوم ده…
ده كانت مخطط غفاف .. مرات خالي..
رددت نرجس بذهول:-
– عفاف .. عفاف إزاي .. مستحيل .. دي أهلنا يا بنتي..
ضحكت رِفقة بسخرية، فحقًا قمة الألم أن يأتيك الغدر من مأمنك، وقالت بتفسير:-
– لأ يا ماما .. مش أهلنا دي أكتر واحدة بتكرهنا كلنا، إللي عملته فيا كان من جنس إللي عملته فيكم، بزيادة إن كان معاها بناتها…
وبدأت تقصّ ما حدث لها على يد عفاف منذ أن فارقوها، لم تترك شاردة إلا وذكرتها، ألاعيبها وألاعيب بناتها وإستغلالها بشتى الطُرق المنزوعة الرحمة..
أُفعِم وجه نرجس ويحيى بصدمة لا مثيل لها ومشاعر متفاوتة، ما هذه الطعنة القاسية!!
طغى على عقلها عدم الإستيعاب لما تسمعه من رِفقة..
عفاف!!
أهي حقًا من فعلت هذا؟!
هي المسؤولة عن تخريب حياتهم وتشتيتهم!!
أكملت رِفقة بوجع:-
– للأسف هي كانت متلبسة لنا وجهه ناعم حنون وإنها بتحبنا زي بناتها..
دا أنا كنت بقول لها ماما عفاف، كانت بالنسبة ليا زيك بالظبط يا ماما، أنا مش موجوعة إنها عملت فيا دا كله وكانت بتتقصد توجعني وتتخلص مني، أنا موجوعة من صدمتي فيها..
إنت متعرفيش كام مرة كنت ببهدل نفسي وأتهمها إن أنا مش كويسة وظالمة وسيئة الظن…
كنت بقول مالك يا رِفقة بقيتي وحشة كدا ليه..
صرّ يحيى على أسنانه بعصبية وشعر بالألم يمزق قلبه وصدح صوته قائلًا:-
– وخالك عاطف كان فين من ده كله يا رِفقة..
أجابته رِفقة وهي تهزّ رأسها بألم:-
– وهو إنت تايه عن خالي وشخصيته يا بابا، عمومًا هو زي ما إنت عارف بيسافر بالشهر ولما بيرجع يدوب إللي بيقعدهم يومين وطبعًا هما قدامه كانوا أحن حد في الدنيا..
أصلًا أنا اتخدعت فيهم، هما كانوا قدامي مفيش أنعم من كدا، بس لما عرفت الحقيقة ربطت الأحداث ببعضها وعرفت إللي كان بيحصلي وأنا أقول صُدف مطلعش كدا .. الدبابيس إللي كانوا بيحطوها في مكاني وعفش البيت إللي كان كل يوم والتاني يغيروه والصابون إللي بيحطوه على أرضية الحمام والأكل المملح إللي كانوا بيستغلوا طبتي وحُبي لهم ويعملوا عليه دراما وواضح إن كنت لهم المسرحية بتاعتهم وكتير أووي من ده يا بابا…
أسمعتم صوت تهشم قلوب.!!
قلبيّ نرجس ويحيى وهم لا يصدقون أنهم من وضعوا رِفقة بين يديّ هذه المجرمة..
توسعت أعين نرجس بجنون وهي تبسط كفيها المرتجفين أمام وجهها وظلت تردد بتلعثم:-
– أنا يا يحيى …أنا السبب .. أنا إللي سلمت بنتي وحطيتها بين إيد عفاف…
وانفجرت في بكاء مرير بصوتٍ مرتفع لتقترب منها رِفقة وتحاوطها بحنان يتدفق من أعينها وهي تقول بلهفة:-
– أنا كويسة … أنا بقيت كويسة يا ماما وربنا هو إللي كان بيحفظني وينقذني كل مرة، إنتِ مش ذنبك حاجة يا ماما إنتِ سلمتيني في إيد أكتر واحدة كانت بالنسبة لكِ أمان، إنتِ مكونتش تعرفي إن في قلبها كل أنواع أمراض القلوب..
وبعدين هي أخدت جزاءها من رِب العالمين، إنتِ نسيتي إن ربنا الحافظ المنتقم، إنتِ قبل ما تسبيني يومها عندها قولتي جملة مش بتخرج من راسي..
أنا سبتها في حمايتك وحفظك ورعايتك يارب، وبالفعل أنا كنت في رعاية رب العالمين..
وربنا عوضني بأحسن عوض في الدنيا…
إنتوا عرفتوا نص الحكاية الأول ومتعرفوش التاني … نصها التاني إللي متمثل في أوب…
يعقوب..
ردد والداها بتعجب:-
– يعقوب..!!
أمسكت أيديهم ثم قالت وهي تتجه للخارج بينما تنظر للبيبة التي نظرت لها بدعم فاجئ رِفقة..
وهتفت رِفقة بسعادة:-
– تعالوا معايا … لازم تشوفوا بعينكم..
_________بقلم/سارة نيل_________
أمام الحاجز الزجاجي كان يقف ينظر للداخل بتمعن شديد وأعين زاخرة بالحنين والشوق، همس يامن بنبرة تأن وجعًا:-
– اتحرمنا من بعض، اتحرمنا نكون سند لبعض، اتحرمنا نتشارك الطفولة، بس إنت إللي كان ليك النصيب الأكبر من العذاب يا يعقوب..
↚
بعترف إن لما رجعت كنت وحش في حقك، محستش بوجعك واستهزأت بيه ومقدرتوش يا يعقوب..
زي ما لبيبة قالت، فعلًا مليش الحق اتجرأ وأقارن نفسي بيك..
إنت حاجة مختلفة يا يعقوب، حاجة من كل حاجة…
يلا أرجع بقاا علشان نعوض كل إللي فاتنا، حبيبتك مستنياك ومحدش قدر يبعدها عنك…
بينما في الداخل، بين حنايا ذاكرته، صوتها يتغلغل بقلبه تناديه … تبكي .. تبتسم … تتحدث…
وفي الأخير الجملة الرعدية التي انتفض لها كل ذرة بجسده:-
– يعقوب …. رِفقة عشقاك .. رِفقة روحها في روح يعقوب … رِفقة بتحب يعقوب…
وهنا شهق يعقوب بقوة وتوسعت أعينه مُعلنًا العودة للحياة بأربعة أحرف همس بها بإحتياح:-
– رِفقة…..
ظلّ يفتح أعينه ويُغلقها مرارًا حتى اعتاد على الضوء، سرعان ما استيقظت تلك الذكريات الأخيرة واقتحمت ذاكرته..
آخر ذكراه كانت رِفقة … وأولها رِفقة..
تغضن وجهه بالألم وهو لا يعلم كم مرّ عليه من الوقت وهو نائم … وأين هي رِفقة..؟!
ما الذي حدث له، وهل اعتقدت رِفقة بأنه هجرها ورحلت مبتعدة عنه..!
ليته لم يعود..
جاء يُحرك جسده المتيبس ليشعر بإرهاق جسيم قابع بداخله، زفر بضيق بينما أطلق لأعينه العنان يتأمل الأرجاء التي من المؤكد باردة فيبدو أنه بغرفة في المشفى، لكنه فور وقوع أعينه على أرجاء الغرفة انفرجت كل أساريره وأحاطت به البهجة وهو يرى الغرفة مُزينة مليئة بالألوان البشوشة، شعر بقلبه ينتفض بين أضلعه فلا يفعل هذا سواها….
في الخارج رفع يامن رأسه بخزي ومسح تلك الدموع العالقة بأهدابه لتقع أعينه على مشهد تمناه في كل دقيقة … جعله يصرخ بسعادة وقد انقلبت ملامحه إلى الضد من الكمد وهو يدور بممر المشفى..
– دكتور .. دكتور … يعقوب .. يعقوب فاق .. يعقوب فاق..
ثم ركض يقتحم الغرفة وانكب فوق يعقوب يحتنضه بشوق وهو يردد بلهفة ممزوجة بغصة باكية:-
– يعقوب … أخيرًا فوقت .. كنت مرعوب عليك يا يعقوب .. الحمد لله يارب الحمد لله..
نمت إبتسامة هادئة فوق فم يعقوب ورفع ذراعه يربت على ظهره قبل أن يقول بمرح:-
– ما توعي ياض شوية كاتم على نفسي ليه كدا..
كانت السعادة تنبض بوجه يامن وكاد يعقوب أن يسأله بلهفة عن رِفقة لكن قاطعه ولوج الطبيب وخلفه طاقم طبي وقد عمّ الهرج بالممر وأرجاء المشفى..
ابتسم الطبيب وهو يقول ببشاشة:-
– الحمد لله على سلامتكم يا يعقوب باشا، بقاا دا كله زعلان يا راجل ومش عايز ترجع..
