رواية مغامرات في العشق كاملة جميع الفصول بقلم ندي محمود توفيق

رواية مغامرات في العشق كاملة جميع الفصول بقلم ندي محمود توفيق

رواية مغامرات في العشق كاملة جميع الفصول هى رواية من تأليف المؤلفة المميزة ندي محمود توفيق رواية مغامرات في العشق كاملة جميع الفصول صدرت لاول مرة على فيسبوك الشهير رواية مغامرات في العشق كاملة جميع الفصول حققت نجاحا كبيرا في موقع فيسبوك وايضا زاد البحث عنها في محرك البحث جوجل لذلك سنعرض لكم رواية مغامرات في العشق كاملة جميع الفصول
رواية مغامرات في العشق بقلم ندي محمود توفيق

رواية مغامرات في العشق كاملة جميع الفصول

هناك بعض الاقاويل التي تصف العشق على أنه ” ثقة ”
ولكن في حال انقشاع الثقة وانحلال الخيانة والغدر والكذب محلها فسينقشع معها مفهوم العشق على أنه ثقة ويصبح يمثل بالنسبة لهم ماهو إلا تلاعب بالمشاعر كدمية على مسرح يحركها صانعها كما يشاء !! .
فتذوق طعم الغدر يماثل السم الذي لا تشعر بمذاقه حين يقدم لك في صحن طعام شهي ! ولكنه يسري في جسدك واعضائك فيدمرها ويجعل نهايتك الموت ! .
” ملاذ ”
كانت كامنة في مضجعها تضم ساقيها إلى صدرها تحملق أمامها في اللاشيء بشرود .. وكل دقيقة تسترجع لحظة اكتشافها لخيانته القذرة .. وكيف أنه شعور لا يزال يمزقها حتى الآن ، فقد كان متبقي على زواجهم شهر فقط ! ، من أين جاءته كل هذه القسوة ليفعل بها هكذا ! ، ورغم خداعه لها يحاول العودة !! .. وتحاوطها الذكريات المؤلمة من كل الجهات وتتناثر في الهواء كتراب هبت عاصفة قوية ففرقته ، ومن جهة ذكرياتها السعيدة وعشقها له الذي يشعل النيران في صدرها وتأكلها حتى النهاية ! .
لا تنسي وصف الجميع لها بالفتاة الفاتنة التي اخذت قلوب الرجال خلسة بابتسامتها التي رسمت كلوحة فنان ووضع لمسته عليها من الجانبين ” غمازتين ” ، وعيناها التي تأخذ لون البحر تمثل طلاسم خطيرة تسقطك في سحرها الأبدي ، شعرها الذي يميل للبني الغامق مع نعومة تشبه نعومة الحرير الأصلي .
طرق خفيف على الباب سمعته ولم تبالي للرد على الطارق والذي دخل فورًا بعد طرقه وكانت والدتها التي جلست بجوارها هاتفة بضيق بسيط :
_ هتقعدي لغاية إمتى كدا ياملاذ
نظرت لها بانكسار ولم تجيب وتولت دموعها الدور في التحدث فملست أمها على شعرها قائلة بأعين دافئة ومشفقة وهي تجيبها بشيء من الحدة :
_ ميستهلش كل زعلك ده عليه .. ده حيوان ولا يسوى !
خرج همسها الضعيف والعاجز المختلط بصوت دموعها :
_ أعمل أيه ياماما بحبه
أجابتها في سخط بسيط :
_ بتحبيه إيه !! .. لا أنا ولا أبوكي كنا موافقين عليه أساسًا وإنتي اللي صممتي اكمنك بتحبيه واحنا وافقنا وأهو إيه اللي حصل
نظرت أمامها تحدق بفراغ وتهمس بصوت مزقه الألم :
_ لغاية دلوقتي مش متخيلة إزاي عمل فيا كدا ، إزاي يخوني وأنا اللي كنت بثق فيه أكتر من نفسي .. لحد اللحظة دي وأنا مش مستعوبة اللي حصل وبقول أنا أكيد في كابوس وهصحى
قبضت على ذراعها بشيء من الحدة واللين هاتفة بصرامة :
_ لا إنتي مش كابوس ياملاذ دي الحقيقة ، فوقي وانسيه وبصي لحياتك إنتي لسا صغيرة وألف من يتمناكي ، اللي زي ده يابنتي ميستهلش غير الكره .. ميستهلش حبك النقي والصافي ليه لإن ميعرفش معنى الكلمة دي أساسًا
ثم اقتربت من شعرها الحريري وقبلته مغمغمة بحنان أمومي وصوت رقيق :
_ يلا قومي ياحبيبتي اغسلي وشك وصلي وتعالي برا عشان الغدا جاهز وأنا وأبوكي مستنينك
همت بأن تعترض فرأت قسمات تنم عن رفضها القاطع لاعتراضها ، فأماءت لها بالإيجاب في استسلام ووجه خالي من التعابير .
***
هناك البعض لا يعترفون بهذه الأقاويل التي تصف العشق ، ولا يعترفون بالعشق ذاته ! ، يرونه سمة مشاعر تافهة ومخادعة تدخل القلب فتلوثه ! .. يفضلون العيش خالين الوفاض ويستخدمون مقولة جورج برنارد شو ( العربة الفارغة أكثر جلبة من الممتلئة ) ! .
الحياة متعة يجب أن تعيشها كما يجب ، ولا مانع من تجربة متعة النساء وكأس ڤودكا ! .. هذا هو مبدأ البعض في الحياة ، متعة وفتيات وسهرات .
” حسن ”
الشاب الذي بلغ نصف عقده الثالث ، يمتلك عينان ثاقبة بقدر دهائها ، وقسمات وجهه الصارمة تعطيه طابع يختلف عن شخصيته الحقيقية المرحة والمحبة للحياة ، لا زال يتذكر عشقه الأول الذي يراه الآن مصدر لتلوثات قلبه ! ، يرجع بشريط الفيلم الأسود للخلف ويعيد مشاهدة كيف خدعته بعد أن كانوا على عتبة الارتباط الحقيقية وفاجأته بقولها أنها تمت خطبتها على رجل غيره ، ثم يتقدم قليلًا بالشريط ليرى محاولاته معها بأن تتراجع ويمطرها بوعوده لها بأنها ستكون زوجته بالقريب العاجل ، كانت وعود صادقة وكان هو على أتم الاستعداد لتنفيذها ولكن جوابها أوقف دقات الساعة عند هذه اللحظة ” حسن أنا أساسًا محبتكش عايز الحقيقة إنت كنت مغفل وأنا كنت بستغل إنك من عيلة حسب ونسب ومعاكم فلوس واغنيا وقولت مفيش مشكلة لو اتجوزتك وعيشت معاك بس لما جاتلي الفرصة دي ولقيت واحد ممكن يحققلي كل اللي نفسي فيه بجد مقدرتش أرفضه وحاجتك اللي جبتهالي كلها طول فترة علاقتنا أهي ابقى اديها لبنت الحلال اللي هتكون من نصيبك ” تلك الكلمات لا يزال أثرها في نفسه حتى الآن رغم مرور سنتين على انفصالهم ، ولكن نعتها له بالمغفل يتردد في أذنه كل دقيقة ومع الوقت أدرك أنه كان مغفلًا حقًا .
كان قد غاص في ذكرياته تمامًا ونسى أنه يقود السيارة لولا صرخة تلك الجالسة بجانبه ” ابنة عمه ” وهي تصيح به لينحرف قبل أن يصطدم بإحدى السيارات ! .
_ إيه ياحسن حرام عليك هو أنا ناقصة خضة !
قالتها وهي تلهث من فعل الخضة ، ليمسح هو على وجهه ويقول معتذرًا :
_ معلش يا يسر سرحت شوية ، إنتي كويسة ؟
اماءت له بالإيجاب وسط نظراتها الدقيقة لملامحه ، فخمنت فورًا فيما كان شارد ، لتلتهب نيران الغيرة بداخلها ولكنها لا تمتلك الحق للحديث معه في شيء كهذا واكتفت بقوله المختنق لعلمها جيدًا أنه جاء ليأخذها مغلوب على أمره :
_ أنا اللي آسفة ازعجتك ياحسن بيه ، مكنش لازم يعني تاجي وتاخدني أنا كنت هروح وحدي
طالعها بطرف عينه بعد أن لمس الاستهزاء في نبرتها وقرر هو الآخر أن يحدثها بنفس طريقتها :
_ والله أنا كمان ده كان رأى بس نعمل إيه بقى في مرات عمك هي اللي أصرت إني آجي أخدك بما أنكم معزومين عندنا النهردا
اشاحت بوجهها بعيدًا عنه وهي تضغط على كفها بقوة مغتاظة فهي تعرف أنه لا يستلطفها بتاتًا ولكن لا يمكنه أن يكون بكل هذه الوقاحة ، وهمست بصوت خفيض متوعدة بغل :
_ ماشي ياحسن وحياة أمي لأوريك يسر ممكن تعمل إيه فيك ، عشان تبطل غرورك ده
_ نعم بتقولي حاجة ؟!
عادت بنظرها له ورسمت ابتسامة مزيفة على شفتيها وهي تجيبه بمضض :
_ لا أبدًا بقول فيها الخير مرات عمي
_ أمممممم
كان باردًا للحد الذي جعلها كتلة نيران متوهجة تود خنقه بيديها ، ياله من عديم احساس ولا يدري شيء عن الذوق والاحترام ولكنها في القريب العاجل ستلقنه الدرس الذي يستحقه وستأخذ انتقامها منه ! .
” يسر ”
تؤمن بالمقولة التي تصف العشق على أنه ” يقود للجنون ” ! ، فيدفعك لأفعال تؤدي بك للهلاك ! .
الشابة التي تخطت عقدها الثالث بثلاث سنوات ، ينعتها البعض بقليلة الخبرة في الحياة لصغر سنها ، بجانب وصفهم لهم بصاحبة الأفكار المجنونة .
أحداث أليمة وسوداء تعيش في صميمها حتى هذه اللحظة ، لحظة رفض الرجل الذي طالما عشقته منذ طفولتها .. نعم بالتأكيد هو الرجل الذي وصفته بعديم الذوق منذ قليل !! . منذ مايقارب السنتين تحدث عمها في جلسة كانوا جميعهم فيها عن رغبته بوضوح في ارتباط ابنه الصغير وابنة أخيه ولكنه رفضها أمام الجميع دون أن يضع اعتبارًا لمشاعرها وقال في جفاء مزق قلبها ” بس يابابا أنا قولتلك أنا مش في بالي الجواز دلوقتي نهائي ثم أنا ويسر مجرد ولاد عم وأنا مبشفهاش غير أختي واعتقد إن هي كدا برضوا ده غير إن أنا وهي مش متفاهمين مش كدا ولا إيه يايسر ؟ ” .. منذ هذه اللحظة قررت أن تضع حبها جانبًا لوقت مجهول وتخطط لانتقامها منه الذي سيقضي على غروره ، وتحقق مبتغاها الذي تسعى له منذ سنوات وهو أن يكون لها وحدها ، وهي لا تذكر أنها عزمت على شيء ولم تتمكن من تنفيذه ! .
***
لا شك في مقولة العشق ” تضحية ” ! ، ومفهوم التضحية ليس كما يظنه البعض وهو الذي يدور في إطار الأفلام والمسلسلات الكلاسيكية حول تضحية العاشق بحياته وروحه من أجل أن تنعم معشوقته بحياة آمنة وسالمة ، كلمة تضحية تشمل في جوفها معاني جمة ، فالعشق يلزمه صفات لكي يكتمل ويصبح في ابهى صوره ومن ضمنهم التضحية .. عندما تقرر العشق فهذا يعني أنك ستضحي بحياتك السابقة ستضحي بعادتك وبكل شيء لا يتناسب مع العشق حتى وإن كان لديك عشقًا سابق ، فمن شروط العشق الجديد إن تضحي بعشقك السابق حتى يكون مفهوم العشق والتضحية صادق ومكتمل .
” كرم ”
رجل المواقف الصعبة كما يلقبه البعض ! ، يستحيل أن تكون في مأزق ويتركك بمفردك ، أما عن أهله في المنزل فيطلقون عليه لقب ” الخجول ” وربما لهذا السبب يعجبن النساء به فورًا ويصفونه بـ ” الكيوت !! ” بإمكانه فعل كل شيء في الحياة بكل سهولة إلا التحدث مع النساء الأعجميات عنه بطلاقة ومهارة الرجال فهذا أصعب من تسلق قمة إڤرست بالنسبة له ! ، لا يعلم ما سبب خجله من جنس النساء ولكنه لا يمتلك دهاء الرجال ومكرهم ويخيل له أنه لهذا السبب يجهل التعامل معهم ويخجل كثيرًا ! ، ومع ذلك سقط في وحل العشق ، وتم عقد قرآنه بعد عشق دام لثلاث سنوات يراقبها من بعيد وأخيرًا أصبحت له إلا أنه واجه صعوبة في أن يكون صريح في بداية الأمر ويتصرف كما ينبغي على الرجال أن تتصرف ولكن بعد عقد قرآنهم تغير كليًا معها لدرجة أنها شكت في أمره ، ومع الأسف لم تكتمل سعادته كثيرًا وخاب أمله حين سمع بخبر وفاتها قبل حفل زواجهم بأسبوع ، وكانت أبشع طريقة للموت حيث طعنت في فؤاده سكينًا لم تتمكن السنة التي مرت من إزالتها .. سكينًا ملتهبة بنيران الثأر لكل نقطة دم وصرخة وألم وخزي وانكسار وضعف شعرت به وهو لم يكن موجودًا معها ليحميها ، فذهبت ضحية اغتضاب وحشي ! ، ولم يمر يوم ولم يذورها في قبرها ويطلعها على كل الأخبار الخاصة به كأنها حية تشاركه أحداث يومه ويبشرها بدنو أجل من سرقها منه وقتلها ، ولا يمل من وعوده لها بأن قريبًا جدًا سيأتي لقبرها في يوم من الأيام ويخبرها بأنه أخذ بثأرها .. وأن السكينة المغروزة في قلبه أخيرًا تمكن من إخراجها ! .
استفاق من شروده على صوت السكرتيرة الخاصة بمكتبه وهي تهتف بمياعة واضعة كوب القهوة أمامه على سطح المكتب :
_ القهوة ياكرم بيه !
تحاشى النظر إليه وتصنع الانشغال بالأوراق التي أمامه هاتفًا بصوت رجولي خشن :
_ تمام شكرًا ياريم .. زين جه ولا لسا ؟
أجابت بنبرة انوثية مغرية تحاول بكل الطرق لكي تلفت انتباه هذا الخجول لها ، الذي لا يمكن لامرأة أن ترفض نظرة من عيناه الرمادية الطيبة ، رجل كهذا يمثل فتى أحلام الفتيات كيف لأنثى مهما كانت أن تقاومه :
_ جه يافندم
لا يمكن مرور الأمر بهذه اللطافة منه ، فهناك البعض يتطلب أن يخلع رداء اللطافة والرقة واللين أمامهم ويظهر لهم عن حقيقته العصبية والمرعبة ، فرفع نظره لها بشراسة وهتف بصرامة اربكتها :
_ اتفضلي على شغلك يا أنسة وخليكي فاكرة إن هنا مكان شغل هااا ، ميغركيش وشي عشان لو شفتيه على حقيقته هتكرهيني بجد
انتصبت في وقفتها والتفتت وغادرت بتوتر وخوف هامسة لنفسها باستنكار وخنق :
_ يعني هو لا منك ولا من أخوك الشيخ ، واحد مبيرفعش عينه في واحدة اكمنه بيتكسف والتاني ناقص يلبسنا كلنا خمارات ويقلب الشركة مركز تحفيظ قرآن
” زين ”
مفهوم العشق بالنسبة له يتمثل في ” الأخلاص ” الخالي من الغدر والخداع ، وبالرغم من كل شيء فهو يرى المرأة جوهرة يجب أن تُعامل كما تستحق ، فقسوة الرجال لا تظهر على النساء بل على الأعداء .
” زين ” الأبن الأكبر من بين اشقائه الثلاثة حيث بلغ بداية عقده الرابع ( 30 عام ) من شهور ، الذي يقضى أيامه يروتينية مملة على عكس أشقائه .. ما بين العمل والمواظبة على الصلاة في المسجد وقراءة القرآن الكريم يوميًا ، وسط محاولات والدته أن يتزوج ولكنه يرفض بحجة أنه لا يريد فتاة من فتيات هذه الأيام ، ويريدها على خلق ودين واحترام ، حتى يسلم لها نفسه واسمه على طبق من ذهب ويكون واثق أنها ستحافظ عليها ! .
ولكن هل هناك انسان لم يرتكب ذنوب في حياته ! ، وهو أيضًا لديه جانبه الأسود ، وربما من الأفضل أن تبقى بعض القصص ناقصة إلى بعد حين ! .
جذب انتباهه دخول شقيقه وهو يقول بجدية :
_ إيه يازين اتأخرت كدا ليه النهردا أنا طلعت قبلك الصبح وقولت إنت هتاجي ورايا ؟!
أجابه بصوت منهك وضعيف :
_ أنا مكنتش هاجي أساسًا يا كرم ، من امبارح بليل تعبان بس قولت هقعد في البيت أعمل إيه .. الحمدلله دلوقتي بقيت أحسن
اقترب وجلس على المقعد المقابل له وهو يهتف بضيق :
_ ولسا بليل كمان هو يوم مش فايت أساسًا !
_ يعني هي أول مرة ياكرم ماهو من حياة بابا الله يرحمه كنا متعودين إننا في عيد الفطر بنعزم العيلة كلها واللي أخرها المرة دي المشاكل اللي كانت حاصلة
هتف مختنقًا بنفاذ صبر :
_ الواحد النهردا ملوش خلق لأي حاجة مش أنه يقعد مع العيلة اصلًا
لم يجيبه بل كان صامتًا يحدق في اللاشيء بشرود فيغمغم كرم بحدة ممزوجة بالاشفاق :
_ كفاية يازين الموضوع ده عدى عليه عشر سنين وإنت لسا زي ما إنت مش قادر تنساه
نظر له وقال بصرامة شديدة وإصرار :
_ لأن ضميري مش مرتاح ومش هيرتاح غير لما أكفر عن ذنبي .. أنا ليا عشر سنين بكفر عن ذنب بالصلاة والاستغفار وبطلب من ربنا العفو والمغفرة والذنب التاني مش عارف أكفر عنه بس قريب أوي إن شاء الله
تنهد الصعداء بيأس وقرر تغيير مجرى الحديث حيث قال بتذكر :
_ هو حسن فين ؟
تغيرت ملامحه عند ذكر شقيقهم الصغير وصاح منفعلًا :
_ متجبليش سيرته ، البيه طلع مقضيها شرب وسهر وقذارة من فترة واحنا منعرفش حاجة .. ولما حاولت اتكلم معاه واعقله مفيش فايدة منه ، بس اقسم بالله لو استمر في اللي بيعمله ده ما هيقعد في البيت يوم واحد تاني
ابتسم بعذوبة وتمتم برزانة وثقة :
_ سبهولي أنا بعرف اتعامل معاه ، هدى نفسك ياوحش بس
***
لا بأس في مقولة نزار قباني عن العشق ( قلوبنا لا تختار من العشق إلا أصعبه ! ) . فيخوضنا لحروبًا مع أنفسنا قد نخرج منها بهزيمة ساحقة .. ويبدأ بخيالات ترتفع بنا للنجوم ثم يتركنا في الأعلى فنسقط من النجوم للأرض في لمح البصر .
” شفق ”
تلك الشابة الجميلة التي في نهاية عقدها الثاني .. يتهاتف الشباب عليها لجمالها المغري ! . تمتلك قامة قصيرو بعض الشيء وجسد متناسق ، عينان بندقيتين واسعتان يلمعان في ضوء النهار ، وبشرة بيضاء ناصعة مع ابتسامة ساحرية .. وفوق كل هذا الجمال ، يشهد الجميع لها بشفق الفتاة المهذبة والخلوقة التي نجحت عائلتها الصغيرة في تربيتها تربية صالحة وصحيحة .
ولكن أصابتها لعنة العشق ، عشق صعب المنال بعض الشيء .. فتعاني في صراع بين دوافعها الداخلية التي تعشق ودافعها الخارجية التي تمنعها من كل شيء ليس مباح في مجتمعنا وديننا ، فبقيت تعاني من الشوق داخلها دون الإفصاح لأي شخص .. وترفض كل شيء بإمكانه أن يخل بسمعة عائلتها ويجعل أخيها مطرقًا رأسه في خزي .
داخل مقر جامعة الهندسة …..
تجلس بجانب صديقتها فتقطع الصمت هاتفة :
_ عملتي إيه مع عمر ؟
إجابتها شفق بأسى بعد ذكره أمامها :
_ لسا زي ما هو بيحاول يكلمني وأنا رافضة إمبارح كلمني وقولتله اللي المفروض يتقال وإنه لو فعلًا عايزاني ياخد رقم أخويا ويتكلم معاه غير كدا مفيش حاجة بينا
تأججت نيران الغيرة في أعشاش صديقتها ، فهي لا تعرف سبب تمسك ذلك الأحمق بهذه الساذجة ، وتخبرها بكل بساطة أنها تريد ارتباطهم الرسمي .. يجب عليها أن تقتلها أولًا حتى تحدث هذه التفاهات ! .
***
في المساء ……
داخل قسم الشرطة يحتسى كل منهم قهوته في صمت تام وبعد دقائق يقرر كرم أن يخترق فقاعة الصمة قائلًا بتريث :
_ وصلت لحاجة يا سيف ولا لسا ؟
قال بخيبة أمل :
_ للأسف لسا إنت عارف إن من ساعة اللي حصل والواد ده مختفي بس هيروح من البوليس فين مسيرنا هنجيبه
رمقه بنظرة نارية وهتف بصوت مريب قليلًا :
_ سيف إنت قولت هتساعدني وأنا وافقت يبقى كل اللي عليك تساعدني اوصله والباقي عليا أنا ، ومتقلقش لما اقتله واشفي غليلي وإنت تطبق عليا القانون مش هزعل منك
تأفف الآخر بغضب هادر وهو يصيح به بنبرة مرتفعة :
_ إنت دماغك دي فين ، عايز تقتله وتضيع نفسك عشان الحيوان ده يبقى إيه الفرق بينك وبينه كدا ، بعدين أنا قولتلك هساعدك نوصله وياخد جزائه مش عشان اسلمه ليك وتقتله ، بلاش جنان وأعقل ياكرم وفكر منطقية مراتك الله يرحمها خلاص مش هيبقى موت وخراب ديار
ضرب بقبضة يده على سطح المكتب مغمغمًا بنبرة خافتة لا تدل على خير :
_ بيك أو منغيرك ياسيف هوصله وهاخد حق مراتي بإيدي
أخذ يزفر النيران من فمه مغتاظًا من هذا العنيد وقرر أن يغير مجرى الحديث حتى لا ينفعل عليه كالعادة ويهتف برزانة :
_ طيب خلاص ياصاحبي اهدى وسيبك من الموضوع ده دلوقتي .. إيه الأخبار معاك ؟
_ تمام الحمدلله .. صحيح عاملة إيه والدتك ؟
أجابه مبتسمًا بمداعبة عند ذكر أمه :
_ زي الفل ، أنا بشك إن إنت اللي ابنها مش أنا ياراجل دي بتدعيلك أكتر ما بتدعيلي ، نفسي أفهم إيه سر حبها فيك للدرجة دي !
بادله الابتسامة ولكنها كانت ابتسامة صافية شبه خجلة على عادته وهو يجيبه باحترام :
_ والله ربنا يعلم ياسيف أمك دي معزتها في معزة أمي بظبط ، ربنا يخليها ليكم يارب
_ آمييين ، آه قبل ما انسى سيادتك معزوم عندنا بكرا ومفيش أعذار لإن الست الوالدة مبتقبلش بأعذار لما يكون الموضوع يخصك ، ولعلمك بكرا في وليمة من اللي يحبها قلبك قعدت تسألني هو بيحب إيه في الأكل وأنا اتوصيت بيك الصراحة
قهقه بخفة وأجابه بالموافقة في هدوء :
_ ماشي يا سيف هاجي إن شاء الله ، بس قولها ملوش لزوم تتعب نفسها أنا هاجي بس عشان مزعلهاش
ربما هو يجهل سبب حب الجميع له ولكن أفعاله واحترامه يجبر كل من يراه على احترامه وتقديره .
***
داخل منزل عائلة العمايري الذي يتكون من طابقين تحيط به حديقة كبيرة بعض الشيء كانت العائلة متجمعة في الحديقة يتبادلون الأحاديث والمرح والضحك ، ولكن كان التجمع العائلي ناقصًا بعض الأفراد .
هتف طاهر بتساءل محدثًا ابن أخيه الكبير :
_ امال فين كرم يازين ؟
صمت قليلًا وهو يتذكر طلب أخيه منه أن يتحجج لهم بأي شيء ، فهو ليس في وضع يسمح له بمقابلة أحد وربما يقضي الليلة في منزله الذي كان يخطط للزواج فيه ، فتنهد بعمق وتمتم مبتسمًا دون أن يكذب :
_ كرم والله ياعمي الفترة دي مضايق شوية وقالي اعتذر منكم بالنيابة عنه إنه مش هيقدر ياجي
قطع حديثهم قدوم هذه الفتاة الشابة ابنة محمد العمايري الصغرى وهو تحمل الشاي على صينية كبيرة وتلف بها على أفراد العائلة كلها فيلتقط كل منهم كأسًا ويبدأ في احتسائه ، حتى هتفت العمة الكبرى محدثة حسن بمشاكسة :
_ مش ناوي بقى تعقل ياحسن وتفرحنا بيك
ابتسم لمشاكسة عمته وأجابها ضاحكًا :
_ هو مفيش غيري في العيلة ولا إيه ياجماعة ، أنا الحمدلله مرتاح في حياة العزوبية
لاحظ نظرات أخيه المشتعلة له فأشاح بوجهه وهو يتأفف بعد أن فهم سبب نظراته ولكن انسحاب فردًا من جلستهم وهو يبدو على ملامحه الاستياء ، فأوقفتها أمها قائلة باستغراب :
_ رايحة فين يايسر ؟
أجابت بقرف وهي تخطف نظرة نارية لحسن :
_ رايحة الحمام ياماما
ثم اندفعت من أمامهم لداخل المنزل ، فلم تتمكن من البقاء في هذه الجلسة العائلية بعد أن تم ذكر الزواج أمامها مجددًا وأعادوا لذاكرتها اللحظات من جديد عندما رفضها أمام الجميع ، ومنذ هذه اللحظة تسأل نفسها هل هي قبيحة لهذه الدرجة الذي تجعله يرفضها رفضًا قاطعًا أمام كل أفراد العائلة .
اتجهت للمطبخ والتقطت كأسًا وسكبت الماء الباردة فيه ثم تناولتها دفعة واحدة لعلها تخفف من النيران المتأججة في قلبها ، وإذا بها بعد دقائق تجده ينضم لها ويأخذ أحد أكواب الماء أيضًا ويتمتم ببرود ونبرة غير مبالية بعد أن فهم سبب انسحابها من جلستهم :
_ أنا أكيد مكنش قصدي إني أرفضك قدام الكل زمان .. بس …
وضعت الكوب على الرخامة بقوة مما أصدر صوتًا هيأ له أنه انكسر وهتفت بحدة وحزم :
_ عن أذنك ياحسن !
همت بالالتفات والرحيل ولكنه قبض على ذراعها يرغمها على الوقوف هاتفًا باعتذار بدى لها غير صادق ، فقط يحاول أن يخلص ضميره من الذنب الذي ارتكبه في حقها :
_ أنا آسف لو اللي عملته لسا مأثر فيكي لغاية دلوقتي ومخليكي متعصبة مني ، أنا قولتلك إني مكنش قصدي .. بابا الله يرحمه فاجأني مرة واحد احنا وقاعدين وأنا مكنتش بفكر في الجواز ولا زالت مبفكرش فيه
نظرت ليده القابضة على ذراعها فابتسمت بسخرية وأبعدتها عنها برفق ثم همست بصوت يشابه فحيح الأفعى :
_ مأثر فيا !!! ، يبقى يؤسفني إني أقولك إنك متعرفش أي حاجة عني يا ابن عمي .. أنا مش ببص ورايا ببص قدامي بس مبنساش اللي فات فعشان كدا حاول تخلي تصرفاتك معايا بحدود وإياك تكرر اللي عملته من شوية ده تاني ، وإلا إنت اللي هتكون خسران لإني زي ما قولتلك من شوية إنت متعرفنيش فخليك حذر معايا
ثم استدارت وانصرفت تاركة إياه يحدق على آثارها بقرف وغطرسة مغمغمًا :
_ بنت مقرفة بصحيح ، والله خسارة فيكي الاعتذار أساسًا ، قال خليك حذر معايا إنتي تطولي أصلًا لما المسك !! .. وعاملة نفسها مش طيقاني وهي واقعة في دباديبي
***
خرجت من الحمام وهو تنشف شعرها وترتدي ملابس المنزل خاصتها .تفكر فيما عرضته عليها والدتها صباح اليوم عن صديقة لها لديها ابن وتبحث له عن عروس واختارتها هي العروس لابنها ! ، كيف تدخل في علاقة جديدة وهي لا زالت لم تخرج من السابقة ، لا زال خطيبها السابق يعيش في أعماقها ، ومع ذلك اعطتها والدته الوقت الكافي للتفكير والرد دون تسرع ، وأن تفكر بمصلحتها قبل كل شيء ! .
جذب انتباهها صوت هاتفها الذي لم يتوقف عن الرنين منذ أن كانت في الحمام ، فالتقطته لتجيب على هذا الرقم المجهول :
_ الو مين ؟
تجمدت دمائها عند سماعه صوته الذي لا تخطىء في تحديده من بين مائة رجل :
_ ملاذ ابوس إيدك ما تقفلي إنتي فاهمة الموضوع غلط أنا بحبك ومستحيل اخونك
صاحت به باندفاع بعد أن انسالت الدموع على وجنتيها :
_ كذاب يا أحمد أنا شوفتك بعيني محدش حكالي ، وكل حاجة بينا انتهت خلاص وإياك تفكر تتصل بيا تاني
همت بأن تغلق الهاتف ولكن صياحه المتوسل لها وهو يقول برجاء وندم مزيف :
_ لا لا متقفليش طيب خليني اشوفك ونتكلم وصدقيني لما تفهمي كل حاجة هتعرفي إنك ظلماني
هتفت بقسوة من خلف جدار قلبها الذي يتحرق شوقًا لرؤيته وسماع صوته ولكنها قررت أن تخبره بأمر العريس حتى تحرق قلبه كما حرق قلبها :
_ مفيش كلام بينا ، وأنا في عريس متقدملي وهوافق عليه .. أظن من كدا فهمت إن كل حاجة بح وصدقني لو اتصلت تاني هقول لإسلام واخليه هو يتصرف معاك
ثم أنهت الاتصال دون أن تدع لنفسها فرصة لسماع أي توسلات مزيفة منه أخرى وألقت بالهاتف على الفراش ثم جثت على الأرض مستندة بظهرها على الحائط ، تاركة لدموعها أن تنطلق بكل قوة لديها ، حتى تخرج الألم الذي يشتد كل يوم وكل ساعة قبل أن يقتلها . ولكنها انتفضت عندما سمعت صوت طرق الباب وأخيه الذي يقول بلين :
_ ملاذ ياحبيبتي إنتي صاحية
استقامت واقفة وجاهدت في إخراج صوتها طبيعيًا وهي تسرع في تجفيف دموعها بواسطة حجابها الملقي على الفراش :
_ صاحية يا إسلام تعالي
فتح الباب ببطء ثم دخل وهو يتعكز على عكازه الذي لم يفارقه منذ ما يقارب لعشر سنوات بعد حادث تعرض له أدى إلى عجز في قدمه اليسرى ، وبعد محاولات انتهت باليأس من أن يجدوا علاج لحالته ، قبلوا جميعهم بالأمر الواقع وهو يتصنع القبول من الخارج ولكن من داخله يشعر بالنقص والعجز دائمًا ويرفض إلحاح والدته في أن يتزوج قائلًا لها بأسى وشجن ” اتجوز إيه بس ياماما وبعدين مين دي اللي هتقبل بواحد عاجز زي ” .
عجزت هي عن المقاومة أمامه حيث اندفعت نحوه وارتمت داخل أحضانها وصوت بكائها يرتفع أكثر فأكثر فأسند هو عكازه على الحائط ثم ضمها بذراع وبالآخر أخذ يلمس على شعرها بحنو هامسًا بقلق :
_ مالك ياملاذ ؟!
_ مليش يا إسلام ، نفسيتي تعبانة بس ؟
تحامل على قدم واحدة حتى وصل إلى الفراش وجلس مشيرًا لها بيده أن تأتي بجواره فلبت رغبته بصدر رحب وجلست بجواره أو بالأخص بين ذراعيه وتسمع همسه الذي اختلط بين اللين والحزم :
_ الحيوان اللي زعلانة عليه ده ميستهلش تنزلي دمعة واحدة عشانه سمعاني ، وأنا لولا إنه أصلًا كان مجرد خطيبك كنت خليتك تتفرجي على اللي هعمله فيه
_ عارفة يا إسلام إنه ميستهلش بس كنت بحبه بجد ، وآخر واحد كنت اتوقع منه الخيانة والغدر هو ، لكن جات الخيانة منه للأسف .. صدقني غصب عني مش بسهولة دي هقدر انسى الموضوع
كانت تهمس بهذه الكلمات في أسى وصوت مبحوح فباغتها هو يقوله الناعم :
_ طيب فكرتي في العريس اللي قالتلك عليه ماما .. أنا تقريبًا شوفته قبل كدا مرة واحدة والصراحة كان باين عليه إنه محترم ومتدين وكويس أوي
صمتت لبرهة وهي تفكر بحديثها مع خطيبها السابق منذ قليل فتشتعل نيرانها مجددًا وتهتف حاسمة أمرها :
_ ما أنا كنت هطلع أقول لماما إني موافقة اشوفه
ابعدها عنه وقال باسمًا بسعادة :
_ اطمني أنا بضمنلك إن المرة دي ربنا مش هيخذلك وهيكون هو هدية ربنا ليكي
تصنعت الاهتمام بكلامه وقالت بخفوت غبر مبالي :
_ إن شاء الله يكون كدا ، أنا لسا هشوفه وبعدين هاخد القرار النهائي وكمان هو يمكن أساسًا ميوفقش لما يشوفني مثلًا معجبهوش أو كدا .. يعني موضوع الجواز ده بيبقى معقد شوية لما يكون الأتنين ميعرفوش بعض
أجابها بتأيد لكلامها وهو يهب واقفًا ويجذب عكازه :
_ ربنا يقدم اللي فيه الخير ياحبيبتي ، أنا هروح أنام بقى ونامي إنتي كمان ومتفكريش في حاجة هااا
أماءت له بابتسامة محبة لحنان أخيها عليها ، فعشقها لأخيها وأبيها لن يتمكن رجل آخر من أن يحظى بنفس قدر عشقها لهم !! .
***
مع إشراقة شمس يوم جديد .. يوم سيشتمل على بدايات ونهايات ! .
كان جالسًا أمام التلفاز يحتسي كأس الشاي الصباحي الخاص به بعد إن حضرته له والدته .. والتي تجلس بجواره تشاهد معه التلفاز .
“هدى” التي يصفها أولادها بالمرأة صاحبة القلب الأبيض كبياض الثلج ، تنعم بمعاملة طيبة وحنونة من جميع أولادها وبالأخص من زين وكرم ، أما حسن فلا يكتفي من المعاملة الطيبة كأشقائه بل يعامل أمه كحبيبة له يغازلها ويداعبها كلما يراها وكأي أم مصرية عندما يزداد مزاحه وتغضب منه يبدأ الشيء الذي في قدمها بالعمل فيفر هو منها ضاحكًا قبل أن يلحق به سلاحها المؤلم ! .
بينما الجو هادئ تمامًا تلفتت حولها حتى تتأكد من عدم وجود زين ثم اقتربت منه جدًا وهتفت في صوت منخفض :
_ واد يا حسن
رمقها متعجبًا وهتف باسمًا :
_ إيه ياست الكل عايزة إيه ؟ ، اشجيني بطلباتك
_ إنت عارف كرم فين ؟
هتف بعد أن عاد يرتشف من كأس الشاي :
_ أيوة مش زين قال إنه في شقته
هتفت بانفعال بسيط وخوف جلي :
_ وإنت صدقت الكلام ده .. أنا خايفة ليكون لقي الواد اللي قتل مراته وبيخطط لحاجة ، خايفة ليضيع نفسه ياحسن .. مش عارفة ليه قلبي بيقولي إنه مش مخنوق ولا حاجة وراح يريح دماغه شوية زي ما قال لزين
_ طيب وأنا أعمله إيه يا أمي ما إنتي عارفة ابنك ، كلنا حاولنا معاه في موضوع مراته ده ومفيش فايدة فيه وبتشوفي لما حد بيحاول يكلمه في الموضوع ده بيعمل إيه .. والصراحة هو عنده حق أنا لو مكانه مش هقتله بس لا ده أنا هقطع لحمه نساير وارميها لكلاب السكك تنهش فيها
تشاير الشر والغيظ من عيناها وهي تهتف بغضب عارم :
_ وأنا قولت إنه معندوش حق عنده حق طبعًا والبنت اللي يرحمها لغاية دلوقتي لما بفتكرها قلبي بيتقطع عليها ، بس أنا مش مستعدة اخسر ابني كمان ومتنساش إن سيف ظابط وأكيد هيساعده ..
هتف بنفاذ صبر وخنق شديد :
_ وهو المفروض بقى مياخدش حقها يعني !!
تلفتت حولها مجددًا ثم عادت بنظرها من جديد له في صرامة مغمغمة بصوت خفيض :
_ وأنا كمان والله عايزة حقها يرجعلها بس من غير خساير .. ابوس إيدك ياحسن أعمل حاجة أنا متكلمتش مع زين عشان هو دماغه قفل زي أخوه ومش بعيد هو كمان يعمل في الواد حاجة لو وقع تحت إيده
ضحك بخفة وقال مستنكرًا :
_ ده على أساس إن أنا اللي عاقل يعني ومش هعمل فيه حاجة !
قالت بثقة تامة ويقين :
_ أيوة أنا عارفاك مش متهور زي أخواتك .. عشان خاطري يابني اعمل حاجة بدل ما يضيع نفسه المجنون ده
صمت لبرهة من الوقت ثم تمتم باستسلام :
_ طيب ياماما حاضر ، هحاول اوصله أنا قبل كرم وهسلمه للبوليس بس موعدكيش إنه يروح للبوليس سليم لأن حتى أنا مش هرحمه لو وقع تحت إيدي ال**** ده .. وربنا يستر بقى وابنك ميعرفش عشان لو عرف مش بعيد يقتلني أنا
قربت رأسه من شفتيها وقبلت شعره هامسة بحنان أمومي ورضا :
_ ربنا يرضى عنك ياحبيبي ، ويريح قلبك زي ما ريحتني .. أنا دايمًا بقول حسن ابني اللي مبيرفضليش طلب !
رفع حاجبه اليسار قائلًا وهو يقهقه بقوة بسخرية :
_ لا والله .. ده على أساس إن في حد فينا أصلًا بيقدر يرفضلك طلب ما كلنا مبنرفضلكيش طلب .. بتثبتيني إنتي بالكلمتين دول يا لئيمة ، ماشي يا دودو هقبل الرشوة بس في رشوة أكبر عايز الكفتة اللي بحبها النهردا على الغدا
_ بس كدا من عنيا !
ازداد ضحكة وهو يضع كأس الشاي الذي انتهي على سطح المنضدة الصغيرة أمامه ويستقيم ثم ينحني ويقبل جبهتها ثم كفها هامسًا بحنو :
_ ربنا يخليكي لينا ياست الكل
ليقود خطواته باتجاه غرفته فتتنهد هي يارتياح بعد أن شعرت بأن ثقلًا انزاح عن قلبها ، فقد كان قلقها على ابنها يأكل صدرها آكلًا خشية من أن يقمح نفسه في نازلة لن يستطيع الخروج منها سالمًا كما كان .
***
خرج من الحمام بعد أن أخذ حمامه الصباحي المعتاد ، ثم توجه لخزانته ليخرج ملابسه ويبدأ في الاستعداد للذهاب للعمل ، وأثناء مروره من أمام المرآة لفت نظره الندبة التي في يمين ظهره من الأعلى ، فتجول بذهنه ذكريات ذلك اليوم المشؤوم ، الذي نتيجة لتهوره وانعدام مسئوليته فَقَدَ والده وكان هو على حافة الموت يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة وعندما عاد للحياة كان مشلولًا ! .. ظل لسنة كاملة يتجول بكرسى متحرك ويخضع لمختلف أنواع العلاج .. وأخيرًا بعد عناء مع المرض أعاده الله لحياته الطبيعية .
ولا يصف ما حدث معه في الماضي سوى عقاب من الله عن ذنوبه الذي حتى الآن يبذل كل وسعه في أن يكفر عنها بكل السبل ، صدقات وصلاة واستغفار ودعاء وزيارة بيت الله الحرام . فقد كان في غفلة وأفاقه الله من غفلته قبل فوات الآوان .
استفاق على طرق الباب وهو يسمح الطارق بالدخول التي كانت شقيقته البالغة من العمر ( 20 عام ) .
” رفيف ” صغيرة هذا المنزل وتمتلك مكانة متميزة ومختلفة في قلب كل واحد من اشقائها .. فمثلًا كرم يصفها ( بأميرته الصغيرة ) وزين ( ابنته ) وحسن يراها صديقة له ربما لتقارب سنهم العمري .
_ صباح الخير
قالتها بابتسامة عذبة فيجيبها هو بنفس ابتسامتها ثم تكمل هي في نبرة عادية :
_ لو خلصت تعالي يلا عشان ماما حضرت الفطار
_ لا أنا مش هفطر دلوقتي
لاحظت تعبيرات وجهه المتضايقة والمحتقنة فاقتربت منه وجلست بجواره مستندة بذراعها على كتفه وهامسة بمشاكسة جميلة لمعرفتها بأنها تنجح في رسم ابتسامته عندما تتحدث معه على هذا النحو :
_ إيه اللي مدايقك بس ، على أنا فكرة مبحبش اشوف آبيه زعلان !
نجحت بالفعل حيث انحرفت شفتاه قليلًا لليسار وازاح يدها بنفاذ صبر محبب لقلبها ، لتكمل هي مداعبتها ضاحكة وتعيد تكرار الكلمة التي رسمت الابتسامة على وجهه بطريقة مسرحية :
_ أيوة آبيه ! .. هي كلمة غريبة الصراحة فعلًا بس ده ميمنعش إنك زي بابا اللي يرحمه بنسبالي يازين وحتى لما كان بابا عايش أنا كنت بحس أني عندي أتنين مش واحد ، ويعتبر إنت اللي ربتني يعني .. ومش إنت كمان بتقولي دايمًا إني بنتك
حدجها بنظرة أخوية دافئة وأبوية حانية ثم انحني وقبَّل شعرها برقة مغمغمًا بصدق :
_ طبعًا بنتي .. وإنتي عارفة مكانتك عندي إزاي يارفيف
سرعان ما تذكرت بعد لحظات ونكزته في كتفه بلطف هامسة بمكر :
_ أيوة ياعم هتوقع واقف .. ماما لقيتلك عروسة قمر ، بس إيه عسل بجد يازين ، ومحترمة مؤدبة أنا عارفاها أكمن مامتها صاحبة ماما فشوفتها كام مرة يعني على ضمانتي ده حتى اسمها جميل
تهجمت ملامحه وقال بجدية تامة وشيء من الغضب :
_ عروسة إيه ! .. هي أمك عملت اللي في دماغها برضوا !!!
تعجبت من انفعاله ولكنها حاولت أن تظل على طبيعتها المرح وتهدأ من حدة الجو :
_ الله في إيه يازين .. عايزين نفرح ونبل الشربات ياراجل ، وإنت مش كنت بتتحجج إنك مش عايز تتجوز غير لما تلاقي وحدة كويسة وأهي ماما لقيتها
ثم صمتت قليلًا عندما خمنت سبب انفعاله ورفضه الزواج ، فلم تتمكن هي أيضًا من إخفاء سخطها واعتراضها على طريقة تفكيره الخاطئة حيث هبت واقفة وقالت باستياء دون أن ترفع نبرة صوتها عليه :
_ ولا إنت لسا بتفكر في اللي حصل زمان وهو ده اللي مخليك ترفض الجواز .. كفاية يازين إنت الحمدلله دلوقتي زي الفل ليه لسا بتفكر في اللي حصل ، انسى وعيش حياتك إنت معملتش حاجة بإرادتك إنت كنت الضحية في كل حاجة حصلت ، بلاش تفكر بالطريقة دي ارجوك
ثم لململت شتات غضبها ورحلت تاركة إياه يفكر فيما تقوله وخاصة بكلمة ” ضحية ” ربما كان حقًا ضحية في فيما كانت تقصد بكلامها ولكن بتأكيد لم يكن ضحية في الشيء المجهول بالنسبة للجميع والذي لا يعرفه سواه هو وأخيه .
***
ترجلت يسر من سيارتها أمام مقر شركة عائلة العمايري للإستيراد والتصدير ، كانت في طريقها للباب ولكن توقفت عندما رأت حسن يخرج من الباب ويشبه شعلة النيران ويسير بهدوء مخيف نحو أحدهم وعندما نقلت نظرها لجهة توجهه فوجدتها فتاة يبدو أنها من عمرها وعندما دققت النظر بها تعرفت عليها بسهولة فهذه هي حبيبته السابقة التي تركته وتزوجت بغيره ! .. ما الذي أتى بها إلى هنا ، هل يعقل أن يكونوا عادوا لعلاقتهم من جديد بعد كل ما فعلته حتى ينفصلوا ! ، لا يمكنه العودة لها وإن حدث فستأخذ روح تلك الساقطة بيديها ! ……
اسرعت واختبأت في مكان قريب منهم ولكن بعيد عن أنظارهم حتى تستطيع سماعهم جيدًا .
وقف أمامها بشموخ واضعًا كلتا يديه في جيبي بنطاله وهتف بتعالي يليق به :
_ حقيقي مش مصدق نفسي رحمة هانم بنفسها جاية تقابلني.. طيب كنتي اتصلي بيا حتى قبل ما تيجي عشان استقبلك استقبال يليق بيكي يامدام رحمة
تعمد الضغط على آخر جملة بين أسنانه فخرجت مخيفة بعض الشيء ، فأطرقت هي أرضًا بخزي وهمست بدموع تملأ عيناها :
_ أنا اطلقت ياحسن
ابتسم ساخرًا وهتف بغطرسة واضحة غير مكترثًا لأي شيء مما قالتها وفقط يتصنع الاهتمام :
_ ياخبر حصل إيه لده كله .. ده أكيد شيطان ودخل بينكم
ثم صمت لثانية وعاد يغمغم بعد أن اختفت ابتسامته وظهر محلها الغضب الحقيقي :
_ جاية ليه يارحمة ؟!
رفعت نظرها عن الأرض وثبتت نظراتها المستعطفة على خاصته لتيقنها بأنه لا يزال يعشقها حتى الآن ولا زال تأثيرها عليه مستمر ، وفي ظرف لحظة قبضت على كفه هاتفة بتوسل ضعيف :
_ أنا آسفة ياحسن سامحني ابوس إيدك .. أنا اللي كنت مغفلة إني سبتك وروحت للحيوان ده ، سامحني وتعالي نرجع زي الأول
كأنها ألقت عليه تعويذة وسقط في وحل سحرها ، ظل بحدق في عيناها كالمسحور ولمسة يدها ليده كانت كالخمر الذي اسكره .. وكان على وشك التعمق في السحر ويضعف أمامها ولكنه سحب يده فورًا بعنف محدقًا إياها بنارية .. أما على الناحية الأخرى كان هناك من تحرقه نيران الغيرة وتشتعل بداخله ، وكادت أن تندفع نحو تلك الساقطة وتجذبها من خصلات شعرها وتلقنها الدرس الذي تستحقه ولكنها تمالكت نفسها إلى حين رحليه حتى تنفرد بها .
صاح بها منفعلًا يحاول إخفاء تأثيرها عليه :
_ نرجع إيه ! .. والصراحة أنا اللي اكتشفت إني مكنتش بحبك وكانت مجرد مشاعر زائفة وراحت لحالها .. يعني من الأساس مكنش في بينا حاجة عشان اسامحك عليها ومكنش في بينا علاقة عشان تنتهي وترجع من تاني
سالت عبراتها على وجنتيها وقالت برجاء محاولة استعطافه :
_لا متقولش كدا ياحسن أنا بحبك .. ومستعدة أعمل إي حاجة عشان تسامحني ونرجع من تاني
تراجع خطوة للوراء ليثبت لها أنه لا يمكن تخطى الحدود الصارمة التي رسمتها بينهم منذ هجرها له ، وهتف بقسوة شديدة :
_ امشي يارحمة ومتورنيش وشك تاني
ثم استدار وفي لمح البصر دخل مبنى الشركة مجددًا وظلت هي واقفة غارقة دموعها ، أما الأخرى فقد قدمت لها فرصتها على طبق من ذهب حيث بدأت تشمر قليلًا عن ذراعيها وهي ترمق تلك الشمطاء بتوعد بالأخص بعد أن رأت تأثيرها عليه وضعفه أمامها .
اندفعت نحوها كالنسر حين يرى فريسته وقبل أن تستقل تلك الطوفيلية بسيارة الأجرة أوقفت الباب بيدها قبل أن تدخل وطالعتها شرزًا ، فرمقتها الأخرى باستغراب وقالت :
_ إنتي مين ؟
انتصبت في وقفتها وكانت وقفتها تشبه وقفته لحد كبير ولكنها اختلفت عنه في نظرتها النارية ونبرتها المهددة إياها بجراءة :
_ اسمعي ياقطة لو خايفة على نفسك تبعدي عن حسن خالص وإلا هخليكي تندمي على الساعة اللي شوفتيه وشوفتيني فيها
اصابها بعض الخوف من نظرتها وتهديدها الصريح ولكنها صاحت بها بغضب وشجاعة مزيفة :
_ إنتي مالك أساسًا أبعد ولا أقرب ، ثم إنك إزاي تكلميني كدا ومين إنتي أصلًا ؟!
أجابتها بحدة ونظرة ثاقبة وشرسة :
_ أنا مراته .. وخليكي فاكرة إني حذرتك ولو شوفتك بتحومي حَوليه تاني صدقيني مش هيحصلك طيب .. فاهمة ولا لا
ثم استدارت وقادت خطواتها نحو باب الشركة تاركة رحمة في صدمتها ورعبها من هذه الفتاة التي تعتقد أنها أنها لا تمزح فملامحها تخبر الجميع بأنها خطيرة وشيَّطانة ! .
أما يسر فكانت تسير داخل المبني وكل عضو في جسدها ينتفض من الغضب والغيرة وتهتف بحسم :
_ لغاية هنا وكفاية مش هسمح ليها تاخدك مني تاني سواء هي أو أي وحدة غيرها .. وأعتقد إن عقارب الساعة دقت الساعة 12 وخلاص حان الوقت فاستعد ياحسن بيه !
***
_ شــــفـــــــق خلصتي اللي قولتلك عليه ؟
جاءها صياح أمها عليها من المطبخ فعادت تجيبها بنبرة مرتفعة حتى تسمعها :
_ أيوة ياماما خلصت
كانوا في جلبة من أمرهم هي تتولى مهمة تنظيف المنزل وأمها في المطبخ تقوم بتحضير الطعام ، فقد اقترب موعد قدوم ضيف اليوم ويجب أن يكون كل شيء كاملًا على أكمل وجه ، فهذه هي الأصول وكرم الضيافة الصحيحة .
ارتفع صوت جرس الباب فهبت هي واقفة والتقطت حاجبها وهمت بأن تعتكف في غرفتها كعادتها عندما يأتي هذا الكرم ، ولكن صياح أمها وهي تطلب منها أن تفتح لهم الباب سمرها في أرضها وركلت الأرض بغيظ ثم اندفعت نحو أمها بغضب وهمست :
_ افتحي إنتي ياماما ، افتح أنا ليه ؟
قالت الأم باعتذار صادق وإيجاز :
_ معلش ياحبيبتي إيدي مش فاضية زي ما إنتي شايفة .. بعدين هو كرم غريب عننا يعني وأخوكي معاه يلا يابنتي روحي افتحي عيب يقف الراجل على الباب كدا
تأفف بغيظ واستغفرت ربها ، فهي لا تنكر خجلها منه أو ربما ليس منه بالأخص بل من أي رجل اجنبي عنها هكذا .. وبالرغم من أن كرم صديق أخيها منذ طفولته ، تتوتر بشدة عندما تراه ربما بسبب ما كانت تقصه لها والدتها عن طفولتها عندما كان يأتي لهم إما لزيارة عادية أو ليشارك صديقه في المذاكرة كيف كانت تصرَّ على الجلوس معهم كشيء من فضول الأطفال وعن طرائفها التي لا تعد ، كل هذه الأشياء سببًا لخجلها منه .
لفت حجابها على شعرها بانتظام وهندمت من عبائتها التي ترتديها ثم اتجهت لتفتح الباب فيدلف أخيها أولًا من ثم يهتف محدثًا الآخر :
_ تعالى ياكرم هو إنت غريب يا راجل .. ده أنت صاحب بيت
ابتسم له بعذوبة ثم تنحنح بإحراج ليس بجديد عليه والقى تحية السلام عليها خافضًا نظره أرضًا وهو يمر من الباب فترد هي السلام بخفوت ثم تغلق الباب وتنتظر دخولهم فتهرول ناحية غرفتها لكن أمها اوقفتها للمرة الثالثة وهي تهمس بجدية :
_ تعالي ياشفق ساعديني خليني اخلص بسرعة مينفعش اتأخر علي الغدا .. ولا أقولك اعمليلهم شاي وأنا هروح اسلم على كرم وبعدين هاجي أكمل
رفعت نظرها لأعلى بيأس وأصدرت زفيرًا حارًا باستسلام لأمرها المفروغ منه وهو عدم قدرتها على الهروب منه ، ثم دخلت المطبخ وبدأت في تحضير الشاي كما طلبت منها والدتها .
***
رائحة يدها لا تزال عاقلة في يده ، ولمستها له لا يزال يشعر بها .. كم تمنى أن يعانقها ويخبرها بأنه اشتاق لها كثيرًا وأن برغم كل مافعلته لم يتمكن قلبه الذي كان يعشقها بصدق إن يبغضها ، ولكن يجب عليه أن يلزم قلبه من بغضانها فهي لا تستحق حبه له .. تخلت عنه والآن تطلب العودة جديد حتى تخونه مجددًا ويعيش هو نفس الألم لمرتين ولكن بجرعة أكبر .
أحدهم تطفل عليه في هذه اللحظة بطرقه للباب ، فهو ليس من عادته القدوم لمقر الشركة إلا نادرًا جدًا .
_ ادخل !
هكذا اتاها صوته الذي يوحى بغضبه ففتحت الباب بثبات تام ودخلت حاملة بيدها كأس شاي راقي فهي تعلم جيدًا عشقه للشاي ، ثم أغلقت الباب بقدمها وتوجهت نحوه واضعة الكأس أمامه على سطح المكتب ، وسط نظراته المندهشة منها .. وهو يطرح التساؤلات في ذهنه كالآتي ” متي أتت هذه ؟! .. ولماذا جاءت إلي ؟! .. هل نسيت شجارنا بالأمس بكل هذه السرعة ؟! .. بالطبع لا فهي لا تمتلك ذلك القلب الصافي والنقي الذي ينسى الأذى في ظرف ساعات ! ” .
انتظرها حتى تبدأ هي وبالفعل جلست على أحد المقاعد وغمغمت ببرود ونبرة خبيثة :
_ متزعلش نفسك ، صدقني هي اللي خسرتك
_ قصدك على مين !!؟
قالها بشيء من الحزم فأكملت هي بهدوء مستفز وجراءة متوقعة منها :
_ على رحمة .. اصلي شوفتك بتتكلم معاها من شوية تحت
جاءها سؤاله المندهش :
_ وإنتي تعرفيها وتعرفي موضوعنا من فين ؟!
هبت واقفة وتمتمت ساخرة وبنبرة ممتعضة :
_ أنا جيت أقولك بس إنك تبقى مغفل فعلًا لو رجعلتها تاني لإن اللي باعتك مرة هتبيعك مليون مرة
ربما لم تكن من ضمن خطتها التحدث معه ولكنها كانت ستنفجر من غيظها إن لم تخرج الكلمات من داخلها ، واكتفت بقولها هذا حتى تريح قلبها قليلًا وهمت بالرحيل .. ولكن للمرة التانية كان يقبض على ذراعها هذه المرة كانت فبضة قاسية وقوية فالتفتت له ووجدته يحدقها شزرًا ويقول :
_ سألتك سؤال يايسر .. تعرفي رحمة منين ؟ ، اوعي تكوني ليكي إيد في المشاكل اللي حصلت بينا !
ضحكت بقوة وهتفت بغطرسة واستنكار :
_ وأنا مالي بيك أصلًا عشان أعمل مشاكل بينك وبين حبيبتك السابقة !
كان في زروة غضبه ولا يدري ما يفعله أو ما يقوله حتى ، كل ما يراه أمامه أن هذه هي ابنة عمه الذي طالما كان يبغضها وينتظر الفرصة لكي يخرج لها اشمئزازه منها وها هي سمحت له الفرصة وهو أفضل من يستغل الفرص ! :
_ إنتي هتستعبطي يايسر أنا وإنتي عارفين كويس أوي إنك بتحبيني وهتموتي عليا وطبعًا تلاقيكي غيرتي منها وقولتي أما أحاول أعمل مشاكل بينهم بأي شكل ومش بعيد تكوني إنتي اللي بعتيلها العريس ده .. بس أحب أقولك يايسر إني هرجعلها وبالعند فيكي، ومتنتظريش مني غير المعاملة دي وأنا بنصحك إنك تطلعيني من دماغك.. إنتي فاكرة إن ممكن حد يبصلك أصلًا ، وحدة زيك متعرفش تحب إنتي بس بتعرفي تأذي .. وبرأى قبل ما تفكري تحبي أبقى بصي لنفسك تصلحي للحب ولا لا !
كلماته كانت كالخنجر المسموم الذي رشقه في صدرها بدون رحمة ، كانت تعرف أنها يبغضها ولكنها لم تكن تتنظر منه كل هذه القسوة وعدم تقدير مشاعرها حتى لو كان لا يقبل حبها له.. كيف له أن يكون بكل هذا الجفاء ، الآن فقط أدركت أنه استحق ما سببته له من ألم عندما فصلت بينه وبين حبيبته .. استحق كل شيء قالته له المرأة التي عشقها .. واستحق هجرها له كأنه نكرة ؛ لأن هو الذي لا يعرف شيء عن العشق وجبر الخواطر حتى لو بكلمة بسيطة .. هو الذي لا يصلح للحب وليس هي ! .
شعرت بأن دموعها على وشك السقوط ولكنها أبت الظهور أمامه ضعيفة فسحبت يدها من يده بعنف تلقى عليه نظرة أخيرة ساخرة تحمل الألم ثم التفتت وفتحت الباب وانطلقت كالسهم إلى خارج الشركة ودموعها أخذت طريقها لوجنتيها وتهتف بتوعد حقيقي لا يحمل التهاون أو المزاح :
_ أنا فعلًا مبعرفش أحب لإني حبيت واحد زيك .. وعشان أنا مبعرفش غير الأذي هخليك تشوف معنى الأذي بجد ياحسن، وهدفعك تمن كل كلمة قولتها من شوية صدقني.. هتشوف يسر المؤذية على حقيقتها بقى
***
في مساء ذلك اليوم …..
\↚
كان عائدًا إلى المنزل بعد قضاء يوم مرهق ومتعب قضي نصفه في منزل صديقه الحميم وثم توجه إلى العمل لينهي بعض الأعمال المتعجلة والآن هو في طريقه للمنزل يتشوق لفراشه والنوم .
وإذا به يجد فتاة تظهر أمامه فجأة وهي غير منتبهة لوجود السيارة القادمة نحوها ولكنها انتبهت وانتفضت بهلع ومن فعل الخضة عندما حاولت الابتعاد انزلقت قدمها وسقطت .. أما هو فأوقف السيارة بعنف كادت أن تنقلب على عقبيها ، وتسارعت نبضات قلبه عندما رآها ساقطة على الأرض تتألم من قدمها ، ونزل من سيارته مسرعًا ليرى هذه الفتاة بخير أم أصابها مكروه .. وعندما دقق النظر بها جيدًا هتف بذهول :
_ أنسة شفق !!
رفعت نظرها له فأصابتها الدهشة الممزوجة بالخجل والتوتر ، وكأن دلو ماء بارد سكب عليها ، تحاملت على نفسها ووقفت على قدمها هاتفة وهي تطرق أرضًا موضحة له ذهولها بمقابلتها له أيضًا :
_ أستاذ كرم !
هتف بقلق حقيقي دون أن يكون في نبرته أو نظرته إى خجل على عادته :
_ إنتي كويسة ؟ .. أنا آسف جدًا والله ما أقصد لو رجلك فيها حاجة تعالي نروح المستشفى حالًا
أجابت مسرعة بارتباك واستحياء :
_ لا لا مستشفى إيه ملوش لزمة أنا بس عشان اتخضيت فوقعت .. الحمدلله ربنا لطف ، وكمان أنا اللي غلطانة مبصيتش على الطريق قبل ما أعدي
_ متأكدة إنك كويسة ؟!!
أماءت له بابتسامة متوترة ، أما هو فعاد لطبيعته المعتادة حيث أجاب بخفوت ونبرة مؤدبة :
_ طيب اتفضلي هوصلك للبيت .. البيت مش بعيد من هنا
غمغمت باعتراض بسيط بعد أن ازداد الامر سوءًا بالنسبة لها :
_ أنا كويسة والله ، هاخد تاكسي وهروح دلوقتي
رسم ابتسامة بسيطة على شفتيه وقال بشيء من الحدة واللين دون أن تكون نظراته على وجهها ثابتة :
_ تاكسي إيه في الوقت ده!.. مينفعش تاخدي تاكسي دلوقتي وحدك وأنا أكيد مس هسيبك تركبي تاكسي.. يلا اتفضلي هوصلك
تنفست الصعداء بيأس واتجهت إلى السيارة وهي تعرج قليلًا ثم استقلت بالمقعد الخلفي واستقل هو بمقعده المخصص وانطلق بالسيارة فخطف نظرات سريعة لها من مرآة السيارة العلوية التي تعكس الأجسام ، وهو يتردد في سؤالها سؤال كهذا أو بالأحرى يشعر بالخجل لأن هذا شيء ليس من شأنه .. ولكنه لا ينظر لها إلا أنها مثل شقيقته ولا مانع من سؤالها كشيء من الاطمئنان ! .
تنحنح بصوت مسموع قبل أن يطرح سؤاله عليها في أحراج شديد دون أن ينظر لوجهها مطلقًا :
_ أنا آسف على سؤالي .. بس هو إنتي كنتي بتعملي إيه في الوقت ده والمكان الشبه مقطوع ده ؟!
تعجبت من سؤاله لها واستاءت فهو ليس من حقه أن يسألها شيء كهذا ، ثم هتفت بشيء من الحزم بعد أن فهمت أنه يشك أنها كانت في مكان لا يليق بفتاة مثلها أو كانت تقابل أحدهم :
_ هكون كنت بعمل إيه يعني برأيك!! .. واتمنى أكون فهمت صيغة سؤالك و قصدك غلط !
ساد الصمت لبرهة من الوقت يحاول فهم ماتقصده حتى فهم فازداد أحراجه وقال معتذرًا بخجل :
_ أنا مقصدش كدا والله .. وآسف لو ضايقتك !
ربما فهمت سؤاله على هذا النحو وأنه يشك بها ؛ لأنها كانت فعلًا مع صديقتها بصحبة أحد اصدقائها ، ولكنها اصطحبتها شبه إجبارًا بعد الحاحها الشديد بأن تأتي معها ، مقنعة إياها أنه حبيبها ولا تستطيع مقابلته بمفردها وأنها تخجل منه كثيرًا واختاروا هذا المكان المخيف للتقابل وهي ذهبت معها مغلوبة على أمرها .. وإن عرف أخيها بهذا الأمر سيتخذ قواعد صارمة حيالها ! .
***
_ بس إيه رأيك ؟
قالتها بنبرة وضيعة ليجيبها هو بنظرات شيطانية :
_ لا البت طلعت جامدة الصراحة .. بس هتاخدي إيه مقابل اللي هتعمليه ليا
تمتمت بغل وحقد ينبعثان من مقلتيها :
_ هاخد بس مش هاخد منك إنت .. هاخد منها هي ، أنا عايزاك تعمل فيها اللي يخلي عمر ميفكرش يبصلها حتى مش يتجوزها
صمت لبرهة وهو يفكر بلؤم ونبرة حقيرة :
_ دي حتة بسكوتة حرام أخدها على الحامي كدا علطول.. خليها واحدة واحدة أصل الحقيقة مش حابب أجرب معاها العنف علطول كدا
_ أمال عايز تعمل فيها إيه ؟!
تطلع بعيدًا وهو تلوح بذهنه أفكار لعينة لهذه الفاتنة ثم عاد بنظره لها وقال بخبث :
_ هقولك وهتعملي اللي هقولك عليه بالحرف الواحد
***
داخل منزل طاهر العمايري بالتحديد في غرفة يسر …
تمعن ابنة خالتها الكامنة بجوارها النظرات لها بذهول .. فهذه الفتاة حتمًا فقدت عقلها ، ماهذا الجنون الذي تفكر به .. هل يعقل أن هناك عشق بهذا الجنون ! ، كانت دائمًا تسمع عن أفعال العشاق ولا تصدقها والآن اثبتت لها ابنة خالتها .
ساد الصمت للحظات حتى انفعلت صائحة بها :
_ لا يايسر متوصلش بيكي للجنان ده أنا مستحيل اساعدك في حاجة زي كدا
أظهرت عن حدتها وغضبها وهي تلقى أوامرها عليها بصوت خفيض :
_ وطي صوتك لحد يسمعنا .. وهتساعديني يازينب، أنا أكيد مش هأذي حد يعني أنا ههدده بس مش أكتر
كادت أن ترفع نبرة صوتها مجددًا ولكنها تحكمت في انفعالها وهتفت باستنكار :
_ وإنتي فكرك إن حسن هيتهدد يعني !؟
غمزت لها بطرف عيناها اليسار هامسة بثقة مطلقة:
_ هيتهدد وهتشوفي ، أو بمعنى أصح هيعملي حساب
ثم أكملت بنظرة حاقدة وغاضبة :
_ لإن بعد اللي عمله معايا النهردا وغيره لازم يدفع تمن عمايله معايا ، وهو عارف من زمان إني بحبه وحتى لو هو مبيحبنيش على الأقل يعاملني كويس ويحاول يفهمني بالحسني إننا مننفعش لبعض حتى لو مش هقتنع بس على الأقل هحترمه لإنه ماخدش مشاعري على أنها مشاعر سخيفة، والنهردا فعلًا اثبتلي إنه استحق كل اللي عملته فيه ولسا هعمله، عشان يعرف إني مش من ال**** اللي عرفهم .. لا وبيقولي هرجعلها بالعند فيكي ، طاب لو راجل وريني إزاي هتعملها وترجعلها ! .
حدقت بها زينب بصدمة فهي ليست طبيعية ، لا يمكن أن تكون هذه أفعال فتاة ناضجة وعاقلة .. عشقها لحسن قادها للجنون حقًا ! .
هتفت بسخرية :
_ حسن ده جننك بجد يايسر.. وبرأي أن كل اللي قولتيه ده مش هيأثر فيه والسحر هيتقلب على الساحر في الآخر واوعي تكوني فاكرة إنه هيتجوزك ولا حاجة
هبت واقفة وعقدت ذراعيها أمام صدرها هاتفة بابتسامة شياطنية ولئيمة :
_ ومين قالك إني عايزة أتجوزه أنا نسيت موضوع الجواز خلاص، دلوقتي كل هدفي إني أذله واهينه وأشوفه وهو بيترجاني
هي تخطت حدود الجنون وأصبحت مشاعرها مزيج بين العشق والانتقام لكرامتها الذي بعثرها هذا الفاسق ! .. أجل فاسق ولكن مع الأسف القلب لا يفهم هذه المصطلحات !! .
***
انضمت لجلسته الخلوية في حديقة المنزل وجلست بجواره تحدق به للحظات بصمت ، تفكر في طريقة تعرض عليه بها موضوعها الذي من المؤكد أنه سيواجهه بالرفض القاطع كعادته .
ولكنه بدأ الحديث بشيء من العدم مبالاة :
_ موافق ياماما شوفي يوم عشان نروح نتقدم
استغرقت الدهشة دقائق وهي تستوعب موافقته السريعة هذه بدون أي مقاومة منه ، ولكن لا يهم كيف وافق أو لماذا الأهم أنه أخيرًا تقبل فكرة الزواج ! .
_ ايوة كدا يازين فرحتني والله ياحبيبي ، صدقني مش هتندم البنت محترمة وكويسة أوي على ضمانتي .. بس مش هنروح نتقدم علطول لازم تشوفها الأول وهي تشوفك
هنا تحول هدوءه وعدم اكتراثه لسخط وحدة وهو يقول بحزم :
_ نشوف بعض إيه!! .. لتكوني عايزاني أخدها وافسحها كمان ماهو ده اللي ناقص يا أمي، ثم إني أصلًا مش هعمل خطوبة والكلام الفارغ ده هو كتب كتاب علطول وبعديها تاخد راحتها تجهز نفسها لغاية الفرح
_ يابني بلاش عمايلك دي ، أنا مش بقولك روح امسك إيدها ولا اعملوا حاجة حرام دي رؤية شرعية وأنا هكون معاك وهي تكون معاها أمها كمان يعني مش هتبقى خلوة زي ما بتفكر ، متبقاش معقد كدا يازين
هتف منفعلًا :
_ هو أنا عشان ماشي على الدين بقيت معقد ، ما أنا عشان كدا رافض الجواز .. وإنتي عارفة إني مبعترفش بالخطوبة دي وأقعد أكلمها وأخرجها وهي مش مراتي وكله ده حرام في حرام
قالت برزانة محاولة تهدئته بحنو :
_ ياحبيبي أنا معاك .. بس مفيش كدا إنت وهي مش عارفين بعض من سنين عشان تقبل تتجوزك علطول لازم تحصل خطوبة عشان تعرفك الأول و يمكن تلاقوا نفسكم مش متفاهمين
_ استغفر الله العظيم يارب
ضربت على قدمها بنفاذ صبر وقالت وهي تحاول البقاء هادئة أمام هذا العنيد :
_ يازين دي خطوبة وأنا مش بقولك أخرج معاها طبعًا لا ، ولا كلمها وأقعد حب فيها في التلفون لا إنت لما تكلمها هيبقى كلامكم في حدود مثلًا إنك تطمئن عليها مش أكتر أو تتفقوا على حجات في فرحكم والجواز وأنا مش محتاجة أقولك إن ده عادي مفهوش حاجة إنت عارف ده كويس .. إنت بس اللي عايز تحط العقد في المنشار ، بالله عليك يابني ماتعقد الموضوع وخليه يمشي وأفرح بيك بقى
بدأ وكأنه استسلم للأمر الواقع وخضع لها حيث قال بخنق :
_ اعملي اللي عايزاه يا أمي
قالت بسعادة وحماسة شديدة :
_ تمام هما فاضين بكرا ومعندهمش مانع لو طلعنا عشان الرؤية الشرعية ، فجهز نفسك بقى عشان قبل الظهر هنطلع
استقام وقال بموافقة ووجه شبه متضايق :
_ طيب !
لا يعرف ما سبب موافقته !! ، هل أراد أن يعطي لنفسه فرصة أخرى في الحياة ، أم أنه فكر أن لا مانع من تجربة حظه هل سيصيب أم يخيب ، أم أن الأمر ليس له علاقة به بتاتًا وهو قدر ونصيب جعله ينصاع لرغبته كالمغيب ! .
***
مع إشراقة شمس يوم جديد ، كان يوم هادئ منذ بدايته ولكن العواصف كانت تقيم بداخلها ، كلما تتذكر ليلة أمس وتلعن نفسها في الدقيقة ألف مرة لأنها اتَّبعت صديقتها وذهبت معها لهذا الشاب ورغم أنها لم تراه ولكنها شعرت بمشاعر سلبية في هذا المكان وكم توسلت صديقتها لكي يرحلوا ولكن دون فائدة وعندما خرجت اصطدمت بصديق أخيها .. وحتى الآن تشعر بالخجل عندما تتخيل كيف فكر بها وهي في منطقة مهجورة كهذه وفي وقت متأخر قليلًا لا يصح لفتاة أن تكون في هذا المكان حتى وإن كان في جوف النهار .
استفاقت من شرودها على صوت مألوف عليها وعندما انتبهت له ، تأكدت من شكوكها فهبت واقفة لولا يده الذي امسكت برسغها وهو يقول بنظرة مستعطفة :
_ اقعدي ياشفق عشان خاطري متقوميش
سحبت يدها من بين يده بصرامة وهتفت :
_ عمر مش هقولك تاني إياك تفكر بس تلمسني حتى لو بالغلط
استقام هو الآخر وهتف معتذرًا بصدق وندم :
_ طيب أنا آسف آخر مرة صدقيني ، نفسي أفهم إنتي بتعملي فينا كدا ليه ، أنا بحبك وإنتي كذلك
قالت بحدة بسيطة وصوت منخفض :
_ بحبك آه بس قولتلك الحل ، غير كدا متنتظرش مني حاجة ياعمر
_ طيب قوليلي هروح اتقدملك إزاي بس وأنا لسا طالب وحتى معيش شقة ولا حاجة ، اخوكي هيوافق عليا إزاي !
تمتمت ببساطة بعد أن عادت لرقتها المعهودة :
_ أنا مش بقولك نتخطب ياعمر ، بس عايزاك تثبتلي إن نيتك واضحة وصريحة وتكلم سيف وعلى الأقل نقرى فاتحة بس لغاية ما نخلص كلية وإنت ما شاء الله عليك بتطلع من الأوائل يعني إن شاء الله بمجرد ما تتخرج هتلاقي شغل بكل سهولة وسعتها نعمل الخطوبة
تنهد بعمق بعد اقتراحها ، وقد اقتنع به بالفعل ، فهو يريد أي شيء لكي يحصل عليها وتصبح له ، لا يطيق الانتظار لليوم الذي ستكون فيه زوجته . هتف باستسلام :
_ طيب لو ده اللي هيريحك ويثبتلك إني عايز اتجوزك النهردا قبل بكرا هعمله ، هاتي رقم أخوكي عشان أكلمه
ابتسمت له برقة وخجل ثم أخرجت هاتفها وعثرت على رقم أخيها من بين قائمة الأسماء ثم امتله إياه ، وودعت إياه ورحلت حتى لا تتأخر على محاضرتها القادمة ، وتسير بين الحشود وهي تبتسم تلقائيًا عند تخيلها أنهم سيصبحان لبعض بعد إعجابها به الذي طال لسنوات .
***
اقتحم الغرفة دون إنذار وقال مازحًا بضحك :
_ لا أنا أكيد بحلم يومين ورا بعض في الشركة !! ، إيه هي الدنيا زنقت معاك ولا إيه وقولت أما آجي آكل بلقمة عيشي !!
” علاء ” الوريث الوحيد لطاهر العمايري وشقيق يسر ، يتميز بشخصيته المرحة ونجح في جذب جميع أفراد عائلته وحتى الفتيات ، ويستنكر الجميع لصداقته الحميمية هو وحسن ، فحسن مشهور بعلاقته المتعددة وأنه شاب ماجن ، أما علاء فبرغم أنه يمتلك الدهاء كابن عمه وصديقه إلا إنه لا يتخطى حدوده مع أي امرأة ، وهذا هو المعروف عن عائلة العمايري وابنائها ذو الأخلاق الحميدة ! .
طالعه حسن بقرف وهتف :
_ لو جاي تستظرف لف وارجع من مكان ماجيت
تجاهله وتوجه جالسًا بجواره على الأريكة المتوسطة والتقط حبة عنب من الصحن الموضوع أعلى المنضدة الصغيرة أمامهم ، وتمتم بجدية حقيقية :
_ عملت إيه إمبارح مع رحمة ؟
_ ولا حاجة عملت معاها اللازم وطردتها بالذوق ، قال عايزة ترجعلي هو في حد بيجرب لدغة العقرب ويرجعله تاني عشان يلدغه للمرة التانية
كان يتحدث بعدم مبالاة وسخرية تضمر خلفها جدار قلبه الذي ينهار من شوقه لها ، ليجيبه علاء بتأييد :
_ بظبط .. بعدين أنا قولتلك من الأول البنت دي مادية حقيرة وبتجري ورا فلوسك ولما لقت واحد هيحققلها كل اللي نفسها فيه من غير ماتطلب منه حتى قالت وماله ابيع حسن ولما اداها على دماغها دلوقتي رجعتلك
حدجه باستنكار وغمغم بمرارة :
_ ده على أساس إن أنا مكنتش هحققلها كل اللي نفسها فيه ياعلاء !! ، أنا كنت مستعد افديها بروحي لو طلبت .. كنت هخليها ملكة وهعيشها عيشة عمرها في حياتها ماكانت تتخيلها
أصبح شبه منفعلًا وهو يصيح به باشمئزاز :
_ الأشكال اللي زي دي مبيهماش حاجة غير الفلوس ، هي مكنتش بتحبك كانت بتحب فلوسك يابن عمي ودلوقتي رجعت عشان فلوسك برضوا .. طلعها من دماغك
انحنى بجزعة للأمام دافنًا وجهه بين ثنايا كفيه ، وصورتها وهي تترجاه بالأمس لا زالت أمام عيناه ، دموعها الذي كان يكره كل شيء يجعل عيناها تذرف الدموع .. كم تمنى أن يجففهم لها ويهمس لها منذرًا إياها بعقاب يليق بمعشوقته أنها إن بكت أمامه مجددًا ستتلقى عقابها ، ولكنها لا تستحق عشقه ، فقط تستحق الكره .
خرج صوته مبحوحًا وشجينًا وهو لا يزال على وضعه :
_ مش عارف ياعلاء حاولت مليون مرة ، وفي كل مرة بفشل .. امبارح كان فاضل لحظة بس وارمي كل حاجة حصلت ورا ضهري واسيبها تتمكن مني تاني ، ولحقت نفسي بإني سبتها ومشيت وإلا كنت هضعف قدامها
_ أنا مظنش إنها هتيجي تاني بعد ما إنت بتقول إنك طردتها وعاملتها وحش ، ولو جات إنت مش غبي للدرجة اللي تخليك تسمحلها تستغل مشاعرك تاني
هو لديه كل الحق ! .. يجب أن يعطيها المشاعر الذي تستحقها ، ولا يظهر لها سوى الكره حتى يتمكن قلبه أيضًا من أن يكرها ويتحرر من قيودها ! .
***
داخل أحد المقاهي الراقية والهادئة ، المطلة على الماء كان هو وهدى على أحد الطاولات المتوسطة تتسع لخمس أشخاص ، وكانت هدى نظراتها معلقة على باب المقهى متنظرة قدوم العروس ! ، أما هو فبدى غير مهتم تمامًا لأي شيء حيث كان مثبت نظره على الماء يتأمل المنظر من حوله بذهن شارد ، حتى شَعرَ بأمه التي تنكزه في أعلى قدمه بيدها لتلفت انتباهه هامسة :
_ جم يازين
تلقائيًا منه نظر ناحية الباب فوقع نظره على السيدة التي تناظر أمه في السن وكان يعرفها جيدًا ثم تحول نظره للتي تسير معها وترتدي ملابس لا بأس بها .. عبارة عن بنطلون من الجينز ويعلوه شميز طويل يصل إلى أسفل الركبة وفوق كل هذا حجابها البسيط والجميل .. وكانت الفتنة عندما سقطت نظراته على وجهها ، حينها أدرك أن أخطأ بالجلوس في هذا المكان ، فهذه الفتاة فتنة ستسحبه للجحيم ، كانت ساحرة وفاتنة للدرجة التي تجعل أي رجل يفقد نفسه أمامها ، فأشاح بنظره فورًا قبل أن يرتكب ذنوب أكثر وعندما وصلوا لهم وقف هو ووالدته كنوع من الذوق والاحترام ونظر إلى والدتها مبتسمًا باحترام وهي تلقى عليه التحية دون أن تمد يدها للتصافح لعلمها أنه لا يصافح النساء كان يتحاشي النظر لهذه الفتنة الكامنة أمامه ولكنها كانت تنظر له بمزيج من التفحص والخجل وتلاحظ توتره الواضح وإحراجه .
جاءهم صوت هدى وهي تُعرف العروسين :
_ زين ابني الكبير
ثم نقلت نظرها لابنها الذي كان لا ينظر لها بتاتًا وهتفت مبتسمة وهي تشير على العروس :
_ أنسة ملاذ
ثم جلسوا جميعهم مجددًا على المقاعد وبدأت هدى الحديث وهي تنظر لملاذ هاتفة بعذوبة :
_ عاملة إيه ياملاذ آخر مرة شوفتك فيها كنت في الثانوية والله
اجابت ملاذ وهي تبادلها الابتسامة :
_ السنين بتعدى بسرعة ياطنط ، رفيف عاملة إيه
_ الحمدلله كويسة لسا مخلصتش كليتها فاضلها سنة
اماءت لها بهدوء ثم نكزت ابنها خلسة في قدمه حتى يقول شيء وينظر للفتاة ، لا يبقى كالمجبور على الزواج ، فباغت هو أمه بنظرة حادة ثم استغفر ربه ورفع راسه وتحدث إليها ونظراته زائغة ليست ثابتة عليها بادئًا بتعريف نفسه :
_ أنا زين 30 سنة خريج كلية تجارة ومدير عام لشركة العمايري
كانت تنظر له باستغراب وهي يتحاشى النظر إليها ويبدو عليه الخنق فشكت أنها قبيحة ولم تعجبه ، ولكن قطع تفكيرها تحدث أمها بدلًا عنها معرفة ابنتها :
_ ملاذ عندها 25 سنة وخريجة كلية تجارة برضوا
صمت لبرهة ثم هتف بخشونة ونبرة شبه خافضة :
_ كنتي مرتبطة قبل كدا .. اقصد خطوبة يعني ؟!
قالت بثبات وهي تجيب بوضوح :
_ أيوة وفسخنا من حوالي شهر والسبب إننا مكناش متفاهمين مع بعض
أماء بتفهم ثم عاد ليشيح بوجهه مجددًا عنها ثم انتقل الحديث طبيعيًا عن أمور الحياة بين السيدتان وكانت تشاركهم هي وأحيانًا هو وانتقل أيضًا إلي اسئلة طبيعية بين العروسين من آن إلى آن ، واستمرت الجلسة لعشر دقائق تقريبًا حتى أشارت ملاذ لأمها بعيناها أن ينهضوا وانتهت المقابلة التقليدية كأي رؤية شريعية وغادرت هي وأمها وبقوا هما مكانهم فنظرت هدى لأبنها وهتفت مبتسمة باتساع :
_ إيه رأيك البنت قمر وأدب واحترام صح ؟
هتف بخنق مستنكرًا :
_ أهاا فعلًا أنا لو كنت أعرف كدا مكنتش وافقت إني آجي أشوفها أصلًا
فهمت مقصده جيدًا فقهقت بقوة وهتفت ضاحكة :
_ ربنا يقدم اللي فيه الخير يابني ، صلي استخارة وخد قرارك النهائي وهنستني ردها هي كمان
أشار بيده للنادل أن يأتي لكي يدفع له حساب المشروبات التي طلبوها منذ قليلًا وعندما أخبره بالثمن أخرج النقود وتوجه للكاشير ثم دفع وأشار لأمه بأن تلحق به واستقروا بسيارته وانطلقوا عائدين للمنزل .
***
على الجانب الآخر كان سيف يجلس مع كرم داخل مكتبه في الشركة ويتحدثون بطبيعية وحديثهم لا يخلوا من المرح والمزاح ووسط المزاح قال كرم باستغراب :
_ مقولتش إيه سبب زيارتك ؟ .. أول مرة تاجيلي الشركة !
صمت لثوانِ وهو يتنهد بعمق ووجه مرير ويبدو عليه القلق ، مما جعل ابتسامة كرم تختفي فورًا ويحل محلها القلق المماثل له وازداد الأمر سوءًا عند قوله :
_ أصل أنا طالع مأمورية بليل فقولت آجي اسلم عليك
قطب حاجبيه بتعجب وهتف بعدم فهم :
_ طاب وإيه الجديد يعني ما أنت علطول بتطلع مأموريات ؟!
مسح على وجهه وغمغم بمرارة وخوف كان واضحًا في نبرة صوته :
_ المأمورية دي خطيرة ياكرم وأنا مش ضامن ممكن ارجع منها ولا لا .. عشان كدا جيتلك لو حصلي حاجة وأكيد أنا مش محتاج أوصيك على أمي وأختي هما ملهمش غيري وأنا معنديش حد أثق فيه ولا اسلمهم ليه وأنا مغمض غيرك
أثارت كلماته في نفسه وهيجت مشاعر الخوف أيضًا بداخله من أن يخسر صديق عمره ودربه ولكنه لم يعيره اهتمام وهتف مشاكسًا :
_ توصيني إيه !! ، إنت عبيط ياد من امتى وإنت بتروح مأمورية وشايل كفنك على إيدك ، ده هما بيختارولك المأموريات دي مخصوص عشان عارفين كفاءتك ، بطل هبل بقى
غمغم بيأس ونظرة منطفئة :
_ المرة دي أنا حاسس إنها غير ياصاحبي ! .. وأنا لو مكنتش بعتبرك اخويا عمري ما كنت هقولك خلي بالك من أمي وأختي لو حصلي حاجة
أطال النظر في عيناه فتمكن منه شعور الرعب والقلق ، ولكنه للمرة الثانية لم يدعه يسيطر على مظهره الخارجي حيث رفع سماعة الهاتف وتحدث للسكريترة طالبًا منها قهوة لكيلهما ، ثم هتف محدثًا إياه بضيق واضح :
_ إنت عيل نكدي أصلًا ، تشرب قهوتك ويإما تتكلم في موضوع عدل ياتتكل على الله
ضحك بقوة عندما فهم السبب وراء ضيقه هذا ، ففضل أن لا يزعجه أكثر فربما تكون هذه مقابلتهم الأخيرة حقًا ! .
***
في مساء اليوم ……
بعد رحيل سيف ووداع شديد من أخته وأمه ممتزج بدموع الخوف والقلق ، كانت تجلس شفق في غرفتها مع صديقتها التي أتت لها بعد رحيل أخيها بنصف ساعة .
هتفت مروة بحماسة تضمر خلفها المكائد واللؤم :
_ خلاص بقى ياشفق إن شاء الله هيرجعلكم سالم وبخير
_ أمييين
_ أنا النهردا اشتريت هدوم بيتي فظيعة وحابة اخليكي تجربيها قبلي وأشوفها عليكي
_أجرب إيه بس يامروة أنا مليش مزاج للكلام ده !
قالتها بفتور حقيقي وخنق فتكمل صديقتها برجاء :
_ عشان خاطري ياشفق والله هيبقوا فظاع عليكي
استسلمت لأمرها وأخرجت الملابس من الاكياس فدهشت بها حيث كانت كلها غير محتشمة بالنسبة لفتاة تعيش مع أشقائها وأبيها ، فصاحت به بغضب :
_ نهارك اسود إنتي بتلبسي كدا قدام أخواتك وأبوكي !
_ أكيد لا طبعًا بعدين إنتي ناسية إن اخواتي متجوزين وبابا مسافر في السعودية يعني مفيش غيري أنا وماما في البيت فبلبس براحتي.. يلا بقى ياشفق البسيهم
تنهدت بنفاذ صبر ثم طلبت منها ان توليها ظهرها حتى تستطيع تبديل ملابسها وارتدائهم ، ففعلت على الفور وهي لا تطيق الانتظار اللحظة التي سترتديهن فيها وتلتقط لها الصور . وبعد دقائق سمحت لها بأن تنظر لها وكانت فاتنة بالفعل في هذه الملابس رغم أنها ملابس منزلية ولكن بإمكانها أن تُذهب بعقل أي رجل سيراها بهذه الملابس ، رفعت هاتفها وهي تقول مبتسمة :
_ إيه يابت الحلاوة دي لا أنا لازم اخدلك صورة
جذبت الهاتف من يدها بعنف وهتفت بصرامة :
_ تاخدي صورة إيه يامروة إنتي مجنونة .. عايزة تصوريني بالمنظر ده ، أكيد لا طبعًا !
أجابتها الاخرى مبررة ومخترعة كذبة لتقنع بها هذه المسكينة والساذجة :
_ يابنتي هوريها لماما هي ماما غريبة عنك ياشفق ، هعمل بيها ايه الصور يعني بطلي هبل .. هوريهم لماما أول ما أروح وهمسحهم علطول أكيد
رفعت أصبعها السبابة في وجهها وهي تقول محذرة إياها بحدة بعد ان استطاعت أن تخدعها بسهولة بكذبتها :
_ تمسحيهم علطول يامروة ، وإلا والله هزعل منك بجد
أماءت لها بالموافقة في ابتسامة خبيثة ثم أشارت لها بأن تقف بزواية معينة حتى تلتقط الصورة جيدة ، ثم بدات في ارتداء باقي الملابس وبالطبع لم تنسي ان تلتقط لها الصور في كل شكل ترتديه من الملابس ، وهي تجهل حقيقة هذه الأفعى المتجسدة في صورة صديقة لها ! .
وبعد انتهائهم ذهبت شفق لتجلب لها الماء كما طلبت فاسرعت هي بإرسال الصور إليه عبر رسائل الواتس آب ومدونة أسفلهم بلهجة وضيعة ووقحة :
_ أهي صور المزة بتاعتك ، اعمل بقى اللي إنت عايزاه فيها وفي صورها ومتنساش تكتبلي رسالة شكر بعدين ، لأحسن بعد الصور دي أنا خدمتك خدمة عمرك في بنت جامدة زي دي ! .
_ الفصل الثالث _
داخل أحد النوادي التي تجمع بين الطبقة المتوسطة والغنية . كانت الأضواء مزعجة بعض الشيء وعلى كل طاولة مجموعة أصدقاء أو عائلة جاءوا لقضاء وقت جماعي وممتع باستثناء طاولة ! .
حيث تجلس فتاة عليها وتقوم بمذاكرة أحد دروسها الجامعية استعدادًا لامتحان غدًا ، غير مكترثة لأصوات الثرثرة والأزعاج من حولها وعندما شعرت بالصداع يتمكن منها فقررت أن تنهض وتطلب كوب قهوة لها حتى تكمل آخر درس وترحل قبل تأخر الوقت ، وبينما هي في طريق عودتها لطاولتها وهي بيدها كوب القهوة وباليد الأخرى هاتفها تتفحصه بتركيز شديد ، اصطدمت بأحدهم وشهقت بفزع عندما وجدت جزء من القهوة سكب على قميصه الأبيض ، رفعت نظرها له وقالت باعتذار ونظرة قلقة ومرتبكة من ردة فعله التي ربما تحتمل الغضب :
_ أنا آسفة أوي أوي
نظر هو لقميصه الأبيض الذي تلطخ جزء منه بالقهوة وكتم غيظه ثم عاد ينظر لها وقال بنبرة محترمة وبابتسامة راقية :
_ ولا يهمك يا آنسة حصل خير
دققت رفيف النظر به جيدًا ثم هتفت فورًا بعفوية :
_ إنت إسلام ابن طنط منى واخو ملاذ ؟
قطب حاجبيه باستغراب لمعرفتها اسمه وعائلته الصغيرة ، وخرج صوته مستفهمًا :
_ أيوة أنا ! .. إنتي تعرفيني من فين ؟
_ أنا أخت زين .. ” رفيف ”
بدا طبيعيًا جدًا ولم يبدى أي اندهاش فقط مد يده ليصافحها هاتفًا بابتسامة عذبة :
_ آهااا أهلًا وسهلًا تشرفت بمعرفتك .. اعذريني لو مش فاكرك
بادلته الابتسامة ولكنها كانت ابتسامة رقيقة وقالت باعتذار جديد :
_ لا عادي .. آسفة مرة تاني مخدتش بالي والله ، هتعمل إيه في القميص؟
نظر للقميص زامًا شفتيه بعدم حيلة وشيء من الخنق ثم عاد يرسم الابتسامة على وجهه وهو يقول :
_ في واحد صاحبي جايني دلوقتي هقوله يجبلي قميص معاه
أماءت له بالإيجاب ثم اعتذرت بذوق وانسحبت وهو كذلك قاد خطواته على عكازه إلى طاولته التي كانت على الجانب المقابل لها وأخرج هاتفه يتصل بصديقه ويخبره بأمر القميص .. وبقى لدقائق في انتظاره يحتسي كوب الكاكاو الخاص به وينقل نظره بين الجالسين والمارين وأحيانًا يقع نظره عليها وهي مندمجة في استذكار دروسها ، فتعجب أنه كيف لها أن تدرس في وسط كل هذا الأزعاج ! .
ماهي إلا نصف ساعة وحتى انضم صديقه لجلسته وهو يهتف بعد أن وضع الكيس الذي يحتوى علي القميص أمامه :
_ إيه ماله قميصك ياباشا ؟!
نظر لرفيف حتى يتأكد أنها لا تراه وقرب رأسه قليلًا من صديقه هامسًا حتى لا تسمعه :
_ البنت اللي هناك دي خبطت فيا بالغلط وقهوتها اتكبت على القميص
نقل نظره إلى ما يشير له بعينه فوقع عيناه عليها وظل للحظات يتفحص ملامح وجهه ثم عاد بنظره مجددًا لصديقه وهمس مشاكسًا :
_ يارتني أنا ياخي !
ضحك بخفة ثم هب واقفًا وجذب عكازه والقميص مغمغمًا :
_ هروح أغير القميص في الحمام ولغاية ما آجي اطلب لينا سندوشات أي حاجة لإني جعان وكنت مستنيك
قال مستنكرًا ضاحكًا :
_ هو إنت من إمتى مكنتش جعان أصلًا ، إنت 24 ساعة جعان يامعلم
انحنى قليلًا وهو يهمس محذرًا مانعًا ضحكته :
_ احنا في مكان عام فمتخليش لساني يغلط بالالفاظ
قهقه الآخر بقوة واستدار هو متجهًا إلى الحمام فنظرت هي له عندما مر من جانبها ولاحظت عكازه ولكنها لم تكترث لهذا كثيرًا ولفت رأسها ناحية طاولته فرأت صديقه ينظر لها وعندما التقت عيناهم ابتسم لها فخفضت نظرها في الكتاب فورًا بتوتر وخجل ولم تكف عن لعن نفسها وغبائها الذي وضعها في هذا الموقف المحرج ، وقررت أن تنسحب بهدوء قبل وقوع مصائب أكبر ، ثم استقامت ولملمت أشيائها وغادرت بسرعة البرق ، وعندما عاد هو بعد دقائق لاحظ فراغ الطاولة منها فنظر إلى صديقه بنظرة فضولية فيجيبه هو ضاحكًا :
_ بعد ما أنت قمت هي بصت عليا فأنا ابتسمت وبعديها علطول لمت حاجتها ومشيت شكلها اتكسفت !
نظر اسلام لصديقه بغيظ وهتف بغضب :
_ إنت متخلف يابني بتضحكلها ليه .. ماطبيعي تتكسف وتمشي
استمر في ضحكة بينما هو فتأفف وجلس على المقعد واكمل احتساء كوبه الذي تركه ناقصًا.
***
خرج حسن من المنزل واستقل بسيارته ثم انطلق بها وأشارت هي لسائق التاكسي أن يلحق به ، وبعد دقائق توقفت سيارته أمام المكان المقصود ، وترجلت من السيارة ثم اختبئت بمهارة حتى لا يراها ، أما هو فقاد خطواته نحو الداخل والذي كان عبارة عن ملهى ليلي لا يضم سوى أصحاب الطبقات الراقية ! .
توقفت من الخارج تنظر له خلف الزجاج وهو ينضم لإحدى فتيات الليل ويجلس بجوارها ثم يبدأ في طلب كأس الڤودكا خاصته ، وكانت الفتاة تتلفت حولها باحثة عن أحدهم حتى وقع نظرها على يسر من خلف الزجاج وأشارت لها يسر بأن تبدأ ، فأماءت بالموافقة والتفتت ناحية حسن ثم اقتربت منه بطريقة مغرية والتصقت به وكشفت على ساقها من الرداء الليلي الذي ترتديه حتى تسير الخطة كما يجب ، وكانت يسر من الخارج تلتقطت الصور بزاويات تعبر عن وضعهم الغير لائق واستغلت الفرصة عندما وجدتها تطبع قبلتها بجانب شفتيه ، والتقطت الصورة فورًا ، ثم وجدتها تنظر لها كأنها تسألها هل يكفي هذا فأماءت لها بالموافقة وأشارت بيدها على شيء أمامهم ففهمت هي مقصدها وشرعت في تنفيذه ، بينما هو كان غير مكترث لها تمامًا فقط يقلب نظره بين الفتيات بنظرات وقحة ، مما زاد إصرار يسر على معاقبته فهذا الفاسق يحتاج لشيء يعيده لرشده .. كانت تحترق غيرة وهي ترى هذه العاهرة تجلس بجانبه وتلمسه بإثارة وهو لم يبدى أي اعتراض ، ياله من وقح وفاسق .. ولكنها اقسمت أنها ستخرجه من هذه القذرات قريبًا ! .
بالداخل ……..
تحدثت الفتاة له بنبرة وضيعة :
_ ألا قولي ياحسن بيه ، هي مش يسر العمايري بنت عمك !؟
نظر لها عند ذكرها ليسر وقال بتعجب :
_ آه إنتي تعرفيها من فين ؟!
_ كانت معرفة قديمة !
ابتسم بسخرية وقال بوقاحة دون أي اعتبار أن هذه الفتاة ابنة عمه وسمعتها من سمعته :
_ لا ده أنا بعد كدا هغير وجهتي مدام بنت عمي تعرفك مش بعيد تكون زيك ، ليه أدور برا ! .. قال معرفة قديمة قال !!
قالت بتصنع الضيق :
_ أخس عليك ياحسن بيه ، إيه زيك دي إنت بتغلط فيا كدا !!
أطلق ضحكة مرتفعة ومستهزئة وقال بنظرة شياطنية وجريئة :
_ احنا هنستعبط يابت !! ، هتعمليلي فيها شريفة ولا إيه ، تحبي أفكرك بالليلة إياها !
أطلقت ضحكة أنوثية مرتفعة ومثيرة ، فرأتها يسر من الخارج وهي تضحك هكذا وهو يبتسم فبصقت عليهم باشمئزاز وهمست بتقرف وتوعد :
_ بسببك بتعامل مع الأشكال ال***** دي وبتفق معاها كمان ، صبرك عليا بس دي لسا البداية
لحظات قليلة ووجدتها تنهض من جانبه وتنسحب من أمامه للخارج دون أن يلاحظها وتقابل يسر في الخارج التي جذبت من يدها التسجيل الصوتي وقالت بشراسة :
_ عملتي اللي قولتلك عليه ؟
قالت الفتاة بثقة ونظرة وقحة :
_ طبعًا ياهانم اطمني ده قطع فيكي جوا …..
قاطعتها بحدة وهي تصيح بها بغضب :
_ إنتي هتنسي نفسك ولا إيه يابت عملتي اللي قولتلك عليه وأهي فلوسك ، وقسمًا بالله لو سمعت إنه عرف إني كنت هنا لاكون محياكي من على الوش الدنيا كلها
تقهقرت الفتاة بخوف وهتفت بتوتر وهي تجذب دفعتها من النقود منها :
_ مش هيعرف حاجة متقلقيش
رمقتها بنظرة احتقارية أخيرة قبل أن ترحل وهتفت بسخط :
_ جاتك القرف إنتي وهو !!
ثم استدارت واستقلت بالسيارة الذي أتت بها إلى هنا ، وستأخذها للمنزل مجددًا .
***
مر يومان دون أحداث جديدة في اليوم بالنسبة للكل .. زين ينشغل بعمله كالعادة وملاذ لا تزال تحسم قرارها النهائي حتى تخبرهم بقرارها .. أما حسن فكما هو في عالمه الخاص والقذر ويسر تنتظر الوقت المناسب لتطلق السهم عليه .. أما شفق فتواصلت مع أخيها هي وأمها مرة واحدة منذ ذهابه وكرم مازال يبحث عن قاتل زوجته ولا يتوقف ليوم واحد عن محاولة جمع أي معلومات عنه .
أما اليوم فسيكون يوم المفاجآت العالمية بالنسبة للكل ، وقد تكون فجائع للبعض وليست مفاجآت ! .
فتحت هاتفها عندما سمعت صوت أشعار ينبه بقدوم رسالة لها على تطبيق الواتس آب ، ووثبت واقفة عندما رأت صورها مرسلة من رقم مجهول ، وكانت صورها التي التقطتها لها زينب بملابسها الجديدة ، ظلت متسمرة بأرضها تتطلع في الصور بذهول وقد شعرت بارتعاشة جسدها ورعبها الذي استحوذ عليها ، بالأخص عندما وجدت هذا الرقم يتصل فأجابت فورًا صائحة به بغضب ممتزج بالارتباك :
_ إنت مين وجبت الصور دي منين ؟!
أتاها صوته الهادئ والخبيث :
_ اهدى ياقمر .. من غير عصبية كدا إنتي كنتي عجباني وزاد اعجابي بعد الصور الجامدة دي ، فإنتي هتجيني على المكان اللي هقولك عليه بالذوق ومن غير شوشرة وإلا أنا مش محتاج أشرح اللي هعمله بصورك دي
ابتلعت ريقها برعب حقيقي عندما سمعته يطلب منها القدوم لمقابلته ، ولكنها استجمعت قوتها وصاحت :
_ إنت تعرفني من فين أصلًا !
_ أعرفك كويس أوي يامزة ولما تاجي هنتعرف أكتر كمان ، هبعتلك العنوان بالتفصيل في رسالة بالوقت اللي هنتقابل فيه بليل وتاجي وإلا إنتي عارفة
_ آجي فين إنت مجنون ، وهتمسح الصور دي بالذوق وإلا والله هوديك في ستين داهية أنا أخويا ظابط
قالت جملتها الأخيرة بتهديد بريء ، بل كان تهديدها كله تهديد طفلة لشخص راشد ، تهدده وهي خائفة ومرتشعة دون أن تملك الثقة في نفسها مطلقًا .
أصدر هو ضحكة متأججة وأجابها ساخرًا :
_ أنا قولتلك اللي عندي وميهمنيش أخوكي ظابط ولا غيره ، لو مجيتيش بليل هتلاقي صورك منشورة على كل مواقع التواصل الاجتماعي وشبكة جوجل نفسها وابقي ووريني حضرة الظابط هيعرف يلم الفضيحة إزاي بقى ، فأنتي لو ناصحة متجيبيش سيرة لحد وتخلينا نستمتع مع بعض في هدوء من غير ما نعمل مشاكل ، هستناكي ياقطة بفارغ الصبر
ثم انهى الاتصال معها وبقت هي كالآلية مكانها لا تصدر صوت ولا حركة ولا أي شيء ، حتى سمعت صوت هاتفها يهتز معلنًا عن وصول رسالة جديدة ففتحتها فورًا لتجد العنوان الذي كان في منطقة مهجورة ومشبوهة ولا يجوز ملطقًا لفتاة بأن تدخلها بمفردها وبالأخص بالليل . فالقت الهاتف على الفراش وجثت على الأرض هامسة بذهول وأعين سابحة بهم الدموع :
_ هعمل إيه في المصيبة اللي أنا فيها دي .. وحتى سيف مش موجود ، أنا مستحيل أروح أقابل واحد غريب في منطقة زي دي .. يارب ساعدني يارب
***
فتحت الباب بعد أن سمح لها بالدخول ، وسارت نحوه وهي تحمل بيدها كوب القهوة الخاصة به ثم وضعته أمامه على مكتبه المتوسط وجلست على الفراش موجهة حديثها إليه برزانة :
_ مش ناوي بقى ياكرم تبعد عن موضوع اللي قتل أروى ده وتسيب البوليس يشوف شغله معاه
ليس من عادته أن يرفع نبرة صوته على والدته ، بل لم يفعلها منذ صغره وهو يحاول منع انفعالاته أمامها الآن حيث قال بنبرة واضح عليها الاستياء :
_أنا مش فاضي يا أمي !
استقامت واقتربت من مقعده جالسة في وضع الاستعداد وهي تستند بيدها على حافة المقعد وتطالعه بدموع امتزجت بنبرتها المتوسلة :
_ ابوس إيدك يابني ، أنا مقدرش أشوف فيك ضرر إنت وأخواتك ولو حصلك حاجة لقدر الله من ورا المجرم ده هموت فيها
فر استيائه وحل محله الحنان والرقة التي تذيب قلب أي امرأة حتى أمه ، وأمسك بيدها هامسًا بنعومة :
_ بعد الشر عليكي ياست الكل ، وبعدين هيحصلي إيه يعني ، أساسًا ميقدرش يعمل حاجة معايا ده واحد قاتل وهربان من الحكومة
هبت واقفة وصاحت به بانفعال أمومي خائف :
_ اديك قولت قاتل .. معنى كدا أنه مش هيتردد لحظة في إنه يقتلك كمان ، ولو معملكش حاجة إنت مش هتسيبه سليم وهتخش فيه السجن وفي كلتا الحالتين هخسرك ، ليه هتضيع نفسك يابني عشان واحد قذر زي ده .. فكرك إن اروى مبسوطة كدا وهي شيفاك بتقضي على حياتك وحتى الجواز رافضه بتاتًا
عادت نظراته للحدة مجددًا وهو يجيبها بشراسة :
_ أيوة هي فعلًا مش مبسوطة .. مش مبسوطة لإني مخدتلهاش حقها ، ده مش واحد قتلها بعربية ولا مسدس ولا سكين ، ده مسألة شرف وأنا يستحيل أسيب حق مراتي يضيع كدا ، هاخد حقها حتى لو على موتي .. وانتقامي منه هيكون مختلف زي طريقة قتله ليها ، وأنا معنديش حاجة أخاف عليها لا زوجة ولا عيال وإنتي ورفيف الحمدلله زين وحسن موجودين يعني غيابي مش هيأثر عليكم
صدمها رده الذي لا يحمل أي مسئولية ، وكأنه مراهق متهور لا يعرف الخطأ من الصح ويسير إينما تلقى به الرياح حتى وإن كان طريق كله الغام .. فكان الرد منها صادم أيضًا بالنسبة له حيث قالت بصرامة وجدية تامة :
_ إنت عايز تنقطني ياواد ، إيه الجنان اللي بتقوله ده إنت أكيد مش واعي للي بتقوله ! .. أنا مش بقولك متخدش حقها لا طبعًا خد حقها وانتقملها بس بالقانون مش بالبلطجة ، واسمع بقى ياكرم والله العظيم لو أذيت الواد ده وعملت فيه زي مابتقول اتأكد إنك خسرتني للأبد وهغضب عليك لآخر نفس فيا .. وابقى لما تلاقيه اختار ياتاخد حق مراتك بالقتل وتحرق قلبي عليك يإما تاخد رضايا عليك اللي هينفعك في دنيتك وآخرتك ، وأنا قولتلك أهو وحذرتك
هب واقفًا ثائرًا وهو يهتف بضجر شديد :
_ إنتي ليه مش عايزة تفهمي اللي جوايا ، أنا جوايا نار بتاكل فيا وبتزيد كل ما افتكر واتخيل اللي حصلها ، دي مراتي يا أمي وكانت أسبوع بس و هتبقى في بيتي ومعايا ، محدش فاهم وجعي ولا المي ، من جهة إني خسرتها قبل ما احصل عليها أصلًا ومن جهة الطريقة اللي ماتت بيها ومن جهة شوقي ليها ، وصورتها اللي مبتفارقش أحلامي من ساعة ما ماتت .. واللي واجعني اكتر إنها كانت حبيبتي مش مراتي بس وكنت مستني اللحظة اللي نجتمع فيها مع بعض في بيت واحد واتحرمت من ده كله ، بسبب ال******** اللي بتقوليلي لو أذيته هغضب عليك ، عايزاني انسى اللي حصل واقول يلا مش مشكلة ماهي ماتت والحي ابقى من الميت وهو مسيره ياخد جزائه .. أنا آسف يا أمي سامحيني ارجوكي بس مش هقدر أعمل اللي بتطلبيه مني ، لإني لو مخدتش حقها ناري اللي جوايا هتقتلني وتحرقني أنا
ثم انصرف من أمامها ومن الغرفة بأكلمها ، وتركها في نازلتها التي سيترتب عليها خسارتها لأحد ابنائها وزهرة قلبها ، فما كان عساها شيء سوى البكاء بحرقة وهي تندب حظها وتنوح بصوت خفيض كأنها في عزاء أحدهم .. فقد خسرت زوجها جراء لحادث أليم وكانت ستفقد معه ابنها الذي هو كان رافض الزواج ايضًا بسبب ماضيه الذي لا يرحل عن باله واقنعته بصعوبة أخيرًا بالزواج ، وحسن الذي لا يحمل مسئولية شيء مطلقًا ويعيش لنفسه فقط ، وكرم الذي سيقضى على نفسه بسبب غضبه وتهوره وحزنه على زوجته .. ماذا عساها أن تفعل مع ثلاث رجال كهؤلاء سوى الدعاء لهم بالهداية ! . احست بانفاسها تضيق وإنها لا تقوى على الوقوف فسقطت فاقدة للوعى جراء مرضها بالقلب ! .
***
داخل أحدي المستشفيات …
كان يسير إيابًا وذهابًا في الطرقة أمام الغرفة الكامنة فيها أمه ، ويلعن نفسه في اللحظة ألف مرة لأنه السبب في كل هذا ، وشقيقته تجلس على أحد المقاعد ولا تتوقف عن البكاء ، اقترب منها وانضم لها على مقعد مجاور لها وضمها لصدره هامسًا :
_ خلاص يارفيف ، كفاية عياط إن شاء الله هتبقى بخير .. ادعيلها ربنا يقومها بالسلامة
لم تجيبه واكتفت ببكائها بين ذراعيه ، أما هو فانتبه لحسن الذي يتجه نحوهم راكضًا وثواني حتى وقف أمامهم وقال بصوت لاهث ووجه مذعور :
_ حصل إيه ياكرم ماما مالها ؟
_ لسا الدكتور مطلعش من عندها ، قولت لزين ؟
هز رأسه نافيًا وأجاب برزانة :
_ لا لما يطمنا الدكتور عليها هتصل بيه بلاش نقلقه من دلوقتي ، فهموني حصل إزاي ده ؟
تحدثت رفيف بصوت مبحوح ونبرة واضح عليها البكاء العنيف :
_ كانت بتتكلم مع كرم وأنا سمعت صوتها بتزعق معاه وبعدين هو طلع وسابها وأنا طلعت أشوفها لقيتها واقعة على الأرض
تأفف حسن بعنف بعدما توقع سبب شجارهم ونظر إلى أخيه شزرًا هاتفًا بغضب هادر :
_ إنت مش عارف إن أمك عندها القلب يعني ! ، ولا هو عشان تاخد حق مراتك هتخسر أمك بسبب عنادك ياكرم
أشار إلى رقبته وأجابه بوجه محتقن بالدماء :
_ حسن أنا واصلة معايا لهنا ، متتكلمش معايا نهائي
أماء بحدة وغيظ وتمتم وهو غير واعي لما يخرج منه فمه :
_ آه ما أنت أهم حاجة عندك مراتك ، مش مهم أمك يحصلها حاجة ولا تموت ، ابقى خلي انتقامك لمراتك ينفعك لما أمك تحصلها بسببك
وثب واقف ورفع سبابته في وجهه محذرًا إياه بنظرة مميتة :
_ آخر مرة هقولهالك ، اتجنبني خالص ياحسن ، وموضوع مراتي محدش ليه دعوة بيه ، متشغلوش بالكم بيا بس ومحدش هيحصله حاجة
ثم انصرق وترك أخيه يتابعه وهو يغادر مندهشًا ، ثم عاد بنظره إلي شقيقته وقال :
_ شايفة بيقول إيه !! ، لا ده اتجن على الآخر
_ سيبه ياحسن متتغطش عليه ، هو كمان معذور حط نفسك مكانه وهتفهمه ، وعلى فكرة هو قلقان على ماما أكتر مننا
صاح حسن في انفعال :
_ ياعم أنا مقولتش إني مش فاهمه ولا إن هو مش قلقان على ماما ، بس يعمل حساب إن أمه مريضة ومش بتستحمل ويمسك أعصابه قدامها ، كلنا بنحاول نبعد عنها الضيق عشان متتعبش وهو مجرد ما حد يفتح معاه موضوع اروى بيتحول
قطع حدوثهم خروج الطبيب من الغرفة فركضت رفيف أولًا له تنتظر منه أن يخبرهم بوضع والدتهم ، وكان حديثه أعاد لهم الحياة من جديد حيث قال :
_ اطمنوا الحمدلله هي كويسة بس ياريت تتجنبوا إنها تتعرض لمواقف تزعلها أو تعصبها ، هي دلوقتي فاقت وزي الفل تقدروا تدخلوا ليها
_ تمام شكرًا يادكتور
قالها حسن ممتنًا بإبتسامة واسعة ، أما رفيف فلم تنتظر شيء حيث هرولت إلى داخل الغرفة وعانقت والدتها بقوة وهي تهتف بسعادة ممزوجة بالدموع :
_ حمدلله على سلامتك ياماما ، ليه كدا تضايقي نفسك إنتي مش عارفة وضعك يعني ياماما
غمغمت بصوت متعب ومنخفض :
_ الحمدلله ياحبيبتي
رأت حسن الذي انضم لهم للتو واقترب من فراش والدته ثم انحني وطبع قبلة رقيقة على جبهتها مغمغمًا بابتسامة مداعبة :
_ طاب ما إنتي زي الحصان أهو يادود ، أمال عايزة تقلقينا بس وخلاص عليكي
نظرت هدى إلى ابنتها وقالت بتصنع الضيق مازحة :
_ إيه اللي جاب الواد ده هنا
ضحكت رفيف بقوة وانطلقت هو منه ضحكة رجولية متأججة وأجابها معاتبًا :
_ اخص عليكي ده جزاتي يعني ياست الكل
نقلت نظرها بين أركان الغرفة ثم قالت باستغراب وقلق :
_ كرم فين ؟
تمتمت رفيف وهي تنظر لحسن بلوم :
_ اتخانق مع حسن قبل ما يطلع الدكتور من عندك وشكله طلع يقعد برا ، هروح انده وأقوله إنك فوقتي
ثم استقامت وغادرت ، بينما حسن فكان يخطف نظرات إلى والدته التي تطالعه باستياء وعتاب شديد ، وقبل أن ترمي عليه عتابها وغضبها قال :
_ متبصليش كدا ، هو غلطان !
_ لا مش غلطان .. إنت عارف أخوك عمره ما على صوته عليا ، أنا اللي حصلي ده بسبب خوفي عليه ليعمل حاجة في نفسه بسبب عنده .. وإياك ياحسن تكلم أخوك وتشد معاه تاني ، ده بيني وبينه ملكمش دعوة إنت وزين
جلس على حافة الفراش وقال ساخرًا بابتسامة :
_ حاضر مش هنقرب من ابنك حبيب قلبك ، بس أنا بقى مش هتدخله في أي حاجة
أظهرت عن وجهه الغاضب وقالت :
_ أهو إنت اللي هتتعبني .. هتتدخل ياحسن إنت وعدتني وإلا ….
قال ضاحكًا بمشاكسة :
_ من غير وإلا ياعم ، بهزر معاكي أكيد مش هسيبه يودي نفسه في داهية المتخلف ده
عادت الراحة لقسمات وجهها وقالت باسمة بحب أمومي :
_ ربنا يكرمك ياحبيبي ، أيوة كدا خليك ورا أخوك ومتسبهوش
قطع حديثهم دخوله الغرفة فرأى حسن أمه تشير له بعيناها إلى الباب ، ففهم مقصدها ووقف وغادر تاركًا إياهم بمفردهم ، وظل كرم متصلبًا بأرضه مطرقًا أرضًا ، يخجل من ان يرفع نظره في وجه والدته بعد أن فعله في الصباح معها ، حتى أتاه صوتها الناعم والحاني وهي تطلب منه الجلوس بجانبها ، فلبي طلبها وجلس بجوارها والتقط كفها يلثم إياه برقة ورفع نظره لها فرأت الدموع المتجمعة في عيناه وهو يهمس لها بندم وخجل :
_ أنا آسف يا أمي سامحيني والله ما أقصد اضايقك ، أنا مش عارف إزاي اتعصبت كدا عليكي
ثم دفن وجهه بين كفها وانفجر باكيًا كطفل صغير ، فانفطر قلبها عليه وملست بكفها الآخر على شعره الناعم هامسة بصوت يغالبه البكاء :
_ أنا مش زعلانة منك ياكرم والله ، وعذراك ياحبيبي ، أنا كل اللي بعمله ده بسبب خوفي عليك
رفع وجهه عن كفها وغمغم بخفوت :
_ غضب عني بعمل كل ده والله ، حاولت كتير إني اشيل من دماغي الأفكار دي وأخد حقها بالقانون بس رجولتي وكرامتي مش بتسمحلي ، أنا متأكد إنك حاسة بيا وباللي جوايا وعشان كدا مش بتزعلي مني ، بس من هنا ورايح هعمل اللي يريحك ويرضيكي
لاحت ابتسامة ساحرة على وجهها ، كلها رضا وحب لفريدها الذي أنعم الله عليها به ، ثم مدت يدها ووضعتها على وجنته هاتفة بثقة تامة وابتسامة دافئة :
_ إنت فاكر إني خايفة إنك تقتله لا أنا خوفي الحقيقي عليك منه ، لكن إنت متعرفش تأذي حد ياكرم حتى لو كان واحد قاتل ومجرم ، إنت بتقول هقتله بس أنا جوايا واثقة مية في المية إنك مش هتقدر تعملها ، ابني اللي ربيته مبيعرفش يأذي نملة بقى معقول هيأذي إنسان ويقتله مستحيييل ، عارف لو كان حسن أو زين أقولك أخاف فعلًا إنهم ممكن يقتلوه لكن إنت مخفش إنك تقتله أنا خايفة عليك .. خايفة يلبسك تهمة ويدخلك السجن أو يأذيك
أطرق رأسه في خنق واستياء من نفسه وهو يجيبها ينفى حديثها :
_للأسف في دي أنا مش هكون ابنك اللي ربتيه ومقدرش اوعدك بحاجة أنا عارف إني مش هقدر اوفى بيها
غمغمت هدى برزانة وصوت رخيم :
_ عشان كدا بقولك خد حقها بالقانون ، هي مستحيل تبقى مبسوطة لما تتأذي بسببها ، لكن لما تاخدلها حقها من غير ما تأذي نفسك هتفرح وهترتاح
تمتم باستسلام مؤقت وخضوع تام لها :
_ حاضر هشوف يا أمي إن شاء الله هعمل إيه ، يرجع بس سيف من المأمؤرية دي وهكلمه
قبضت على كفه في حنو أمومي وغمغمت بدفء :
_ ربنا يحميك يابني ويريحك زي ما ريحتني
طالعها بابتسامة بسيطة فبادلته بابتسامة محبة وحانية …
***
هل يمكن أن ينمو عشق نشأ من الكذب والخداع ! .
كانت تقول دائمًا أن العشق ثقة وهي الآن ستقبل بالزواج من رجل ، وقبل أن تأخذ هذا القرار دمرت مبدأ العشق لديها ، فهي هدمت الثقة بينهم قبل أن تبدأ ! .
ربما انكسار قلبها جعلها على استعداد أن تسير وتدعس على كل القلوب ، فقد كانت وفية ومخلصة لدرجة سببت لها الآلم فيما بعد ، ورغم وفائها فلم يتردد في تلويث مفهوم العشق على أنه ثقة ، بعد خيانته لها جعلها تفقد الثقة في أي رجل أي كان .. فقدت الثقة ولكن مازالت تحبه وهذا هو سبب زواجها !! .
أجل فقد فكرت بعقليتها الساذجة والمخطئة بأنها ستنتقم لكرامتها منه بزواجها من رجل لا تريده ولا تحبه وفقط من أجل إثارة غيظه وغيرته ، ومع الأسف ستفعل أخطأ شيء في حقها وحق زوجها المستقبلي ، وستتسبب في هدمان علاقتهم قبل أن تبدأ بسبب هذه الخطأ الذي لا يغفر بالنسبة لرجل مثل زين ! .
انفتح الباب ودخلت أمها وهي تحمل على يديها ملابسها المغسولة ووضعتها على السرير أمامها ، وقبل أن ترحل أوقفها صوت ابنتها وهي تنده عليها فالتفتت وقالت :
_ ايه ياملاذ مالك ؟!
_ هي طنط هدى مردتش عليكي ولا حاجة ؟
ابتسمت الأم بسعادة وعادت فورًا لتجلس بجانبها وتهتف بتلهف وحماس :
_ ردت كلمتني الصبح بدري وقالتلي إن زين موافق وصلى استخارة ومرتاح الحمدلله ، وبعدين ميوافقش إزاي ده انبهر لما شافك هو حد يشوف القمر ده ويرفض بس .. ما علينا إنتي موافقة صح ؟
أصدرت تنهيدة حارة قبل أن تجيبها كالمجبورة على شيء :
_ موافقة ياماما ، بس مش عايزة أعمل خطوبة ياريت نخليها كتب كتاب علطول أو فرح
اختفت ابتسامة والدتها فورًا وطالعتها بريبة شديدة واندهاش ثم قالت :
_ فرح إيه ده اللي علطول .. إيه اللي انتي بتقوليه ده ياملاذ ؟
هتفت بحدة بسيطة ونبرة تحمل الألم :
_ زي ما سمعتي ياماما ، أنا خلاص كرهت حاجة اسمها خطوبة .. يانكتب كتب الكتاب وبعديها ناخد فترة قليلة لغاية ما نعمل الفرح يانعمله علطول وأنا كدا كدا مش ناقصني غير حجات بسيطة جدًا في جهازي وابقى أكملها بعدين
صاحت بها أمها مغتاظة :
_ إنتي هبلة يابت يعني هروح أقول للراجل مثلًا بنتي مش عايزة خطوبة وعايزة جواز علطول ليه ارملة ولا مطلقة
_ مش يمكن يكون هو كمان عايز كدا خصوصًا إن كان باين عليه التدين والاحترام
اكملت الأم صياحها وكان هذه المرة بغضب عارم :
_ اكتمي يابت أنا هكلم هدى وأقولها إنك موافقة عشان ياجوا ويتقدموا رسمي قدام أخوكي وأبوكي وهنعمل خطوبة على الأقل شهر أو شهرين حتى
ثم هبت واقفة وانصرفت غاضبة دون أن تسمح لها بمجادلة قرارها أما ملاذ فظلت في فراشها تتأفف بغيظ !! .
***
في مساء ذلك اليوم ……
ترجلت من السيارة الأجرة أمام منزل متهالك وقديم في منطقة مهجورة ومرعبة ، وتلفتت حولها بارتيعاد جلي ، وهي تتوسل لربها بأن يحفظها ويحميها فهي جاءت لهذا المكان مترددة ولكن بداخلها يقين أن ربها لن يتركها بمفردها في وضع كهذا .
بدأت أصوات نباح الكلاب تتعالى ومع كل صوت يصدر ، جسدها ينتفض برعب ، ثم أخذت تقدم قدم وتأخر الأخرى بخوف حقيقي من الذي ينتظرها بالداخل ، بالرغم من انها أخذت احتياطتها ولكنها لا تأمن شرور هذا الحقير الذي ابتزها بصورها ، وأخيرًا تقدمت نحو الباب وطرقت الباب ولحظات قصيرة وجدت شابًا يبدو أن في بداية الثلاثينات يفتح لها وقسمات وجهه صارمة ومرعبة بالإضافة إلى ندبات وجهه البسيطة بالسكين جراء شجارات وبلطجة معروفة بين هؤلاء النوع من البشر وبمجرد رؤيته لها ابتسم بخبث فازداد يقينها أنه هو الحقير الذي يخفي صورها ، وهتفت فورًا بغصب عارم :
_ إنت عايز مني إيه !؟
_ ادخلي طيب يامزة ونتكلم جوا على رواق
تلفتت حولها بنظرات مرتعدة ثم عادت بنظرها إليه وقالت بحدة لا تليق ببراءتها ولطافتها التي تظهر أمام جميع الرجال عن طريق قسمات وجهها :
_ لا أنا مش هدخل قول إنت عايز إيه عشان تمسح الصور بتاعتي
_ عايزك
قالها بفظاظة وجراءة شديدة فتقهقرت هي للخلف في رعب حقيقي وفي هذه اللحظة أدركت أنها أخطأت أكبر خطأ في حياتها بالمجئ له بمفردها ، ولكن ارتفاع صوت ضحكته الرجولية والمستفزة وهو يجيبها لم تهدأها بل اخافتها أكثر :
_ إنتي فهمتي إيه ، لا أنا مبحبش العنف والشغل ده .. أنا عايز نبقى صحاب وحبايب مؤقتًا يعني وبعدين نشوف هنعمل إيه ، ولعلمك ده مش اختياري ده إجباري
لا زالت قلقة وخائفة ففضلت الانسحاب فورًا وعندما حاولت الهرب قبض على ذراعها وقال مبتسمًا بلؤم :
_ رايحة فين بس هو دخول الحمام زي خروجه ، تعالي ادخلي هنتكلم شوية ونتعرف على بعض
سحبت يدها من بين براثن يده وقالت بصوت مرتعش :
_ لا أنا اتأخرت وماما قاعدة في البيت وحدها مينفعش أسيبها كتير وحدها
_ ماشي يامزة هصبر عليكي ، معلش تتعوض بس خايكي فاكرة الصور يعني عشان متفكريش تتجاهلي اتصالاتي أو كدا
لم تجيبه وفقط هرولت إلى الخارج تستقل بسيارة الأجرة الذي أتت بها إلى هنا وهي تحاول التفكر في حل لهذه المعضلة فأخيها من المحتمل أن يتأخر في عمله ولن يعود خلال الأيام القادمة ، ماذا ستفعل !!؟ ، لا يمكنها محادثة هذا الحقير ومقابلته ! ، يجب عليها أن تفكر في حل بأسرع وقت ! .. كانت هذه هي الأفكار التي تجول بعقلها طوال الطريق .
***
في صباح اليوم التالي ….
التقطت الهاتف وعندما دققت النظر في شاشة الهاتف واستطاعت قراءة اسم المتصل بعد عناء بسبب ضعف نظرها ، أجابت فورًا مبتسمة بعذوبة :
_ ازيك ياكرم يابني عامل إيه ؟
أتاها صوته المهذب به لمسة ابتسامة بسيطة :
_ الحمدلله يا أمي أنا بخير ، أنا أتصلت أطمن عليكم لو عاوزين حاجة ، بما إن سيف مش هيعرف يكلمكم تاني لغاية مايرجع بسبب شغله فأنا زيه بظبط
علت الابتسامة الامومية المحبة وجهها لهذا الشاب الذي في نظرها مثال للشاب المهذب والمحترم وكل شيء .. ولم تستعجب من منادته لها بأمه فهو دومًا يقولها لها :
_ طبعًا ياكرم إنت زي سيف بظبط والله عندي يابني ربنا يبارك فيك يارب ، احنا كويسين الحمدلله أطمن ولو عوزنا أي حاجة هتصل بيك أكيد
هم بأن يجيب عليها ولكن صوت طرق الباب جعلها تهتف في لطف :
_ استني ياكرم الباب بيخبط خليك معايا على الخط يابني
أجابها بالموافقة أما هي فارتدت حجابها واتجهت للباب ثم فتحته واندهشت برؤيتها لعساكر وعلى مقدمتهم ضابط من رتبة رائد فنقلت نظرها بينهم وشعرت بانقباض قلبها فورًا ثم قالت بترقب :
_ خير في حاجة ياحضرة الظابط ؟
على الجانب الآخر تجمدت عروق كرم وشعر بأنه سيفقد الوعي وهو يسمع من الهاتف الظابط وهو يخبر المرأة العجوز بوفاة ابنها والتي انطلقت منها صرخة مدوية رشقت في قلبه قبل أذنه ، وكانت الصدمة تحتل جميع معلامه ويحاول تكذيب ما سمعه فلا يمكن لصديقه الحميم أن يتركه ويرحل هكذا في غمضة عين ، فقد أعطاه وعد أنه لن يرحل قبل أن يودعه وداع يليق بصداقتهم وهو رحل دون أن يودعه الوداع الأخير حتى . لم يشعر بنفسه إلا وهو يترك كل شيء وينطلق كالصاروخ بالسيارة نحو منزل صديقه أو منزل فقيده العزيز الذي لا يعرف كيف ستمر أيامه بدونه ! .
_ الفصل الرابع _
وصل أخيرًا إلى المنزل وصعد الدرج ركضًا حتى وصل إلى الباب ودخل فورًا عندما وجده مفتوح فرأى الظابط يجلس على المقعد في الصالون وبمجرد رؤيته لكرم هب واقفًا وهو يقول بتعجب :
_ إنت مين ؟
اقترب منه كرم وقال بتلهف ووجهه فرت منه الدماء :
_ أنا كرم العمايري صديق سيف المقرب ، قولي حصل إزاي ده ياحضرة الظابط ؟
تنهد الضابط بحزن وشجن وقال بأسف :
_ كانت في لحظة اشتباك قواتنا مع العدو وسيف الله يرحمه اتصاب والإصابة كانت خطيرة لدرجة إنه اتوفى في لحظتها فورًا ، سيادة الرائد سيف كان حقيقي مثال للبطل وكلنا في حالة صعبة من ساعة ما وصل لينا خبر وفاته أنا من اصدقائه المقربين في الشغل ومن وقت ما وصل ليا الخبر وأنا مش مصدق
أثارته كلمة ” الله يرحمه ” فهو لا يزال يحاول تقبل وفاته ، مسح على وجهه وهو يحبس دموعه التي على أتم الاستعداد للسقوط وأشاح بوجهه للجهة الأخرى وهو يردد آية واحدة :
_ والذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون .. إنا لله وإنا إليه راجعون
لملم أشلاء قلبه الممزقة واستعاد رباطة جأشه وقال بثبات مزيف :
_ طيب هي فين ….
قبل أن يكمل جملته قاطعه وقال الآخر :
_ طلبت الدكتور وجالها هي جوا من بنتها
أجابه كرم وهو يتصنع الظهور بطبيعية :
_ تمام شكرًا ياحضرة الظابط لو في أي حاجة هتصل بحضرتك أكيد
_ تمام .. البقاء لله وربنا يصبركم
أماء له بتفهم وانتظر رحيله ثم توجه نحو أحد الغرف وانتظر أمام الباب خروج الطبيب وعند خروجه هرول إليه وقال بتلهف حقيقي :
_ خير يادكتور طمني عليها ؟
_ إنت ابنها ؟
قال بدون تردد في قلق :
_ أيوة
_ طيب هي عندها انهيار عصبي وأنا ادتها حقنه عشان تهديها وياريت تحاول تهديها عشان ضغطها ميعلاش وتتعب أكتر لقدر لله ، والبقاء لله ربنا يصبركم
_ سبحان من له الدوام
ثم هم بإخراج النقود حق كشفه فأخبره بأن الضابط دفع حقه قبل أن يأتي ، فشكره كرم ثم استأذن الطبيب ورحل ، فاقترب هو من باب الغرفة وطرق على الباب بلطف ففتحت له شفق التي كان وجهها عبارة عن دموع فقط وعيناها غارقة في دموعها كالبحر وحمراء كالدم ، تمتم في صوت ممزق ومبحوح :
_ البقاء لله يا أنسة شفق
لم تجيبه فقط اكتفت بالبكاء العنيف فلم يعرف ماذا يقول لها حتى ، ولكن كيف له أن يخفف عن ألمها وهو يحتاج من يخفف عن ألمه أيضًا ، ولكن يتوجب عليه الثبات والقوة في مثل هذه المواقف كما اعتاد دومًا أن يظهر نفسه قويًا فغمغم في ابتسامة متألمة وعيناه شبه دامعة :
_ سيف شهيد وهو دايمًا كان بيتمنى الشهادة وربنا ناولها ليه ، العياط مش هيفيده أدعيله ربنا يرحمه هو في مكان أحسن منينا كلنا
رفعت نظرها له وقالت ببكاء عنيف وصوت متقطع :
_ أنا وماما ملناش غير سيف منقدرش نعيش من غيره وماما ممكن يحصلها حاجة من زعلها عليه
_ لا إن شاء الله هتبقى كويسة اطمني بس إنتي حاولي تمسكي نفسك قدامها وتواسيها الدكتور قال الزعل الشديد وحش عليها ، أنا هستنى برا وأول ما تفوق اندهي عليا
أماءت له بالموافقة وبمجرد رحيله انفجرت باكية بشدة وهي لا تلفظ سوى اسم شقيقها ، ثم جثت على الأرض ضامة ساقيها لصدرها وتكمل بكائها وحزنها على حبيب قلبها وأخيها .
***
داخل مقر شركة العمايري …..
قادت خطواتها الواثقة والثابتة نحو المصعد الكهربائي وضغطت على زر الطابق الثالث ، وبعد لحظات فُتح الباب وخرجت وهي تعبر الطرقة الطويلة المؤدية لمكتبه وعند وصوله لم تنتظر سماحه لها بالدخول حيث فتحت الباب بقوة بسيطة ودخلت فوجدت الغرفة كأنها ثلاجة ، وتلقائيًا رفعت نظرها للمكيف الذي في السقف وأدركت أنه على أعلى درجة ، وكان هو مسترخي على مقعده مغمض العينان وقام بفتح أول أزار قميصه وسترته الجلدية ملقية على الأريكة الصغيرة في آخر المكتب .
فتح عيناه على أثر صوت إغلاق الباب وعندما وقع نظره عليها قست ملامحه واعتدل في جلسته هاتفًا بحدة :
_ إزاي تدخلي كدا مش في حاجة اسمها باب
لم تظهر أي تأثر بنبرته وحدته وعلى العكس تمامًا ابتسمت ساخرة واقتربت من مكتبه الخشبي ذو اللون الأسود ثم جلست على المقعد وقالت بنظرة شرسة :
_ لو فضلت بالوضع ده صدقني هتندم أوي ياحسن
أطلق ضحكة رجولية متأججة وقال باستنكار :
_ عايزة إيه يايسر ؟!
استقامت ونزلت بكامل قوة يدها على سطح المكتب فاختفت هو إبتسامة فورًا واظهر مكانها الدهشة ولكن دهشته لم تندم طويلًا وتحولت إلى ضجر حيث سمعها تهتف بعنف وغضب هادر :
_ أنا كنت متوقعة إنك هتقول عني كلام وحش بس توصل بيك الوقاحة إنك تفكر بالقذارة دي ، إنت مشوفتش مني حاجة لسا ياحسن ، وإياك تقارني با**** اللي بتقعد معاهم في الكباريهات ، وقبل ما تتكلم أعرف إنت بتتكلم عن مين يا أستاذ .. بس معلش أصل واحد زيك هيعرف الشرف والرجولة منين .. تقريبا عمي محمد الله يرحمه مجبش رجالة غير كرم وزين لكن إنت أشك إنك تعرف حاجة عن معنى الكلمة دي أساسًا
أيقظت بركانه الخامد ، وهي تهين رجولته أمامه بجراءة .. رجولته التي تراها معدومة !! ، ولا تعلم أنها ارتكبت خطأ لا يُغفر عندما فكرت تهينه بهذه الطريقة .. فقد أثارت عواصفه وهيجت أمواج غضبه العاتية ، فلم تجد منه إلا أنه وثب واقفًا وقبض على ذراعها صائحًا بها بأعين نارية :
_ متخلنيش أوريكي الوقاحة والقذارة بجد يايسر ، احترمي نفسك !!
دفعت يده بعيدًا عن يده صارخة به بسخط شديد :
_ أبعد إيدك ، إياك تلمسني فاهم .. ياخي يلعن اليوم اللي حبيتك فيه ، واعتبر اللي هقوله دلوقتي ده تهديد أو أي مسمى ميفرقش معايا ، بس صدقني ياحسن مش هتردد لحظة إني أقول لمرات عمي عن قذُراتك وأقولها إنت قولت عليا إيه لو فكرت بس تضايقني بالكلام مجرد بالكلام
لاحت اباسامة مستهزئة على جانب ثغره وقال وهو لا يزال الغضب يستحوذ عليه :
_ وأنا قولت إيه بقى عنك ؟!
أخرجت هاتفها ثم بدأت تريه صوره مع تلك الفتاة الساقطة وقد اتسعت عيناه بدهشة واستياء وزادت الوضع سوءًا عندما قامت بتشغيل التسجيل الصوتي له والذي كان يقول فيه بحقها أبشع الكلام ، وعند انتهاء التسجيل نظرت له غمغمت بنظرات شيطانية :
_ مفكرتش لو بابا سمع التسجيل ده هيعمل إيه ولا علاء لما يعرف ، وزين لما يشوف صورك دي ، أو سيبك من ده كله أنا عارفة إنه مش هيفرق معاك قد ماهيفرق مامتك اللي هي مريضة قلب ، يعني لقدر الله لو سمعت التسجيل ده أو شافت الصور دي ممكن يحصلها حاجة
لحظة ذكرها لاسم أمه غضبه منذ قليل لم يكن شيء أمام ماهو عليه الآن لدرجة أنها انكمشت قليلًا بخوف بسيط عندما سمعت تهديده الصريح له :
_ اقسم بالله يايسر لو أمي عرفت بحاجة ، مش هخليكي تشوفي يوم عدل في حياتك وأنا لغاية اللحظة دي عامل حساب إنك بنت عمي فمتخلنيش استخدم معاكي القذراة فعلًا
استعادت شجاعتها مجددًا وضحكت بسخرية وهمست بتحدي :
_ وأنا مبتهددش ومحدش يعرف يهددني ، وحط اللي هعمله فيك ده تحت شعار انتقامي من كل كلمة قولتها في حقي ، وتحت اسلوبك القذر معايا ، واعتبره قرصة ودن بس ياحسن بيه
ثم استدرات وانصرفت وهي تشعر بالنشوة تعتريها فقد نجحت فيما تريده وهو إثارة غضبه ورؤية الخوف في عيناه ، وبالطبع هي ليست حقيرة بقدره لكي تخبر المرأة المريضة بحقيقة ابنها البشعة وتتسبب في قتلها ، ولكنها ستستمتع باللعب على اوتاره حتى تشفي غليلها منه ! .
***
فتحت هدى باب غرفته دون سابق إنذار فوجدته ساكن في فراشه ويقرأ القرآن بصوت منخفض ، فاندفعت نحو كالسهم وابتسامتها كادت تشق طريقها لأذنها ، وعندما جلست أمامه على الفراش هتفت بحماس وسعادة غامرة :
_ ملاذ واقفت يازين
توقف عن القراءة تلقائيًا وهمس ” صدق الله العظيم ” ثم رفع نظره لأمه يطالعها بجمود وهو لا يستطيع مقاومة مشاعر الفرحة في نفسه ، فا إنكار إن تلك الفتاة تركت في نفسه أثرًا كبيرًا منذ رؤيته لها ، أمرًا لا يمكن إنكاره !! ، هو ليس من هؤلاء المراهقين الذين ينجذبون للشكل أول شيء ، ولكن ماجذبه بها أنه شعر في قرارة نفسه إن هذه هي الذي يريدها زوجة وأم لأبنائه ، لا يعرف سبب شعوره ولكنه حتى بعد أدائه صلاة الاستخارة لم يقل شعوره بل ازداد وازدادت رغبته بها وكان ينتظر اجابتها بالموافقة وها هي وافقت أخيرًا ! .
_ مالك ساكت كدا ليه إنت مفرحتش ولا إيه
قال بثبات وبرود كعادته التي لا تظهر مشاعره للعامة :
_ خير إن شاء الله يا أمي
_ يارب صبرني عليكم والله أنا هتجرالي حاجة بسببكم
قالتها بنفاذ صبر فانفجر هو ضاحكًا ومسك بكفها يقبله بلطف وحنو هامسًا من بين ضحكاته مازحًا :
_ بعد الشر عليكي ، بعدين إنتي عايزة تسمعي إيه يعني .. أيوة فرحان أوي أوي كمان ومش قادر استني اللحظة اللي هتجوزها فيها ارتحتي كدا
نزعت يده بغيظ وقالت بضيق :
_ اتريق اتريق يابايخ
رتب على صدره كدليل على امتنانه لها وهو يقول مكملًا مشاكسته وضحكه :
_ تسلمي ياست الكل
ثم عاد لجديته وأكمل باسمًا بنعومة غامزًا لها :
_ شوفيهم بقى ياهدهد عشان نروح نتقدم رسمي
تهللت أساريرها مجددًا عندما رأت حماسه الذي فشل هو في إخفائه عنها وقالت بموافقة :
_ بس كدا من عنيا ياقلب هدهد إنت
اقتحمت الغرفة رفيف وعلامات الزعر على وجهها وهتفت بصدمة :
_ الحقي ياماما
ثبت كل من أمها وأخيها نظرهم عليها في تعجب بينما هي فأكملت بهلع :
_ كرم كلمني دلوقتي وصوته كان باين عليه إنه مضايق جدًا وقالي إن سيف اتوفى وقالي كمان نروح أنا وإنتي على بيتهم لإن حالة أمه وأخته صعبة وهو مش هيعرف يتصرف وحده
وثبت الأم واقفة وشهقت بزعر وهي تقول :
_ سيف مات !!! .. إزاي ده ؟
_ مش عارفة ياماما أساسًا كرم كان صوته غريب أوي ومتكلمش معايا غير أنه طلب إننا نروحله
مسحت هدى على وجهها ورددت بألم وحزن شديد على هذا الشاب الصغير ، وقد أدمعت عيناها بالدموع :
_ إنا لله وإنا إليه راجعون .. ربنا يرحمه يارب ، روحي البسي طيب يارفيف وأنا هلبس عشان نروحلهم
هرولت رفيف لغرفته وكذلك هدى همت بالرحيل ولكن زين قال بجدية :
_ أنا هلبس وآجي معاكم
قالت هظى بصوت باكي ومتأثر :
_ أيوة تعالى أقف مع أخوك ده تلاقيه هيموت من حزنه على سيف ، ربنا يرحمه يارب ويصبر أمه وأخته
تنهد هو بحزن مماثل لأمه فسيف كان صديق العائلة كلها والجميع يعتبره فردًا منهم من شدة تعلقهم به بسبب علاقته القوية مع كرم .
***
مرت أربعة أيام بدون أحداث جديدة …
الجميع في حالة حداد على فقديهم العزيز ويترددون كل يوم على منزله ليواسوا شقيقته التي انطفأت .. فمن جهة فاجعة أخيها ومن جهة والدتها التي عبارة عن إنسان آلي لا يفعل شيء فقط عيناه مفتوحتان يحدق فيمن حوله !! ، أما كرم فكان يتردد عليهم أكثر من مرة في اليوم ليطمئن على احوالهم .
مساء اليوم الرابع لم يتبقى معهم سواه هو ووالدته وشقيقته في المنزل وكان يقف في شرفة المنزل يتأمل كل شيء من حوله بشجن ، فأربعة أيام بدون صديقه كانوا كالأربعة سنوات ، وكل لحظة يتخيل أنه لن يراه مجددًا يحترق قلبه بنار الشوق له ، ومع الأسف لم تحرق النار قلبه فقط حتى وجهه انطفت بهجته وضوئه والبسمة لم تعد تعرف لوجهه طريق .. فقط الحزن هو اللي يظهر على محياه . وبينما هو واقفًا شاردًا ولفت نظره شفق التي كانت عائدة من الصيدلية والتي أصرت على أن تذهب هي لتجلب بعض مستلزماتها هي وأمها فلم يعارضها وتركها تذهب هي هذه المرة .. ولكن جمد نظرته عليها عندما رأى شابًا ينتظرها أمام باب المبنى وعند وصولها له وقفت تتحدث معه في حوار لم يستطع سماعه .
كانت غائصة في جلبابها الأسود وحجابها كذلك وتسمرت بأرضها فور رؤيتها له وبعفوية هتفت :
_ عمر !!
أجابها بخفوت ونبرة خشنة :
_ البقاء لله ياشفق
_ سبحان من له الدوام .. إنت بتعمل إيه هنا دلوقتي ؟
بدا عليه جادًا وصارمًا على غير عادته مما أصابها بالتعجب ، وعندما هتف بوضوح :
_ أنا كنت بروح وباجي طول الأربع أيام بطمن عليكي وبسأل جارتكم عنك وفي واحد كنت دايمًا بشوفه وبشوفك معاه علطول .. مين ده ؟!
قالت بتلقائية وعفوية :
_ قصدك كرم ؟!
كان واضح عليه الغضب الشديد وازداد غضبه عندما قالت اسمه بوضوح حيث قال :
_ مليش دعوة باسمه ، أنا سألتك مين ده ياشفق وبتقفي معاه ليه ثم إني مرتحتلهوش الراجل ده وباين عليه إنه مش كويس ؟!!
حتى هي لم يكن لديها طاقة لتتحمل أي عبء آخر أو جدال ، وقلبها يلتهب بالنيران وتجاهد في البقاء صامدة فقد من أجل والدتها ، وهو الآن يلعب في عداد علاقتهم المحدودة حيث صاحت به منفعلة وغاضبة وأكثر ما أثارها هو إهانته لكرم :
_ اللي بتتلكم عنه ده إنت متساويش ضفره أصلًا ، لا وجاي بتحاسبني وعامل فيها بتحبني ، بس إنت أساسًا عمرك ماحبتني .. ووفاة أخويا وضحتلي مين حبيبي من عدوي ، وبعدين أنا مشوفتكش في العزا ولا مرة ، وكنت متوقعة إنك هتكون أول واحد تقف جمبي في المحنة دي ، واللي بتقول عليه مش كويس ده طول الأربع أيام مسبناش لحظة واحدة ، ده صديق سيف الله يرحمه من طفولته وطول السنين اللي فاتت مشوفناش منه أي حاجة غلط ، فمتجيش تحاسبني على حاجة قبل ما تبص وتشوف نفسك بتعمل إيه ياعمر
همت بأن ترحل ولكنه اعترى طريقها وأخرج هاتفه وفتحه على صورة لها يريها إياها فحدقت بالصورة بصدمة .. أنها هي عندما ذهبت لمقابلة الرجل الذي يبتزها بصورها وكانت الصورة غير لطيفة بتاتًا حيث أنه كان قريب منها جدًا ، ولم تصدمها الصورة بقدر ما صدمها هو برده الوضيع :
_ وده صاحب سيف كمان .. ولا إنتي كنتي طول السنين دي عملالي فيها الشريفة وإنتي …
منعته من تكملة جملته بكفها الذي سقط على وجنته بقوة وهي ترمقه بنظرة متقرفة ومشمئزة ، امتزجت بخذلانها وأعينها الدامعة ، ولكنه لم يكتفى ويبدو أنه يريد أقوى من مجرد صفعة حيث قبض على ذراعها وهتف باستياء :
_ بتبصي كدا ليه ، أنا اللي مصدوم فيكي ياشفق إنتي آخر واحدة كنت أتوقع منها ده
سالت دموعها بغزارة ، فكما يقولون ” في كل شر خير ” وماحدث معها أخرجها من محيط عميق كانت ستغرق فيه وجعلها تدرك أنها مخطئة عندما ظنت أن هذا الرجل يمكن أن يكون زوجًا لها ، كيف كانت ستكون بينهم علاقة وهو ليس لديه درجة فقط من درجات الثقة فيها .
لم يدم الوضع كثيرًا حيث وجد عمر يد تقبض على ذراعه وتسحبه بعنف من على ذراعها ، فرفع نظره لها وأتضح أنه هو الذي كان محور حديثهم منذ قليل .
_ شيل إيدك دي .. إنت مين ؟
انتصب عمر في وقفته وقال ساخرًا بشجاعة :
_ حاجة متخصكش أنا مين ، وإنت مالك أشيل إيدي ولا مشيلهاش ..
لمحت شفق لمعة الشر والسخط تلمع في عيني كرم فاسرعت وهتفت محاولة تهدئة الأمر بتوسل ولأول مرة تلفظ اسمه بدون مقدمات !! :
_ كرم مفيش حاجة صدقني اهدى وبلاش تعمل مشكلة بالله عليك
ثم حولت نظرها إلى عمر وصاحت به بضجر :
_ امشي .. ومتورنيش وشك تاني
_ لا أنا حابب أشوف البيه هيعمل إيه
قالها عمر بتحدى واستهزاء واضح فلم يحرمه كرم من لكمة أطاحت به أرضًا وسالت دماء شفتيه على أثرها ، وهاتفه وقع على الأرض بجانبه وهم بأن يكمل لكماته له ولكن الصورة الذي كان مفتوح عليها الهاتف أوقفته بأرضه وهو يحدق بها بذهول ، فانتبهت هي إلي ما ينظر له وارتشعت بخجل وتوتر وهرولت إلى عمر وأول شيء فعلته هو أنها التقطت الهاتف وانهضته من على الأرض وهي تضع الهاتف بين يديه وتدفعه بعنف صائحة به :
_ امشي بقولك .. منك لله ياخي
هم بأن يقترب من كرم فدفعته بعنف أكبر وهي تصرخ به :
_ امشي إنت مبتفهمش
رمق كرم بنظرة نارية أخيرة قبل أن يستدير ويرحل ، فتنهدت هي بألم وأحست بأنها ستعاود البكاء مجددًا ، وفي لحظة غضب تسأل الله لماذا يحدث معها كل هذا ثم تعود وتستغفر ربها وتردد ” الحمدلله على كل شيء ” ، وقفت للحظات تتابعه وهو يتوارى عن ناظريهم وتفكر فيما ستبرره له عن هذه الصورة ، وأخيرًا التفتت له لتقابل نظراته التي المندهشة وهو ينتظر منها تبرير فقالت مخترعة كذبة سخيفة :
_ دي صورة مفبركة !
مسح على وجهه وهو يتأفف ثم قال بخفوت ونبرة شبه حادة :
_ بصي ياشفق أنا كنت ممكن أقولك إنك مش مضطرة تبرري حاجة وأنا مليش دعوة لو كان سيف لسا عايش ، بس حاليًا إنتي مضطرة لإن أخوكي موصيني عليكي وإنتي مسئوليتي ، ففهميني إيه الصورة دي ومتقوليش إنها متفبركة لإنها باينة أنها حقيقة جدًا
اطرقت أرضًا وسالت دموعها بحرقة وارتفع صوت شهقاتها فلانت نبرته وقال بتفهم :
_ من غير عياط الموضوع ميستهلش عياط ، أنا مش بقولك إنتي غلطانة ولا عملتي حاجة غلط ، أنا واثق تمامًا إنك متعمليش حاجة زي كدا ، فلو في حد بيضايقكي قوليلي عشان اساعدك ؟!
رفعت عيناها الدامعة لتنظر له بشيء من الصدمة ، فالرجل الذي احبته وكان يعرفها جيدًا لم يثق بها وهو الذي لا يعرفها سوى بالشكل لسنوات ، فكيف له أن يثق فيها ، وجدت نفسها تطرح سؤالها بتلقائية تامة :
_ وإيه اللي يخليك واثق كدا ؟
قال مبتسمًا بنفس نبرته السابقة ولكنه قالها بشيء من الإحراج وهو يجفل نظره عنها :
_ لإني واثق في تربية سيف ووالدتك ليكي ، وده سبب كافي اعتقد
ازداد حدة بكاءها وقالت بصوت مرتجف :
_ هو فعلًا في حد بيضايقني ، بس أنا آسفة ياكرم أنا حاليًا في وضع ميسمحش ليا بالكلام نهائي ، بكرا إن شاء الله صدقني أنا بنفسي هتصل بيك وهقولك على كل حاجة
كرم بهدوء ورزانة ولكن صوته برغم لطافته امتزج به شيء من الحزم :
_ طيب براحتك .. بس خلي في علمك موضوع زي ده مينفعش يتسكت عليه فبكرا إن شاء الله لازم تكلميني وتفهميني إيه اللي بيحصل
اماءت له بالموافقة وجففت دموعها ثم همت بالرحيل فوجدته لم يتحرك ، لتنظر له باستغراب فيبتسم بإحراج ويقول :
_ لا كفاية على كدا الوقت اتأخر ولما تطلعي فوق قولي لماما ورفيف إني مستنيهم تحت
بادلته الابتسامة وقالت بامتنان حقيقي :
_ طيب .. شكرًا ياكرم
لم يجيبها واكتفي بإماءته البسيطة وهو لا يزال يرسم ابتسامته التي تخطف قلوب النساء دون أن يدري ، أما هي فولته ظهرها وقادت خطواته إلى داخل المبنى وبعد دقائق جاءت أمه وأخته واستقلوا بسيارته ورحلوا وكانت هي تتابعهم من الشرفة بالأعلى ! ….
***
كان إسلام ساكنًا وهادئًا على مقعد في غرفته أمام النافذة يتأمل النجوم التي تنير في السماء .. فقط عيناه معلقة في هذه السجادة السوداء ولكن عقله على بعد أمتار بعيدة منه ثابت عند تلك اللحظة الذي رأى فيها ذلك الملاك وعلق بمخيلته ولم يتمكن من إخراجه ! ، ولكنه يحاول مقاومة ومحاربة هذه السخافة فمن تلك التي ستقبل برجل عاجز .. رجل ناقص ! ، ولهذا يكره أن يعرض نفسه لموقف انتظار موافقة فتاة بعد شفقة منها ، أو ربما لأن عائلتها اقنعوها بأن عاهة قدمه ليست معضلة في حياتهم فوافقت مرغمة ، هو كأي رجل لا يريد عيش حياة مجبرة أو حياة خالية من الحب والود والتضحية والتفاهم .. لا يريد أن يكون لديه أبناء من امرأة قبلت به مجبورة .. فقط يتمنى حياة زوجية طبيعية كباقي البشر !! .
فتحت ملاذ باب غرفته ببطء فوجدته ساكن هكذا وشارد الذهن ، ابتسمت بنعومة واغلقت الباب بحرص ثم تتسللت خلفة ووضعت يديها على كتفيه هامسة بمداعبة :
_ سرحان في مين هااا
انتفض بفزع بسيط ثم التفت برأسه لها وقال في اندفاع :
_ إيه ياملاذ هزارك البايخ زيك ده
فغرت شفتيها وعيناها بدهشة مزيفة وقالت بتصنع الضيق :
_ بايخ زي !!! .. أخص عليك يا إسلام وأنا اللي جاية افضفض معاك شوية ، وقولت أخويا الكبير حبيبي هحكيله وهيفرفشني
لانت نظرته ونبرته وقال بحب :
_ طيب اقعدي ياختي وقولي مالك ؟!
جلبت مقعد مماثل لمقعده وجلست بجانبه ثم قالت بلؤم وابتسامة :
_ لا قولي إنت الأول كنت سرحان في إيه ؟
رفع حاجبه اليسار واطال النظر في وجهها بغيظ ثم قال في حدة مزيفة :
_ إنتي جاية عشان تفضفضي معايا مش تتطفلي عليا !
قهقهت بصوت مرتفع وقالت معتذرة :
_ طيب خلاص مش هتكلم حقك عليا
ساد الصمت بينهم للحظات قبل أن تبدأ في سرد الكلمات التي تخنقها في صدرها بشجن :
_ العريس جاي بكرا عشان يتقدم .. كان نفسي بابا يكون قاعد
_ ما إنتي عارفة الوضع ياملاذ بابا ميقدرش ينزل بسبب الشغل .. وأنا موجود وعمك موجود
تنفست الصعداء بخنق وأسى فدقق النظر في قسماتها ثم قال بترقب :
_ ملاذ هو إنتي متأكدة إنك عايزة زين وموافقة عليه
طالعت أخيها بارتباك بسيط وقالت مسرعة بتأكيد :
_ ايوة طبعًا موافقة ، هو لعب عيال ولا إيه ده جواز يا إسلام .. أنا بس خايفة يكون مش كويس زي أحمد ومكملش معاه
تمتم بنبرة رجولية خشنة وصوت رخيم :
_ أحمد إنتي اللي صممتي عليه ولا أنا ولا أبوكي كان عاجبنا ، لكن دلوقتي أنا بقولك أهو زين أحسن واحد مناسب ليكي وأنا واثق إنه هيحافظ عليكي إن شاء الله .. وحتى أبوكي فرح أوي لما أمك قالتله إنه متقدملك ، يعني المرة دي أنا وأبوكي اللي اخترنا مش إنتي واختيارنا هيبقى في محله اطمني
هي تثق مثلهم أنه رجل يمكن لأي امرأة أن تتمناه ، ولكنها ارتكبت جريمة بشعة في حقها وحقه حين قبلت الزواج به وعقلها وقلبها ملكًا لرجل آخر ، وستأخذ من زواجها منه انتقام وصفقة لكي ترضي به كرامتها التي بعثرها خطيبها السابق .. هي تعلم أن الأمور ستصل لنقطة صعبة إن تم زواجهم وهو عَلِمَ بسبب زواجها منه ، ولكن الحقيقة أن الأمور ستفوق تخيلاتها تمامًا !!! .
***
منزل ضحم وغرفة واسعة ذات الوان رجولية صارمة حيث أن الخزانة من اللون الأسود وكذلك الفراش أما الحائط الأبيض فكان هو الشيء الوحيد المبهج في هذه الغرفة الذي كل شيء فيها أسود .. وبالرغم من كآبة الغرفة إلا أن الأسود أعطاها لمسة عظمة وفخامة .
وكان حسن مستلقي على فراشه العريض ويعقد ذراعيه أسفل رأسه يحدق في السقف بشرود ، فأن لعنته ترفض الرحيل عنه .. وهو عجز ويأس أمام محاولاته للتخلص من لعنة هذا العشق الملوث والملطخ بالكذب والخداع ، ليته لم يقابلها قط ولم ينصاع خلف قلبه مسبب المتاعب له .. ليته أبى الخضوع لها وانسحب من هذا العلاقة قبل أن يخرج خاسرًا ، ولكنه أصر على الاستمرار بها وهذا هو ما حصده من علاقة حب فاشلة .. حصد الخداع والكذب والاستغلال .
وبينما هو يسبح في ذكرياته المؤلمة ، سمع صوت جرس باب المنزل .. فعقد حاجبيه باستغراب ، وجعل يطرح سؤال واحد ” من الذي يعرف أنني هنا ” ، لم يدم تعجبه كثيرًا حيث هب واقفًا والتقط قميصه وارتداه دون أن يغلق ازراره ، واتجه نحو الباب وفتحه بقوة ففوجئ بمن كانت تشغل تفكيره للتو ، أما هي فحدقت بمظهره العلوي وبقميصه المفتوح الذي يبرز عضلات بطنه وصدره ورفعت نظرها له بشيء من الدهشة بعد أن ظنت أنه بصحبة فتاة بالداخل .. قرأ أفكارها من نظراتها وتأفف بخنق قائلًا :
_ أظن إني آخر مرة شوفتك فيها قولتلك متورنيش وشك تاني صح ولا لا
تجاهلت لهجته القاسية ونظرته النارية وحاولت اختراقه لتنظر داخل المنزل حتى تتأكد من شكوكها فأجابها هو بحدة امتزجت بنظرة وضيعة ولئيمة :
_ مفيش حد جوا بس لو إنتي حابة معنديش مانع ، بما إنك جاية بيت راجل عازب في الساعة دي
_حسن بلاش تتكلم بالاسلوب ده ارجوك .. إنت عارف إني بيتي قريب جدا من هنا وأنا جيت اتكلم معاك شوية وكنت متأكدة إني هلاقيك هنا النهردا ، لإن النهردا عيد ميلادي وإنت كنت بتجبني هنا كل سنة في عيد ميلادي وبتكون عاملي احتفال صغير فتوقعت إني ممكن الاقيك هنا
ضرب بكفة يده على جبهته وتصنع النسيان والضيق :
_ اووووه هو النهردا عيد ميلادك نسيت خالص للأسف وزي ما إنتي شايفة مفيش حفلة ولا حاجة .. أصل أنا مبقتش اعترف بأعياد الميلاد دي
تشربت سخريته منها وقسوته وقالت بأعين دامعة :
_ طيب ممكن ادخل هنتكلم خمس دقايق وبعدين همشي
اصدر تنهيدة حارة ثم افسح لها الطريق لتدخل وأغلق الباب خلفها ، فتوجهت هي وجلست على الأريكة الصغيرة وجلب هو مقعد وجلس في مقابلتها على مسافة منتظر منها التحدث فتنهدت هي وقالت بصوت مبحوح :
_ أنا مخدعتكش زي ما إنت فاهم .. أنا عمري ما بصيت لفلوسك ولا مالك أنا كنت بحبك فعلًا ياحسن ، اللي حصل إني سمعت إنك ناوي تخطب واحدة غيري وتخدعني فسعتها حسيت إن إنت اللي خدعتني وقررت إني كمان انتقم منك ولما جيت وقولتلك الكلام ده كنت بقوله عشان انتقم منك وانهي كل حاجة بينا .. لكن والله ما خدعتك زي ما أنت فاهم
أنهت حديثها وأخذت تنظر له في انتظار رده ولكنه كان جامدًا لا يصدر أي ردة فعل وتعبيرات وجهه طبيعية جدًا ، وفجأة وجدته ينفجر ضاحكًا بقوة وصوت ضحكة ملأ الأركان فطالعته بحيرة ، ولكنه مثلما انفجر ضاحكًا فجأة صمت فجأة وقال بنظرة شرسة ومميتة :
_ واللي قالك اني خدعتك نسي يقولك إني مش عبيط عشان تاجي تألفي عليا قصة وأنا هندهش واندم وأقولك اوووه أنا آسف ياحبيبتي ظلمتك سامحيني وانزل ابوس رجلك عشان تسامحيني .. لا مليش في شغل الروايات والمسلسلات ده احنا في الواقع والواقع بيقول إن اللي اتكسر مش بيتصلح
قالت مسرعة وهي تكمل كذبتها السخيفة ولكنها تتقنها باحترافية :
_ أنا مش بكدب عليك صدقني ياحسن
جلس بإياريحية أكثر على مقعده مما جعل جزئه العلوى العاري يظهر أكثر وغمز لها بوقاحة قائلًا :
_ أنا ممكن انسى اللي حصل ونبقى أنا وإنتي حبايب وزي السمنة على العسل .. لأن الصراحة أنا خلاص شطبت مبقيش عندي صنف الجواز و الحب والكلام الفارغ ده أنا بخش على التقيل علطول فلو حابة يبقى زي الفل ونبدأ من الليلة دي كمان وأهو نحتفل بعيد ميلادك ومتقلقيش هتطلعي الصبح بقرشين حلوين
فغرت شفتيها وعيناها بذهول واستقامت وهي تقول بغضب :
_ أنا عارفة إنك بتقول كدا عشان تعصبني وتخليني امشي واكرهك بس خليك فاهم ياحسن إني لآخر نفس فيا هفضل أحاول إني أخليك تسامحني
ثم استدارت وانصرفت من المنزل بأكمله ، وتركته كما هو ساكن بمقعده ولكنه يضغط على قبضة يده بعنف ويجز على أسنانه بقوة في غيظ ، فمازالت تحاول خداعه هذه الشيطانة .. مازالت تحاول التلاعب مشاعره ؛ فقط لأنها تعلم أنها لا تزال تعيش في صميمه !! .