جاء يعقوب يعتدل من رقدته لكنه لم يقوى ليُسرع الطبيب يقول:-
– براحة واحدة واحدة يا يعقوب، إنت بقالك فترة مش بسيطة نايم وفاقد الوعي والحركة طبيعي تبقى مُرهق وواحدة وواحدة لغاية ما المفاصل تلين..
ابتلع يعقوب ريقه الجاف وتسائل بشرود:-
– ليه هو أنا بقالي قد أيه نايم..
ابتسم الطبيب وقال بهدوء وهو يفحصه بينما يفصل الأجهزة الطبية عن جسده:-
– بقالك حوالي شهر ونص تقريبًا…
وأكمل يقول:-
– هنعمل تحاليل وأشعة روتينية … والحمد لله على سلامتك يا بطل صحتك زي الفل، هيتابع معاك دكتور العلاج الطبيعي إللي كان بيزورك كل يوم وإن شاء الله الموضوع بسيط لأننا كنا مهتمين بالباشا وهو زعلان بكل الأشكال…
كان يعقوب يُحدق بالزينة الموضوعة بالغرفة وإلى الورود والستائر الملونة وقال بشرود:-
– شكرًا يا دكتور..
نظر الطبيب إلى ما ينظر إليه ليتبادل النظرات مع يامن الذي يكبح ضحكته بالكاد على وجه يعقوب العابس..
أشار الطبيب للمرضة قائلًا:-
– اسحبي عينة دم..
__________بقلم/سارة نيل_________
بالممر كانت لبيبة تتقدم رِفقة التي تسير والبسمة لم تفارق ثغرها، لكن جذب إنتباههم تلك الجلبة والضجيج الذي يملأ الأرجاء بينما الممرضات تهتف بإسراع مُكررين:-
– يعقوب بدران … يعقوب بدران .. بسرعة علشان تعليمات الدكتور..
تجمدت الدماء بعروق لبيبة ورِفقة والتي سقط عكازها ثم أخذت تهرول باتجاه غرفة يعقوب لتقتحمها بنبضات قلب تدوي كالطبول…
لتتفاجئ بما اشتاق قلبها له كثيرًا، بما بذلت لأجله آلاف لحظات الصمود..
بما كان لها بقعة النور في وسط سماءها المظلمة، مشكاتها المضيئة..
هرعت إليه وأعينها وجميع أعضاء جسدها تفيض شوقًا وحنانًا، وجاءت تطوق وجهه لكنه أعرض عنها ورمقها بنظرة باردة مستديرًا للجهة الأخرى لتظل كفيها مُعلقة في الفراغ وابتعلت شوقها وتمثلت بحلقها غصة ككومة من الأشواك الذي حصدت منها الكثير بحياتها…
إنها لم تُجازى بحياتها سوى بالأشواك، لم يُجازيها أحد بالورد أبدًا…
لتكتمل حلقة الألم بإعراض يعقوب عنها…
أمّا رِفقة التي تجمدت بأرضها ونبض قلبها تزعم أنه أسمع الأرجاء…
هذا الشعور القاتل لم تشعر به من قبل، شعور الإرتعاب ليُصيبها الهلع فور أن رأت لبيبة تخرج بهذه الخيبة المرتسمة على وجهها وهذا الأكفهرار..
صاحت بنبرة باكية ممزقة، صيحة خرجت من قلبها ونزعت يدها من يد والدها وهي تركض بوجه انسحبت منه الحياة تقتحم الغرفة وبكاءها باسم يعقوب يسبقها:-
– يعقوب…..
إلا أنها تخشبت في مفاجأة تُسر العاشقين، وازدهر وجهها الشاحب وترعرت به الحياة وهي تنظر له بعدم تصديق..
أما يعقوب الذي وثب من نصف رقدته بلهفة فور سماعه صوتها يلتفت لينظر إلى مسرتهُ بهذه الحياة، مَنْ لها وبها ينبض قلبه…
نطق بعشقٍ خاص كان خبر إطمئنان لقلبه أكثر من كونِه نداء ملهوف محتاج إجتاح كل القيود..
– رِفقة .. أرنوبي..
ولم تكن من رِفقة إلا أنها لبت النداء بقلبٍ أهلكه الشوق والتوق إليه…
سعت إليه بكل مشاعرها، فكان عدوها إليه عدو من كان على وشك الغرق ثم أُنقذ باللحظة الأخيرة فأحذ يجتر ذرات الأكسجين إلى صدره بنهم..
↚
حواها بين ذراعيه يحتضنها بلهفة وشوق وقوة لو كانت في غير سكرتها المشتاقة لتألمت، كان يزرعها بأضلعه يتحسس كل شبر بوجهها وكأنها جوهرته الثمينة التي يتأكد من سلامتها..
ورِفقة التي أحاطت وجهه تراه أمامها للمرة الأولى .. يعقوب الفائض بالحنان..
ترى العشق بأعينه للمرة الأولى، هذا الوميض الخاص بها فقط بأعينه…
لتلتقي الأعين للمرة الأولى …عفوًا بل للمرة الثانية بعد سنوات طويلة، الأولى كانت مشوشة لكن هذه واضحة جلية..
عفوًا وماذا عن تحديق تلك الأعين البريئة النقية والتي أعلنت مصرعه في عالم العشق…!!
تلك النظرات البريئة التي قابلها هو بالشك وسوء الظن…
رفع أصابعه يتحسس عينيها بخفة لتبتسم هي بسعادة وهي تهمس:-
– شيفاك يا أوب … شيفاك وطلعت أجمل وأوسم من الخيال بكتير أووي، كفاية الحنان إللي شيفاه في عينك دلوقتي..
عيونك فيها كتير أووي يا أوب … كان لازم أشوفه..
سحب كفها يُقبل باطنه وهو يستنشق رائحتها بنهم وارتياح وقال بألم:-
– حقك على عيوني يا رِفقة إن وجعتك واتسببت في دموعك … سامحيني يا حبيبتي..
إلى هنا شاهدت لبيبة مبتسمة مطمئنة القلب، يكفيها أنه بخير .. يكفيها أنه سعيد وهي في يد أمينة، لقد كان حب رِفقة في قلب يعقوب مُقدم على كل شيء حتى رغباته وهذا ما أرادت لبيبة إثباته والتأكد من صحته..
لقد نجح يعقوب في كل إختبارات العشق..
وإلى هنا قد انتهى دورها في هذه الحكاية..
تنهدت بثقل ثم تحركت مبتعدة عنهم بل وعن الجميع..
مرت بجانب الغرفة التي سيُنقل إليها يعقوب ثم وضعت أسفل الوسادة شيئًا ما وابتعدت للخارج…
ورحلت … رحيل رُبما للأبد..
لكنها لم تنتبه لحقيبتها التي تركتها موضوعة بشرفة الغرفة…
_________بقلم/سارة نيل_________
كان والدي رِفقة يقفون بالممر أمام غرفة يعقوب ينظرون إلى بعضهم البعض بعدم فهم وتيهة..
هتف يحيى بدهشة:-
– هو في أيه بالظبط يا نرجس ومالها رِفقة..!!
أجابته بذات الشرود:-
– مش عارفة يا يحيى في أيه…..
لكن انقطعت عباراتها وهي ترى من خلال الزجاج شخصٌ ما يُطبق على رِفقة بقوة غريبة يعانقها..
صاحت بفزع:-
– إلحق يا يحيى..
أسرع ينظر إلى ما تنظر إليهم ليردد بصدمة:-
– يا وقعة مهببة … مين ده..!!.
اقتحموا الغرفة ليفزع يعقوب ورِفقة مبتعدين وجاء يعقوب يصرخ بغضب وهو يرى الفاعل لكنه ابتلع سخطه وتقريعه وردد بصدمة:-
– إنتوا…
ردد يحيى ونرجس معًا:-
– إنت … يعقوب..
ابتسمت رِفقة ووثبت تُمسك أيديهم ثم قربتهم وهي تقول بسرور وحبور:-
– هنا نص القصة المجهول، هنا بطلي ومنقذي..
طبعًا إنتوا عارفين بعض، بس أعرفكم أنا بطريقتي..
وقالت مشيرة نحو والديها:-
– يعقوب … دول من وجهة نظرك الأتنين إللي كنت متكفل بيهم في دار الرعاية..
بالإضافة إلى كدا..
دول بابا وماما المفقودين يا أوب، وهما نفسهم إللي جدتك أنقذتهم يوم الحادثة يوم ما كنت أنا معاهم وإنت أنقذتني .. أيوا افتكرتك…
وهما نفسهم إللي أنفذتهم للمرة التانية ووصلتني بيهم…
قولتلك يومها متسبناش وإنت فعلًا مسبتناش..