***
مع صباح يوم جديد حافل بالمفاجآت والأحداث الدسمة ….
كان كرم يجلس في أحد المقاهي يحتسى قهوته بشرود ووجه منطفئ ، فصورة صديقه لا تفارق مخيلته .. وفي كل لحظة يتذكر موقف مختلف لهم مع بعض فتزداد النار المشتعلة في صدره اشتعالًا . جذبه من شروده جلوس شفق أمامه وهي تقول بصوتها الرقيق :
_ صباح الخير .. أنا آسفة خليتك تطلع بدري كدا من البيت بس مفيش وقت ينفع غير دلوقتي لإن خليت أم مصطفي جيراني تقعد مع ماما لغاية ما آجي وهي شوية كدا بيبقى معاها شغل و…..
قاطعها مبتسمًا بنبرة رخيمة ونظرة طبعت بصمتها عليها :
_ في إيه ياشفق هو أنا اشتكيت !! ، ليه ده كله !؟
أطرقت ارضًا خجلة وهمست بصوت يكاد لا يسمع :
_ أنا آسفة .. بس خوفت تكون اضايقت فحبيت ابررلك موقفي
لا زال يبتسم عليها ثم حاول أن يخفي ابتسامته تدريجيًا وقال بجدية :
_ هااا قوليلي بقى مين اللي بيضايقك وإيه موضوع الصورة دي ؟
تنهدت بقوة وحاولت استجماع قواها لتسرد له القصة منذ بدايتها .. كان الأمر صعبًا ومرهقًا للأعصاب ففكرة أنها تجلس مع رجل لا تعرف عنه سوى أنه صديق أخيها الحميم كانت مربكة في حد ذاتها ولكنها مرغمة لعله يخرجها من وحلها ويساعدها ، فهو الآن أملها الوحيد .
أجفلت نظرها عنه وبدأت تسرد بتوتر واضح كالآتي :
_ الموضوع بدأ يوم لما سافر سيف الله يرحمه للمأمورية دي ، في نفس اليوم أنا كان عندي وحدة صحبتي منها لله أعرفها من زمان جدًا سنين يعني فهي جاتلي بليل وكانت جايبة معاها هدوم قالتلي إنها اشترتها جديد والهدوم كانت مش كويسة لبنت تلبسها في البيت حتى لو هي معهاش اخوات أولاد ، وطلبت مني اقيسها وأنا رفضت رفضًا قطعًا إني البسها أصلًا ، وبعدين وافقت قولت مفيهاش حاجة لنا قالتلي أنها عايزة تشوفها عليا ، وبعد ما لبستها لقيتها عايزة تصورني فزعقتلها وقتها وبرضوا فضلت تحاول معايا لغاية ما وافقت لما قالتلي هتوريها لمامتها وتمسحها فورًا ومامتها أنا عارفها كويس أوي وهي عارفاني وعارفة ماما ، وأنا الحقيقة كنت واثقة فيها قولت ظي صحبتي ومستحيل تعمل حاجة تأذيني وبعدها بيومين لقيت رقم غريب باعتلي صوري دي واتصل وبيا وابتزني بيها إني لو مقابلتهوش هينشر صوري على النت فأنا حاولت اخوفه بأن اخويا ظابط بس مأثرش فيه ، فاضطريت اروح أقابله وكان المكان مهجور ومخيف وكان بليل وبعديها علطول أنا روحت لبيت صحبتي دي لقيت مامتها بتقولي إنها سافرت لجدها وجدتها ولما سألتها هي ورتها صور ليا ولا لا قالتلي لا و……
همت بأن تستكمل سردها ولكنه قاطعها بنظرة مندهشة وحازمة :
_ روحتي بيته !!!!!!
فهمت ما يدور في مخيلته فقالت مسرعة بخجل :
_ لا لا مفيش حاجة .. أنا مدخلتش حتى وقفت على الباب بس ومتخطتش الخمس دقايق وقعد يقول كلام قذر كدا إنه ….
توقفت فجأة ولم تتمكن من تكملة ما قاله هذا الوغد ، فقد كانت كلامته تعبر عن مبتغاه القذر منها .. عادت تتحدث من جديد قائلة :
_ ما علينا مش شرط هو قال إيه المهم إنه مقدرش يقربلي وأنا مشيت فورًا والصورة دي هو فيها مسك إيدي لما كنت عايزة امشي وحد شكله صورها بزاوية جابت الصورة بالشكل اللي شوفتها واللي استنتجته بعد اللي حصل إمبارح إن هي عملت كل ده عشان تفرق بيني وبين الولد اللي شفته إمبارح لإنه كان بيحبني وهيكلم سيف عشان نتخطب وكدا وشكلها كانت عينها عليه فحبت تأذيني بأي شكل وبعد ما صورتني بعتتله الصور عشان تفهمه إني مش كويسة ، بس هي متعرفش إني خدمتني لأنها كشفتلي حقيقتها وحقيقته
هتف كرم وهو يشعر بالتشتت :
_ شفق أنا مش فاهم وحدة وحدة عليا بالله عليكي .. دلوقتي إيه حكاية الواد بتاع إمبارح ده بظبط ؟
عادت تشرح له بتوضيح أكثر :
_ عمر أنا أعرفه من زمان أوي واحنا نعرف عيلته وهو معايا في الكلية وهو كان بيحبني وحاول كذا مرة أنه يكلمني وأنا كنت برفض وآخر حاجة طلبت منه إنه يكلم سيف ويتقدملي لو فعلًا هو بيحبني الكلام ده كان قبل ما يسافر سيف بيومين ، وصحبتي دي كانت غيرانة مني بمعنى أصح فحبت تأذيني بالطريقة دي
_ طيب والراجل ده كلمك تاني ؟
هزت رأسها نافية وقالت :
_ لا متصلش تاني
_ طيب اسمعي لو كلمك تاني وطلبت منك تروحيله تقوليله موافقة وتتصلي بيا تقوليلي على المكان وأنا هتصرف
أمامت له بالموافقة بدون جدال أو نقاش ولكنه أكمل بنبرة واضح عليها الاستياء :
_ إنتي غلطانة من البداية يا شفق .. إزاي توافقي تتصوري بهدوم زي دي نفترض إن هي صحبتك فعلًا ومكنش في نيتها حاجة ممكن يحصل أي حاجة تنسي ما تمسحهم وتلفونها يضيع منها أو حد يسرقه أو أي نيلة ، لكن هي طلعت بنت … ما علينا متتصرفيش من دماغك تاني نهائي ، لإن حاجة زي كدا مش هزار وإنتي روحتي لحيوان زي ده بيته الحمدلله إنه محصلش مصيبة ، من هنا ورايح مش هتعملي غير اللي هقولك عليه
_ حاضر
قالتها باستسلام تام فأكمل هو بوجه واضح عليه الضجر :
_ هاتي الرقم اللي كلمك منه ورقم صحبتك دي كمان
اخرجت هاتفها واملته الأرقام ثم ساد الصمت بينهم للحظات وهي تحدق أرضًا فقد أصبحت كالشجرة الذي اهلكها الزمن ومن أول رياح ستسقط بأوراقها الذابلة ، أو كطائر ليس لديه عش لكي يحتمي ويلوذ به .. جذبها من شردها صوته الهادئ وهو يقول :
_ هنا في فطاير وكريب غير المشروبات ، اطلبي اللي يعجبك من المنيو أكيد مفطرتيش
هزت رأسها باعتراض وتمتمت بحزن :
_ لا مش عايزة شكرًا أنا همشي عشان متأخرش على ماما
فهم سبب ضيقها وحزنها فقال برزانة وحنو :
_ شفق إنتي زي رفيف بنسبالي ، متزعليش مني لو قسيت عليكي في الكلام شوية ده عشان مصلحتك ، متقلقيش كل حاجة هتتحل سبيلي إنتي بس الموضوع ده وأنا هتصرف مع الحيوان ده .. يلا بقى اطلبي حاجة تاكليها أو حتى أشربي
_ كرم والله مليش نفس بجد .. خليني امشي أفضل
استقام وقال بعدم حيلة :
_ طيب براحتك يلا هوصلك معايا
همت بأن تعترض أيضًا فقال بشيء من الحزم وكأنه يلقي عليها أوامر مفروغ منها :
_ إنتي عارفة عربيتي طبعًا استنيني برا وأنا هدفع حساب القهوة وآجي وراكي
تأففت بنفاذ صبر ثم اندفعت إلى الخارج تنتظره أمام سيارته كما طلب منها أو أمرها بالأحرى .. وبعد دقائق وجدته يقترب منها وفتح أبواب السيارة بجهاز التحكم الخاص بها فاستقلت بالمقعد الخلفي وهو بمقعده المخصص ونظر لها وابتسم عندما وجدها مغتاظة وكجمرة نيران مشتعلة فحرك محرك السيارة وانطلق بها ثم هتف مداعبًا :
_ كل ده عشان قولتلك هوصلك !! ، ولا عشان اجبرتك ؟!
هتفت وهي تفرغ به كل عيظها :
_ أنا حكتلك عشان حسيتك عايز تساعدني فعلًا وعشان بثق فيك ، لكن الاسلوب ده مش هسمحلك بيه
أصدر ضحكة بسيطة وقال يكمل مرحه :
_ أنا مش شوية قولتلك إنك زي رفيف ، فاتعودي على اسلوبي ده لإننا هنتقابل كتير أوي من هنا ورايح
_ كرم متخلنيش اندم إني حكتلك وسمحتلك تتكلم معايا اساسًا
اختفى مرحه فورًا وعاد لجديته وقال برجولية صارمة :
_ سيف الله يرحمه قبل ما يسافر جالي الشركة وقعد يقول كلام كدا كتير أنا اتعصبت منه ونهيت الموضوع ، بمعنى أصح هو كان حاسس إن مش هيرجع فوصاني عليكم .. وأنا بعمل بوصيته ياشفق إنتي ووالدتك مسئوليتي دلوقتي وأنا هكون زي سيف بظبط بنسبالك وبالنسبة لوالدتك ، ولو مضايقة إني بتكلم معاكي بحرية شوية زي كأنك اختي أنا آسف وحقك عليا ، بس متتوقعيش إني هسيبكم وحدكم نهائي
أشاحت بوجهها عنه وهي تتنهد بحيرة من أمرها فهو لا يفهم سبب غضبها ، لا يفهم أنه بدأ يلقي تعوذيته عليها بابتسامته الساحرة ولطافته وحتى خجله في بعض الأحيان كل هذه الصفات تجرها لمحيطه تدريجيًا ، فتحاول أن تجعل كل شيء بينهم رسمي حتى لا تسقط في تعويذة العشق .. لأنها تعلم أن قلبها لا يختار من العشق إلا أصعبه ! .
سقط هاتفه من يده في العربية فانحنى لكي يلتقطه وكانت هي قد افاقت من شرودها وبمجرد وقوع نظرها على الطريق صرخت بهلع :
_ كـــــــــــرم !
سقط هاتفه من يده في العربية فانحنى لكي يلتقطه وكانت هي قد افاقت من شرودها وبمجرد وقوع نظرها على الطريق صرخت بهلع :
_ كـــــــــــرم !
رفع نظره على أثر صرختها وانحرف بالسيارة بقوة عن الطريق وأوقفها على الجانب ثم أصدر تنهيدة حارة واضعًا كفه على وجهه وقال دون أن ينظر لها :
_ أنا آسف .. إنتي بخير ؟
اخرجت هي الأخرى زفيرًا براحة وتمتمت برقة غير مقصودة :
_ حصل خير ، الحمدلله أنها جات سليمة .. خلي بالك إنت وبتسوق بعد كدا !
استغفر ربه مرارًا وتكرارًا ثم قال البسملة وحرك محرك السيارة من جديد وانطلق بها ولكن كان أكثر حذرًا ويقود بهدوء وبعد دقائق توقف أمام منزل صديقه وقبل أن تترجل من السيارة اتاها صوته الخافت :
_ زي ما قولتلك ياشفق اتصلي بيا
أردفت يإيجاب :
_ حاضر !
***
خرجت من إحدى محلات مستلزمات التجميل وهي تحمل بيدها أكياس بها ملابس وأكياس أخرى بها مستلزمات مختلفة وكانت على وشك الاستقلال بسيارة الأجرة لولا يده التي قبضت على ذراعها وهو يقول :
_ ملاذ !
التفتت خلفها وطالعته بدهشة وسرعان ما سحبت يدها بعنف صائحة به :
_ إنت إزاي تمسك إيدي كدا ! .. طبعًا ما أنت حقير وماخد على السفالة دي !
غمغم أحمد بنبرة شبه راجية :
_ ملاذ بلاش كلامك ده ابوس ايدك ، والله أنا ندمان ندم عمري اديني فرصة اثبتلك إني ندمان وإني استاهل ثقتك مرة تاني
ابتسمت ساخرة وأجابته باستهزاء :
_ ثقتي مرة واحدة !! .. أنا آسفة يا أحمد بيه اتأخرت أوي !
_ ملاذ أنا والله بحبك أوي ، أنا كنت حيوان فعلًا لإني ضيعتك من إيدي ، ابوس إيدك سامحيني واديني فرصة تانية
هي أيضًا لا تزال تحبه ، ولكن حبها صادق أما حبه ملوث ومدنث بماء عكر امتلأ بالكذب والخداع والخيانة ، هذا إن لم يكن حبه الذي يدّعيه كذب اساسًا ، وهي اقتربت من انتقامها لكرامتها وإن كان يحبها بالفعل فستكون حققت نصرًا ساحقًا بزواجها من زين ؛ فقط كي تشعره بنفس شعورها وتلهب نيران الغيرة في صميمه ! .
خرج صوتها صارم وجاف :
_ وللأسف مازالت حيوان في نظري وهتفضل كدا طول عمرك
ثم استدارت واوقفت سيارة أجرة ثم استقلت بها وانصرفت من أمامه ، بينما فبقى هو يفكر في طريقة لإعادة المياة لمجاريها ! .
***
وصلت رفيف إلى النادي الخاص بها بعدما قررت أن تشاركها اليوم إحدى صديقاتها والتي ستأتي بعدها . عبرت باب النادي الرئيسي وكانت في طريقها للحديقة العامة وقبل أن تتجه ناحية إحدى الطاولات لمحت الجالس بمفرده على نفس الطاولة ، فتسمرت بأرضها وبدأ هرمون السعادة في الأفراز وتذكرت مقابلتهم منذ فترة قليلة فزدادت ابتسامتها وإحراجها ولكنها قررت بأخذها وسيلة للتحدث معه !! .
لم تنسى إعجابها به منذ فترة عندما رأته صدفة مع والدته ، ربما هي مشاعر زائفة وليس لها أساسا ولكنها حتى الآن تراه جديرًا بهذه المشاعر ، وهناك شيء مجهول يجذبها إليه ! .
تحركت نحوه بتردد في بادئ الأمر وكان هو مندمج في قراءة إحدى الكتب حتى وقفت امامه وتمتمت بابتسامة مرتبكة :
_ السلام عليكم
رفع نظره لها وتجمدت ملامح وجهه لثوانٍ ثم استقام فورًا ومد يده مصافحًا إياها بلباقة مع ابتسامة مرحبة :
_ وعليكم السلام ، أهلا وسهلًا يا أنسة رفيف .. اخبارك إيه ؟
ردت عليه بنفس ابتسامتها السابقة وصوتها اللطيف :
_ الحمدلله بخير .. أنا شوفتك بالصدفة وقولت اسلم عليك
_ طيب اتفضلي اقعدي ولا إنتي مستنية حد ؟
قالها إسلام بنبرة مهذبة فأجابته هي بحرج بسيط ، أو شديد ولكنها تتغلب عليه فقط من أجل محادتثه ! :
_ آه صحبتي جاية في الطريقة ، بس مفيش مشكلة ممكن اقعد لغاية ما تاجي
أماء لها بابتسامة صافية ثم جلست على المقعد المقابل له وهو على مقعده فبدأت هي الحديث بنبرة تحمل الاعتذار :
_ طيب بمناسبة اللي حصل المرة اللي فاتت تسمحلي اعزمك على حاجة كعتذار مني
_ اعتذار إيه !! ، الموضوع بسيط والله مش مستاهل ده كله
_ أنا خُفت تكون اتضايقت جامد عشان القميص وكدا يعني !؟
أصدر ضحكة صامتة وغمغم برقة تليق بصوته الرجولي :
_ لا والله عادي خالص ، وبعدين أنا معايا غيره كتير مش هتفرق معايا القميص ده يعني ، على العموم لو حابة تعزميني معنديش مانع مع إن أنا اللي المفروض اعزمك بس مش هكسفك
كان لديها كامل الحق بالإعجاب بهذا الكائن الجميل ، ويبدو أن الأمر سيتخطى الإعجاب إن استمرت هكذا ! ، حاولت الظهور بمظهر عدم التوتر وقامت بطلب كوب من الكاكاو كما قال وطلبت لنفسها مشروب غازي ، ثم ساد الصمت بينهم للحظات فوقع نظرها على الكتاب الموضوع فوق سطح الطاولة وقرأت اسم الكاتب ففوجئت باسمه وبدون تردد رفعت نظرها له وقالت بحماس وفرح :
_ إنت اللي كاتب الرواية دي ؟
نقل نظره بين الكتاب وبينها وغمغم بخفوت باسمًا :
_ آه أنا !
قالت بعفوية في سعادة غامرة وتشوق :
_ إنت بتكتب روايات بجد !! .. أنا بحب اقراها جدًا ، ممكن اغلس عليك واطلب منك الكتاب اقراه وهرجعه تاني والله بعد يومين ؟
انطلقت منه ضحكة تلقائية مرتفعة على طريقتها وكلامها وغمغم بخفة وبساطة :
_ اتفضليه طبعًا واعتبريه هدية كمان مش عايزه
_ لا لا هرجعه طبعا أو هدفع تمنه !
_ أنا بكسب متابع فده مصلحة ليا برضوا !
ضحكت بخفة على مشاكسته وقالت باسمة :
_ لا اعتبر المتابع كسبته من دلوقتي ! ، بس برضوا هقراه وهرجعه والله
تنهد بعدم حيلة ورسم الابتسامة العذبة على ثغره وأردف :
_ طيب اقريه الأول وبعدين نشوف موضوع ترجعيه ده
قالها وهو يمده لها فالتقطته من بين يديه واستقامت وهي تمسك بيد زجاج المشروب الغازي وباليد الأخرى الكتاب وتهتف في جدية :
_ إن شاء الله هرجعهولك في خطوبة زين وملاذ ده لو مخلصتهوش قبل كدا
أماء لها مبتسمًا فبادلته الإماءة كتحية وداع واتجهت نحو طاولتها التي كانت بعيدة عنه ، وجعل ينظر لها مبتسمًا بعد أن بدأت مشاعره تتخبط داخل قلبه ، وأحس هو الآخر بأن هناك شيء مجهول يجذبه لها !! ، ولكن حين نظر لقدمه العاجزة ولعكازه المسنود على المقعد المجاور له ابتسم ساخرًا ووبخ نفسه بشدة ولام مشاعره السخيفة فليس هناك من ستقبل به وهو عاجز وضعيف ! .
***
ظلام كاحل ! ، وسماء صافية تزينها النجوم الساهرة ، مع ضوء قمر شارد ، ويزيد من جمال الأجواء الهادئة نسيم الهواء البارد وهو يلفح بشرته وشعره ، وعدم اكتراث منه للأجواء الباردة فكان يتأمل السماء بشرود ، تارة يعيد ذكرياته مع زوجته وتارة مع صديقه الذي لم يمر على وفاته أسبوع ! ، أحس بألم مميت يأكل في صدره وبالأخص في قلبه .. يأكل الأخضر واليابس وعلى وشك جعله أرض يباب لا حياة فيها .. أرض تحتاج للتعمير من جديد ، وربما التعمير يستغرق سنوات عمره الباقية ويموت دون أن يكمل إعادة تعميره ، في بداية الأمر فقدانه لأبيه ومن ثم زوجته والآن صديقه ، صديقه الذي لا يعلم أحد عن نيران قلبه التي لا تنطفىء ، لا أحد يرى مدى دماره الداخلي حينما يذهب لزيارة قبره فينكب أمامه باكيًا كالأطفال ، فقد كانوا كشيئين من المستحيل انفصالهم عن بعض سوى الموت ولقد فصل الموت أحدهم عن الآخر دون سابق إنذار ! .
اقتحم حسن خلوته مع أحزانه وجلس بجواره مداعبًا :
_ نزل عليك الإلهام ولا لسا ؟
نظر له ورفع حاجبه هاتفًا ببرود كشيء من المشاكسة بينهم :
_ اهااا وبيسلم عليك ياخفة !
لم يعلق حسن على ماقاله ولكنه قال ساخرًا :
_ عيني عليك البت حنين جاية بكرا ، يابني قولي لو حابب مساعدة والله اخليها تصرف نظر عنك خالص بدل ما إنت في المرار ده
_ كان القرد نفع نفسه !
قالها وهو يبتسم بمكر فالتزم الصمت للحظات حتى قال وقد تبدلت ملامح وجهه للحقد :
_ لا يسر دي عايزة حاجة تظبطها بجد
_ إن جيت للحق أنا اتخنقت من حنين ومبقتش عارف اعملها إيه دي لزقة ياعم ، دي نافص تدخل ورايا الحمام ، مكان ما اروح الاقيها في ديلي !
قهقه بصوته المرتفع وغمغم بمكر :
_ ما أنت غلبان وعلى قد نياتك وهي عارفة إنك بتتكثف ومش هتكسفها بس أنا صايع سيبهالي بكرا وأنا هظبطهالك
ابدا كرم الجدية وهتف :
_ طيب بمناسبة الصياعة مش ناوي تلم نفسك ياحسن ، أنا كنت متوقع إن أخرك صحاب والكلام بس شكله الموضوع تخطى الحجات دي
_ كرم أنا مش صغير وعارف كويس أوي بعمل إيه ، أكيد مش هتوصل بيا للي في دماغك ، ومتحاولش تفهمني إنك إنت وحضرة الشيخ زين كنتوا قمة في البراءة
عاد لابتسامته وهو يداعبه ولكن بطريقة رزينة :
_ إنت عارف كويس إني مليش في مواضيع البنات دي أصلًا وببذل مجهود عشان اتعامل مع أي بنت ، أما زين فلو كان ليه في الكلام ده كان زي أي شاب طايش وده بعد اللي كان بيحصله فزين وضعه مختلف وكان بيعمل حجات وهو مش في وعيه ودلوقتي الحمدلله ربنا هداه ، فاعقل كدا ياحسن احنا لينا سمعتنا ومعروفين ومش ناقصين فضايح وأمك لو عرفت بعمايلك دي هيجرالها حاجة
تأفف بعنف وهتف في ضجر شديد وانزعاج :
_ وفر نصايحك لنفسك ياكرم أنا عارف كل ده كويس ومش محتاج حد يفكرني بيه
_ لا مش عارف يا أستاذ .. ومتفتكرش إني عبيط أنا عارف كل المخاريب اللي بتروحها وبتسهر فين ، ورغم كل ده بقول إنك هتعقل بس مفيش فايدة واضح ، إنت مش مدرك عظمة الذنب اللي بترتكبه وأنا بحاول ابعد زين عنك بقدر الإمكان لأني عارف إنكم مش بتتفاهموا مع بعض وفي كل مرة بتتخانقوا ، بس كفاية اعقل كدا وبطل القرف ده أنا خايف على مصلحتك
هب واقفًا ورمقه بخنق وامتعاض كدليل على عدم اقتناعه بما حاول نصحه به أخيه ثم استدار وانصرف فأصدر كرم زفيرًا بنفاذ صبر ويأس ….
***
كان زين مستغرق في النوم وكذلك في الأحلام ، لكنها أحلام مفزعة باتت تسبب له حالة نفسيه وتذهب بعقله ! .
كان بؤبؤي عيناه يتحرك بعنف تحت جفنيه وانفاسه سريعة وغير منتظمة وكأنه يجاهد في الفرار من شيء .. شيء مرعب كأشباح أو ما إلى ذلك ! ، ولكن ياليته شبح ! .. فهو صديقه الذي رحل عنه بسببه ؛ هو من أطاح به لحافة الموت فقط من أجل شعور باللذة سيدوم لساعات ، ولكن الأمر لم يدم لساعات بل للأبد ، فذهب هو لرب كريم واستمر هو في مسيرة حياته ، تطيح به الحياة تارة من هنا وتارة من هنا ويتخبط في أزماتها مقاومًا دوماتها ، فيذهب ويأتي للحياة مرات عديدة ، والآن هدّأت الحياة من سهماها التي تطلقها عليه متتابعة ولكن ضميره لم يهدأ ، وسيظل يعاني من الآم الضمير في كثير من ذنوبه ، ولن تتركه كوابيسه المزعجة مطلقًا حتى يتصالح مع نفسه ! .
فتح عيناه دفعة واحدة مفزوعًا وهو يلهث من الهلع وهب جالسًا على فراش ثم أنزل قدماه في الأرض ودفن وجهه بين راحتي كفيه ويستغفر ربه مرارًا وتكرارًا ، محاربًا شعور يمزقه ويضغط على انفاسه التي تخرج متقطعة ، فعجز عن مقاومة دموعه التي تصرخ مطالبة بالنزول فسمح لها بالسقوط واجهش بالبكاء في صوت شبه مرتفع مرددًا من بين بكائه وصوته المبحوح :
_ سامحني يا وائل .. سامحني !!
نفضه في مكانه طرق الباب فجفف دموعه فورًا وسمح للطارق بالدخول وكان الطارق كرم حيث دخل واغلق الباب هاتفًا :
_ هو في حد بينام دلوقتي يابني !!!
حاول جاهدًا إظهار صوته طبيعيًا وهو يزيح بعيناه عنه ويتمتم :
_ ما أنت كنت معايا في الشركة وشوفت كان الشغل إزاي النهردا كتير ومتعب
تقدم ناحية الأريكة الصغيرة وجلس عليها بإرياحية مغمغمًا في جدية ونبرة حازمة :
_ طيب أنا ظبطت كل حاجة عشان البضاعة جاية بكرا ، قبل ما تستلمها يازين تتأكد كويس إن كل حاجة مظبوطة مش عايزين يحصل زي المرة اللي فاتت
_ متقلقش !!
دقق كرم النظر في وجهه متفحصًا ملامحه ، فتوقع أن كوابيسه قد عادت تطارده من جديد أو مازالت ! .. ليصدر تنهيدة حارة قبل أن يسأله باهتمام :
_ إنت لسا بتحلم بوائل !؟
ابتسم بمرارة وأجابه بخفوت وعَجّز عن مقاومة أي شيء ، فهو كطائر مكسور الأجنحة ينتظر حتفه :
_ وأنا من إمتى ارتحت أنا في العذاب ده من عشر سنين ياكرم ، لا أنا قادر اسامح نفسي ولا هو بيسبني ارتاح
انتصب في جلسته وانحني للأمام قليلًا هاتفًا في زمجرة مفرطة بعد أن استفزته كلماته التي كلها ضعف وعجز :
_ إنت ملكش ذنب في أي حاجة يازين إنت كنت ضحية زيه ، وسامح نفسك عشان ترتاح كفاية تأنيب في نفسك .. إنت غلطان أكيد بس غلطك كان عن غير وعي وهو ممتش بسببك ده قدره ويومه وساعته ، تعددت الأسباب والموت واحد يعني ده كان سبب وبيك أو منغيرك كان هيموت بأي سبب تاني
أشاح بوجهه للجهة الأخرى وهو يجز عن اسنانه بقسوة ، هو أكبر مذنب في كل هذا هو من أطاح بنفسه لهذا الطريق لم يجبره عليه أحد ، هو من كان سبب كل ما حدث في حياته ويستحق أن يدفع الثمن . عاد بوجهه لأخيه وصاح به في صيحة متألمة :
_ أنا مليش ذنب في وائل ومليش ذنب في الراجل اللي خبطته بالمخروبة بتاعتي ومعرفش عايش ولا ميت ومليش ذنب في اللي بيجرالي ! .. لا أحب اقولك أن أنا استاهل كل اللي جرالي واللي بيجرالي لإنه محدش جبرني على حاجة أنا اللي اخترت امشي في طريق المخدرات والإدمان بنفسي لغاية ما وائل مات بسببي
_ وإنت ندمت وتوبت واتعالجت وأخدت سنة في المصحة وربنا هداك ، وإذا كان بخصوص الراجل فقدامك احنا قلبنا مستشفيات القاهرة كلها وملقناش اسمه لا في سجلات الوفيات ولا المصابين حتى عشان نعرف نوصله ، لو ليك نصيب تقابله وتعرف مين هو هتقابله ، وقتها هيبقى ربنا بيحبك وبعتهولك عشان تكفر عن ذنبك ويريحك من العذاب ، بس باللي بتعمله ده هتأذي نفسك اكتر وعمرك ما هترتاح
اكتفى بالصمت وهو يطرق رأسه أرضًا ، فأكثر من يحب التحدث معه هو أخيه من شدة قربهم لبعض لا يوجد شيء لا يعرفه أحد عن الآخر ولهذا هو أكثر من يفهمه والعكس ، ربما كرم هو ملجأ كل من يود البوح بشيء يخنقه ، وتطلق عليه والدته ( المصلح الاجتماعي ) !! ، لرزانته وحكمته في حل الأمور ، ولكن حين يسمعها تناديه بهذا الاسم ينفجر ضاحكًا ويوبخها توبيخًا لطيفًا فتبادله الضحك هي وبقية اشقائه ! .
هب واقفًا واقترب من أخيه ورتب على كتفه هامسًا بلطف :
_ قوم اتوضي يلا إنت مصليتش العشا في الجامع بسبب إنك نايم بعد المغرب زي الفراخ وأنا كمان هروح اتوضى واقول لماما ورفيف يتوضوا كمان عشان تصلي بينا جماعة يلا قوم
اماء لأخيه بابتسامة طيبة فبادله إياها وانصرف مغادرًا لغرفته لكي يتوضأ كما قال له منذ قليل ، فعاد هو يستغفر ربه بحزن وشجن ثم وقف واتجه للحمام هو الآخر ليتوضأ …
***
مع إشراقة شمس يوم جديد ، كانت العائلة مجتمعة في المنزل وجميعهم على طاولة طعام الغذاء يتبادلون الأحاديث ويضحكون ويمرحون ، وكان على مقدمة الطاولة هدى وعند ذيلها يجلس كبير العائلة طاهر العمايري .. كان الجميع في مرح وسعادة معادا يسر التي تتطلع احسن في غل وحقد وأعين نارية ولن تتمكن من حجب نفسها وإلا ستنفجر بهم جميعًا ، القت نظرة على حسن الذي منشغل بالتحدث مع ابنة خاله التي أتت من السفر صباحًا وكان هذا سبب في اندلاع نيران الغيرة بقلبها أكثر حيث هتفت في ابتسامة صفراء ونظرة ماكرة :
_ طيب بما إننا كلنا متجمعين كدا ماشاء الله حابة اقولكم حاجة تخص حسن عشان افرح طنط هدى بيه !!
وقفت اللقمة في حلقه وأخذ يسعل بقوة فناولته هي كوب الماء هامسة بنظرة لئيمة ومتشفية :
_ على مهلك
زغرها بنظرة نارية ومتوعدة وهو يزأر من بين اسنانه ثم تناول الكوب من يدها وشربه دفعة واحدة ثم نقل نظرة بين العائلة وهو يرى نظرات الاستعجاب في عيناهم والاستفهام !! ، فلم تمهله هي الفرصة لينقذ نفسه حيث أكملت ببراءة متصعنة وهي تعطيه نظراتها الشيطانية :
_ أصل حسن رجع الشركة من كام يوم فقولت أما افرح مرات عمي بالخبر ده بما إننا كلنا قاعدين
ظل يحدق بها شزرًا وعيناه تطلق شرارات ملتهبة وكانوا يتبادلون النظرات بابتسامات لا يفهم ما تضمره هذه الابتسامات في الخلف سواهم ، ولكن كرم كان يتابع الموقف ويبتسم لفهمه ما يجري بينهم فدق هاتفه رنينه ونظر للمتصل ثم هب واقفًا وغمغم :
_ طيب ياجماعة عن أذنكم
_ ما تكمل أكلك يابني
_ شبعت يا أمي .. عن اذنك ياعمي
_ اذنك معاك يابني
ثم نقل العم نظره لحسن وهتف باسمًا بسعادة :
_ايوة كدا ياحسن ربنا يهديك يابني اقف مع اخواتك وساعدهم ، فرحتني والله !
رتبت امه على كتفه بابتسامة فخورة ومحبة ثم استقام زين واستأذن من الجالسين حتى لا يتأخر على موعد العمل المهم .
***
أجاب كرم على الهاتف في هدوء نبرته المعتادة ولكن جاءه صوتها المفزوع وهي تهتف مستنجدة به :
_ الحقني ياكرم ماما تعبانة أوي ورافضة ما تاخد علاجها ولا تاكل حتى ومش عارفة أعمل معاها إيه ؟
أثارت قلقه وخوفها من نبرته المتلهفة والمرتعدة فأجابها في خفوت محاولًا تهدئتها :
_ طيب اهدي ياشفق .. مش راضية تاخد علاجها ليه ؟!
_ مش راضية ياكرم والله دي من امبارح رافضة وانا سبتها محبتش اضغط عليها والنهردا تعبت اوي وحتى الأكل مش عايزة تاكل تعال يمكن تعرف تقنعها هي بتسمع منك
_ طيب حاضر أنا هلبس وهاجي دلوقتي وحاولي معاها لغاية ما آجي يمكن توافق
أجابته بالموافقة في صوت به شيء من الرجفة فاندفع هو ناحية غرفته ليرتدي ملابسه ويرحل فورًا .
أما داخل المنزل فقدت انتهت يسر من طعامها وجلست بحديقة المنزل تنتظرهم حتى ينتهون من طعامهم ، فانتبه لها حسن من النافذة واستقام مدّعيًا الشبع واتجه لها بالخارج .. رأته يندفع نحوها كالثور الهائج فلاحت ابتسامتها المتشفية على ثغرها ، وفي أقل من لحظة كان يقف أمامها ويجذبها من ذراعها خلفه حتى ادخلها بغرفة خارجية في الحديقة وأغلق الباب ثم تحدث وهو يحاول التحكم في نبرة صوته :
_ إنتي بتشتغليني يعني وبتلعبي بيا .. ما بلاش أنا يايسر ده أنا وسخ وممكن اخليكي تكرهيني بجد
اطالت النظر به وشفتيها تميلان للجانب في استنكار ثم تمتمت وهي تمر من جواره متجهة ناحية الباب :
_ وريني هتعمل إيه !!
قبض على رسغها بعنف ودفعها بقوة فاصطدمت بالحائط وتكمت تأوهًا رغبت في إخراجه فازدادت حمرة عيناها غضبًا وهو كذلك وصل لزروته حيث حاوطها بين الحائط وبينه بيديه وهمس في وقاحة معتادة عليه امتزجت بضجره :
_ طالما إنتي دايبة فيا كدا وهتموتي على نظرة مني بس .. اضايقتي ليه لما قولت عليكي الكلام ده .. أنا اراهن بالعشرة إنك مُنى عينك ده يحصل بينا !
لم تخجلها وقاحته ولما تدهشها كثيرًا ولكنها هيّجت عواصفها وبرزت عن مخالبها القوية .. هي تعرف أنه لم يتمكن من فعل شيء مما يقوله ولكن مجرد القول يثيرها بالكامل .. هذا الفاسق يتحدث وكأنها فتاة من الشارع وليست ابنة عمه الذي كان يتحدث معه بالداخل ويجلس معه على طاولة واحدة . فلم ترد على انحطاطه بالكلمات بل بيدها التي هوت على وجنته بقسوة وهي تهتف باشمئزاز :
_ حيوان صحيح ومش راجل .. عرفت إن اللي بعمله فيك تستاهله ولسا هتشوف مني ياحسن عشان أنا مبسبش حقي
ثم دفعته من أمامها واندفعت للخارج وتركت العنان لدموعها المريرة والمنكسرة ، نزلت الدموع حارقة كالنيران فقلبها يتحرّق من حبه وهو وغد لا يستحق عشقها له ، فقط يستحق الكره وهي تفشل في اعطائه الكره ، فكل ما تفعله به هو بدافع عشقها لها وتضعه تحت راية انتقامها .. انتقامها الكاذب !! .
***
متكورة في إحدى زوايا المنزل بجانب الحائط ومجهشة بالبكاء العنيف ، مع حرصها على عدم وصول صوت بكائها لأذن أمها المريضة .. تركهم أخيه فجأة ووالدتها بين الحياة والموت حالتها الصحية تزداد سوءًا مع مرور الوقت منذ فجيعة أخيها ، أن تركتها هي أيضًا فحتمًا ستلحق بهم ، لم يتبقى لها سواها وبدونها ستصبح وحيدة بلا عائلة أو ملجأ ، ستصبح كالطائر الذي بلا عش وتأخذه الرياح وتلقي به حيثما تريد ! . اليوم هو الخامس منذ وفاته ، وسئمت من التظاهر بالقوة الثبات وهي في أشد الحاجة للصراخ والبكاء .. في امس الحاجة لإخراج الألم الذي يأكل ويفتت قلبها ، ولكنها تتحمل من أجل والدتها وتفرغ عن ما في فؤداها ببكائها المنخفض والمتخفي بعيدًا عنها !! .
أخرجها من موجة بكائها صوت رنين الباب فوثبت واقفة وجففت دموعها عن وجنتيها ولكن لا يزال أثر البكاء في عيناها .. ارتدت حجابها ثم توجهت وفتحت الباب بتلهف بعد أن توقعت من الطارق ، فنظر هو لها وقال بقلق :
_ بقت كويسة ؟
أجفلت نظرها أرضًا وهزت رأسها بالرفض في مرارة وأعين تستعد بالانفجار مجددًا ، فهمس هو بإحراج وارتباك :
_ وليه العياط ده كله إن شاء الله هتبقى كويسة ، قوليلها بس إني جيت عشان ادخل اتكلم معاها
أماءت له وبسطت يدها تسمح له بالدخول فدخل هو على استحياء وجففت دموعها وتوجهت لوالدتها التي اشرقت من السعادة لعلمها بقدومه وخرجت لتخبره بأنه تنتظره فطلب منها أن تلحقه بالطعام والدواء خاصتها .
فتح الباب بعد أن طرقه بلطف ودخل فاستقبلته هي بابتسامة مشرقة وسعيدة ، ليقترب هو بعد أن بادلها الابتسامة العذبة وجذب مقعد وجلس قبالتها مغمغمًا برقة تليق بصوته الرجولي :
_ كدا برضوا تقلقينا عليكي يا أمي
التقطت الورقة والقلم وبدأت تدون له ما تود قوله ! ، فقد فقدت قدرتها على التحدث نتيجة لصدمتها بخبر وفاة وحيدها ، فأخذ من يدها الورقة وقرأ ما كتبت عليها والذي كان كالآتي ” مجيتش ليه امبارح ؟ ”
فأظهر الأسى والتأسف وتمتم باحترام :
_ أنا آسف حقك عليا .. كان معايا شغل كتير خالص والله ورجعت متأخر فمكنش ينفع اجيلكم
أماءت له مبتسمة كدليل على مسامحتها له ورتبت على كفه بحنو ، دخلت في هذه اللحظة شفق واتبسمت براحة حينما رأت سعادة والدتها ، وتأكدت أنها لم تخطىء عندما طلبت منه المساعدة ، أما الأم فقد عادت تكتب من جديد ” أنا حلمت بسيف امبارح ”
قرأ ما كتبته وحارب عيناه التي كادت إن تدمع ، ثم رفع نظره لها ورسم ابتسامة حانية على ثغره متشدقًا :
_ وقالك إيه ؟
بدأت تكتب الحلم بالتفصيل في الورقة ودموعها تنهمر في صمت ” كنا بنتغدي وكنت إنت معانا وأنا كنت لابسة أسود أنا وشفق فهو اضايق وقلنا ليه لابسين اسود وطلب مننا نلبس الوان ولما بصلك ولقيك قاعد ساكت وزعلان خالص حط ايده على كتفك وابتسم زي كأنه بيقولك متزعلش وبعدين قالك وهو شبه مضايق إنت مش فرحان ليا ولا إيه ! ”
قرأ الورقة وتلاشت ابتسامته لتحل محلها التوجع والحزن ولم يتمكن من حجب دموعه ففرت من عيناه دمعة متمردة واسرع بمسحها ، فقد آلمه قلبه كثيرًا بعد رسالته له الذي يخبره فيها بوضوح أن حزنه أو حزنهم جميعًا على وفاته أصبح يألمه ويعذبه . رفع نظره لها وأمسك بيدها يملس عليها بحنو وبابتسامة مريرة ثم أردف بخفوت :
_ طيب وأهو جالك بنفسه وقالك إنه مضايق ولما يلاقيكي مش بتاخدي علاجك ومش عايزة تاكلي وبتعيطي كدا هيضايق أكتر .. يلا كلي وخدي العلاج مينفعش تقعدي كدا
اقتربت شفق منها وجلست على الفراش وهي تمد لها الطعام بتوسل :
_ يلا يا ماما عشان خاطري كلي
أمام إصرارهم استسلمت أخيرًا وبدأت في تناول الطعام من يده ابنتها التي كانت تختلس النظر إليه خفية وهو شارد بشجن في الورقة التي لا تعرف مضمونها حتى الآن سوى أنه حلم عن أخيها روته له أمها !! .
وبعد دقائق ليست بطويلة استأذن هو منها ليغادر ثم خرج وتبتعه هي لتودعه فتوقف عند الباب وسألها :
_ لسا متصلش بيكي ؟
فهمت أنه يقصد ذلك القذر الذي يبتزها فهزت رأسها بالنفي ليكمل هو بجدية ممزوجة باللين :
_ طيب معلش ياشفق استحملي اليومين دول عشان مصلحتك ، لو حابة تروحي كليتك أو أي مكان اتصلي بيا وأنا هوديكي واجيبك
انفرجت شفتيها بذهول وأجابته في حياء شديد وتوتر :
_ لا ملوش لزمة مش للدرجة كفاية أوي اللي بتعمله معانا أنا مش عارفة اشكرك إزاي والله
_ لا ليه لزمة وأوي كمان احنا مش ضامنين الحيوان ده يعمل إيه ، فاسمعي الكلام بالله عليكي ومتطلعيش وحدك لغاية ما أعرف مكانه أنا حاولت أعرف مكانه من خلال الرقم اللي ادتهوني بس طلع بيتكلم من رقم كشك في الشارع
تمتمت بخجل بسيط وإحراج :
_ بس أنا مش عايزة اتعبك معايا كفاية أنه لما يتصل هتصل بيك بلاش تدخل نفسك في مشاكل بسببي
لم يبتسم ولكن نبرته ونظرته العفوية في لين ، سرقت الكلمات من فمها ووسمت وسامه على يسارها وطالعته ببلاهة :
_ وهو لو رفيف مكانك كنت هسبها مثلًا ، إنتي متعرفيش ممكن يعمل إيه متستهونيش بالموضوع ، ولو عليا مفيش تعب ولا حاجة اطمني ، بس خلينا نحل المشكلة دي من غير ما تتأذي
كان يخبرها بشكل غير مباشر أنه يرى اهتمامه بها كاهتمامه بشقيقته وأنها ليست سوى شقيقة له ، ولكن شرودها به عَكَسَ الآية وتوتر هو وشعر بالإحراج كعادته ثم اشاح بنظره عنها وغمغم على عجالة كأنه يتهرب من وضعهم :
_ طيب لو حصل أي حاجة لمامتك كلميني وياريت زي ما قولتلك على خروجك وكدا
لاحظت هي شرودها به فلعنت نفسها وخجلت ثم اماءت له بالموافقة لتنهي هي الأخرى هذا الحديث فاستدار وانصرف فورًا ولكن بعد خروجه رغم الكآبة التي تعم عليها ابتسمت مستنكرة وبتعجب من خجله وتذكرت كيف أشاح بعيناه ووجهه عنها بتوتر بعد أن رآها شاردة به ، كيف لرجل أن يخجل هكذا !! ، فهي لم يسبق لها رؤية رجل مثله ويبدو أن هناك خفايا أعجب من الخجل في شخصية هذا الرجل ! .
***
مع حلول المساء وهدوء الأجواء والظلام عم كل مكان ، كانت الساعة تقارب على الحادية عشر وكانوا مجتمعين في الصالون العائلي يتبادلون الأحاديث باستثناء كرم الذي لم يعد للآن .
تحدث زين في وجه صارم وحاد موجهًا حديثه لأمه :
_ بصي بقى ياست الكل متحطنيش قدام الأمر الواقع قدام الناس بعد الخطوبة وشغل اقعد مع خطيبتك واتكلموا أنا معنديش الكلام ده
نظرت هدى لابنها وضربت كف على كف متأففة وقالت في نفاذ صبر :
_ إنت مصمم تنقطني يازين !!!
تدخل حسن وهتف بنبرة تحمل السخرية وهو يكتم ضحكته :
_ بص يامعلم الصراحة إنت غلطان ، مكنش ينفع نروح تشوفها إنت كنت تخدتها زي ماهي ويوم الفرح تصدم بيها
طالعته هدى بنصف عينه هامسة بخبث :
_ ويتصدم ليه دي البنت ماشاء الله قمر ده حتى هو عجبته !
غمز بعينه اليسار في لؤم وهتف ضاحكًا باستنكار :
_ ايوة بقى امال عاملنا فيها قال الله وقال الرسول ليه !
رمقه شزرًا وهتف بحزم :
_ ما تتلم يالا !
انحت رفيف على حسن وهمست في أذنه وهي تكتم ضحكتها :
_ بس ياحسن لياكلنا .. احنا مش ناقصين
وضع يده على فمه يخفي ابتسامته التي انطلت منه رغمًا عنه فتكمل هدى في رزانة وحنو محاولة اقناعه :
_ ياحبيبي لازم تقعد مع خطيبتك بعد الخطوبة وتتكلموا كدا عشان تتعرفوا على بعض
هتف شبه منفعلًا :
_ ماما متجننيش بلا اقعد واتكلم معاها ليه واتكلم معاها ليه ما اخدها في الشقة ونقفل على نفسنا احسن ، انا لما اقعد معاها وحدنا ده اسمه خلوة ودي حرام
_ خلاص خلي رفيف تقعد معاكم أظن كدا معندكش حجة !
صاحت رفيف مسرعة في توتر وخوف :
_ لا اقعد مع مين أنا إيه يقعدني وسط مخطوبين وبعدين أنا لو قولت كلمة غلط وابنك معجبتهوش ممكن ياكلني
قال زين مبتسمًا ليتهرب من إصرار أمه :
_ ايوة عندها حق
نزعت هدى الشبشب والقت به على ابنتها صائحة باغتياظ :
_ اكتمي ياحيوانة يعني مش كفاية بحاول اقنع فيه !
انفجر حسن ضاحكًا بقوة فنكزته رفيف في كتفه بضيق ويتابعهم زين وهو يبتسم ثم هتف حسن من بين ضحكاته :
_ يا أمي احمدي ربك أنه تكرم وهيحضر خطوبته اصلًا
بادل أخيه في المزاح قاصدًا إثارة غيظ أمه وتمتم يجاريه في الحديث :
_ قولها ! .. ما تروح تخطب إنت بدالي ياحسن !
دخل كرم من الباب وهتف مبتسمًا عندما رأى تجمعهم وضحكهم :
_ متجمعين عند النبي إن شاء الله
ردوا جميعهم بـ ” آمين ” ثم عاد زين ونظر لحسن كأنه يأخذ رأيه فيما طرحه عليه للتو فهب واقفًا وقال وهو ينصرف بعيدًا عنهم :
_ اخطب مين صلي على النبي ياعم ، أنا مش ناقص وجع دماغ
أجابه زين بنظرة مشتعلة ومغتاظة :
_ آهاا ما أنت عجباك الصياعة ، امشي متورنيش وشك بدل ما احدفك بالسكينة
تشدق ضاحكًا بمشاكسة :
_ الشيخ زين بجلالة قدره يقول هحدفك بالسكينة لا مكنتش متوقعها منك دي ياشيخنا
نزعت هدى حذائها الآخر وصاحت به :
_ ولو ممشتش ياحسن هحدفك أنا بالشبشب
_ لا وعلى إيه امشي بكرامتي أحسن !!!
قالها ضاحكًا ومداعبًا بينما كرم انحني على رفيف وهو يسألها عن ما يجري فبدأت تقص له حوراهم منذ البداية فيبادلها الضحك ، بينما أكثر من يستشيط غيظًا بينهم هي هدى !! …
***
أيام مرت بروتينية بعض الشيء على البعض ، وباختلاف بسيط على البعض الآخر ! .
زين كان في الاستعداد لخطبته التي ستقام اليوم في إحدى المقاهي الفخمة وستكون بين العائلتان فقط وذلك بعد موافقة العروس والجميع وعدم ابداء أي اعتراض على اقتراحه . كان يستعد لهذه الخطبة وكأن يد تقبض على فؤاده وتعصره ومن الناحية الأخرى يد تربت على كتفه بحنو محاولة دفع الطمأنينة لنفسه المضطربة والوجلة ! …
أما كرم فكان يتخبط في أحزانه كما أعتاد ، لا يقطع زيارة صديقه الحميم هو وزوجته كل يوم والتالي ، ويلازم على زيارة منزل صديقه ليطمئن على أمه يوميًا حتى لا تبدي له ضيقها من عدم قدومه ، وقلت محادثته لتلك الشفق التي جعلت من قدومه يوميًا حجة لتحادثه !! ، فتلوم وتعنف نفسها بشدة بعد رحيله وتقسم بأنها ستتصرف بحزم وستجعل الحديث مقتصر على إلقاء التحية فقط ولكن في كل يوم تنكث وعدها لنفسها وتخترع حديث مختلف لتحادثه به ربما ما يدفعها لفعل تلك الأمور المنافية لطبيعتها الملتزمة معه هو أنها بدأت تنتبه لتفاصيله أكثر واصبحت تفهم أن عندما يتكلم وعيناه تقعان على كل شيء إلا عليها يكون مضطرب أو مُستحي ! ، وربما ايضا أنها بدأت تلذذ برؤية خجله الغير مألوف لها على رجل من قبل ، مع ابتسامته الساحرية عندما تميل شفتيه لليسار في لطف فتحلق في جمالها ونظرات عيناه الرمادتين كانت كسهام صائد محترف يصوبها نحو يسارها بإحترافية .. ” مهلا هل اتغزل به !!! ” قالتها لنفسها في ذهول فعادت تعنف نفسه بقسوة ” عودي لرشدك ايتها الحمقاء وكفاكي تصرفات فاسقة !! الرجال بالألوف ألم تجدي رجل سواه لتعجبي به ؟! ” فتعود وتجيب في هيام ” وكيف لامرأة تملك عقل تستطيع مقاومة هذا الرجل الفريد ” … !!
أما عن حسن فلا يزال في حياته الفاسدة ، بالنهار عمل لا يتقنه على أكمل وجه وبالليل سهرات وفتيات ، وأصبح في حرب حقيقة مع ابنة العم ، وصارت كعدو لدود تسعى لتدمير حياته في وجهة نظره ، فلم يحرمها من مزيد من معاملة المرء لخصمه ولا يمل من إظهار جانبه الفاسق أمامها ووقاحته المألوفة فتارة تقابله ببرود وتارة بغضب ولكن كل هذا يزيد من إصرارها على تلقيه الدرس الذي يستحقه ، مع إصراره هو على كسر انفها العالي وجرح كرامته عن طريق محاولاته الوقحة في الاقتراب منها وكلماته الفظة والوضيعة لها بالأخص بعد الصفعة التي تلقاها منها وزادت من لهيب النيران اشتعالا داخله وجعلته أكثر الحاحًا في خوض هذه المعركة التي سيخرج منها حتمًا منتصرًا كما هو متصور … !!
ورفيف منسجمة في تلك الرواية التي استعارتها من إسلام ، تقرأها مرة واثنان وثلاثة حتى قاربت على حفظها وتتشوق ليوم الخطبة أكثر من أخيها حتى تراه وتعيدها له وتخبره عن مدى سعادتها بقرائته وأنها جميلة بالفعل ! …
***
على الجانب الآخر كانت شفق تستعد للخروج للذهاب لكليتها بعد غياب دام لأسبوعين منذ وفاة شقيقها ، ولم تلتزم بتنبيهات كرم لها المتكررة بعدم الخروج بمفردها . وبعد ساعات دامت لآذان العصر في كليتها خرجت أخيرًا وقررت أن تذهب لزيارة قبر أخيها واستقلت بإحدى سيارات الأجرة وبعد دقائق نزلت منها أمام المقابر وقادت خطواتها نحو الداخل حتى وقفت أمام باب مرقده وفتحت الباب الحديدي ودخلت وأخذت تتطلع إليه لا تستوعب أنه في التراب وحين تتحدث إليه الآن لن يجيبها ولن يضمها ويجفف دموعها ، لن يشاطرها أحداث يومه بعد الآن ، ويخبرها عن مغامراته الشرطية وعن الجرائم التي تمر عليه يوميًا ، باختصار شديد هو لم يعد موجود جسديًا ولكنها تشعر بروحه تتنقل حولهم في كل مكان وبالأخص في المنزل وغرفته مفعمة برائحة عطره الرجولية ، حتى الآن تراه فيكل جزء منها ! .
خرت أمامه ببكاء عنيف ونشيج مسموع تتحدث إليه من بين بكائها بكلمات غير واضحة وتتلمس على التراب الذي يتواري جسده اسفله بتحسر وتهمس في صوت متقطع :
_ وحشتني ياسيف أنا بموت من بعدك .. لا أنا ولا ماما لينا غيرك .. أنا بقيت بحس بيك في كل مكان حواليا ، وحشني حضنك وضحكك وهزارك معانا وحكاوينا طول الليل ، ليه سبتني وحدي أنا ضهري اتكسر من بعدك ياحبيبي ، عارفة إنك بتتضايق لما نشوفنا بنعيط كدا بس غصب عني مش قادرة اتصنع القوة أكتر من كدا أناااا ….
شعرت بيد توضع على كتفها فلوهلة ظنته كرم لعلمه أنه هو الوحيد الذي لا يفارق قبر أخيها وملازم على زيارته وعلى إسقاء الأزهار الصغيرة والصبار الذي زرعه حول قبره فكادت ان تبتسم ولكن حين وقفت واستدارت بجسدها بالكامل فرت دماء وجهها وتملك الرعب منها بمجرد رؤيتها لهذا الوغد الذي يبتزها فتراجعت للجانب هاتفة بفزع :
_ إنت بتراقبني ؟
أجابها باسما بشيطانية :
_ أنا سبتك اسبوعين وقولت اخوها مات وحرام ، مش هو ده الظابط اللي كان هيودني في داهية برضوا ، خلاص يامزة معدش في حد هينقذك مني والصراحة بقى أنا صبرت عليكي كتير وياتديني اللي أنا عاوزه بالذوق يا افضحك ، فتدهوني بالتراضي لإني كدا كدا هاخده حتى لو بالغصب وسعتها هبقى اخدت اللي عاوزه وفضحتك
ثم اخذ يقترب منها وهي تتراجع حتى التصقت بالحائط ومال نحوها ببطء قاصدًا تقبيلها وهي تحاول أن تتفاده وتهتف بتحذير كان فاشل في تحريك شعرة منه :
_ ابعد عني بدل ما اصوت والم عليك الناس
_ مفيش حد في المقابر يامزة غيرنا وزي ما إنتي شايفة دي مقابر أوض يعني محدش هيشوفنا
بدأت ترتجف برعب وهي تراه يقترب أكثر ففكرت في أي طريقة لتهرب منه ولم تجد سوى طريقة واحدة فرفعت قدمها وركلته اسفل الحزام واندفعت للخارج تركض كالسارق الذي يهرب من مالك المحل الذي سرقه .. تركض وتتلفت خلفها في رعب حتى وصلت للشارع العام ومن رعبها لم تتمهل عند عبورها فلم تشعر بنفسها سوى وهي تفقد وعيها تدريجيًا على الأرض وصوت فوقها يردد في ارتيعاد :
_ يا أنسة ردي عليا إنتي كويسة .. يا أنسة !!!
_ الفصل السادس _
بعد العصر بساعة ونص مع ضوء الشمس الغاربة والأجواء المشمسة والدافئة في هذا الصقيع .. كان المقهي على قمة فندق ومتكدس بالعائلتان ومعارفهم المقربين فقط وكانت خطبة ملوكية وهادئة خالية من الضجيج المعتاد على الأفراح ، وكان يود أن يجعلها دون أي موسيقى أو اغاني وبعد محاولات من أمه وشقيقته وافق على موسيقى راقية وهادئة فقط لتضفي للأجواء شيء من الفرحة والابتهاج ، وكان الجميع منشغل بالحديث والضحك مع بعضهم البعض ، والفتيات لا تمل من التقاط صور السيلفي لها وبالأخص رفيف التي كانت مندمجة مع صديقاتها في الضحك والتصوير غير منتبهة لذلك المضطرب الذي يخونه نظره ويخطف نظرات إليها سريعة بعد أن قامت بإعادة الكتاب وابدت عن سعادتها به وقالت الكثير من الكلام المشجع والإيجابي . وحسن كان يتجول هنا وهناك وأغلب الوقت يقضيه مع ابن عمه وصديقه ” علاء ” ، أما كرم فكان على طاولة بمفرده يجلس واضعًا ساق فوق الأخرى وبيده كوب المشروب الغازي الذي طلبه ويتابع الجميع في سكون يراقب ذاك تارة وتارة ذاك .. طلته الرجولية والجذابة لا تختلف عن زين وحسن فكل منهم لديه طلته المختلفة التي سلطت أنظار الجميع عليهم ، اقتحمت جلسته الفردية وانسجامه مع الموسيقة الهادئة ومشروبه ابنة خاله ، حيث جلست أمامه وغمغمت باسمة في رقة شبه متصنعة :
_ قاعد وحدك ليه ؟!
ابتسم لها بلطف وتمتم في نبرة هادئة كطلته وجلسته وطبيعته :
_ عادي حبيت جو الموسيقى بس
هتفت في تطفل كان في نظرها محاولة اقتراب منه ولكن في نظره تطفل :
_ طيب هتمانع لو قعدت معاك
رسم ابتسامته ولكن هذه المرة كانت ابتسامة متكلفة حيث أجابها في استحياء منها :
_ لا أمانع ليه براحتك ياحنين !
اتسعت ابتسامتها أما هو فانتظر اللحظة التي نقلت بنظرها عنه وبحث بعيناه عن حسن حتى وقعت نظراته عليه وتلاقت اعيننهم فأشار له بيده على الجالسة أمامه في وجه مختنق وكانت نظرته تتحدث قائلة ” تعالي خُدها من قدامي أنا مش ناقص رط ” انفجر حسن ضاحكًا بقوة فنظر له علاء وغمغم باسمًا على ضحكه :
_ ماله عايز إيه ؟
_ حنين لزقت فيه زي العادة ومش عارف يتهرب منها وعايزني انقذه !
قهقه مثله وقال مستمتعًا :
_ والله أخوك ده مسخرة وحالته صعبة روحله ليفرهد بين ايدها !
ازداد ضحكه أكثر وجاهد في التوقف وهو يتوجه ناحيتهم حتي وقف وانحني قليلًا ناحيتها هامسًا بنظرة خبيثة وهو يغمز لها :
_ حنين ما تيجي اعزمك على حاجة حلوة ونتكلم شوية
هتفت في اعتراض بسيط وهي تلقي نظرة على كرم الذي يحاول تجنب نظراتها لها وتفاديها :
_ ميرسي ياحسن بس أنا مرتاحة كدا ومش قادرة أشرب أي حاجة والله
نظر لأخيه وهتف مشاكسًا وخو يضحك :
_ مرتاحة إيه بس ياشيخة .. إنتي إيه اللي مقعدك مع الكئيب ده تعالي ده الكل بيضحك وبيهزر وهو قاعد في ركن وحده زي المطلقة ، تعالي بس حتى اقعدي مع رفيف كانت بتسألني عليكي من شوية
القت نظرة أخيرة على كرم وهذه المرة رأته ينظر لها وبيتسم ابتسامة صفراء فكتم حسن ضحكته ونهضت هي مغلوبة على أمرها وسارت مع ابن خالها ولكنها فضلت أن تذهب لرفيف وتنضم لصديقاتها وهووأشار لشقيقته من بعيد على كرم ففهمت هي مقصده فورًا وابتسمت ورحبت بانضمام ابنة خالها بينهم في حب ….
بعد دقائق قرر حسن أن ينزل ليقوم بشراء شيء له وهرول ناحية المصعد الكهربائي قبل أن يغلق ووضع قدمه بينه حتى لا يغلق فإذا به ينصدم بيسر فيتأفف بغضب ويدخل مخنوقًا فتطالعه هي بنظرات استحقار من تقززه منها وكأنها قمامة ثم هتفت في استهزاء :
_ أنا اللي المفروض اقرف منك أصلًا !!
حدجها في نظرة تتصنع عدم الفهم وهو يضيق عيناه وقال بنبرة باردة كالثلج :
_ افندم !
جزت على أسنانها وكورت قبضة يدها وودت لو صفعته بها مرة أخري ، ولكنها جاهدت على الظهور بمظهر الغير مكترثة له وتمتمت في غيرة واضحة كشفت محاولتها الفاشلة في عدم الإكتراث :
_ متفتكرش إنك لما تقعد تتلزق في بنت خالك أنا كدا هغير مثلًا وهتغيظني أكتر
جلجلت ضحكته المصعد وهتف ساخرًا في نظرة استحقار ونبرة فظة :
_ وأنا مهتم بغيرتك مثلًا يعني ، ما تولعي بجاز و*** أنا مالي بيكي !
صاحت به في انفعال :
_ احترم نفسك واتكلم معايا بأسلوب كويس واحمد ربك إني مقولتش لحد لسا وصابرة عليك
أثارته واشعلت النيران في عيناه وبرزت عروق رقبته بسبب طريقتها المستفزة وكأنها تخبره يوضوح أنها تقبض على ذراعه المصاب وإن ازعجها ستضغط عليه وتؤلمه بشدة ، فقبض على ذراعها وصاح في استياء عارم :
_ يابنت الناس اعقلي وبلاش تخليني ازعلك بجد مني .. أنا لغاية دلوقتي اللي حايشني عنك أخوكي وأبوكي وإلا كان ….
قطع جملته فتح باب الظصعد تلقائيًا عند وصوله وكان ينتظر المصعد فتاة من أصدقاء العروس وتصلبت بأرضها عند رؤيتها لوضعهم فترك يدها فورًا ورمق يسر شزرًا ثم اندفع للخارج وغادر ولحقت هي به !
***
داخل إحدى المستشفيات الخاصة ….
متسطحة على الفراش وعيناها معلقة في السقف وتنهمر منهم الدموع بصمت ، إلى متى ستظل تتخبط في الطرقات بمفردها .. من جهة ألمها على فراق أخيها ومن جهة أخرى قلبها الذي يتمزق وينزف دمًا حزنًا على حال والدتها ، ويزيد بؤسها ذلك الرجل الذي لا يكف عن ملاحقتها وابتزازها بصورها ، واليوم لولا ستر الله وحمايته لها لكانت تبكي دمًا الآن على ضياع كل ما تملك .
” هل اخطأت حين لم أخبره ؟ فهو مد لي يد العون وأنا أثق به ثقة عمياء لما رفضت عونه !؟ ” كانت تتساءل في قرارة نفسها بمرارة ، وعقلها يكاد ينفجر من كثرة الهموم التي يحملها بداخله وعدم توقفه عن التفكير للحظة واحدة ! ، سحبتا من فقاعة بؤسها صديقتها الحميمية التي فتحت الباب ودخلت مهرولة نحوها فترتمي شفق داخل أحضانها تبكي بعنف وحرقة ليزداد قلق الأخرى وتهتف في ارتيعاد جلي :
_ شفق إنتي كويسة حصل إيه ؟!
أجابتها من بين بكائها وصوتها المرتجف :
_ شوفته وحاول يعتدي عليا يا نهلة
ابعدتها عنها فورًا وطالعتها بذهول ورعب ثم همست في ترقب وقلق :
_ يعني مقربش ليكي
هزت رأسها بالنفي وغمغمت في أعين مدمعة ولكن بكائها توقف :
_ لا ، أنا روحت الكلية النهردا وبعد الكلية روحت ازور سيف الله يرحمه وطلع بيراقبني وحاول يعتدي عليا وبصعوبة قدرت اهرب منه وطلعت اجري ومخدتش بالي من الشارع من كتر خوفي فعربية خطبتني ووصاحب العربية جابني هنا
ترنحت صديقتها من العصبية واخذت تسير إيابًا وذهابًا وهي تقرض أظافرها من الغيظ ثم التفتت لها وهتفت منفعلة :
_ مش هينفع الوضع ده ياشفق الحيوان ده لازم حد يوقفه عند حده ، حسبي الله ونعم الوكيل في مروة .. بعدين إنتي مش كرم قالك متطلعيش وحدك وأنه هو اللي هيوديكي الكلية
عبس وجهها بشدة بمجرد ذكر صديقتها لكرم ، تخشي أن تقحمه معها في مشاكلها فيصيبه الأذي بسببها وبجانب أنها تخجل منه أيضًا بعد كل ما فعله لأجلها ولهم ، وتضف لكل هذا السبب الرئيسي في محاولاتها لتجنبه وهو أنها بدأت تنجذب له تلقائيًا وهي تريد أن تكسر قاعدة قلبها الذي لا يختار من العشق إلا أصعبه .
خرج صوتها خافتًا وعابسًا :
_ أهو كرم ده مشكلة كمان وحده يانهلة ، كفاية اللي عمله معانا وبصراحة مكسوفة منه ومش عايزة ادخله في مشاكلي أنا لولا الحيوان عمر اللي فضحني بالصور قدامه مكنتش هقوله أصلًا ولا هعرف حد بالموضوع ده
هذه الساذجة تجهل خطورة الأمر ، هل هي مستعدة لأن تخسر نفسها للأبد بسبب ذلك الوغد والحقير ، ترفض يد العون ومن ثم تبكي من الخوف عندما يصبها مكروه ، يالها من حمقاء ولابد من ارجاعها لصوابها فإن كانت لا تخشي على نفسها فهناك من يبالي بأمرها ! . صاحت بها نهلة في اندفاع وعصبية شديدة :
_ هو بنفسه اللي طلب يساعدك لو مكنش حابب مكنش هيهتم بيكي أصلًا ، عارفة إنه كتر خيره وأنه ووقف معاكم كتير من وقت وفاة سيف الله يرحمه بس مفهاش حاجة لو كمل جميله شوية لغاية ما تخلصي من الحيوان ده وبعدين ابقى انسيه تمامًا ، وإنتي محتاجة لحد يكون جمبك دلوقتي مينفعش تطلعي وتدخلي وحدك ، كفاية استهتار ياشفق
اجفلت نظرها أرضًا في أسى ، فهي تدرك جيدًا خطورة الأمر ولكنها أصبحت لا تبالي بشيء سوى والدتها وأن كانت تحاول حماية نفسها فالأجلها فقط حتى لا تتركها بمفردها ، ويجب عليها أن تدفع ثمن خطأها وثقتها في من لا يستحق الثقة . اشفقت عليها نهلة ولانت نظراتها لتلك المسكينة التي تحمل همومًا فوق طاقتها فاقتربت منها وجلست بجوارها ثم امسكت بكفها تملس عليه بلطف هاتفة في حنو :
_ ياشفق أنا خايفة عليكي والله ، خايفة الحيوان ده يأذيكي في مرة ، عشان كدا بقولك قولي لكرم وخليه يساعدك
_ أنا دلوقتي بفكر هقول إيه لماما لما تشوف راسى المربوطة بالشاش دي ورجل اللي بمشي عليها بالعكاز ولا كرم كمان لما يشوفني هيضايق جدا لما يعرف إني طلعت ومقولتلهوش لإنه منبه عليا أكتر من مرة
قررت نهلة أن تتخلي عن انفعالها قليلًا وتستخدم المرح لتخرجها من حزنها قليلًا ، فغمزت لها بنظرات دقيقة وهي تردف بخبث :
_ وإنتي خايفة على زعله أوي كدا ليه يعني !
رمقتها شفق بارتباك وتلعثمت فلم تعرف بماذا تجيبها لتخفي عليها حقيقة مشاعرها نحوه التي تنمو يومًا بعد يوم ، فأجابتها يإيجاز ونبرة صوت مرتجفة :
_ هااا .. لا عادي عشان أنا وعدته إني مش هطلع من غير ما اقوله فأكيد هيضايق
ضحكت على تعلثمها وأكملت ضغطها عليها بالكلام فلن تتركها حتى تعترف بإعجابها به :
_ أيوة برضوا أنا مفهمتش إنتي مضايقة ليه لمجرد إنك فكرتي إنه هيضايق
حاولت إيجاد وسيلة للهرب من حصار صديقتها لها فتصنعت السعال وأخذت تسعل بقوة وتقول بصوت ضعيف :
_ هاتيلي مايه يانهلة معلش
أطلقت الأخرى ضحكة متأججة لكشفها خدعتها الفاشلة التي تحاول خداعها بها ولكنها قررت أن تسير معها لآخر الطريق وترى إلى أين ستصل محاولاتها للفرار منها ! ، فنهضت ولتجلب لها الماء وبينما هي تمر من جانب النافذة لمحت رجل يقف أمام المستشفي بالأسفل لتتسمر بأرضها وتحدق بها بتشكيك من مظهره الغير مهندم أو الراقي وهتفت دون أن تبعد نظرها عن النافذة :
_ شفق قوليلي كدا هو الراجل ده شكله إيه ؟
استعجبت سؤالها ولكنها أجابت بهدوء :
_ طويل وأقرع واسمر ، ليه ؟!!!
اقتربت أكثر من النافذة وهي تدقق في ملامحه جيدًا بأعين نارية ومشتعلة وتكمل اسئلتها في جدية تامة :
_ متعور في وشه ؟
بدأ الخوف يتسلسل إلى نفس شفق التي حاولت الاعتدال في نومتها ولكنها لم تستطع بسبب قدمها وأجابت على صديقتها بارتيعاد :
_ آه .. هو قاعد تحت ولا إيه !؟
التفتت لها بجسدها وقالت باستياء ونبرة تسللها القلق مثلها فقد يلحق بهم الأذي هم الأثنين من هذا الوغد :
_ ايوة قاعد تحت .. مستنيكي تطلعي أنا مش قولتلك الراجل ده مش هيسيبك في حالك ولازم نشوف حل معاه ، طلعي تلفونك ياتكلمي كرم ياهكلمه أنا
هتفت مسرعة في ارتباك ورفض قاطع للجوء إليه ومحاولة إيجاد أي حل للهرب والخروج من هذه المستشفى سالمين هي وصديقتها :
_ لا لا عشان خاطري متتصليش بيه يانهلة .. بصي الشاب اللي خبطتني بعريبته أنا طلعت أعرفه من بدري وهو راح مشوار بسرعة وقالي جاي تاني عشان يطمن عليا ويوصلني البيت فخلينا قاعدين لغاية ما ياجي ويوصلنا البيت
طفح كيلها ولم تعد تحتمل سذاجتها ، ولا تفهم أهذا بسبب إحراجها منه كما تقول أم أنها تخشي أن يصيبه مكروه أم تحاول الابتعاد عنه بسبب إعجابها به ، ولكن ما تفهمه أنها ترتكب خطأ فادح في حق نفسها عندما ترفض الاحتماء به وتركه يساعدها ، اندفعت نحوها وجذبت هاتفها من يدها قائلة في عزم وإصرار :
_ طالما مش هتكلميه يبقى أنا هكلمه !!
هتفت شفق برجاء متراجعة عن قرارها ورفضها القاطع لمحادثته :
_ خلاص أنا هكلمه بس بشرط لما ياجي مش هتجبيله سيرة عن اللي حصل وأنا هقوله إني روحت الكلية وأنا وجاية في عربية خبطتني بس ومش هقوله اكتر من كدا ، عشان أنا مش حابة حد يدخل في مشاكل بسببي
ذعنت نهلة لها فعلى الأقل ستطمئن عليها حين يأتي ويرافقهم هو للمنزل وستتأكد بأن ذلك المترصد لها بالأسفل لن يتمكن من أذيتهم ، أما هي فأخذت تفتش عن رقمه في قائمة الأسماء وحين وصلت له إخءت تحدق به بتردد تخجل ولا تريد محادثته ولكن ما باليد حيلة فإما هي أو صديقتها التي بالتأكيد ستفشي له بكل شيء إن حدثته ، حسمت أمرها وضغطت على اتصال ثم وضعت الهاتف على اذنها تنتظر إجابته حتى أجاب بعد وقت محاولًا الابتعاد عن صوت الموسيقي والأزعاج الذي حوله :
_ أيوة ياشفق
ألقت نظرة مترددة على صديقتها حين أجاب ثم عادت تتطلع أمامها وقررت أن تدخل في الموضوع فورًا دون مقدمات حتى لا تتلعثم وتخطىء في شيء :
_ كرم تقدر تاجيلي دلوقتي ؟ .. أنا في المستشفى
ابتعد عن حشد المعازيم تمامًا حتى وقف أمام المصعد الكهربائي مغمغمًا في هلع عندما ظن بأن والدتها قد اصابها مكروه :
_ مستشفى !! ، مامتك تعبت ولا إيه ؟!
همست خفوت وتوتر بسيط امتزج بالحياء :
_ لا أنا روحت الكلية وعربية خبطتني أنا وراجعة بس الحمدلله أنا كويسة ، وكنت محتجاك تاجيلي بس عشان أنا وحدي ومعيش حد غير صحبتي
ضغط على المصعد الكهربائي حتي يستقل به ويصله إلى الطابق الأرضي هاتفًا على عجلة واهتمام :
_ طيب أنا جايلك أهو دلوقتي علطول
***
دقائق من الانتظار كل منهم الخوف والرعب ينهشهم نهش خشية من إن يتسلل من بابا المستشفى خفية ويأتي لهم فيأذيهم ، كانت نهلة تقف على النافذة تتابعه بتركيز دون أن تغفل عنه لحظة وشفق على فراشها تقرض في أظافرها بقلق كدليل على فرط توترها واضطرابها الذي سرعان ما انجلي حين التفتت لها نهلة وقالت مبتسمة في سعادة :
_ كرم جه
أصدرت هي تنهيدة حارة بعد أن سكنت نفسها واطمأنت ، فهي لا تنكر شعورها بالراحة حين يكون معها ، ترى فيه الأمان التي افتقدته منذ وفاة أخيها ، وتراه هو في كل تصرفاته باستنثاء خجله الفريد بالطبع .. طرق الباب نفضها نفضًا واعتدلت سريعًا في نومتها ورفعت الغطاء إلي أعلى صدرها أما نهلة فاتجهت هي لتفتح له التي استقبلته بابتسامة بشوشة ليبادلها هو إياها مع محاولاته لتجنب النظر إليها ، دخل وجذب مقعد ثم جلس أمام فراشها وهتف باكتراث لأمرها :
_ إنتي كويسة ؟
اكتفت بإماءة رأسها له وتتحاشي النظر في وجهه استحياءًا منه مُهيأ نفسها لاستماع توبيخه الرقيق مثله لها ، وبالفعل جاء صوته به شيء من الانزعاج :
_ ليه طلعتي وحدك ؟! ، احنا مش متفقين إنك متطلعيش وحدك لغاية ما اوصل للحيوان ده
خرجه همسها مرتبكًا :
_ محبتش اتعبك معايا والله وأنا روحت وكنت هرجع البيت زي الفل لولا العربية االي خبطتني عند الكلية دي
نظر لصديقتها التي تتابعهم غي نظرات متربكة مثلها ومترقبة لما سينتهي به مطاف هذا الحديث ، ليعود بنظره لها ويهتف بصوت رجولي خشن :
_ امال ليه لما سألت تحت عند الاستقبال الحادث حصل فين قالولي عند المقابر ، ياريت تقوليلي ياشفق حصل إيه بظبط ؟
نقلت نظرها بينه وبين صديقتها التي تشير لها بعيناها أن تخبره ولكنها أبت وصممت على موقفها حيث هتفت مخترعة كذبة تحاول الهرب بها منه فما كان كذبها عليه إلا أنه زاده تأكيد بأن حصل شيء وهي لا تريد أخباره ، وربما يكون لعدم ثقتها فيه أو أنها لا تريد تدخله أكثر من ذلك ، هذا ما كان يحدث به نفسه .
هتفت بتلعثم واضح في اضطراب كلماتها :
_ مقابر !! ، لا يمكن هما غلطوا أنا مروحتش أصلًا غير الكلية !
هب واقفًا وقال بصلابة وضيق من محاولاتها الفاشلة للكذب ، هل تظنه غبي وأحمق لكي يصدق كل هذا الحمق !؟ ، ولكنه لا يتمكن من إجبارها على شيء لا تريده وإن كانت لا ترغب أن يساعدها فلها القرار ، هو حاول اقصى جهده لكي يحميها ولكنها ترفض وليس له الحق في إعطائها اوامر :
_ طيب ياشفق لما تكوني محتجاني اتصلي بيا وأنا مش هتأخر عليكي ، يلا عشان اوصلك إنت وصحبتك للبيت أمك قلقت عليكي وخلت جيرانكم اللي قاعدة معاها تكلمني
أطرقت رأسها في خزي وخنق عندما لمست نبرة الغصب والانزعاج من كذبها عليه ، لا تعرف بما فكر ولكن حتمًا انزعج منها بشدة ، اسرعت نهلة نحوها لتساعدها في الوقوف عندما انصرف هو من الغرفة لينتظرهم بالخارج ، وتمتمت لها باغتياظ من غبائها :
_ غبية إنتي مش شيفاني بشاورلك عشان تقوليله ، عنده حق يضايق الله اعلم فكر ازاي ، انا الصراحة لو مكانه هقول إنك مش واثقة فيا
رمقت صديقتها بنظرة ضعيفة وعاجزة عندما تفوهت بآخر كلماتها وداهمتها مشاعر الندم لكذبها عليه ولكنها تصنعت التجاهل واستندت عليها حتى لملموا أشيائهم وغادروا معه ، واستقل هو بالمقعد الأمامي في السيارة وهما في الخلف ثم انطلق بالسيارة يشق بها الطرقات دون أن تنحرف عيناه حتى بالخطأ في المرآة العاكسة عليهم !! .
***
تتابع الجميع من حولها أهلها وأقاربها في كامل سعادتهم حتى أبيها الذي جاء صباح اليوم ليحضر خطبة ابنته ، كان منذ قليل يتحدث مع كرم قبل رحيله ويضحك بقوة ! ، وفرحة أمها وأبيها وأخيها تستطيع الوصول لها وتشعر بها ببساطة .. ولما لا يفرحون ! فلقد اعطوها لرجل جميعهم على ثقة تامة به وربما هي أيضًا تثق به بأنه لن يكون كخطيبها ، ولكن مع الأسف ستكون الضربة القاضية منها هي وليس هو ، هي ليس لديها شك في إخلاصه لها طوال حياتهم ، سيكرث حياته لأجلها ولأجل أولاده ، بينما هي ستكون نموذج للخداع وعدم الثقة والكذب .. وربما هذا هو الأمر الذي سيجعلها تفكر في أمر الارتباط به رسميًا فمازال لديها الفرصة قبل الزواج إما أن تقبل أن تكون الزوجة الخائنة أو تنسحب بهدوء ! .
انتفضت بخفة على أثر صوته الذي جذبها من محيط أفكارها العميقة ، كانوا يجلسون على أريكة فاخرة متوسطة الحجم والمسافة بينهم تتسع لشخص آخر أن يجلس في المنتصف .. التفتت له برأسها تسمعه وهو يهتف في خفوت بابتسامة صافية :
_ لو كنت أعرف إنك هتضايقي من الجو الهادئ كدا كنت قسمت الخطوبة وخليت الستات والرجالة وحدهم وكنتوا شغلتوا اغاني وفرحتوا مع بعضكم
هزت رأسها نافية فورًا وغمغمت وهي تبادله نفس الابتسامة :
_ لا لا خالص مش مضايقة بالعكس أنا بحب الهدوء ومش بحب الأزعاج بتاع الأفراح .. بس تقسم ليه الرجالة والستات ؟!!
أخذ شهيقًا قوي وقال في نبرة رجولية صلبة وجادة :
_ مش بحب اشوف أهل بيتي بيرقصوا قدام رجالة .. لإن اللي بيحصل في الأفراح دلوقتي كله غلط في غلط ، وأنا أحب إننا نبدأ حياتنا صح عشان ربنا يباركلنا فيها .. صح ولا لا ؟
” صح !!! ” وماذا عن زوجة ستدخل منزله وتنام بجانبه على فراشه وهي تفكر برجل غيره ، هل ستكون حياتهم بالشكل الصحيح الذي يريده !! .. هل ستستمر علاقتهم كثيرًا ؟!! .. غامت عيناها بالعبارات وخشت أن يراهم فلم تتمكن من الرد عليه وهبت واقفة واسرعت نحو الحمام تختبئ فيه من كل شيء فلاحظت إحدى صديقاتها المقربة انسحابها من جانبه فجأة واسرعت نحوها أما هو فوقف مستعجبًا وأشار لشقيقته التي اسرعت نحوه وذهبت معه لها .
هتفت صديقتها قبل أن تدخلها :
_ أنا هدخل وراها
ثم فتحت الباب ودخلت وأغلقت الباب خلفها فوجدتها تقف أمام المرآة وعيناها ممتلئة بالدموع لتهمس بانفعال وصوت منخفض حتى لا يصل لمسماعهم :
_ في إيه ياملاذ ، إيه عاوزة تبوظي خطوبتك !!
أجابتها بهمس ودموعها على وشك السقوط :
_ ايوة أنا مش هقدر أكمل معاه ، أنا مستحيل أقدر أكون ليه الزوجة اللي عايزها .. مش هقدر اخدعه أنا هبقى كدا بخونه
لانت نظرات صديقتها لها وغمغمت في لطف وحنو :
_ طيب متعيطيش عشان مكياجك .. ومتبقيش غبية دي فرصة جاتلك ومينفعش تضيعيها ، طلعي أحمد القذر ده من دماغك وقلبك وادي لنفسك فرصة يمكن تحبي خطيبك .. امسحي يلا دموعك اللي في عينك دي واطلعي عشان هو واخته برا ومستنينك ولو اتأخرتي الباقي هياجيوا كمان لما يلاحظو غيابك ، يلا ياحبيبتي ابوس ايدك
ربما تكون فرصة ارسلها الله لها بالفعل ، ولا يجب عليها تضيّعَها بهذه السهولة ، ستحاول أن تستغل هذه الفرصة وإن لم تستطع ستنهي هذه المهزلة الذي بدأتها بنفسها فالتلاعب بالمشاعر ليس من شيمها ! ، جففت دموعها بحذر شديد حتى لا تفسد المكياج ثم خرجت لهم فوجدت رفيف تهتف مسرعة في قلق :
_ مالك ياملاذ إنتي كويسة ؟!
اخترعت كذبة محترفة عليها مغمغمة في خفوت :
_ آه كويسة ، أنا بس ماخدة دور برد في معدتي وعشان الجود برد فمستحملتش
ثم نظرت للذي كان يبدو على وجهه القلق الممتزج بنظرات الشك في أمرها ، فأرسلت له ابتسامة عذبة ثم عادت بصحبة رفيف وصديقتها إلى مكانها وهو لحق بهم ، ثم رأته يشير لشقيقته بأن تأتي له وهمس لها في اذنها بشيء لم تسمعه نتيجة لصوت الموسيقى المرتفع قليلًا ، ورحلت ” رفيف ” وعادت بعد دقائق وهي تحمل وشاحًا نسائيًا رائعًا يبدو باهظ الثمن ولفته حول كتفيها هاتفة في رقة :
_ حطيها عليكي عشان البرد
لفتها جيدًا حول كتفيها ثم حوّلت نظرها له فتلقت منه ابتسامة لطيفة ، وأدركت أن همسه في أذنها منذ قليل كان يطلب منها أن تأتي لها بالوشاح حتى لا تصاب بالبرد أكثر وهما في الهواء الطلق على قمة فندق ، فأشاحت بنظرها عنه فورًا وهمست في نفسها بمرارة ” لا تكون لطيفًا معي هكذا ارجوك ، فلطفك سيجعلني انهي هذه المهزلة دون تردد للحظة واحدة في إني أضعت فرصة صائبة ! ” .
***
مع صباح يوم جديد وداخل مقر شركة العمايري …..
خرجت يسر من مكتب زين بعد أنتهت من حديث العمل معه وكانت في طريقها نحو مكتبها ولكنها توقفت حين لمحت ” رحمة ” تقف مع السكرتيرة الخاصة لحسن وتحاول اقناعها بأن تقبل بدخولها له ، والسكرتيرة تخبرها بوضوح أنه لا يريد رؤيتها وإن تركتها تدخل قد تتعرض للعقاب والتوبيخ القاسي منه فلاحت الابتسامة الشيطانية على ثغرها وتحركت نحوهم ثم وقفت بجوارهم ووجهت حديثها إلى السكرتيرة :
_ في إيه ياميرنا ؟!
أجابتها الفتاة بنفاذ صبر وخنق :
_ عاوزة تدخل لحسن بيه وأنا لما قولتله قالي متدخليش حد ، وهي مصممة تدخله
اعتدلت بجسدها ناحية الواقفة التي ترمقها شزرً فهي لم تنساها منذ آخر لقاء لهم حين هددتها بعدم الاقتراب ، فقابلت يسر حقدها ببرود وسرعان ماتحول لشراسة وتشدقت في نظرة مريبة ونبرة صوت اخافتها بالفعل :
_ ما قالك مش عايز يشوفك ياقطة ولا هو غصب
_ وإنتي مالك أصلًا !! ، أنا مش هتحرك من هنا غير لما ادخل واشوفه ولو مش هتدخلوني بالذوق يبقى هدخل بالعافية
هيجت ثورتها واشعلتها في داخلها ، تلك الشمطاء تقف أمامها وتتحداها وهي لا تدري ما قد تلحقه بها إن أثارت جنونها أكثر ، فجذبتها من ذراعها بعنف صائحة بها بانفعال :
_ طيب امشي من هنا بكرامتك بدل ما اطلعك من غيرها ، ورجلك متعتبش الشركة هنا تاني وإلا إنتي حرة
أجابت السكرتيرة على رنين الهاتف الخاص بتواصلها مع حسن وكانت تومىء له بالإيجاب وتهتف ” حاضر ” ثم أعطت الهاتف لرحمة لتحادثه التي اجابت بتلهف محاول التماس فرصة لها ولكنها وجدته يصيح بها مستشيطًا غيظًا :
_ امشي يارحمة مش عايز اشوف وشك حتى ، لو ممشتيش هخلي الأمن يطردك برا
لم يمهلها لحظة واحدة لتجيب عليه حيث اغلق الأتصال فورًا فانزلت هي الهاتف من على اذنها ولململت أشلاء قلبها المبعثرة بيأس واستدارت ورحلت بصمت لتبتسم يسر بتشفي وهمت هي الأخرى لتسدير وتذهب لمكتبها ولكن اوقفها كلمات السكرتيرة :
_ أنسة يسر حسن بيه عايزك
لم تلتفت لها حتى وهتفت في عدم اكتراث مزيف وغرور :
_ قوليله مش فاضية
ثم اتجهت صوب مكتبها وفتحت الباب وجلست على مقعدها الهزاز تنتظر اقتحامه عليها المكتب وتبتسم بمكر ، فلقد قصدت أن تتجاهله حتى تثير جنونه أكثر ويأتي هو بنفسه فيتلقى نصيبه من جنونها أيضًا ، وستكون هذه آخر محاولة له لتغير طريقته معها وأن اخطأ معها بشيء بسيط تقسم بأنها ستسحقه بما لديها من صور وتسجيلات له .
كما توقعت تمامًا فتح الباب على مصراعيه وأغلقه بعنف ثم اندفع نحوها يفرغ بها شحنة غضبه التي لم يجد شيء سواها ليفرغها بها :
_ أول وآخر تحذير ليكي يا يسر ملكيش دعوة برحمة نهائي فاهمة ولا لا
استقامت وقد تأججت نيران الغيرة بداخلها ، هل يفضل تلك المخادعة والساقطة ويدافع عنها رغم كل ما فعلته له .. ادركت الآن أنه اغبي مما كانت تتوقعه ، فهتفت في استنكار ونظرة مشتعلة :
_ ولما إنت محروق عليها أوي كدا ليه مخلتهاش تدخلك ولا طلعت وقولتلي الكلمتين دول قدامها ولا كنت خايف تضعف قدامها !! ، لما تفضل تتلزق فيك وتقولك أنا آسفة ياحسن وإنت زي الغبي بتضعفلها ، عارف ليه بتضعف قدامها عشان إنت معندكش كرامة وحقير زيها وإنتوا الاتنين الو**** بتجري في دمكم
رأت عيناه تلتهب كجمرة نيران وبرزت عروق رقبته وانفاسه التي تخرج من انفه كانت تستطيع الشعور بحرارتها ، ولا تنكر خوفها منه حيث غمغمت في اضطراب تحاول اخفائه :
_ اطلع برا ياحسن !
تحرك نحوها ببطء وحاربت هي عقلها الذي يرسل لها الإشارات بالتقهقر للخلف وبقيت ثابتة بأرضها حتى وقف أمامها مباشرة وجذبها من خصرها إليه هامسًا أمام شفتيها مباشرة بنبرة صوت مرعبة :
_ إيه آخر حاجة تتوقعيها مني يايسر ؟ .. إني اقربلك مش كدا ودي فعلًا آخر حاجة ممكن أفكر فيها عشان أنا مستنضفش أصلًا أقرب منك ، بس ممكن اعصر على نفسي لمونة واوريكي اقذر حاجة عندي ومش هيهمني إنتي مين ، تحبي اوريهالك ولا لا !!
انتابتها الرعشة من اقترابه وانفاسها التي تلفح صفحة وجهها ولوهلة أحست نفسها ستضعف له ، فعشقها له لا يمكن لعقله الغبي ولقلبه الذي لم يذق طعم العشق الحقيقي أن يتخيله ، ولكن ضربت صافرات الإنذار في عقلها واعادتها لرشدها وبكل ما اوتيت لها من قوة دفعته بشراسة بعيدًا عنها صارخة به وهي تخوض حرب عنيفة مع دموعها التي تود السقوط :
_قولتلك برا ياحسن !!
رمقها بنظرات وضيعة وهتف باستهزاء قبل أن يستدر ويرحل :
_ اعقلي وحطي عقلك في راسك عشان إنتي مش قدي
جلست على المقعد بعد رحيله وانفجرت باكية بقوة ، لعنت نفسها الحمقاء ألف مرة فكيف تسمح له باختراق مسافتها وكيف تنسحر من مجرد لمسه منه . فكم تتمني أن تتحول مشاعرها لنقم وبغيضة عليه ، ولكنها لا تستطيع ولا تتمكن من الوقوف صامتة وتحارب لكي تظفر به في النهاية فلقد عانت لسنوات من عشقه وأخذت العهود والمواثيق علي نفسها بأنها لن تجعله يكون لفتاة غيرها ، وأنها ستحارب لأخر لحظة ولن تيأس حتى تحصل على ما تريد وهو قلبه ! .
***
انتهت من تحضير كوب القهوة ، فهي لديها بعض المعلومات من أخيها عنه وحول إدمانه للقهوة .
وقد أتى اليوم كما أعتاد أن يتردد عليهم يوميًا منذ وفاة أخيها الذي أتم بالأمس ثلاث أسابيع ، كان سيرحل بعد أن اطمئن على والدتها ولكنها طلبت منه التريث قليلًا لكي تتحدث معه ، فمنذ آخر مرة تقابلًا في المستشفى منذ يومين يحدثها قلبها بأنه لا يزال يحمل الضيق في صدره خصوصًا بعدما ارسل لها حارس شخصي يرافقها إينما ذهبت !! ، فعدلت من وضعية حجابها وخرجت له فوجدته شارد في صورة أخيها المعلقة على الحائط أمامه ، فنتحنحت بخفوت ليلتفت لها فورًا ويهمس معتذرًا بابتسامة تكاد لا ترى :
_ آسف سرحت شوية
لم تعلق وكانت اتبسامتها كافية وهي تضع فنجان القهوة على المنضدة أمامه فتسمع صوته الخافت يقول بإحراجه المألوف :
_ شكرًا
توجهت وجلست على الأريكة المقابلة له ثم التفتت برأسها للخلف ورفعت نظرها لأعلى تتطلع لصورة أخيها ، أما هو فرفع فنجان القهوة لشفتيه وارتشف منه رشفة واحدة ثم انزله حين وجدها تهتف وهي مازالت معلقة نظرها على الحائط :
_ بفكر اشيلها من هنا
ضيق عيناه وقال بحيرة :
_ ليه ؟!!
همهمت في صوت يغالبه البكاء ونبرة شجينة :
_ ماما زي ما إنت عارف مش بتتحرك كتير بسبب تعبها ولما بتكون كويسة بخليها تطلع تقعد معايا شوية هنا واشغلها التلفزيون عشان تفك عن نفسها ، وأول ما بتشوفها بتنهار في العياط وبتتعب جدًا ، مع إن أنا لما بكون قاعدة هنا في الصالة وحدي بحس صورته بتونسني وبفضل احكي معاه وأحيانًا كتير بنام هنا ففكرت اشيلها واوديها اوضتي
يشعر بمدي انهيارها الداخلي وقلبها الذي يمزقه الحزن والشوق تمزيقٌا ، ولكن للأسف فحاله ليس أفضل منها .. ولا يستطيع حتى إبذال أقل جهد في تخفيف عنها فهذا الألم لم تخففه حتى ألف كلمة ، ليجفل نظره أرضًا ويردد بصوت مسموع لها ” ربنا يرحمه ” فتهمس هي بألم ” آمين ” ، ثم وضعت نظرها عليه وهتفت في تساءل حقيقي وفضول لمعرفة إجابته :
_ إنت ليه خليت واحد يحرسني !؟
_ عشان ده الافضل ليكي بعد اللي حصل
كلماته تشير لمعنى واحد فقط وهو أنه عرف بالحقيقة كاملة التي اخفتها عنه ، ولكن كيف عرف !!؟ :
_ إنت عرفت إزاي ؟!!
بعد أن حاولت الكذب عليه وهو كان يعرف بأمر اخفائها عليه شيء ، فتواصل مع صديقتها التي كانت معها وقصت له كل شيء حتى السبب الذي جعلها تخفي عنه الحقيقة وطلبت منه ألا يخبرها بأنها هي التي اخبرته حتى لا تنزعج منها بشدة .
اتاها صوته الغليظ والجاد وهو يقول بشيء من الرفق واللين رغم غلظة صوته :
_ عرفت وخلاص ، المفروض إنك كنتي تقوليلي ، لإن طالما عمل كدا مرة يبقى هيحاول يعمل كدا ألف مرة .. وأنا وإنتي متفقين إنك هتقوليلي أي حاجة تحصل في الموضوع ده لإني بحاول الاقي أي حاجة توصلني ليه ، فمكنش ينفع تخبي عليا لمصلحتك ياشفق .. إنتي امانة واخوكي امني عليكي فلو جرتلك أي حاجة هبقى خنت الأمانة ومش هعرف بأي وش بعدين هقابله ولا اروح ازوره في قبره
من أين اتيت لي ياليتك لم تكن صديقه !! ، فأنا احاول الفرار مش شبكاك التي تنصبها لي دون قصد كلما رأيتك ، وإنت لا تكف عن ملاحقتي ولسوء الحظ إنك بالفعل اوشكت على تصويب الهدف .. فارجوك توقف أنا لا أريد إرهاق قلبي بتجربة عشق جديدة ستكون أبشع من السابقة ، وستكمن بشاعتها في استحالة الوصول إليك وسيظل عشقك ووفائك لزوجتك نقطة فاصلة بيني وبينك .
اسعفت الكلمات بصعوبة من ارتجافة قلبها الذي يواجه صراعًا عنيفًا مع عقلها وتمتمت مجفلة نظرها أرضًا في حزن لا يفهم سببه الحقيقي سواها :
_ أنا مقدرة خوفك وقلقك علينا ياكرم وبذات أنا ، بس أنا بجد مش عاوزة ادخلك في مشاكلي اكتر من كدا ولو حصلتلك حاجة بسببي مش هسامح نفسي إني دخلتك في مشكلتي
وضع فنجان القوة على سطح المنضدة وهب واقفًا حتى لا يأخذ أكثر من اللازم في الحديث معها وأيضًا بقائه في منزلهم أكثر من ربع ساعة لا يصح ! ، هتف باسمًا ببساطة :
_ لا متقلقيش عليا ، المهم إنتي تعملي زي ما قولتلك وأقل حاجة تحصل تتصلي بيا وتقوليلي .. وشكرًا على القهوة
لا فائدة فلن يرحل عنها إلا حين يتأكد من أنها سقطت في وحله !! ، استقامت هي الاخرى ورافقته إلى الباب ثم تأففت بعدم حيلة من أمرها وذهبت لتطمئن على والدتها وترى إن كانت تحتاج شيء أو لا !! …..
***
منذ يومين وهو يفكر في حل لتلك المعضلة التي وقع بها فتلك ” اليسر ” لن تكف عن أفعالها التي أصبحت لا تطاق ، وقد طفح كيله منها ولابد أن يجد الحل الذي سيسكتها للأبد ، يريدها أن تبتعد عنه ولا يعلم كيف يفعلها .. ولكن ماذا عن استخدام مبتغاها سبيلًا للوصول لمبتغاه هو ، ماذا لو حقق لها ما تتمناه وتوده أكثر من أي شيء في الحياة فقط لتحقيق أهدافه في التخلص منها للأبد .. أجل هذا هو أفضل حل ليتمكن من فعل بها ما يشاء دون أن يضع في الحسبان أي شيء !! .
مجتمع مع عمه على طاولة واحدة الذي جاء لزيارتهم والاطمئنان على والدتهم التي تعبت مؤخرًا قليلًا وكانت يسر برفقته .. يتبادلوا النظرات النارية بين بعض وهي تقسم له في نفسها أن اليوم ستخبرهم بكل شيء حتى تنتقم على ما فعله بها منذ يومين ، وانتظرت حتى انضمت لهم زوجة عمها والقت نظرة عليه أخيرة مليئة بالحقد والغل قبل أن تنظر لوالدها وتقول في شجاعة وأعين مشتعلة بنار الانتقام لمشاعرها التي يتلاعب بها هذا الفاسق :
_ بابا أنا عايز اقولك حاجة ، حسن بــــ……..
التقط الجملة من بين شفتيها ليكملها هو كما خطط لها ويشكلها كما يريد ، ويهتف في نظرة ثابتة وثاقبة مع ابتسامة متصنعة اتقنها بمهارة هي وقسمات وجهه الذي لونها بشكل مناسب لما سيقوله :
_ أنا طالب إيد يسر منك ياعمي
تتخيل !! .. حتمًا هذا ينبع من خيالها المريض به ، هل طلبها للزواج للتو ؟! .. من سابع المستحيلات أن تخرج منه هذه الكلمات أو أنه يفكر في الزواج منها بكامل ارادته ، أتحلم أم ماذا !!؟ ، ليقرصها أحد لتتأكد بأنها في الواقع وليس حلمًا ! .
لم تكن هي وحدها المصدومة فكذلك أمه وأبيها الذي لجمت الدهشة السنتهم ، فساد الصمت بينهم للحظات وهم يحدقون به فاغرين فمهم بذهول ، حتى اخترق هو فقاعة الصمت المريب بينهم وغمغم متصنعًا الأسف والضيق :
_ أنا آسف ياعمي .. عارف إن كان لازم افاتحك إنت وعلاء الأول في الموضوع ده ، بس أنا محبتش اخد الخطوة دي غير وأنا متأكد من رأى يسر في الأول هي مقالتش موافقة بس ردها شجعني إني افاتحك
كانت هدى تتطلع لابنها بصدمة فهي تعرف أنه لا يحب ابنة عمه مطلقًا من أين جاء بعرض الزواج المفاجئ هذا دون أن يفاتحها هي أو من أشقائه في الأمر ، أما طاهر فاستجمع نفسه وعاد لطبيعته هاتفًا بجدية وريبة :
_ وإنت فجأة كدا طلبت في دماغك الجواز ؟!
أجابه نافيًا غي نبرة خشنة وصلبة :
_ لا طبعًا أنا ليا فترة بفكر في الموضوع ومخدتش خطوة غير لما اتأكدت إني هكون قدها ، وأنا عارف إني مش هلاقي أفضل من يسر زوجة ليا بعد إذن حضرتك أكيد
لازالت يسر على وضعها نظرها معلق عليه ، لا تستوعب ما يدخل من أذنها لعقلها الذي يرفض تصديق كل هذا الهراء ، ولا ترفع نظرها عنه فقط تحملق به كالصنم حين يضعوه أمام الشخص فتكون عيناه مباشرة على ما أمامه ، حتى أنها لم تسمع اسمها الذي نطق به أبيها إلا حين هزها بخفة في ذراعها لتنتفض وتنظر له هاتفة في تلعثم وتوتر غير واعية لما تقوله :
_ موافقة .. أقصد أيـ..وة حسـ..ن فاتحني من يومين في الموضوع وأنا قولتله يكلمك إنت وعلاء الأول ومدتهوش رد
نقل نظره بينهم ثم سألها في جدية :
_ يعني هو ده الموضوع اللي كنتي عاوزة تقوليلي عليه
قالت وقد زاد تلعثمها وارتباكها فقد كانت الكلمات تأتي لشفتيها وتخرج مبعثرة :
_ آااه .. قصدي لا حاجة تاني بس خلاص هبقى اقولك بعدين
حاول منع ابتسامته الماكرة من الانطلاق حيث اخفي وجهه وهو يحك ذقنه شبه النامية ، بينما هي فطلبت منهم الأذن واستقامت مسرعة نحو المطبخ لتشرب بعض الماء قبل أن تسقط مغشية عليها ، فيهتف طاهر مبتسمًا بحب وحنو :
_ وهو أنا هلاقي لبنتي مين احسن منك ، ده إنت ابن الغالي ياحسن .. بس اصبر كام يوم وهديك الرد النهائي بإذن الله
_ براحتك ياعمي أنا مش مستعجل
ثم انزل هاتفه تحت الطاولة وقام بتشغيل نغمة رنينه وهب واقفًا وهو يستأذن بعد أن وضع الهاتف على أذنه متصنعًا أنه يحادث أحد ، وانتظر حتى اندمج هو وأمه في الحديث وتسلل دون أن يشعروا به إلى المطبخ حيث هي وتحرك على اطراف أصابعه من حتى وقف خلفها مباشرة فالتفت هي بعفوية غير متوقعة وجوده فانتفضت واقفة وفتحت فمها على وشك إصدار صرخة من أثر فزعها ولكنه اسرع وكتم على فمها مشيرًا بسبابته على فمه بمعنى ” لا تصدري أي صوت ” فهدأت ضربات قلبها سريعًا وارتخى جسدها المنتصب بسبب الخضة لتجده يهمس مبتسمًا بلؤم ونظرة تحمل في طياتها الوعيد والانتقام :
_ مش كنتي بتعملي ده كله عشان رفضتك وعشان هتموتي وتتجوزيني واديني هتجوزك أهو ، ويوسفني إني أقولك إن إنتي اللي هتطلبي الطلاق مني بعد الجواز وهوريكي العذاب الوان وأشكال
تكره اقترابه منها الذي يضعف قوتها ويجعلها مسلوبة الإرادة ، هذا الحمق يعتقد بأنه انتصر عليها وهو لا يعلم أن الانتقام لكرامتها التي بعثرها لما يبدأ بعد ! ، يعتقد أن الزواج ستكون نتيجته في صالحه وسيخرج من حربه معها بانتصاره مفتخرًا ولكنه للأسف لا يدري أنه سيخرج بهزيمة نكراء وستسلبه هي كل شيء ، ففي كل مرة يسهين بها يندم .. والآن هي في أقصى درجات سعادتها فلقد اعطاها فرصة على طبق من ذهب ولن ترفضها ، و ستحقق كل أهدافها بفضل غبائه !! .
***
كانت تتحدث إليه في عنف وعصبية شديدة نتيجة لنقضه لاتفاقهم :
_ يعني إيه لغاية دلوقتي معملتش اللي متفقين عليه !! ، امال أنا مدياك فلوس ليه !
أجابها ضاحكًا بسخرية وهو يشاطرها انفعالها :
_ عشان تاخدي الواد اللي عينك عليه ياقطة واهو معاكي .. ثم إن إنتي اللي ضحكتي عليا ومقولتيش إن البت دي تبع كرم العمايري ومكان ما تروح بيكون معاها ولولا إني شوفته في المستشفى ولحقت نفسي قبل ما يشوفني كان زماني دلوقتي مع الأموات
_ وإيه يعني كرم إنت مالك بيه وتعرفه منين ؟!
غمغم في شراسة :
_ اعرفه عز المعرفة وهو لو عتر فيا هو واخواته مش هيخلوني عايش يوم زيادة
قطبت حاجبيها وهتفت بحيرة من أمره وسرعان ما تحولت لصدمة :
_ ليه إنت عملتلهم إيه ، لتكون إنت اللي … يانهار ابوك أسود !!
_ بقولك إيه يابت إنتي اطلعي من نفوخي أنا عملتلك اللي إنتي عاوزه والبت دي تبعي أنا وأنا اللي افكر هعمل فيها إيه وامتى وإزاي ، ولو كلمتيني تاني مش هيحصلك طيب وعارفة لو جبتي سيرة لكرم عليا مش هتردد لحظة في إني اخلي نهايتك زي نهايتها وإنتي فهماني أنا قصدي على مين !
اغلقت الخط فورًا في وجهه وهي تنتفض من الخوف وقد فضلت الابتعاد عن هذا الرجل المريب تمامًا ، فهو الآن ليس في حاجة لتوصية فيبدو أنه ينوي بتلك ” الشفق ” الحمقاء الشر وستشفي هي غليلها منها بلا ادني تعب وسيقوم هو بكل شيء !! …
***
..شهر !! .. تركض الأيام كسيارات سباق وتمر حتى دون أن يشعروا بها ، والمواعيد تقترب ومنهم من يخشي من هذه السرعة التي تمر بها الأيام ويتوسل الأيام أن تتمهل قليلًا خشية من أن يجد نفسه أمام المحتوم والذي لا مفر منه ، ومنهم من يتوسلها لتسرع أكثر فلقد طال انتظاره وهو يتحرق شوقًا لينل ما تطوق نفسه له من شهر أو سنوات ، والبعض الآخر تمر عليه الأيام كسابقيها لا تختلف كثيرًا ، وروتينها لم يتغير فقط يستيقظ وينام على نفس أحواله المملة والتي تقتله بالبطيء !!! .
فقد واجه حسن الاستنكار والاستهجان من جميع أخوته بعدما عرفوا برغبته في الزواج من ابنة عمه ، ليس حقدًا ونقمًا عليها ولكن سخرية من أنه فكر بالزواج ومن أكثر امرأة لا يطيقها !! ، وحاولت هدى محاولات فاشلة أن تجعله يتراجع ولكن بلا فائدة وقد حَصَلَ هو على الموافقة من عمه وتجهزوا جميعًا لحفل الزفاف ، وكان بينهم من يحسب الأيام بالساعات والدقائق من فرط تشوقه لقدوم هذا اليوم وبالطبع هي غنية من التعريف ، تتجهز لزواجها وسعيدة كأنها عروس حظيت بالزواج من الرجل الذي سقط في عشقها من الوهلة الأولى وليس مجرد زواج سيكون تحقيق لرغباته الشيطانية والانتقامية منها وحرب ستخوضها هي معه لتنتصر في النهاية وترفع شعارها على قلبه .
أما زين فلقد اتفقوا مؤخرًا أن يكون عقد قرآنهم في نفس ليلة زواج أخيه بعد أن وافق الجميع وحتى ملاذ ! ، فخطبتهم دامت لشهر وكان هو كل يومين يحادثها بالرسائل كالعادة يطمئن عليها ، وفكرت هي في البداية ألف مرة في إنهاء هذه الخطبة ولكن هناك قوى خفية تمنعها لا تعرف ماهي ، وداهمها شعور يخبرها بأن ربما هذه العلاقة تنجح أن اعطتها الفرصة كما اخبرتها صظيقتها ، وقررت أن تمنح نفسها فرصة ثانية لتنعم بالعشق مجددًا فلقد أحست في قرارة نفسها أنها ربما تقع في عشقه إن تزوجته ، حتى وإن كانت حتى الآن لا يوجد أي مشاعر تجاهه ، فهي متأكدة بأن هذه المشاعر ستوجد مع الوقت ، وما عليها سوى أن تدعه يعشقها وأن تثق برجل مجددًا وتتركه يستحوذ على مفاتيح قلبها حتى يفتحه حيثما شاء !! .
كرم لا يزال حتى الآن يتردد عليهم يوميًا ، ويشفق على تلك المسكينة التي وضعها النفسي يزداد سوءًا كلما ترى وضع والدتها الذي لا يتحسن وفقط يسوء أكثر مع الوقت ! ، وكان يطلب من شقيقته أن تأخذها ويخرجوا للتسوق أو التنزه مع بعضهم لعلها تخرج من حالتها المزاجية الكئيبة ، وكانت” رفيف ” من أشد المرحبين بهذه الفكرة فهي أحبت ” شفق ” كثيرًا وأحستها كأخت لها خصوصًا مع تقارب سنهم الذي لا يتخطي السنة ، وفي ذلك الشهر تقاربت علاقتهم كثيرًا واصبحوا أصدقاء ، والمتضرر الأكبر من كل هذا كانت شفق ! ، ومعاناتها تزداد يوم بعد يوم والنقطة الصغيرة في قلبها تجاه ذلك ” الكرم ” تنمو كل يوم أكثر من سابقه ، تخشي أن يستحوذها بالكامل ولا يكون لها ضوءًا حتى للخروج فيتم الحكم عليها بالسجن الأبدي في ظلام عشقه المستحيل ، وتكون قد أثبتت لنفسها وللجميع أن قلبها لا يختار من العشق إلا أصعبه !!! ….
أنه معاده كل يوم والباب يدق في الوقت المحدد كما اعتادت عليه منذ ما يقارب الشهرين ، فوضعت حجابها على شعرها ولفته بانتظام ثم خرجت وفتحت فقطبت حاجبيها باستغراب وهي ترى ” رفيف ” تقف أمامها وترتدي رداء يناسب السهرات والحفلات المسائية ، كانت رائعة وفائقة الجمال به .
_ رفيف !!
دخلت رفيف واغلقت الباب وهي تقول بعجلة من أمرها :
_ يلا يلا ادخلي البسي عشان هتاجي معايا وهتحضري فرح حسن وكتب كتاب زين وخلاص كتب الكتاب بعد العشاء يعني يدوب تلحقي تلبسي وده مش اختياري في أوامر صدرت بكدا !
قالت آخر كلماتها غامزة بلؤم ، فزداد تعجبها وقد اصابتها الدهشة من دخولها عليها المفاجئ وهي تطلب منها حضور عرس اخويها
، لا لم يكن طلب بل أمر كما قالت ، حيث تشدقت بعدم فهم :
_ أوامر إيه دي ؟!
قالت رفيف باسمة بنظرات ماكرة :
_ كرم هو اللي جابني وقالي اطلع اقولك تلبسي عشان تاجي معانا ومستنينا تحت بالعربية يلا بقى
تجمدت الدماء في عروقها وتسارعت انفاسها تلقائيًا ، حين قالت بأنه هو الذي يرغب في حضورها ، ولكنها لملمت أشلاءها التي بعثرت بمجرد نطق اسمه أمامها وهتفت متلعثمة في توتر :
_ لا فرح إيه يارفيف أنا معملتش حسابي ، ثم إني مقلعتش الأسود لغاية دلوقتي على سيف الله يرحمه
_ ياستي وهو حد قالك اقلعيه ولا اتزيني وحطي مكياج والبسي فستان ، تعالي بهدومك السودا احنا عايزينك تحضري معانا عشان تفكي شوية وتفرفشي
تنفست الصعداء بعدم حيلة ثم اتجهت نحو غرفة والدتها لتأخذ الأذن منها وترى رأيها هل توافق أم لا ، فتجدها تبتسم لها باتساع وتومىء لها برأسها بالموافقة ثم تشير إلي ملابسها السوداء بمعنى أن تبدلها بملابس تناسب سنها ، فرفضت هي في البداية ولكن حين شعرت بانزعاج أمها فانصاعت لأوامرها وذهبت لتستعد وتلبس شيء مناسب ، أما رفيف فقد جالست المرأة المريضة وأخذت تتحدث معها عبر كتباتها التي تكتبها على الورقة فلم تستعد صوتها حتى الآن . كتبت لها على ملاحظة صغيرة عبارة ” كرم ليه مطلعش معاكي ” أجابتها رفيف مبتسمة في حنو :
_ هو قالي إنه هيطلعلك بعد الفرح لما يجيب شفق البيت
ابتسمت ودونت على الورقة كالآتي ” تعرفي هو اللي مصبرني على اللي أنا فيه ، واللي مخليني كويسة إنه بيجيني كل يوم يطمن عليا ، بمجرد ما اشوفه بحس إن سيف قدامي وهو اللي مصبرني على فراقه ”
قرأت ما دونته وادمعت عيناها بتأثر و وشفقة على هذه المرأة التي شقيت ألم فراق وحيدها وعزيز قلبها وقلبها ينزف الدماء كل يوم على فراقه وتحاول إيجاده في أخيها وتلهم نفسها الصبر بتخيله مكان عزيزها ، فاقتربت وطبعت قبلة على جبهتها مغمغمة في نبرة تغلبها البكاء :
_ وكرم والله بيحبك جدًا وبيعتبرك أمه التانية ومش بيقدر يتأخر عليكي يوم واحد من غير ما يجيلك
حضنت كفها بين ثنايا كفها ورتبت عليه بحنو ثم عادت تكتب من جديد بابتسامة متسعة ومشرقة ” مبروك لحسن وزين ، عقبالك ” هتفت رفيف وهي تبادلها نفس فسمات وجهها المشرقة :
_ آمين أنا وشفق يارب
ارتدت رداء بسيط من الألوان الغامقة ولفت حجابها ببساطة أيضًا فوق شعرها دون أن تضع أي مساحيق جمال ، ثم توجهت نحو نافذتها ونظرت منها فتجده يقف مستندًا على السيارة وينظر لساعة يده متفقدًا الوقت ثم رفع نظره للأعلى فتراجعت هي للخلف فورًا بفزع وامسكت بهاتفها تجري اتصال بجارتهم المقربة التي تقارب أمها في السن تطلب منها أن ترافق والدتها قليلًا حتى تعود من الزفاف ففعلت هي على الفور وبعد دقائق أتت لهم ، فودعت شفق أمها وذهبت بصحبة رفيف وصعدت بالمقعد الخلفي في السيارة بينما استقلت الأخت بجانب أخيها في الأمام !! …
***
ردهة طويلة والبساط الأحمر على الأرض من بداية الردهة لنهايتها ، وكانوا قد تأخروا على عقد القرآن والجميع ينتظرهم حتى يبدأو فسبقها كرم ورفيف للداخل التي كانت تتلفت برأسها لها طالبة منها الإسراع وبقيت هي تسير بهدوء وتتلفت حولها تحدق في هذه الردهة الفخمة والملوكية ، إن كانت هذه الردهة فما حال الباقي .. لحقت بهم ثم وقفت بعيدًا تشاهد مراسم عقد القرآن لكل من حسن وزين والذي ما إن انتهى ارتفعت نبرة المأذون وهو يقول ” بارك الله لكم وبارك عليكم وجميع بينكم في خير ” فانطلقت التهئنات من الجميع ، وكانت هي تتابع ما يحدث بابتسامة بسيطة حتى وجدت رفيف تسحبها معها وجلسوا جميعهم على طاولة واحدة .
وضع حسن كلتا يديه حول خصرها وهي بدورها لفت ذراعيها حول عنقه يرقصون على الحان اغنية قامت رفيف باختيارها وتطالعه يسر بابتسامة متسعة بها شيء من الثقة ليتلفت هو حوله ثم يقترب من أذنها ويهمس ساخرًا :
_ افرحي واضحكي براحتك عشان لما نخلص من الفرح المستفز ده ونروح البيت معتقدش إني هشوف الابتسامة دي على وشك تاني
لم تؤثر بها كلماته التهديدية والشرانية بل بالعكس زادتها حماس وزادت ابتسامتها اتساعًا وهي تجيبه بدورها في أذنه هامسة بثقة تامة :
_ متقدرش تعمل حاجة ، وأنا بقول منستعجلش ونشوف النتيجة هتكون في صالح مين في النهاية
رأت عيناه التي تحولت إلى جمرة نيران وقسمات وجهه الملتهبة وحمراء كالدم وهو يصر على أسنانه فتوقعت ما يدور في ذهنه وما يود فعله بها بهذه اللحظة لتعود وتهمس مجددًا في أذنه ببرود أثار براكينه التي على وشك الانفجار :
_ ابتسم يابيبي عشان الناس مينفعش كدا !!
شعرت بقبضته على خصرها تشتد ويضغط عليها بعنف لتشتد عضلات جسدها وتصدر شهقة خافتة متألمة ، ثم يقترب هو ويهتف متوعدًا لها بنظرة مخيفة :
_ وحياة أمي يا يسر لاوريكي اللي ميقدرش يعمل حاجة ده بس نوصل البيت
***
الآن الخطر أشد بعد إن أصبحت زوجته ، تحاول توقع فعله إن عرف بمخططها الدنىء للزواج منه الذي لا يحقق سوى مصالحها الشخصية الأنانية ، كيف ياترى سيتقبل الأمر هل سيسامحها ويتغاطي عن الأمر أم أنه هو الذي سينهي كل شيء بينهم ويطلقها .. ولكنها تقسم له ألف مرة أنها حاولت مرارًا وتكرارًا أن تبتعد ولا تعرف ما الذي يمنعها من محادثته إلى أن انتهى بها المطاف زوجة له ، عليها واجبات ولها حقوق ومن أول واجباتها الأخلاص له ، ولكن كيف وهي حتى الآن لم تتخلص وتتمكن من نزع ذلك العشق المدنس من قلبها . أما هو فكان في ذروة سعادته يشعر بقلبه يتراقص فرحًا فهي لا تدري ما مدى الفوضى التي صنعتها بداخله منذ أول لقاء بينهم وفي شهر واحد بعثرته أكثر واسقطته في وحل عميق والآن فقط أعادت ترتيب قلبه الفوضوي حين باتت زوجة له ، وهذا يعني لا حدود في المعاملة ، لا حذر ، لا خوف من ارتكاب ذنوب ، لا حرج في معانقتها وامطارها بوابل من كلمات العشق وستكون حلاله في كل شيء ، ولكن للأسف فمازالت حتى الآن بعض الحدود قائمة إلى حين زفافهم ودخولها منزله وهنا تنقشع كل الحواجز وتزول جميع الحدود ! .
لاحظ شرودها لدرجة أنها لم تلاحظ توقف السيارة ووصولهم فهتف متساءلًا برفق :
_ ملاذ إنتي كويسة ؟!
انتفضت على أثر صوته والتفتت له فورًا راسمة ابتسامة رقيقة على شفتيها ليكمل هو ببساطة :
_ يلا وصلنا انزلي
اماءت لها بالإيجاب وفتحت الباب ثم ترجلت ورفعت نظرها لأعلى تتطلع لمبنى الشركة الضخم ثم التفتت له برأسها مغمغمة في استغراب :
_ إنت ليه جايبني الشركة
احتضن كفها الرقيق بين كفه هاتفًا في مشاكسة جميلة :
_ قولتلك مفاجأة .. يلا
قاومت الشعور الغريب الذي راودها بمجرد لمسته ليدها وسارت معه ناحية الباب بدون أن تلفظ ببنت شفة ، فرأت ابتسامة الحراس على الباب الرئيسي بمجرد رؤيته وسارعوا في فتح الباب لهم وقادت هي خطواتها معه للداخل ثم استقلوا بالمصعد الكهربائي ووصلوا للطابق الأخير ومازالت مستمرة في السير معه وهي تتلفت حولها في خوف من الظلام الذي يعم أركان الشركة بأكملها ولا تستطيع حتى رؤية كل شيء بوضوح فغمغمت في نظرات مرتعدة :
_ زين المكان ضلمة أوي أنا بخاف من الضلمة .. إنت جايبني هنا ليه ؟
ترك كفها ولف ذراعه حول كتفيها ضامًا إياها لصدره ، كنوع من بث الإطمئنان لنفسها الخائفة وإخبارها من خلاله أنه معها ، فلعنت نفسها بأنها تفوهت بهذه الكلمات ووضعت نفسها في هذا الوضع المحرج وأكملت السير معه بصمت حتى توقفوا أمام باب إحدى الغرف وابتعد هو عنها ثم أخرج المفاتيح الخاصة به من جيبه ووضع المفتاح المخصص لهذا الباب ثم لفه عدة مرات وبعدها انفتح ودخل هو أولًا ثم هي خلفه فتلفتت حولها تحاول رؤية أي شيء ولكن الظلام كان أشدة من أن يساعدها على الرؤية ، وحين لم تشعر به بجوارها تلفتت حولها بارتعاد حتى سكنت روحها المرتعدة لما انفتح الضوء وتجولت بنظرها في أرجاء الغرفة التي هي عبارة عن مكتبة صغيرة جميع حوائطها ممتلئة بالكتب ، فتحركت هي نحو أحدهم تتلمسها بابتسامة منذهلة ثم استدارت حول نفسها تحدق في كل هذه الكتب بانبهار ، ولكن صوته الدافىء من خلفها جعلها تلتفت له فورًا وتستمع لما يقوله وابتسامتها لا تزال على شفتيها :
_ أنا عرفت من إسلام إنك من عشاق القراءة والكتب فقولت أجيبك تشوفي ده وتعرفي إنك مش لوحدك اللي مجنونة كتب ، والأوضة اللي في بيتنا اللي قولتلك محدش يفتحها لما تروحوا هناك إنتي ومامتك وأهلك دي ناوي أعملها زي دي بس نخلص من الحجات الأهم الأول وبعدين إنتي تعمليها على ذوقك وتختاري الوانها والخشب وكل حاجة
فغرت شفتيها وعيناها بصدمة ، ورمشت عدة مرات بعدم تصديق ثم خرج صوتها المنذهل فورأى عيناها التي تضحك بدلًا عن شفتيها :
_ بتتكلم جد هتبقى عندنا اوضة في البيت زي دي ؟
كان صمته وابتسامته إجابة توكد لها سؤالها فوضعت كفها على فمها تكتم ضحكتها التي انطلقت من فرط سعادتها بما أخبرها به للتو ، وبعد ثواني تهتف من بين ضحكاتها بعفوية لما تتحدث بها معه من قبل :
_ إنت كدا هتلاقيني معتكفة في الأوضة دي اليوم كله !!
أجابها مشاكسًا بنظرة اربكتها كثيرًا :
_ هعتكف معاكي !
تلاشت ابتسامتها تدريجيًا من نظرته وحاولت الفرار منه عن طريق تجولها في جميع أركان الغرفة تتفحص كل الأرفف ، المقسمة بانتظام إلى قسم يحوي كتب الدين والسيرة النبوية وإلى قسم الفلسفة وعلم النفس وإلى قسم العلوم البيئية المختلفة وغيره كثيرًا من الأقسام ، ولكنها توقفت حين رأت القسم الذي يضم كتب باللغة الإنجليزية فالتفتت له برأسها وقالت باسمة :
_ وبتقرى English كمان !!
ضحك بخفة وأردف بخفوت يسرد لها قصة هذه الغرفة :
_ مكنتش بحب آجي الشركة هنا أبدًا كان عندي حاولي عشرين سنة وأنا من صغرى بحب الكتب فبابا الله يرحمه عشان يحببني في الشغل وإني آجي هنا عملي المكتبة دي ومن وقتها وأنا مبقتش اتأخر على الشركة يوم واحد ولغاية دلوقتي بخلص الشغل في المكتب وباجي أقعد هنا وأحيانًا برجع البيت بعد الفجر بكون ماخد الليل كله هنا ولما بيأذن الفجر بروح اصلي في الجامع وبعدين برجع البيت ، ومش عايز أصدمك وأقولك إني قريت الكتب دي كلها أكتر من تلات مرات يعني حافظها
اتسع بؤبؤ عيناها بذهول ولكنها ابتسمت بإعجاب وتوجهت نحو الأريكة الصغيرة وجلست عليها هاتفة بتساءل وجدية :
_ طيب والوقت اللي كنت بتقضية في قراية الكتب دي مكنش بيخليك تقصر في فروضك ولا حق ربنا عليك بما إني أعرف إنك ماشاء الله عليك ملتزم في كل حاجة
أصدر تنهيدة حارة ثم اقترب وجلس بجوارها مجيبًا بهدوء :
_ لا بالعكس أنا كنت بفضل الوقت اللي باخده هنا وأغلب الساعات اللي بقعدها هنا مش بكون بقرأ الكتب لا بستغل الوقت لإن زي ما قولتي إنا مش بحب أقصر في حق ربنا عليا وكنت دايمًا بقرأ القرآن أو بسبح وبقول أذكار يعني أغلب الوقت اللي بقضيه هنا بيكون للعبادة وفي نفس الوقت بخصص وقت محدد للكتب بس عشر سنين كتار أوي وكافيين جدًا إنهم يخلوني أحلص ده كله وأعيد قرايته من أول وجديد حتى لو مكنتش بستغل كل وقت فراغي في القراية ، كل ما في الموضوع إني برتاح في القعدة هنا جدًا
ذلك الرجل كلما تتحدث معه تنكشف شيء في شخصيته يجعلها تتمسك به ويثبت العكس لعقلها الذي يصرخ بها باستمرار أنها أخطأت حين سمحت لهذه العلاقة بالاستمرار ، وفي كل مرة يعلو شأنه لديها ويكبر في نظرها أكثر وهذه المشاعر لا تزعجها بل بالعكس تسعدها لأنها تعطيها الأمل في ما توده وهو أن يحل عشقه هو محل العشق الذي بات يخنقها ولا تتحمله نفسها .
عادت لواقعها واستندت بذراعها على حافة الأريكة المرتفعة وكفها مكانه على وجنتها قائلة وهي متشبعة بحرارة الحديث معه محاولة التصرف بطبيعية وإقناع عقلها وقلبها بأنها تحبه !! :
_ وطبعًا مش محتاجة تفكير إن اكتر رف محبب لقلبك هو رف كتب الدين والسيرة
ضحك لطريقتها الجديدة في التحدث وتشدق مؤكدًا ما قالته :
_ أكيد أهو ده بقى بذات أنا حافظه زي اسمي بظبط من كتر ما قريته كذا مرة
عم الصمت بينهم للحظات وهي تعود وتعلق نظرها على الكتب لتسمع صوته المترقب والرخيم يقول :
_ منتظمة في الصلاة ياملاذ؟
استقر نظرها عليه ولكن سرعان ما اجفلته وقالت بضيق وحياء :
_ مش أوي أحيانًا بقطع وحاولت كذا مرة انتظم بس باخد فترة زي شهرين أو أكتر وبرجع أقطع تاني ومش عارفة أعمل إيه ؟!
أخذت نفسًا عميقًا ثم أخرجه زفيرًا متمهلًا وهتف برفق به شيء من الحزم :
_ غالبًا ده بيبقى بسبب إن إنتي متعودتيش على الصلاة من صغرك فبتلاقي صعوبة في الالتزام لكن أكتر حاجة تخلي قلبك يجري على الصلاة جرى إن الله سبحانه وتعالى بينادي عليكي ويقولك يلا تعالي ، حي على الصلاة يعني يلا جري على الصلاة ، الفلاح اللي هو فلاح الدنيا والآخرة ، ووقت ما تسمعي حي على الفلاح دي تجري على الصلاة فهل يصح أو يحق أو يجوز إن الله عز وجل بينادي عليكي ومتروحلوش ، وعايزة تعرفي تعملي إيه تسيبي اللي في إيدك أول ما تسمعي الآذان وتقومي فورًا تتوضى وتصلي ، سواء إي كانت الحاجة اللي بتعمليها مش هتكون أهم من لقاء ربنا والصلاة ومتقوليش لا خمس دقايق هخلص اللي بعمله واروح اصلى ، لا في لحظتها علطول ، فمينفعش إن ربنا سبحانه وتعالى يكون بينادي علينا واحنا ننشغل عنه بأي عرض من أعراض الدنيا ، دي دنيا يعني زايلة وحاجة ملناش دعوة بيها ، فحي على الصلاة دي يعني يلا على فلاح قلبك يلا على صلاحك يلا على الرزق وعلى الخير والبركة والهداية ، وعشان لما تطلبي حاجة من ربك يعطيهالك فمينفعش تكوني إنتي مش بتصلي وتقولي اعطيني يارب واديني ومعرفش إيه ، ده من عظم ومكانة الصلاة إنها مفرضتش في الأرض لا ده سيدنا جبريل طلع بالرسول صلى عليه وسلم فوق وفرضت فوق لقدسية وعلو مكانة الصلاة ، فإنتي خلي ضميرك يأنبك دايمًا وافتكري الكلام ده وأنا هعينك واشجعك متقلقيش ، أنا معنديش تهاون في النقطة دي بذات يعني لما نكون في البيت والآذان يأذن وأقولك يلا قومي عشان نصلي فورًا تقومي ومتقوليش إيدي مش فاضية
كانت تستمع لحديثه وهي تعاني في تفاصيله وتحملق به بشرود ، كيف له أن يكون بكل هذا الحسن واللطف ، ماذا فعلت هي ليرزقها الله بزوج مثله حتى وإن كانت لا تحبه .. ولكنها الآن فقط أدركت هذا ” الزين ” لا يمكن أن يُرفض وستكون أحمق النساء إن ضيعته من بين يديها ، وستحاول جاهدة أن تحبه وهي متأكة بأنها لن تعاني كثيرًا في محاولات عشقه فبالفعل هي بدأت تعجب بشخصيته الفريدة ! .
همست في صوت رقيق ونظرة ممتنة لاهتمامه ولكل نصائحه التي ستعمل بها بالتأكيد :
_ حاضر متقلقش مش هقولك كدا ، واوعدك إن شاء الله هنتظم وهعمل زي ما قولتلي بظبط
أرسل لها ابتسامة محبة ونظرة غرامية ثم التهم المسافة التي بينهم في الأريكة حتى أصبح ملاصقًا لها واقترب منها طابعًا قبلة ناعمة على وجنتها مغمغمًا في عاطفة :
_ ربنا يهديكي ياحبيبتي ويجعلك من مُقيمي الصلاة
تجمد جسدها وانكمشت عضلاته هو ووجهها ، وسرت رعشة في جميع أنحاء جسدها أثر ملامسة شفتيه لبشرتها ولحيته الكثيفة كان لها دور بالتأكيد فيما أصابها الآن ، ثم رأته يبتعد سنتي مترات لا تحسب ويثبت نظره على شفتيها المزينة بأحمر شفاه فابتلعت ريقها بصعوبة وتوتر حين توقعت ما سيفعله ، وشعرت بانحباس انفاسها في صدرها وجفاف حلقها ، ولم تهدأ فوضتها إلا عندما رأت عيناه تنطلق منها نظرات صارمة ويهمس في حدة محاولًا تزينها بابتسامة متصنعة :
_ وحاجة تاني كمان معنديش تهاون فيها المكياج .. الروج ده في بيتك ولجوزك بس أنا محبتش اتكلم لما شوفتك بيه في الفرح وسكت عشان أول مرة بس مش عاوز اشوفه تاني ، اولًا حرام ولما اسمحلك تطلعي بيه عشان اللي رايح واللي جاي يبص على شفايفك ابقى مش راجل ثانيًا أنا بغير جدًا وغيرتي وحشة وبغير على أهل بيتي وحتى رفيف ممنوع عليها منعًا باتًا إنها تحط مكياج
ثم أخرج منديلًا من جيبه وتولى مهمة إزالته عن شفتيها برفق وهو يكمل بنبرة أقل حدة :
_ جيبي كل أشكال وألوان المكياج اللي تحبيها بس تحطيها ليا أنا بس وفي بيتك ، ومفيش مانع لو حطيتي حاجة بسيطة في الفرح بما إنه هيكون منفصل والرجالة وحدهم والستات وحدهم ، وبعدين إنتي حلوة وحدك ياحبيبتي مش محتاجة تحطي الحجات دي عشان تحلوي اكتر !
خافت قليلًا من نبرته ونظرته العجيبة وتأكدت بأنه لا يكذب حين قال إن غيرته سيئة فمن الواضح أنه يشتعل من الغيرة ويحاول تمالك أعصابه أمامها ، سحبت من يده المنديل بهدوء وأكملت مسحه هي دون أن تجيبه فقط تخطف إليه نظرات مرتعدة بعد أن أتضح لها أنه لديه غضب مدمر وهي بالطبع لا تريد رؤيته في يوم من الأيام على الأقل إلى حين تتمكن من حبه ، كان يتابعها بصمت حتى انتهت والقت المنديل في صندوق القمامة الصغير بجانب الأريكة ونظرت لها متمتمة في توتر واضح :
_ يلا نرجع الفرح عشان منتأخرش عليهم
أماء لها بالموافقة ثم هب واقفًا وسبقته هي للخارج فأغلق الضوء وقفل الباب بالمفتاح ثم لحق بها ، واقترب من رأسها طابعًا قبلة حانية عليها وكأنه يعتذر بطريقة غير مباشرة عن طريقته الحادة واللاإرادية معها منذ قليل ولف ذراعه حول خصرها يسيران معًا في الطريق المؤدي للباب الرئيسي ، فلم ترفع هي نظرها له بتاتًا ووانشغلت بعقلها الذي يهتف ساخرًا بشيء من الانفعال ” أرأيتِ أخبرتكِ أنه لا يصلح لك فإنتِ لا تحبين السيطرة ويبدو أنه ذو ميول تسلطية ! ، كيف ستتحملي تحكماته التسلطية هذه ؟!! ” ولكنها رفضت هذه الأفكار بعنف وأبت الاستماع لكلمات عقلها المريض الذي يحاول تخريب كل شيء جميل ، وحين افاقت وجدت نفسها أمام السيارة ويفتح لها الباب فاستقلت بها ثم التف هو وأخذ مكانه المخصص للقيادة بجوارها !! …..
***
اقترب الحفل من نهايته وقد قاربت الساعة على الحادية عشر …
لم تتحرك من على الطاولة بجوار هدى وكانت عيناها معلقة عليه تتابعه وهو يقف مع رجل خمسيني ويتحدث معه بجدية تامة وملامح وجهه حازمة بشدة ولكن لا يهمها كل هذا ، هي مكتفية بالنظر إليه فقط وتأمله .. كم يبدو اليوم جذابًا وكله وقار وشموخ بملابسه التي تزيده فخامة .. حيث كان يرتدي بنطال من اللون الأسود يعلوه قميص أبيض اللون وفوقهم سترته الجليدية الطويلة من إحدى درجات اللون البني ( الكافيه ) ، ويضعها على كتفيه دون أن يغلغل ذراعيه داخل الأذرع الخاصة بالسترة مما أعطته لمسة رجولية مذهلة ، كان عقلها يصرخ بها محاولًا إيقاظها من أحلامها الوهمية التي لا صحة لها في الواقع ولن تجلب لها سوى المتاعب ، هذا الرجل هو آخر رجل في الكون قد يكون من نصيبها أو أن تحظى بعشقه لها ، لهذا يجب عليها التوقف عن عشقه قبل أن تكون سببًا في دمار نفسيًا لها !! .
حاولت إزاحة نظرها عنه ولكنها لا تستطيع وفجأة وجدته يلتفت برأسه ناحية طاولتهم بحركة عفوية منه فوقعت عيناه على التي تتأمله بهيام ، لتشهق هي بزعر وتشيح بوجهها بعيدًا مغمغمة لنفسها في اغتياظ منها :
_ شافني .. شافني ، غبية .. أنا غبية !!
أخذت تخطف إليه نظرات خلسة تتأكد هل ما زال ينظر ناحيتها أم لا فوجدته عاد يكمل حديثه مع هذا الرجل لتتنفس بارتياح وهي تقسم بأنها لن تنظر له مجددًا أبدًا إلى حين رحيلها الذي لابد أن يكون الآن قبل أن تقع في موقف أكثر إحراجًا ، انضمت لها رفيف وهي تهتف باسمة :
_ هاا إيه رأيك أنا اعتقد إنك فكيتي شوية
نظرت لها وتمتمت برقة :
_ آهاا فعلًا طلعت شوية من الطاقة السلبية اللي جوايا ، ميرسى يارفيف جدًا إنك فكرتي فيا وجبتيني
نقلت رفيف نظرها لأخيها وهتفت في صوت منخفض بأذنها به شيء من الخبث ويحمل تلميحات فهمتها جيدًا :
_ بس دي مش فكرتي !! ، يعني الشخص اللي المفروض تشكريه مش أنا !
نظرت بدورها إلى مكان استقرار نظراتها ثم عادت لها وقالت بإحراج امتزج بخنقها البسيط :
_ ممكن تبطلي تلمحياتك دي عشان أنا فهماكي ، كرم زي سيف الله يرحمه بالنسبالي يعني اخويا
رفعت حاجبها باستنكار على كذبها الساذج وأصدرت ضحكة مرتفعة ثم عادت تهمس في أذنها بنبرة أكثر لؤمًا :
_ لا والله وهو أخوكي برضوا هتفضلي تتأملي فيه ومتشليش عينك من عليه ، إنتي مفضوحة أوي على فكرة !
ضمت عيناها بتوتر واضطراب وفورًا تخلت عن محاولاتها الفاشلة لإقناعها بأنها ليست معجبة به وقالت بعفوية واضطراب :
_ بجد !! ، يعني ممكن يكون لاحظ أو حس ؟!
قالت مندهشة وهي تضحك بتلقائية :
_ كرم مين ده اللي يلاحظ !! ، عارفة لو كان حسن أو زين كنت أقولك كانوا زمانهم كشفوكي مش زمان عشان دول مش ساهلين لكن كرم ده خايب اراهنك إن كان شك للحظة أصلًا ، انتي احمدي ربك إنه بيتكلم معاكي طبيعي من غير ما يتوتر دي معجزة في حد ذاتها .. بس تعرفي أنا عذراكي إنتي عندك حق هو اخويا يتحب فعلًا
رمقتها شزرًا باغتياظ وغمغمت محاولة إخفاء خجلها :
_ أنا عايزة امشي الوقت اتأخر !
_ حاضر هروح اندهولك
قالتها بمشاكسة وهي تهم بالقيام ولكنها قبضت على ذراعها هاتفة بصرامة :
_ لا متروحيش مش عاوزاه يوصلني أنا همشي وحدي
تركت رفيف مزاحها جانبًا وأجابتها بقوة جادة :
_ أولًا مش هيرضى يسيبك تمشي وحدك ، ثانيًا الساعة 11 يعني الوقت متأخر
هل لا تهتم بكل هذا فقط لا تريد أن تكون معه فقربها منه يبعثرها ويشتت ذهنها ويزيد من ترسيخه في قلبها ، وهي ترفض شعور استسلامها له على الرغم ما أنها تعرف أن هذا العشق لن يجدي بنفع عليها ، ولكنها تركتها تذهب لتخبره واستقامت فورًا تتسلل إلى الخارج دون أن يروها محاولة الهرب منه وأن تستقل بأي سيارة أجرة قبل أن يأتي خلفها ، ولكنها تسمرت واقفة في نصف الردهة الطويلة والحمراء المؤدية للشارع الرئيسي حين سمعت صوته المرتفع نسيبًا ينده عليها :
_ شـــفــــــق !!!
فتأففت بيأس وأخذت نفسًا عميقًا لتحبسه لثانية في صدرها وتخرجه زفيرًا متمهلًا ، وتجاهد في لملمة قلبها الذي تبعثر بمجرد سماعها لصوته ، وأخيرًا التفتت له مغلوبة على أمرها لتجده أمامها مباشرة ويردف متساءلًا :
_ رايحة فين ؟
رسمت ابتسامة مزيفة وخلفها كانت تخفي قناع هزيمتها للمرة الألف في الفرار منه ، فيخرج صوتها رقيقًا كهيئتها الضئيلة والصغيرة :
_ مش رايحة مكان كنت هستناك عند العربية لغاية ما تاجي
_ اممم طيب يلا
سارت معه نحو السيارة الخاصة به واستقلت بالمقعد الأمامي بجواره واستقل هو بمقعده ثم انطلق بها يشق الطرقات ، وهي تتابع الطريق بسكون تام مستندة برأسها على زجاج السيارة ، اتاها صوته الهادئ يسألها باهتمام :
_ شوفتيه تاني أو كلمك ؟!
تمتمت بنفي وهي لا تزال على نفس وضعيتها :
_ تؤتؤ .. من ساعة الحادثة ومشفتهوش تاني والمفروض إني اطمن وافرح بس قلقانة اكتر
ثم اعتدلت في جلستها وطالعته مغمغمة في ثبات وحرارة :
_ فاكر صحبتي اللي كانت معايا في المستشفى
_ آه فاكرها ليه ؟!
قالت بتوجس وقلق :
_ إنت أكيد عرفت طبعًا إنه كان مستنينا في الشارع لغاية ما نطلع ، فهي شافتك لما وصلت وقالتلي إنه أول ما شافك كأنه شاف عفريت واتنفض واستخبي بسرعة قبل ما تشوفه وبتقولي إنه خوفه كان غريب
كان مركز نظره على الطريق وقد كان قلقها بالنسبة له مبالغ فيه قليلًا ولا داعي لكل هذا الخوف حيث أجابها مبتسمًا في عدم اقتناع :
_ طبيعي ياشفق يخاف ماهو عارف أكيد أنا مين وإني دايمًا معاكي وإني بحاول اوصله
تأففت بضجر من تصرفه على أنها طفلة وتخشي من أي شيء وغمغمت في نبرة مستاءة وهي تنتصب في جلستها وتعتدل لتكون مواجهة له تمامًا :
_ كرم افهمني أنا قصدي غير كدا ، خوفه مش طبيعي هو عارفك ودي حاجة احنا مختلفناش فيها بس هو كمان عارف إنك أكيد متعرفهوش شكلًا وإلا كان هيخاف كدا ليه أوي ، تصرفه بيوحي بحاجة واحدة وهي إنه عارف إنك لو لمحته بس هتعرفه فورًا وهو يعرفك كويس ، والصراحة أنا خوفي زاد أوي وبذات بعد ما شكيت إنه ممكن يكون …….
توقفت عن الكلمات ولم تتمكن من البوح له بما يدور في ذهنها منذ شهر كامل وهي تعاني من رعبها أن يكون ماتظنه صحيح ، فإن كان هو بالفعل لن يلحقها من الأذي بقدر ما قد يلحقه هو ، ومن جهة أخرى تخشي أن تكون نهايتها مشابهة لها بالأخص بعدما اتضحت رغباته القذرة بها !! ، أما هو فكلامها قد أيقظ عاصفة القلق الكامنة بداخله وبدت له كلماتها مقنعة جدًا ولكن توقفها في النهاية أثار فضوله بشدة حيث هتف في ترقب وحزم :
_ شاكة في أيه ؟!
اشاحت بوجهها عنه وعادت لجلستها الطبيعية تنظر للطريق أمامها هاتفة في تصنع عدم المبالاة بالأمر ونبرة صوت قوية وجديدة تمامًا :
_ لا متركزش حاجة تافهة أساسًا ومش مقنعة ، بس أنا مش عاوزاك تتدخل في الموضوع ده تاني لو سمحت ، ملكش دعوة وأنا هتصرف وحدي لإنه ممكن يأذيك
استعجب من نبرتها وطريقتها مما جعل الشك في أنها تخفي أمرًا خطرًا عنه ينمو ويسقتر في أعماقه أكثر ، وأخذ يفكر ما الذي قد تخفيه عنه ولكن كان شكها أبعد من أن يتمكن هو من توقعه .
حاول تمالك أعصابه فهي لا تكف عن طلب الشيء الذي لا يمكنه تنفيذه لها وغمغم في صوت أجشَّ :
_ شفق احنا اتكلمنا في الموضوع ده كذا مرة وقولتلك إني مش هقدر اتصرف كأني معرفش حاجة وهقولهالك تاني إنتي أمانة وأخوكي موصيني عليكم ولو إنتي شيفاني من النوع اللي بيخون الأمانة فأنا عندي استعداد اسيبك تتصرفي وحدك زي ما بتقولي ، ثم إني مش فاهم إيه سبب خوفك ده !!!
تمكن هو من تمالك أعصابه ولكنها فشلت حيث صاحت مندفعة من فرط خوفها عليه فهذا الأحمق سيؤدي بنفسه للهلاك وهو لا يشعر .. وهي لن تسمح بأن تكون سببًا في أي أذى يصيبه :
_ بقولك هيأذيك أنا متأكدة مش عايز تفهم ليه ! وبذات بعد ما عرف إنك تعرفني ومعايا ولو كان اللي في دماغي صح فأنا مش هسمحلك تتدخل في أي حاجة تخص الموضوع ده تاني نهائي لإنه كدا هيبقى بنسبة 100% بيخططلك عشان يبعدك عن طريقه !!
أصدر زفيرًا حارًا ، وهو حقًا لا يفهم ماتحاول تلميحه بكلماتها الغامضة هذه ، ولكن انفعالها المفاجئ جعله يتأكد من أنها تعاني من الضغط العصبي والنفسي منذ فترة ، فقرر أن يتعامل معها بلطف ورقة كما اعتادت منه حيث أوقف السيارة جانبًا وغمغم مبتسمًا برزانة :
_ طيب وأنا سامعك أهو قوليلي إيه اللي في دماغك عشان نعرف نتكلم بدل ما إنتي متعصبة كدا
أدركت فداحة الخطأ الذي ارتكبته للتو بانفعالها الغير لائق عليه فمهما كانت معاناتها وضغطها العصبي وخوفها عليه ، لا يشفعوا لها حين تتحدث إليه بهذه الطريقة وبالأخص حين تقابل منه هذا الرد اللطيف والجميل مثله تمامًا ، وضعت كفها على وجهها مغمغمة في إحراج شديد منه :
_ أنا آسفة ياكرم انفعلت غصب عني والله بس أنا اعصابي تعبانة جدًا الأيام دي ، ممكن نقفل على السيرة دي دلوقتي ارجوك وتوصلني البيت لإني تعبانة وعايزة أنام
تفهم رغبتها في عدم التحدث و العودة للمنزل ، فعاد يحرك محرك السيارة وينطلق بها متمتمًا في خفوت مازحًا ليحاول تلطيف الأجواء المشحونة بالطاقة السلبية :
_ ماشي بس أنا رأي إنه أي كان اللي في دماغك فهو أكيد ميستهلش كل القلق والتعب العصبي ده ، ولا يستاهل قلقك عليا كمان .. يعني ميغركيش الوش البرئ ده لإن وراه بلاوي !
حاولت قدر الإمكان منع ابتسامتها ولكنها فشلت بعدما فهمت ما يقصده من آخر جملة ، وأن قلقها عليها ليس في محله وإنه يخفي خلف رقته ولطافته وحسن معاملته مع الجميع أشياء لا يتوقعها أحد منه ، أي أن لا قلق عليه فهو يحسن التصرف في هذه المواقف .. ولكن مهما حاول أقناعها بأنه يخفي شخصية مرعبة في داخله لن تصدق ، فكيف لكتلة اللطافة والرقة هذه أن تكون في وجه الشر والانتقام ، وهي تشك إن كان يستطيع أذية نملة من الأساس !! ، ولكن لا مانع في المثل الشهير ( اتق شر الحليم إذا غضب ) !! ……..
***
انتهى الحفل وعاد الجميع لمنزله وكانت يسر في غرفتها بمنزلها الجديد ( منزل زوجها ! ) ، كان يقسم لها في الزفاف إن حين ذهباهم للمنزل ستنال من عقابه ما تستحقه وهي حقًا تتساءل بسخرية عن عقابه هذا أين ذهب ، فلقد أتوا للمنزل منذ ما يقارب النصف وهي دخلت الغرفة ولم تسمع له صوت حتى ، ولا تعرف أنام أم ماذا يفعل ؟ ولكن ما تثق به أنه فقط يقول كلمات ولا يمكنه التنفيذ !! .
ثم بدأت في خلع الفستان عنها وارتدت منامة قطنية قصيرة وكانت على وشك أن ترتدي فوقها رداء منزلي طويل فهي لا تأمن شر هذا الفاسق ، و لا تود أن تكون أول ليلة بينهم على هذا النحو فلديها خطط لهذه الليلة يجب أن لا تفسد أبدًا . انتفضت واقفة بزعر حين وجدته يقتحم الغرفة عليها ويدخل ثم يغلق الباب بالمفتاح لتتراجع هي للخلف وتلتقط أقرب شيء لها وهو الروب المنزلي وتلفه حولها محاولة ستر أجزاء جسدها العارية وتهتف بخوف كان حقيقي هذه المرة :
_ بتعمل إيه !؟
التفت لها وقال بنظرات شرانية ونبرة تحمل كل معاني الغل والانتقام لأفعالها معه ، وكانت نظراته كصياد صبر كثيرًا حتى ظفر أخيرًا بفريسته بين قبضتيه ولن ينقذها منه أحد :
_ هوريكي اللي ميقدرش يعمل حاجة ده !
هل سيحاول تعذيبها وضربها أم أنه سيستغل فرصة زواجهم ويحاول كسرها وقهرها بالنيل منها رغمًا عنها ، كلها تساؤلات تدور في حلقة ذهنها ولا تجد لها أجابة سوى أنها في مأزق حقيقي الآن ويجب أن تتصرف قبل أن تجعله يحصل على مايريد !! .
_ الفصل الثامن _
هل سيحاول تعذيبها وضربها أم أنه سيستغل فرصة زواجهم ويحاول كسرها وقهرها بالنيل منها رغمًا عنها ؟ .. كلها تساؤلات تدور في حلقة ذهنها ولا تجد لها أجابة سوى أنها في مأزق حقيقي الآن ويجب أن تتصرف قبل أن يحصل على مايريد !! .
تقهقرت للخلف ونظراتها تجول في جميع انحاء الغرفة تبحث عن شيء يحميها من بطشه ، بينما هو يقترب نحوها ببطء وبوجه تعلوه معالم السعادة لرؤيته لها تقف في أحد أركان الغرفة تخشاه ، انتهي تقهقرها عندما اصطدمت بالحائط فوقفت ثابتة كالجبل تعيد ارتداء رداء الشجاعة حتي وجدته اشرف عليها بهيئته واستند بكلتا قبضتيه على الحائط يحاوطها من الجهتين ويهمس أمام وجهها وأنفاسه الملتهبة بحرارة الغضب تلفح وجهها كرياح حارة في نهار درجة حرارته تخطت 50 درجة :
_ لا متقوليش إنك خايفة !! ، دي آخر حاجة ممكن اصدقها عنك ! .. ولا لتكوني مضايقة مع إنك المفروض تكوني في اقصي درجات السعادة حققتلك اللي نفسك فيه وبقيتي مراتي وكمان هخليكي تنعمي بقربي ، وده عرض خاص مش بقدمه غير للغالين عليا
هو لا يبتعد عنها سوى سنتي مترات لا تحسب ، وهذه الفرصة المناسبة لتستغلها وتسرق من جيبه مفتاح الباب وتفر من بين براثينه .
هي لا تخشاه بقدر ما تخشي أن يتدني لدرجة إجبارها على شيء لا تريده !! ، ولكن الحكمة هي سيدة الموقف الآن حيث ابتسمت بغنج أنوثي وانتصبت في وقفتها ثم لفت ذراع حول رقبته متخلية عن خجلها منه والذراع الآخر كانت تحاول تسلله إلى جيب بنطاله دون أن يشعر ، وهمست بدلال مغري :
_ ومين قالك إني مش فرحانة ، بالعكس أنا في قمة سعادتي .. لإني بحبك لدرجة متتخيلهاش ، ومش هحل عنك غير لما تحبني إنت كمان
كانت نظراته متقززة منها وجسده يشمئز حين يفكر بأنها تحاول اغوائه ، إن كانت هي تحبه لدرجة لا يتخيلها فهي أيضًا لا يمكنها تخيل مدى كرهه ونقمه عليها ، ولكنها لم تكن تبالي بنظراته لها وركزت على الهدف الذي نجحت به بالفعل وقد التقطت المفتاح من جيبه ، ثم دفعته بعنف بعيدًا واندفعت نحو الباب راكضة ولكنها قبل أن تضع المفتاح في الباب أصدرت صرخة متألمة عندما شعرت بقبضة يده القوية تجذبها من خصلات شعرها وتسمع همسه المرعب في أذنها كالرعد :
_ حاولت كتير أكبر دماغي منك وأقول عيب عليك ياحسن دي مهما كانت بنت عمك ومينفعش بس إنتي كنتي مصممة تطلعي الشخص القذر اللي جوايا في كل مرة كنتي بتستفزيني وبتعملي نفسك فيها شجاعة وتهدديني بإنك هتفضحيني وبسبب انانيتك وجنانك كنتي هتقولي لأمي لولا إني لحقت الموقف ، وبدل ما كنتي هتأذيني أنا كانت هي اللي هتتأذي ، وإنتي دلوقتي هتدفعي تمن تهورك ده وإنك كنتي بتلعبي معايا من غير ما تدركي العواقب
امسكت بكفه وحاولته نزعه عن خصلاتها وهي تجيب بصدق متألمة :
_ مكنتش هقولها أنا كنت بخوفك بس ، وبعدين لما سيادتك خايف على أمك أوي كدا متحترمش نفسك ليه ، يعني إنت قذر وحقير وكمان بجح
_ كملي كملي واغلطي اكتر كمان عشان تستفزيني بزيادة والعقاب يبقى بالضعف
قال آخر كلماته ثم جذبها والقى بها على الفراش لتسقط على ظهرها ثم ينحني إليه بنظرات كلها تشفي وخبث لتلمح هي الانتيكا الصغيرة على المنضدة بجوار الفراش وتسرع لتلتقطها وتضربه بها ولكنه قبض على رسغها ورفعه لأعلى مكبلًا معمصميها بكفه الضخم لتحاول هي التملص من بين يديه بمحاولات بائسة ، حتى خرت قواها وقررت رفع راية الاستسلام و أشاحت بوجهها للجهة أخرى تتفادى اقترابه منها ناحية رقبتها وتهمس برجاء مغمضة عيناها وصوت مبحوح :
_ حسن ، ارجوك كفاية !!
ارتخت قبضته على معصميها حتى تركهم تمامًا وهتف في صوت رجولي مريب :
_ اعتقد دلوقتي شوفتي أنا أقدر أعمل إيه ، نصيحة متحاوليش تتحديني وتستفزيني تاني عشان المرة الجاية مش هيأثر فيا توسلاتك
ثم ابتعد عنها واعتدل في وقفته وغمغم بابتسامة سخرية وبرود مستفز :
_ تصبحي على خير ياعروسة !
ثم ولاها ظهره وتحرك صوب الباب ليفتحه و ينصرف ، فتثب هي واقفة وتسرع نحو الباب تغلقه خلفه ، وقد أحمر وجهها غيظًا وغلً ، وكانت تصدر زئيرًا من بين شفتيها واسنانها تجز عليهم بعنف مع كف يدها الذي كورته ضاغطة عليه بشراسة ثم اندفعت نحو الانتيكا الضعيرة التي حاولت التقاطها ولكنه منعها وألقت بها على الأرض لتتناثر لجزئيات صغيرة !! ….
***
تململت في فراشها بانزعاج من رنين الهاتف وأيضًا أشعة الشمس المتسللة من النافذة لعيناها ، تأففت بنفاذ صبر والتقطت هاتفها تجيب على المتصل بصوت ناعس دون النظر لاسمه أولًا :
_ الو
أجابها بنبرة رقيقة هو ينظر لساعة يده يتفحص الساعة التي قاربت على الحادية عشر ظهرًا :
_ صباح الخير ، إنتي لسا نايمة لغاية دلوقتي ؟!!
انتفضت جالسة بعدما تعرفت عليه من صوته وأخذت تفرك عيناها لتزيح آثار الخمول عنها ، وتهتف بإحراج :
_ صباح النور ، معلش كنت نايمة ومخدتش بالي من الاسم ، امبارح رجعنا متأخر من الفرح ونمت متأخر و…..
قاطعها بصوته الضاحك الذي وصلها عبر الهاتف وهو يهدر ببساطة :
_ كفاية ياملاذ خلاص ، أنا مقولتش حاجة عشان ده كله !!
منذ أن رأت جانبًا مختلفًا في شخصيته بالأمس ، وهي لا تنكر خوفها البسيط منه وتوترها ازداد أكثر ، فحسمت قرارها أنها ستكون حذرة في كل شيء معه ، لم تغضب منه ولكنه سبب لها اضطرابات أكثر وحرصًا في التعامل معه ! . انتبهت لصوته وهو يتمتم في خنق من نفسه معتذرًا بحنو :
_ متزعليش مني بخصوص امبارح أنا عارف إن طريقتي كانت شديدة شوية بس مكنش قصدي والله .. أنا آسف !!
ابتسمت هي على الجانب الآخر بصفاء وهمهمت بنبرة صوتها الناعمة :
_ متقلقش مزعلتش يازين .. وإنت عندك حق تتعصب
_ متأكدة إنك مزعلتيش ؟!
قالها مبتسمًا بمشاكسة لتجيبه بنفس نبرتها السابقة :
_ آهاا متأكدة
اتسعت ابتسامته ولمعت عيناه بوميض رجولي ماكر ، قبل أن يهتف بخفوت ونبرة يعلم أثرها جيدًا عليها :
_ لا بس أنا عايز اصالحك وش لوش عشان أتأكد إنك مزعلتيش !!
لحظات من الصمت القاتل بينهم كان هو يتخيل ملامح وجهها الحمراء من الحياء بينما هي فكانت تحاول التغاطي عن كلماته الخبيثة وعدم التفكير فيها كثيرًا حتى لا تتلعثم في الحديث ، فأخرجت صوتها ضعيف ومرتبك :
_ وش لوش إزاي يعني ؟!!
اتاه ردها ونبرة صوتها المحرجة كما كان يتوقعها تمامًا ، ليكمل جرعته ويضيف قليلًا من البهارات الحارة حتى يزيد من تلعثمها :
_ يعني جهزي نفسك عشان بليل هعدي عليكي وهاخدك وهنروح نقعد في مكان لطيف كدا على انفراد وهناك هقولك وش لوش إزاي
” انفراد ” مجددًا !! .. ألم يكفيه توترها واضطرابها بالأمس وهي معه على انفراد أيضًا ، مجرد التفكير في أنهم سيكونوا معًا مجددًا ولا أحد معهم يؤدي لتسارع دقات قلبها ، وخصوصًا وهو يُلمح لها بهذه التلميحات الجريئة .. يبدو أنها خُدعت به وكانت تظنه رجلًا صارمًا ولا يعترف بأمور الحب التي يمارسوها العشاق ، بالإضافة إلى أنها لم تكن تتوقعه أنه يعرف كيفية إرسال تلميحات منحرفة بالكلام !! ، واتضح أنه ماكر محترف وتدينه والتزامه سينقشع ويزول حين يكون معها .
هتفت بتلعثم كان واضح هذه المرة في صوتها :
_ تاني !!!
قال مستنكرًا بحب :
_ واحنا طلعنا امتى اولاني عشان نطلع تاني ، امبارح مكملناش نص ساعة ورجعنا
_ طيب يازين هجهز على بعد المغرب واستناك إن شاء الله ، إنت في الشركة دلوقتي ؟!
قال بجدية بسيطة :
_ آه ومعايا اجتماع بعد نص ساعة
هتفت بلطف :
_ ربنا يعينك
_ آمين .. أنا هقفل وإنتي قومي اغسلي وشك واتوضى عشان دلوقتي الساعة 11 وخلاص فاضل على آذان الضهر ربع ساعة
أجابته بعذوبة ورقة :
_ حاضر
غمغم مبتسمًا بدفء :
_ في حفظ الله
ردت عليه بنفس جملته كما اعتادت منه ثم أنهت الاتصال وتنهدت بعمق ونهضت من فراشها متجهة صوب الحمام لتفعل كما طلب منها للتو على الهاتف !! …..