تنفست بعمق ثم أشارت تجاه يعقوب وقالت:-
– دا بقاا يعقوب … تعرفوه إن هو إللي اتكفل بيكم في دار الرعاية..
أعرفكم عليه أكتر…
يعقوب حفيد لبيبة هانم … وإللي أنقذني يوم الحادثة .. وبعدين إللي أنقذني من عفاف…
وفي الاخر يبقى جوزي…
شهقت والدتها بمفاجأة لتقول رِفقة وهي ترى عدم التصديق والدهشة على وجوههم جميعًا:-
– أكيد في حاجات كتير لسه ناقصة ولازم تعرفوها يا بابا ويا ماما .. زي مثلًا حكايتي مع يعقوب وإن رجعت أشوف تاني..
كمان إنت يا يعقوب في حاجات كتيرة أووي لازم تعرفها وحصلت في غيابك..
زي إزاي أنا جيت هنا .. وإزاي عرفت أهلي ووصلت لهم…
قبل ما أحكيلك عايزاك تعرف إن بطلة الحكاية دي هي لبيبة بدران..
تضاعف الإبهام على وجه يعقوب حين سمع باسم جدته لتبدأ رِفقة تحكي لوالديها ما فعله يعقوب من أجلها وكيف تزوجها لحمايتها..
وتسرد ليعقوب ما حدث لوالديها وما فعلته الجدة لبيبة لأجلهم وما حدث في فترة غيابه..
ردد يعقوب بصدمة هزت كيانه:-
– لبيبة بدران!! مش معقول..
طب ليه عملت كدا …وأيه إللي مخبياه..
هتفت رِفقة بألم:-
– أكيد تجربة سيئة لأبعد الحدود تركت ندوب مش بتروح..
اقترب يحيى من يعقوب ثم قال بإمتنان:-
– كنت قاعد قدامنا وبتحكلنا عن بنتنا وعن إللي حصل معاك… سبحان الله فعلًا..
ربنا كبير وقادر على كل شيء…
مش عارف أقولك أيه يا ابني على إللي عملته معانا ومع بنتي ووقفتك معاها لغاية ما وصلتها لبر الأمان …إللي إنت عملته إنت وجدتك مفيش كلام شكر يوافيه…
ربنا يجازيك خير الدنيا والآخرة يا ابني…
في هذه الأثناء دلف حسين وفاتن للغرفة بلهفة وهرعوا باتجاه يعقوب يحتضنه بحنان وشوق وهنا ذبلت الألآم التي بقلب يعقوب وبادل والده العناق…
واحتوته فاتن بأحضانها تبكي وهي تقبل رأسه وكتفه مرددة:
– يعقوب … يا نور عيني .. الحمد لله على سلامتك يا ابني وربنا يبعد عن جسمك كل الوحش يا حبيبي..
بادلها العناق وقبل رأسها وهو يقول براحة:-
– ربنا يباركلي فيكِ يا أمي…
ابتسمت رِفقة بسعادة واضعة يدها فوق قلبها هامسة بتنهيدة:-
– أخيرًا…
التفت حسين يصافح يحيى وهو يقول بترحاب:-
– أهلًا بالغالي أبو الغالية علينا رِفقة..
والله يامن حكالي كل حاجة في الطريق وهو بيجبنا حقيقي ….سبحان الله..
إن الله إذا أعطى أذهل فعلًا…
قال يحيى بإمتنان:-
– دا أنا إللي بحمد ربنا إن وقفلنا ولاد حلال زيكم وناس محترمة، ربنا يجازيكم خير على إللي عملتوه معانا ومع بنتنا…
عاتبه حسين بلطف:-
– عيب يا يحيى إحنا خلاص بقينا أهل ورِفقة بنتنا…
قال يامن بمرح:-
↚
– وهو أنا مليش في الحب جانب ولا كله لسي يعقوب…
يعني أنا غلطان إن روحت بنفسي أزفلكم الخبر السعيد يا توتو إنتِ وسحس، ولا مكونتش عارف لو قولتلكم في الموبايل سحس باشا كان جاب الطريق إزاي وعمل كام حادثة..
زجرته والدته قائلة:-
– ما عيب يا ولد … وأيوا كله ليعقوب ولا عندك إعتراض..
أردف حسين بغضب مصطنع:-
– وأنت بالذات متتكلمش على الحوادث…
وعمّ الغرفة جو من المرح حتى جاء الطاقم طبي وتم نقل يعقوب لغرفة أخرى وفحصه فحص شامل…
ساعدته رِفقة في إرتداء ملابسه لتقول له بمرح:-
– إنت خاسس أووي يا يعقوب باشا ومش عاجبني، دي بقاا مهمتي لما نرجع البيت أطبق عليك وصفات نادية السيد كلها…
قال بمزاح وهو يسير بصحبتها في أرجاء الغرفة:-
– طب ربنا يستر بقاا .. شكل مستشفى بدران هتكسب من ورانا كتير أووي الفترة الجايه..
صاحت بامتعاض وهي تلكزه:-
– قصدك أيه بكلامك ده..
سارع يتراجع نافيًا بتلقائية:-
– لا لا مقصدش حاجة وحشة … أنا بقول يعني علشان خاطري يعني هحتاج متابعة..
وإنتِ كمان لما تولدي..
رددت بعدم فهم:-
– أولد .. أولد أيه..!
قال بدون تفكير:-
– هتولدي أرانب يعني هتولدي أيه..
أسرع يقول متداركًا:-
– أقصد في المستقبل وكدا … أنا شكل الغيبوبة دي أثرت على دماغي … أما أنام أحسنلي..
يلا تعالي نامي شوية..
دعمته حتى تمدد على الفراش ثم هتفت بحنان:-
– إرتاح إنت شوية وأنا هشوف ماما وبابا وأرجعلك تاني..
كانت تنوي الخروج والبحث عن لبيبة التي اختفت عن الأنظار لكن وهي تعدل من وضع الوسادة خلف يعقوب اصتدمت يدها ببعض الأوراق … سحبتها بتعجب وهي تتسائل:-
– أيه ده يا يعقوب!!
أخذه يعقوب يتفحص الأوراق فحدّق به بأعين شاخصة وامتقع وجهه بالألم ثم سحب هاتفه يتفحص شيئًا ما .. وكما توقع…
استفهمت رِفقة بقلق وهي ترى تعابير وجهه التي تتراوح بين الحزن والدهشة:-
– أيه إللي حصل يا يعقوب، أيه ده!!
قال بشرود:-
– لبيبة بدران.. نقلت كل أملاكها وإدارة الشركات ليا وبعضها ليامن ولأبويا..
وهي إللي متكفلة بالعملية بتاعتك لأن الفلوس رجعت لحسابي وفي رسالة من البنك ومن الدكتور بتأكد كدا…
غير ملكية المطاعم الخاصة بيا إللي بعتهم نقلتهم ليا..
هي ليه عملت كدا..!!
لم تكن تلك الأخبار أن تُسعد رِفقة بل إنها أفعمتها بالحزن…
هذا له نتيجة واحدة ….لقد رحلت..
رفت عيناها بدمعة سرعان ما محقتها قبل أن يلحظ يعقوب، ترددت إبتسامة شاحبة على محياها وقالت وهي تستقيم:-
– هخرج ورجعالك عالطول..
قال لها قبل خروجها:-
– ناديلي أبويا ويامن وإنت خارجة يا رِفقة لو سمحتي..
حركت رأسها بإيجاب وخرجت مخبره حسين ويامن..
والتقت بوالدها ووالدتها التي سحبتها وهي ترمقها بجهل وغموض وهي تتسائل بينما تسحبها لمكان بعيدًا عن الأنظار بالشرفة:-
– في أيه يا رِفقة .. أنا متلغبة أووي يا بنتي، يعني إنتِ اتجوزتي يعني كدا خلاص..!!
اقترب منها والدها وكوّب وجهها بحنان ثم طبع قُبلة حانية فوق رأسها وقال بحماية وجدية:-
– مبقتيش مُجبرة تستمري في الجوازة دي يا رِفقة، كتر خير يعقوب وهو عمل إللي محدش عمله وحماكِ، كدا كدا سبب الجوازة كان إتفاق وبس وعمل خير هو عمله..
لكن دلوقتي أبوكِ رجع والمرة دي واقف زي الدرع قدامك هيحميكِ من الهوا الطاير..
طالما مش بتحبي يعقوب مفيش داعي تكملي في الجوازة دي أبدًا..!
في هذا الأثناء بعدما أعطى يعقوب لوالده وشقيقة أوراق لبيبة شعر بالإختناق والملل فخرج بهدوء من الغرفة حيث الممر يبحث عن رِفقة فحقًا لا يطيق الجلوس بدونها…
لاحظها تقف في الشرفة فاقترب بهدوء مبتسمًا لكنه تخشب بصدمة وهو يستمع لحديث والد رِفقة الذي جعل الرعب يجثم على قلبه من هذه الفكرة…
هل قلب رِفقة بعد هذا لم بنبض باسمه، لا لا لقد استمع لها … وجميع تصرفاتها تشير إلى أنها لا تبقى معه لأجل أن هذا هو الواقع فقط، بل لأنها تعشقه كما يعشقها تمامًا..!!