***
خرجت من الحمام بعد أن أخذت حمام صباحي دافىء وقطرات الماء تتساقط من خصلات شعرها المبتلة ، فتوقفت في منتصف الغرفة الواسعة ودارت بنظرها في جميع أرجائها ، الخزانة التي تحوي ملابس لشخص لا يريد دخول الغرفة لمجرد وجودها بها ، والفراش الضخم الذي يتسع لأثنين وأكثر ولكنه لا يضم سوى واحدًا .
بنعتها بعديمة الكرامة !! ، وهي منذ لحظتها تفكر هل العشق يفقد المرء كرامته ؟! ، تتساءل لآلاف المرات عن سبب عشقها له ! ، وإن نظرت بالمنظور الواقعي فهو رجل لا يُحب ولا تقبل به فتاة إلا الأقلية .. إذا هي من الأقلية ؟! ، لا بل هي من الذين حرق الهوى عيناهم فأعماهم ، أو بالأحرى هي ليست عمياء بل مطلعة على كل عيوبه ولكنها تتصنع العمى ، وتخبر نفسها مرارًا وتكرارًا بأنها عشقت مرة واحدة وستكون الأخيرة ولن تترك فرصتها في العشق تذهب هدرًا ، ستقف صامدة في وجه الصعاب لآخر نفس فيها ولن تجعل اليأس يتملكها ، وسواء أبا أم شاء لن تتوقف عن عشقه ولن تهدأ إلا حين تحصل على مرادها ، وتجعله يخر بدماء العشق والهوى أمامها مثلما أرهق دمائها لسنوات !! .
ارتدت ملابسها وصفصفت شعرها ثم توجهت نحو الباب وقبضت على المبقض وقبل أن تديره لينفتح أخذت شهيقًا طويل وأخرجته زفيرًا متمهلًا مغمغمة لنفسها محاولة تهدئتها حتى لا تنغز في عقلها الأفكار السيئة أن تخنقه وتفشي غليلها منه بمجرد تذكرها ما فعله معها بالأمس :
_ خليكي relax خالص واهدي ومهما يقول متتعصبيش ، يعني باختصار كوني باردة
ثم فتحت الباب وغادرت الغرفة متجهة صوب المطبخ محاولة قدر الإمكان تجنبه على الأقل إلى حين يزول سخطها منه ، فتحت التلاجة تأخذ منها ما تحتاجه لتحضير الأفطار وحين اغلقت بابها والتفتت بجسدها أصدرت شهقة مرتفعة وانتفضت واقفة بهلع ثم ابتلعت ريقها وأخرجت زفيرًا مضطرب ، لتجده يهتف بقسوة متوقعة منه :
_ لتكوني صدقتي نفسك فعلًا وإنك عروسة ، عارفة الساعة كام دلوقتي !!
أصدرت تأففًا حارًا ثم ازاحته بهدوء من أمامها لتتجه نحو الحوض وتقوم بغسل الطماطم الطازج والحمراء تحت الماء مولية إياه ظهرها ، متمتمة ببرود :
_ عارفة ، وبعدين إنت هيفرق معاك إيه صحيت بدري ولا متأخر ، فارقة معاك أوي مثلًا !!
قبض على خصرها من الخلف يضغط عليه بقسوة وعدم رحمة هادرًا بشراسة وصوت مريب في أذنها :
_ إنتي هنا خدامة ووظيفتك خدمتي وبس ، تحضري الأكل وتغلسي وتنضفي ومن هنا ورايح هيكون الأكل بمواعيد ولو اتأخرتي هيكون في عقاب وخيم ، مفهووووم
لم تجيبه ، اغمضت عيناها تحاول تمالك ذمامها قبل أن تفقدها ، فهي يجب عليها استغلال زواجهم وتجرب معه كل الطرق لتسقطه في تعويذة العشق ! ، سمعته يهتف وهو يضغط على خصرها أكثر لتشتد عضلاتها وتنفرد في وقفتها من الألم :
_ ردي مفهوم ولا لا ؟!
كان يتفنن في استخدام كل الوسائل التي تغضبها وتستفزها ويستمتع برؤيتها ذاعنة له ، يتلذذ بإذلالها وإهانتها ظنًا منه أنه انتصر عليها ولكنها لا يدري أنها هي التي تسمح بهذا الانتصار بكامل إراداتها ورغبتها . خرج صوتها خافت بعد أن وجدت صعوبة في أن تقولها بكل هذا الهدوء :
_ مفهوم .. ممكن تبعد عني وتطلع برا بقى !
ابتعد عنها والقى عليها نظرة متقززة ثم التفت وانصرف لتمسك هي بالسكين وتبدأ في تقطيع الطماطم بعنف تفرغ بها شحنة غضبها المكتظة داخلها ، وتبتلع غصة مريرة في حلقها وعيناها بدأت تذرف الدموع تلقائيًا فأسرعت وجففتهم رافضة سقوطهم !! …
***
تبًا لهذا القلب ! ، الذي يقسم دومًا أن يجلب لصاحبه العناء والشقاء ، ويختار الأشخاص الخطأ فلا يجلبوا له سوى الألم .. هل هذا هو العشق ؟!! ، يحزن ويقهر ويشقي صاحبه ! .. إن كان كذلك فيسعدها أن تقول أنها تكره هذا العشق ولا تريد أن تعشق أبدًا وتفضل أن تكون طوال حياتها خالية الوفاض !!! ….
كانت تجلس على طاولة صغيرة في أحد الكافيات وتطقطق أصابعها بخنق ثم التفتت للحارس الذي يقف خلفها وتهدر به منفعلة :
_ إنت سمعتني وأنا بتكلم وعرفت رايحة فين وفورًا مضيعتش وقت وروحت اتصلت بيه !!
أجابها برسمية تامة دون أن ينظر لها :
_ كرم بيه منبه إن أي مكان حضرتك تروحيه يكون عنده علم بيه ، وهو قالي أجيبك هنا تستنيه وهو جاي دلوقتي
قالت في ضجر شديد :
_ المفروض إنه جايبك عشان تحميني مش تقوله على كل حاجة بعملها
لم يجيبها وكان صامتًا تمامًا يحدق حوله منتظر قدومه حتى تنتهي مهمته ويرحل من جوارها ، أما هي فأخذت تضرب كعب حذائها في الأرض بعنف مغتاظة ، ولتمر دقائق طويلة ثم تجده يقترب نحوهم ويشير بيده للحارس الذي يقف بجوارها أن ينصرف فغعل على الفور ، وسحب هو المقعد المقابل لها ليجلس عليه ويطالعها بأعين ساخطة لتهتف هي متوترة من نظراته :
_ متبصليش كدا !!
_ اتصل بيكي إمتى ؟
كان صوته خشنًا وصلبًا ولكنها التزمت الصمت المستفز ولم تجيبه ليكمل هو مغتاظًا من إهمالها :
_ إنتي مش مدركة خطورة الموضوع صح ؟!
قالت بخفوت وقلبًا ممزقًا :
_ مدركة كويس جدًا وزي ما مدركة خطورته عليا مدركة كمان خطورته على اللي حواليا ، وأنا لازم اتحمل العقاب وحدي عشان اتعلم من غلطتي ومثقش في حد تاني
لم يفهم سبب تصرفاتها المختلفة معه منذ أيام ، ولكنه لا يهتم كثيرًا لطريقتها فكل ما يهمه هو حمايتها والعمل بوصية عزيز قلبه ! .
تنهد بعمق وغمغم بعد أن لانت نبرته وأصبحت أقل دقة وإحكامًا :
_ ليه لما اتصل بيكي متصلتيش بيا وقولتيلي عشان اتصرف !؟
اشاحت بنظرها عنه مغمغمة بجفاء :
_ لإني قولتلك امبارح مش عايزاك تتدخل تاني في الموضوع ده
_ وأنا رديت علي الكلام ده !
عادت بنظرها له مغمغمة في حزم :
_ وكمان أنا قولتلك إني مش عايزة حد يتأذي بسببي
تمتم في صوت رخيم :
_ ولو سيف الله يرحمه كان عايش كنتي هتقوليله كدا !! ، أكيد لا ، وأنا دلوقتي زيه ومكانه
لما يصر دائمًا على تذكيرها بأنه يتولى دور أخيها ويراها شقيقة له ، كلما يقول هكذا تلتهب النيران في قلبها .. فهي لا تراه أخًا ويصعب عليها أنها لا تنظر له مثلما ينظر هو لها ! .
وجدت نفسها تهتف بنبرة شبه مرتفعة وقاسية جدًا غير متنبهة لما تتفوه به :
_ متقولش زيه ، إنت مش سيف ومحدش هياخد مكان أخويا
أماء بتفهم وقال بخفوت بنظرات طبيعية بعض الشيء :
_ عندك حق !!
القت عليه نظرة أخيرة ثم استقامت واندفعت لخارج المكان تحاول حبس دموعها التي تصرخ بالسقوط ، بينما هو فتنهد بعبوس وأخرج هاتفه يجري اتصال بالحارس الذي ينتظرهم بالخارج ، هاتفًا بصلابة :
_ وصلها البيت
أجابه منصاعًا لأمره ثم انهي معه الاتصال وانتظر خروجها وهو يفتح لها باب السيارة فنظرت له شزرًا وهمت بأن تذهب رافضة أن يقوم هذا الحارس بتوصيلها ولكنها سمعت صوته الأجشَّ يهتف :
_ أنسة شفق لو سمحتي اركبي
توقفت للحظات مولية إياه ظهرها تفكر بالأمر من منظور سلامتها لأجل والدتها المريضة التي تحتاج لمن يرعاها ، فوجدت أن من الأفضل أن تستمع لما يقوله وتصعد بالسيارة .
مدت يدها لعيناها تمسح الدموع المتجمعة بهم ثم تلتفت له وتعود لتستقر بالمقعد الخلفي ويذهب ليتولي هو مقعده الأمامي وينطلق بالسيارة عائدًا بها للمنزل ……
***
مع تمام الساعة السابعة مساءًا …..
كانت هي تقف أمام المرآة تلقي علي نفسها النظرات الأخير وتتأكد من حسن مظهرها ، ترتدي رداء طويلًا وفضفاض من اللون المستطردة ليس به أي نقوش كان ممسوحًا تمامًا إلا لمسات كلاسيكية وبسيطة تميزه ، وفوقه حجابها من إحدى درجات اللون البنفسجي المناسبة للون بشرتها ، وقد حرصت هذه المرة على عدم وضع أي مساحيق جمال حتى لا تعصي أوامره حول عدم وضعها لهذه المساحيق خارج المنزل .
باتت لا تستطيع تحديد حقيقة مشاعرها أهي سعيدة بأنها تخلصت من هذه الفاسق الذي كانت تعشقه وستتزوج برجل لا يمكن مقارنته به سوى أنه يستحق هذه الكلمة وبجدارة ” رجل ” ، أم حزينة لأنها إخرجته من حياتها وتعجز عن إخراجه من قلبها حتى الآن ، ويمثل هذا عائق بينها وبين زوجها الذي تريد أن تعطيه فرصة وأن تنعم بعشقه وتجرب مفهوم العشق معه كيف سيكون ، وبين كل هذا هي مع كامل الأسف تجد صعوبة في الوقوع بحبه نتيجة لأن المكان الذي يجب أن يكون هو فيه في قلبها مشغول لغيره ، فلا تستطيع أن تكن له في قلبها سوى الاحترام والثقة والإعجاب بشخصيته .. مما يسبب لها الكثير من المتاعب النفسية !! .
انتشلها من شرودها صوت رنين هاتفها فظنت أنه هو ، لتستنشق الهواء بعمق وتمسك بالهاتف لتجيب ولكن تجد المتصل صديقتها فتفتج بنفس مرتاحة أنه ليس هو :
_ أيوة يامي
اتاها صوت صديقتها المرح :
_ عاملة إيه ياعروسة .. مفيش مفر دلوقتي هتحكيلي كل حاجة بالتفصيل حصل إيه إمبارح
غمغمت ملاذ باسمة لحماس صديقتها المقربة :
_ مفيش حاجة حصلت والله يامي هو اخدني لمكتبة خاصة بيه واتكلمنها هناك وبعدين رجعنا
_ إزاي !! .. يعني مفيش حاجة كدا ولا كدا
_ لا مفيش ياحشرية
قالت مي بعبث ومزاح :
_ إيه ده يعني طلع محترم مع الناس ومعاكي !
تذكرت حديثها معه بالصباح فابتسمت على وصف صديقتها له بـ ” المحترم ” ، فهذا الماكر يخدع الجميع وهو بداخله يخفي رجل منحرف ينتظر حتى تحين له فرصة الزواج ليخرجه . هتفت ملاذ مشاركة صديقتها في المزح :
_ بصي هو عمليًا محترم علميًا لا
قالت الاخرى ضاحكة بقوة :
_ أممم عارفاه النوع ده بيبقى مايه من تحت تبن ، بس أنا شايفة إنك اخدتي عليه خلاص وده مؤشر حلو
تنفست الصعداء بشجون وهي تجيبها بخفوت مرير حتى لا يصل صوتها لأحد من أهلها :
_ مش عارفة يامي أحيانًا كتير بحس إني غلطت لما وافقت وكملت ومش مطمنة حاسة إن في مصيبة هتحصل بسبب الغلط اللي ارتكبته ده ، واللي مخليني مضايقة إن زين بني آدم كويس جدًا وألف بنت تتمناه ، يعني باختصار شايفة إنه خسارة فيا ، وفوق ده كله قلقي من أحمد وتفكيري فيه دايمًا لإنه ليه فترة طويلة مش بيكلمني زي ما كان بيعمل ويحاول يخليني اسامحه ولا حتى بشوفه وخايفة يكون مسافر ولما يرجع ويعرف إني اتجوزت ويعملي مشكلة كبيرة
غمغمت مي في عصبية ونقم على هذا الماجن والوغد :
_ مش هيقدر يعمل حاجة خلاص ، ولو إنتي حابة تكملي في جوازك لازم تطلعيه من قلبك ياملاذ وتحبي جوزك لإن هو ده اللي يستاهلك بجد ، وحاولي تتقربي منه أكتر صدقيني هتحبيه لإنه باين عليه إنه شخصية جميلة وتستاهل تتحب ، لكن الحيوان ده ميستهلش غير الحرق
همت بأن تجيب عليها ولكن سمعت صوت أشارة في هاتفها بأن هناك من يحاول الاتصال بها فتهتف على عجالة :
_ طيب يامي هكلمك بعدين عشان هو بيتصل دلوقتي
أنهت الاتصال مع صديقتها وأجابت عليه بهدوء وهي تتجه نحو شرفتها لتنظر منها وتتأكد من قدومه :
_ أيوة يازين .. إنت وصلت ؟
_ أيوة وصلت أنا مستنيكي تحت بالعربية ، إنتي خلصتي ولا لسا ؟
قالها في نبرة صوت ساحرة لتجيبه هي بإيجاب :
_ أيوة خلصت هلبس الشوز وأنزل
أسرعت وارتدت حذائها ثم ألقت نظرة أخيرة على مظهرها في المرآة وسحبت حقيبتها الصغيرة وهاتفها وانصرفت مودعة والدتها الكامنة في غرفتها بصوتها المرتفع حتي يصل لمسامعها تخبرها بأنه أتي وهي ستغادر ، فتجد الرد من أمها لطيفًا موصية إياها كأي أم أن تنتبه لنفسها ، ثم ترحل وتصعد بمصعد البناية الخاصة بهم وبعد لحظات تجد نفسها أمام الطابق الأرضي فتخرج وتقود خطواتها للخارج حتى وصلت لسيارته وفتحت باب المقعد المجاور له وتنحني بجزعة لتركب بجانبه وترسل له ابتسامة رقيقة فتقابل منه ابتسامة عريضة وأول شيء يهتف به في مغازلة صريحة بها :
_ ماشاء الله إيه القمر ده بس !
توردت وجنتيها بحمرة الخجل وأخفضت نظرها هامسة في استحياء :
_ شكرًا
اتاها صوته الرجولي حازم والممتزج بابتسامته التي لطفت الجو :
_ شوفتي شكلك أحلى بكتير إزاي من غير الروج والمكياج !
ضحكت بخفة وقررت أن تتصرف معه على طبيعتها وعفويتها مع القليل من التحفظ في كلامها بالطبع ، فإن كانت لا تتمكن حتى الآن من الوقوع في حبه ربما يكون تصرفها معه بتلقائية كأنه أنه صديق لها ينجح في جعلها تحبه :
_ أنا أساسًا مش بحط مكياج وإمبارح ماما اللي يسامحها هي اللي غصبت عليا أحط والنتيجة إنها جابتلي الكلام وأخدت كلمتين حلوين منك إمبارح ، فأطمن كانت أول مرة وآخر مرة .. مش لازم تفكرني كل شوية بقى
كانت تتحدث بعفوية واضحة أحس بها مما أسعده أنها بدأت تتأقلم معه ، ونبرتها المرحة وطريقتها وهي تتحدث جعلته يطلق ضحكة رجولية مرتفعة نسيبًا هاتفًا في حدة مزيفة :
_ عارفة لو كنتي منقبة كنت أنا بنفسي اللي هقولك حطي لإن محدش هيشوفك غيري
عندما تحدث عن النقاب ابتسمت تلقائيًا ، فهي كانت تود ارتدائه منذ زمن وحين عرضت الفكرة على خطيبها السابق لم يوافق ، وبالطبع كيف يوافق وهذا التقاب كان سيمنعه من رؤيتها ونظرًا لأنه كان لا يود الزواج من البداية وكان مستعدًا لخيانتها ويعلم أنه لن يستمر معها فكان يريد التمتع من رؤيتها ومحادثتها بحرية وهي كانت ساذجة وسمحت له بهذه المسافة وأن يتخطى الحدود والعرف والدين .
هتفت في حماس حقيقي وأعين تلمع بسعادة :
_ زين إنت عاوزني البس نقاب ؟!
نظر لها مستعجبًا سؤالها المفاجيء وطريقتها الحماسية ولكنه أجاب ببساطة وابتسامة دافئة :
_ النقاب فيه قولان لأهل العلم واختلفوا بين وجوبه وجوازه والعلماء اللي قالوا بجواز كشف الوجه هما هما اللي قالوا بوجوب تغطيته في زمن الفتن ومفيش شك في إن احنا في زمن الفتن دلوقتي ، دي أول حاجة وثاني حاجة إن الوجه محل الأثارة حتى للزوج من زوجته في فراش الزوجية ، فأنا أكيد هفضل إن مراتي تكون لابسة نقاب وخصوصًا لو كانت في جمالك كدا لإن دي الفتنة بعينها حتى لو مش بتحطي مكياج ، وأنا مقدرش أقول على النقاب فرض لإن العلماء ذات نفسهم اختلفوا فعشان كدا لو إنتي مش حابة تلبيسه أنا مقدرش أجبرك عليه لكن اللي أقدر أجبرك عليه هو اللبس المحتشم والحجاب الشرعي بمعني إنه ميكونش واصف أو لازق أو شفاف يعني بيبقى واسع وبيغطي منطقة الصدر كلها وإنك متطلعيش من بيتك متزينة ومتعطرة وتطلعي بهدوم فضفاضة ومتظهرش محاسن ومنحنيات جسدك ، فهمتيني ؟
أماءت له بالإيجاب وهتفت وهي مازالت تحتلها السعادة وتسأله بتأكد :
_ يعني إنت مش هتمانع لو لبسته ؟
قال بابتسامة مستنكرًا سؤالها :
_ بعد ده كله ولسا بتسألي همانع ولا لا !! .. بس إنتي ناوية تلبيسه بجد يعني ؟
تشدقت باسمة في خفة :
_ أنا من زمان نفسي البسه بس مكنتش متشجعة أو لاقية اللي يشجعني الصراحة وإنت دلوقني شجعتني فأنا هصبر شوية لغاية ما أكون متأكدة من القرار ده علشان لما البسه إن شاء الله مقلعهوش تاني وربنا يثبتني
أوقف السيارة جانبًا ثم نظر لها وغمغم بحنو :
_ يلا وصلنا
_ إيه ده بسرعة كدا !!
هتف مشاكسًا إياها ومازحًا :
_ هتحسي بالطريق ازاي وإنتي من ساعة ما ركبتي العربية وبتتكلمي !!
فغرت شفتيها بصدمة من رده الصادم والغير متوقع ولكنها شاركته المزاح :
_ أنا !!!! ، ربنا يسامحك بس على فكرة بقى إنت اللي بدأت الكلام
اطلق ضحكة صامتة قبل أن يمسك بكفها ويقربه من شفتيه ليقبله برقة هامسًا في عاطفة :
_ بهزر .. اتكلمي براحتك ياحبيبتي ، على قلبي زي العسل
توترت بشدة من تقبيله لكفها وسحبتها برقة تنظر حولها متفحصة المكان الذي جاءا إليه لتهتف :
_ إيه هناخد رحلة نيلية صغيرة !
ترجل من السيارة ثم التف ناحيته فتنزل هي بدورها وتسير معه ناحية اليخت النيلي الصغير وتقول عابسة :
_ على فكرة أنا بخاف من الميا بليل
_ وهو أنا بقولك انزلي عومي احنا هنركب يخت
سارت معه حتى وصل أمامه وصعد هو إليه ولحقت به ثم تطلعت حولها في الماء وسمعته ينادي عليها من الداخل فدخلت له وجلست على الأريكة الجليدية والبنية اللون ، المتلصقة في أساس اليخت نفسه ، ثم أحست به بدأ يتحرك في الماء فنظرت من الزجاج تتابع الماء ومنظرها الليلي المريب ، حتى وجدته يجلس بجوارها ويمد يده إليه بمشروب دافئ نظرًا لأنهم في الشتاء ، فأخذته من بيده بابتسامة ممتنة ثم قال هو يفتح حوارًا للحديث :
_ هااا قوليلي بقى بتخافي من الميا ليه ؟
تردد قليلًا ولكنها قالت بإحراج :
_ هقولك بس متضحكش
_ تمام قولي !
غمغمت في خفوت :
_ بسبب الأفلام الأجنبي ، عشان أنا من صغري بحب أتفرج الأجنبي وخصوصًا الأفلام اللي بتبقى في الميا وفيها سمك قرش والتماسيح وسمك البيرانا فعملتلي عقدة من الميا وبقيت بخاف ما أنزلها
أطلق ضحكة متأججة بعفوية على طفوليتها لتزم هي شفتيها وتقول بتذمر وعبس :
_ قولتلك متضحكش
كتم ضحكته وقال معتذرًا وهو يحاول منع نفسه من الضحك مجددًا :
_ حاضر ، بس احنا في النيل وإيه اللي هيجيب سمك القرش والبيرانا للنيل
عادت لطبيعتها وغمغمت ببساطة :
_ عارفة بس أنا عمومًا بخاف من البحر ولما بنزل بيكون أخري رجلي بس وعلى الشط كمان ، وبليل لو قطعتوا إيدي مستحيل أحط صباع واحد في الميا وأصلًا منظرها بليل بيخوفني معرفش ليه بس بحس برهبة من الميا وبليل بذات ، صحيح إنت ليه جبتني هنا ؟!
_ ملقتش مكان حلو نقعد فيه وحدنا على رواق غير ده
هزت رأسها بالتفهم ثم لفت ذراعيها حول نفسها تأخذ وضعية الحضن وكفيها يفركان على أعلى ذراعيها نزولًا وطلوعًا بسبب شعورها بالبرد محاولة تدفئة نفسها وإذا بها تشعر به يلف سترته الجليدية والثقيلة حولها مغمغمًا :
_ اشربي اللي جبتهولك هيدفيكي ، أنا لو أعرف إنك مش بتلبسي هدوم شتوي كنت قولتلك عشان تعملي حسابك
نظرت له وقالت باهتمام بسيط :
_ طيب وأنت كدا هتبرد !
_ لا أنا عامل حسابي متقلقيش
لم تعقب مجددًا واكتفت بأنها لفتها حولها جيدًا وأدخلت ذراعيها في الأزرع لتنل أكثر قدر من الدفء فجسدها أصابته قشعريرة البرد العنيفة ، ولكن رائحة عطره الرجولي النفاذة والرائعة تسللت لأنفها من خلال سترته التي ترتديها ، لم تنكر أنها رائحة مغرية ومثيرة خصوصًا أنها تحب عطر الرجال وتتعمد من وضع عطر أخيها في المنزل دون الخروج به ، وبينما هي منسجمة في احتساء المشروب الدافىء وبدأ الدفء يعود لجسدها مجددًا ، وجدته يقترب ويطبع قبلة على رأسها من فوق حجابها ثم يجذبها لصدره مملسًا على ذراعها بلطف كنوع من إبعاث الدفء لها والسكينة ، فهمَّت هي أن تبتعد عنه ولكنها تراجعت وفكرت بعقلها هذه المرة الذي يخبرها بأنها إذا ارادت نسيان الماضي وبدء حياة جديدة معه يجب عليها أولًا أن تسمح لنفسها بأن تنعم بين تفاصيل العشق وتتركه يحبها بحرية وتجرب العشق كاملًا ومن ثم تقرر هل تحبه أم تفضل الأبتعاد ، فسكنت وهدأت بين ذراعيه وعادوا يتبادلون الأحاديث مجددًا !! ….
***
تمسك بهاتفها وتحدق بصوره الذي أرسلها لها الرجل الذي كلفته بمهمة مراقبته لتعرف إلي أين يذهب ، كانت هادئة معه تمامًا منذ الأمس واستحملت طريقته القاسية ولم تعقب ولكن وصل للخط الأحمر الذي لا تهاون فيه ، يجب عليه احترام زواجهم حتى ولو كان بالنسبة له اتفاق وصفقة بينهم ، وسواء شاء أم أبى هي زوجته وغيرتها عليه مخيفة تصل للجنون . ويؤسفها القول بأنه سيرى مخالب القطة الشرسة وكيف تكون قوة المرأة الحقيقة ! ….
ظلت واقفة وتجوب الصالة إيابًا وذهابًا وهي تضرب بهاتفها على كفها بخفة وعيناها معلقة على الساعة التي قاربت على الثالثة فجرًا وكلما يمر الوقت تهيج نفسها الثائرة أكثر ، وأخيرًا سمعت صوت الباب ينفتح فاندفعت نحوه ثائرة لتجده ينظر لها بعدم اكتراث ويتوجه نحو غرفته المنفصلة عن غرفتها ويغلق الباب ليبدأ في تبديل ملابسه ولكنها لم تبالي بشيء سوى تفريغ جموحها بهذا المنحل ، ففتحت باب الغرفة ودخلت وتجده فك جميع أزرار قميصه ويهم بنزعه ولكنه توقف نتيجة لاقتحامها عليه الغرفة وصاح :
_ في إيـه ؟!!
رفعت شاشة هاتفها في وجهه تريه إحدى صوره وهو في ملهى ليلي صائحة بدورها :
_ إيه ده ياحسن !!
التقط الهاتف من يدها ودقق النظر في الصور ليجدها صوره اليوم بالفعل ليلقي به على الفراش ويصرخ بها بصوت جهوري :
_ وإنتي مالك إيه ده ، إنتي هتحاسبيني ولا إيه ! ، وبعدين جبتي الصور دي من فين لتكوني مكلفة حد يراقبني مهو مش بعيد عليكي أصل هنتظر إيه من شيطانة
بالأمس كانت أنثى وتخشى صوته وغضبه والآن هي لا تدري عن مفهوم الأنوثة بشيء وصوته لا يهز شعرة واحدة منها ، حيث اندفعت نحوه ووقفت أمامه مباشرة هاتفة في شراسة :
_ أهااا هحاسبك ، أنا ممكن استحمل معاملتك ليا لكن خيانتك علني كدا وفي أول يوم جواز مش هسكت عليها
ضحك باستهزاء من فرط انفعاله وصاح مستشيطًا غيظًا :
_ إنتي عبيطة يابت ! .. خيانة إيه !!! ، هو أنا إمتى حبيتك ولا كان في بينا حاجة عشان اخونك أصلًا
اقتربت منه أكثر وهو لا يظل ثابتًا في أرضه ووجدها تهتف مباشرة أمام وجهه في صوت يشبه فحيح الأفعى وأعين شيطانية :
_ إنت اتجوزتني عشان تكرهني فيك وتنتقم مني على اللي عملته معاك ومتخلنيش افضحك ، وأنا وافقت وقفلت على موضوع الصور والتسجيل وقولت مش مشكلة هستحمل ، يعني احنا في بينا اتفاق ومن شروط الاتفاق إنك تبعد عن القرف ده .. خاف مني ياحسن عشان أنا ممكن أقلب عليه الطرابيزة بجد وافضحك وأقول إنك بتخوني وأقول على كل بلاويك وهتبقى خسرت أهلك وعمك وبرضوا هفضل وراك وهقولهم إني مسمحاك وإني مش عايزة اطلق وبكلمتين ودمعتين مني الكل هيصدق حبي النقي ليك وإنك قذر وحيوان ولما يلاقوني مصممة إني مطلقش هيوافقوا والكل هيبقى في صفى أنا وهتبقى إنت الوحيد اللي طلعت خسران من اللعبة .. ده نبذة بسيطة عن اللي ممكن أعمله فيك
كان جامدًا تمامًا ودمائه تغلي في عروقه وعقله يرسل له إشارات متتالية أن يقبض على رقبتها ويخنقها ليتخلص منها نهائيًا ولكنه تظاهر بالثبات لتكمل هي بنبرة أكثر شراسة من السابقة :
_ مش بعد السنين دي كلها هسمح لحد ياخدك مني إنت ليا لوحدى .. تعرف أنا ماشية بمبدأ إيه ، لو الحاجة مش هتكون ليا يبقى مش هتكون لحد غيري أبدًا
هذه مجنونة ، حتمًا فاقدة لعقلها !! ، كان يقولها لنفسه فلا يمكن أن يكون حبها له وصل لهذا الحد من الجنون . فهتف منذهلًا مما تقوله :
_ إنتي مستحيل تكوني طبيعية ، إنتي محتاجة تروحي مستشفى مجانين وتتعالجي بجد
لم تبالي بما قاله فهي الآن في ذروة غضبها ، واستمرت في الحديث قاصدة استفزازه :
_ لو أنا عملت زيك وشوفت صوري وأنا في كباريه وفي حضن راجل ، أنا عارفة إنك مش طايقني ومش هتفرق أوي معاك بس هتحس بإيه لإني في الأول وفي الآخر مراتك للأسف
هتف ضاحكًا بسخرية وعدم مبالاة :
_ روحي اعملي هو أنا منعتك
لن تتركه إلا حين تثير جنونه كما أثاره حيث قالت بنبرة صوت وهي تطلق كلمات تعرف مدى تأثيرها عليه جيدًا :
_ متأكد ! ، أصل أنا دلوقتي زي ما قولتلك أنا مراتك يعني أي كلمة هتاجي في حقي هتكون في حقك إنت وإنت اللي هتتفضح يعني أهلي مش هتطولهم الفضيحة قد ماهتطولك ، والناس بقى لسانها مش بيسكت هيقولوا إيه اللي يخليها تعمل كدا إلا لو كان جوزها مش راجل ولا مؤاخذة مش عارف يحكمها ولا يشكمها وكلام كتير كدا أنا اتكسف ما أقوله بس إنت فاهم
نجحت في إثارة عواصفه حيث أحمرت عيناها بسبب جملتها الأخيرة الذي فهم مقصدها منها جيدًا فتحول لجمرة نيران ملتهبة وبحركة مفاجأة جذبها من خصلات شعرها هاتفًا في صوت يأتي كالرعد في أذنها :
_ إنتي عاوزة إيه !؟ ، عاوزاني أمد إيدي عليكي وأوريكي أنيل من اللي شوفتيه إمبارح ، رسيني إنتي عاوزة إيه عشان أفهم والبّيلك طلباتك
دفعت يده عنها بعنف صائحة محذرة إياه :
_ اوعى تفتكر نفسك إنك قدرت عليا إمبارح أنا اللي سبتك بمزاجي ، وإياك ياحسن تجرب تمد إيدك عليا تاني فاهم ..
ثم استدارت وغادرت تاركة إياه يتستشيط وبترنح من الأنفعال ولا يعلم ما الذي يمعنه عن تلقيها ألوان العذاب والضرب المختلفة التي تستحقها ، فربما لأن ليس من شيمه استخدام العنف مع النساء سواء بالضرب أو التعذيب ، ولم ينشأ على هذه العادات السادية !! …..
***
… عروس !!!! .. تتلقى التهنئيات من الجميع منذ صباح اليوم ، لما الكل سعيد ماعداها ؟ ، بالبرغم من أنها هي التي يفترض بها أن تكون أسعدهم ! ، ترتدي فستان زفافها ولا تشعر به على جسدها .. كأنه رداء للعيد قامت بشرائه ولم تنتظر قدوم العيد وارتدته قبل الآوان في مكان وزمان غير مناسب فلم تشعر بفرحته كما يجب ، وتكثر ملامسته والنظر لنفسها في المرآة لعلها تجد سعادتها الخامدة في الأعماق ولكن كلما تنظر لا ترى سوى عبوس وألم وحسرة على حظها السيء الذي حرمها السعادة في مثل هذا اليوم الذي لا يتكرر سوى مرة واحدة ! ، وانقباض قلبها يزداد كلما يقترب انتهاء الزفاف لا تعرف سبب هذا الانقباض ، فيأتي دور عقلها الذي لا يهدأ عن تشويشها وإتعابها ويقول ” لما الحزن ياعروس !؟ ، فأنتِ من اخترتي الزواج وإنتِ لا تحبيه .. وأخبرتكِ أنه لا يصلح لك وعلاقتكم لن تستمر كثيرًا ولكنك أصرّيتي على قرارك الخاطىء ، هذا الرجل لا تستحقيه يامخادعة ، هو يستحق امرأة تحبه كما يجب أن يُحب .. ولكن بقائه معك أكبر خطأ ارتكبه وكلاكما سيدفع ثمن هذا الخطأ ! ” هذه المرة عقلها قال الحقيقة كاملة ولكنها تجهل الإجابة عن سؤاله عن سبب حزنها !! ، ربما يكون سببه عدم تمكنها من حبه وهي تريد أن تنعم بحياة زوجية سعيدة معه ، أو ربما يكون لأن ضميرها يأنبها بشدة أنها كذبت عليه واستغلته طعم في بادئ الأمر لترضي كبريائها الذي دمره خطيبها السابق !! ، وهي لا تنكر أنها كانت ترغب في زواج يعيد لها كرامتها ولكن بعدما تعرفت عليه جيدًا تغيرت أهدافها لتصبح محاولات للتمسك به والوقوع في شباك عشقه ولكن يزال ضميرها يذكرها دومًا بهدفها منذ البداية والذي ربما يكون قائم حتى الآن !! .
فاقت من شرودها على صوت رفيف وهي تسألها عن أحولها ولما شاردة فتقابلها بابتسامة مزيفة وتنظر للجميع بأسى وبعد لحظات تجد صديقتها تسرع نحوها بوجه مذعور وتهمس في أذنها :
_ ملاذ أحمد برا
انتفضت جالسة وقالت بتوتر شديد :
_ إيــــــه ، وهو عرف إزاي إن فرحي النهردا !!؟
_ معرفش أنا تلفونك كان معايا ورن فرديت ومعرفش إنه هو ، لقيته بيقولي خلي ملاذ تطلعي وإلا هعملها مشكلة
تطلعت لصديقتها بتردد وخوف ولكنها حسمت أمرها وشعرت بأنها فرصة لكي تستعيد كرامتها المهدرة ، فاقتربت من أذن مي هاتفة :
_ أنا هطلعله ولو حد سألك عليا قوليلوا روحت الحمام أظبط الفستان
قبضت على ذراعها بعنف هاتفة بارتباك امتزج بالغضب :
_ تطلعيله إيه إنتي اتهبلتي ولو حد شافك هتقولي إيه !!
لم تصغي لها وقالت بإصرار :
_ متقلقيش محدش هيشوفني أساسًا مكان الرجالة بعيد من هنا شوية
_ طاب استني هاجي معاكي !
قالتها مي بعدم حيلة عندما وجدتها مصرة ولكنها رفضت رفضًا قاطعًا وتحركت نحو الحمام أولًا حتى لا تجعل أحد يشك بها ومن ثم تسللت دون أن يشعر بها أحد ، وجدت مي هدى تسألها بتساءل :
_ راحت فين ملاذ ؟
هتفت بارتباك بسيط :
_ راحت الحمام تظبط الفستان وجاية ، قولتلها أروح معاكي قالتلي لا هعرف اتصرف لوحدي
أماءت لها بإيجاب في ابتسامة عذبة أما رفيف فقد راحت تجيب على أخيها الذي كان صوته متلهفًا :
_ رفيف قولي لو في حد قاعد بشعره يلبس الطرحة أنا واقف برا وهدخل اشوفها
أجابت على أخيها ضاحكة :
_ إيه يازين شغل العيال ده ، ما خلاص كلها ساعتين وتاخدها وتروحوا بيتكم وتشوفها
قال بعدم صبر واغتياظ :
_ عايز أشوفها مشوفتهاش وإنتوا خلتوها تلبس الفستان وخدوتها علطول عندكم من غير ما أشوفها حتى
أكملت ضحكها هاتفة تقترح عليه حل وسط :
_ مينفعش تدخل بص إيه رأيك هصورها وابعتهالك تشوفها طالما إنت مش قادر تصبر كدا
_ طيب صوريها بس يلا بسرعة
_ حاضر بس هي راحت الحمام دلوقتي لما ترجع هصورها وابعتهالك
دهش عندها رآها تتجه نحو الخارج للباب الرئيسي وهي تتلفت حولها كأنها تخشي من أن أحد يراها ، ماذا تفعل هنا ألم تقل شقيقته بأنها ذهبت للحمام .. أنزل الهاتف من على أذنه وتسلل خلفها دون أن تشعر فيجدها تقف مع رجل لم يراه من قبل ويسمع حوارهم الذي كالآتي …
_ إنت إيه اللي جابك مش مكفيك اللي عملته معايا وكمان جاي عاوز تعملي مشكلة في فرحي
انطلقت منه ضحكة ساخرة وهو يهدر في غضب :
_ فرحك !! ، ده على أساس إنك في قمة السعادة ، أنا متأكدة إنك لسا بتحبيني ومش قادرة تنسيني
هزت رأسها بالنفي وهي تجيبه بألم :
_ لا !!
قال في ثقة تامة واستنكار :
_ بجد !! ، كدابة ومتعرفيش تكدبي لو مكنتيش بتحبيني مكنتيش وافقتي تطلعيلي .. وكمان مكنتش هشوف الدموع دي في عينك ، مفكرتيش إيه رد جوزك لما يعرف إنك لسا بتحبي خطيبك القديم و إنك مبتحبهوش .. أنا بقول إننا بقينا متعادلين وإنتي كمان بقيتي كدابة ومخادعة والأفضل إنك تنهي المهزلة دي ونرجع لبعض
تبغضه بشدة ، لوهلة شعرت بأنها تستحقره أكثر من السابق ، والآن هي تكره ضعفها له ودموعها الحارقة المتجمعة في عيناها ، لا تريد أن تكون تحت رحمة عشقه ستجاهد في نزعها وستكون هذه البداية .
هتفت في تحدي وصوت مهزوز :
_ لمس السما اسهلك من التفكير في إننا ممكن نرجع لبعض ، وعارف أنا اتجوزت ليه ؛ عشان انتقم منك واخليك تحس بنفس الأحساس اللي حسيته لما خونتني يا أحمد ، يمكن أكون لسا بحبك فعلًا بس تأكد إن المشاعر دي زائلة ومش هتستمر كتير و…..
توقفت عن الكلام حين وجدته يصوب نظره على شيء بالخلف فالتفتت فورًا وهمست برعب جلي وصدمة :
_ زين !!!
…… نهاية الفصل …….
توقفت عن الكلام حين وجدته يصوب نظره على شيء بالخلف فالتفتت فورًا وهمست برعب جلي وصدمة :
_ زين !!!
رأته يقترب نحوهم حتى وقف أمام أحمد مباشرًا وجذبه من لياقة قميصه موجهًا له حديثه في صوت كان مرعبًا بالنسبة لها :
_ امشي من هنا بالذوق بدل ما أخليهم ياخدوك على نقالة
القي أحمد نظرة متشفية على ملاذ فلقد حالفه الحظ ويبدو أنه نجح في تخريب زفافها دون أن يبذل جهدًا ، عاد بنظره لزين ونزع قبضته عن ملابسه ثم هندم قميصه والقى عليهم نظرة بابتسامة استهزاء ثم استدار ورحل ، أما هي فكان جسدها يرتجف من الخوف والارتباك فآخر شيء كانت توده هو أن يعرف الحقيقة بهذا الشكل .. رأت في وجهه جموح وسخط مرعب ، لأول مرة تراه بهذا الشكل المخيف ، كان يتحاشي النظر لوجهها حتى لا يرتكب جرم يندم عليه فيما بعد ، فاستجمعت شجاعتها المزيفة وهمست في صوت كان به بعض التوسل أن يتركها تفسر له كل شيء :
_ زين أاااا…….
قطع كلامها صوته المريب والمتحشرج وهو يلقي عليها أوامر مفروغ منها ويضغط على كفه ليتمالك أعصابه التي على وشك الانفجار :
_ ارجعي الفرح جوا
وقفت تحدق به بأعين بائسة ودامعة وسرعان ما انتفضت واقفة وتراجعت للخلف قبل أن تستدير وتذهب مسرعة نحو الحمام ، عندما سمعته يصيح بها بصوت جهوري ووجه محتقن بالدماء :
_ سمعتي !
رأتها مي وهي تتجه نحو الحمام مسرعة عندما خرجت لتراها ولكنها دهشت حين رأت زين يتجه نحو سيارته ليصعد بها وينطلق مغادرًا الزفاف بأكمله ، فهرولت هي الأخرى راكضة وراء صديقتها وفتحت باب الحمام خلفها فتجدها منكبة على نفسها تبكي بحرقة وعنف لتسرع لها وتهتف بهلع :
_ ملاذ حصل إيه ؟!!
رفعت نظرها وقالت بصوت مرتعش من أثر البكاء :
_ عرف كل حاجة وسمعني وأنا بتكلم معاه وبقوله إني بحبه وإني اتجوزت زين عشان انتقم منه
كتمت شهقتها المنصدمة و المرتفعة بكف يدها ثم قالت في عتاب شديد :
_ أنا قولتلك متطلعيش إنتي اللي صممتي ومسمعتيش كلامي ، أنا شوفت زين دلوقتي وهو بيركب عربيته ومشي وساب الفرح
فغرت شفتيها بدهشة وازداد بكائها وهتفت بقلق حقيقي وندم :
_ هو عصبي جدًا ولو حصلتله حاجة وهو متعصب كدا مش هسامح نفسي أبدًا .. أنا السبب في كل حاجة واستاهل كل اللي يجرالي
ضمتها مي لصدرها مرتبة على ظهرها بحنو وتهمس في رزانة :
_ مش وقته الكلام ده دلوقتي ، إنتي دلوقتي هتفكري هتعملي إيه وهتتصرفي إزاي في اللي حصل ده، ومتقلقيش عليه إن شاء الله من هيحصله حاجة ، كفاية عياط بقى وقومي عشان اظبطلك المكياج ونرجع لهم
_ مش عايزة حاجة يامي أنا تعبت بجد
ملست على وجنتها برقة وهي تجفف لها دموعها هامسة في إشفاق عليها :
_ عارفة بس صدقيني كل حاجة هتبقي زي الفل والله أنا واثقة .. قومي يلا ابوس إيدك ومتخليش حد يشك كفاية هو عرف ، خلينا نحاول ننقذ ما يمكن انقاذه قبل ما يفوت الآوان
بقت جامدة تمامًا لا تصدر حركة ودموعها أخذت تسقط في صمت للحظات حتى توقفت وبدأت صديقتها تعيد مكياجها البسيط جدًا من جديد حتى لا يشك أحد بالأمر وأخذتها وعادوا لهم ، وجلست على مقعدها المخصص لها كالآلية لا تشعر بشيء مما أثار وضعها ريبة والدتها التي اقتربت منها وسألتها في قلق :
_ ملاذ في إيه مالك ؟
انتبهت لها فنظرت لها وتمتمت في هدوء مرير :
_ مفيش حاجة ياماما مرهقة شوية بس
***
أوقف السيارة جانبًا في أحد الشوارع ، ورجع بظهره للخلف مغمضًا عيناه باستياء امتزج بمرارته ، هل قبلت به لتأخذ منه درع تحمي به الباقي من كرامتها المهدرة !! .. كيف كانت تنظر في وجهه وتضحك وهي تحمل في قلبها غيره !! ، بل كيف يمكنها أن تكون بكل هذا الانحطاط وتقبل نفسها أن تكون زوجة لرجل وتترك قلبها لغيره !! . هل كان هذا هو جزاء الإحسان ؟! .
لا يدري أيلومها لأنها وضعته محل المغفل أم يلوم نفسه لأنه وثق بها ثقة عمياء وأحبها من أعماقه ، كان على أتم الاستعداد أن يجعلها أسعد امرأة في الكون سيغمرها بعشقه ولطفه وحنانه للدرجة التي تجعلها لا تطيق الابتعاد عنه للحظة ، ولكنها لا تستحق أن تظفر بهذا الحنان .. ياليتها أخبرته بكل شيء بنفسها كان سيحترم صراحتها وسيعلوا شأنها في نظره ولكن بفعلتها تلك سقطت من مقصورة نظره إلى أدني مستوى وأحقره .
الآن هو يجب أن يتحلى بالحكمة والرزانة وينهي كل شيء بهدوء ، هي أخطات وهو لا شك بأنه أخطأ أيضًا ويجب أن يكون عادلًا ، فمهما فعلت هو لن يتمكن من معاقبتها بقسوة وسيكتفي بهذا القرار الذي اتخذه الآن والذي سيكون أسلم حل لوضعهم . حرك محرك السيارة وانطلق عائدًا للزفاف بعد أن هدأت نفسه الثائرة قليلًا وأجاب على رنين هاتفه المتكرر بخشونة :
_ أيوة ياحسن
اتاها صوت أخيه مازحًا بمرح :
_ إيه شوفتها ياعم الحبيب ؟!
قال ساخرًا في نبرة صوت كان يجاهد في إخراجها طبيعية :
_ أممم شوفتها
_ طيب إنت فين ليه مرجعتش ، الكل بيسأل عليك هنا ؟
اكتفي بكلمة واحدة في حزم وأنهي الاتصال دون انتظار إجابة منه :
_ جاي
انزل حسن الهاتف من على أذنه باستغراب ونظر لكرم الجالس بجواره الذي سأله في فضول :
_ في إيه ؟!
زم حسن شفتيه للأمام بجهل متمتمًا :
_ معرفش شكل في حاجة حصلت ، صوته غريب
_ لا عادي متاخدش في بالك تلاقيه مش طايق نفسه عشان من الصبح مانعينه يشوف مراته
_ عندق حق
قالها حسن هو يضحك ليبادله هو بابتسامة بسيطة …..
***
كانوا مجتمعين في حديقة المنزل بعد أنتهاء الزفاف ويقضون جلسة عائلية مرحة وجميلة ويشاركهم حسن ويسر في هذه الجلسة التي كانت بين عائلة محمد العمايري فقط …..
هتفت رفيف في عبس بسيط :
_ والله القعدة دي ناقصة زين
هتف حسن بدوره مازحًا :
_ آه كان هيقولنا إيه القعدة اللي قاعدينها دي قوموا استفادوا بالوقت بدل ما إنتوا بتحكوا كدا
كان كرم يستمع لحديثهم ويكتفي بالابتسام كعادته في أي تجمع عائلي يفضل أن يكون مستمع صامت ، أما يسر فكانت تقشر من اللب الموضوع في الصحن أمامها وتهتف في جدية وابتسامة صافية :
_ لا بس ملاذ لايقة جدًا على زين ، اخترتي صح يامرات عمي طلعتي مش ساهلة !
قهقهت هدى بقوة وأجابت عليها في فخر :
_ لازم انقيله ست البنات ده الغالي ، وملاذ أدب وأخلاق ماشاء الله
قالت رفيف وهي تزم شفتيها للأمام في عدم اقتناع :
_ أنا مش نزلالي من زور معرفش ليه ، حساها خبيثة ولئيمة
_ بالعكس أنا شيفاها طيبة وكيوتة خالص
قالتها يسر ببساطة وهي لا تتوقف عن أكل وتقشير اللب كنوع من التسالي المفضلة لديها ، لتجيب عليها رفيف بضحك ومشاكسة :
_ الدنيا حصل فيها إيه ! .. يسر بتشكر في حد ، لا مش مصدقة !!
نقلت نظرها بينهم جميعًا في دهشة امتزجت بالإحراج وقالت متصنعة الغضب في كذب مكشوف :
_ على فكرة إنتوا ماخدين عني فكرة غلط ، أنا قلبي طيب وبحب كل الناس والله
نظرت رفيف لكرم الذي يطالع زوجة أخيه وابنة عمه مبتسمًا باتساع وقالت في مكر مرح :
_ طبعًا إنتي هتقولي كلنا نشهد على ذلك من طفولتك بتحبي الناس وعمرك ما أذيتي حد
أصدر كرم ضحكة مرتفعة رغمًا عنه عندما تذكر تلميح شقيقته لتستغرق هدى لحظات حتى تفهم سبب ضحكهم وتنفجر هي الأخرى ضاحكة ، أما هي فأخذت تفكر وتحاول فهم ما الذي تذكروه ولما انفجر كرم ضاحكًا ؟ ، وأول شيء خطر على ذهنها عندما كانت في سن السادسة وأخبرها والدها وعمها محمد بأنهم سيزوجوها لكرم فأخذت تصرخ بهم قائلة أنها لن تتزوج سوى حسن وأنها تكره كل البشر معادا هو وبعد دقائق خرجت لحديقة المنزل وكانوا هم يبنون غرفة خارجية في الحديقة فجمعت في يدها مجموعة من الحصى الكبير نسبيًا واتجهت حيثما يجلس كرم الذي كان يبلغ من العمر إثني عشر وأخذت تحدفه بالحصى وحاول هو أن يتفادها ويصيح عليها أن تتوقف إلى أن أصابت أحدهم رأسه ونزف الدماء !! .
اخفضت نظرها فورًا في إحراج وهي تتحاشي النظر إليهم و تخفي ابتسامتها الخجلة من ضحكهم حتى وجدت هدى تهتف من بين ضحكها :
_ طول عمرك مفترية يايسر ياحبيبتي
_ خلاص بقى ياجماعة أقوم طيب عشان تبطلوا تحفيل عليا !!
توقف كرم عن الضحك عندما أخرج هاتفه الذي يصدر رنينه وقرأ اسم المتصل لينهض من جانبهم ويبتعد قليلًا ليجيب ، أما حسن فقد اقترب من أذنها هامسًا في خنق :
_ ممكن تبطلي أكل اللب عشان صوته بيعصبني
رمقته ببرود ثم وضعت واحدة بين أسنانها وضغطت عليها لتصدر الصوت الذي يستفزه وغمغمت في أذنه بهدوء مثير للأعصاب :
_ ملكش دعوة مش عاجبك قوم من جمبي
صر على أسنانه ياغتياظ يحاول أن يبدو بمظهر الهادئ وأن يتصنع الثبات ، فانحني للأمام ناحية المنضدة الصغيرة والتقط الصحن من عليها متصنعًا أنه يريد أن يأكل وأسقطه عمدًا على الأرض للتتناثر حبات اللب جميعها على الأرض فتنحني يسر لتلمهم حتى لا يدعس أحد عليهم أحد فتجد هدى تخبرها بعفوية أن تتركهم وأن حارس الحديقة سيأتي بعد قليل وسيقوم بتنظيف الحديقة بأكملها ، لتعود لجلستها الطبيعية وترمق الجالس بجانبها شزرًا وهو لا يبالي لها مطلقًا .
أجاب كرم على الهاتف ليتلقى خبرًا من الحارس الخاص بشفق كان بمثابة الصاعقة التي نزلت عليه ، ويخبره بوضوح أن والدة صديقه قد أخذوها للمستشفى وتوفت نتيجة لغيبوبة سكري مفاجأة والمسكينة ابنتها في حالة يرثي لها وقد اعطوها حقنة مهدئة حتى تتوقف عن الصراخ والبكاء ، فانهي معه الاتصال فورًا وهرول ناحية سيارته ليستقل بها وينطلق وسط نداء أمه عليه التي فزعت من منظره المذعور !!! …..
***
مرت نصف ساعة منذ قدومهم للمنزل وهي كامنة في الغرفة لا يصدر لها صوت وهو بالصالون يجلس على الأريكة ، مستندًا بمرفقه على مسندها الجانبي وكفه على جبهته .
هل كان يستحق مافعلته به !؟ .. لماذا أخفت عليه أنها لا تحبه ولا تريده ؟!! .. هل العبث بالمشاعر مباح بالنسبة لها !؟ .. قبلت أن تكون زوجة له وهي تعرف عواقب هذه الخطأ الذي لا يغفر ! ، ياليته لم يحبها مثلما فعلت هي ، فربما معاناته الآن كانت ستكون أقل .
اعتدل في جلسته وأخذ نفسًا عميقًا بعد أن استعد لمواجهتها وهب واقفًا ثم سار صوب الغرفة التي من المفترض أن تكون غرفتهم !! ، فتح الباب دون أن يطرق ليجدها تجلس على الفراش وكما هي منذ أن دخلت الغرفة لم تنزع حجابها حتى ، فيدخل ويترك الباب مفتوحًا ثم يجلس على المقعد الوثير أمام المرآة وعم الصمت بينهم لدقيقة كاملة وهو يتابعها ويرى قسمات الخوف الممزوجة بالحزن على محياها وهي تطرق رأسها أرضًا ، ليبتسم بسخرية ومرارة عندما فهم مايدور في ذهنها .. هل حقًا تظنه سيثأر منها لكرامته ورجولته التي كسرتها عندما رآها تتحدث مع رجل وتقول له بكل وضوح أنها تحبه هو ولا تحب زوجها !! .. ولكن لديها العذر فهي لم تعرفه جيدًا بعد وإلا لما كان رأى نظرات الخوف في عيناها من أن يرفع يده عليها ويضربها ! .
أصدر زفيرًا قوي سمعته هي جيدًا ثم سمعت صوته القاسي وهو يتحدث بثبات لم تتوقعه منه :
_ أنا مش هطلب منك تفسير على اللي حصل لإني مش عايز أعرف واللي سمعته كفاية أوي ، فأنا عايزك تركزي في اللي هقوله دلوقتي كويس .. كل اللي بينا انتهى واظن إن احنا مش لبعض وإنتي أكيد هتلاقي الشخص اللي يناسبك وتحبيه ، فعشان كدا هعمل حساب لكلام الناس وجوازنا هيستمر لمدة شهر وبعديها هطلقك وكل واحد فينا هيروح لحاله ، لأن أنا مش هقبل إني أعيش مع واحدة عقلها وقلبها مع راجل غيري .. مش هقبل تكوني في حضني وبين إيديا وعقلك مشغول بالتفكير في غيري ، إنتي وافقتي تتجوزيني واستخدمتيني وسيلة عشان تنتقمي من خطيبك السابق اللي إنتي لسا بتحبيه .. وكملتي لغاية ما كتبنا الكتاب ، إنتي عارفة يعني إيه تكوني على ذمة راجل .. يعني قلبك وتفكيرك ميبقاش غير ليه بس واللي إنتي كنتي بتعمليه ميطلقش عليه غير مسمى واحد وهو الخيانة ، وكنتي بتكدبي عليا لما بسألك عن سبب انفصالك بخطيبك
سالت دموعها وهتفت مقاطعة إياه في صوت باكي ونادم محاولة الدفاع عن نفسها المذنبة :
_ أنا مكنــ ……
توقفت حين وجدته يهتف في حزم ونظرات مميتة :
_ أنا لسا مخلصتش كلامي ومش عايز اسمع صوتك نهائي لغاية ما اقول اللي عندي وأقوم
التزمت الصمت فورًا وعادت تجفل نظرها أرضًا مجددًا وتترك العنان لدموعها التي تنهمر بصمت وتستمع له وهو يكمل بنفس نبرته القاسية بل وأشد قسوة :
_ الحياة بينا خلال الشهر دي هتكون بحدود ، كل واحد فينا في أوضة ولو مش حابة تواجهي قسوتي يبقى تجنبيني ومتخلنيش اشوف وشك أبدًا طول ما أنا موجود في البيت ، لإني مش طايق أشوفك أصلًا ولا اسمع صوتك ياملاذ ، واللي حصل ده ياريت محدش يعرف بيه ولا يعرف إننا بعد شهر هنتطلق هنتصرف طبيعي قدام أهلك وأهلي .. مفهوووم
هزت رأسها بالموافقة ودموعها تزداد في الأنهمار ، أما هو فوقف وانصرف متجهًا للغرفة المجاورة ، لتقف هي وتسرع بإغلاق الباب وتنكب على الأرض باكية بعنف ولا تتمكن من التقاط أنفاسها من شدة البكاء ، تقسم له أنها لم تكن تقصد خيانته وتغيرت تمامًا بعدما تزوجته وأصبحت تحاول جاهدة لنزع ذلك العشق المحرم من قلبها لتكون ملكًا له بجميع جوارحها .. ولكن الأمر يحتاج لبعض الوقت ولو اعطاها الفرصة فهي بالتأكيد ستصلح الجرم الذي ارتكبته في حقه وستثبت له أنها تريد أن تكون زوجته هو ولا تريد أن يكون في قلبها رجل غيره ، ولكن للأسف فلا سلطان على القلب !! .
***
كان يقود خطواته الراكضة نحو باب المستشفى حتى استوقفه انتظار الحارس فتوجه إليه وهتف في زعر :
_ حصل إيه يامسعد ؟
أطرق رأسه في أسف وحزن مغمغمًا :
_ أنا كنت تحت عند باب العمارة ومرة واحدة لقيت عربية الإسعاف وقفت وطلعوا على فوق مجاش في بالي إنها هتكون والدة الأنسة شفق نهائي وبعديها بدقايق لقيتهم نازلين وهما شايلنها على النقالة وكانت قاطعة النفس يعني متوفية من قبل ما توصل المستشفى وركبت الأنسة شفق معاها في العربية وأنا جيت وراهم علطول والدكتور بمجرد ما كشف عليها قال إنها متوفية بسبب غيبوبة سكر
مسح على وجهه وهو يتأفف بقلب موجوع ويهتف معنفًا إياه :
_ وإنت متصلتش بيا ليه من وقت ما جات عربية الإسعاف
_ تلفوني كان فاصل شحن واستنيت لغاية مايشحن شوية واتصلت بيك
_ طيب وهي فين دلوقتي ؟
أجابه في خفوت :
_ منتظرين حد يخلص إجرارات الوفاة والخروج عشان تبدأ في تصريحات الدفن ، والأنسة شفق انهارت وادوها حقنة مهدئة وصحبتها جات من حوالي خمس دقايق ومعاها دلوقتي
استقرت في عيناه نظرة مريرة ثم تركه وسار نحو الداخل ببطء ، إلى متى سيستمر في تلقى أخبار وفاة احبائه ، إلى متى سيظل هو من يتولي تصريحات دفنهم ويكون هو أول من يدخلهم لقبرهم .. ذاق العذاب لأول مرة عند وفاة والده ومن بعده زوجته ولحق صديقه بها والآن المرأة التي لطالما أحبها وأعتبرها أمًا ثانية له !! .
جلس على أقرب مقعد وجده أمامه واحني رأسه دافنًا إياها بين راحتي يديه وأعتق دمعة كانت تحارب من أجل السقوط ، كانت تحارب لأجل كل الآلام والأوجاع التي سكنت قلبه بفراق أحبته .. أصبح يخشى العيش أكثر فيشهد فَقد عزيز آخر ! .
بعد مرور دقائق من الصراع والحزن هب واقفًا واتجه نحو الغرفة التي تكمن بها شفق وطرق الباب بهدوء شديد ، ففتحت له نهلة التي كانت عيناها تذرف الدموع بغزارة .. حتى جاءها صوته الضعيف وهو لا ينظر لها :
_ عاملة إيه دلوقتي ؟
غمغمت في صوت باكي :
_ جاتلها حالة انهيار وعصبية بقت تصرخ بطريقة هستيرية أنا مشوفتهاش كدا يوم وفاة سيف ، والممرضات ادوها حقنة مهدئة ولسا نايمة
قال في إيجاز لعدم قدرته على التحدث :
_ طيب خليكي جمبها معلش ومتسبهاش لغاية ما اخلص الإجراءات وكل حاجة
أماءت له بالموافقة وهي تمسح دموعها التي تسقط تلقائيًا حزنًا على صديقتها وأمها ، بينما هو فاستدار وانصرف …..
***
انتهت اجراءات الدفن كاملة وتم العزاء ومر يوم كاملًا ومع فجر اليوم الأول كان ضوء الشروق خافت في السماء والأجواء هادئة تمامًا في الشوارع ، إن قمت بإلقاء أبرة ستسمع صوتها كأنها قطعة حديد سميكة !! .
كان يسير على قدميه وحيدًا واضعًا قبضتيه في جيبي بنطاله ، بعد أن قضى وقته المعتاد مع كل من زوجته وصديقه يشكو لهم همه وألمه ولا تخلو جملة دون أن يبوح بمدى شوقه وتعطشه لمعانقتهم مجددًا ، فقد بدأت الأعباء تثقل وظهره بدأ في الانحناء ولكنه يعافر ولا يقبل الضعف ! .
وصل أخيرًا بعد دقائق طويلة من السير على الأقدام وفتحوا له حراس البوابة الرئيسية الباب ليدخل بهدوء تام ويتجه نحو الأريكة المتوسطة في آخر الحديقة ثم يلقى بجسده عليها ، لتركض التي كانت تقف في شرفتها منتظرة قدومه على أحر من الجمر وبعد لحظات وقفت أمامه ثم انحنت وملست على شعره الغزير مغمغمة في حنو وعتاب رقيق :
_ كرم كنت فين يابني لغاية دلوقتي قلقتني عليك ؟!
فتح عيناه المرهقة وابتسم لها ببساطة ثم التقط كفها وقبَّل باطنه في رقة واعتدل جالسًا لتجلس هي بجواره وتهمس في شفقة :
_ مالك ياكرم ؟!
تطلع إليها بأعين تسبح بها الدموع الموجوعة ثم اقترب والقي بنفسه بين ذراعيها لينعم بحنانها الذي يزيح عن نفسه شقائها ، ويخرج صوته مبحوحًا :
_ تعبان يا أمي تعبان أوي
هطلت دموعها بغزارة حرقة وألم على عزيزها وفلذة كبدها الذي ينهار رويدًا رويدًا أمامها وهتفت بنبرتها الباكية :
_ ليه بتعمل في نفسك كدا ياحبيبي .. كفاية يابني ابوس إيدك !
وجدته يهتف في ابتسامة تحمل كل أصناف الشقاء :
_ الموت مخدش مني غير اللي بحبهم ، وبقيت بفكر ياترى الدور على مين تاني ، وبتمني يكون عليا أنا عشان ارتاح
عنفته بشدة من وسط بكائها الذي اشتد :
_ بعد الشر عليك .. لو حصتلك حاجة هتلاقيني وراك أنا مستحملش أشوف فيك شر إنت وإخواتك ، أنا حاسة بيك بس حزنك مش هيفيدهم بحاجة ادعيلهم وبص لحياتك ولنفسك ياحبيبي
غمغم في مرارة وأسى :
_ سيف سابلي أمانة تقيلة أوي وخايف مكونش قدها واضيع الأمانة ، أروى برضوا كانت أمانة وضيعتها ومحافظتش على الأمانة .. في اليوم ده فضلت ترن عليا عشان تقولي إنها طالعة ورايحة فين وأنا مردتش عليها .. ليه ؟! ، عشان كنت في اجتماع .. أنا فضلت الشغل عليها وهي راحت !!! ، وراحت بأبشع الطرق وسابت نار جوايا مش هتتطفي غير لما أخد حقها
_ ربنا يرحمها ياحبيبي ، هي في مكان أحسن منينا
غمغم في صوت يغلبه البكاء :
_ وحشتني أوي يا أمي
جففت دموعها وحاولت امساكهم حتى لا يسقطوا مجددًا ، ثم أخذت تملس على شعره كما كانت تفعل في صغره .. فشعره نقطة ضعفه يهدأ وسسكن تمامًا عندما يلامسه أحد .
مرت دقائق قليلة وهي لا تزال تملس عليه بحنو حتى خرج صوتها مهتمًا :
_ شفق عاملة إيه دلوقتي ؟
ابتعد عنها ومسح على وجهه مغمغمًا بأسى وإشفاق على تلك المسكينة :
_ عدى يوم وداخلين في التاني أهو ولسا زي ما هي مبتتكلمش والأكل صحبتها بتخليها تاكله بالعافية دخلت ليها النهردا حاولت اتكلم معاها وهي كأنها مش عايشة ومش سمعاني ومبصتش عليا حتى
تنهدت هدى في حزن وشفقة وقالت بقسمات وجه متأثرة :
_ ربنا يصبرها ، الصراحة كتر خيرها .. البنت لسا مفاقتش من موت أخوها ودلوقتي أمها وهي ملهاش غيرهم ، إلا صح ياكرم هي ملهاش عم أو خال أو أي حد ؟
_ أمها كانت وحيدة أبوها وأمها وأبوها معاه أخ وفي مشاكل كبيرة أوي بينهم وعايشين برا وحتى لما مات ابن اخوه مهنش عليه ياجي يحضر العزا ، ربنا يصلح الحال .. أنا هستني الصبح يطلع وهغير هدومي وهروح أجيبها من المستشفى وأخليها تاجي تقعد هنا معانا مش هقدر أسيبها وحدها في البيت
ابتسامة خبيثة داخلية انطلقت في نفس هدى ، ولكنها اخفتها مم الظهور على شفتيها وقالت بإذعان لرغبته في جلبها للعيش معهم :
_ أعمل اللي تشوفه صح يابني
***
داخل شركة عائلة العمايري بعد ساعات ليست بقليلة ……..
كانت يسر في مكتبها وبيدها كوب الشاي الدافىء الصباحي الخاص بها ، وترتشف منه ببطء وهي تقف أمام النافذة تشاهد الداخل والخارج للشركة من نافذتها ، فإذا بنظرها يقع على المدعوة بـ ” رحمة ” وهي تسير صوب الباب مسرعة ، لتبتسم بسخرية امتزجت باللؤم وهي تهمس في نظرات شيطانية :
_ أدخلي ادخلي ياعمري .. ده أنا كنت مستنياكي !
ثم وضعت كوب الشاي على المنضدة وهندمت من ملابسها وتنصب جسدها لتقف شامخة ثم اندفعت للخارج متجهة نحو مكتب زوجها ، وقبل أن تدخل وقفت تتحدث للسكارتيرة في جدية مغمغمة :
_ ميرنا ، البنت اللي اسمها رحمة طالعة لما توصل اديني رنة وخليها تدخل علطول وادخلي وراها وقولي إنها دخلت بالغصب فاهمة
أماءت لها في إيجاب بابتسامة عذبة ، بينما هي فتوجهت نحو الباب وفتحته دون أن تطرق ودخلت لتجده يقف أمام الزجاج الشفاف ويولي ظهره للباب ، فأغلقت الباب ببطء واقتربت له بعد أن التقطت حبة عنب من الصحن الموضوع على المنضدة المتوسطة في نصف المكتب ، فسمعت صوته المختنق يهتف دون أن يستدير نحوها :
_ كان المفروض امنعك من الشغل مش هتبقى في البيت والشركة
اقتربت منه وعانقته من الخلف مغمغمة في دلال :
_ اخص عليك ياحسن !! .. على فكرة إنت بتجرح مشاعري !!
قبض على ذراعيها الملتفين حول خصره وازاحهم بهدوء وهو يستدير له هاتفًا في استهزاء :
_ إيه ده هو إنتي عندك دم !! ، أنا كنت فاكرك عديمة الإحساس
لفت ذراعيها حول رقبته ورسمت ابتسامة صفراء على شفتيها وهي تجز على اسنانها وتجيبه بغيظ مكتوم :
_ دمك شربات يابيبي !
لف ذراعه حول خصرها وقال في نظرة وقحة وكلمات قاصدًا منها أن يثير غضبها التي تحاول كبحه أمامه :
_ إللي يشوفك وإنتي عمالة تتدلعي كدا عليا ميشوفكيش يوم الفرح لما فضلتي تتوسليني عشان ملمسكيش ، لو غيرتي رأيك يبقي وفري الدلع ده لما نروح البيت ، بس خليكي فاكرة إن مهما تعملي مش هتقدري تغيري نظرتي ليكي
سمعت رنة هاتفها في جيبها ، فتحكمت في أعصابها وابتلعت كلامته المهينة في جوفها حتى لا تفسد خطتها وزادت من اتساع ابتسامتها المزيفة ثم قربت رأسها منه وطبعت قبلة رقيقة على وجنته وهمست بالقرب من أذنه في ثقة تامة :
_هنشوف !!
وكما خططت فتحت رحمة الباب وهي تبتسم باتساع وسعادة غامرة ولكنها تسمرت بأرضها عندما رأته في هذا الوضع مع زوجته التي كان يخبرها بالأمس أنه لا يحبها وسيطلقها !! ، لتتصنع يسر الانتفاض وتلتفت لها صائحة في غضب مزيف ومكر :
_ إيه ده إنتي ازاي تدخلي كدا ؟!
نظرت إلى ميرنا الواقفة خلفها واكملت صياحها المزيف بنظرات استطاعت فهمها :
_ إزاي تسمحيلها تدخل
تصنعت الأخرى الأسف وقالت :
_ أنا آسفة يايسر هانم مقدرتش امنعها
نظر حسن لميرنا وأشار لها بعيناه أن تنصرف ففعلت على الفور ثم عاد بنظره لرحمة هاتفًا في نفاذ صبر :
_ إيه اللي جابك تاني ؟!
صاحت رحمة في بكاء وحرقة :
_ إنت مش كلمتني إمبارح بليل وقولتلي إنك سامحتني خلاص وإنك بتحبني و هتطلق مراتك عشان مش بتحبها .. هي دي اللي مش بتحبها !!
طالعها بدهشة فهو لم يذكر أنها تحدث معها أبدًا ، أما يسر فقد بدأت تظهر عن مخالبها خاصة أنها تذكر هذه المحادثة جيدًا ، عندما عاد للمنزل بالأمس وهو ثملًا وقد سمعته وهو يحدثها بالهاتف ويخبرها بمدى عشقه لها وأنا سيطلقها وسيتزوجها تحت عبارة تافهة ” لإني بحبك ” ، تبًا لك ولحبك الساذج هذا .. فاقسمت بأن تذيقه من نفس الكأس الذي يجبرها على ابتلاع ما به من جفاء ولكن عندما يحين الوقت المناسب .
هتف وهو يضحك بسخرية :
_ أنا قولتلك كدا !! .. أنا مش فاكر إني قولت حاجة زي دي أبدًا وحتى لو قولتها فهي أكيد مش حقيقة
همت بأن تجيب عليه ولكنها وجدت قبضة يسر تقبض بعنف على ذراعها وتسحبها معها للخارج ، فلم يحاول أن يمنع زوجته بل تركها لتفعل بها ما تشاء فتلك الساقطة تستحق كل شيء حتى ولو كان يزال يضمر لها القليل من العشق في قلبه .
زجت بها يسر داخل المصعد وقالت في نظرات نارية ومتقدة تحمل التهديد :
_ أظن شوفتي وادركتي إنه بيحبني أنا وإني مراته وهفضل لغاية آخر نفس فيه مراته ، فإنتي زي الشاطرة كدا هتبعدي عن جوزي وهتبطلي تحومي حواليه وإلا هتشوفي مني حاجة مش هتعجبك ، ومتنسيش إنه معرفش غير نص حقيقتك فاحترمي نفسك وابعدي بكرامتك ، ده آخر تحذير ليكي يارحمة إنتي متعرفنيش لسا فتجنبي غضبي أحسن
ثم ضغطت على زر المصعد لكي يعود بها للدور الأرضي وطالعتها شزرًا والباب ينغلق ببطء ثم التفتت وعادت لمكتبها وهي تستشيط من الاستياء والازدراء وتهمس :
_ قال يطلقني ، دي نجوم السما اقربلكم !!
***
انتهى من ارتداء ملابسه التي هي عبارة عن بنطال أسود وقميص رصاصي اللون ويعلوه سترته السوداء ، وقف أمام المرآة وصفصف شعره جيدًا ثم وضع مفاتيحه وهاتفه في جيبه وهم بالانصراف
ولكنه توقف عندما خطرت على ذهنه ، من أين أتى قلبه بكل هذه القسوة ليترك المسكينة حبيسة غرفتها منذ ليلة الزفاف ، مر يوم وليلة واليوم هو اليوم الثاني لهم ولم يراها سوى مرة واحدة وكأن كل منهم يعيش في منزل منفصل وليس الغرف فقط !!! .. انتابه القلق والخوف عليها من أن يكون قد أصابها مكروه فهي لم تخرج من غرفتها مطلقًا ولا يسمع لها نفس حتى ، هو من اختار أن يستمر زواجهم لشهر كاملًا ويجب عليه أن يحكم بينهم بالعدل ولا يترك جموحه يسيطر عليه ، لابد من الاعتناء بها قليلًا حتى لو كانت لا تستحق اعتنائه .
خرج من غرفته وكانت وجهته الأولى نحو المطبخ فتش في الثلاجة عن الطعام الذي أحضره صباح الأمس فوجده كما هو لم يلمس حتى ليتأفف بمفاذ صبر مرددًا ” استغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيم وأتوب إليه ” ، هذه الحمقاء على الغالب تود أن تموت من عدم الأكل !! .
تحرك صوب غرفتها وفتح الباب على مصراعيه ، لتنتفض هي واقفة مطأطأة رأسها أرضًا من على الأريكة التي كانت تجلس عليها وتضم ساقيها لصدرها متفردة بعنائها وشقائها ، شعرت به يقف أمامها مباشرة ويهتف في صوت غاضب :
_ وآخر ما تحبسي نفسك هنا ومتاكليش هيحصل إيه ولا هيتغير إيه يعني !
كانت لا تجرؤ على رفع عيناها والنظر إليه فما كان منها إلا أنها أغمضت عيناها وعضت على شفتها السفلى في مرارة ، وتسمعه يكمل في صرامة :
_ مكالتيش حاجة من إمبارح صح !!؟
هزت رأسها بالإيجاب وهي تحاول الإمساك على دموعها التي تقيم الحرب عند جفنيها لتنل حريتها وتسقط ، ليأتيها سؤاله الثاني في ترقب ولكنه لم يكن يقصد به عدم تناولها للطعام أبدًا :
_ ليه ؟!
لم تجبه وظلت على حالها تنظر للأرض في صمت وإذا بها تشعر بقبضتيه على ذراعيها ويهزها بقوة هاتفًا في أعين تعاني من ألم الخيانة والعشق :
_ بصيلي وردي عليا .. ليه ؟! .. ليه عملتي فيا كدا أنا عملتلك إيه ! ، ده أنا كنت مستعد اعيشك عيشة الملوك ، كنتي شيفاني مغفل للدرجة دي ! ، لدرجة إنك هتدخلي بيتي وتنامي معايا في نفس السرير ومش هحس ولا هشك فيكي ، كنت مسيري هعرف بس ربنا أراد إني أعرف قبل ما يفوت الآوان
انفجرت باكية ورفعت نظرها إليه أخيرًا وهي تهتف بصوت مرتجف :
_ صدقني ما كانت في نيتي إني أخدعك أو أخونك بمجرد إني أقبل أكون على ذمتك وأنا بفكر في راجل غيرك ، أنا مش هنكر إني غلطت بس والله العظيم بعد ما كتبنا الكتاب أنا خدت عهد على نفسي إني هعمل المستحيل وهشيله من عقلي وهكون ليك بكل جوارحي ، أنا مكسوفة ما أرفع عيني في عينك لإني معترفة بغلطي
تركها وهدر ضاحكًا بسخرية وجفاء :
_ عارفة أنا كنت بحبك وبحترمك وبعزك بس أتضح إنك متستهليش المشاعر النقية دي ، وحتى لو حصل في يوم وسامحتك عمرك ما هتقدري تسترجعي المشاعر دي
ثم استدار واتجه ناحية الباب مغادرًا وتوقف قبل أن ينصرف هاتفًا في حدة :
_ مش عايز ارجع بليل الاقي الأكل في التلاجة زي ماهو .. كلي مش هتعاقبي نفسك بعدم الأكل !
قال آخر كلماته واندفع مغادرًا المنزل بأكمله لتنهار هي على الأرض باكية بعنف ولا تعرف كيف تتصرف في هذه المعضلة ، كيف يمكنها أن تستعيد ثقته بها وتجعله يسامحها ! .. فهي إن لم تمت من عدم الأكل فسيقتلها تأنيب ضميرها وشعورها بفداحة الذنب والخطأ الذي ارتكبته في حق نفسها وحقه ، لم تكن تود أن تصل الأمور لهذا المنحني أبدًا ! .. كانت ستعيش معه حياة ستشكلها بنفسها وكانت ستجاهد وتسعى لإزالة هذا العشق المحرم والمدنث من قلبها وتعلنه هو سلطانها الجديد ورئيس قلبها الأبدي لأنها تدرك قيمة الفرصة التي ارسلها الله لها وإن لم تكن تدركها كما يقول فما كان حالها هكذا الآن وهي تشعر بأنها خسرت فرصة ذهبية لن تعوض !! .
***
انتظر بالخارج لحظات وهو يبتسم براحة بسيطة فقد هدأت نفسه قليلًا عندما اخبرته صديقتها بأنها أخيرًا تحدثت ووضعها النفسي تحسن بعض الشيء ، خرجت مي من الغرفة وأشارت له بعيناها أن يدخل لها بعد ان طلب منها أن تخبرها بأنه بالخارج ويريد رؤيتها ، ففتح الباب ببطء ودخل بينما مي فذهبت للحمام .
جلب هو مقعد وجلس على مسافة معقولة منها مغمغمًا في ابتسامة رقيقة :
_ عاملة إيه دلوقتي ؟
غمغمت في أعين تائهة دون أن تنظر له :
_ الحمدلله كويسة
ساد الصمت لثوانٍ قليلة قبل أن تهمس في امتنان صادق :
_ شكرًا ياكرم على وقفتك جمبي ، أنا مش عارفة هوفيلك حق كل اللي عملته معانا ومعايا أنا بذات إزاي
هتف في نظرة دافئة وابتسامة شفتيه الساحرة تزين وجهه :
_ مفيش شكر بين الاخوات ياشفق ، ده واجبي !
هزت رأسها بالإيجاب وهي تبتسم بمرارة وألم ، يبدو أنها يجب عليها أن تكون نظرتها له أخوية فقط !! .
غمغمت في خفوت بابتسامة مزيفة :
_ أيوة مفيش شكر فعلًا بس إنت تستحق الشكر
_ طيب يلا جهزي نفسك عشان هتاجي تقعدي معايا في الڤيلا
نظرت له بذهول تحاول استيعاب ما سمعته أذنيها ! ، فلم تمر دقيقة وهي تقول أنها يجب أن تنظر له كأخ وهو يريدها الآن أن تقيم معهم في منزلهم وتعيش في نفس المنزل معه لتراه دائمًا أمامها في الصباح والمساء .. مستحيييل ! .
همست في صوت ضعيف :
_ لا لا أنا هقعد في بيتنا
تشدق في جدية تامة :
_ مينفعش ياشفق تقعدي وحدك في البيت
_ مش هقدر اسيب بيتنا ياكرم بجد .. متقلقش عليا هبقى كويسة إن شاء الله
قال بنبرة صوت خشنة :
_ متبقيش عنيدة واسمعي الكلام
تمتمت في بساطة شديدة :
_ مش موضوع عند والله بس أنا هبقى مرتاحة أكتر لما أقعد في بيتنا صدقني .. ارجوك بلاش تضغط عليا وسيبني على راحتي وأنا لو حصلت أي حاجة اوعدك هتصل بيك والله
لانت نبرته وقال في لطف وهو يهم بالنهوض :
_ طيب هسيبك على راحتك .. بس برضوا قومي يلا البسي عشان اوصلك البيت وأنا هستناكي برا
_ حاضر
قالتها في رقة وهي تقابل لطفه بابتسامة ناعمة على شفتيها الصغيرة وانتظرت انصرافه لتنهض من فراشها وتبدأ في تبديل ملابسها !! …..
***
…..في المساء …..
كان يقود سيارته بسرعة جنونية ولا يطيق الانتظار حتى يصل للمنزل لكي يطبق على حنجرتها ويخنقها ويتخلص منها للأبد ، تلك الشيطانة التي دمرت كل شيء بحياته .. فرقت بينه وبين الفتاة التي أحبها وجعلته يضطر للزواج منها ، والآن تغلي الدماء في عروقه كلما يتذكر ما روته له رحمة منذ قليل عندما اتصلت به وتوسلته أن يأتي لمنزلها لكي تخبره بشيء مهم يخص زوجته !! .
” مراتك هي اللي كانت السبب في اللي حصل بينا ، دلوقتي بس عرفت إنها هي اللي ورا كل حاجة ، أنا متجوزتش برضايا زي ما إنت فاهم أنا كنت مضطرة هددني إني لو متجوزتهوش هيأذي اخويا الصغير واتضح إن يسر هي اللي كانت مخططة لده كله ، ودلوقتي لما لقتني بحاول اقرب منك تاني هي اللي هددتني المرة دي بإنها هتأذيني وهتاذي اخويا ، دي شيطانة ياحسن صدقني ! ”
توقفت سيارته أمام المنزل وقاد خطواته الثائرة نحو الباب وفتحه بالمفتاح ليدخل ويغلقه خلفه بعنف صائحًا عليها :
_ يــــــــســــــــر !!!
توقفت سيارته أمام المنزل وقاد خطواته الثائرة نحو الباب وفتحه بالمفتاح ليدخل ويغلقه خلفه بعنف صائحًا عليها :
_ يــــــــســــــــر !!!
كانت تشاهد التلفاز وانتفضت جالسة بفزع على أثر صياحه وفورًا وثبت واقفة وقبل أن تخطو خطوة من مكانها وجدته يتقدم نحوها ويغرس أصابعه بعنف في ذراعها صائحًا :
_ إنت إيه .. شيطانة ! ، أنا كنت متوقع إنه هيكون ليكي إيد في اللي حصل بيني وبين رحمة لكن توصل بيكي الحقارة إنك تهدديها بأخوها الصغير اللي ملهوش ذنب وتبعتيلها واحد عشان تتجوزه بالغصب
أخذت ترمش بعيناها بذهول مما تسمعه منه وسرعان ما انطلقت منها ضحكة أنوثية مرتفعة وهي تشير إلى نفسها بسبابتها :
_ أنا هددتها بأخوها !!!!
استمرت بالضحك وهي تراه يشتعل واقفًا من الغضب وبعد ثانية بظبط توقفت عن الضحك واكتفت بابتسامة شرسة وهي تهتف :
_ أنا فعلًا هددتها ، بس هددتها بحاجة هي مش هتقدر تقولها ليك .. أنا مصدومة فيك كنت متوقعاك أذكي من كدا طلعت طيب لدرجة السذاجة وغبي عشان بكلمتين صدقتها
_ ومصدقهاش ليه ما أنا اتوقع منك أي حاجة !
دفعت يده عنها بعنف وصاحت به بنبرة صوت مرتفعة وقد وصلت لذروة سخطها :
_ أنا مش بخاف منك ولو عملت كدا هقولك في وشك أيوة أنا عملت ، لكن دي بنت **** ، كلبة فلوس وبعدين جواز إيه اللي اتغصبت عليه ضحكتني والله ، أنا فعلًا أنا اللي بعتلها الراجل ده ، وجوزها ده كان معرفة قديمة من أيام الكلية ومن عيلة كبيرة زينا بظبط وعشان هي قذرة وبتموت في الفلوس لما عرض عليها الجواز وقالها هيكتبلها الڤيلا اللي هيعيشوا فيها باسمها وهجيبلها عربية وهيديها اسهم في الشركة بتعتهم باعتك فورًا ، لازم تبيعك مش الموضوع فيه فلوس وأملاك ، هي كانت طمعانة في فلوسنا ولما لقت فرصة افضل منك باعتك ، وإنت بكل غباء قالتلك كلمتين وصدقتهم ، تقدر تقولي لو هو هددها فعلًا ليه مجاتش وقالتلك الحقني ياحسن وده عايز يأذيني أنا وأخويا ، مقالتش ليك عارف ليه ؟ ……
توقفت عن الكلام للحظات تعيد لملمة شتات قلبها الممزق والسيطرة على دموعها السابحة في عيونها ثم عادت تستكمل صياحها به بحرقة :
_ عشان هي أصلًا عمرها ماحبتك ، وإنت كنت دايب فيها ويمكن مازالت ، هي باعتك في أول محطة ولسا بتحبها ويسر هتفضل وحشة لو قتلت نفسها عشانك ، إنت مبتفكرش حتى تحاول تعاملني كويس وكرهك ليا مخليك أعمي .. أعمي عن أي حاجة حلوة بعملها عشانك .. مخليك مش شايف غير عيوبي ، وبنسبالك يسر قذرة وحيوانة وبتتكلم عن العشق وهي متعرفش يعني إيه عشق ، اللي لسا بتحبها دي تخلت عنك رغم كل اللي عملته عشانها وأنا رغم كل حاجة لسا متمسكة بيك وحبي ليك بيزيد مش بيقل ، رغم معاملتك واهانتك وكلامك اللي مفيش واحدة تستحمله لسا زي ما أنا بحبك وللأسف مش عارفة أكرهك وأحيانًا بتمنى إني أكرهك بجد ، ومش بعيد في يوم من الأيام أكرهك ووقتها هباركلك على الفوز العظيم اللي حقته ده وهقولك إنت اللي انتصرت
دفعته بعنف من أمامها لتعبر وتتجه نحو غرفتها وتغلق الباب على نفسها مطلقة حرية دموعها تسمح لهم بالانهمار بقوة !! ….
***
مذنبة !! .. هي لا تحتاج لأحد لكي يذكرها بأنها مذنبة هي تعرف حق المعرفة أنها اخطأت ويجب أن تدفع الثمن أي كان ، ولكن ماذا إن اختارت هي الطريقة التي تعاقب بها فهناك عقاب يحتمل وآخر لا يحتمل !! .
ربما لم يتمكن من اعتلاء عرش قلبها حتى الآن ولكنه بالتأكيد نجح في تثبيت وسامه في مكان ما بداخلها .. ولا يفشل في أن يزيد كل يوم مكانة وشأن في نظرها .. لا يفشل في كل مرة أن يجعلها تصمم على عدم خسارته حتى لو كانت تعرف أنها ستعاني قليلًا معه ، ولكنها على اعتقاد تام بأن سيأتي يوم وستعلن عهد السلطان الجديد على مملكتها الخاصة ولا سيما في أنها ستحارب من أجل الوصول لهذا اليوم ! ، هي مازالت لا تعشقه ولكنها أيضًا لا تكرهه بل تكن له كامل الود والاحترام .
هو لديه الحق فيما قاله صباحًا إضرابها عن الطعام لن يجدي بأي نفع عليها ، لن تستفاد شيء عندما تسجن نفسها بين أربعة حوائط وتزج بنفسها بين طيات الحزن ، بل يجب عليها أن تتصرف كالنساء وتحمي عشها من الانهيار حتى ولو كان هذا العش تم بنائه على الكذب والخداع فهي بإمكانها أن تعيد بنائه بالثقة والعشق والرحمة والرفق .. بإمكانها أن تحول العش لقصر منيع لا تهدمه حتى أقوي الرياح المدمرة ، وسيكون ثابتًا كالجبال في وجه كل الظروف ، ولكنها تحتاج لمزيد من الشجاعة والثقة بالنفس حتى تتمكن من النجاح وإصلاح ما أفسدته ، ولتثبت له أنها لا تريد ذلك العشق الذي كان يحتلها وتريده هو .. أجل كان ! ، الآن هي تشعر بنفسها طائر حر طليق وتركوه حرًا ولكن تركو بيده الإغلال ، أي أنها لا زالت تحمل آثار الماضي وذلك العشق ولكنها ستلوذ للشخص المناسب وسيفك عنها هذه الإغلال التي باتت تخنقها.
الآن هي يجب عليها أن تعمل بنصيحة صديقتها وتحاول التقرب منه .
نهضت من فراشها واتجهت للحمام لتأخذ حمامًا دافىء ثم خرجت وارتدت ملابس منزلية جميلة ورقيقة وصفصفت شعرها جيدًا ثم تركته حرًا وغادرت غرفتها متجهة نحو المطبخ وقامت بتحضير عشاء قيم يكفي لفردين وبعد دقائق طويلة انتهت وقادت خطواتها المترددة نحو غرفته ، وقفت أمام الباب للحظات تفرك كفيها بتوتر تحاول استجماع شجاعتها للتحدث إليه ، أخذت شهقيًا وأخرجته زفيرًا متمهلًا ببطء لثلاث مرات حتى حسمت امرها وطرقت الباب منتظرة منه الرد ولكنه لا يجيب فعادت تطرق مجددًا ولا يأتيها صوته أيضًا ، فقبضت على مقبض الباب تديره ببطء وتفتح الباب بحذر شديد لتنظر بنصف وجهها من الباب فتجده راكعًا على سجادة الصلاة يقضى فرضه ، فابتلعت ريقها بارتباك وفتحت الباب جيدًا ثم أهلت منه ووقفت بجانبه تنتظر إنتهائه ، وبعد لحظات قليلة انتهي ونظر لها بريبة مغمغمًا :
_ في إيه ؟!
تلعثمت ولفت ذراعيها خلفه ظهرها لتعيد فرك كفيها بتوتر هامسة :
_ أنا حضرت العشا
هب واقفًا والتقط المصلاة من على الأرض ويجيبها ببرود وهو يطويها :
_ بالهنا والشفا
اقتربت نحوه في خطا متعثرة ووقفت خلفه تهدر برقة وأعين راجية :
_ تعالى اتعشى معايا أنا مش بحب اكل وحدي .. ممكن ؟!
القى بالمصلاة على الفراش ثم التفت بجسده كاملًا وهتف في حزم وامتعاض :
_ لا مش ممكن
ثم هم بأن يعبر من جانبها لينصرف فاعترت طريقه ووقفت أمامه مباشرة تطالعه بنظرات استعطاف وتهمس في توسل :
_ متكسفنيش .. ارجوك
ساد الصمت بينهم للثواني حتى وجدته يقول في خشونة دون أن يتخلي عن وجوم وجهه :
_ طيب روحي وهاجي وراكي
ارتفعت الابتسامة لشفتيها وأماءت فورًا في موافقة وانصرفت متجهة لطاولة الطعام المتوسطة ، تجلس على أحد مقاعدها بانتظار قدومه دون أن تمد يدها في أي صحن ، وإذا بها تجده يقترب ويسحب المقعد الذي في مقدمة الطاولة ويجلس ثم يبدأ في تناول الطعام وهي تنظر له بحزن تحاول جمع بعض الكلمات لتقولها ، وأخيرًا تحدثت بأسف وهي مجفلة نظرها أرضًا :
_ أنا .. غلطانة وأنا مش بلومك على أي حاجة قولتها وعملتها أو هتعملها وهتقولها ، لإنك عندك حق أنا مكنتش قد الثقة وخنتها أنا كنت بتكلم دايمًا وبقول إن مفيش علاقة بتكمل لو مفيهاش ثقة والعشق بنسبالي ثقة ، وأنا خنت نفسي قبل ما أخون ثقتك فيا .. أنا مش هطلب منك تسامحني لإني عارفة إنه صعب بل شبه مستحيل دلوقتي ، بس كل اللي هطلبه منك أنك تديني فرصة تانية أثبتلك إني ندمانة على اللي عملته وإني عايزاك إنت
ترك المعلقة من يده وهو يضحك بسخرية ويهتف في نظرة مشتعلة :
_ آااه اللي هو أنا بحب راجل غيرك بس عايزاك إنت !! ، أنا اديتك فرصة وإنت ضيعتيها وأهدرتيها من غير ما تدركي قيمتها وللأسف أنا مش بدي غير فرصة واحدة ومعنديش فرص تاني
قالت في صوت مبحوح وأعين دامعة :
_ مش عايزة أحبه أنا بكرهه ومبقتش بطيق اشوف وشه أصلا يعني اعتبرني خلاص مبقتش احبه ، أنا عاوزة أكمل حياتي معاك إنت يازين
أخذ نفسًا عميقًا وغمغم في قسوة :
_ إنتي لسا قايلة إن مفيش علاقة مفيهاش ثقة بتستمر ، وأنا مبقتش أثق فيكي ومش قادر اصدقك ، فمتحاوليش في حاجة أساسًا انتهت بنسبالي
سقطت دمعة متمردة من عيناها فاسرعت ومسحتها بأناملها ثم هبت واقفة وقالت بصوت يغلبه البكاء :
_ بالعكس دي لسا هتبدأ وأنا مش هيّأس ومش هرتاح غير لما اخليك تسامحني
ثم ابتعدت وقادت خطواتها السريعة نحو غرفتها ، فالتفت برأسه ناحية باب الغرفة الذي اغلقته خلفها وتنهد باختناق ثم عاد ينظر للطعام الذي أمامه بدون شهية وهب هو الآخر واقفًا ينقل الصحون للمطبخ ويضعها بالثلاجة ثم توجه بدوره لغرفته !! ….
***
كانت تسير في الشارع عائدة من الكلية في صباح شمسه دافئة تبعث الدفء والراحة في الجسد مع رياح الشتاء الباردة ، تضم كتاب ضخمًا إلى صدرها بذراعها اليسار وعلى الذراع الآخر حقيبة يدها المتوسطة ، وبينما هي في طريقها تسير مباشرة دون أن تتلفت حولها ، استمعت إلى من ينده عليها كأنها قطة ( بالبسبسة ) ! فالقت نظرة بطرف عيناها لتجدها سيارة ولكنها لم ترى وجه من يقودها فظنت أنه شاب منحل من الشباب الذين يغازلن الفتيات في الشوارع لتسرع في سيرها حتى تتفاده ولكنها توقفت حين سمعته يهتف باغتياظ :
_ بت يارفيف !!
قطبت حاجبيها واحست بأن الصوت مألوف عليها ، وفورًا التفتت تنظر له وأذا بها تصدر تأففًا قوي :
_ والله وقعت قلبي في رجليا ياخي حرام عليك
ابتسم ثم مد يده وفتح باب السيارة هاتفًا :
_ اركبي ياختي
استقلت بجواره واغلقت الباب لينطلق هو بالسيارة ويهتف مستنكرًا :
_ عرفتيني اول ما قولت يابت .. صحيح مبتجيش غير بالتهزيق !
امسكت بالكتاب الذي في يدها ورفعته في وجهه قائلة في تحذير باغتياظ :
_ علاء اتلم بدل ما تلاقي الكتاب ده نازل على دماغك واخليك تدخل في غيبوبة
كان عين على الطريق وعين على الكتاب الذي بيدها وهو يضحك مغمغمًا :
_ ده يفتح راسي مش يدخلني في غيبوبة ، اعوذ بالله بيتذاكر إزاي ده !!
اشاحت بوجهه للجهة الأخرى تخفي ابتسامتها ثم عادت له وقالت في استهزاء :
_ طبعًا هتعرف بيتذاكر ازاي ما تلاقيك مكنتش بتفتح كتاب في الكلية
_ طاب وليه الإحراج ده يابنت عمي بس !!
اطلقت ضحكة بسيطة لتجده يكمل في جدية بخفوت :
_عاملة إيه إنتي ؟
_ الحمدلله كويسة ، لقيت شغل وحاولت اقنع ماما وزين بس رافضين
هتف في صوت رجولي قوي :
_ شغل إيه دلوقتي بس يارفيف مش لما تخلصي كليتك الأول على الأقل
اعتدلت في جلستها وهتفت محاولة اقناعه :
_ أنا زهقت من قعدة البيت ياعلاء وخلاص أنا فاضلي ترم وأخلص وهاخد الشهادة وهشتغل بيها وماما كل اللي عليها تشتغلي ليه وفين وزين إنت عارفه دماغه قفل مفيش شغل .. طيب السبب ، من غير سبب طالما إنتي مش محتاجة للشغل يبقى ملوش لزمة ، ده حتى كرم بيقولي لا .. وحسن اللي بينصفني في كل حاجة يقولي الدنيا مش آمان وإنتي لسا صغيرة !! ، يعني هو عندي أنا لا وعند مراته تشتغل عادي
اطلق ضحكة قوية وأجابها ببساطة :
_ يسر بتشتغل ليها خمس في الشركة معانا وبعدين دي قدام عينا يعني مع ابوها ومعايا
_ وأنا كمان عايزة اشتغل في الشركة ، ولا عشان يسر محدش بيقدر عليها وبتفرض كلمتها عليكم مش بتقدروا ترفضوا ليها طلب
قالتها وهي تعقد ذراعيها أمام صدرها باحتجاج ليجيبها ضاحكًا برزانة :
_ خلاص هكلم بابا وأقوله اخليه يقنع زين واخواتك وتشرفي معانا في الشركة
اشرق وجهها بابتسامة عريضة وأردفت بسعادة :
_ بجد ياعلاء هتقول لعمي !
رمقها بطرف عينه غامزًا بابتسامة وهو يهتف :
_ أممممم وهو احنا عندما كام رفيف في العيلة
رجعت بظهرها على المقعد وهي تقول بتحمس :
_ مع إني مش حابة الشركة بس يلا أهو امري لله هبدأ منها
القي نظرة عليها مبتسمًا ثم عاد بنظره للطريق يقود السيارة متجهًا إلى منزل عمه ، بينما هي فأخرجت هاتفها واخذت تعبث به تارة وتارة تتابع الطريق في صمت !! …….
***
جاثية أمام قبر والدتها تتلمس بيدها التراب المدفونة اسفله ودموعها لا تتوقف للحظة عن البكاء .. تذرف الدموع كأنها دماء من شدة ألمها وحزنها ، بقيت بلا أب ولا أم ولا أخ .. لم يعد هناك شيء يدعى أهل ، ستحرم من الدفء والحنان والعناية والسعادة وكل شيء ، ستكون حبيسة شجونها والآمها إلى الأبد ، وستظل تعاني ألم الفراق حتى تخرج روحها وتذهب لهم !! .
كان الحارس الخاص بها يقف على مسافة بعيدة قليلًا عنها ليترك لها حريتها في إفراغ ما يخنق نفسها ، فشعر بيد توضع على كتفه ليلتفت ويجده كرم ، فيبتسم في هدوء ويبادله هو الإبتسامة مربتًا على كتفه يسمح له بالذهاب ، فأماء له بالموافقة واستدار وسار مبتعدًا مغادرًا المكان بأكمله أما هو فحمل دلو الماء الصغير واقترب ناحيتها ثم وقف خلفها بمسافة قصيرة واسنده على الأرض ورفع كفيه لأعلى يبدأ في قراءة سورة الفاتحة بصوت منخفض ثم حمله مجددًا واتجه به نحو زرعة الصبار الصغيرة بجانب قبرها وقام بسقيها بالماء ، لتنتبه هي له وتنتفض واقفة لتنفض عن ملابسها السوداء الأتربة هاتفة باستعجاب :
_ عرفت إزاي إني هنا ؟!
وضع الدلو على الأرض بعد أن فرغ من الماء وغمغم في خفوت جميل :
_ مسعد اتصل بيا وقالي ، وحتى لو مكنش قالي أنا باجي كل يوم هنا بزور سيف وأروى
نسيَّت أن ذلك الحارس لا يتأخر في إخباره بأي مكان تذهب له ، ولكن لم تعد تهتم فليخبره كما يشاء وليؤدي مهتمه على أكمل وجه ، فبؤسها الآن أشد من أن تنشغل بأمره .
لاحت ابتسامة شبه خفية على شفتيها وعادت تحدق بقبر والدتها تدعو لها في صوت لا يسمع بأدعية خاصة بالمتوفي ودموعها تسقط من حفنيها في صمت ، ولتمر دقائق قصيرة وكل منهم يستخدم طريقة مختلفة في الدعاء ، وعندما وجدت نفسها ستنهار في البكاء أمامه ففضلت الرحيل وطلبت منه أن يذهبوا فلم يبدي أي اعتراض ورافقها حتى وصلوا لسيارته واستقلت بالمقعد المجاور له .
خرج همسها بعد دقيقيتن وهي مستندة برأسها على زجاج السيارة وعيناها معلقة على الطريقة :
_ قبل ما تتوفي بيومين كان بتكتبلي على الورقة دايمًا وتقولي أنا حاسة إني هروح لسيف قريب أوي وأنا كنت بضايق منها وبقولها وهتسبيني إنتي كمان زيه انا مليش غيركم وهفضل وحدي .. وأهي سابتني وبقيت لوحدي مليش حد حتى عمي ميعرفش إنها ماتت أساسًا ولو عرف مش هيسأل فيا ، مفضليش في الدنيا دي ناس غيرك
آخر كلمة نطقت بها جعلته ينظر لها باستغراب بسيط ، ولكنه لم يعرف بماذا يجيب عليها ، فأطال النظر إليها لثواني يحاول إيجاد الكلمات ولكنها لا تأتي وحين وجدها ستلتفت برأسها ناحيته فأشاح بنظره فورًا وثبته على الطريق ، لتبتسم هي بخفة رغم الكآبة المهيمنة عليها عندما فهمت أثر كلمتها الأخيرة على نفسه الخجولة وفهمت اضطرابه وعدم إيجاد الكلمات المناسبة .. نفسه الخجولة التي لا تزال حتى الآن تستعجب منها ولا يستوعب عقلها أن هناك رجل يخجل من النساء هكذا ، فقررت إصلاح ما تفوهت به وغمغمت في رزانة :
_ اقصد إني مبقليش حد غيرك إنت وطنط هدى ورفيف يعني مفاضليش غيركم
اتاها صوته أخيرًا وهو يبتسم بساحرية متمتمًا :
_ فاهم ياشفق ومتقلقيش هفضل دايمًا معاكي وجمبك لغاية ما اسلمك بإيدي لعريسك اللي يصونك عشان سعتها ابقى مطمن عليكي وأكون وفيت بوعدي لأخوكي ، واحنا بقينا اهلك خلاص وإنتي بقيتي واحدة مننا فمش عاوز اسمعك بتقولي تاني إنك لوحدك وملكيش حد
عادت تنظر للطريق وهي توميء له بتفهم وإيجاب لتجده يهتف بدفء بعد لحظات من الصمت بينهم :
_ أنا عازمك على الفطار النهردا ، أعتقد معندكيش مانع
هدرت في رفض رقيق وصوت ناعم :
_ مليش نفس والله ياكرم للأكل نهائي
هتف ببساطة متجاهلًا رفضها الهامشي بالنسبة له :
_ تمام يبقى موافقة .. على العموم احنا خلاص قربنا نوصل للمطعم أهو !
حدقت به لثلاث ثواني بالظبط ثم اشاحت بنظرها وهي تهز رأسها متنهدة بابتسامة مغلوبة على أمرها .. فلم يترك لها حق الاختيار واصبح حتى تناول الطعام بالإجبار ، مثل الحارس وغيره !! …..
***
نزع حذائه بجانب الباب ثم اتجه صوب غرفته وقام بتبديل ملابسه و القى نظرة على ساعة الحائط يتفقد الساعة ليجدها الثالثة عصرًا فيتنهد بإرهاق ويقترب من الفراش يلقي بجسده عليه سامحًا لعيناه بالانغلاق حتى ترتاح قليلًا من مشقة العمل منذ الصباح الباكر ، ولكن صوت ارتطام إحدى الأدوات المعدنية الخاصة بالمطبخ على الأرض والتي اصدرت صوت مفزع جعلته يثب جالسًا بزعر بعد أن كانت عيناه ستنصاع خلف رغبتها في الراحة وتشوقها للنوم .
مسح على وجهه متأفف ثم هب واقفًا وغادر متجهًا إلى المطبخ ثم وقف مستندًا على باب المطبخ بكتفه عاقدًا ذراعيه أمام صدره يتابعها وهي توليه ظهرها وومركزة كامل انتباهها على الطعام التي تقوم بتحضيره ، بينما هو فكان انتباهه على شيء آخر يتفحص ملابسها بتمعن ووقاحة حيث ترتدي ثوب منزلي قصير يصل لركبتيها ضيق بعض الشيء وتثبت شعرها لأعلى بمشبك الشعر وينسدل بعضًا منه على وجنتيها من الجانبين ، رغم نقمه وبغضه لها هذه الشيَّطانة إلا أنه لا يمكنه إنكار أن لديها جسد وانحناءات تذهب العقل بلحظة واحدة ! .. كان يتابع حركاتها العفوية بجمود ظاهري ، تارة ترفع مشط قدمها لتلتقط شيء في الاعلى وتارة تنحني لتلتقط شيء آخر في الجزء السفلي من المطبخ ، إلى أن وجدها التفتت بجسدها تلقائيًا ناحيته غير منتبة لوجوده وبمجرد ما وقع نظرها عليه انتفضت واقفة وسقط الصحن من يدها فتكسر وتناثر لجزئيات صغيرة متفرقة على الأرض ، فانحنت للأسفل فورًا وبدأت تلم في جزئياته وجرحت أصابعها عن غير قصد فامسكت بالصابع المجروح تضغط عليه حتى لا يذرف الدماء ثم رفعت نظرها لتجده كما هو ينظر بجمود وثبات مما استفزها بشدة فصاحت به مغتاظة :
_ واقف كدا ليه !!
لم ينطق ببنت شفة فقط القي عليها نظرة مريبة ثم استدار وانصرف غير مكترثًا لجرح أصابعها الذي هو سببه ، أما هي فانشغلت بتنظيف الأرضية من الزجاج ثم قامت بوضع ملصق طبي على صابعها المجروح ، وبعد دقائق بدأت في وضع الصحون على طاولة الطعام في الصالون وجلست على مقعدها تبدأ في الأكل دون انتظاره ، وبعد لحظات رأته ينضم لها ويجلس في مقابلتها على أحد المقاعد فلم تعيره اهتمام وركزت على طعامها فنظر هو لها مختنقًا مجرد جلوسها معه على نفس الطاولة لا يتحمله ، ولن يستطع تحملها سينهي هذا الزواج في أقرب فرصة ، باتت نفسه تضيق كلما يعود ويجدها بمنزله .. اخفض نظره للصحون الممتلئة بالطعام المتنوع ثم التقطت معلقة وبدأ بتناول أول لقمة من الصحن الذي أمامه فتصنع التقزز من مذاقه والقى بالمعلقة جانبًا هاتفًا في قسوة وغلظة :
_ لو مبتعرفيش تعملي أكل قولي بدل ما إنتي بتأكليني حاجة ملهاش طعم .. إيه القرف ده !!
ثم امسك بالصحن وسكبه في سلة القمامة الصغيرة بجانبه وهب واقفًا عائدًا لغرفته تاركًا إياها معلقة نظرها على سلة القمامة ثم التقطتت قطعة خيار والقتها بفمها وهي تهمس محاولة تمالك أعصابها :
_ خليكي relax يايسر اساسًا ده مستفز وميستهلش تعصبي نفسك عشانه .. قال قرف !!
***
تقلب في البوم صورهم ، كان يجمع الألبوم ما بين صور عقد القرآن وبين الخطوبة وأخيرًا الزفاف ، توقفت عند صورة ليوم زفافهم ودققت النظر بملامح وجهه كيف كان يبتسم بسعادة ودفء ، وهي بكل سهولة قضت على فرحته سرقت ابتسامته ، وشوهت أجمل شيء في العلاقات وهو الثقة .. فقدت ثقته بها وهذا يعني أن ليس هناك أمل في زواجهم ما لم تستعيد ثقته .
كانت لا تريد هذا الزواج وربما لم تكن تريده هو أيضًا ولكن الآن هي أكثر من يريده ، وشعورها بنمو مشاعر الود والاحترام والتقدير والحب له وتزايدهم عن الطبيعي في كل ساعة تعيشيها معه في المنزل حتى ولو كانوا لا يتحدثون وكل منهم منعزل عن الآخر إلا أن هذه المشاعر تسعدها وترضي ضميرها الذي يعذبها بأنها لا ينبغي عليها أن تستمر في هذه العلاقة وهي لا تحبه ، فتخبره بكل وضوح أنها بدأت تخطوا أولى خطواط العشق وهي الآن في أولى درجات السلم وبالتأكيد بعد وقت قصير ستصل للقمة وستكون انتصرت على نفسها المتمردة !! .
سمعته يتحدث في الهاتف بالخارج فنهضت من على الفراش ووقفت وراء الباب تحاول سماع حديثه وتسمعه يتحدث مع والدته عبر الهاتف ويسألها عن اسم دواء يسكن الآم الرأس التي تداهمه بسبب مشقة العمل ، فتستغرق هي لحظات بسيطة تفكر في شيء وتتردد في فعله ولكنها حسمت أمرها واتجهت ناحية خزانتها وأخرجت شريط اقراص مسكن للآم الرأس تستخدمه دومًا عندما يصيبها الصداع الشديد ، وانتظرت لدقائق قصيرة حتى ينهي حديثه مع والدته ثم خرجت وذهبت للمطبخ تملأ كوب ماء بارد وسارت باتجاهه في الخارج وجلست بجواره على الأريكة تمد يد تحمل كوب الماء واليد الأخرى بها شريط الاقراص متمتمة في لطف وابتسامة عذبة :
_ اشرب ده مفعوله حلو جدًا أنا باخد منه دايمًا لما أكون مصدعة
اطال النظر إليها في صمت ونظرات ثاقبة كالصقر ثم التقطه من يدها وأخرج قرص والقاه في فمه ثم شرب الماء كله عليه فهو لا يطيق ألم الرأس ويريد أي شيء لكي ينهيه ، أما هي فابتسمت له بدفء واقتربت منه تمد كفيها لرأسه حتى تقوم له بمساج بسيط لعله يخفف من ألم رأسه وهتفت في رقة تأخذ منه الأذن :
_ تسمحلي ؟
لم تجد أجابه منه بالرفض ، فقط كان يحدق بها كالمغيب فهو يعاني ألم الخيانة والعشق .. يحبها ولا يتمكن من مسامحتها وربما لن يتمكن فما فعلته خطأ لا يغفر بالنسبة له وبرأيه أنها حتى الفرصة الثانية التي تريدها لا تستحقها فمن أهدر الأولى بسبب إهماله وعدم وعيه لأهميتها بإمكانه إن يهدر الثانية أيضًا أن مُنحت له ولذلك هي لا تستحقها ابدًا ولن يسمح لها بأن تستحوذ عليه أكثر من ذلك ! .
لمسة يديها الناعمة على وجهه هيجت عواصفه ورغباته الذي يحاول كبحها عنها منذ أن عرف بالحقيقة ولوهلة ود بمعانقتها وتقبيلها ولكنه ذكّر نفسه بما فعلته حتى لا يدع قلبه يرق ويلين لها مطلقًا ، فازاح يديها عنها وقال منذرًا بجفاء :
_ آخر مرة هقولها ليكي ياملاذ ابعدي عني نهائي ، أنا مش عايز اتعصب عليكي يابنت الناس واخليكي تكرهيني
ثم هب واقفًا واتجه لغرفته فلوت فمها بيأس وحزن وهبت هي الأخرى متجهة خلفه وفتحت الباب دون أن تطرق ثم اغلقته خلفها واقتربت لتجلس بجواره على الفراش مغمغمة في خفوت بائس :
_ لما ماما قالتلي إنك متقدملي أنا مكنتش اعرفك ولا حتى شوفت صورتك فرفضت ومكنتش عايزاك واللي خلاني أوافق إني كنت عايزة انتقم من أحمد ولما شوفتك في الرؤية الشرعية حسيت بحاجة غريبة بس احساسي في إني مش عايزاك كان لسا موجود ولغاية يوم الخطوبة لما كنا بنتكلم وقولتلي إنك حابب نبدأ حياتنا صح ومن غير ذنوب عشان ربنا يباركلنا فيها أنا مقدرتش استحمل وقومت روحت الحمام لو فاكر وعيطت ودخلت صحبتي عليا وقولتلها إني مش هقدر أكمل ومش هقدر أكون ليك الزوجة اللي عايزها وقولتلها مش هقدر اخدعك واخونك ، قالتلي ادي لنفسك فرصة وطلعي احمد من قلبك يمكن تحبي خطيبك ، المهم أنا أهديت وقررت إني هكمل بس لو لقيت مفيش أي أمل إني أكمل معاك هفسخ الخطوبة فورًا وفي خلال شهر الخطوبة حسيت إنك بني آدم كويس أوي وإني لو اتعرفت عليك أكتر أكيد هحبك ، فكملت وكتبنا كتب الكتاب وفي اللحظة اللي قال فيها المأذون بارك الله لكم وبارك عليكم أنا خدت عهد على نفسي إني هعمل المستحيل وهشيل أحمد من قلبي وهكون ليك ، ولما اخدتني الشركة هناك ادركت إنك فرصة متتعوضش ولو ضيعتها ابقى غبية وإنك هدية ربنا بعتهالي عشان يعوضني وخلال الأيام اللي كانت قبل فرحنا كنت كل ما بكلمك أو بشوفك كنت بزداد تمسك بيك وبزداد اصرار في إني هعمل المستحيل وهحافظ على جوازنا وعلى الرابط اللي بينا لإنك انسان يتحب يازين ، ويوم الفرح أنا غلطت مكنش ينفع اطلعله بس كنت شايلة اوي في نفسي و كان نفسي جدًا اقوله الكلمتين اللي قولتهم وللأسف مش هعرف ابرر اللي قولته وقتها لإن أنا غلطانة جدًا كمان ومكنش المفروض أقول كدا .. آخر الكلام اللي عايزة أقوله ليك من بين كل الكلام ده أنا اتجوزتك بكامل ارادتي ومكنتش مغصوبة أو مضايقة ولو كنت مضايقة فده بسبب إني مكنتش قادرة اشيل احمد من عقلي ومش عارفة احبك واكون ليك بكل جوارحي وأكون الزوجة اللي بتتمناها ، وعمري ما كرهتك أو حسيت نفسي في مرة مش طيقاك بالعكس أنا دايمًا كنت بكن ليك الحب والاحترام والود وكنت برتاح جدًا معاك ومازالت وهفضل كدا
اتاها صوته الخافت وهو يقول بأسف :
_ كل اللي قولتيه مش مبرر لكدبك عليا ياملاذ وخداعك ليا ، للأسف أنا مش بعرف اسامح بسهولة ومش هقدر أكمل معاكي حتى لو إنتي عايزة تكملي ، قولتها ليكي امبارح وهقولها تاني أنا مبقتش بثق فيكي ومش هقدر أعيش مع واحدة وأقبل تكون أم لأولادي وأنا مش واثق فيها واحدة خدعتني وقبلت على نفسها تتجوزني وهي بتحب راجل غيري ، وعشان كدا اسلم حل لوضعنا ده الطلاق ، ومش عايزك تحبيني ولا تكرهيني ولا أنا عايز أحبك ، عاوزك بس تبعدي عني لغاية ما الشهر ده يخلص
غامت عيناها بالعبرات ، فيبدو أن طريقها سيكون صعبًا ومليئًا بالعوائق ولن تتمكن من نيل مسامحته بسهولة كما توقعت ، ولكن طالما مازالت زوجته لن تيأس وستستخدم جميع الطرق معه حتى تصل لمبتغاها . هبت واقفة واسرعت مغادرة الغرفة قبل أن تنهار بالبكاء أمامه تاركة إياه معلق نظره على آثارها بألم !! ……..
***
في تمام الساعة الثانية عشر بعد منتصف الليل ……
كانت شفق على فراشها مستغرقة في النوم وضوء الغرفة مغلق وكذلك الباب ، وفجأة وثبت جالسة بفزع من نومها عندما صك سمعها صوت ارتطام شيء قوي بالخارج ، فابتلعت ريقها برعب جلي ونهضت من الفراش ببطء شديد ثم تحركت نحو الباب بقدم مرتجفة وفتحته بحذر حريصة على عدم إصدار أي صوت ، ففتحت جزء صغير منه وأخرجت رأسها تتلفت يمينًا يسارًا لتطمئن من عدم وجود أحد ، فتجمدت الدماء في عروقها وشعرت بأن نفسها انقطع من الخوف حين رأت ذلك الوغد من ظهره الذي لا يكف من ملاحقتها وأذيتها ، وتلقائيًا دخلت فورًا غرفتها مجددًا وأخذت تتلفت حولها بزعر ويداها ترتجف من الارتعاد ، كيف دخل وهي تحكم إغلاق باب المنزل جيدًا !! ” يا الله ماذا أفعل أين اختبأ منه حتى انجو بنفسي ” ، استمرت في الالتفات حول نفسها وهي تمسك برأسها وتحاول تمالك نفسها من الانهيار .. ليس بغرفتها أي شيء تستطيع حتى حماية نفسها به ، وقع نظرها على الفراش فهرولت واختبأت اسفله وقد بدأت دموعها في الانهمار بشدة في صمت ، إن وجدها بالتأكيد سيأذيها وسيحاول الاعتداء عليها ، خرجت من تحت الفراش والتقطت هاتفها ثم عادت مجددًا تختبأ وجعلت تبحث عن رقمه في قائمة الأسماء بيد مرتعشة حتى وجدته ووضعت الهاتف على أذنها تنتظر رده وهي تهمس برجاء وبكاء :
_ رد ابوس إيدك ياكرم
_ الفصل الحادي عشر _
كان يقود سيارته في طريق عودته للمنزل وجذب انتباهه صوت هاتفه الهزاز ليلتقطه وينظر للشاشة فيغضن حاجبيه باستغراب من اتصالها في هذا الوقت المتأخر ، وفورًا أجاب بدون تفكير بعد أن أصابه القلق من أن يكون حدث شيء معها واتاه صوتها الباكي والمرتجف :
_ كرم الحقني ، دخل عليا البيت وبيدور عليا وأنا مستخبية في اوضتي
هتف بزعر وقلق أشد :
_ دخل ازاي ياشفق أنا مش قايلك اقفلي الباب كويس عليكي
همست في صوت خفيض وبكاء عنيف :
_ معرفش أنا خايفة أوي تعالى بسرعة
_ حاضر ، حاضر أنا قريب من بيتكم دقيقتين وهكون عندك اياكي تطلعي من اوضتك واقفلي الباب عليكي بالمفتاح
انهت معه الاتصال والقت بالهاتف على الأرض ثم خرجت مهرولة وأغلقت الباب بالمفتاح كما قال ووقفت خلفه تستمع لصوت خطا قدميه بالخارج وجسدها يرتجف كطفل صغير بلا مأوي في ليالي الشتاء القارصة ، مرت دقيقتين حتى شعرت به يحاول فتح الباب فارتعدت للخلف مرتجفة واتاها صوته النشاز والمقرف وهو يهتف ضاحكًا :
_ افتحي يامزة أنا عارف إنك جوا .. افتحي بالذوق بدل ما اكسره
اخذت تهز رأسها بالنفي وهي تضع كفها على فمها محاولة كتم صوت بكائها المرتفع وتتوسل ربها بأن يصل كرم بسرعة ، وجدته بدأ يحاول كسره فتقهقرت للخلف وتتلفت حولها كالمجنونة تبحث عن أي شيء ولكن لم يكن هناك شيء يسعفها في هذا الموقف وبعد لحظات صغيرة انفتح الباب وأطل بهيئته الضخمة والمرعبة لتهتف هي في صوت مرتجف وبكاء :
_ إنت عايز مني إيه حرام عليك
طالعها مبتسمًا بشيطانية وغمغم في نظرة كلها شهوة ورغبة :
_ عايز كل خير
وفي ظرف لحظة وجدته أغار عليها والقى بها على الفراش محاولًا تقبيلها فتعالي صوت صرخاتها وهي تركله بقدميها ويديها محاولة إبعاده .
وصل كرم في الطابق الذي فيه الشقة وكان الطابق الثاني وبمجرد ما سمع صرخاتها فهرول نحو الباب كالمجنون يطرق عليها صائحًا :
_ شــــــفــــــق
توقف وابتعد عنها مزعورًا عندما سمع صوته وهتف بنبرة تهديد قبل أن يغادر ويفر هاربًا من النافذة كما دخل :
_ كرم العمايري مش هيعرف يحميكي مني ، هرجعلك ياقطة
تذكر كرم أن لديه نسخة من مفاتيح المنزل فأخرجها من جيبه مسرعًا ووضعه في قفل الباب ثم أداره لليمين وانفتح ليدخل هو صائحًا مناديًا عليها وحتى وصل عند باب غرفتها وقبل أن يخطو خطوة سمع صوتها المرتجف والباكي تطلب منه عدم المجىء فهي بملابس منزليه لا تسمح وشعرها منسدل على كتفيها :
_ متجيش ياكرم أنا كويسة ثانية وهطلعلك
تحاملت على ساقيها المرتجفين وارتدت إسدال للصلاة ووضعت حجابها على شعرها ثم خرجت له فوجدته يقف أمام النافذة المفتوحة التي فر هاربًا منها يتلفت يمينًا ويسارًا باحثًا عن أي أثر له ، وعندما رآها اقترب منها هامسًا بترقب وقلق حقيقي :
_ إنتي كويسة ؟ ، عملك حاجة ؟
هزت رأسها بالنفي وعيناها تذرف الدموع في صمت هامسة بارتعاد :
_ أول ما سمع صوتك هرب وقالي إنك مش هتقدر تحميني منه ..
مسح على وجهه وهو يصدر زئيرًا من بين أسنانه هاتفًا في توعد :
_ مسيري هجيبه هيروح مني فين ااااا……
توقف عن التحدث حين وجدها تفقد توازنها وأغمضت عيناها معلنة عن تغيبها المؤقت عن الوعي وكادت أن تسقط على الأرض لولا يديه التي احاطت بها جيدًا ، ولوهلة توتر من اقترابه منها وشعر بالخطر ولكن الآن ليس الوقت المناسب لتوتره وخجله فانحني بجزعة وحملها متجهًا بها نحو الأريكة واجلسها عليها ثم ذهب للمطبخ وجلب كوب ماء وعاد لها ثم أخذ ينثر الماء على وجهها بلطف حتى فتحت عيناها تدريجيًا ونظرت له لترى في عيناه نظرات الارتعاد والاهتمام فانفجرت باكية تخفي وجهها بين ثنايا كفيها هاتفة بارتجافة صوتها الرقيق :
_ خـ..وفت أوووي ، حـ..اول يـ..عتـ..دي عليا
انحني وجلس بوضيعة الاستعداد أمامها مغمغمًا في صوت دافىء ينسدل كالحري ناعمًا :
_ متخافيش أنا معاكي ومش هسيبك واوعدك همسكه وهدفعه تمن كل اللي عمله معاكي .. اهدي بس إنتي وقومي اغسلي وشك يلا والبسي ولمي هدومك عشان تاجي معايا بيتنا
لم يكن بمقدورها الرفض هذه المرة فبعد ما حدث الآن أدركت أنه كان لديه الحق في عدم موافقته منذ البداية على بقائها في المنزل بمفردها . هزت رأسها بالموافقة ثم هبت واقفة واتجهت نحو الحمام بخطواط ضعيفة وعاجزة عن السير بطبيعية نتيجة لنوبة الارتجاف والرعب التي اصابتها منذ قليل …….
***
توقفت سيارته أمام المنزل بعد دقائق طويلة ونزل منها ثم فتح الباب الخلفي وأخرج حقيبة ملابسها بينما هي فنزلت وجعلت تنظر لهذا المنزل الضخم والجميل .. فانتبهت له وهو يرمقها مبتسمًا بعذوبة ويشير لها بعيناه أن تلحقه ، فلحقت به على استحياء وهي تتلفت حولها تتفحص بنظراتها الحديقة الواسعة كأي إنسان طبيعي ذهب لمكان جديد لأول مرة ، وجدته يفتح الباب ويسبقها بالدخول ثم يهتف في نبرة هادئة :
_ ادخلي ياشفق
دخلت بتردد وحياء بينما هدى ورفيف كانوا يشاهدون التلفاز وبمجرد ما رأو بيده حقيبة ملابس وهو يهتف بجملته الأخيرة هذه هبوا واقفين بدهشة ، وسرعان ما استقبلتها رفيف بالترحيب الحار والعناق واقتربت منها هدى معانقة إياها وهاتفة بحنو :
_ عاملة إيه ياحبيبتي .. نورتينا
اكتفت بابتسامة خجلة وبسيطة على شفتيها حتى سمعته يهتف محدثًا شقيقته :
_ خوديها يارفيف خليها ترتاح شوية في الأوضة عندك فوق
اماءت لأخيها بالموافقة واصطحبتها معها لغرفتها بالأعلي بينما هدى فراقبتهم بنظراتها حتى تواروا عن ناظريها والتفتت برأسها لابنها هاتفة بفضول :
_ إنت مش قولت موافقتش تاجي معاك .. إيه اللي خلاها توافق وليه جايبها في الوقت ده
_ في حرامي دخل عليها البيت وطبعًا مقدرش اسيبها تقعد وحدها تاني
شهقت بهلع وهتفت مهتمة بأشفاق :
_ وعملها حاجة ؟
هتف بخفوت :
_ لا الحمدلله .. المهم متخلوهات تحس إنها غربية في البيت عشان متضايقش
رتبت على كتفه متمتمة بلطف :
_ حاضر ياحبيبي متشلش هم إنت عارف أنا بعزها إزاي .. روح ريح جسمك في اوضتك ونام باين عليك تعبان
هز رأسه بالإيجاب ثم التقط كف يدها وقبَّل ظاهره هامسًا بحنو :
_ تصبحي على خير
_ وإنت من أهل الخير ياحبيبي
***
فتحت الباب بحذر ونظرت له فوجدته في فراشه نائم بسكون وثبات تام ، لتبتسم بحب ثم تدخل بحرص حتى لا توقظه وتغلق الباب وتقترب من فراشه ، لتقف للحظات طويلة تتأمل ملامح وجهه الهادئة التي لا تشبهه أبدًا عندما يكون مستيقظًا ، ثم جلست على حافة الفراش ومدت يدها تملس على شعره برقة ولطف خشية من أن يستيقظ فغامت عيناها بالعبرات وهي تهمس بصوت يكاد لا يسمع :
_ احيانًا كتير ببقى نفسي امسك في زمارة رقبتك من غيظي منك ، وببقى مش طيقاك بس تعرف لو جيت في مرة وقولتلي كلمة واحدة حلوة وأنا متعصبة كدا صدقني هنسي كل حاجة في لحظتها …
توقفت عن الكلام لثواني ثم عادت تكمل وقد سقطت دموعها على وجنتيها :
_ ليه بتكرهني كدا أنا عملتلك إيه عشان تشيل مني ومتبقاش طايقني بالشكل ده ، صدقني ياحسن عمرك ما هتلاقي حد يحبك قدي .. أنا بحبك لدرجة إن لو نظرة حب منك تكفيني ومش هبقى عاوزة حاجة تاني ، بس إنت حتى الكلمة الطيبة بتستخسرها فيا وكأني عدوتك
جففت دموعها وانحنت برأسها قليلًا لتطبع قبلة رقيقة على جبهته ثم تتسطح بجواره وتسحب الغطاء عليها وكان هو يضع كفه أسفل رأسه فاقتربت والتصقت به ثم استندت برأسها على صدره وأغمضت عيناها سامحة لها بسرق لحظات من الزمن وهي بين ذراعيه ربما لن تتكرر مجددًا ! .
فتح هو عيناه في صباح التالي وإذا به تلجمه الدهشة حين يجدها نائمة بين ذراعيه ، ولوهلة شك بنفسه أن قد يكون فعل فعلًا متهورًا ، فاستعاد ليلة الأمس في ذهنه فورًا وتذكر أن آخر شيء فعله هو تبديل ملابسه وتسطحه على الفراش ليخلد للنوم فأطمئن ، ونظر لها متفحصًا ملامحها التي تبدو عليها الراحة والسكينة ، وهي تغط في نوم عميق كأنها لم تذق النوم منذ أيام ، فتأفف باشمئزاز وخنق ثم هز كتفها بقوة بسيطة وصوت أجشَّ :
_ يسر ! .. يـــســـر !
انتفضت جالسة بفزع وفركت عيناها لتزيح آثار النوم عنها وسمعته يهتف في استياء بعد أن اعتدل في نومته :
_ بتعملي إيه جمبي !؟
تلعثمت قليلًا ولم تعرف بماذا تبرر له نومها بجواره طوال الليل ، ولكنها سرعان ما رسمت قسمات الاهتمام والقلق على محياها ومدت يدها تتحسس جبهته هاتفة :
_ الحمدلله حرارتك نزلت
رفع شفته العليا مستنكرًا وهو يجيبها :
_ حرارتي برضوا !!
مثلت الدور باحترافية حيث هتفت في براءة مزيفة ونظرة متأثرة :
_ أيوة أصل إنت امبارح حرارتك كانت عالية بليل وفضلت تخترف بالكلام فقعدت جمبك وعملتلك كمادات والحمدلله نزلت وغلبني النوم ونمت جمبك
لا تفوت فرصة للكذب وتخترع كذبة لكل شيء باحترافية ولكنه لا يخيل عليه كذبها الذي بات يخنقه ويستفزه بشدة .. فدفعها من أمامه بعدم اكتراث لكي يعبر وينزل من الفراش هاتفًا بقرف :
_ لما تحبي تكدبي روحي اكدبي على حد غيري ، ابعدي من وشي
تقوص وجهها بضيق وأسى وبقيت معلقة نظرها على آثاره بعد أن غادر تاركًا لها الغرفة بأكملها ، شعرت بعيناها على وشك ذرف الدموع فشدت على محابسهم بسرعة وهبت واقفة وهي تأخذ نفسًا عميقًا مستمدة القليل من قوتها وشموخها ثم غادرت هي الأخرى واتجهت لغرفتها لتأخذ حمامًا دافىء ………
***
كان يقف أمام المرآة يقوم بتسريح شعره ويستعد للذهاب للعمل ، فيسمع طرق الباب ليتنهد بعدم حيلة فهي لن تستسلم ولم تكترث لكلامه ورغبته في عدم تحدثه معها مطلقًا حتى ينتهي هذا الزواج ! .
هتف بغلظة :
_ ادخلي
فتحت الباب ودخلت هامسة بعذوبة :
_ صباح الخير
رد على مضض دون أن ينظر لها :
_ صباح النور
تمتمت في ترقب ونظرات رقيقة :
_ مش هتفطر ؟
_ لا هفطر في الشغل
تقدمت خطوتين للأمام نحوه وخرج همسها ناعمًا :
_ طيب ممكن اطلب منك طلب ؟
التفت لها بجسده وحدجها بقوة ثم قال بنفاذ صبر :
_ قولي ياملاذ عايزة إيه ؟!!
فركت يديها بتوتر وتمتمت في نظرات استعطاف تحاول من خلالها إذابة القليل من ثلوج قلبه بعدما بدأت تتأكد من أنه يحبها بشدة :
_ ممكن تاخدني معاك الشركة ، أصل أنا زهقانة وحابة اقرى في المكتبة اللي هناك
كانت ملامح وجهه جامدة ولم تتأثر بنظراتها بتاتًا حيت اتاها صوته الصارم دون أن يوجد به أي شيء من اللين :
_ لا ، بعدين إنتي عاوزة إيه بظبط من الحركات دي ؟!!
_ مش عايزة حاجة !!
قالتها بارتباك بسيط من نظراته المريبة ليكمل هو بتوضيح أكثر :
_ كل اللي بتعمليه ده ملوش لزمة مش لما تحاولي تقربي مني وتفتحي معايا أي كلام وخلاص هسامحك .. هتفهمي امتى إن احنا كل اللي بينا انتهى خلاص
قالت بإصرار فهي لن تتخلى عنه ولن تخلف بوعدها هذه المرة :
_ مفيش حاجة انتهت يازين أنا لسا مراتك ، لما تطلقني سعتها ابقى اقولك إن فعلًا كل حاجة انتهت
أبعدها من أمامها بهدوء وهم بالانصراف ولكنها اعترت طريقه وتمتمت برجاء ولين :
_ طيب طالما مش موافق اروح معاك .. ينفع تنقيلي كام كتاب على ذوقك وتجبهملي معاك
لوى فمه بخنق ونفاذ صبر ثم خرج صوته قاسيًا بكلمات يقصد قولها جيدًا حتى يحرق نفسها ويذيقها من الآم قلبه التي يعانيها :
_ من عنيا هنقيلك كتب عن الوفاء والإخلاص والصدق يمكن تتعلمي منهم حاجة
أصابت كلماته بسهامها الهدف تمامًا ، كلما تتحدث معه وتحاول نيل السماح منه تكشتف أنه ليس كما توقعته أبدًا بل لديه قلب أن حمل داخله الغضب والنقم من شخص ما لن يتمكن من الصفاء له مهما فعل ، ويبدو أنه لن ينسى خداعها له وقد يكون أكثر ما يغضبه ليس أنها كانت تحب رجل غيره بل أنها وضعته محل الغبي والأحمق وكانت تكذب عليه وهي تنظر لعيناه دون خجل واستحقرته ولم تحترم الثقة التي منحها لها !!! ………..
***
كانوا يجلسون حول مائدة الطعام على مقاعدهم ومنتظرين قدوم البقية ، وكانت هدى تضع كفيها أسفل ذقنها تفكر بذكاء شديد لما يدور في ذهنها وغير منتبهة لأي شيء حولها ، حتى سمعت صوت ابنتها تهتف بتساءل :
_ ماما مالك ؟!
رمقتها بجدية وأشارت لها بيديها أن تقترب منها ففعلت رفيف على الفور وجلست على المقعد المجاور لها تمامًا وقربت وجهها منها وهي تهز رأسها بتشويق لمعرفة الأمر ، لتتمتم هدى بمكر :
_ إيه رأيك في شفق ؟
_ رأي فيها ازاي يعني ؟!
قالتها بعدم فهم في بادئ الأمر ثم دققت نظرها في معالم وجه أمها الخبيثة وابتسامتها التي كلها ذكاء ففغرت شفتيها وقالت ضاححة بعدم تصديق :
_ لا مش للدرجة .. وسعت منك أوي دي يادودو !
نكزتها في كتفها بضجر من رفضها لفكرتها وهمست في صوت منخفض :
_ بطلي هبل يابت .. دي حتى لايقة على أخوكي أوي كأنهم فولة واتقسمت نصين ، عارفة أروى الله يرحمها على قد كدا مكنتش حباها أوي كانت فيها شوية من اللؤم بتاع البنات ده ومكنتش لايقة على أخوكي انا مش بقول إنها كانت وحشة بالعكس أنا على قد ما كنت بضايق منها أحيانًا بس كنت بحبها برضوا والله وربنا يعلم إني لغاية دلوقتي كل لما بفتكرها قلبي بيوجعني عليها ، لكن شفق قمر ومؤدبة وهادية ماشاء الله عليها يعني هي وكرم شبه بعض بظبط في كل حاجة
هدرت رفيف برزانة ونبرة جادة :
_ ماشي ياماما وأنا كمان مش بقول حاجة على شفق .. بس بلاش تسرحي بخيالك أوي ، كرم رافض فكرة الجواز دي نهائي من بعد أروى وإنتي بنفسك جربتي معاه كتير وشوفتي بتبقى ردة فعله إزاي بمجرد ما تفتحي معاه الموضوع بس
غمغمت بنبرة صوت تحاول إخفاضها ونظرات نارية ومتقدة :
_ بلا رافض بلا قرف وأخرة ما يقعد رافض كدا .. هتطلع من تربتها وترجعله مثلًا ، اتفرجي واتعلمي وشوفي هخليه يوافق إزاي إما خليته يتجوز شفق مبقاش أنا هدى العمايري
كتمت رفيف ضحكتها المرتفعة بيدها ثم قالت في حماس لمعرفة مخططاتها :
_ ياماما يالئيمة .. هتعملي إيه بقى قوليلي ؟!
_ ملكيش دعوة هتشوفي وحدك هعمل إيه
همسمت رفيف بنظرات كلها ذكاء وحذر :
_ بس خلي بالك ولادك كلهم عندهم العند وبذات كرم يعني مش هتعرفي تخليه يوافق بسهولة لازم تحبكي الخطة كويس ، أقولك تعاليله من نقطة ضعفه واضغطي عليه هينخ وهيوافق
رمقت هدى ابنتها التي تحمل نفس جيناتها الخبيثة وتفكر مثلما تفكر تمامًا فابتسمت وقالت بخبث شديد :
_ ماهو ده اللي هعمله .. المشكلة بس لمتوافقش هي
_ لا من ناحية شفق اطمني 100% هتوافق وعلى ضمانتي خليكي إنتي مع كرم وسبيلي شفق في المرحلة التانية و…..
نغزتها هدى في قدمها هامسة بحذر عندما رأته ينزل الدرج قادمًا نحوهم :
_ هششش خلاص اسكتي جه
ثم تطلعت لابنها وهتفت ببشاشة :
_ صباح الخير ياحبيبي تعالى افطر يلا كنا مستنينك
اقترب ناحيتهم ثم التقط قطعة خيار صغيرة والقاها في فمه هاتفًا على عجلة من أمره :
_ لا كلوا إنتوا بالهنا والشفا أنا هفطر في الشركة مستعجل عشان معانا اجتماع وزين مستنيني من بدري هو وحسن
أجابته بحنو تدعو لهم بحنو أمومي :
_ ماشي ياحبيبي ربنا يقويكم .. وقول لزين خليه يجيب مراته وياجي بكرا لأحسن وحشني أوي
انضمت لجلستهم العائلية شفق التي غمغمت بخفوت واستحياء عندما وصلت عند آخر درجات السلم :
_ صباح الخير
التفتت هدى برأسها ناحيتها وكانت أولهم التي ترد عليها تحية الصباح هاتفة بوجه مشرق :
_ صباح النور
ثم رد كل من كرم ورفيف التحية وانصرف هو فورًا دون تلكع بينما هي فتقدمت نحوهم واتخذت مقعدها بجوار هدى من الجهة المقابلة لرفيف وتمتمت بإحراج :
_ معلش بقى ياطنط هتقل عليكم لكام يوم أنا والله كنت ………
قاطعتها هدى بنظرة حازمة قليلًا تحمل الرفق واللين مع ذلك :
_ هتزعليتي منك كدا ياشفق .. البيت هنا اعتبريه بيتك خلاص واحنا أهلك وإنتي زي رفيف بنسبالي
أجفلت نظرها أسفل وأجابتها شاكرة إياها بخجل ” شكرًا ” أما رفيف فكانت تنقل النظر بينهم وهي تمنع نفسها من الضحك كلما تتذكر ما كانوا يخططون له منذ قليل !! …….
***
آذان العشاء ارتفع في المآذان وكان هو يجلس في مكتبته الخاصة في الشركة بعد أن قضى فرضه ، ويخلو بنفسه ويقرأ القرآن براحة وهدوء تام مع ضوء بني خافت ، استمرت جلسته الهادئة لساعات حتى جذبه من تركيزه في ترتيل القرآن رنين الهاتف الذي كان اتصال من زوجته ، فتأفف بخنق وأجاب على مضض :
_ الو
سمع عدة كلمات منها غير مفهومة بسبب بكائها العنيف فاعتدل جالسًا فورًا وقال بزعر :
_ براحة ياملاذ أنا مش فاهم حاجة .. في إيه بتعيطي ليه كدا ؟!!
غمغمت من بين بكائها بصوت أوضح :
_ بابا تعبان أوي وأنا رايحة المستشفى دلوقتي
استقام واقفًا وجذب مفاتيح سيارته وهتف على عجالة ونبرة قلقة :
_ مستشفى إيه ؟
أملت عليه اسم المستشفى فانهى معها الاتصال واندفع مغادرًا حتى يلحق بها على هناك وبعد ما يقارب النصف ساعة وصل وقاد خطواته نحو الطابق الثاني بعد أن استعلم عن اسمه في الاستقبال فأخبروه بأنه يكمن في الطابق الثاني ، وجدها بين ذراعين والدتها لا تتوقف عن البكاء وهي تشاركها البكاء الصامت وعندما رآه إسلام تقدم نحوه ليجده يهتف بارتعاد :
_ الف سلامة على عمي حامد ، حصل إيه ؟
قال إسلام بحزن ونظرات ضعيفة :
_ بابا عنده القلب وتعب جامد فجبناه على هنا
رتب على كتفه مغمغمًا بحزن مماثل له :
_ ربنا يشفيه يارب .. إن شاء الله هيقوم بالسلامة
ظلوا لدقائق طويلة بانتظار خروج الطبيب حتى يطمأنهم على وضعه وأخيرًا بعد ما يقارب الساعة خرج وأخبرهم بأنه وضعه مازال حرجًا وسيتم وضعه تحت المراقبة إلى حين تحسن حالته وانهى كلامه بتمنيه الشفاء له ، كما أخبرهم بأن بقائهم هنا لن يجدي بنفع ولا يجوز إلا بقاء أثنين كحد أقصى ، فطلبت ملاذ من والدتها الذهاب وأنها هي وشقيقها ستبقى معه ، ولكنها عارضتها بشدة وطلبت منها الذهاب مطمئنة إياها بأنه إذا حدث أي شيء ستتصل بها ، فرفضت بشدة التحرك من جانب أبيها ولكنها حين وجدت إلحاح والدتها وكذلك أخيها فذعنت لهم وخرجت تنتظر زوجها عند سيارته الذي كان يتحدث مع الطبيب في غرفته ومن ثم وقف يتحدث مع أخيها لدقائق قصيرة قبل أن يأتي ويستقل بمقعده المخصص له في السيارة .. وهي تترك العنان لدموعها في الانهمار بصمت حزنًا وخشية من أن يصب أبيها مكروهًا .
وصلا للمنزل فأمسك هو بيدها عندما وجدها لا تتحمل السير على قدميها وقادها نحو غرفتها ثم أجلسها على الفراش ، فنزعت هي حجابها عنها وانفجرت باكية بشدة ليتنهد هو بعدم حيلة وجلس بجوارها هامسًا في صوت رخيم :
_ اهدي ياملاذ أنا اتكلمت مع الدكتور وقالي إن احتمال كبير بكرا الصبح يفوق وحالته تتحسن بسرعة .. ادعيله ربنا يشفيه بلاش العياط ده
خرج صوتها مبحوحًا ومرتعش من أثر البكاء وهي تتطلع إليه بعيناها الغارقة في الدموع :
_ خايفة أوي عليه أنا مش هقدر استحمل لو حصلتله حاجة يازين
نظراتها العاجزة والمنكسرة مع دموعها هدموا السور الذي قام ببنائه بينهم فلم يتمكن من مقاومتها وأعلن هزيمته المؤقته متجاهلًا الصوت الذي في عقله ويصر على تذكيره بما فعلته ، ويذكره بوعده لنفسه أنه سيحاول نزعها من صميم قلبه حتى يكون الطلاق سهلًا عليه ، ولكن لا حياة لمن تنادي حيث مد كفه ووضعه على وجنتها بلطف ممررًا إبهامه برفق ونظرة استقرت في عيناه كانت تظن هي أنها لن تراها مجددًا منه ، حيث نظر لها بحنو وحب ودفء كما كان يفعل بالضبط قبل زفافهم وهمس في خفوت جميل :
_ مش هيحصله حاجة بإذن الله ، قومي يلا اغسلي وشك وصلي ركعتين بنية الشفا لوالدك
كانت ترتبك بشدة ولا تشعر بأي مشاعر سوى التوتر عندما تتلامس يده مع يدها أو وجهها أو جسدها قبل حفل الزفاف ولكنها الآن تعتريها مشاعر جديدة تمامًا ، دفء يديه ارسلت حرارة في جسدها اصابتها بالسكينة والدفء وكأنه يحتضنها بكفه ، لتصعد لشفتيها ابتسامة محبة وهي تميل برأسها على الجانب الموضوع كفه على وجنتها تستشعر دفئه أكثر ، ثم القت بنفسها بين ذراعيه دافنة نفسها بين ثنايا صدره الواسع مغمضة عيناها وتعطي إشارة السقوط لدموعها بصمت ، دموع امتزجت ما بين الألم والحزن وبين الأمل والسعادة .
سعادة !! عجيب أمر هذا العشق هل هناك من يسعد لمجرد شعوره بأنه بدأ يعشق ، ويسعد كلما تداهمه مشاعر جديدة بأنه يخطو خطوة أخرى في طريق العشق الذي عزم على أنه لن يمل ولن يكل إلا حين يصبح من المصطفين الذين يختارهم العشق ! .
ارتفع صدره عندما أخذ نفسًا عميقًا وهبط ببطء وهو يخرجه زفيرًا متمهلًا من أنفه ومد يده مترددًا ليمررها بسطحيه شديدة على ذراعها مغمغمًا في رزانة :
_ قومي يلا ياملاذ عشان تصلي العشاء
قالت في صوت به أثر البكاء وهي تتشبث بقميصه أكثر بعدما فهمت رغبته في الابتعاد عنها ولكنه يرفض قولها نظرًا لوضعها :
_ صليت من بدري .. خليك جمبي يازين ارجوك
هو من أصدر مرسوم هدم السور مؤقتًا والآن يأمر بإعادة بنائه فهذه اللحظات كانت كافية وزائدة عن اللازم لإشباع نفسه الجائعة إليها حتى لو بمجرد عناق دافىء ، حيث ابعدها عنه برفق وتمتم بنبرة عادت بها بعض الحزم والجفاء مع ابتسامة متكلفة :
_ أنا موجود في اوضتي لو عوزتي حاجة اندهي عليا
ثم استقام وانصرف تاركًا إياه تصارع الحزن وتمزق القلب بين أمواج مميتة ، فلا يكفيها خوفها وشجونها على والدها ،بل حتى هو يرفض التخلي عن عقابه له ، يرفض أن يكون معها زين العاشق ويفضل أن يكون زين الصارم الذي لا يصفح ، ولكنها لا تجرؤ على وصفه بالقاسي لإنه مهما يفعل ومهما يقول تظل ترى الحنان في عيناه وكأنه يقسو عليها بكلامه وعيناه تعتذر لأنه لا يستطيع تصديقها والوثوق بها ! .
وحتمًا سيأتي يوم ويقر ويعترف باستسلامه لقلبه الذي يتألم وتسوء حالته يومًا بعد يوم بسبب الشقوق التي بينهم ، مثلما بدأ قلبها هي أيضًا يتألم !!! …..
***
فتح باب المنزل ودخل ثم نزع حذائه وتلفت حوله بالمنزل باحثًا عنها بنظره فسمع صوت التلفاز وقاد خطواته نحوها ليجدها تمسك بهاتفها وتقلب في صور زفافهم ودموعها تملأ وجنتيها ، فانتبهت هي لوجوده وأشاحت بوجهها فورًا للجهة الأخرى تسرع في تجفيف دموعها .
تنهد هو بعد أن شعر بالإشفاق على حالها فهو يدرك عشقها الجنوني له ولكنه لا يستطيع أن يبادلها نفس المشاعر أبدًا ، وأيضًا يصعب عليه أن يكون قاسيًا القلب لهذه الدرجة معها .
اقترب وجلس بجانبها ثم جذب الهاتف من يدها وأخذ يقلب بين الصور حتى هتف بخشوع :
_ إنتي اللي بتعملي في نفسك كدا ، مفيش حاجة تغصبك إنك تحبيني ، ولا أنا عايز حبك ده !
التزمت الصمت لثواني ثم هتفت بقوة وصوت يغلبه البكاء :
_ بس أنا عايزة أحبك وعايزة أفضل جمبك ومعاك
وضع الهاتف بجانبه ثم اعتدل في جلسته ليصبح مواجهًا لها ويردف في جدية تامة ونظرات لا تحمل أي حب لها :
_ أنا مش بحبك يايسر ومش هحبك ، فخلينا ننهي الجواز ده في اقرب وقت واللي كان غلطة مني وتهور وندمان عليه دلوقتي وكل واحد فينا يرجع لحياته الطبيعية واوعدك إن بعد ما نتطلق هنبقى أصدقاء وهحاول احبك كصديقة ليا ، وبعتذرلك وبقولك أنا آسف على الكلام اللي قولته عليكي في التسجيل اللي معاكي ، أنا مستعد انسى كل حاجة حصلت بينا وأي حاجة عملتيها أاااا……..
ذاك الأحمق أيطلب منها أن تتخلى عن عشقها له ؟!! .. الذي احتفظت به في داخلها لسنوات ورفضت أن يأخذ مكانه أي رجل غيره ، وبعد أن أصبحت زوجته .. يريدهم أن ينفصلوا ويقول لها بكل وقاحة كوني صديقتي !! ، هل عشقته كل هذه السنوات لتصبح صديقته ؟! ، هل يتوقعها أنها ستقبل بهذا العرض السخيف !!! .
صرخت به ببكاء رافضة إياه الاسترسال في هذه السخافة التي يخرجها من بين شفتيه :
_ وأنا مش عايزة انسى حاجة ومش عايزة أكون صديقة أنا محبتكش لكل السنين دي عشان أقبل في الآخر بالدور السخيف ده ، أنا عايزة أكون مراتك وعايزاك تحبني زي ما بحبك .. أنا دلوقتي عندي 24 عارف بحبك من إمتى من وأنا عندي تمن سنين يعني 16 سنة
قبض على ذراعيها يهزها بقوة هاتفًا في حدة حتى يجعلها تفيق من أوهامها :
_ افـــهـــمـــي أنا بقولك مش عايزك ومش هحبك أبدًا
دفعت يديه بعيدًا عنها وهبت واقفة وهي ترفع سبابتها في وجهه محذرة إياه بأعين دامعة تحمل الشراسة والألم :
_ مش هتطلقني ياحسن ولو طلقتني ، زي ما هتخليني اخسرك هخليك تخسر كل حاجة حتى أهلك وأمك وأخواتك وإنت عارف إني أقدر أعملها
ثم اندفعت نحو غرفتها مسرعة لكي تترك الحرية لدموعها أكثر وتركته هو يهز رأسه بنفاذ صبر وعصبية .. !!
***
كانت شفق في طريقها للحديقة حتى تجلس في الهواء قليلًا ولكنها توقفت حين مرت من أمام غرفته فانتابها الفضول للدخول وإلقاء نظرة عليه .. تختلس فرصة غيابه عن المنزل ، فالتفتت حولها تتأكد من عدم وجود أحد في الطرقة ثم تسللت ببطء نحو غرفته وفتحت الباب ودخلت .. أغلقته خلفها وأخذت تتأمل الغرفة بإعجاب ، كانت الحوائط من اللون الكافيه الفاتح الذي يميل للأبيض وخزانة متوسطة الحجم من اللون الأبيض وسجادة على الأرض من نفس لون الحائط ، والفراش كان لونه أسود لامعًا ويوجد حمام داخلي صغير ، ابتسمت بانبهار من جمال وبساطة هذه الغرفة فهي لم تخطىء عندما قالت أنه لديه ذوق رفيع في كل شيء ليس ملابسه فقط ، لفت نظرها الصورة المبروزة في غلاف زجاجي وموضوعة على منضدة صغيرة بجانب الفراش ، فاقتربت والتقطتها تحدق بها بصمت تتفحص ملامح تلك الكامنة بين ذراعيه ، لم تكن تحتاج لأحد ليخبرها أنها زوجته فابتسامته وسعادته كانت كافية لتوضح مدى السلام الروحي لكليهما وهم مع بعضهم ، عادت ووضعتها مكانها بتعاسة وعبوس واضح على معالم وجهها وهمت بالالتفات والمغادرة قبل أن يدخل أحد ويراها ولكن الدرج العلوي للمنضدة كان جزءًا منه مفتوحًا وبداخله صورة تعلم صاحبها جيدًا فاسرعت بفتحه كليًا والتقاطها وهي تحدق بصورة ذلك الوغد الذي حاول الاعتداء عليها بالأمس ، استغرق معها الأمر للحظات وهي تحدق بصورته بدهشة وتطرح الاسئلة في ذهنها عن سبب وجود صورته معه ، وسرعان ما شهقت بذهول ووضعت كفها على فمها فما كانت تشك به كان حقيقيًا هذا الحيوان هو الذي قتل زوجته والآن يحاول العبث معها ليجعل نهايتها مثلها ، تذكرت جملته لها بالأمس قبل أن يهرب ” كرم العمايري مش هيعرف يحميكي مني ” تسارعت دقات قلبها وبدأت تتوتر ومازاد توترها انفتاح الباب ودخوله عليها ليتسمر هو بأرضه مندهشًا من وجودها بغرفته أما هي فتلعثمت بشدة وغمغمت بارتباك :
_ أنا آسفة كنت رايحة لرفيف واتلخبطت في الأوضة ودخلت اوضتك بالغلط
ابتلعت ريقها وهي تشعر بأن دلو من الماء المثلج سكب فوقها مدت يدها له بالصورة وهي تقول يإيجاز متلعثمة أكثر :
_ كانت واقعة على الأرض
قالت جملتها واندفعت للخارج في ظرف لحظة أما هو فأخفض نظره للصورة يلقي عليها نظرة ثم يلتفت خلفه متطلعًا عليها وهي تنزل الدرج مسرعة ، فلم يشغل ذهنه بما حدث كثيرًا وقرر التجاهل وأغلق الباب ثم بدأ في تبديل ملابسه ودخل الحمام ليأخذ حمامًا دافئًا ويعيد لجسده قليلًا من نشاطه .. بعد دقائق قصيرة خرج وتوجه لشرفة غرفته يقف فيجدها تجلس على المقعد الهزاز في الأسفل وتهز قدماها بعنف وكفها على فمها تفكر بتركيز شديد في شيء ما ، مما أعاد الشك لعقله بها من جديد وخصوصًا بعدما رأى تلعثمها وهي تعطيه الصورة وكيف كانت تحدق بها بصدمة امتزجت بالرعب ، فجال بعقله فورًا كلامها في يوم زفاف حسن ” كرم افهمني أنا قصدي غير كدا ، خوفه مش طبيعي هو عارفك ودي حاجة احنا مختلفناش فيها بس هو كمان عارف إنك أكيد متعرفهوش شكلًا وإلا كان هيخاف كدا ليه أوي ، تصرفه بيوحي بحاجة واحدة وهي إنه عارف إنك لو لمحته بس هتعرفه فورًا وهو يعرفك كويس ، والصراحة أنا خوفي زاد أوي وبذات بعد ما شكيت إنه ممكن يكون ….. ” وتلقائيًا ربط كلامها بالموقف الذي حدث للتو وملامح الزعر على وجهها فاتسعت عيناه وأظلمت بطريقة مخيفة ، ومعالم وجهه الهادئة واللطيفة تحولت لأخرى لتشبه وحشًا مرعبًا ، فالذي يدور بذهنه الآن هو التفسير الوحيد لكل شيء !!!
في صباح اليوم التالي داخل منزل محمد العمايري ……
كانوا على طاولة الطعام يتناولون فطورهم بهدوء ولا أحد يتحدث ، كان الكل يأكل معادا هو يعبث بصحن الطعام الذي أمامه دون أن يضع لقمة في فمه وينتظر اتصال معين بفارغ الصبر ولا يزال الغضب يهيمن عليه منذ أمس ، سمع أمه تهتف باهتمام :
_ مالك ياكرم مش بتاكل ليه .. إنت متعصب من حاجة ؟!
رد عليها باختصار شديد :
_ مليش نفس !
نظرت له شفق بتدقيق وتحدثت لنفسها بخوف ” هل يعقل أن يكون شك بشيء عندما وجدني أمسك بصورة ذلك الرجل بالأمس ” اهتز هاتفه على الطاولة بجانبه وأخيرًا جاء الاتصال المنتظر فوقف فورًا وأجاب وهو يسير باتجاه الباب ليغادر :
_ ألو يامسعد عملت إيه ؟
أجابه الآخر باستياء شديد :
_ هو ياكرم بيه شوفت الكاميرات وطلع هو
تحول لجمرة نيران ملتهبة وأطلق من بين شفتيه الفاظ بذيئة من بينها كلمات وعيد بالانتقام ، ليكمل مسعد بجدية وحزم :
_ سبلي أنا الموضوع ده ياكرم بيه وهجبهولك خلال كام يوم
_ عايزه سليم يامسعد ومحدش يلمس منه شعرة واحدة
_ حاضر
***
كان حسن بمكتبه داخل الشركة يدور بمقعده بحركة دائرية حول نفسه وبيده مفاتيح سيارته يعبث بها ويحركه يمينًا ويسارًا أمام عيناه ، شارد الذهن يتذكر كلامها ” عشان هي أصلًا عمرها ماحبتك ، وإنت كنت دايب فيها ويمكن مازالت ، هي باعتك في أول محطة ” .. ” اللي لسا بتحبها دي تخلت عنك رغم كل اللي عملته عشانها ” ، لا يزال يحبها للأسف ولم يتمكن من نزعها من قلبه بأي شكل من الأشكال ، لم يعد حبًا كما كان سابقًا ولكنه لا يستطيع القول أنه يكرهها ، رغم أنها لا تستحق سوى الكره وكل ما قالته له يسر كان حقيقة .. هي تخلت عنه وخدعته وهو كالأحمق مازال يحمل لها القليل من الحب !! .
قطع شروده دخول يسر المفاجئ وهي تحمل بيدها ملفات صغيرة فاغلقت الباب خلفها وهتفت بإيجاز :
_ حسن اتصل بزين شوفه فين لغاية دلوقتي مجاش !!
عقد حاجبه وهدر باستغراب :
_ وإنتي عايزة زين ليه ؟!
هتفت بامتعاض وابتسامة صفراء :
_ يمكن عشان الشغل مثلًا ، وعشان في ملفات عايزة اورهاله ضروري
قال في حزم ونظرة قوية :
_ طاب ما أنا موجود أهو ولا هو لازم زين !! ، تعالي وريني إيه اللي عايزة تورهوله
أشاحت بوجهها للناحية الأخرى متأففة بخنق فهي قررت منذ ما حدث بالأمس أنها ستحاول تجنبه وعدم التحدث معه بقدر الإمكان حتى تهدأ نفسها الثائرة منه .
اقتربت منه ووقفت بجواره وانحت للأمام بجزعة وفتحت الملفات ثم بدأت تتحدث وتشرح له الأمر بالتفصيل وكان هو بكامل انتباهه معها ولما تقوله ولكن انحرفت عيناه عن غير قصد واستقرت على حجابها المزحزح من الأمام فأظهر عن منطقة صدرها البيضاء العلوية ونظرًا لأن الرداء الذي ترتديه لديه فتحة صدر واسعة قليلًا فعندما انحت كشف عن داخلها !! ، استغرق الأمر ثلاث ثواني بالضبط حتى مد يده وسحب حجابها لأسفل جيدًا ليخفي لحمها وهتف بغلظة صوته الرجولي :
_ لما تلبسي الفستان ده تاني البسي حاجة تحته يإما تلبسي طرحة طويلة وتثبتيها عشان مترجعش لورا
اعتدلت بسرعة وانتصبت واقفة ثم عدلت من حجابها وقالت في انفعال بسيط :
_ وإنت تبص ليه أصلًا !!!
ازاح نظره عنها وقال بوقاحة مبتسمًا :
_ فرجة ببلاش .. متفرجش ليه !!
صرت على أسنانها بغيظ ولملمت الملفات فورًا قائلة بقرف وهي تتجه نحو الباب :
_ وقح !
وقبل أن تقبض على مقبض الباب وتفتحه تذكرت شيء فتوقفت والتفتت بجسدها ناحيته ثم اقتربت مجددًا وجلست على المقعد المقابل له مغمغمة بمضض واختناق :
_ عايزة اطلب منك طلب
اتسعت ابتسامته وأجابها بوقاحة وخبث أشد :
_ إيه متفرجش تاني ؟!!!
قالت بنظرة منذرة وهي تضبط غضبها :
_ احترم نفسك ياحسن
تخلي عن وقاحته واخفي ابتسامته ليجيبها بجدية وخشونة :
_ طاب قولي عايزة إيه ؟
_ رفيف كلمتني وبتقولي إنها نفسها تاجي تشتغل هنا وطلبت مني احاول اقنعك وأخليك تقنع زين وكرم ، هي بتقولي إنكم رافضين فكرة الشغل بس أظن معندكمش حجة طالما هتشتغل معانا وقدام عينا ، وأنا هدربها وهعرفها كل حاجة
أصدر تنهيدة حارة وصمت لبرهة من الوقت ثم تشدق بصوت أجشَّ :
_ طيب هشوف
استقامت وارسلت له ابتسامة وهي تهمس :
_ شكرًا
نظر لها بجمود ووجه خالي من التعابير فاستدارت هي وانصرفت وبعد أن اغلقت الباب وقفت خلفه تبتسم بسعادة داخلية حين استعادت توجيهاته الحازمة لها حول ردائها ، وقوي الأمل بداخلها أنها قد تكون أوشكت على تحقيق هدفها ! .