هل عودة والديها سيجعلها تفكر أن مهمته هكذا انتهت وستتركه لأجل المكوث معهم والإرتواء من حنانهم بعد هذا الفراق!!
ماذا سيفعل هو في هذه الحالة!!
لكن أثلج قلبه إجابة رِفقة التي أنهت جميع الشكوك…
ابتسمت رِفقة وقالت تُطمئنه وهي تربت على كفيّ والدها:-
– إنت فهمت الموضوع غلط يا بابا..
أيوا في البداية أنا اتجوزت يعقوب علشان هو ده الحل الوحيد وعلشان يحميني، بس بردوه أنا مكونتش اتجوزته كدا وخلاص، أنا صليت استخارة وأخدت وقتي في التفكير…
كمان يعقوب لما اتجوزني مش اتجوزني علشان عمل خير ولا الكلام ده، اتجوزني علشان بيعشق رِفقة وعلشان عايز رِفقة نفسها وهو إللي دور عليا ولولا هو بعد ربنا سبحانه وتعالى كنت ضعت ومكانش حد عرف يوصلي…
ربنا أنقذني عن طريقه وبعته ليا تعويض عن كل الأيام إللي شوفتها وهدية صبري…
وفي نقطة كمان لازم تعرفوها علشان قلوبكم تطمن لأن مقدرة خوفكم وقلقكم..
دلوقتي جوازي من يعقوب معدش هو الحلّ الوحيد ولا مجرد إنقاذ…
أنا كل خلية جوايا بتعشق يعقوب، بحبه يا بابا بقلبي وعقلي وكياني وروحي ومقدرش أبعد عنه دقيقة، وهو كان في الغيبوبة أنا كنت بموت في اليوم مليون مرة بس كنت واثقة إن ربنا هينقذه علشان الخير إللي هو عمله في حياته وعلشان قلبه إللي مفيش منه…
تبسم وجه والدها واطمئن قلبه وجذبها لأحضانه قائلًا بحنان:-
– متعرفيش ريحتي قلبي قد أيه يا صغنن، وفرحتيني قد أيه..
إنتِ متعرفيش أنا إللي فرحان بيعقوب قد أيه، برجولته وحبه لكِ وخوفه عليكِ، بس أنا أهم حاجة عندي سعادتك وإن متكونيش مجبرة على حاجة يا حبيبتي…
أمّا يعقوب فقد تنفس براحة وشعر بروحه تُحلق في سماء السعادة التي لا مثيل لها…
اقترب يدلف للشرفة وهو يتحمحم بخشونة لتهرع إليه رِفقة بخوف قائلة:-
– أوب إنت كويس .. فيك حاجة..!!
رفع كفها يُقبله بحنان وقال:-
– إهدي أنا كويس يا أرنوبي…
طالعتها والدتها بسعادة وقد غمرت الراحة قلبها، بينما هتف يعقوب:-
↚
– كنت بدور على عمي يحيى .. عايز اتكلم معاه شوية..
وأكمل يقول:-
– طبعًا الحمد لله على سلامتكم، فرحتي برجوعكم كبيرة، وبما إنكم موجودين فمينفعش نتخطى الأصول…
مقدرش أحرمكم من فرحتكم ببنتكم كأي أب وأم وأنا مقدرش أحرم رِفقة من حقها ده…
إنتوا هتكونوا في الشقة إللي كنا قاعدين فيها وبنتكم معاكم … وأنا هاجي أطلبها على سنة الله ورسوله وحقك يا أبو العروسة تتشرط بقلب جامد علشان أنا هنفذ كل شروطك من غير ولا نقص…
ونحدد معاد للزفاف ونعمل حفلة زفاف زي ما رِفقة بتتمناها بالظبط…
تمعنت رِفقة في وجهه الجذاب وعينيه التي ملأها بريق الحياة، تتمعنه بعشق خالص وامتنان وتقدير …. لم يخذلها يومًا ولم يخفق في جعلها تندهش…
بينما والدها فكان ردة فعله أن جذب يعقوب في عناقٍ ممتن شاكرًا سعيدًا بهذا الرجل الحق..
أردفت نرجس بسعادة:-
– روح ربنا يجبر بخاطرك ويرضى عنك ويراضيك يا ابني..
ابتسم لهم بوقار وقال بتقدير:-
– إنتوا متعرفتوش على أهلي كويس .. اتفضلوا أعرفكم عليهم…
وسار بصحبتهم ليغمز لرِفقة بعبث لتبستم هي بخجل…
وقفت تنظر للسماء متنفسة بعمق وهمست بسكينة:-
– اللهم لك الحمد يارب … شكرًا يارب على كل شيء … عطيتنا فوق دعواتي يارب بكتير وعوضتي وعوضك ملهوش أي مثيل..
وتشاء أنتَ من البشائر قطرة، ويشاء ربّك أن يُغيثك بالمطر..
وهسمت تُحدث نفسها:-
– باقي دلوقتي أشوف تيتا لبيبة فين، ليه اختفت كدا …أكيد زعلت من ردة فعل يعقوب..
يارب الهمني وساعدني واجمعنا بيها..
وجاءت تستدير للخروج والبحث عنها لكنها تفاجأت بوجود حقيبتها بأحد زوايا الشرفة، تعجبت رِفقة واقتربت منها وهي تلمح دفتر قديم أصفر اللون أثار فضولها..
– يا ترى ليه شنطتها موجودة هنا بإهمال كدا!!
ورغمًا عنها قادها فضولها وامتدت يدها بتردد تسحبه، تحسست بدهشة ثم فتحته بفصول لتقرأ أولى السطور التي ألهبت مشاعرها وفضولها…
(أوجاع بكماء صماء لا حدّ لشرورها ولا سبيل لتسكينها)
وأخذت تُقلب في الصفحات بوجه معقود ليعلو صدرها ويهبط بفزع مع كل كلمة تقرأها واقتحم الحزن قلبها بضراوة واحترقت روحها كمدًا، وهذه الكلمات والأحداث تتجسد أمامها على الأوراق وكأنها تراها رؤيا العين..
اهتاجت الدموع بمقلتي رِفقة وتساقطت على الأوراق وهي تنتحب ببكاء واضعة كفها فوق فمها ونبض قلبها يعلو بتوتر مع وقع الأحداث لتهمس برجاء وكأنها تريد توقيف ما يحدث وحمايتها:-
– لا .. لا كفاية كدا .. حرام عليكم .. ليه كدا…
وهنا تعود كاميرا الأحداث للخلف وتتجاوز سنواتٍ عديدة حيث زمان ما تقرأه رِفقة….
فتاة في العشرين من عمرها مفعمة بالنشاط رغم ما بها إلا أن الإبتسامة لا تتوارى عن وجهها الوضاح، لا تسمع الأصوات ولا تتحدث لكنها ترى الألوان والجمال والطبيعة والفراشات والطيور وهذا يكفيها…
اقترب والدها صاحب الوجه البشوش الدافئ منها ثم انحنى يُقبل رأسها بحنان وجلس بجانبها، احتضنته بتعلق وحب شديد ليأخذ هو القلم والموضوع بجانب الدفتر اللذان دائمًا أمامها وبحوزتها….
وكتب يتسائل:-
– “بيبا حبيبة بابا إنتِ عاملة أيه وأخبارك في الجامعة أيه … وبلال شخص كويس وبيعرف يتواصل معاكِ ومسهل عليكِ التعامل في الكلية.”
كتبت هي والسعادة تنضح من ملامحها الرقيقة:-
– “أنا كويسة جدًا جدًا يا يعقوب باشا، الجامعة جميلة جدًا جدًا لدرجة إن ندمت إن أخرتها سنتين وحبست نفسي ومخرجتش للعالم ده…
بلال شخص جميل جدًا وطيب ومحترم أووي وكمان شاطر جدًا في لغة الإشارة وبفضله بقيت شخص إجتماعي ومش بقى عندي أي مشكلة إن أتعامل مع أصحابي أو إن أفهم الدكتور…
من خلاله كأني بتكلم واسمع الأصوات وافهم إللي بيدور حوليا، ومرافقني في كل مكان زي ضلي زي ما إنت أمرت..
كمان صاحبت بنات طيبة أووي، شادية وإعتماد ودُرية…
ودايمًا بلال قاعد معايا وبيترجم ليا كل كلمة وكمان هو صاحب شاب اسمه مُنير ويبقى خطيب دُرية…
عايزه أقولك إنهم بيحبوني أووي يا بابا ومهربوش مني لما عرفوا إن بنت يعقوب بدران رجل الأعمال إللي أشهر من النار على العلم..