***
في تمام الساعة الثانية ظهرًا ……
كانت بمنزل والدها وتجلس بجانبه على الفراش وبين ذراعيه في صمت حتى همست بعتاب :
_ بس كان المفروض تقعد في المستشفى يابابا عشان تبقى تحت رعاية الدكاترة علطول
أجابها بصوت هادئ :
_ ما إنتي عارفاني ياحبيبة بابا مبحبش أقعد في المستشفيات وأنا الحمدلله كويس دلوقتي وأمك ربنا يخليها لينا مش بتخليني اتحرك من مكاني من وقت ما جينا من المستشفى
ابتسمت له بحب وامسكت بيده تقبلها هاتفة :
_ ربنا يخليكم لينا
_ عاملة إيه مع جوزك .. وهو عاملة إيه زين ؟
سألها بابتسامة عذبة لتختفي ابتسامتها تدريجيًا ويحل محلها العبوس ولكن سرعان ما رسمتها باحترافية وقالت بتصنع السعادة :
_ الحمدلله يابابا كويسين وزي الفل .. وهو كويس اتصل بيا من شوية وقالي إنه جاي في الطريق
أماء لها بالإيجاب ثم دخلت أمها وهتفت ضاحكة بمداعبة :
_ مش هتكبري على الحركات دي يابت
همت بأن تجيب عليها ضاحكة ولكن رنين الباب أوقفها وأشارت لأمها التي همت بالذهاب لتفتح بأنها هي التي ستذهب وتفتح وقالت :
_ خليكي أنا هروح افتح ده تلاقيه زين
قادت خطواتها الطبيعية نحو الباب وفتحته وكما توقعت كان هو فابتسمت له برقة وافسحت له الطريق للعبور ، ليهمس هو بتساءل قبل أن ينزع حذائه بجانب الباب :
_ في حد عندكم ؟
فهمت مقصده حول هل يوجد نساء من اقاربهم أو معارفهم أتو لزيارة والدها وتمني الشفاء له أم لا ، فهزت رأسها بالنفي وتمتمت بصوتها الناعم :
_ لا مفيش حد غير ماما
بدأ في نزع حذائه عنه وهو يغمغم بخفوت :
_ طيب قوليلها إني جيت
خرجت أمها من الغرفة وهي ترحب به ترحبيًا حارًا ومدت يده تصافحه ففعل وهي يرد عليها ترحبيها به باحترام شديد ثم اصطحبته معها إلى غرفة زوجها وجلس معه بعدما عانقه وتمنى له الشفاء العاجل أما ملاذ فذهبت للمطبخ وبدأت في تحضير كوب شاي له فقد عرفت خلال الأيام القليلة منذ زواجهم أنه يفضل الشاي كثيرًا وأكثر من أي شيء آخر ، وبعد دقائق قصيرة عادت لهم وهي تحمل الكوب على صينية صغيرة ثم وضعته أمامه على منضدة صغيرة الحجم وجلست على مقربة منه تتابع حديثة مع والدها الذي استمر لربع ساعة بالضبط ثم استأذن منهم بالرحيل ليوقفه أبيها هاتفًا :
_ خليك اتغدى معانا يابني !
أجابه بامتنان ونبرة مهذبة :
_ ربنا يخليك ياعمي مرة تاني إن شاء الله .. معايا شغل في الشركة لسا مخلصتهوش والله
_ ماشي يابني مش هعطلك عن شغلك ، ربنا يعينك ويقويك
ودعه ثم انصرف ووقف بجانب الباب يرتدي حذائه ، لتلحق هي به وتقف خلفه تنتظره حتى ينتهي ويلتفت لها لتهمس بنبرتها الأنوثية الخافتة :
_ هتاجي تاخدني إمتى ؟
أجابها بجفاء بسيط وإيجاز دون أن يكون في وجهه أي شيء من البشاشة أو جزء من انحراف شفتيه للجانب كابتسامة لطيفة :
_ على الساعة 8 إن شاء الله
ثم فتح الباب ورحل فأغلقته خلفه ببطء وهي تأخذ نفسًا عميقًا بأسى وشجن ، فهو لن يجعلها تحصل على المسامحة منه بسهولة وكأنها لم تخطأ في شيء يستحق الخصام والعقاب !! ….
***
مر أسبوعًا كاملًا وطرأت معه بعض التغيرات الطفيفة ، يسر لا تزال تحاول تجنب حسن قدر الإمكان حتى تفكر ماذا ستفعل وماذا ستكون خطتها القادمة ولكن تجد أن الشجار قد أدي بنتيجة إيجابية معه على عكس توقعها ، وملاذ لم تجد أي نتيجة لمحلاتها البائسة في إثبات أنها نادمة على كل شيء .. ولكنها لا تنكر أنه بدأ يكون أقل حزمًا معها ، وشفق باتت لا ترى كرم سوى دقائق قليلة إما على الطعام أو حين يكون في الحديقة يشرب قهوته .. لم تكن مدركة أنه يتجنب محادثتها عمدًا !! .
كانت تجلس في الحديقة على نفس المقعد الهزاز التي تجلس عليه دومًا ، تتأمل النجوم الساهرة وتسترجع ذكرياتها من أخيها وأمها ، وتحزن على الحال الذي هي فيه ثم تعود وتحمد ربها رغم كل شيء ، وتفكر إلي متى ستقطن في منزل الغرباء لابد من وضع الحدود لكل هذا ، وجال بذهنها فكرة أن تتصل بعمها ولكنها تعرف جيدًا شر زوجته وابنائه وبالأخص ابنه الأكبر الذي تهاتف عليها لسنوات ورفضته وكان هذا بداية المشاكل بينهم عندما وقف أخيها ضد عمه الجبار وطلب منه أن يبتعد عنهم تمامًا ويبعد ابنه عن شقيقته وإلا ستكون نهاية هذا الأمر سيئة .. أخيها !! ، أصبحت عارية لا تجد الستار الذي كانت تستتر خلفه ، لم يعد هناك السند أو القصر المنيع الذي تلوذ إليه وتحمي نفسه داخله وهي متيقنة أنها ما دامت داخله فهي في آمان من شرور الناس .
اعتدلت في جلستها فورًا حين رأته يقترب منها وهو يحمل في كل يد كوب قهوة دافئة ثم اقترب وجلس على المقعد المجاور لها ومد يده لها بكوب القهوة الثاني فأخذته من يده وهي تبتسم بحياء واضطراب من ملامح وجهه الصارمة على عكس طبيعته مع الجميع وليس معها فقط ، فساد الصمت بينهم للحظات وكلاهما يحتسي من كوبه في صمت حتى أتاها صوته القوي وهو يقول :
_ عدى اسبوع واستنيت تاجي وتقوليلي بنفسك مجيتيش .. ليه مقولتيش إنك عارفاه لما شوفتي صورته في اوضتي ؟!!
قُيَّد لسانها وأصابها الارتباك والقليل من الدهشة حين تأكدت أنه عرف بكل شيء ، فابتلعت ريقها وتمتمت بخفوت وهي تتحاشى النظر إليه :
_ خوفت أقولك لتصمم على اللي في دماغك أكتر لإني كنت عارفة من سيف الله يرحمه إنك مش سايب مكان وبتحاول تلاقيه وعايز تنتقم منه ، محبتش أكون سبب لو بسيط في حاجة ممكن تأذيك
هتف في صوت غليظ وغضب مكتوم :
_ إنتي عرضتي نفسك للخطر .. لو كنتي قولتيلي من وقت ما كنتي شاكة فيه مكنش اللي حصل معاكي في بيتكم ده هيحصل لإني مكنتش هسمحلك تقعدي وحدك أبدًا ، وأنا كدا كدا كنت هلاقيه وهوصله سواء عرفت إنه هو اللي بيبتزك أو لا بس زي ما قولتي اللي عمله ده خلاني اصمم أكتر على اللي ناوي أعمله فيه
فهمت في لمح البصر ما ينوي الفعل به ، وهو الثأر لروح زوجته التي خرجت وهي تتعذب ، فهتفت في ذهول وشيء من الرجاء :
_ ولما تدخل السجن بسببه هتستفاد إيه ، هتبقى خسرت مراتك وخسرت حياتك .. الأفضل إنك تسلمه للشرطة وتسيب القانون يعاقبه
نظر لها مبتسمًا بإزدراء وهو يتمتم :
_ وهي الشرطة هتقدر تطفي النار اللي جوايا !! .. خلاصة الكلام ياشفق أنا جيت عشان أقولك مش هينفع تمشي من هنا غير لما امسكه لإن ماما قالتلي إنك عايزة تمشي
ثم هب واقفًا واتجه نحو الداخل مجددًا وتركها معلقة نظرها عليه وهو يبتعد عنها بأعين دامعة !! ……..
***
عاد من عمله مبكرًا اليوم على غير عادته وكان متعبًا ودخل فورًا لغرفته حتى ينام والآن الساعة قاربت على العاشرة مساءًا ومازال لم يتسيقظ !! .
القت هي نظرة على ساعة الحائط بنظرات قلقة ثم استقامت وقررت أن تدخل له وتطمئن عليه وتعرف سبب نومه لكل هذه الساعات فهو منتظم في ساعات نومه ولا ينام لساعات طويلة هكذا ، قادت خطواتها نحو غرفته وفتحت الباب ببطء وادخلت رأسها تنظر له فوجدته في فراشه متدثر بالغطاء حتى كتفه ووجهه يعطي أحمرارًا ليس طبيعيًا فدخلت دون تردد واقتربت منه تتلمس بباطن يدها جبهته ووجنته لتجد حرارته مرتفعة جدًا فتخرج فورًا لتجلب دواء للانفلونزا وملأت كوب ماء ثم عادت له وهمست في رفق وهي تهزه بلطف حتى يستيقظ :
_ زين .. زين قوم خد البرشام ده
فتح عيناه بصعوبة واعتدل نصف اعتدالة في نومته حتى يتمكن من شرب الماء وأخذ الدواء ثم عاد وتدثر مجددًا بالغطاء مغمغضًا عيناه التي لا يقوي على فتحهما من ارتفاع حرارة جسده ، بينما هي فخرجت مجددًا وعادت بعد لحظات وهي تحمل بيدها منشف صغير أكبر من حجم اليد قليلًا وغمسته في الماء ثم أخرجته وعصرته وطوته ثلاث مرات ثم وضعته على جبهته فرفع هو يده وازاحه هامسًا بصوت ضعيف يكاد لا يسمع :
_ اطلعي ياملاذ وسبيني أنا هنام وهصحى الصبح كويس إن شاء الله
هتفت برفض قاطع وشيء من الغضب :
_ لا مش هسيبك إنت مش قادر تفتح عينك من التعب
ارتفعت نبرة صوته قليلًا وهو يقول بخشونة :
_ قولتلك اطلعي ملكيش دعوة بيا
امسكت بالمنشفة الصغيرة وعادت تضعها على جبهته مجددًا هاتفة في إصرار وحدة :
_ متعاندش معايا لما حرارتك تنزل إن شاء الله هبقى اطلع وأسيبك ، وممكن تسكت بقى وتسيبني أعملك الكمادات
ليس لديه القدرة لمقاومتها أو الجدال معها فاستسلم لأمره وأغمض عيناه من جديد تاركًا إياها تفعل به ما تريد ، واستمرت لدقائق تضع الكمادات على جبهته حتى هدأت حرارته المرتفعة قليلًا ، فتنهدت هي بارتياح وجعلت تتفرس ملامحه بابتسامة جميلة ومحبة ثم مدت يدها تمررها برقة على شعره الأسود الغزير .
لم يمر أسبوعين على زواجهم ولكنه نجح بسهولة أن يتولى منصبه في قلبها وأصبحت شبه متأكدة من أنها الآن يمكنها إعلانه سلطانها الجديد وتدق الطبول احتفالًا ببداية عهده .
سمعته يهمس في صوت خافت :
_ اطفي المروحة ياملاذ .. أنا بردان
_ مش هينفع اطفيها لازم اشغلها عشان تجدد الهوا في الأوضة أنا مشغلاها على أقل درجة
ثم رفعت جزء من الغطاء وتدثرت بجانبه دون أن تضع رأسها على الوسادة ليقترب هو برأسه من جسدها يستمد منها الدفء فتبتسم بحب ودفء وتضمه لصدرها بعد أن تمددت كليًا بجواره وأخذت تغلغل أصابعها بين خصلات شعره وتعبث به برقة حتى غلبه تعبه ونام بين ذراعيها ولحقت هي به بعد دقائق .
فتح عيناه في صباح اليوم التالي بتكاسل وخمول ونظر لها بصمت للحظات وهي نائمة بسكون بجانبه فاعتدل في نومته وانحني طابعًا قبلة رقيقة على جبهتها ثم نهض من الفراش وغادر الغرفة متجهًا للحمام لكي يأخذ حمامًا دافيء ويزيح آثار الحمى عن جسده ، وبعد دقائق خرج وهو يرتدي بيجامة منزلية من اللون الأسود والرصاصي ، ثم ذهب للمطبخ وبدأ في تحضير كوب الشاي الصباحي الخاص به .
فتحت عيناها وتمطعت بذراعيها للأمام ثم اعتدلت جالسة ونظرت بجوارها فلم تجده لتقطب حاجبيها باستغراب ونهضت لتغادر الغرفة فسمعت صوت قادم من المطبخ .. علمت أنه فيه فتوجهت صوبه ووقفت بجوار الباب متمتمة في رقة :
_ صباح الخير
رد عليها باقتضاب دون أن ينظر لها :
_ صباح النور
اقتربت منه ووقفت بجواره ثم مدت يدها لتتحسس جبهته هاتفة بنعومة :
_ بقيت كو……
امسك بيدها قبل أن تلمسه وابعدها هاتفًا في صلابة :
_ كويس .. كويس الحمدلله
طالعته بنظرات رجاء أن ينهي عقابه لها ، فقد بدأت نفسها تتألم من جفائه معها ، ليخرج صوتها عابسًا :
_ هتفضل لغاية إمتي كدا يازين ؟
وضع السكر في كوب الشاي ثم بدأ يقلب بالمعلقة وهو يردف بصوت رجولي أجشَّ :
_ هيفضل حبك لخطيبك حاجز بينا ، وهيفضل خداعك ليا نقطة سودا في علاقتنا
هتفت بنبرة صوت مرتفعة قليلًا وصدق ينبع من صميم فؤادها :
_ مبقتش أحبه ، والله العظيم مبقتش بحبه ليه مش عايز تفهم !! .. أنا مفيش حياتي حد غيرك ومبقتش بفكر غير فيك ، وعايزاك تديني فرصة اثبتلك ده واثبتلك إني مش بفكر فيه نهائي وإني ندمانة على اللي عملته ، اديني فرصة استعيد ثقتك فيا من جديد
نفسًا قويًا أخذه وأخرجه زفيرًا حارًا قبل أن يهتف في غلظة صوت ونظرة ثاقبة كالصقر :
_ طيب هديكي فرصة ولو معرفتيش تستعيدي الثقة دي هيحصل إيه
_ مفيش لو .. أنا هصلح كل حاجة عملتها صدقني
امسك بكوب الشاي والقي عليها نظرة قوية قبل أن ينصرف ويتركها تتراقص فرحًا من داخلها وتفكر ماذا ستفعل لتتمكن من إعادة المياه لمجاريها ، فارتفعت لشفتيها ابتسامة مختلطة بمزيج من المشاعر الرومانسية حين تذكرت نومها ليلة أمس وهو بين ذراعيها ، إحساس داهمها لا تجد الكلمات لوصفه سوى أنها شعرت بالسلام والراحة النفسية بجواره !! .
***
فتحت الباب ببطء ودخلت حتى توقظه فتجده مازال نائمًا ، تنهدت بعمق ثم اقتربت من الفراش وجلست على الحافة بجواره تبتسم بحب ، لا تعرف سبب تغيره معها منذ آخر شجار بينهم والذي كان من أسبوع كامل .. لم يكن تغيرًا جذريًا ولكنه لم يعد يعاملها باحتقار وتقرف بل أصبح عاديًا تمامًا يتحدث بطبيعية مما جعلها تشك بأمره وتتساءل بفضول وحيرة ، هل خطتها تسير في الطريق الصحيح أم أنه أشفق عليها ؟ أم ماذا ؟ ، كانت تسأل نفسها هذا السؤال منذ ثلاث أيام وتخشى أن تسأله فتسمع منه ردًا يدخل اليأس لقلبها أو تسمع ما لا تريد سماعه وينفعل فيشب شجار جديد .. وكانت تفضل عدم معرفتها سبب هذه المعاملة يكفي أنها تسعدها وتعطيها المزيد من الأمل .
انحنت نحوه وطبعت قبلة طويلة على وجنته تبث بها كل شوقها وحبها له ، ففتح هو عيناه دفعة واحدة بشيء من الفزع حين شعر بها وخرج صوته تلقائيًا :
_ بتعملي إيه !
ارتدت للخلف فورًا في زعر وهتفت بتوتر مع قليل من الخجل :
_ ولا حاجة كنت جاية اصحيك عشان منتأخرش على الشغل
اعتدل وفرك عيناه متمتمًا بابتسامة مزدردة :
_ وإنتي كدا بتصحيني ولا بتتحرشي بيا وأنا نايم
أشارت إلي نفسها بسبابتها هادرة بدهشة وترفع :
_ أنا !! .. بيك إنت !! ، ده على أساس إن إنت ملاك طاهر نازل من السما عشان اتحرش بيك مثلًا
أبعدها عن طريقه وهو يقول بضحكة خفيفة :
_ طيب ابعدي
نزل من الفراش وتوجه للحمام لكي يأخذ حمامًا صباحي قبل الذهاب للعمل أما هي فقد همست لنفسها في فضول قاتل :
_ لا ما أنا هتحصلي حاجة لو مفهمتش هو بيتعامل معايا كدا ليه !
خرجت وبدأت في وضع طعام الإفطار في الصحون ومن ثم ترتيبها على الطاولة الأمر الذي استغرق منها ما يقارب العشر دقايق ، وبعدما انتهت اندفعت نحو غرفتها مجددًا حتى تستعجله وفتحت الباب لتجده يلف منشفة على نصفه السفلي وكان سيهم بفكها لولا دخولها الذي اوقفه ، فاستدارت فورًا بجسدها كاملًا توليه ظهرها هاتفة بإيجاز :
_ أنا حطيت الفطار يلا عشان ميبردش
ثم خرجت وأغلقت الباب بسرعة وهمت بالرحيل من أمام الباب ولكنها توقفت حين عزمت على أن تحصل منه على إجابة للسؤال الذي تطرحه منذ أيام ، فانتظرت لدقيقة وطرقت على الباب هاتفة :
_ حسن
_ اممممم
قالت بترقب لإجابته :
_ خلصت ؟ .. عايزة اقولك حاجة
_ ادخلي خلصت
فتحت الباب من جديد فوجدته ارتدي بنطاله فقط ، هل سألته انتهيت أم لا لتقصد البنطال فقط ، ولكنها لم تركز كثيرًا عليه وحاولت أن تثبت نظرها على وجهه فقط ثم اقتربت منه ووقفت بجانبه وتابعته وهو يفتح الخزانة ويلتقط قميصًا من اللون الازرق الداكن ويدخل ذراعيه في أذرعته وكان على وشك أن يغلق أزراره ولكن سؤالها جعله ينتبه لها أكثر وينظر لها ، حيث قالت بوضوح دون أي مقدمات :
_ إيه سبب تغيرك معايا من ساعة ما اتخانقنا على موضوع الطلاق
اتاها صوته القوي وهو يبتسم ببساطة :
_ أنا متغيرتش ، بس تقدري تقولي إني لقيت إن شغل القط والفار ده مش هيفيد بحاجة بالعكس هيوجع دماغي أنا والأفضل إني اتعامل معاكي بسلاسة وعادي جدًا لغاية ما نتطلق
هذا ما كانت تخشى سماعه ولهذا كانت مترددة في سؤاله ، وعلى عكس المتوقع منها غمغمت في شيء من السخرية :
_ يعني إنت خلاص قررت إنك هتطلقني
بدأ يزرزر قميصه وهو يقول بمبالاة :
_ إنتي شايفة إننا ينفع نكمل مع بعض !!
قالت بهدوء تام :
_ ومينفعش ليه !؟
نظر لها وقال ببرود قاسيًا وكلمات دخلت في قلبها كالسقم الذي يفتت الأعضاء :
_ عشان احنا مننفعش لبعض وعشان أنا مش قادر أحبك
رفضت الكلمات الخروج ورفض صوتها أن ينطلق من حنجرتها وفقط شعرت بأن دموعها على وشك التجمع في عيناها ، وما زاد الأمر سوءًا استرساله في الحديث ولكن هذه الأمر ببعض اللين :
_ إنتي مش هتقدري تغصبي حد عشان يحبك يا يسر .. أنا مش بحبك فعلًا بس كمان مش بكرهك أنا بكره تصرفاتك وأفعالك ومش عايز أكرهك فعشان كدا هننصبر لغاية ما تعدي فترة على جوازنا وبعدين هنطلق .. صدقيني ده أفضل حل لينا احنا الاتنين
لديه الحق في جملة واحدة فقط ، هي لن تستطيع إجباره على حبها .. فكل شيء يمكن أن يكون بالإجبار إلا القلب فلا تتمكني من فرض سيطرتك عليه وجعله يخضع لقوانينك ويذعن لك ، لن تتمكني من جعل القلب يستلطف شخصًا أو يكرهه أو يحبه بالإجبار .
الآن فقط يمكنها أن تبارك له على الفوز وتتقبل خسارتها النكراء .
امتلأت عيناها بالدموع وقالت في انكسار وعجز :
_ موافقة ياحسن
أحاط بكتفيها وتمتم في لطف وحنو مع زرانة وتعقل :
_ من غير زعل يايسر أنا مدرك حبك ليا بس احنا مش لبعض ، وإنتي أكيد هتنسيني بعدها بفترة وهتلاقي الشخص اللي ينسابك ويحبك إنتي تستاهلي واحد يقدرك ويحبك لكن أنا مش هقدر أكون الشخص ده .. إنتي محتاجة واحد زيك !
قال جملته الأخير بابتسامة مداعبة لتجيبه بتعجب :
_ زيّ إزاي يعني ؟!
أكمل بمزيد من المشاكسة حتى يجعلها تبتسم :
_ واحد خبيث زيك عشان تتأقلموا مع بعض لكن أنا طيب وغلبان جمبك وبخاف على نفسي منك أحيانًا
ابتسمت بالفعل وأظهرت عن أسنانها البيضاء الناصعة ثم قالت بنبرة عادية تتصنع من خلالها الثبات :
_ طيب خلص لبس وتعالى أنا هستناك برا عشان الأكل
أماء لها بالموافقة لتستدير هي وتنصرف وبمجرد ما خلت بنفسها في الخارج تركت العنان لدموعها تسقطهم في صمت وهي تشعر بتمزق قلبها من الألم والحرقة …….
***
يبحث في مكتبه الصغير عن بعض الأوراق الخاصة بالعمل لكي يأخذها معه ، وبينما هو منشغل بالبحث عنها دخلت عليه هدى وأغلقت الباب خلفها وهاتفة :
_ رايح الشركة من دلوقتي ياكرم ؟
_ أهاا إنتي عايزة حاجة ولا إيه ؟!
استغرقت لحظات وهي تجهز الكلمات بذكاء في عقلها حتى تصل لمبتغاها ، ثم اقتربت منه وهمست في صوت منخفض قليلًا :
_ هتعمل إيه مع شفق وأخرة ما تقعد هنا يعني أهو عدي أسبوع وهي ذات نفسها عايزة تمشي
قال يإيجاز وعدم اهتمام وهو لا يزال يبحث في الأدراج عن ما يريد :
_ أنا اتكلمت معاها إمبارح ياماما وفهمتها الموضوع
استفزها عدم اكتراثه للأمر فهتفت في حدة ملحوظة في نبرتها :
_ مينفعش تقعد هنا كتير ياكرم وهي مهما كان فهي غريبة عننا ومش من عيلتنا وملاذ ويسر لما بياجوا هما وإخواتك بحسهم بيضايقوا وبذات يسر ، ده غير إن جدتك كمان أسبوع ولا حاجة وهتاجي وهتعوز تخلي حسن وزين ياجوا ياخدوا يومين معانا هنا ، وعيب تقعد وسطيكم وهي غريبة عنكم كلكم
عثر على الأوراق أخيرًا ثم القاها على سطح المكتب وهو يجيبها بفتور وشيء من الانفعال البسيط :
_ وأنا أعمل إيه بس أسيبها في بيتهم وحدها ويحصل معاها زي ما حصل لما جبتها ، أنا تعبت والله كل حاجة بتضغط عليا !! ، لو عندك حل وهيخليها في آمان قوليه وريحيني
ابتسمت بمكر وقالت مباشرة دون أي مقدمات :
_ اتجوزها
الجمته الكلمة في أرضه وجعلته يحدق بأمه في دهشة ولا يستوعب ما اخترق سمعه للتو ، وسرعان ما ضحك ساخرًا دون أن يتحدث ويسمع استرسالها في الحديث وهي تقول بحكمة :
_ ده الحل الأمثل ، إنت هتفضل تحميها كدا لغاية امتي لكن لما تتجوزها هتبقى تحت عينك وهتكون برضوا نفذت وصيت سيف الله يرحمه وهتخلي اخته في كنفك وجمبك علطول وفي حمايتك
استمر في ضحكه المندهش وهمهم في ازدراء :
_ أنا مش مصدقك والله ، ولا مستوعب اللي بتقوليه
رسمت محل ابتسامتها قسمات الحزم والاستياء البسيط وقالت في شيء من الجفاء :
_ مش مستوعب ليه !! ، إنت عايز تفضل عازب كدا علطول.. هي اروى هترجعلك تاني مثلًا ولا إنت بقى هتوقف حياتك عليها وهتتقمص دور المخلص ليها لآخر عمرك
اطال النظر في وجهها للحظات فلقد كانت كلماتها قاسية عليه ولم يتوقعها منها قط ! .
خرج صوته الغليظ وهو يهم بالانصراف :
_ بظبط هو ده اللي هعمله يا أمي
وصل عند الباب وتوقف عندما سمعها تهتف في قسوة ونبرة لا تحمل المزاح أو الرحمة :
_ لو موافقتش تتجوزها اعتبرني مت وهغضب عليك لغاية ما أموت ولساني مش هيخاطب لسانك أبدًا .. شوف بقى هتختار إيه
التفت لها برأسه ومال بها قليلًا للجانب وكأنه يتوسلها بنظراته قائلًا ” لا تفعلي هذا بي أرجوكِ ، لا تجبريني على الاختيار بينكم ! ” ، بينما هي فوضعت الصخر على قلبها حتى لا تلين له ولنظراته التي تذيب الثلج واشاحت بوجهها بعيدًا عنه ترفض النظر إليه موضحة له عدم رغبتها في رؤيته إلا حين يخبرها بقراره النهائي ، فيصدر هو تنهيدة مسموعة في حيرة وألم ثم قام بفتح الباب ورحل وتركها تتخبط في مشاعرها مابين شفقتها عليه وما بين رغبتها في أن تراه سعيدًا حتى لو لن يكون في البداية سعيدًا ولكنها متأكدة بأن هذه الفتاة هي التي ستعالج الآمه وفي النهاية هو بنفسه سيشكرها !! ….
***
أوقف سيارته في المكان المخصص داخل الحديقة ثم نزل منها وقاد خطواته الطبيعية نحو الباب وطرق عدة طرقات خفيفة لتفتح أمه الباب وتهتف بدهشة امتزجت بالسعادة :
_ إيه ده زين .. مقولتش ليه إنك جاي
انحنى والتقط كفها يقبله برقة ثم يعانقها وهو يردف :
_ عاملة إيه يا أمي ؟
_ الحمدلله ياحبيبي بخير وإنت عامل إيه .. مراتك مجاتش معاك ولا إيه ؟!
أجابها بالنفي وشيء من العجلة :
_ لا مجاتش أنا جيت اتكلم مع رفيف في حاجة وماشي تاني عشان معايا اجتماع
قطبت حاجبيها باستغراب وتشدقت بريبة والقليل من القلق :
_ خير هو في حاجة ولا إيه ؟
ملس على وجنتها بحنو هامسًا :
_ خير إن شاء الله .. أنا هروح اشوفها
ثم تركها وتوجه للأعلى مسرعًا وبينما هو في طريقه لغرفة شقيقته قابل شفق التي كانت في طريقها للأسفل حتى تشرب فأجفل نظره عنها فورًا أرضًا وتوقف لثانية واحدة القى عليها تحية السلام وقاد آخر خطواته لغرفة شقيقته دون أن ينتظر منها الرد حتى لترد هي في نفسها تحية السلام عليه وتكمل طريقها للأسفل وهي تبتسم بتعجب من هؤلاء الإخوة ، فكرم كان يرفع نظره إليها بصعوبة في البداية بسبب حياءه وأخيه الأكبر لا يختلف عنه كثيرًا سوى أنه ملتزم ولا يرفع نظره في امرأة أيضًا ولكن ليس من حياءه بل من فرط تدينه وأخلاقه الحميدة ، وخلال المرتين التي رأت فيهم حسن اتضح لها من مجرد نظرة أنه لا يشبه إخوته بتاتًا في شيء ! .
طرق الباب وانتظر أن يأتيه صوتها تسمح للطارق بالدخول حتى فتح الباب ودخل وبعفوية شديدة وثبت من فراشها واقفة وعانقته مرحبة به بحرارة فغالبًا يكون الأخ الأكبر للفتاة الوحيدة بمثابة أب وليس أخ .
بادلها هو ترحبيها به بحنوه المعتاد عليها وهو يهمس في صوت ينسدل كالحرير ناعمًا :
_ عاملة إيه يارفوفتي ؟
دلعه المميز لها هو ما قاله ” رفوفتي ” ولكن من أشقائها يدلعها على طريقته ، فمثلًا حسن يقول لها أحيانًا ” فيفي ” وكرم ” رورو ” ولكن الأقرب لقلبها هو ما يناديها به أخيها الأكبر .
غمغمت في رقة :
_ الحمدلله كويسة وإنت ؟
_ بخير الحمدلله ، أنا حسن كلمني من كام يوم في موضوع الشغل وقالي إنك قولتي ليسر وكدا وكنت عايز آجي اتكلم معاكي في الموضوع ده بس مكنتش فاضي
تهللت اساريرها وقالت بحماس :
_ يعني موافق بجد !؟
جذبها من يدها بلطف واجلسها على الفراش وبدأ يتحدث بنبرة صوت جادة ونظرة ثاقبة تعرفها جيدًا منه مما جعلها تتوتر :
_ موافق وكمان جهزي نفسك وتعالي مع كرم بكرا عشان تبدأي ويسر تعلمك زي ما قالت ، بس مش هو ده الموضوع اللي جاي عشان .. قوليلي بقى إنتي كلمتي يسر فعلًا ؟!
ارتبكت بشدة وتلعثمت فطالما سأل هذا السؤال حتمًا عرف بأنها تحدثت مع ” علاء ” وكان يسألها بوضوح وبنظرته هذه لأنه متيقن أنها لم تتمكن من الكذب أمامه وإلا ستكون عواقب كذبها أشد ، فأخذت شهيقًا قوي واخرجته زفيرًا متمهلًا ثم تمتمت في توتر :
_ الصراحة لا .. بص هو مفيش حاجة أصلًا والله كل كل ما في الموضوع إني كنت راجعة من الكلية وعلاء شافني بالصدفة وقالي تعالي هوصلك البيت في طريقي وأنا ركبت وهو سألني عن الكلية والكلام جاب بعضه واتكلمت عن الشغل وكدا يعني وقولتله إنكم مش موافقين فقالي إنه هيكلم عمي ويخليه يحاول يقنعكم وعشان عمي مسافر فشكله قال ليسر وهي قالت لحسن ، بس هو ده اللي حصل والله
لو كانت كذبت كان سيغضب بشدة منها ولكن صراحتها هدأت من روعه كثيرًا وتمتم في رزانة ونبرة دافئة :
_ طيب وهو هل يصح إنك تركبي معاه في العربية وحدك
هزت رأسها بالنفي وهي تطرق رأسها أرضًا بإحراج وهمست في صدق وضيق من نفسها :
_ أنا مكنتش اقصد أعمل حاجة غلط والله ، هو لما قالي اركبي محبتش اكسفه وإنت عارف إن علاء كويس جدًا ولو كان غير كدا أنا مكنتش هتكلم معاه كدا نهائي أو هركب معاه أصلًا
أكمل بنفس نبرته السابقة :
_ أنا مقولتش حاجة على علاء أنا عارف علاء كويس وإلا كان زمانك هتشوفي ردة فعل مني مختلفة ، أنا بتكلم عليكي إنتي ، ده غلط واسمه خلوة وإنتي فاهمة يعني إيه خلوة .. فأنا مش هقول حاجة المرة دي وهعديها بس هتكون آخر مرة ولو حصلت تاني الصدفة دي ابقى اعتذري منه بأي طريقة ودايمًا تخلي في حدود في تعاملك مع أي راجل مش مع علاء بس وتبقى الحدود دي كمان لما تكوني مضطرة يعني في عمل أو شيء تاني إنتي مضطرة تتعاملي فيه مع راجل فتحطى حدود ومتسمحلهوش ولا تسمحي حتى لنفسك إنتي تتخطيها
ثم توقف عن الكلام للحظات واسترسل حديثه بابتسامة ساحرة ولين :
_ في مقولة بتقول زينة الغني الكرم وزينة الفقير القناعة وزينة المرأة العفة
هزت رأسها بالإيجاب وهي ترسم ابتسامة ناعمة على شفتيها :
_ حاضر صدقني آخر مرة ومش هتتكرر تاني
قرب رأسها من شفتيه ليقبل جبهتها متمتمًا قبل أن يستقيم واقفًا :
_ يحضرلك الخير ياحبيبتي أنا همشي بقى عشان متأخرش
ودعته بعناق سريع ثم انصرف وتركها تفكر في كلامه وتلوم نفسها بشدة على ما فعلته فهو لديه الحق في كل كلمة قالها ، وهي أخطأت حين سمحت لنفسها بأن تتخطى الحدود سواء مع شقيق ملاذ ” إسلام ” أو مع ابن عمها !! …
***
تجولت إلى مايقارب الساعة والنصف بين محلات الملابس النسائية وخاصة محلات الملابس الفضفاضة كالرداءات والعباءات والتنانير .. ألخ ، وبينما هي في آخر محل تحاسب على آخر شيء ستشتريه لفتت نظرها ساعة الحائط التي تجاوزت الثالثة عصرًا ، فخفق قلبها ببعض التوتر واسرعت للخارج بعد أن حملت أكياس ملابسها عازمة على الوصول للمنزل مسرعة داعية ربها ألا يكون وصل قبلها فهي لا تدري كيف ستكون ردة فعله .
نزلت من السيارة الأجرة أمام البناية الضخمة التي تقع شقتها في الطابق العاشر منها ، وتلفتت حولها فوجدت سيارته لتغمض عيناها بيأس وهو تزفر معنفة نفسها بشدة ، ثم أخرجت هاتفها ونظرت للشاشة وكان عدد الاتصالات الواردة منه تجاوزت الخامسة عشر مما أثبت لها أنها ستتلقى توبيخًا وسخطًا عنيفًا منه ، فقادت خطواتها المتعثرة لداخل البناية ثم استقلت بالمصعد الكهربائي وبعد لحظات وقفت أمام طابق شقتها فخرجت وتحركت صوب الباب ببطء وتردد تحاول إيجاد الحجج والأعذار التي ستبرر بها خروجها دون إذنه ، تفكر كيف ستهدأ من ثورته ! .
وضعت المفاتيح في قفل الباب وأدارته للشمال ثم فتحته بحذر وأدخلت جسدها تدريجيًا .. أولًا رأسها التي تلفتت يمينًا ويسارًا باحثة عنه ثم خطت بقدمها اليمني للداخل وأخيرًا جسدها كله ثم أغلقت الباب بحرص شديد وبطء ، وإذا بها تنتفض واقفة كأن عقرب لدغتها حين سمعت صياحه مناديًا عليها :
_ مـــــلاذ
ازدردت ريقها بارتباك والتفتت بجسدها بعد أن القت بالأكياس على أقرب مقعد منها ثم ذهبت له وهي تقدم رجل وتأخر الأخرى حتى وقفت أمامه وخطفت نظرة سريعة له لتجد وجهه مشتعلًا يعطي أحمرارًا مريبًا وخرج صوته الذي وقع في نفسها وقع مهيب ومخيف :
_كنتي فين ؟!
انزوت نظرها عنه في ربكة ملحوظة وهمهمت بأسف صادق :
_ أنا آسفة
ارتفعت نبرة صوته قليلًا وصارت أشد قسوة :
_ أنا مش بقولك اعتذري ، أنا بسألك كــنـــتي فــــيــــن ؟! ، وطلعتي من غير ما تقوليلي ومش بتردي على تلفونك كمان
كان صوتها منخفضًا وفيه شيء من للإحراج منه وهي تتمتم :
_ روحت اشتري كام حاجة ليا ومكنتش متوقعة إنك هتتعصب كدا أوي والله ولو كنت أعرف كنت قولتلك وأنا أساسًا كنت ناوية أرجع قبل ما ترجع بس تأخرت غصب عني
سرت رعشة في جسدها أثر صرخته العنيفة والثائرة بها وهو يخرج شحنة غضبه المكتظة داخله :
_ مفيش حاجة اسمها مكنتش متوقعة .. في حاجة اسمها إنك متجوزة ولما تطلعي من البيت تشاوريني وتاخدي إذني الأول مش تطلعي وتدخلي على مزاجك
هي لم تكن تقصد أن تخالف قواعد المرأة المتزوجة عند خروجها من المنزل ولكنها كانت تريد أن تفاجئه بما عزمت عليه ولا تريد أن يعرفه حاليًا إلا تحين اللحظة ، فرفعت نظرها له وقالت باعتذار ينبع من صميمها وصوت رقيقًا به خضوع كامل لأوامره :
_ حاضر .. أنا آسفة ، أول وآخر مرة صدقني مش هتتكرر تاني
لانت نظراته قليلًا لها وسكنت ثورته في الأعماق بعض الشيء ثم اقترب منها وهو يتفحص يديها الفارغتان مغمغمًا بغلظة صوته الرجولي :
_ وفين الحجات اللي جبتيها دي وإيه هي ؟!!
ابتسمت بلطف وتحدثت بنبرة انوثية ناعمة :
_ عملاها مفاجأة ليك لما ياجي وقتها هتعرفها
ران الصمت عليه لثوانٍ يحاول تخمين هذه المفاجأة التي تتحدث عنها ولكن لم يعطيها إهتمامًا زائدًا عن حده حيث نفضها عن ذهنه ، وثبت تركيزه على نفسه المتأججة بنيران الغيرة فكما أخبرها هو لا يستطيع الوثوق بها حتى الآن ولم تتمكن من إستعادة هذه الثقة ، وما يدور في عقله الآن هو سبب كل هذا الغضب ويجعله يحترق ويأكله أكلًا حيث همس في نظرة تركت أثرًا سلبيًا في نفسها ونبرة صوت خافتة تحمل لهيب الغيرة والازدراء معًا :
_ وياترى روحتي تشتري الحجات اللي عملاها مفاجأة ليا دي بس ، أصل إنتي متعودة بتقولي للناس رايحة مكان وبتكوني روحتي مكان تاني خالص
وقعت كلماته الجافة التي لا تحمل الرحمة كصخور ضخمة وتركت أثارها من جروح على جسدها وبالأخص قلبها ، أيشك بها ؟! ، يذكرها بليلة زفافهم حين أخبرتهم بأنها ذاهبة للحمام وخرجت لتقابل خطيبها السابق ، هل حقًا يظنها الآن خرجت لتقابله مجددًا ؟!!! ، ولكنها وعدته بأنها ستكف عن حبه وهي بالفعل فعلت ووعدته بأنها ستوهب حياتها لأجله وستكون ملكًا له ، واقسمت بأنها لا تريد سواه وأنها نادمة أشد الندم على الخطأ التي اقترفته وستبذل كل الجهد لتصحيحه ، هل يظن أن خنث الوعود من شيمها ؟! .. ربما خدعته واستغلته وخانته ولكنها لم تخنث وعدها أبدًا ولن تفعل .
غامت عيناها بالعبارات الحارقة والمعاتبة على ما قاله :
_ إنت شاكك فيا يازين !! ، أنا وعدتك إني مستحيل أقرر الغلط مرة تاني ومش معقول هكون بعمل كل اللي أقدر عليه عشان أصلح الوضع بينا واستعيد ثقتك واروح أعيد الغلط تاني ده يبقى اسمه غباء ووقتها ابقى استاهل إنك متدنيش فرص فعلًا .. أنا حلفت بالله أن القذر ده مبقيش في بالي أصلًا وإن إنت الراجل الوحيد في حياتي دلوقتي بس واضح إن حتى القسم بالله مخلكش تصدق ولسا بتشك فيا ومبقتش مجرد عدم ثقة لا كمان بقى شك إني بخونك وبقابله وبكمل علاقة حبي معاه
ثم استدارت وذهبت لغرفتها بعد أخذت أكياس ملابسها معها واجهشت ببكاء قوي وصل لأذنيه ، ليزفر متسغفرًا ربه فمهما حدث بينهم فإن آخر شيء يريد سماعه أو رؤيته هو بكائها ، اتجه نحو غرفتها وحاول فتح الباب ولكنه أبى ولم يفتح ففهم أنها أغلقته بالمفتاح من الداخل ، ثم أطرق على الباب بلطف هاتفًا :
_ افتحي ياملاذ
جاءه صوتها الباكي وهي تهتف بتضجر :
_ مش هفتح يازين وممكن تسبني وحدي لو سمحت
قال بلهجة آمرة بها شيء من الرفق :
_ قولت افتحي الباب ياملاذ .. افتحي يلا !!
وقفت مغلوبة على أمرها وفتحت له بوجه غارق في الدموع ليخرج منديلًا من جيبه ويمد يده به إليها وبنظرة دافئة ثم يهمس في هدوء ساحر :
_ فهمتي أنا ليه بقول الطلاق أفضل حل ولازم يحصل لإن أنا لا قادر اسامحك ولا قادر اشوفك بالوضع ده ، فده هيكون فيه خير ليكي أكتر مني
جففت دموعها بالمنديل الورقي الذي أعطاه إياه وهتفت بإصرار وحزم :
_ وإنت ادتيني فرصة ، لما استنزفها وقتها ابقى طلقني
_ ياريتك تمسكتي بالفرصة الأولى زي كدا وحافظتي عليها على الأقل مكنش ده هيبقى وضعنها
_ تمسكت بيها والدليل إني رفضت أسيبك وخدت عهد على نفس إني هشيل خطيبي من تفكيري ونجحت وزي ما نجحت هنجح دلوقتي كمان ، لإني مش عايزة اتطلق منك .. عايزة أفضل مراتك ، أنا بفتخر إني مراتك يازين وبقيت بحب ارتباط اسمي بإسمك
كانت تتحدث بثقة مفرطة وهي تخبره بأنها كما نجحت في تطهير قلبها من هذا الحب الخبيث المدنس ، ستنجح في استعادة ثقته بها وستتمكن من إزالة العوائق التي تحجب ضوء الشمس عنهم ، أما هو فقد دوت كلماتها الأخيرة في أذنيه التي ارسلت كلامها لعقله والذي بدوره قام بإفراز هرمون السعادة المسئول عن تحسين الحالة المزاجية ، فكان هو على وشك أن تنطلق منه ابتسامة عاشقة لهذا الكلام الذي بإمكانه أن يترك أثر إيجابي في نفس ورجولة أي رجل ولكنه كبح تلك الابتسامة بصعوبة وتكلف الجمود ولف ذراعه حول كتفيها طالبًا منها السير معه حتى الحمام ثم فتح الباب لها وقال بنبرة عادية :
_ اغسلي وشك واتوضي يلا عشان العصر أذن من نص ساعة
اماءت رأسها بالإيجاب ثم دخلت وأغلقت الباب عليها بهدوء ، وشرعت في غسل وجهها والوضوء لأداء فرضها وهي تجاهد في كبت دموعها من الانهمار مرة أخرى ! …
***
مع صباح يوم جديد كانت ملاذ تقف أمام مرآة غرفتها تستعد للذهاب لزيارة أهلها بعد أن طلبت منه الأذن ووافق وقال أنه سينتظرها ليأخذها معه في طريقه ثم يتجه هو لعمله بعد ذلك .
كانت ترتدي عباءة عصرية من اللون البينك مطرزة بفصوص بيضاء من الخرز وفوقها ترتدي حجابًا طويلًا اشبه بـ ( الخمار ) ثم قامت بإنزال النقاب على وجهها ، لم تكن تود أن تكشف عنه الآن وكانت تخطط لشيء آخر لتكشف له المفاجأة ولكن بعد ما قاله لها البارحة وشكوكه بها أنها لم تذهب لشراء بعض الأشياء الخاصة بها كما قالت وأنها ذهبت لمقابلة خطيبها السابق ، أثارت في نفسها الآم عنيفة وجعلتها تتخذ قرار حتمي بأن ترتديه اليوم وتثبت له صحة كلامها لعلها تستعيد ولو جزء صغير من ثقته بها .
القت نظرة أخيرة على مظهرها الخارجي فشعرت ولأول مرة أنها راضية عن نفسها وعن مظهرها ، رأت نفسها في هذه الملابس المحتشمة وهذا النقاب الذي يخفي وجهها أجمل من أي شيء ارتدته سابقًا ، فأخذت نفسًا عنيقًا واخرجته زفيرًا حارًا تستعد لمواجهته وترتب الكلمات التي ستقولها له ، فاستجمعت شجاعتها وثقتها بنفسها ثم خرجت من الغرفة واتجهت نحوه فوجدته جالس على أريكة متوسطة الحجم أمام التلفاز المغلق ويويلها ظهره وفي سبابة يده اليمنى مسبحة رقمية من اللون الأسود كلما يذكر الله يضغط على زرها فتقوم هي بالتسجيل والعد ، ازدردت ريقها بتوتر وهمست في صوت رقيق :
_ أنا خلصت !
التفت لها برأسه فلجمت الدهشة لسانه وتفحص مظهرها وملابسها بتدقيق ثم ثبت نظره على وجهه يحدجها بشيء من الذهول الممتزج بالإعجاب ، واستغرق الأمر ثلاث ثوانٍ بضبط حتى هب واقفًا وقال باستغراب متفهمًا عن سبب ارتدائها له فجأة هكذا :
_ إيه ده !!!
رفعته لأعلى لتظهر عن وجهها ثم تقترب منه بثقة تامة لا تعرف من أين جاءت بها وتهمس بصوت انوثي جذاب :
_ أنا اتفقت معاك من قبل الجواز إني هلبسه بإذن الله لما أكون واثقة من قراري ، ودلوقتي ده انسب وقت عشان اثبتلك إني مش عايزة أي راجل غيرك يشوفني !!
رفعته لأعلى لتظهر عن وجهها ثم تقترب منه بثقة تامة لا تعرف من أين جاءت بها وتهمس بصوت انوثي جذاب :
_ أنا اتفقت معاك من قبل الجواز إني هلبسه بإذن الله لما أكون واثقة من قراري ، ودلوقتي ده انسب وقت عشان اثبتلك إني مش عايزة أي راجل غيرك يشوفني !!
هيمن عليه الصمت للحظات بعد ما قالته فقد دفنت أي شيء كان من الممكن أن يقوله بعد أخر جملة تفوهت بها ، ولم يجد شيء ليقوله سوى تهنئتها حيث غمغم بابتسامة :
_ مبروك ياملاذ ، ربنا يثبتك
ثم هم بالاستدارة ليذهب فقبضت هي على ذراعه واردفت بتعجب :
_ بس !!
_ بس إيه !؟
قالها في ريبة حقيقية لتكمل هي بخيبة أمل :
_ اقصد مبروك بس ! .. يعني مش هتقول حاجة تاني ؟!
عاد يستدير بكامل جسده لها ويضيق عيناه متشدقًا ببرود وجفاء :
_ المفروض أقول إيه مثلًا أكتر من كدا !
زمت شفتيها بيأس وقالت في قسمات وجه واضح عليها العبوس :
_ أنا توقعت إنك هتفرح لأنك كنت متحمس جدًا ومبسوط جدًا بالفكرة لما قولتلك عليها بعد كتب الكتاب
ابتسم بازدراء وهمس بكلمات جعلتها تتأكد بأن جميع جهودها معه لم تجدي بنفع :
_ وانتي قولتي اهو بعد كتب الكتاب يعني قبل ماتحصل أي حاجة بينا .. دلوقتي إنتي متعنيش ليا بحاجة ياملاذ
شعرت بأن غدتها القنوية ستبدأ في افراز دموعها ، فقد اوشكت على فقدان الأمل في أن تعود العلاقة بينهم كما كانت ويعود هو لطبيعته الحانية والجميلة التي لم تشهدها سوى لمرات قليلة ولوهلة شعرت الآن أنها تشتاق لرؤية حبه لها ومعاملته التي شبه بمعاملة الملوك لزوجاتهم ، خرج صوتها مبحوحًا بنظرات منكسرة :
_ زين إنت بجد بقيت تكرهني !
اصدر تنهيدة حارة وقال متهربًا من الأجابة على هذا السؤال الذي لا يستطيع الأجابة عليه بـ لا ، فبرغم كل ما حدث بينهم مازالت تستحوذ على جزء كبير منه :
_ أنا بقول إن يلا بينا عشان اتأخرت على الشركة ، انا هسبقك على تحت وهستناكي في العربية وإنتي تعالي ورايا
ظلت مكانها تتابعه وهو يغادر المنزل ثم انزلت النقاب على وجهها مجددًا واخذت حقيبة يدها ولحقت به ، لتستقل بجواره في السيارة دون أن تنظر له مستغلة فرصة تغطيه وجهها لتترك العنان لدموعها من أسفله ، أما هو فكان يختلس نظرات سريعة لها من آن لآن فلا ينكر سعادته حين رآها ترتديه وبالأخص حين سمع جملتها بأنها لا تريد رجل سواه يراها ، والآن هو يواجه صراع بين رغبة قلبه وحكمة عقله التي ترفض الخنوع لها ويقتنع أن التي قامت بخداعه مرة بإمكانها أن تفعلها مجددًا !! ……
***
داخل منزل محمد العمايري ….
ينظر لصحن الطعام الذي أمامه بصمت ويحرك المعلقة يمينًا ويسارًا فيه دون أن يرفعها لفمه مطلقًا ، يفكر فيما قالته أمه له فقد كان جزء من كلامها صحيح والجزء الآخر يستحيل حدوثه ، هي لديها الحق عندما قالت إلى متى سيظل يحاول حمايتها ويرعاها هكذا وإلى متى ستبقى معهم في المنزل ، ولكن حلها للمشكلة بزواجه منها لا يمكن بل مستحيل .. ولا يستطيع أن يوهب قلبه لامرأة سوى زوجته التي تمثل مانع وحاجز بينه وبين أي امرأة أخرى ، فلقد نجحت في أن تعميه عن النساء اجمعهم في حضورها وحتى بعد مماتها ! .
انضمت لطعامه أمه التي جلست على مقعد في آخر الطاولة وبدأت في تناول طعامها دون أن تنظر له أو حتى تلقى عليه تحية الصباح فزفر هو بخنق وتمتم مبتسمًا بلطف :
_ صباح الخير !
ردت عليه في اقتضاب متصنع حتى توهمه بأنها بالفعل غاضبة منه ولن ترضى عنه إلا حين ينفذ ما تريد :
_ صباح النور
نهض من مقعده واقترب ليجلس على المقعد المجاور لها ثم امسك بكفها وقبل ظاهره بحنو متمتمًا في اعتذار صادق :
_ أنا آسف سامحيني اتعصبت عليكي امبارح غصب عني والله .. واوعدك لو إنتي مضايقة من وجود شفق هنا هشوف حل في أقرب وقت
سحبت يدها من بين يديه وهتفت في إصرار وقسوة وهي تكمل تناول طعامها :
_ وأنا قولتلك الحل ياكرم ومعنديش غيره وهنفذ اللي قولتهولك فعلًا لو متجوزتهاش
استغفر ربه وهو يزفر بنفاذ صبر ويتمتم متوسلًا إياه برقة :
_ يا ماما ابوس إيدك بلاش اللي بتعمليه ده ، إنتي عارفة إني مقدرش ازعلك مني وفي نفس الوقت مقدرش أعمل اللي بتقوليه ده ، متجبرنيش اختار بين حاجتين أنا مقدرش أعمل ولا واحدة فيهم
نظرت له واغلقت على قلبها بالمفتاح حتى لا يدخله بنظراته وكلامه ويضعف من موقفها ، وليخرج صوتها قاسيًا لا يحمل رحمة :
_ لازم تضحي بحاجة وشوف بقى إنت هتضحي بإيه
قال شبه غاضبًا دون أن يرفع صوته :
_ دي مفيهاش اختيار ولا تضحية ، إنتي كأنك بتطلبي مني ادمر حياة البنت ، أنا لو عملت اللي بتقوليه هبقى بظلمها وأنا مش هقبل بكدا لإني عارف إني مش هقدر انسى اروى ولا أحبها
_ هتحبها وابقى افتكر اللحظة دي لما تتجوزها ويحصل اللي بقولك عليه
هو رأسه نافيًا بعدم حيلة عندما أدرك استحالة الحديث معها ومحاولة اقناعها بأن تتوقف عن ما تفعله ، فهتف محاولًا تغيير مجري الحديث حتى لا يفقد زمام نفسه :
_ فين رفيف ؟
_ معاها محاضرة مهمة طلعت من الصبح بدري وبعد ما تخلص هتروح على الشركة
_ وشفق ؟!
هنا التزمت الصمت للحظات قصيرة ثم التقطت قطعة خيار والقتها في فمها متمتمة في برود وهدوء تام :
_ مشيت الصبح صمتت إنها تمشي وأنا مقدرتش امنعها .. أصل همنعها بأي حق ، وهي بنفسها قالت إنها مش مرتاحة هنا يعني رأيها من رأي في موضوع إنها مينفعش تقعد
هتف غير مستوعبًا ما قالته وفي شيء من الصدمة :
_ مشيت إزاي يعني !! ، وليه مصحتنيش ؟! ، وإزاي تسبيها تمشي بالسهولة دي ؟!!
_ هعملها إيه يعني هربطها في السرير مثلًا !
هب واقفًا وهو يتأفف بأنفاس ملتهبة فلقد نجحت الظروف في إخراج جانبه السيء ، ورغم كل هذا لازال ينجح في السيطرة على جموحه أمام أمه حيث هتف بهدوء مزيف :
_ وراحت فين ؟!
هزت كتفيها لأعلى بمعني ” لا أعرف ” ليخرج هو هاتفه ويتصل عليها فيجد هاتفها خارج نطاق الخدمة ليلقى نظرة معاتبة على أمه قبل أن يندفع لخارج المنزل ظنًا منه أنه عندما يذهب لمنزلها سيجدها فيه !! ……
***
مرت ساعة منذ استيقاظه وهو يجلس أمام التلفاز ولم يسمع لها صوت فليس من العادة أن يستيقظ ويجدها مازالت نائمة ، مما أثارت شكوك القلق بداخله فهب واقفًا واتجه نحو غرفتها ثم فتح الباب ببطء هاتفًا مناديًا عليها بصوت عادي :
_ يسر !!
فسمع صوت رذاذ المياه في الحمام ليدرك أنها استيقظت وتأخذ حمامها الصباحي ، ولكن فضوله دفعه للدخول وتفحص غرفتها واشيائها ، والقى نظرة شاملة وعامة أولًا على الغرفة متفحصًا جميع أجزائها بعيناه وبتلقائية قام بفتح الخزانة كنوع من الفضول أيضًا ولسوء الحظ أنه فتح الباب الخطأ حيث رفع حاجبه مبتسمًا بشيء من السخرية ومد يده يقلب بين ملابس العرائس النسائية التي لا تخلو خزانة زوجين منها ، كانت الوان وأشكال ومعظمها من الألوان المفضلة لديه هل هذه صدفة أم تلك الخبيثة خططت لكل شيء ! ، كان يخرج واحدًا واحدًا يمسكه من رأس الشماعة ويقلبه يمينًا ويسارًا ، هل كانت حقًا تظن أن الحياة بينهم ستكون ورديه لتقوم بشراء كل هذه الملابس المثيرة !! ، كان يحدث نفسه هكذا ، وبعد ما يقارب الدقيقتين أغلق الخزانة وهم بالمغادرة ولكن البوم الصور الموضوع على الفراش لفت نظره فاقترب وجلس ثم التقطته وبدأ يقلب في صوره كانت صورة تجمعها مع أصدقاء لها وصور جماعية عندما كانت في الجامعة ولكن احتوى الألبوم على صور كثيرة جدًا تجمعها بشاب لا يعرفه ربما كانت كثيرة أكثر من اللازم إلى الحد الذي جعله يتساءل بشدة وتصيبه الشكوك حول ما العلاقة التي تجمعها بذلك الشاب والذي تسمح لها بأن تلتقط كل هذه الصور معه وتقوم بحفظها داخل البوم !! .
خرجت من الحمام وهي ترتدي ملابس منزلية تصل لركبيتها وبحملات أظهرت عن ذراعيها كاملًا وجزء من صدرها العلوي وبمجرد ما رأته انتفضت واقفة بزعر واسرعت تنزل المنشفة التي على شعرها وتلفها حول ذراعيها لتخفي شيء قليلًا ثم هتفت باستغراب :
_ بتعمل إيه هنا ؟!!
تجاهل سؤالها ورفع الألبوم أمامها يسأل في ريبة واضحة وصوت غليظ :
_ مين ده ؟!
اقتربت وسحبت من يده الألبوم واغلقته ثم وضعته علي المنضدة الصغيرة بجانب الفراش وقالت في ضيق ملحوظ من عبثه بأشيائها دون إذنها :
_ مش لازم تعرف اعتقد إن مش هتفرق معاك ، ثم إن إنت أصلًا مين سمحلك تقلب في حاجتي من غير أذني
استفزه جدًا طريقتها ولكنه تمكن من تمالك انفعالاته وغمغم في برود كان مستفز أكثر بالنسبة لها :
_ أنا سألتك سؤال واحد وأظن أن الأجابة مش محتاجة الرغي ده كله
_ وأنا مش عايزة أقولك أساسًا
أجابها بنظرة صارمة وحادة :
_ أعرف ليه بقى ؟!
هتفت بعدما اكتراث له مطلقًا وكلمات اشعلت فتيل النيران في أعماقه :
_ حاجة متخصكش وبما إننا قريب أوي هنتطلق أعتقد ملهاش لزمة وممكن بقى تطلع عشان عايزة البس
صر على أسنانه وكور قبضة يديه كدليل على هيجانه الداخلي وأنه يمنع نفسه الثائرة عنها بصعوبة ، ثم هتف بابتسامة مزيفة تخفي خلفها جموح مخيف :
_ ماشي يايسر !
ثم انصرف وتركها تفكر في أمره وتبتسم بسعادة داخليه فلأول مرة ترى اهتمامه بشيء يخصها ، كان دومًا يشعرها بأنها نكرة وليست ضمن قائمته بتاتًا ، ولوهلة شعرت أنه تضايق بسبب هذه الصور ولكن رفضت هذه الأفكار السخيفة فآخر شيء تتوقعه منه الآن هو الغيرة ، ما حدث للتو ليس سوى بدافع فضوله وتطفله عليها !! …….
***
مع تمام الساعة الواحدة ظهرًا داخل شركة العمايري …..
كانت رفيف تتفحص مكتبها الجديد بابتسامة عريضة ، تتفقد كل شيء به وبالمكتب الخشبي ذو اللون الأسود والنافذة التي تعطي اطلالة رائعة على الشارع بالخارج من الأعلى ، وبينما هي منشغلة بالنظر من النافذة سمعت طرق الباب فالتفتت وسمحت للطارق بالدخول ، فوجدته علاء حيث فتح جزء من الباب وهتف باسمًا بمشاكسة مألوفة منه :
_ مبروك على الوظيفة الجديدة .. خلاص بقينا business woman
ضحكت بخفة ثم أجابته في رقة طبيعية منها :
_ ادخل ياعلاء
دخل وترك الباب مفتوحًا وجلس على مقعد وثير أمام المكتب وهتف ضاحكًا :
_ على حظك الوحش إن يسر مجاتش النهردا
جلس على مقعدها الخاص أمام مكتبها وقالت ببساطة وهدوء محاولة ان تكون أكثر حذرًا في التحدث معه حتى لا تتخطى الحدود كما وعدت أخيها :
_ مش مشكلة لسا الأيام جاية كتير إن شاء الله .. شكرًا جدًا ياعلاء إنت السبب الأكبر أني بدأت شغل هنا لولا إنك قولت ليسر وهي اقنعت حسن مكنتش هعرف اقنعهم نهائي
ابتسم لها بلطف وحدجها بنظرات دافئة مغمغمًا في صوت هاديء وجذاب :
_ أي خدمة يابنت العم ، أي حاجة تعوزيها هتلاقيني موجود اطمني .. يلا أنا همشي بقى أنا قولت آجي ابارلك على السريع بس ، عايزة حاجة ؟
هزت رأسها بالنفي وهمست مبتسمة بصفاء :
_ عايزة سلامتك !
هب واقفًا وانصرف بعد أن أغلق الباب خلفه أما هي فاستمرت في تفحص كل شيء يحتويه داخل الأدراج هذا المكتب متوسط الحجم …….
***
في مساء ذلك اليوم وبينما الساعة كانت قد تخطت الثانية عشر بعد منتصف الليل فتحت ملاذ عيناها ونهضت من فراشها وهي تفرك عيناها لتزيح بعض من أثار النوم حتى تتمكن من الوقوف والذهاب للمطبخ لشرب الماء ، فذهبت للمطبخ وشربت كوبًا من الماء البارد وبينما هي في طريق عودتها لفراشها وغرفتها سمعت صوتًا هاديء وجميل يتلو القرآن لوهلة ظنت أنه الراديو أو تسجيل لأحد الشيوخ من شدة جمال الصوت ، لتقود خطواتها نحو مصدر الصوت وتفتح الباب ببطء فتجده هو الذي يمسك بكتاب القرآن الكريم ويتلو آياته كسلاسل من ذهب بصوت يبعث السكينة والاطمئنان في النفوس ، فتبتسم هي بحب وتدخل ثم تغلق الباب خلفها بحذر شديد وتقترب منه لتجلس بجوايلا
على الأريكة الصغيرة وتستند بمرفقها على حافة الأريكة العلوية وهي مثبتة نظرها عليه تتلذذ بجمال صوته ، أما هو فانتهي من الآية وتوقف عن القراءة لينظر لها ويقول باستغراب :
_ إيه اللي مصحيكي دلوقتي ؟!
قالت برقة ساحرة وابتسامة تخطف القلوب بغمازتها :
_ قومت أشرب وسمعت صوتك فجيت
_ طيب روحي كملي نومك !
هزت رأسها بالرفض وهي تقول بصوت ينسدل كالحرير ناعمًا :
_ لا هنام جمبك هنا على صوتك ، كمل يلا
أردف في جدية بسيطة وحزم :
_ هتنامي هنا إزاي يعني قومي روحي اوضتك ياملاذ
تشدقت بإصرار والحاح تام :
_ يبقى تاجي معايا الأوضة وتقعد جمبي تقرأ قرآن لغاية ما أنام ، يا إما أقعد هنا
أدرك أنه لا مفر من عنادها وإصرارها فاستسلم لها وهتف مغلوب على أمره :
_ استغفر الله العظيم .. طيب اسبقيني على الأوضة وأنا جاي وراكي
ارتفعت ابتسامتها وكادت أن تشق طريقها حتى أذنيها من فرط سعادتها بموافقته أن يبقى بجوارها لدقائق الليلة في غرفتها حتى تنام ، ثم استقامت وعادت لغرفتها مجددًا وتدثرت بالغطاء لنصف جسدها وهي جالسة في انتظار مجيئه وبعد لحظات دخل واغلق الباب خلفه ثم اقترب ناحيتها وجلس على الفراش من الجهة الأخرى فمددت جسدها كاملًا ورفعت الغطاء حتى صدرها ونامت على الجهة المقابلة له اما هو فعاد يكمل التلاوة بداية من الآية التي توقف عندها ، وهي تحدق به بصمت وكم تمنت لو أن حياتهم تصبح طبيعية ، وكل ليلة يكون بجوارها ويقضي ليله معها في غرفة واحدة ، بدلًا من أن يكون لكل منهم غرفة منفصلة ! .
الآن فقط هي تستطيع وبكامل الثقة وعدم التردد أن تعلن عهده الجديد ، وقد ذعنت لقلبها وقبلت بما يحاول اقناعها به وهو أنها ” أحبته بشدة ” ولا تريد رجل سواه أن يكون معها .. ترغب في أن تكون زوجته لآخر نفس يخرج منها ، بل وأيضًا تود أن تكون أمًا لأولاده ولكن هيهات فهو لم يسمح لها بعد بالتوغل في قلبه من جديد وستضطر أن تعاني عقاب خطأها وتنتظر لحظة الإفراغ عن مشاعره المحبوسة خلف القضبان ! .
بدأت تغمض عيناها تدريجيًا حتى ابحرت في ثبات عميق وبعد دقائق انتهى هو من القراءة فالتفت لها وهمس بترقب :
_ ملاذ !
لم يجد الأجابة منها فيتنهد بعمق ثم يضع كتاب القرآن الكريم على المنضدة بجانبه ويلتفت لها ليتأمل ملامحها بأسى ، يلومها بشدة على ما فعلته بهم .. فقد دفعته إلى الدرجة الذي يكون فيها في أقصى لحظات رغبته واشتياقه لها ولا يستطيع تلبية رغبته فقط لأنه لا يتمكن من استعادة ثقته بها ، يجد صعوبة في أن يسلمها قلبه ونفسه مجددًا .. يخشي أن يثق بها من جديد فتخذله للمرة الثانية ، ومن جانب آخر لا يستطيع مكابحة عقله الذي يلح عليه أن يطلقها ويقي قلبه ونفسه من هذه العلاقة المزعزعة ، فيواجه تعنيف قلبه الذي يتوسل له أن لا يستمع لعقله ويعطيها فرصة ثانية فهي اخطأت واعترفت بخطأها و ندمت ثم طلبت منه السماح وقطعت الوعود بأنها لن تسمح بشيء كهذا أن يتكرر مرة أخرى ، وستكون له بكامل جوارها لتصبح زوجة تليق به ويفتخر بها ، وإن خلفت بوعودها هذه المرة وخانت الثقة مجددًا يحق له أن يستمع لعقله ، ولكن إذا استمع له الآن سيكون الظالم والجلاد الذي نفذ حكم الأعدام في مذنب قام بالسرقة بينما هو في القانون لا يستحق الأعدام ! .
ولكن حتى وإن استمع لرغبة قلبه لن يتمكن من الصفاء بسهولة ، ولن يعدها بأن تعود علاقتهم كما كانت إلا بعد وقت طويل .
مد يده وابعد خصلات شعرها عن وجهها وارجعها للخلف ثم مرر ابهامه على وجنتها بلطف يتحسس بشرته الناعمة فتفتح هي جزء بسيط من عيناها لترى صورته غير واضحة ولكن شفتيها انحرفت قليلًا لليمين وبدون وعي مدت يدها وقبضت على كفه الذي على وجنتها وقربته من شفتيها لتطبع قبلة ناعمة على باطنه وهي تحت تأثير النوم ثم اغلقت عيناها من جديد وأكملت نومها كما كانت وكأن لم يحدث شيء ، فسحب هو كفه من بين كفها بحرص ثم نهض من الفراش واطفأ ضوء الغرفة وقبل أن يرحل انحنى وطبع قبلة مطولة على رأسها في ابتسامة حانية وبعدها رحل فورًا قبل أن يفقد زمام السيطرة على نفسه التي تطوق إليها ! ……..
***
ترجل من سيارته وقاد خطواته نحو الأريكة المتوسطة في منتصف حديقة المنزل وجلس واضعًا رأسه بين راحتي يديه بيأس وشجن ، ماذا عساه أن يفعل من أين له القوة لكي يتحمل كل هذا تباعًا ، لقد سئم حياته حقًا فكل شيء يضغط عليه من جميع الجهات وبات لا يعرف يرضي من أو ماذا يفعل .
من جهة والدته التي تصر على رغبتها في زواجه ، ومن جهة تلك العنيدة التي لا تدرك خطورة ماهي فيه وتعرض نفسها دومًا للخطر فمنذ الصباح وهو يبحث عنها في كل مكان قد يمكن أن تكون به ولكن لا أثر لها حتى هاتفها لا يستطيع الوصول إليها من خلاله . أما بالأعلى تقف كل من هدى ورفيف التي هتفت بإشفاق على أخيها :
_ قوليله ياماما حرام عليكي كرم بذات فيه اللي مكفيه
قالت هدى بإصرار وشيء من الشفقة :
_ وإنتي فاكرة إني مبسوطة كدا !! ، ما أنا بعمل كدا عشان مصلحته وهو عنيد مش عايز يفهم وأنا مش هسيبه كدا لغاية ما يدمر حياته ونفسه ، سبيه يومين يدور عليها وبعدين هيدرك إن عندي حق وهيوافق
قالت محتجة ومعاتبة أمها بلطف :
_ إيه ياهدهد مكنتش أعرف إنك قاسية كدا .. ولما تقسي بتقسي على كرم ، على فكرة بقى أنا مش هستحمل اشوفه كدا وهروح أقوله
قبضت هدى على ذراعها وصاحت بها معنفة إياها في تحذير حقيقي :
_ إياكي يارفيف تقوليله وإلا والله العظيم يكون ليا تصرف تاني معاكي ، ملكيش دعوة دول ولادي وأنا عارفة أنا بعمل إيه كويس وفاهمة دماغ كل واحد فيهم
تراجعت وهي تلوى فمها بامتعاض وتتأفف بخنق وإشفاق على أخيها المسكين ، أما هدى فأخذت تحدق به بأعين دامعة وقلب يحترق على حزنه وألمه ولكنها متيقنة أن ما تفعله سيكون السبب في تضميد جروحه التي تنزف منذ افتراقه عن زوجته !! …..
***
داخل منزل حسن العمايري …….
كانت تجلس أمام التلفاز تشاهد إحدى قنوات الطبخ وبينما هي مندمجة في التلفاز ، جال بعقلها ما حدث بينهم في الصباح فانزلت نظرها عن التلفاز وثبتته على اللاشيء بشرود ، ليأتيها صوت بداخلها ويخبرها بأنه لم يكن من الجيد وليس في صالحها أن تحادثه هكذا ، هي الآن في أمس الحاجة لأي شيء ليقربها منه فتستطيع من خلاله امتلاك مفاتيح قلبه ، وما فعلته بالصباح له تفسير واحد وهو أنه غباء منها ، والحل الوحيد هو الأعتذار منه ومحاولة تلطيف الجو بذكائها ودهائها الانوثي ! .
استقامت وقادت خطواتها الواثقة نحو غرفته ثم طرقت على الباب عدة طرقات متتالية في لطف هاتفة :
_ حسن إنت صاحي .. أدخل ؟
أتاها صوته الحازم يسمح لها بالدخول ففتحت الباب ببطء ودخلت ثم اغلقته خلفها كما كان ، ونظرت له فوجدته متسطح على ظهره فوق الفراش ويعقد كفيه خلف رأسه ، فتحنحت باضطراب بسيط واقترب لتجلس على حافة الفراش بعيدًا عنه قليلًا وتطرق رأسها أرضًا هامسة باعتذار صادق وهي تعبث بأصابعها :
_ أنا آسفة بخصوص الصبح متضايقش مني
أطال النظر إليها في سكون دون أن يجيبها أو يكون على وجهه أي تعابير ، لتكمل هي بجدية بعد أن نظرت له :
_ لسا حابب تعرف مين ده ؟
رسم ابتسامة متصنعة على وجهه وغمغم بصرامة :
_ مش عايز أعرف حاجة ، أنا عايز أنام ممكن تطلعي برا !
وردة فعلها كانت غير متوقعة بالنسبة له حيث هزت رأسها بالنفي وتمتمت مبتسمة :
_ تؤتؤ لما أقولك الأول بعدين هطلع عشان ابقى ريحت ضميري
مالت شفتيه لليسار بابتسامة ساخرة لتستكمل هي حديثه بنبرة عادية :
_ ده كان زميلي في الكلية وكنا مجموعة كبيرة بنات وأولاد أصدقاء جدًا بسبب إننا كنا مع بعض في كل نشاطات الكلية وكدا ، واللي شوفته في الصورة ده كان صداقتنا قوية شوية وكنا في كل حاجة في الكلية مع بعض والصور دي اتصورناها لما كنا في حفلات تبع النشاطات أو حجات تبع الكلية نفسها فإنا شيلاها كنوع من الذكرى برضوا عادي ولغاية دلوقتي احنا احيانا بنتواصل
عبارة ” لغاية دلوقتي ” التي تفوهت بها جعلته يرفع حاجبه بشيء من الدهشة ويهتف بنبرة رجولية خشنة :
_ لغاية دلوقتي !!!
_ أيوة أقصد يعني مجرد سؤال كلنا بنسأل على أحوال بعض كل فترة وفترة والفترة دي ممكن تبقى مرة كل تلات شهور أو اربعة
هز رأسه بتفهم وهو لا يزال يحتفظ بتفاصيل وجهه الصارمة ولكن اختفت في سرعة البرق هذه التفاصيل وحل محلها التوتر حين وجدها تسأله وهي تضيق عيناها بلؤم :
_ إنت كنت بتسأل ليه بقى ؟!
نظر لها بذهول لعدم توقعه لسؤالها هذا وتمتم بتوتر ملحوظ :
_ بسأل ليه !؟
اعتدل في نومته وغمغم بطبيعية جاهد الظهور بها وبنبرة صوت كان يحاول أن تبدو عادية :
_ عادي فضول حبيت أعرف لما شوفتها
اتسعت ابتسامتها وقالت بنبرة صوت ماكرة تمكن من فهمها جيدًا :
_ أممممم ما أنا قولت كدا برضوا .. المهم إنت مش زعلان مني خلاص صح ؟!
قال ببرود متعمدًا استفزازها وحتى يخرج تلك الأفكار السخيفة من ذهنها التي لمحت لها للتو :
_ لا مش زعلان أنا أصلًا مكنش في بالي ومكنش الموضوع فارق معايا أوي يعني
نجح بالفعل في أغضابها حيث قالت وهي تجز على أسنانها بغيظ :
_ أه فعلًا ما أنا لاحظت ده .. طيب تصبح على خير ياحسن !
قالت آخر كلماتها وهي تستقيم واقفة وتستدير لتنصرف فيأتيها رده الذي لا يختلف في نبرته عن سابقتها وهو يحاول منع ابتسامته من الانطلاق :
_ وإنتي من أهله !
***
في مساء اليوم التالي …….
كان كرم في غرفته يحتسي كوب القهوة خاصته ويشغل بأن رأسه ستنفجر من كثرة التفكير ، حيث بدأت الوساوس تنهشه نهش ، فلو ذهبت لماذا هاتفها خارج نطاق الخدمة ومالذي يدفعها للذهاب لمكان لا يستطيع حتى تخيله ، فهذه ليست عادتها وهو اعتاد منها على الصراحة لا الهرب ، إن كانت لا ترغب بالقباء بمنزله لكانت قالت له بنفسها وصممت على الرحيل .. ولكن كل ما يحدث الآن يزيد الأمر سوءًا بالنسبة له يخشي أن يكون ذلك الوغد قد نال منها قبل أن ينل هو منه . اليوم هو اليوم الثاني لها منذ اختفائها وكل هذا يذكره بحادثة زوجته حيث تم العثور عليها بعد ثلاث أيام في إحد الأمكان المهجورة وبعد أن فاحت رائحة الجثة وبدأت تتعفن ، وكلما تجول بذهنه هذه الذكريات الأليمة يحاول إخراجها ولكن بلا جدوى .
قطع لحظات هدوءه صوت رنين هاتفه الصاخب فالتقطه وأجابه بهدوء :
_ أيوة يامسعد
أجابه الآخر مبتسمًا بشيطانية :
_ عرفت مكانه ياكرم بيه
وثبت واقفًا وتشدق بمزيج من الفرحة والنشوة التي اعترته :
_ متأكد ؟!
_ متأكد طبعًا .. هستناك عند الشركة عشان المكان قريب من هناك
انهى الاتصال فورًا وقد لمعت عيناه بوميض الأنتقام والثأر وشرع في ارتداء ملابسه ثم فتح أحد ادراج المكتب الصغير بجانب الفراش والتقط السلاح ثم وضعه في بنطاله من الخلف وارتدي فوقه السترة السوداء الجليدية وانطلق مغادرًا المنزل مستقلًا بسيارته لينطلق بها كسرعة البرق …. !!!
***
انتهت من تسريح شعرها وثبتته بمشبك للشعر ورفعته لأعلى ثم نزعت عنها روب النوم وكانت على وشك أن تتسطح على الفراش ولكنها التفتت مزعورة على أثر فتح الباب ووجدته هو يدخل بهدوء ويغلق الباب خلفه فتهتف في توتر :
_ حسن !! .. إنت جيت إمتى ؟!
وجدته يقترب منها في خطوات غير متوازنة لتتراجع للخلف بنظرات مرتبكة ومرتعدة قليلًا من هيئته الغريبة ، انتهت قهقرتها عندما اصطدمت بباب الخزانة وهو لا يزال يقترب منها حتى وقف أمام مباشرة ولا يفصله عنها سوى سنتي مترات قليلة ثم همهم بنبرة متألمة وأعين تلمع بالدموع :
_ كان عندك حق أنا كنت غبي جدًا وساذج .. تعرفي إن رحمة هي اللي لفقت ليا تهمة القتل من سنتين ودخلت السجن بسببها وكله ده ليه عشان تسرق فلوس المشروع اللي كنت ناوي أعمله ، حلمي !
أدركت أنه ليس بوعيه وأنه قام بشرب جرعة زائدة مما جعلته ثملًا قليلًا ، لتتنهد بأسى وتحاوط وجهه بكفيها هامسة بإشفاق :
_ عارف عارفة ياحبيبي .. تعالى خد دش وفوق وبعدين نبقى نتكلم
انحنى ودفن وجهه بين ثنايا عنقها يستمد من حرارة جسدها بعض الدفء والقوة لتشدد هي من عناقه وتملس على شعره بحنو ، وبعد لحظات قصيرة احست بأن الأمر سيكون أكثر من مجرد عناق فابتعدت عنه وهي تردعه عن مايحاول فعله في اضطراب وتلعثم :
_ حسن بتعمل إيه !! .. إنت مش في وعيك و…..
قاطعها واضعًا سبابته على شفتيها هامسًا بنبرة ونظرات سلبتها علقها قبل قلبها ، فهي ضعيفة ومسلوبة القوة أمامه وأمام عشقها لها :
_ أنا محتاجلك يايسر !!
توقفت السيارة بمكان اشبه بصحراء خالية من البشر ويوجد بها مبنى مهجور غير مكتمل البناء ، تطلع كرم بالمبنى بإمعان وعادت لذهنه كل لحظة في ذلك اليوم .. عندما وصلت الشرطة وصديقه وكان هو معهم ووجدوها في ذلك المكان ودمائها حولها تملأ الأرض وكانت شبه جافة من المدة التي أخدتها مختفية ولم يعثروا عليها . واليوم ذلك الوغد موجود بنفس المكان ليكون ثأره وانتقامه منه أفضل انتقام وسيتعمد أن يسلبه روحه بنفس القطعة التي وجدوا فيها جثتها .
نزل من السيارة وهتف محدثًا الذي بجواره :
_ خليك هنا يامسعد
أجابه الآخر رافضًا :
_ لا هاجي معاك مش هسيبك وحدك
رمقه بحدة وغمغم بنبرة لا تقبل النقاش :
_ قولتلك خليك هنا !!
ثم قاد خطواته نحو ذلك المبني وكان قد اقترب من الباب ليدخل فيراه صديق ذلك الوغد الموجود بالأعلى معه ةيهتف مفزوعًا :
_ كرم العمايري هنا
وثب الآخر واقفًا وقال مرتعدًا وقد ظهرت علامات الرهبة على وجهه وقال مسرعًا :
_ طيب يلا بينا نمشي بسرعة قبل ما يلاقينا
ثم اسرعوا وغادروا البناية من باب آخر وهم يركضوا نحو سيارتهم القديمة ولسوء حظهم أنهم شعر بخطوات قدمهم فأسرع راكضًا خلفهم ولمحه وهو يركض بعيدًا ليستقل بالسيارة ، وبدون تردد أخرج سلاحه وصوبه نحوه ليصيب قدمه حتى يعوق حركته ويستطيع الإمساك به ولكن الطلقة اصابت كتفه فاستكمل هو ركضه متألما وممسكًا بذراعه المصاب حتى استقل بالسيارة مع صديقة وانطلقوا .. أما مسعد فترجل من السيارة في هلع فور سماعه لصوت إطلاق النيران وركض نحو مصدر الصوت من خلف البناية وهتف محدثًا كرم بدهشة عندما رأى السلاح في يده :
_ إنت اللي ضربت النار !!!
قال في أعين نارية ومتوعدة لذلك الوغد :
_ فلت مني المرة دي كمان بس مش هيفضل يهرب كتيير كدا ، مسيره هيوقع تحت إيدي
***
كانت تجلس على طاولة الطعام الفارغة وتحملق في اللاشيء بشرود وأشعة الشمس الذهبية تتسللت من النافذة لتعطي لمعة ساحرة لوجهها الأبيض والنقي وكذلك شعرها الكستنائي .