كل البنات كانت مش بتحب تقربلي خايفين إن ممكن أبقى متكبرة ومغروره والكلام ده وإن ممكن أبويا يبقى راجل شرير بأنياب الغول..”
وضحكت بمرح ليشاركها والدها وهو يحمد لله بداخله أنها أخيرًا خرجت من قوقعتها التي انحسرت فيها بعدما أُصيبت بالصمم والبكم المفاجئ نتيجة صدمتها بوفاة والدتها وجدها في حادث سير أليم … وكانت لبيبة متعلقة بهم تعلق شديد لتدخل في إنهيارات عصبية وصدمة شديدة أفقدتها النطق وتبعه السمع فجأة والذي لم يتوصل أحد من الأطباء إلى السبب العضوي إلى الآن…
↚
لكنه مستعد لفعل المستحيل لأجل ابنته الوحيدة التي هي أحب إليه وأغلى من روحه..
كتب لها:-
– “هنسافر برا علشان تتعالج وبوعدك يا بيبا إنك هترجعي أحسن من الأول كمان، أبوكِ في ضهرك ومش هيسيبك أبدًا، هعمل المستحيل علشان ترجعي تسمعيني تاني وأرجع أسمع صوتك إللي وحشني، مستعد أعمل علشانك أي حاجة..”
انغمست في أحضانه الدافئة، تحمد ربها على نعمة وجود والدها الحنون… بطلها الخارق..
يطمئنها أن والدها مستقيم النفس حسن الخُلق متواضع ولا يُقدس هذا المصطلح الذي يُسمى الفوارق الإجتماعية رغم سمعته ونجاحه في أعماله وثروته الطائلة إلا أنه كان رجلٌ كريم سخيّ النفس يجود بالكثير ولا يترك محتاجًا ويُغدق الفقراء بالكثير..
والدها رجل مميز اجتمعت فيه الكثير من الفضائل..
تفخر بأخلاقه ومبادئه وليس بثروته وأملاكه…
كانت تخبره بكل شيء بحياتها صغيرة وكبيرة لم تخفي عنه أي شيء فقد كان صديقها قبل كونه والدها وكانت هي لديه مقدمة على جميع أولوياته حتى مُقدمة عن نفسه ذاتها…
إلا أن لبيبة لم تخبره بمشاعرها التي تكنها لبلال ولا بشاعر بلال تجاهها..
بلال الذي يغدقها بالحب والحنان الذي صدّقه وآمن به قلب لبيبة الطاهر…
كتبت له تخبره بسعادة:-
– “في رحلة الجامعة مطلعها وكل زمايلي وأصاحبي هيروحوا، بلال قالي هو وشادية عليها، نفسي أووي أووي أروح يا بابا.”
لم يستطع أمام السعادة المرتسمة على وجهها أن يقف حائلًا أمامها وفكر أنها أيضًا فرصة جيدة للترويح عن نفسها…
لا يعلم ولا تعلم لبيبة أن هذه الرحلة هي التي ستُنجب لبيبة أخرى لم تتعرف إلى نفسها حتى اليوم، سيتجمد القلب وستتلبد المشاعر وستُنحت ندوب عجز الزمن على محوها، ستُنجب قلب متكبر أمام كل المشاعر الإنسانية وأمام الضعف والأهم الحُب..
ومرت الأيام وأتى يوم الرحلة…
استعدت وجهزت حقيبتها وأخذ والدها يُضيف لها الشطائر والعصائر وودعته بوجه مشرق والإبتسامة تكاد أن تسقط من فوق ثغرها…
أتى بلال ومُنير بصحبة شادية واعتماد ودُرية بأحد السيارت وعندما تعجبت وسألت بلال بطريقتها لماذا لا يذهبون بالحافلة الخاصة بالجامعة أخبرها أنها ستكون مزدحمة وستجلب لهم الإختناق…
كان هناك نزعة قلق وخوف بداخلها لكنها اسكنتها وهي تهمس لنفسها من الداخل أن بلال متواجد وهؤلاء أصدقاءها الأوفياء…
وأثناء الطريق بينما كانت تجلس في الخلف بجانب الفتيات، قال مُنير بسعادة وخبث:-
– الواحد مش مصدق يا عم بلال إن الخطة أخيرًا نجحت، أنا مش مصدق إن يعقوب بدران ساب بنته الوحيدة كدا ووثق فيك الثقة دي كلها…
ولا هي الغبية ساذجة بشكل…
ضحك بلال وهو يقول بانتصار:-
– ما أنا قولتلك رغم إن هو يعقوب بدران بس راجل طيب بشكل وعنده حسن نية فظيعة..
ومستعد يعمل أي حاجة علشان بنته الوحيدة، حتى لو هيدفع الملايين وإحنا لعبناها صح..
دا كفاية إن قعدت أتعلم لغة الإشارة قد أيه يا عم علشان أظبط اللعبة…
وأنا قدرت أسيطر عليها وأوهمها إن بحبها بشوية حنية وأخلاق ومبادئ والشغل الحمضان ده والحمد لله إنها لا بتسمع ولا بتتكلم..
قال منير بينما الفتيات تبتسم بالخلف بسعادة لنجاح ما سعوا إليه بينما لبيبة فكانت تجلس في المنتصف تجهل ما يدور حولها، تراهم يبتسمون فتبتسم ظنًا منها أنهم يبتسمون بوجهها، لم يراودها ذرة شك واحدة فهؤلاء هم الأمان فكيف يتوخى الشخص الحذر من مأمنه…!!!
– يا عم بلال البت دي عندها ملايين، وبسببها هنطلع لفوق أووي ونتسلى عليها شوية…
طب احلف إنك ماستمتعتش بالتمثلية دي…
كانت تنظر لهم وهم يتحدثون بشكل طبيعي لكن كان كل شيء بالنسبة لها مُبهم، أخذ بلال في الضحك وهتف باستمتاع وقلبه قد طُمس عليه بسبب جشعه، قلبه الذي مُحقت منه الرحمة والإنسانية والخوف من الله عز وجل:-
– وأي متعة يا مُنير، دا أنا كل ما أشوفها وهي مصدقنا وطالعة بينا السما السابعة عند أبوها ببقى ماسك نفسي عن الضحك بالعافية…
بت دلوعة وعايشة عيشة مش من حقها، هي فلوس أبوها دي كلها هتعمل أيه بيها واحدة خارسة وطارشة زي دي، خلينا إحنا نستفيد…
نظر مُنير نحو دُرية في المرآة وصاح بمرح:-
– وهنتمرمخ في الفلوس يا دودي، وهنعيش بقاا ونقب على وش الدنيا…
مخسرناش ألا فلوس العربية إللي إحنا مأجرينها دي…
أخذت دُرية تضحك بسعادة، لتبستم لها لبيبة لأجلها ولأجل السعادة المرتسمة على وجوههم…
وظل بهم الحال على هذا النحو حتى أخرجت إعتماد زجاجات صغيرة من العصير وأخذت تُعطي للجميع ومدت يدها بزجاجة عصير لبيبة المفضل لها، أخذته منها بإمتنان بكل ثقة وهي تحرك رأسها تشكرها مبتسمة لها…
وفور أن انتهت لبيبة من إرتشاف زجاجتها حتى مال رأسها واحتضنها الظلام…
بعد مرور عدة ساعات، تملمت من نومتها الغير مريحة وظلت تكرر فتح أعينها وإغلاقها حتى اتضحت الرؤية أمامها، فزعت معتدلة لتجد أقدامها مقيدة وكذلك يديها…
هلع قلبها وهي تدور بأعينها في هذا المكان الخالي المهجور والذي يحاوطه الظلام إلا من هذه الإضاءة المنبعثة من كشفات السيارة الأمامية..
ظلت تتململ ويخرج منها همهمات غير مفهومة في محاولة منها لنداء بلال وأصدقاءها..
وفور أن وقعت أعينها عليهم يجلسون فوق الحجارة المتفرقة وحقيبتها موضوعة أمامهم يتناولون الطعام الذي صنعه لها والدها ووضعه لها اطمئن قلبها للوهلة الأولى وهي تُشير برأسها لهم أن يأتوا ويخلصونها من هذا…
اقترب منها الفتيات وهم يضحكون بسعادة لتتوسع أعينها بصدمة وهم ينزعون حجابها بعنف ويدفعونها أرضًا بقوة ألامتها بينما يقولون من بين ضحكاتهم والتي لم تفهم لبيبة منها شيء:-
– وأخيرًا واقعة على الأرض تحت رجلينا…
لا لبيبة بدران ولا قطران إللي الجامعة دوشانه بيها…
يجوا يشوفها دلوقتي وهي زي الحشرة تحت رجلينا..
جذبتها شادية من شعرها وهي تقول بشماتة:-
– إللي عامل لكِ اسم هي فلوس أبوكِ الكتير أووي، إحنا قولنا نستفيد منك بدل ما إنتِ ملكيش لازمة كدا…
أتت دُرية مقهقهة وهتفت:-
– أي يا بنات هو إنتوا ناسيين إنها خارسة وطارشة…
انفجر الجميع بالضحك أمّا هي فكانت توزع أنظارها بينهم وقد تجمد الدمع بأعينها، تشعر أنها بإحدى الكوابيس أو أنها تقرأ رواية تتحدث عن الغدر…
استقام بلال ثم اقترب منها وأنظارها المستغيثة متعلقة به، هذا الذي أتت به كي لا تضل…
جلس على أعقابه أمامها، ظل ينظر لوجهها المرتفع نحوه ثم ضحك بانتصار تذوقه أخيرًا…
كانوا يحاوطنها بينما هي ملقاة أرضًا وقد عمى الحقد والغيرة والطمع أعينهم…
↚
وتعلقت أعينها التي جمدت بها الدموع ببلال الذي يرمقها بكره شديد وحقد تتسائل أين ذهب العشق والحنان الذي كان يتغنى به، هل لهذه الأعين التي بنبثق منها حقد لا مثيل له أن تكون نفسها التي ترمقها بالحنان!!!!
رمته بنظرة حركت سواكنه وجعلته يشعر بمدى مهانته وحقارته وصغره، نظرة كانت كفيلة بإحراقه والتي نشبت بسببها الحرائق بداخله، صرخ بغضب وهو يهبط بكفه القاسٍ على وجهها بقسوة وفقد أعصابه وهو ينهال على وجهها بالصفعات..
وجهها الذي كان يخشى عليه والدها من النسمات الشديدة بعض الشيء، وجهها الذي يُغمر دائمًا بالقُبلات الحنونة، الآن يتذوق القسوة للمرة الأولى…
وعلى يد مَنْ.!!!
مَن أتى بها للذئاب لتلتهمها وكان هو زعيم القطيع..
كان يصرخ صراخ شق سكون الليل:-
– متبصليش كدا …. بلاش النظرة دي أنا مبحبهاش، متعمليش نفسك البريئة الطاهرة النقية ….أنا مش حقير يا بت ولا مليش قيمة..
سحبه منير وهو يقول بفزع:-
-هتموت في إيدك يا بلال … دا إحنا نروح في ستين داهية … دي بنت يعقوب بدران الوحيدة..
ابتسم بشرّ وقال:-
– علشان كدا مش لازم يفوتها كرم الضيافة، أنا عارف إن أكتر حاجة بيبا بتحبها هي الضلمة علشان كدا جهزتلها أوضة في فندق خمس نجوم..
وانحنى يسحبها لتظل هي تقاوم بكل عزمها وتهمهم بشدة في محاولة لإخراج صوتها لكن لا فائدة..
كان يسحبها نحو بئر مهجور مظلم وهي تحاول تثبيت قدميها في الأرض لكن كانت قواه أعظم منها وأشار للفتيات لتأتي إعتماد تضع قطعة من القماش فوق أعينها تحجب بها الرؤية ظلت لبيبة تحرك رأسها برفض لكن أمسك رأسها يثبتها بقسوة هذا المجرم بلال لتبتلع قطعة القماش دموعها الحارقة…
وأنزلها يلقيها بالبئر المظلم ليصيبها الهلع وأخذت تهمهم وهي تتحرك بجنون وهي مقيدة الأيدي والاقدام .. فهي أكثر ما كانت تخافه وتهابه هو الظلام…
ظلت تنتفض برعب وتتحرك بجنون وقد ارتفعت صوت همهماتها العاجزة…
بينما بلال فقد زفر بضيق وقال لمُنير:-
– أيه الأخبار .. رنيت لقيتهم حطوا الفلوس في مكانها…
ردد مُنير بفرحة:-
– كلمته من التلفون العمومي القريب من المنطقة وواضح إن هو عرف بإختفاءها، لما هي اتأخرت كلم رئيس الجامعة وعميد الكلية وقالولوا مفيش أي رحلة خرجت من الجامعة..
وقولتله لما نستلم الفلوس ومن غير غدر هنعرفك مكان بنتك وإلا مش هتعرف مكانها ولو وقفت على منابت شعرك مش هتقدر توصلها، والتأخير مش في مصلحة بنتك خالص، لأن حياتها في خطر … وما سمعتش بقاا يعقوب بدران بجلالة قدره وهو بيترجاني…
أيده بلال قائلًا:-
– أنا قولتلك إن هي نقطة ضعفه الوحيدة وعلشانها يعمل أي حاجة…
المهم حط الشنطة في المكان..
– أيوا حطها في المكان إللي حددته ولما نستلمها هنبلغه بمكان بنته…
– طب يلا بينا من هنا…
ورحلوا ولم يداعب قلبهم المتجبر المتحجر نسيم من الضمير أو من الرحمة…
وتركوها وسط الظلمة والعجز المتمثل في مربع الفقد … فقد القدرة على الرؤية .. فقد السمع .. فقد القدرة على الصراخ والإستغاثة فقد الحركة…
بين شعور .. القهر .. الخيبة .. العجز … الغدر..
كان صدرها يعلو ويهبط بجنون، رفعت رأسها للسماء البعيدة عنها … القريبة كل القرب من المظلوم المغدور…
تهمهم بشدة حتى ألآمتها أحبالها الصوتية وانجرحت، ما تتمناه الآن أن تصرخ بشدة صرخة تبلغ عنان السماء…
وحدثت المعجزة ومن بين بقاع العجز تحررت أحبالها الصوتيه وصدعت صرختها الملطخة بالألم والعجز …. صرخة كانت بعد غياب من خلف حزن وجاءت مرةً أخرى في حادثة وأد لبيبة المرِحة النشيطة المحبة للحياة….
لتخور قواها حين اخترقت أذانها أخيرًا صوت والدها الذي غاب عن مسمعها سنوات يناديها بلهفة وارتعاب ليطمئن قلبها وتعلم أنها أصبحت بموطنها وخفت إدراكها ساقطة بأحضان فقدان الوعي وخفت معه بريق الحياة من أعينها للأبد….
فتاة ضعيفة البدن صماء بكماء قد وقعت فريسة نفوس مريضة ناتجة عن ثقتها وطيب قلبها الذي أوصلها حد السذاجة..
كانت مرحة، مُحبة للحياة، لا تنطفئ الإبتسامة من فوق فمها..
وثقت في أصدقاء رسموا لها الوفاء لتُطعن على يد قارئ الحياة لها .. على مَن كان الأذن التي تسمع بها … واللسان الذي تتحدث به..
جاءت به كي لا تُضل فأضلها وألقاها في غيابة الجُب..
مَن أهدته قلبها وروحها ولُبها وأوهمها هو أنها له كل ذلك..
عادت الكاميرا إلى أرض الواقع وانتهت رِفقة التي غرق وجهها بالدمع وشهقاتها مرتفعه تبكي بكاء حار وهي تشعر بدوار يلفها…
وختمت بأخر ما كتبته لبيبة بتاريخ هذا الشهر..
“لقد خشيت فقط أن يحلّ بالعمياء ما حلّ بالصماء البكماء …لقد خشيت أن يحلّ بها ما حلّ بي، أردتُ إبعادها عن كل معاني الغدر، وإبعاده عن كل معاني الخذلان؛ لتيقُني أن الغدر مدفون بجميع الأرواح واجتثاث تلك النبتة الساذجة التي تسمى ثقة من معجمي وداخلي منذ ذاك اليوم…”
أجهشت رِفقة في بكاءٍ شديد وهي تحتضن الدفتر لصدرها بينما ما قرأته يلف ذاكرتها وهي تقول بنشيج مرتفع وصوت متقطع:-
↚
– ليه كدا … ليه … كانت زيّي … بس ليه عدم الرحمة دي .. عاشت دا كله لوحدها محدش حسّ بيها .. كانت بتحبني مش بتكرهني، أنا فهمتها غلط وكلنا فهمناها غلط…
كانت بس خايفه عليا ومن أحب الناس لقلبها وإللي ربيته بإيدها، خايفة عليا من الكسر والجرح وكانت خايفة على يعقوب من الخيبة….
عندما تأخرت رِفقة في العودة خرج يعقوب ببحث عنها ليسقط قلبه وهو يراها بهذه الحالة منهارة في بكاء شديد، يراها هكذا للمرة الأولى..
ركض نحوها بلهفة يحتضن وجهها بكفيه ويتسائل بتلهف:-
– رِفقة حبيبتي .. حصل أيه ليه الدموع دي كلها..
ارتمت بأحضانه وهي تنطق اسمه بنحيب:-
– يعقوب…
احتواها بين أضلعه يمسح على ظهرها بحنان وعقله يجن من بكاءها بهذه الطريقة فما السبب الذي آل بها لهذا البكاء..
كانت تردد بكلمات غير مترابطة:-
– هي مكانتش وحشة .. هي مش وحشة .. أنا حاسه بيها .. حاسه بالشعور إللي حست بيه ساعتها بس هي كانت أقسى بمراحل..
يعقوب .. دور عليها .. مش تخليها وحيدة تاني، تيتا لبيبة رجعها لنا…
تجمدت أطراف يعقوب وفزع قلبه من فكرة حدوث شيء سيء لجدته، ردد بهلع:-
– هي مالها …حصلها حاجة.!!
مدت يدها له بالدفتر وقالت بأسف ودموع عالقة بخديها:-
– أنا عارفة إن مكانش ينفع أتدخل واقرأ علشان دي خصوصيتها بس غصب عني…
تناول يعقوب هذا الدفتر يفتحه وأخذت أعينه تجري على المكتوب والذي كان بمثابة نارٌ حارقة انسكبت على قلبه…
كان بالمقابل يتذكر لحظاته معها، حبها له الذي كان واضحًا للجميع، وقولها دائمًا (يا اسم غالي يا يعقوب.)
كانت تخبره دائمًا بأنه يشبه والدها…
لذلك تعتز باسم عائلتها كثيرًا وبكل ذكرى تخصّ والدها وبجميع أشياءه…
لذلك تزوجت بابن عمها ليبقى ويتخلد اسم والدها واسم العائلة ويصبح نسلها يحمل اسم آل بدران..
لذلك كانت تخبره أن اسم هذه العائلة مرتبط بالشرف والرِفعة والمبادئ والأخلاق…
لذلك كانت تحيط نفسها بجدار سميك وتعتزل الجميع…
لذلك كانت تحميه وتبعده كي لا تنجرح مشاعره ولو جرح بسيط..
لذلك كانت الثقة والأمان للأشخاص غير متواجدين بمعجمها وليس لهم مرادفات به سوى الخيانة والغدر والألم..
نعم كان مرادف الثقة والأمان بمعجم لبيبة بدران الخيانة والغدر والألم…
دائمًا ما كانت تخبره بهذه الجملة التي تتردد الآن بعقله..
“أنا بثق فيك يا يعقوب … ومستعدة أأمن على روحي معاك .. والجملتين دول معناهم عند لبيبة بدران كتير أووي يا يعقوب باشا.”
برزت عروق عنق يعقوب وعروق جبينه واحمرّ جفنيه لتسقط دمعتين حارتين انغمسوا بلحيته..
هي عندما كان والديه يبحثون عن المجد متناسين أن لهم ابنٌ أكبر يُسمى يعقوب كانت هي قائمة بكل شئونه، لقد بذلت كل شيء لجعله الأفضل، كان يرى أنها مستعدة لفعل أي شيء لأجله حتى التضحية بروحها…
كان يرى ويعلم أنها أكثر من تحبه، ومهما أحبه الجميع سيبقى حُب لبيبة ليعقوب حبًا مختلف متميز…
كان يعجب من طريقة حبها لكنه كان متيقن أنها تحبه أكثر من الجميع، بل إن حبها لا يُقارن بأي حُب أخر…
حبها كان تعلق روحي، تعلقت روحها بروح يعقوب، يكفيه أنها اختارت له اسم أحب الأشخاص لديها … يعقوب … اسم والدها الذي كان عالمها…
________بقلم/سارة نيل________
بعد مرور شهر…
طرق شديد على سطح الباب جعلها تهرع بتكاسل نحو الباب وبمجرد أن فتحت الباب توسعت أعينها بصدمة وصاحت بعدم تصديق:-
– نرجس … يحيى … مستحيل..
هدرت نرجس وهي تتماسك بصعوبة:-
– أيه كنتِ مفكرانا موتنا يا عفاف ولا أيه…!
توترت وجاءت تصتنع الود قائلة:-
– لا يا أختي أهلًا وسهلًا دا إنتِ شرفت……
قاطع وصلة كذبها واختلاقها الحب سقوط صفعة قاسية عاتية على وجهها، جاءت تتحدث لتتفاجئ بالأخرى على الجانب الأخر من وجهها…
شهقت بألم لتصرخ نرجس:-
– بطلي كذب بقاا ونفاق يا عفاف .. للأسف إللي دفعوا التمن عيالك … وأنا مش هتنازل عن حقي وحق عمري إللي ضاع هدر وحق بنتي…
إنتِ عذبتيني أنا وبنتي وجوزي بكل الطرق ومرحمتناش ولا رحمتي ضعف بنتي..
ووسعت الطريق لرجال الشرطة لتسحبها الشرطية بقسوة وهي تقول بغلظة:-
– مفيش حقيقية بتفضل مخفية يا مجرمة ومفيش جريمة بتفضل كاملة…
للأسف المجرمين إللي اتفقتي معاها يخطفوا يحيى ونرجس ويسرقوا المبلغ إللي كان معاهم ويعملوا إللي عملوه، وخطفوا بنتهم وهددوها علشان يفهموا يحيى وزوجته إنها اتقلت، بعد كل السنين دي اتمسكوا في جريمة قتل وعملية سطو كبيرة..
وبعد ما عقدنا صفقة معاهم بتخفيف العقوبة لو اعترفوا بكل جرائمهم اسمك جه في التحقيق، وحقيقتك وقذارتك انكشفت يا مدام غير سرقتك وتصرفك بالبيع لِبيتهم … يلا قدامي…
أخذت تصرخ وهي تنتحب برجاء:-
– حقك عليا يا نرجس … طمعت لما شوفت معاكم المبلغ ده كله … كنت بغير وحاقدة عليكِ يا نرجس … علشان خاطر عيالي يا نرجس، أنا اتعاقبت بما فيه الكفاية والله…..
واختفى صوتها وهم يجرونها جرًا أمام الجيران الذين تجمهروا يشاهدون هذا العرض المجاني…
ارتدى يعقوب ملابسه وخرج من قصر آل بدران وركب سيارته وقاد نحو منزل رِفقة…
بعد قليل كان يطرق باب منزل شقته القديمة بينما يرتب باقة زهور الأقحوان التي بيده…
فتح يحيى الباب مرحبًا به:-
– يعقوب … اتفضل يا ابني نورت..
دلف يعقوب للداخل وقال مبتسمًا بوقار:-
– أهلًا يا عمي .. إنتوا عاملين أيه وأخباركم..
– بخير يا ابني .. أخباركم أيه وأخبار الجماعة..
– كويسين والله بخير..
أتى رِين بجانب قدم يعقوب فانحنى يحمله وهو يمسد على ظهره وقال:-
– رِين واحشني يا راجل..
تنحنح يحيى وأردف يُخبر يعقوب:-
– كنت عايزه أفاتحك في موضوع مهم يا يعقوب..
هتف يعقوب بانتباه:-
– اتفضل يا عمي أنا سامع حضرتك..
قال يحيى بلهجة حاسمة:-
– بص يا ابني الحمد لله أمورنا استقرت، ومن بعد فرحك إنت ورِفقة هننقل بيتنا، أنا أجرت شقة قريبة من هنا، إنت عملت الواجب وزيادة يا يعقوب وكفاية إن إنتوا فتحتوا شركتكم ليا ولقيت وظيفة مناسبة ليا..
لكن أنا مش هقبل أبدًا نقعد كدا في بيتك أبدًا..
↚
قال يعقوب باعتراض:-
– أنا قولتلك يا عمي أنا دلوقتي جهزت بيتنا أنا ورِفقة وبقالنا شهر بنرتب فيه وبنجهزه والشقة دي خلاص بقت ملكك، هو إنت ليه عامل فرق كدا، مش إنت بتقول إن بقيت ابنك، وفي أب بيعمل فرق كدا بينه وبين ابنه..
هتف يحيى برفض شديد:-
– إنت ابني دا مش محتاج كلام، بس علشان أكون مرتاح … وكفاية إنك رفضت نجهز رِفقة وإنت جهزت البيت من كل حاجة..
أجابه يعقوب بعدم إقتناع:-
– إن البنت وأهل الزوجة يشاركوا في العفش، ويجيبوا جهاز جبار، دا العرف والعادات إللي أنا بصراحة مش مقتنع بيها..
أنا ورِفقة نزلنا وجبنا إللي هنحتاجه بس وإللي هنستعمله، ومش بالأعداد الجنونية إللي بتقولوا عليها دي، هي مراتي وبيتنا مسؤول مني أنا مش نصه مسؤول من أبوها…
ابتسم يحيى وقال بغرابة:-
– بس يا ابني دا بيبقى من ناحية أبو العروسة ويكون مساندة للعريس وخصوصًا لو لسه بيبدأ حياته … يعني لو عليه كل حاجة يبقى كتير أوي.
قال يعقوب بذات التفكير وإصرار:-
– ما أنا بقولك يتجوزا بالحاجة إللي هيحتجوها في بداية حياتهم بس وبعد كدا واحدة واحدة يجيبوا النواقص، يعني مثلًا بلاش حاجة الصيف في الشتا .. وحاجة الشتا في الصيف إذا كانت كدا كدا هتتركن..
وبلاش مثلًا خمسين مفرش سرير، وسراير وتكوين أوض أطفال والأطفال لسه موصلوش ولسه قدامهم على الأقل سنة أو اتنين ويوصلوا وينور الدنيا بالسلامة..
والله الدنيا بسيطة بس الناس بقت تصعبها على نفسها يا عمي..
أنا عارف إنك هتعترض معايا مع إن على فكرا إللي بقوله هو الشرع، بس إنت كدا كدا مش هتاخد معايا حق ولا باطل لأن أنا متمسك بأفكاري واعتقادتي ومتنساش إني بدران وهتلاقي راسي ناشفة..
ضحك يحيى وهو يحرك رأسه بلا فائدة، استقام وهو يرفع صوته قائلًا:-
– تعالي يا رِفقة شوفي جوزك …يعقوب باشا أبو دماغ ناشف..
جاءت رِفقة المبستمة ببهوت وانصرف والدها، استقام يعقوب وأعينه مثبتة عليها بشوق، سحب كفها يطبع قبلة بباطنه وهو يضع باقة الأقحوان بين يديها هامسًا:-
– وحشتيني يا أرنوبي..
اقتربت تطبع قبلة رقيقة فوق لحيته وقالت برِقة رغم حزن المتجلي بأعينها:-
– وإنت أكتر يا أوب..
جذبها تجلس بجانبه لتظل تنظر إلى الزهور وتتحسسها بحب وهمست:-
– وحشني أووي شكل الأقحوان..
مسد فوق وجنتها المنتفخة وقال بحنان:-
– حضري دفتر أمنياتك علشان هنحققها واحدة ورا التانية يا رِفقة، هعوضك على كل السنين دي ومش هسيب أمنية أقدر عليها ألا ما أحققهالك…
قالت بنبرة كاسفة:-
– قولتلك على أول أمنية ليا يا يعقوب، ترجع تيتا لبيبة..
قال يعقوب بصدق:-
– وأنا وعدتك إنها هتحضر فرحنا..
رددت بقلق:-
– فرحنا باقي عليه يومين وإنت قلبت الدنيا ومش لاقيها يا يعقوب..
– أنا وعدتك يا رِفقة .. بس المهم قوليلي الفستان وصلك..!!
فور أن تذكرت ابتهج وجهها وصاحت بحماس:-
– وصلي يا يعقوب متتخيلش رهيب قد أيه، ومتعرفش فرحتي قد أيه إن فستان فرحي من تصميم غصون الحُصري…
بجد أنا كنت بتفرج على تصاميمها وإنتاج شركتهم بانبهار مكونتش متوقعة إن هلبس من تصميمها…
ويبقى أيه تصميم مخصص ليا بس، حقيقي طلعت إنسانة رقيقة وخلوقة أووي ومبدعة…
طبع يعقوب لثمة حانية فوق جبينها وقال:-
– دا أقل حاجة في حق رِفقة..
يعقوب في خدمة أمنيات رِفقة..
وبصراحة زوجها بردوه وصاحب الشركة عُدي الحُصري شخص ذوق ومحترم لأبعد الحدود، وأحلى من كدا إننا بقينا مِعرفة وعزمتهم على فرحنا..
قالت بفرحة:-
– بجد … شكرًا بجد يا أوب …يسلملي قلبك..
– طب مش ناوية تفرجيني على الفستان..
هتفت بنفي:-
– لا طبعًا … أنا قولت سيبها مفاجأة يا يعقوب مش تضعط عليا بقاا..
_______بقلم/سارة نيل________
يوم الزفاف…
صاحت نهال بضجر:-
– معقول مش هتحطي ميكب خالص يا ست رِفقة..
ابتسمت غادة مخطوبة يامن شقيق يعقوب وقالت وهي تضع على وجه رِفقة بعض المرطبات الطبيعية:-
– سيبيها براحتها يا نهال طالما هي مش يتحبه..
أيدتها رِفقة وهي تُقبل غادة من وجنتها:-
– الله ينصرك يا غدغوده …أيوا بصراحة أنا مش بحبه خالص ومش ببقى حلوة فيه..
بحب طبيعتي ومفيش داعي إن أخبيها بالألوان يا نهال، أنا بحب نفسي كدا وأنا في عيني جميلة، كفاية أنا بعمل روتين لبشرتي وبهتم بيها ودا حلو أووي..
هتفت نهال بسخط:
– سكتنا يا رِفقة يا أم دماغ ناشف … يا ستار يارب على دي دماغ…
اقتربت آلاء بحجاب رِفقة وفستانها وقالت باستعجال:-
– يلا يا رِفقة الوقت اتأخر والعريس على وصول..
وقفت رِفقة بينهم في المنتصف وقالت بأعين دامعة:-
– ربنا يباركلي فيكم يا بنات، حقيقي مش هنسى وقفتكم جمبي دي، إذا كان في المرّ ولا الحلو…
عقبال يارب ما أقف جمبكم في السعادة..
تكبكبوا عليها يحتضنوها بسعادة وصوت ضحكاتهم يغمر الغرفة…
ابتسمت نرجس التي تقف على باب الغرفة بسعادة، رفعت رأسها للأعلى وقالت بإمتنان وشكر:-
– شكرًا يارب … اللهم لك الحمد والشكر يارب..
خرجت إليه كحورية من الجنة، فستانها الذي كان تحفة فنية عن الإحتشام واللباس الفضفاض والبساطة، فستان منسوج من القماش الحريري المطرز بروعة بالورود البيضاء وبالحب، فيكفيه جمالًا أنه صُنع بحب غصون وبروحها الجميلة التي لطالما لامست شيء إلا وزانته..
وحجابها الطويل الساتر الذي له نفس تصميم فستانها والذي زادته براءة رِفقة ونقاءها وابتسامتها جمالًا..
وقف يعقوب مبهوتًا مبهور بحِلته السوداء ووسامته الهادئة..
اقترب منها ثم همس وهو يضع قبلة رِقيقة مُطولة مفعمة بالمشاعر فوق جبينها وهمس:-
– ما شاء الله تبارك الرحمن … ربنا يباركلي فيكِ يا نور عيني .. مبروك عليا إنتِ يا رِفقة..
ابتسمت بخجل وهمست له:-
– وربنا يباركلي فيك يا أوب..
وأكملت بمرح:-
– ويجعلك زوج صالح ومطيع..
ضحك قائلًا:-
– دا أنا هبهرك يا أرنوب..
اقترب والد رِفقة ووالدتها المأخوذين بها، جذبها والدها يقبل جبينها واحتضنها بشدة لتبادله وهي على وشك البكاء لتسرع نرجس تقول بنفي:-
– لا مش عايزين عياط، إحنا هنا جامبك ومعاكِ وفي ضهرك … إنتِ لنا الدنيا كلها يا بنتي، إنتِ نور عيني يا رِفقة..
ارتمت بأحضان والدتها التي احتوتها بحنان، ليقول يحيى ليعقوب:-
– رِفقة أمانة في رقبتك يا يعقوب، إنت ااه ابني بس لو اتسببت في دموعها ساعتها….
قاطعه يعقوب بمرح:-
– أيه يا حاج إهدى عليا .. رِفقة مين إللي أزعلها، رِفقة في قلبي وعيني وقدام دموعها أنا مقدرش أبدًا..
وجذبها برِفق يضع ذراعها بذراعه وهو يقول باستعجال:-
– مش يلا بقاا علشان نلحق الفرح والضيوف ميملوش من الإنتظار..
وخرج وهي بصحبته حيث عالمه الخاص وعالمهم الذي سيشيدونه بالعشق والرحمة والمودة والرِفق واللين…
وكما تمنت رِفقة كان الزفاف منفصل وغير مختلط، ظلّ معها في البداية قليلًا ثم خرج يحتفل مع أصدقاءه وشقيقه يامن ووالده وجميع الضيوف من الطبقة المخملية بالأخير هذا زفاف يعقوب بدران الوريث الأكبر لعائلة بدران ذائعة الصيت رفيعة الشأن..
بينما رِفقة في الجهة الأخرى مع الفتيات ووالدتها وبقية النساء من الطبقة المخملية الذين تعجبوا وضع هذا الزفاف وبعد الاندماج في الأجواء نال الزفاف إعجابهم…
قالت إحدى