عيناها متجمعة بها الدموع الحارقة ولا تعرف كيف استسلمت له بالأمس ، كيف سمحت لنفسها بأن تكون بهذه السذاجة .. هي تريده وبشدة وتريد أن تعيش معه كأي زوجين طبيعية ولكن ليس بهذه الطريقة ، هي حتى الآن تحاول إيجاد تفسير لفعلتها الغبية و أجابة لسؤالها أنها كيف وقعت أسيرة للمساته ونظراته بكل هذه السهولة ، هذه ليست طبيعتها الشرسة والقوية والصامدة .. ولوهلة تمنت لو أن بإمكانها استعادة الأمس لردعه بعنف ومنعه من ما فعله وهي شاركته فيه بسذاجة لا تقل عنه !! .
وجدته يخرج من غرفته بعد أن ارتدي ملابسه لكي يذهب للعمل وقبل أن يرحل وقف وهتف في قسوة وجفاء مع نظرات نارية وغاضبة للدرجة التي جعلت من عيناه حمراء كالدم :
_ اللي حصل إمبارح ده انسيه نهائي واعتبريه محصلش فاهمة ولا لا ، أنا مكنتش في وعي وإنتي استغليتي الفرصة دي
ولم يمهلها اللحظة لتجيب عليه حيث اندفع للخارج وهو يتوهج كالنيران الملتهبة ، أما هي فسقطت دموعها فورًا بدون إنذار وهي تفغر شفتيها بصدمة مما قاله ” استغليتي الفرصة !!! ” هل هي من استغلت فرصة أنه ليس بوعيه ليحدث ما حدث بينهم ، لقد حاولت منعه ولكنه أذاب ما تبقى من صمودها أمامه بكلماته ونظراته وهمساته ولمساته ، هل اصبحت هي المخطئة الوحيدة الآن .. اخطأت لأنها تعشقه ولا تستطيع مقاومته ، ربما هي أخطأت فعلًا لأنها سمحت لهذا العشق أن يكون سبب في خطأ لا يمكن إصلاحه ولكن هذا لا يمنع أنه هو المخطأ الأكبر .. هو المستغل .. هو الذي استغل حبها وضعفها أمامه لينجح في السيطرة عليها وينل ما أراد في تلك اللحظة والآن يُلقي اللوم عليها !! …..
***
ارتفع آذان الظهر في المآذن ثم بدأت خطبة الجمعة في المساجد وكان هو في غرفته يرتدي عبائته البيضاء بعد أن توضأ ليذهب إلى المسجد ويؤدي صلاة الجمعة وبينما هو متجه نحو الباب لينصرف اوقفته هي متسائلة :
_ رايح تصلي الجمعة في المسجد
غمغم بنبرة عادية في إيجاب :
_ ايوة عايزة حاجة ؟
هتفت تطلب منه بتهذيب مبتسمة :
_ طيب ممكن تاخدني معاك اصلي في مسجد الستات
_ طيب يلا روحي اتوضي والبسي بسرعة عشان الحق الخطبة قبل ما تخلص
أماءت فورًا بسعادة واندفعت نحو غرفتها لتتوضأ وترتدي ملابسها وبعد عشر دقائق بالضبط خرجت له وانصرفا واستغرق الطريق خمس دقائق حتى وصلا إلى أحد المساجد الكبيرة فذهبت هي للجزء الخاص بالنساء وهو ذهب للرجال بعد أن أخبرها بأنه سينتظرها بعد الصلاة أمام السيارة ، وبعد انتهاء الصلاة خرجت واتجهت نحو سيارته فوجدته كما أخبرها ، وعندما وقعت عيناه عليها فتح باب السيارة واستقل بمقعده .. اتخذت هي مقعدها بجواره ثم رفعت النقاب عن وجهها لتتنفس بعض الهواء النقى وتهتف باسمة :
_ تقبل الله
أجابها بخفوت :
_ منا ومنكم إن شاء الله
ثم انطلق بالسيارة يخترق بها الطرقات وبعد مرور دقيقة هتفت هي بتردد ملحوظ وحياء :
_ إيه رأيك نتغدى برا النهردا يازين ، نفسي أخرج جدا ، من وقت لما اخدتني في اليخت قبل الفرح مخرجتش تاني
كان يثبت نظره على الطريق ولم ينظر لها بتاتًا وفقط اكتفى بقوله الجاف والحازم :
_ في يوم تاني إن شاء الله ياملاذ مش النهردا
زمت شفتيها بيأس وخنق من نبرته القاسية وأنه لم يكلف نفسه لينظر لها ، فاشاحت بوجهها للجانب الآخر تتابع الطريق من النافذة ، فهي لم تستاء من رفضه للذهاب بل استاءت من طريقته وعنده الذي باتت لا تعرف إلى متى سيستمر ، وقد رغبت بالذهاب فقط من أجل أن تحظى بمزيد من الوقت معه وتحاول من خلاله إذابة بعض الثلج المتراكم على قلبه .
لاحظ هو ضيقها وحزنها من رفضه فتنفس الصعداء بعدم حيلة ولم يرد أن يكسر برغبتها ونفسها وكان رد فعله الطبيعي هو أنه قال :
_ عايزة تروحي فين ؟
تهللت أساريرها في لمح البصر وزُين وجهها بابتسامة جذابة لتجيبه بحماس جلى :
_ أي مكان .. ودينا مكان على زوقك إنت !
رمقها بنظرة مطولة صامتًا ثم أشاح بنظره وعاد ليثبته على الطريق وهو يتخذ بالسيارة طريق لمكان سيقضوا فيه وجبة الغذاء أو بالأحرى باقية اليوم ! .
***
فتحت باب السيارة ونزلت وعيناها معلقة على ذلك المنزل الذي أشبه بقصر قي ضخامته واتساعه ، ولكنه منزل ذو طراز قديم ويبدو إن الزمن قد ترك آثاره عليه حيث لونه بهت ، ومن ينظر له من الخارج يظنه مسكون بالأشباح .. وبينما هي تتأمل جماله الكلاسيكي رأته يتجه ناحية الباب فلحقت به مسرعة وفتح هو الباب بالمفتاح ثم دخل أولًا ومن بعده هي ، كان المنزل من الداخل أكثر فخامة وجمالًا حوائطه سليمة تمامًا من أي خدش ويوجد نجفة في الأعلى ضخمة ولكنها نظيفة كأنها تنظف كل يوم ! ، والأثاث مُغطى بقماش أبيض اللون فاتجهت نحوه ورفعت القماش لتنكشف أمامها تحفة الأثاث الذي لا يبدو أبدًا أنه صناعة مصرية ، فسمعت صوته وهو يهتف بهدوء :
_ ده قصر عيلة العمايري .. البيت ده احنا عشنا فيه طفولتنا كلها ولما نقلنا لبيتنا اللي عايشين فيه دلوقتي أنا كان عندي عشرين سنة ، كنا عايشين مع جدي الله يرحمه وجدتي اللي هي مسافرة دلوقتي في المانيا ، كنا كلنا في دلع وعيشة ملوكي ، اللي بنطلبه بيجيلنا في لحظتها من غير تعب وكان جدي مبيرفضش طلب لحد فينا سواء احنا أو ولاد عمي طاهر اللي هما علاء ويسر والدلع ده تسبب في مشاكل كتير علينا وظهرت أثاره عليا وعلى حسن ، بس تقدري تقولي إن أنا ربنا هداني وحسن فضل طايش زي ماهو ، وبابا بعد ماحس إن مينفعش يعيش هنا ولازم يستقر لوحده هو وأولاده في بيت عشان يقدر يتحكم فيهم بعد ما شاف اللي حصلي وبقى شبه فاقد السيطرة على حسن رغم إنه أصغر مني بأربع سنين ، اخدنا واشترى بيت لينا وعشنا وحدنا والكلام ده طبعًا بعد ما جدى اتوفى وجدتي اضايقت جدًا إن ازاي محمد يسيب بيت ابوه وبيتهمهم إنهم السبب في اللي حصل ليا لأنها بتحبني جدًا وبتعزني أوي ولما عرض عليها بابا وحاول يقنعها إنها تاجي تعيش معانا رفضت وقالت إنها هترجع المانيا تعيش مع عمي اللي هو اتوفى بعد جدى بسنتين وكان معاه بنت عندها 18 سنة بتدرس هناك فجدتي فضلت معاها لغاية ما كملت تعليمها وبعدها اشتغلت ولغاية الآن جدتي عندها ومش بتاجلينا هي وبنت عمي دي غير زيارات صغيرة وبيمشوا تاني
اقتربت منه ووقفت أمامه وركزت نظرها عليه هاتفة بترقب لإجابته بريبة شديد :
_ ربنا هداك !!! .. وبعد اللي حصلك !! ، ممكن أعرف إيه اللي حصل معاك ؟!
أجابها بخشونة وهو يتجه ناحية الدرج :
_ الأفضل إنك متسأليش لإن الإجابة مش هتعجبك ، وبعدين أنا جايبك هنا عشان افرجك على البيت واهو نتغدى في مكان مختلف زي ما كنتي حابة مش نحكي في القديم
لم تعلق كثيرًا وقررت أنها ستحاول أن تعرف فيما بعد ما يخفيه عنها ، واتبعته شبه راكضة حيث وجدته صعد لآخر الدرج ثم اتجه نحو الغرف وفتح واحدة واحدة يريها إياهم وأحدهم كانت ” لكرم ” والأخرى ” لحسن ” وهذه ” لأبوه وأمه ” وتلك الغرفة تخص ” جدي وجدتي ” حتى وصل أخيرًا عند غرفته وفتح الباب فتسبقه هي بالدخول وتتطلع في أجزاء الغرفة التي كانت عبارة عن فراش عريض يتسع لثلاث أشخاص وخزانة متوسطة من اللون الأبيض مثل لون الحوائط وحمام داخلي لونه بنى اللون مع لمعة مذهلة ، أما هو فقد استدعت ذاكرته كل ما مر به داخل هذه الغرفة ، التي شهدت على حبسه بين حوائطها الأربعة لشهور دون أن يدخل له سوى أبيه وأمه وكرم ، بقى لشهورًا حبيسًا غرفته لا يري الشارع عندما اُكتشف أمره وأنه كان يتعاطى مواد مخدرة فحاول أبويه أن يردعاه ويعالجاه عن طريق منعه من الخروج حتى لا يلتقى بأصدقاء السوء الذين افسدوه ولكن الأمر لم يجدي نفعًا حيث كانت حالته تسوء كلما يمر عليه الوقت وكان يخرج ليلًا متسللًا من الشرفة دون أن يشعر به أحد ويعود قبل استيقاظهم ، حتى جاء اليوم المشؤوم الذي فقد فيه صديقه بسببه هو .. فقرر أن يضع الحد لما هو فيه وطلب من أبيه أن يدخله مصحة ليعالج كما يجب أن يتم وبالفعل عاني أشد سنة مرت عليه في حياته .
نظرت عيناه على جانب الفراش ولاحظ الكسر البسيط فيه لتعصف بذهنه ذكرى أخرى تعود ليوم معرفة أبيه وأمه بأفعاله فتلقى الضرب العنيف من أبيه والتوبيخ والإهانة وكانت أمه تحاول منع أبيه عنه الذي كان كجمرة النيران المتوهجة وتدَّخل كرم محاولًا أيضًا تهدئة الأمر ونجح في تهدئة أبيه وأخرجه وتركه هو مع أمه تحاول مواساته وتلومه بعتاب وبكاء على فعلته .
اخترقت فقاعة ذكرياته المؤلمة بصوتها وهي تقول بإعجاب :
_ اوضتك جميلة أوي
أحس بأنه سيختنق أن بقى للحظة أخرى داخل هذه الغرفة فهتف بثبات مزيف :
_ طيب كفاية بقى ويلا تعالي عشان الأكل على وصول
ولم ينتظر إجابتها حيث اندفع للخارج يتنفس بعض الهواء النقى عن هواء هذه الغرفة المُخنق أما هي فتلفتت حولها بخوف من ذلك المكان المريب ولحقت به مسرعة لتجده قد وصل للأسفل ورفع أحد الأقمشة عن مقعد من المقاعد وجلس عليه يتنفس الصعداء بخنق ، وقد شعر للتو أنه أخطأ عندما اختار المكان وهو يعلم أنه لديه ذكريات مؤلمة لا يريد حتى تذكرها وقبل أن تقترب منه وتسأله عن سبب تغيره المفاجئ ، ارتفع صوت رنين هاتفه فأجاب وقد كان الطعام فخرج ليستلمه وعاد لها بعد دقائق فأخذته من يده وسألته عن مكان المطبخ فدلها عليه بإشارة يده وذهبت هي لتضع الطعام في الصحون أما هو فنزع سترته عنه ورفع القماش عن الأريكة الكبيرة ليتسطح بجسده عليها مغمضًا عيناه في محاولة بائسة لاستبعاد هذه الذكريات عن ذهنه ، كانت تنقل الصحون من المطبخ على طاولة الطعام بعد إن قامت بمسحها من أي اتربة فوقها وكانت مثبتة تركيزها عليه باستغراب من أمره ، حتى انتهت فهتفت في هدوء :
_ زين !!
فتح عيناه واعتدل جالسًا ثم اتجه للحمام ليغسل وجهه ويديه و عاد لها ، جلس بجانبها على الطاولة وبدأ في تناول طعامه ، فخشيت هي أن تسأله فيجيب عليه بغلظة وفكرت في أن تمهد للأمر بطريقة مختلفة حيث سألت في ابتسامة عذبة :
_ بس البيت باين عليه أن حد بينضفه علطول
_ آه ، عمي حسين اللي برا بيجيب علطول ناس تنظف كل اسبوع عشان لو حد فينا جه فجأة زي كدا يكون البيت نضيف
التزمت الصمت للحظات ثم عادت تسأل من جديد بنبرة بها شيء من الحيرة :
_ بس إنت ليه جبتني هنا ومروحناش مطعم أو أي مكان تاني ؟!
غمغم بصلابة دون أن يرفع نظره لها وهو منشغل بطعامه :
_ هنا أفضل في المطعم مش هتاخدي راحتك عشان النقاب واللي رايح وجاي قدامك مش هينفع تاكلي ، وأهو جبتك مكان جديد وجبتلك أكل المطعم لغاية عندك
حدجته بحنو وهمست بامتنان صادق بعد أن مدت يده لتضعها على كفه :
_ شكرًا إنك مكسفتنيش ومكسرتش بنفسي لما طلبت منك نتغدى برا
نظر ليدها التي على كفه ثم رفع نظره لها بنظرات ثاقبة وسحب كفه ببطء من أسفل يدها بعد أن أبدى على وجهه علامات الضيق وقال باقتضاب :
_ العفو !
ضمت كفها وارجعته للخلف بقليل من الاستحياء بعد أن فهمت نفوره من لمستها له وجاهدت بالظهور بطبيعية أمامه وأكملت طعامها وداخلها يحترق من الألم والحرقة ، تجنبت النظر له بتاتًا حتى لا تفقد زمام التحكم في نفسها التي تغزها بقوة لتبكي ولكنها تقاوم بصلابة !! .
***
كانت الساعة قاربت على العاشرة مساءًا عندما قرر كرم أن يذهب لوالدته ويضع حدًا لكل شيء بعد أن شك بأنها تعرف مكان ” شفق ” ولا تخبره ، بالأخص بعد أن نفذت وعدها وقطعت الحديث معه نهائي وهاهي نجحت فيما سعت من أجله ! .
طرق على الباب عدة طرقات خفيفة هاتفًا :
_ ماما إنتي صاحية ؟
اتاه صوتها وهي تجيبه بقوة :
_ ادخل ياكرم
فتح الباب ودخل ثم أغلق الباب خلفه مجددًا فوجدها تمسك كتاب القرآن الكريم بيدها وجالسة على الفراش ليتنهد بعمق ويقترب ليجلس بجوارها على الفراش متمتمًا في نظرات ثابتة :
_ ماما إنتي عارفة مكان شفق مش كدا ؟
أطالت النظر في وجهه ثم اشاحت بنظرها وقالت بكذب :
_ لا معرفش
قال متوسلًا إياها في نفاذ صبر :
_ ياماما ابوس إيدك قوليلي هي فين ومتتعبنيش أنا فيا اللي مكفيني ، ومش هستحمل البنت تحصلها حاجة بسببي ، قوليلي مكانها خليني اروح واجيبها
أبت الرد عليه وتجنبت النظر في وجهه كدليل على رفضها لطلبه ، ليأخذ هو نفسًا عميقًا قبل أن يلفظ بهذه الكلمات من بين شفتيه في عدم حيلة :
_ لو كنتي بتعملي ده كله عشان اوافق على اللي إنتي عايزاه ، فأنا بقولك أهو أنا موافق اتجوزها
لمعت عيناها بمجرد سماعها لكلمة ” موافق ” وطالعته بدهشة ممزوجة بالسعادة والابتسامة العريضة وسرعان ما هتفت بفرحة غامرة :
_ بجد موافق ياكرم !!
_ أيوة موافق قوليلي بقى هي قاعدة فين
قالها بإيجاز كالذي لا يريد أن يطيل في هذا الحديث لتبتسم هي وتهتف بهدوء :
_ في البيت اللي في اكتوبر
_ وهي إيه اللي وداها هناك ؟!!
تنهدت بحرارة ثم بدأت تسرد له كل شيء :
_ هي كانت بتتكلم معايا في اليوم اللي مشيت فيه وبتقولي إنها عايزة ترجع بيتهم فأنا قولتلها لو هي مش مرتاحة هنا تروح تقعد هناك في الشقة وهتكون في آمان وخليت ابن الحج حسين يحرص شقتها ويخلي باله منها
فغر عيناه على آخرهم وهتف شبه منفعلًا :
_ ابن الحج حسين إيه يا أمي ! .. ده لو آخر واحد مأمنهوش على حاجة وإنت رايحة تأمنيه على بنت
_ وفيه إيه الولد محترم ومؤدب والله وعمري ما شوفت منه حاجة وحشة !!
مسح على وجهه مستغفرًا ربه من فرط اغتياظه الداخلي وتمتم :
_ طيب وتلفونها مقفول ليه ؟!
ابتلعت ريقها بتوتر وتحدثت بتردد :
_ أنا طلعت الخط بتاعها وشلته وهي افتكرت إنه ضاع فجبتلها واحد جديد
قال بابتسامة ساخرة :
_ وطبعًا ده كله عشان معرفش أوصلها وتجبريني أوافق .. والله ما عارف أقول إيه ، ربنا يصبرني !
ثم هب واقفًا وهم بالمغادرة لولا صوتها وهي تقول بتوتر أشد :
_ هي فاهمة إنك مسافر لشغل فلما تروحلها قولها إنك رجعت من السفر ، أنا قولتلها إنك مسافر عشان متقولش هو ليه متصلش حتى يسأل عليا
هز رأسه مغلوبًا على أمره غير مصدقًا لأفعالها التي كلها مكر هذه ، وانصرف ليلحق بتلك المسكينة قبل أن تتعرض للأذى على يد أي أحد !!! …….
***
كانت عيناها معلقة على ساعة الحائط وقد قاربت الساعة أن تدق الحادية عشر قبل منتصف الليل ومن المفترض أنه عاد للمنزل للآن كعادته ، هل هي بلا قيمة لهذه الدرجة بالنسبة له ، لدرجة أن عاد للمنزل ولم يجدها فيه ولم يحاول الوصول لها أو الاتصال بها حتى ليعرف أين ذهبت !! .
بعد ماحدث بينهم بالأمس لم تراه إلا مرة واحدة في الصباح قبل أن يغادر عندما حملها الذنب فيما حدث بينهم والذي لا يرضى كلاهما ولم يرغبوا في أن يحدث حتى ، وعندما ذهبت للعمل بعدها وعندما حان وقت الذهاب ذهبت لمكتبه لانهم اعتادوا العودة معًا إلى المنزل بعد أنتهاء العمل ، لتخبرها السكرتيرة بأنه ذهب منذ نصف ساعة فتكتم شرارات نيرانها في الأعماق وتسير منكسرة لا تدري إلى أين تذهب بعد أن قررت عدم العودة لمنزلها ، فيتنهي بها المطاف أمام منزل أبيها لتستقبلها أمها وكذلك أبيها بترحيب حار وتخبرهم بأنها ستقضى معهم يومان بعدما كذبت وقالت بأن زوجها ذهب لرحلة خاصة بالعمل ستسغرق يومان ! .
وأخيرًا انتبه أن لديه زوجة وغير موجودة بالمنزل ( هكذا قالت لنفسها حينما سمعت صوت رنين هاتفها ورأت المتصل هو ) ولكنها تجاهلته ولم تجيب عليه ليس عنادًا كالعادة ولكن لأنها لا ترغب في التحدث معه حتى ، وللوهلة الأولى في حياتها تشعر بأنها لا تريد رؤيته أو سماع صوته ، استمرت اتصالاته .. اتصالًا تلو الآخر وهو يصر على الاتصال حتى تجيب عليه ولكنها وضعت الهاتف في الوضع الصامت والقتها على الفراش ثم تدثرت بالغطاء مغمضة عيناها وترغمها على النوم حتى تهرب من خلاله لعالم الأحلام الذي قد يكون أجمل من واقعها الأليم ! .
توقف الهاتف عن الرنين وانطفأت إضاءته وبعد مرور ما يقارب العشر دقائق شعرت بأحدهم يهزها بلطف وللحظة خدعها عقلها بأنه هو وجاء لكي يأخذها لمنزلهم ولكن كانت أمها حيث تقف أمامها وتمد يدها لها بالهاتف هامسة في صوت خافت :
_ يسر ! .. خُدى كلمي حسن
اعتدلت في جلستها وهي تزفر بخنق ثم التقطت الهاتف من يدها ووضعته على أذنها ثم انتظرت حتى انصرفت أمها لتجيب عليه بمضض :
_ عايز إيه ؟!
اتاها صوته الجهوري وهو يصرخ بها :
_ هو إيه اللي عايز إيه !!! ، مبترديش على الزفت التلفون ليه !؟
قالت ببرود تام وثبات متصنع :
_ مليش نفس أرد ، أو بالأحرى مش عايزة اسمع صوتك ياحسن
أجابها في صوت أجش لا يحمل أي رفق أو رحمة وباستنكار ادمي قلبها على أثره :
_ إيه يعني كرهتيني خلاص !! ، لو كنت أعرف إن اللي حصل إمبارح هيعمل كدا كنت عملته من زمان عشان اخلص منك
كادت أن تنزل الهاتف من على أذنها لتنهي هذه المكالمة السخيفة والمثيرة للأعصاب لولا سؤاله الذي كان بدافع الفضوا فقط وليس الاهتمام :
_ هتقعدي لإمتى عند أهلك ؟
اكتفت بكلمة واحدة قبل أن تنهي الاتصال دون انتظار رده :
_ معرفش
أثارت جموحه عندما أنهت المكالمة فورًا دون أن تجيب عليه إجابة واضحة ، وود لو ذهب لمنزل عمه الآن وجذبها من خصلات شعرها ليلقنها الدرس على اسلوبها المستفز وعلى خروجها دون إذنه وتجاهل اتصالاته عمدًا !! …..
***
أجابت شفق على الهاتف بعد رأت الرقم المجهول نتيجة لخط الاتصال الجديد الذي اعطتها إياه “هدى ” والدة كرم .
خرج صوتها جادًا وهي تجيب على المتصل المجهول :
_ الو مين ؟!
أشرق وجهها ولمعت عيناها بسعادة ، ورفرف قلبها كطائر أطلق حرًا في السماء ، عندما سمعت صوته الذي لم تسمعه منذ ثلاث أيام :
_ أنا كرم ياشفق ، عاملة إيه ؟
اجابته برقة وابتسامة لا تفارق شفتيها :
_ الحمدلله كويسة إنت رجعت من السفر ؟!
تشدق يجيبها على الكذبة التي اخترعتها أمه ويكملها هو بصوته المختنق :
_ رجعت أيوة ، أنا في الطريق جايلك دلوقتي
ثم انهى معها الاتصال فتطلعت هي في الهاتف بدهشة وتردد في ذهنها ” قادم الآن ” فوثبت واقفة وبدلت ملابسها سريعًا ولفت حجابها على شعرها وخرجت للصالون ترتب كل شيء بنظام ، ثم وقفت أمام النافذة تتابع الطريق بانتظاره .. ولا تستطيع منع نفسها عن الظهور بهذه اللهفة تجاهه وقلبها هو الذي يقودها لفعل هذا الأفعال التي ستندم عليها إن لاحظ هو هذا ، ولكن ماذا عساها أن تفعل فقد اعتادت عليه واعتادت أن تراه يوميًا وإن أتى يوم ولم تراه فيه يحدثها بالهاتف فتستمع لصوته ولكن في وضعها هذا لم تراه ولم تحدثه منذ ثلاثة أيام ، تشعر بأن قلبها سيقفز من موضعه ليحلق له من فرط اشتياقها له .
وأخيرًا بعد دقائق طويلة رأت سيارته تستقر أمام المنزل وينزل منها فترتفع ابتسامتها إلى شفتيها وتكاد تصل لأذنيها ، أما هو بالخارج فقد وصل إلى الباب ووجد ابن الحج حسين كما اخبرته أمه ، ليهب الآخر واقفًا احترامًا له ، ليطالعه كرم بنظرات قوية وقال بغلظة صوت :
_ روح يا أشرف خلاص ملوش لزمة قعدتك
أجابه الآخر شبه معترضًا بأدب :
_ بس ياكرم بيه الست هدى قالتلي احرص …..
أردف كرم مقاطعًا إياه بحزم ونظرة لا تليق بطبيعته اللطيفة أبدًا :
_ وأنا بقولك روح ، اعتقد الكلام واضح !
_ واضح .. عن أذنك يابيه
ثم استدار وانصرف ليظل معلقًا نظره عليه حتى توارى عن ناظريه ، فطالما يبغض هذا الشاب لسبب غير معلوم وفوق هذا أمه تأمنه على فتاة وحيدة بالمنزل ، تأفف بنفاذ صبر ثم طرق على الباب لتنتفض التي كانت تقف خلف الباب من الداخل تستمع لحديثه مع ذلك الشاب الذي لم تراه سوى مرات قليلة طوال الثلاث أيام ، تراجعت خطوتين للخلف ودقات قلبها بدأت تدق بصوت عنيف يصل لأذنها وارتبكت بشدة ، ولكنها أخذت شهيقًا طويل وحبسته لثانية ثم أخرجته زفيرًا متهملًا وتعهدت بأنها ستتمالك نفسها وستتظاهر بطبيعية أمامه ولكنها بمجرد ما فتحت الباب ورأته أمامها افترت شفتيها عن ابتسامة واسعة وسرعان ماخنثت وعدها مع نفسها ، أما هو فطالعها معاتبًا برقة مألوفة وغمغم بنفاذ صبر :
_ وبعدين معاكي ياشفق !!
لم تعلق وقد فهمت مقصده بأنه لا يرغب في بقائها هنا ويعاتبها على عندها الدائم ، وفقط اكتفت بابتسامتها وهي تقول بلطف :
_ حمدلله على السلامة
كان هو قد بدأ في نزع حذائه ولكنه رفع نظرها لها بعدما سمع ماقالته واخفض نظره تاني متمتمًا بخنق من هذه الكذبة الذي يُجبر على استكمالها :
_ الله يسلمك
انتهي من نزع حذائه ودخل وفور دخوله هتف في جدية وقد اختفت نبرة الرقة في صوته :
_ اللي كان واقف بيحرص البيت ده ضايقك أو عملك حاجة ؟!
قالت فورًا نافية :
_ لا خالص هو أساسًا كان قاعد برا بس ومكنتش بشوفه غير مرة في اليوم لما بيجيب الطلبات وباخدها منه من على الباب وبقفل بالمفتاح بعد كدا
هم بأن يسأل عن ذلك الحيوان هل حاول أذيتها أو وصل لمكانها أم لا ولكنها توقعت سؤاله فهتفت قبل أن يسأل :
_ مفيش حاجة اطمن أنا كويسة الحمدلله
عادت ابتسامته التي تذيب قلبها وهو يجيبها بلطف من جديد :
_ الحمدلله ، يلا روحي البسي ولمي هدومك عشان هترجعي تاني معايا
اصدرت تنهيدة حارة وتمتمت في اعتراض بسيط :
_ كرم أنا مرتاحة هنا اكتر صدقني ومحدش عارف مكاني ، سيبني على راحتي ارجوك
توجه وجلس على أحد المقاعد ليقول برزانة عقل وصوت رخيم :
_ وأنا عايز أسيبك على راحتك والله ، بس مش قادر وبالأخص بعد اللي حصل إمبارح
اقتربت وجلست على المقعد المقابل له بمسافة بعيدة تقريبًا وهمست بحيرة شديدة وقلق :
_ حصل إيه ؟!
_ عرفت مكانه إمبارح ورحت وكان نفس المكان اللي حصل فيه جريمة القتل ، وكان قاعد هناك هو وواحد صاحبه ولما شافوني هربوا وأنا ضربته بالنار في دراعه قبل ما يركب العربية ويهرب فممكن يحاول يوصلك بأي شكل عشان ينتقم مني ، عشان كدا لازم تكوني قدام عيني طول الوقت
فغرت شفتيها بصدمة وهي لا تستوعب أنه كان على وشك أن يقتله بالفعل ، ثم اردفت بغضب بسيط :
_ ضربته بالنار إزاي ياكرم !! ، ولو كانت جات الطلقة في مكان غير دراعه وكان مات كنت دلوقتي هتبقى في السجن بسبب القذر ده
غمغم بتمنى وأعين متقدة كلها سخط :
_ يارتيها كانت جات في مكان تاني ومات على الأقل كان زمانك هتلاقيني دلوقتي مبسوط آخر انبساط
اشاحت بوجهها عنه تخفي ملامح وجهها المغتاظة من تهورها بالرغم من رقته ولطافته مع الكل وبالأخص معها لكنها يثبت لها دومًا بأن لديه جانب مظلم في شخصيته لا يرحم إن تطلب الأمر ! ، عادت بنظرها له من جديد عندما وجدته يهتف بخفوت وكأنه يقول الكلمات بصعوبة :
_ يلا قومي البسي عشان لما نروح ماما ورهف هيفهموكي السبب التاني اللي خلاني آجي أخدك !
أطالت النظر في وجهه بريبة حقيقية للحظات ثم هبت واقفة واتجهت لغرفتها لترتدي ملابسها وتستعد والتساؤلات تتناطح في عقلها ” ماهو السبب الثاني ولما بدا عليه التوتر البسيط وهو يتحدث عنه ؟! ” ، ولم يهدأ عقلها لثانية واحدة وكانت طوال الطريق صامتة تتابع الطريق والفضول ينهشها نهش وتتساءل ” ترى ماهو السبب ؟! ” … !!!
***
كان زين في غرفته كعادته يقضي الشطر الثاني من الليل وهو يقرأ في كتاب القرآن الكريم ويرتل آياته بصوت عذب ، وبينما هو يثبت كل تركيزه في كتاب الله .. رفع نظره عنه فور انفتاح الباب ودخولها ودموعها تملًا وجنتيها والعبارات سابحة في عيناها وتسقط بغزارة على وجهها ، فتمتم بصوت خفيض وهو يغلق المصحف ” صدق الله العظيم ” ، وأصابته الريبة والقلق بشأن بكائها المفاجئ هذا ثم هب واقفًا واقترب ناحيتها وهو يهمس بتعجب ونظرات مرتعدة :
_ مالك ؟!!!
مدت يدها وجففت دموعها بظاهر كفها ولكنها لا تزال تنهمر بغزارة لتنتابه الشكوك السيئة بأن مكروه قد أصاب أحدهم أو أصابها هي ، واقترب منها أكثر حتى وضع كفه على ذراعها اليسار هاتفًا :
_ في إيه ياملاذ مالك ؟!
ارتمت داخل أحضانه وهي تهمس بصوت مرتعش وجسد لاحظ ارتجافته :
_ حلمت بكابوس وحش علطول بيجيلي
ضيق عيناه وهو يستمع لكلامها وفور انتهائها أصدر هو تنهيدة طويلة بارتياح وابعدها عنه برفق متشدقًا بنظرة معاتبة :
_ يعني كل العياط ده عشان كابوس ياشيخة حرام عليكي وأنا اللي افتكرت إن في حاجة لقدر الله حصلتلك ولا حصلت لحد
رفعت عيناها الدامعة له وقالت بخفوت :
_ دايمًا بحلم بالجاسوم وكان بيجيلي من أنا وفي الثانوي ولغاية دلوقتي بيجيلي وكل ما بيجيلي بخاف أوي وبفضل أعيط زي كدا .. عارفه ؟
هز رأسه بالإيجاب وغمغم في حنو :
_ أيوة عارفه .. تعالي واحكيلي بيجيلك إزاي عشان يخليكي خايفة كدا وبتعيطي بالشكل ده
جذبها من كفها بلطف وأجلسها على الفراش ثم جلس بجوارها لتقول هي بهدوء :
_ بحس نفسي متكتفة في السرير ومش بقدر أتحرك ولا أتكلم وببقى عايزة أفوق مبعرفش وبحس كأني بغرق وكل ما بقاومه بيزيد أكتر مش بفوق منه غير لما افضل أقول اعوذ بالله من الشيطان الرجيم وبصحى مخضوضة مش قادرة أخد نفسي ، وأنا بطبيعتي أساسًا خوافة فمبالك لما أحلم بكابوس زي ده وغالبًا بسمع أصوات مرعبة وأحيانًا بشوف خيالات والنهردا شوفت أيد مخيفة ماسكة في إيدي ومكتفاها وصوت حواليا بيضحك وأصوات كتير متداخلة ومرعبة ، ولما بفوق منه وبعد كدا بنام تاني بيجيلي تاني يعني ممكن يجيلي أربع أو خمس مرات ورا بعض وفي كل مرة بصحى مخضوضة
لم يكن يتوقع بأنها تخاف لهذه الدرجة المفرطة حيث كانت تتحدث وعلى وجهها علامات الإرتيعاد والرعب ، فسرعان ما أشفق عليها ومد يده يملس على شعرها بحنو يشعرها بالقليل من الآمان والاطمئنان :
_ طيب اهدى ، أنا سمعت إنه بيبقى صعب فعلًا واللي أعرفه والله أعلم إن العلماء بيقولوا إنه بيبقى بسبب الضغوط والحالة النفسية والتوتر والمشايخ بيقولوا إنه من الشيطان ، فإنتي التزمي بأذكار الصباح والمساء والحمدلله إنتي ملتزمة في الصلاة يعني فبإذن الله مش هيجيلك تاني
تطلعت إليه بنظرات مستعطفة ومتوسلة فخرج صوتها به شيء من الرجاء :
_ ممكن تخليني أنام معاك النهردا لإني خايفة ما أنام وحدي ويجيلي تاني !
أخفى ابتسامته بصعوبة وتمتم في دفء :
_ نامي ياملاذ السرير قدامك كله أهو
ترددت قليلًا قبل أن تسأل سؤالها القادم وهيمن عليها الصمت للحظات قبل أن تستجمع شجاعتها وتسأل باضطراب :
_ هتنام جمبي ؟
رفع حاجبه وهو يبتسم بلؤم لسؤالها المتوقع وكذلك الإجابة المتوقعة التي ترغب في سماعها ، فلم يحرمها مما ترغب فيه حيث تمتم بنظرات ثابتة :
_ اممممم !!!
كتمت سعادتها في الأعماق واكتفت بالإماءة الصغيرة ثم تمدد بجسدها على الفراش وتدثرت بالغطاء ، لينهض هو ويجلب هاتفه ثم يقوم بتشغليه على سورة البقرة ويضعه على المنضدة الصغيرة بجانب الفراش ويهتف في نظرات حانية لا تشهدها منه كثيرًا بسبب إضطراب علاقتهم :
_ اقري المعوذتين وآية الكرسي قبل ماتنامي وأهو شغلت سورة البقرة جمبك
ابتسمت له بحب وهي توميء بالموافقة وطرحت سؤالها الثالث عندما وجدته يتجه نحو باب الغرفة :
_ رايح فين ؟!
التفت لها برأسه وغمغم باسمًا :
_ رايح اشرب ياملاذ وراجع ، نامي ملكيش دعوة بيا أنا ممكن منامش دلوقتي
هزت رأسها بالموافقة وأغمضت عيناها محاولة النوم من جديد ، أما هو فعاد بعد ثلاث دقائق وجلس يكمل القرآءة حتى ينهي ورده اليومي وبعد مايقارب النصف ساعة انتهى واتجه نحو الفراش ليتسطح بجوارها على الجهة المقابلة لوجهها يحدق فيها بإمعان شديد ليلتقط كفها الناعم ويطبع قبلة رقيقة على ظاهره ويقترب برأسه ناحيتها يخطف قبلة سريعة من جانب ثغرها خشية من أن تستيقظ نتيجة للمساته ، ثم يرجع برأسه لوضعها الطبيعي ويغمض عيناه متهربًا عن طريق النوم من الأفكار المنحرفة التي تعصف برأسه الآن !!! …….
***
مع إشراقة شمس يوم جديد يحمل الكثير من المفاجآت للبعض ……..
سمحت شفق للطارق بالدخول وهي تقوم بتسريح شعرها ، لتدخل رفيف وعلى وجهها ابتسامة مشرقة كصباح اليوم هاتفة :
_ صباح الخير
أجابتها الأخرى بابتسامة عذبة ونقية :
_ صباح النور
كانت رفيف في اقصى درجات الحماس والتشوق حيث جذبت المقعد الآخر وجلست بجوارها متمتمة بابتسامة أصبحت أكثر اتساعًا :
_ يلا جهزيلي نفسك كدا وخدي نفس عميق عشان تستقبلي اللي هتسمعيه دلوقتي
تركت مابيدها وركزت كل انتباهها عليها وهمست بريبة وفضول وهي كلها آذان صاغية لما ستقول :
_ في إيه قولي يارفيف متقلقنيش ؟!
هتفت الأخرى في صوت منخفض ونظرات بها لمعة ماكرة :
_ كرم عايز يتجوزك !
_ الفصل الخامس عشر _
_ كرم عايز يتجوزك !
وكأن صاعقة برقية ضربتها فحرقتها في أرضها ، كانت فاغرة فمها وعيناها ترمش بها عدة مرات ، تحاول استيعاب الكلمات التي دخلت لأذنها للتو ولكن عقلها يرفض استيعابها ويهمس بجملة واحدة ” ما هذا الهراء !! ” ، واستغرق الأمر لحظات طوال حتى هزتها ” رفيف ” ببطء متعجبة من تسمرها بمكانها كالصنم ، لتخرج هي أخيرًا من دوامة صدمتها وتهتف بصدمة أشد :
_ كرم مين أخوكي إنتي ؟!!
_ أمال أخو الجيران !!
عادت تسألها بشيء من البلاهة وعدم التصديق :
_ عايز يتجوزني أنا ؟! ، يعني متأكدة إنه قصده عليا أنا ، ليكون قصده على واحدة تاني !!
تمالكت رفيف أعصابها ورفعت كفها ضاغطة عليها بشدة وهاتفة بأغتياظ وهي تجز على أسنانه :
_ هرزعك حتة قلم يخليكي تفوقي كدا كويس ، بت متجبليش الجلطة أيوة إنتي ، هو في حد اسمه شفق غيرك نعرفه !!
التزمت الصمت لبرهة من الوقت ثم ابتسمت بمرارة وطالعتها بابتسامة بائسة :
_ وإنتي جاية تسأليني طبعًا موافقة ولا لا !
_ أكيد .. دي ماما فرحانة أوي ولو وافقتي مش بعيد تخلي كرم يكتب كتابه عليكي من بكرا
هب واقفة وعقدت ذراعيها أمام صدرها هامسة بصوت حزين :
_ بس مش هقدر اوافق يارفيف
هبت الأخرى واقفة بدهشة وهتفت بجدية تامة لا تحمل المرح ولا المزاح :
_ نعم !! .. بلاش هبل ياشفق أنا وإنتي عارفين كويس أوي إنك معجبة بكرم أوي كمان
التفتت لها وطالعتها بأعين دامعة وغمغمت بألم :
_ أيوة ده فعلًا بس كمان عارفين إنه مبيحبنيش وإنه عايز يتجوزني بس عشان يبقى نفذ وصية سيف الله يرحمه وفي نفس الوقت هبقى مراته فمش هبعد عنه أبدًا وبكدا هيبقى حماني ومخليني تحت عينه
أخذت نفسًا عميقًا وهي ترى جانبًا من كلامها صحيحًا والجانب الأخر ليس صحيحًا ، وقررت أن تتمسك بالجانب الخاطىء وتحاول تصلحيه لها لعلها توافق :
_ كرم بيعزك جدًا ياشفق والله وإنتي ليكي معزة خاصة في قلبه ولو وافقتي واتجوزتوا هتقدري بسهولة تكسبي قلبه صدقيني .. دي فرصة جاتلك ولو ضيعتيها مش هتجيلك زيها تاني فمتهدريهاش وحاولي تستغلي الفرصة لصالحك
اقتنعت بكلامها ورأت أن آخر كلمات تفوهت بها قد تكون على حق ، فهذه فرصة والفرص لا تأتي دائمًا على طبق من ذهب مثلما جاءت لها الآن ، وطالما أتتك فرصة جاهزة فلن تخسر شيئًا إن جربتها لربما تنجح وتكون سبب في تحقيق هدف كنت تسعى من أجله .
رتبت رفيف على ذراعها بلطف مهمهمة بحنو :
_ فكري في كلامي كويس وردي عليا بليل بقرارك
***
فتحت أمها الباب ودخلت ثم أغلقته خلفها ببطء واتجهت نحوها بعد أن وجدته تجلس في شرفة غرفتها وبيدها كوب قهوتها الصباحي تتنسم الهواء الطلق باستمتاع ، وبمجرد ما أن انتبهت لوجود أمها اعتدلت جالسة وقالت بابتسامة حانية :
_ صباح الخير
ملست على شعرها بحنان وأجابتها بعذوبة جميلة :
_ صباح النور ياحبيبتي
جذبت مقعدًا واتخذت لها مكانًا بجوارها هامسة في نظرات مترقبة ونبرة صوت حادة قليلًا :
_ إنتي متخانقة مع جوزك يايسر ؟!
توترت في باديء الأمر وهي تحاول إيجاد كذبة تفسر بها سبب شجارهم ولكن عقلها لم يسعفها في نفس اللحظة حيث هتفت بابتسامة مرتبكة وأعين تحاول إبعادهم عن نظرات أمها الثاقبة :
_ لا ياماما مش متخانقين ولا حاجة قولتلك حسن مسافر وأنا قولت آجي أقعد معاكم يومين
ازدادت نظرات أمها حدة عندما استمعت لكذبها مجددًا ومحاولات إخفاء شيئًا عنهم قد يكون خطيرًا ، فخرج صوتها صارمًا :
_ حسن مش مسافر .. حسن في الشركة علاء لسا كان بيسألني عليكي وإنك ليه جيتي فجأة كدا فقولتله إن حسن مسافر قالي مسافر إيه حسن مرحش مكان وأنه كان لسا بيكلمه ورايحله على الشركة دلوقتي
أدركت سخافة الكذبة التي املتها عليهم بالأمس وقد فضح الأمر أمام الجميع وليس والدتها فقط وستضطر لإيجاد كذبة أخرى حتى تنهي بها هذه التساؤلات ، ولكن يجب أن تكون مدروسة جيدًا وإلا ستقع في مأزق أكبر ! .
أخذت من الوقت لحظات طويلة حتى قالت بوجه هادئ تمامًا لكي تقنعها بكذبتها :
_ أنا محبتش أقولكم عشان مشغلش بالكم ، هي مش خناقة يعني ياماما كل ما في الموضوع إننا شدينا مع بعض في الكلام بس
_ ولما هو مجرد جدال بينكم وحاجة بسيطة ليه جيتي على هنا ؟
قالت الأخرى شبه مازحة لتضيف على الجو المشحون بالتوتر بعضًا من نسمات التلطيف :
_ في إيه ياماما إنتي مش عايزاني اقعد معاكم يومين ولا آية ، اطمني مفيش حاجة أنا بس اتخنقت شوية وحبيت افك عن نفسي وعشان كدا جيت على هنا واتفقت معاه إني هقعد يومين
رفعت أمها حاجبها بشك وقالت باقتناع بسيط :
_ يعني مفيش حاجة بينكم !
هزت الأخرى رأسها بالنفي وأكملت كذبتها باحترافية حتى وصلت لعقل أمها وصدقتها تمامًا :
_ لا الحمدلله مفيش ، وبعدين أنا اللي غلطانة واستفزيته فهو اتعصب عليا وشدينا مع بعض متشغليش بالك احنا بخير الحمدلله
تنهدت الصعداء بارتياح ورتبت على كتفها بلطف متمتمة :
_ طيب الحمدلله أصل أنا إمبارح قلقت لما لقيته متصل على تلفوني وقالي إنك مبترديش عليه
_ آه تلفوني كنت عملاه صامت عشان كدا مسمعتهوش
هبت واقفة وقالت بصوت رخيم قبل أن تستدير وترحل :
_ طيب ياحبيبتي .. يلا قومي عشان تفطري معانا
أماءت لها بالموافقة وانتظرت حتى انصرفت لتأخذ هي بدورها شهيقًا وتخرجه زفيرًا بارتياح فقد حالفها الحظ واستطاعت خداع أمها ، فهي لا تتوقع ردة فعلهم إن علموا بكل شيء وما فعلته مع زوجها قبل الزواج والظروف التي تزوجوا فيها وكيف أن كلاهما خدعوهم بقصة العشق النقي الذي كان يضمره لابنة عمه وانتهى به المطاف إلى طلب يدها من عمه والزواج منها !! .
***
في مساء ذلك اليوم …..
كانت كل من رفيف هي وأمها وكرم يتناولون طعام العشاء والصمت يهيمن عليهم جميعًا حتى اخترق هو فقاعة الصمت بسؤاله عندما انتبه لمقعدها الفارغ :
_ امال شفق منزلتش ليه تاكل ؟
أجابت رفيف قبل أمها في ابتسامة تضمر خلفها الخبث :
_ قالت إنها مش جعانة
تبادلت النظرات المتشابهة مع والدتها وكلاهما يبتسم بلؤم ، فبعد أن عادت تسألها رفيف مجددًا نجحت وحصلت على موافقتها .. ورفضت تناول الطعام معهم خجلًا من البقاء معه على نفس الطاولة ، نقل نظره هو بينهم مستغربًا وغمتم بحيرة :
_ مالكم بتبصوا لبعض وتضحكوا كدا ليه ؟!
هنا تولت هدى هي الدور حيث تنهدت بعمق قبل أن تبدأ في الحديث بشيء من الجدية الممتزجة بالسعادة :
_ شفق وافقت
رفع حاجبه متمتمًا بريبة تحمل القليل من الشك :
_ بالسرعة دي ؟! .. ماما أنا وافقت بس قولت بشرط إنكم تدوها فرصة براحتها تقرر وبعدين تقول موافقة أو لا ، ومعنى الكلام ده أنكم متضعطوش عليها
قالت هدى محاولة تبرير موقفها بذكاء مألوف منها :
_ واحنا مضغطناش عليها ، ومش هنغصبها مثلًا على الجواز .. احنا قولنا ليها الصبح و رفيف سألتها تاني من شوية لو قررت أو لا فقالت موافقة
_ وهي كدا لحقت تقرر صح مثلًا !!؟
هتفت هدى بشيء من الغضب والانفعال :
_ وإنت مالك مدقق وعايزاها تاخد وقت تفكر فيه ، ماهي فكرت وقالت موافقة وخلاص خلص الموضوع
تمتم في رزانة تامة وصوت هاديء يختلف قليلًا عن نبرته السابقة :
_ عشان ده جواز مش لعب عيال ، وأنا مش عايزها تاخد قرار متسرع وتندم عليه بعد كدا ، كفاية إني وافقت مضطر بسبب إصرارك فمش هيبقى أنا وهي .. ادي لشفق فرصة تاني ياماما ومتقوليش نكتب الكتاب علطول لإني هصبر على الاقل أسبوع لغاية ما تبقى هي متأكدة تمامًا من قرارها بعدها نبقى نكتب الكتاب
همت والدته بأن تجيب عليه مغتاظة ولكن رفيف ضغطت على كفها بهدوء تهدأ من روعها وتهتف باقتناع وتأيد لرأي أخيها :
_ كرم عنده حق ياماما ، خليها تاخد وقت براحتها تفكر فيه مرة واتنين وتلاتة وبعدين يبقى يكتبوا الكتاب
قالت مغلوبة على أمرها عندما وجدت الضغط من كلاهما وأنهم لا يؤيدوا فكرتها مطلقًا وشعرت في قرارة نفسها بأنهم قد يكونوا على حق :
_ طيب ياكرم براحتك
هب واقفًا بعد أن انهى طعامه واقترب منها ثم انحنى وقبَّل رأسها بحنو هامسًا في صوت يبعث في النفس راحة وسكينة :
_ تصبحي على خير ياست الكل .. عايزة حاجة ؟
استطاع رسم ابتسامتها الامومية المحبة له وامسكت بكفه الذي فوق رأسها وانزلته لتقبله بحنان متمتمة :
_ عايزة سلامتك ياحبيبي
اتجه نحو شقيقته وطبع قبلة سريعة على رأسها أيضًا ثم اتجه لغرفته ليخلد للنوم ويستعد لصباح يوم جديد مليء بروتينية العمل التي لا تنتهي !! .
***
كان جالسًا أمام التلفاز يشاهد إحدى قنوات الأخبار وهي بجواره تعبث بهاتفها تتصفحه ، كانت عيناه معلقة على شاشة التلفاز وعقله بعالم آخر مشغول بالتفكير وبين آن وآن يلقي نظرة إليها فيجدها مندمجة في هاتفها جدًا فيتنهد بقوة شبه متأففًا وبعد لحظات طوال من التفكير غمغم في هدوء تام :
_ احكيلي ياملاذ كل حاجة عن خطيبك قابلتيه إزاي وفين ؟
توقف إبهامها الذي يتحرك على شاشة الهاتف التي تعمل باللمس ، واخترق كلامه مسامعها فأصابها بالذهول وتجمدت على حالها ، فآخر شيء كانت تتوقع أن يسأل عنه في يوم من الأيام هذا الشيء الذي يُدعى بخطيبها السابق ، هل هو بالفعل مستعد لسماع كل شيء دون أن يفقد أعصابه أو يزداد كرهه لها ، انتفضت جالسة على أثر صوته الخشن :
_ ملاذ !!
_ هااا .. بس إيه اللي جاب الموضوع ده على بالك دلوقتي ؟!
تمتم بثبات ملحوظ ونظرات ثاقبة :
_ عادي حابب أعرف كل حاجة ولا إنتي عندك مانع ؟!!
هزت رأسها بالنفي في توتر وحاولت ارتداء لباس الشجاعة وأن تقص عليه كل شيء دون كذب لعلى يكون هذا جزء يساهم في استعادة مافقدته وهو ” ثقته ” ، قالت بابتسامة مرتبكة :
_ لا طبعًا معنديش مانع ، بس إنت مستعد إنك تسمع حجات أكيد مش هتعجبك !
_ لو مكنتش مستعد مكنتش هسأل
أخذت شهيقًا ارتفع معه صدرها قليلًا ثم أخرجته زفيرًا متمهلًا وتبدأ بالسرد قائلة :
_ هو كان قريب واحدة صحبتي وفي مرة طلعنا أنا وهي وروحنا مطعم فهي وماشية جه هو ياخدها وشافني ، بعديها بكام يوم لقيتها بتقولي إنه أعجب بيا وحابب يتعرف عليا فقولت ليها يتعرف عليا إزاي يعني ؟! ، قالتلي يعني يكلمك وكدا في التلفون لإنه ناوي يتقدملك بس عايز يتعرف عليكي في الأول فأنا وقتها بهدلتها وقولتلها أكيد لا مش موافقة ولو عايز يتقدملي ياجي أهلًا وسهلًا ولو حصل نصيب في حاجة اسمها خطوبة وهنتعرف على بعض كويس أوي ، وبعدها بأسبوعين لقيته اتقدملي بالفعل واللي اكتشفته بعدين إنه شافني كذا مرة مش مرة واحدة ، وطبعًا أنا من غبائي وافقت لما اتقدملي وكنت فرحانة جدًا كان في نظري بقى شاب جميل وشبه الأجانب بالرغم من إني لو كنت ناضجة وفاهمة كنت هدرك إن طلاما واحد قبل على نفسه إنه يكلمني قبل ما يبقى في أي حاجة بينا وكان عايز بمعنى أصح يرتبط بيا من ورا أهلي فده معناه إنه مش كويس بس أنا بغبائي صممت عليه مع إن إسلام وبابا مكنوش مقتنعين بيه ومكنوش بيطقوه ، بس وبعدها تمت الخطوبة وكان بيكلمني كل يوم تقريبًا وكنا بنتكلم في حجات ملهاش أي ستين لزمة وكان بيجيلي بعد شغلي وبنقعد في كافتريا وفي وقتها أنا مكنتش مدركة حجم الغلط ده كنت عارفة إنه مينفعش ويمكن يكون حرام بس مكنتش مدركة إن أنا كنت باخد ذنوب بالهبل بسببه وسمحتله بحجات كتير وإنه يتخطى حدود في التعامل معايا كتير مكنش ينفع يتخطاها ، كنت ساذجة لدرجة الغباء ، وبعدها بفترة من الخطوبة لقيت بابا بيكلمني على موضوع إنه بيكلمني كل يوم ومتعصب وقالي مينفعش وأنا بقيت بحاول اتجنبه ولما يتصل اتكلم كلمتين واتلكك بأي حاجة عشان اقفل ، بعديها لقيته هو من نفسه بقى يبعد وحده وحده وحس إني مش عايزة اكتر معاه في الكلام ، بقى يتصل مرتين في الأسبوع وبعديها مرة وفي النهاية مبقيش يتصل خالص بقيت برن عليه أنا يا يرد يامردش ولو رد كان بيعمل زي وبيتلكك ويقفل معايا وبعديها بفترة بقيت ارن عليه وميردش ولا يعبرني أصلًا بقيت بضايق جدًا وبتعصب وفي مرة قولت أنا هروحه كان تفكيري وقتها إن يمكن هو تعبان ومبيردش عشان مش عايز يقلقني وقولت هطمن عليه ، كان حبي ليه عميني عن كل حاجة ولما روحتله بعد الشغل هو كان محامي ومعاه مكتب خاص بيه فروحتله على مكتبه ولما دخلت عليه المكتب لقيته .. لقيته مع بنت وكانوا في وضع مش كويس بعديها فورًا احنا فسخنا الخطوبة وحصلت مشكلة كبيرة بين بابا وإسلام مع ابوه وأمه واخواته ……
فرت دمعة متمردة من عيناها رغمًا عنها فجففتها مسرعة والقت نظرة خاطفة إليه فوجدته يحدق فيها بتركيز شديد ويستمع لما تسرده باهتمام ، لتكمل دون أن تنظر في وجهه وصوتها يحمل بحة البكاء وعيناها تسبح في بحر دموعها :
_ مكنتش متوقعة منه الغدر نهائي ، كنت بثق فيه ثقة عمياء وزي ما قولت بسبب حبي ليه كان مخليني عمية عن كل عيوبه كان كتير بيتجاهلني ولما نكون خارجين تلفونه يرن كتير ويقولي صاحبي ويقوم يكلمه بعيد وهو أصلًا مش صاحبه دي واحدة من البنات اللي يعرفهم ، هو لما ملقيش مني فايدة وإني مش بسمحله إنه يقرب مني لأنه هدفه كان من البداية هو أن يحصل عليا ويحاول يجرني لطريقه القذر فزهق مني وشافله واحدة غيري ، وهو من البداية عارف إنه مش هيتجوزني لانه مش حاطط في باله الجواز أساسًا ده كان بيتسلي بس بيا وأنا زي الحمارة صدقته ووثقت فيه لا وبعد ده كله فضلت برضوا بحبه وحبه مكفاش في إنه يدمرني بوجوده لا حتى في غيابه وكان السبب في وضعنا دلوقتي .
سمحت لدموعها بالسقوط ثم نظرت له وأكملت وهي تعلق نظرها بنظره في أعين تنبض بالعشق :
_ أحيانًا كتير بقول يارب ليه مكنتش إنت أول حد يدخل حياتي ليه مكنتش إنت بداله على الأقل مكنتش هتكسر زي ما كسرني ، مكنتش هخسر ثقتك فيا ومكنتش علاقتنا هتبقى كدا ، بس برجع وبستغفر ربنا وبقول أكيد ربنا كان ليه حكمة وأنا اتعلمت كتير من التجربة دي ، ولما اتقدمتلي إنت أنا كنت لسا في عز صدمتي ومخرجتش منها وبحاول استجمع نفسي ومع ضغط ماما عليا وبعد ما فكرت بغبائي إني لو اتجوزتك هسترجع كرامتي اللي بعترها وهخليه يتغاظ ، وافقت ومكنتش أعرف إني كدا بدمر حياتك وحياتي ، وبالرغم من إني كنت لسا مفوقتش من الغدر اللي اتعرضلته لقيت نفسي من غير ما احس بثق فيك وبتشدلك ، حسيتك مختلف عنه في كل حاجة لما اتخطبنا مكنتش بتكلمني وكنت بستغرب بعدين فهمت إن إنت خايف تكلمني فتقول حاجة كدا أو كدا وتغلط فناخد ذنوب أنا وإنت وكنت بتكتفي بمكالمة واحدة طول الأسبوع تطمن عليا وتقفل فورًا لدرجة إني كنت بحس إنك مش طايقني بس ما كتبنا الكتاب واخدتني معاك للشركة وسمعت كلامك وغيرتك عليا بسبب المكياج كبرت في نظري جدًا وحسيت إن إنت فرصة ربنا بعتها ليا ولو ضيعتها هبقى اثبت لنفسي للمرة التانية إني غبية جدًا .. ومن لحظتها اخدت عهد على نفسي إني هشيله من قلبي وهحاول اكون ليك لإنك تتحب فعلًا ، وفي تاني يوم لما اتكلمت معاك في موضوع النقاب ولقيتك مبسوط وبتقولي ياريت ، كبرت أكتر في نظري وتمسكي بيك زاد اكتر لاني عرضت علي احمد موضوع النقاب قبل ما ننفصل ورفض وقالي بلاش هبل ، طبعا كان هيوافق ازاي والنقاب ده كان هيحط حدود في تعاملنا مع بعض وهيمنعه من انه يشوفني ، ولما إنت عرفت كل حاجة يوم الفرح كنت متوقعة إنك هتتعصب وممكن تمد إيدك عليا لما نرجع البيت بس خيبت ظني وكان رد فعلك طبع بصمته في قلبي بالرغم من إنك كنت قاسي في كلامك بس حسيت اني مندمتش لما تمسكت بيك وقولت لازم مضيعكش من إيدي ، عارف حسيت بإيه بظبط ، حسيت إنك راجل بمعنى الكلمة واحترمتك جدًا وقتها .. ولغاية دلوقتي وحتى لو حصل واتطلقنا اهيني بقولها ليك إنت هتفضل أجمل راجل قابلته في حياتي يازين !
لم يزح نظره عنها بل ظل مثبتًا نظره عليها وهو بيتسم بدفء ونظرات تعكس ما يحدث داخل قلبه وكأنها تخبرها بشكل غير مباشر عن طريق لغة الأعين ” أحبك ” ، نجحت وهزمته شر هزيمة بكلامتها التي صوبت سهام العشق نحو قلبه فطبعت أثرها ، وحينما شعر بدنو استسلامه التام لها ووجد نفسه سيقترب ليقبلها فاشاح بوجهه وقال متصنعًا الجفاء في محاولة فاشلة :
_ اعتقد إن اللي قولتيه في الآخر ده ملوش لزمة أنا كل اللي كنت عايز أعرفه عن خطيبك بس
انزوت نظرها عنه مبتسمة بعدم حيلة بعدما توقعت رده الجاف ولكنها قررت أن تستخدم رده كورقة رابحة فتسكته بها بتاتًا وتجعله غير قادر على التحدث ، حيث رفعت نظرها من جديد وجففت دموعها هاتفة في ابتسامة واثقة ونظرة كلها تحدى :
_ يمكن هو ملوش لزمة بالنسبالك بس بالنسبالي ليه لزمة أوي كمان ، وكان لازم اقوله ليك !
لم تفشل للمرة الثانية في هدفها حيث خطفت أي رد يمكن أن يجيب به عليها فنظر لها بسكون ولا يعرف بماذا يجيب ليكتفي بالصمت واشاح نظره عنها مجددًا ، لتزداد ابتسامتها اتساعًا في انتصار ثم تقول بشيء من المرح والضحك :
_ عارف إول مرة شوفتك في المقابلة الشرعية ، قولت ده باين عليه معقد وتفكيره رجعي ومن نوع الناس اللي بتحب تفرض سيطرتها في كل حاجة وبيكتم الست ومفيش خروج ، مفيش فسح ومعرفش إيه بسبب إن كان باين عليك الالتزام والتدين جدًا ، بس بعد كتب الكتاب اثبتلي العكس وكنت لطيف جدًا آه خوفت منك شوية منكرش في الشركة بس عادي ، وكنت جنتل أوي وإنت بتعتذر تاني يوم .. ولما كلمتني في التلفون ولقيتك بتقولي عايز تصالحني وش لوش ومعرفش إيه اكتشفت إني اتخدعت فيك وفي وش الملاك وقناع الاحترام والأدب اللي كنت بتلسبه قدام الكل ومكدبش عليك قلقت منك وقولت ده هيعمل فيا إيه ! ، بس هديت نفسي وقولت عادي يعني هو بيقول كلام بس وهو مطلعش كلام للأسف و إنت فعلًا حاولت تستغل الفرصة بس باحترام برضوا
رأت ابتسامة ترتفع لشفتيه وهي تسرد له على افعاله ، وكيف كانت تظنه خلوقًا ، بل في الواقع هو حتى الآن خلوقًا معها ولم يريها الانحراف الحقيقي ، لتكمل هي متسائلة في ضحك :
_ قولي ومتكدبش كانت نوياك مش تمام صح ؟ ، بس شكلك تراجعت على آخر لحظة !
قال في ابتسامة عريضة وهو يبادلها جلستها المرحة :
_ الصراحة ابقى كداب لو قولتلك غلطانة
أصدرت ضحكة بسيطة وتمتمت بخذي مزيف ومداعبة :
_ وأنا قال اللي كنت مدياك الأمان وإنت كنت هتغدر بيا في نص النيل
اطلق ضحكة مرتفعة ثم هم بأن يجيب عليها ولكن صوت رنين هاتفه قطع جلستهم المرحة والأولى منذ زواجهم ، حيث التقطه وأجاب على المكالمة التي كانت تخص شيء خاص بالعمل ثم نهض واتجه نحو مكتبه ليتأكد من شيء وهو مازال يتحدث في الهاتف ، وتركها تتراقص فرحًا وتكاد تقفز من السعادة .. فلقد نجحت اليوم في احراز اول نقاطها ، وقويّ شعور الأمل في قلبها من جديد وازدادت إصرارًا وعزيمة في إذابة الثلوج المتراكمة على قلبه وتحول بينها وبين قلبه النقي والصافي والجميل … !!
***
مع صباح يوم جديد ومشرق ، داخل شركة العمايري …..
خرجت يسر من مكتبها تقود خطواتها ناحية مكتب زوجها لكي تعطيه بعض الأوراق المهمة الخاصة بالعمل ، بالرغم من أنها لا تريد رؤيته إلا أنها مجبرة على التعامل معه في الشركة من أجل العمل . وأخيرًا وصلت أمام مكتبه وهمت بأن تدخل لولا السكرتيرة الخاصة به منعتها فورًا باحترام مغمغمة :
_ مدام يسر .. حسن بيه قال مدخلش حد نهائي
لوت فمها بأعين نارية وتمتمت بابتسامة صفراء :
_ وهو أنا حد ياحبيبتي !!
توترت الفتاة بشدة وقالت باضطراب وصوت خافت :
_ هو موجود جوا مع أنسة دنيا وقالي إنك لو جيتي وجبتي الاوراق تدهاني وأنا هدهاله لما يخلص مقابلته
طفحت حمم البركان الخامد داخلها ، وتأججت نيران الغيرة لدرجة أن وجهها ظهرت عليه آثار انفجار هذا البركان ! ، فهو لن يكف عن تحقيرها وإهانتها أمام الجميع .. يجلس مع فتاة في الداخل ويرفض دخول زوجته غير مبالي لوضعها أو كرامتها ، ولكنها تمكنت من التحكم في زمام ثورتها الداخلية وطالعت الفتاة بابتسامة قاتلة كلها شر وغيظ ثم استدارت وعادت لمكتبها دون ان تعطيها شيء وهي تتوعد له بأنها سترد كرامتها التي بعثرها للتو .
دخلت في مكتبها ودفعت الباب بعنف خلفها ثم جلست على المقعد وهي تلف به يمينًا ويسارًا وتقضم أظافرها من فرط غيظها وغيرتها وعقلها لا يتوقف عن التفكير وطرح الأسئلة ” ترى ماذا يفعل هذا المنحرف ؟! ، ولما يرفض دخول أحد عليهم ؟! ” ، فنهضت وقامت بتحضير كوب قهوة لم تجهزه لها بل له ، وبعد دقائق معدودة من تجهيزه كما توقعت اقتحم عليها المكتب ودخل ثم اغلق الباب وهتف بسخط :
_ مسبتيش الورق ليه مع السكرتيرة ؟!
اقتربت منه وهي تحمل على يدها كوب القهوة الساخن وتهمس بتصنع البراءة :
_ معلش اتلهيت أصل جالي تلفون مهم ومشيت علطول عشان أعرف أرد
تقدم نحوها وقال ساخرًا منها :
_ لا والله وتلفون إيه ده بقى المهم ؟!!
وقفت أمامه مباشرة تكاد تكون ملتصقة به وتمتمت في نظرات ثابتة وابتسامة لئيمة :
_ فاكر اللي شوفتني معاه في الصورة وحكتلك عنه أهو هو ده ، كان بيتصل يطمن عليا لإني إمبارح كنت تعبانة جدًا بس الحمدلله دلوقتي بقيت كويسة ، ده حتى كان عايز ياجي يشوفني بس قولتله لا متتعبش نفسك ولإني كمان مش فاضية
تبدلت ملامحه ولاحظت أنها اتخذت طريقًا مغايرًا لتسلك طريق الاغتياظ والاستياء فتبتسم هي بانتصار لتحقيق أول نقاطها ثم تسكب القهوة على قميصه ليرتد هو للخلف فورًا مُصدرًا تأوهًا متألمًا لسخونتها ثم بدأ فورًا بفك أزرار قميصه في ألم حتى ينزعه عنه وهو يصيح بها بجموح عاتي :
_ إيه الغباء ده !!
يخطأ مجددًا ولابد أنه يصر على أن تزيد عقابها له فاقتربت منه وضغطت بقدمها على قدمه ليصدر هو تأوهًا متألمًا أكثر فتقول هي بتأسف مزيف ودهشة :
_ أنا آسفة ياحبيبي مقصدش ، بسبب التعب بس حاسة نفسي من مظبوطة لسا
فهم أنها تفعل كل هذا عمدًا حين قرأ نظرات الغل في عيناها فنزع عنه قميصه والقاه على الأريكة الصغيرة ثم جذبها من ذراعها هامسًا في صوت مريب :
_ اللي بتعمليه ده هتبقى نتائجه سلبية خلي في علمك ، بلاش حركاتك دي يايسر ومتعمليش نفسك ذكية عليا احسن اوريكي اللي عمرك ماشوفتيه مني
قالت ضاحكة باستهزاء واضح منه :
_ نفسي جدًا اشوف اللي مشوفتهوش منك ده ، من ساعة ما اتجوزنا وإنت بتقول الكلام ده ، بس واضح إنه كلام بس
ضغط على ذراعها ولواه خلف ظهرها لتصدر هي تأوهًا بسيطًا ثم همس أمام شفتيها بالضبط وفي صوت يشبه فحيح الافعي :
_ اظن منستيش اللي كنت هعمله يوم الفرح ، عندي استعداد أخدك دلوقتي على البيت واوريكي أسوأ ما فيا عشان تتأكدي إذا كان كلام بس ولا لا .. ها إيه رأيك تحبي اثبتلك !
أدركت أنه لا يمزح وقد يفعلها حقًا فقررت السماع لنصيحة عقلها وهي عدم استفزازه وتحديه أكثر من ذلك حتى لا تقع في وضع صعب معه ، فأغمضت عيناها وهمست بخنق :
_ ابعد عني ياحسن
ترك يدها وشعرها لتعتدل هي واقفة ويقع نظرها على صدره الذي يعطي أحمرار بسبب القهوة التي سكبتها عليه لتتنهد بعمق وإشفاق وتلتفت خلفها ثم تمد يدها في درج المكتب وتخرج مرهم للحروق ثم تعطيه له هاتفة في امتعاض وهي تتحاشي النظر إليه :
_ خد حط منه
سمعت صوته الرجولي القوي وهو يقول ببرود :
_ حطيلي إنتي .. مش إنتي اللي دلقتي القهوة عليا
نظرت له رافعة حاجبها بنظرة لا تختلف عنه وفهمت مقصده أنه يريد أن يثبت لها أنها لا تستطيع مقاومته وتضعف أمامه كالعدو الجريح ، لتبتسم له بمكر وفتحت العلبة ثم وضعت جزء صغير على أصبعها ودهنته على مكان الإحمرار بلطف به شيء من الحدة ، وهو يتابعها مبتسمًا بخبث وهي تمرر اصبعها على صدره بمكان الحرق ، لتفتح في هذه اللحظة رفيف الغرفة وسرعان ما وقع نظرها عليهم فاشاحت بوجهها وعادت تغلق الباب متمتمة :
_ احم !
وضعت يسر علبة المرهم في يده وابتعدت عنه هاتفة لرفيف :
_ ادخلي يارفيف مفيش حاجة القهوة ادلقت على اخوكي بالغلط وكنت بحطله مرهم للحروق
التقط قميصه المتسخ ونظر لها هاتفًا في طبيعية يحاول إخفاء غيظه حتى لا تشعر شقيقته :
_ وده البسه إزاي بقى ؟!!
_ قول لعلاء يجبلك قميص من المخزن تحت ، مش موضوع يعني ياحسن
نقلت رفيف نظرها بينهم باستغراب ولكنها لم تعلق فهذا ليس من شأنها واقتربت من يسر تملي عليها بعض الأشياء الخاصة بالعمل ثم همت بأن ترحل لولا صوت أخيها الذي قال بتساءل :
_ كرم جه معاكي يارفيف ؟
قالت نافية :
_ لا النهردا الجمعة وإنت عارف إنه متعود بيزور اروى وسيف كل جمعة فوصلني ورجع على المقابر ، ممكن شوية وتلاقيه وصل
_ طيب لما ياجي قوليلي
أماءت له بالإيجاب لتقابل ابتسامته الحانية فتبادله إياها ثم تستدير وتنصرف ، ليعود هو بنظره لزوجته ويرمقها شزرًا ثم يخرج هاتفه من جيبه ويجري اتصال بابن عمه ليأتي له بقميص نظيف .
***
يوم وتوالت خلفه الأيام ، وكانت ذات أثر جيد على بعضهم وعلى البعض الآخر تمر بروتينية وبعضهم في تردد وضيق .
تمكنت ملاذ من أن تحقق نجاحًا ساحقًا في علاقتهم التي تحسنت كثيرًا وتمكنت من إزالة بعض العوائق التي تحول بينها وبين زوجها ورأت جزءًا من لطفه وحنانه الذي كان يخفيهم عنها .
أما حسن فقد قضي أسبوعًا كاملًا بمفرده في المنزل ، يستيقظ فيذهب للعمل ويعود ليقضي سبع أيام في روتينية مملة ، ويعترف أخيرًا بينه وبين نفسه أنها تركت بصمتها بمجرد رحيلها عن المنزل ، ولقد اعتاد عليها برغم من شجارهم اليومي ، وخلال هذا الأسبوع خلفت فراغ في نفسه خلفها .. حتى في العمل كانت لا تأتي سوى ساعات قليلة ولا يراها فيهم حيث تحرص على القدوم والذهاب دون إن يراها !! .
بينما كرم فقد كان مشغولًا في البحث عن ذلك الوغد الذي حتمًا سيحاول أذية ” شفق ” مجددًا ومن جهة أخري مشغولًا ببعض التعديلات التي يجريها في منزله استعدادًا للانتقال والعيش فيه بعد زواجه ، أما شفق فقررت وتراجعت أكثر من مرة وبالأخير استمعت لصوت قلبها الذي يرغب في قربه فاعلنت موافقتها النهائية ، وها هو اليوم موعد زواجهم وسيعقد القرآن بعد ساعات قليلة بحديقة المنزل وسط حضور عائلته كاملة ، وستكون حفلة عائلية هادئة دون موسيقية بناءًا على رغبتها بسبب وفاة أخيها وأمها الذي لم يمر على وفاتهم الشهر ! .
كانت تكمن في غرفتها وتتطلع لمرآتها تمعن النظر في ملامحها وفستان السهرات البسيط الذي قامت رفيف بشرائه خصيصًا لها واقنعتها بعد عناء بأنها لا يجب أن ترتدي الأسود في مناسبة كهذه فرضيت أخيرًا مغلوبة على أمرها . رأت الدموع تنهمر من عيناها في ألم وحرقة امتزجوا بالشوق ، شوق لأحبائها الذين سرقهم الموت منها فتركها وحيدة بلا عائلة ، وبلا سند أو حصن تحتمي به فليس هناك شيء يعوض العائلة ، وكم تمنت أن يكون أخيها معها وهو من يسلمها بيده لزوجها وترى السعادة في أعين والدتها التي طالما ودت أن تراها بفستان زفاف ابيض ولكن ماذا عساها أن تفعل سوى تذكّرهم والاشتياق لهم والحزن على فراقهم الذي يمزقها كل يوم وكل دقيقة ! .
فتحت رفيف الغرفة ودخلت وحين رأتها في الفستان الحراري وحجابها الذي يأخذ نفس اللون ابتسمت بإعجاب وتمتمت :
_ إيه القمر ده بس يلا عشان المأذون وصل تحت
جففت دموعها فورًا قبل أن تلاحظها وبادلتها الابتسامة العذبة ثم القت نظرة من النافذة على حديقة المنزل لتجدهم جميعًا بالأسفل ويتحدثون فيما بينهم ، وأخيرًا وقع نظرها عليه لتراه يأخذ مكانه بجانب المأذون وشارد تمامًا في اللاشيء أمامه لتتنهد بعمق وترفض عقلها الذي يخبرها في غضب ” حمقاء وبلا كرامة وافقتي على الزواج منه وإنتي تعرفي جيدًا أنه لا يحبك وربما أيضًا لا يريدك وتستمعي لأوهام قلبك المريض بأنك ستجعليه يحبك وهذا غير ممكن ! ” استفاقت من تعنيف عقلها الشديد لها على صوت هدى هذه المرة وهي تطالعها بلطف وحب هاتفة :
_ يلا ياحبيبتي عشان المأذون مستعجل
التفتت لها فأخذتها من يدها وخرجت لهم ليضرب حسن كتفه بكتف أخيه الشارد حتي ينتبه لهم وبمجرد ما عاد لواقعه ووقعت عيناه عليهم هب واقفًا يرسم ابتسامة جميلة على شفتيها يستقبلها بها حتى وصلت وجلست بجواره وبدأت مراسم النكاح فورًا والتي انتهت بقول المأذون كالمعتاد ” بارك لكما وبارك عليكما وجمع بينكم في خير ” ثم يبدأ هو في تلقي التنهئات التي كانت بسعادة غامرة من أفراد عائلة باستثناء اشقائه الذين عانقوه وهنئوه في ابتسامات هادئة لعلمهم جيدًا بأنه لم يتزوج رغبة منه أو رغبة فيها ، ولكنه رغم هذا وبداية من هذه اللحظة وقع الوثائق مع نفسه بأنه سيكون رجلًا معها كما يجب أن يكون ! .
***
بعد قضاء ما يقارب الثلاث ساعات وهم مجتمعين يضحكون ويتحدثون في مرح وسعادة ، لم يتبقى سوى عائلة محمد العمايري وبينما كان طاهر وزوجته وابنه في طريقهم لليسارة حتى يرحلوا استقامت يسر من جانب زوجها وهمت بأن تلحق بهم لتعود معهم فتجد يده تقبض على رسغها بعنف وهو يوجه لها نظرات قاتلة في همس :
_ رايحة فين ؟!
انحت قليلًا ناحيته وغمغمت في هدوء مستفز :
_ راجعة معاهم
اجلسها بجانبه مجددًا عنوة وهمس في أذنها بنبرة صوت ملتهبة :
_ هترجعي معايا البيت كفياكي أوي كدا ، أنا سبتك أسبوع براحتك ومتكلمتش
القت نظر على الباقية لتجد كل من رفيف وملاذ وشفق منشغلين بالحديث مع بعضهم وكرم وزين يتحدثون مع والدتهم في شيء ما بصوت خافت ، لتعود بنظرها له وتبعد يده عنها ببطء متمتمة في استهزاء :
_ ده على اساس أنك دايب في دباديبي مثلًا ومش قادر تقعد من غيري
ابتسم وقد قرر أن يشعل نيران سخطها ويستفزها حيث أكمل همسه في إهانة واضحة لها بها شيء من الوقاحة :
_ لا بس مش قادر اقعد من غير الخدامة اللي بتأكلني وبتغسلي هدومي وبتخدمني وبتلبيلي كل طلباتي ، حتى الطلبات اللي بالي بالك
جزت على أسنانها وقد نجح في تحقيق مبتغاه وهو إشعال نيرانها واندلاع ثورتها الداخلية فوجدها تطالعه بأعين نارية تكاد تحرقه بها وتهتف في استحقار ونظرات وضيعة :
_ تعرف إن أنت حيوان أوي !
عاد ليقبض على ذراعها من جديد ولكن في قوة المتها وهتف بتحذير مبتسم يحاول إخفاء سخطه من إهانتها المباشرة له :
_ احترمي نفسك يامزتي بلد ما اقصلك لسانك الطويل ده
دفعت هذه المرة يده عنها في خنق واشاحت بوجهها عنه بل ونهضت من جانبه تمامًا واتجهت لتجلس بجانب الفتيات تشاركهم حديثهم قبل أن تنفجر في ذلك المستفز من الغيظ .
وبعد مايقارب الساعة كل منهم أخذ زوجته وذهب لمنزله ولم يتبقى سوى رفيف وهدى حيث هتفت رفيف مداعبة :
_ خلصتي من ولادك التلاتة يادودو .. يارب تكوني مرتاحة مفضلش غيري أنا وإنتي أهو في وش بعض
قهقهت هدى ضاحكة وتمتمت براحة ولكنها امتزجت بشيء من الضيق :
_ أكيد مرتاحة وهبقى مرتاحة أكتر لما اشوفهم مبسوطين واشيل ولادهم إن شاء الله ، واشوف كرم مبسوط مع مراته يارب وأنا واثقة إن شفق هتنسيه اروى وهتشوفي وتقولي ماما قالت
شاركتها الضحك وهي تقول :
_ مابلاش الثقة المفرطة دي يادودو !
_ يس يابت اتلمي قومي يلا من جمبي سبيني استجم شوية مع نفسي
فعلت كما أمرتها واستقامت ضاحكة وهي تبتعد عنها تاركة إياها ترفع يداها للسماء وتدعي لجميع ابنائها بقلب أم صادق في دعائه وحبه لأولاده ! .
***
وضع كرم المفتاح في قفل الباب واداره للشمال ثم فتحه ودخل أولًا لتدخل هي بعده ويغلق الباب بهدوء ويتابعها وهي تتأمل في المنزل الذي تراه لأول مرة ، كان يحتوى على أثاث عصري وجميل والوان الحوائط هادئة وجميلة ، لتنتفض من شرودها على صوته الرخيم وهو يتمتم باسمًا :
_ مكنش في وقت عشان اجيبك تتفرجي وتشوفي لو حابة تغيري حاجة أو كدا ، بس احنا فيها أهو واعملي اللي إنتي عايزاه لو في حاجة مش عجباكي ، خلاص ده بيتك
التفتت له برأسها وهمست في رقة ساحرة وهي تهز رأسها نافية :
_ لا بالعكس كل حاجة في البيت جميلة خالص ماشاء الله
_ طاب كويس تعالي بقى قبل ما تدخلي أي مكان في البيت هوريكي حاجة
قطبت حاجبيها باستغراب ولكنها تبعته في صمت حتى وصلا أمام باب غرفة لونه بني ثم مسك المقبض وفتح الباب وهو ينظر لها بابتسامته المعهودة التي تسرق قلبها ، يطلب منها الدخول أولًا ، لتخطو أول خطواتها وتلجم الدهشة لسانها وهي تحدق بالحائط فاغرة عيناها وشفتاها !! ……
ظلت للحظات طويلة تحدق في هذه الصورة الضخمة التي تملأ الحائط من أعلاه لأسفله ، وسرعان ما غامت عيناها بالعبارات وسقطت دموعها غزيزة على وجنتيها ، حيث كانت الصورة تجمعه مع أخيها ، فاقتربت ناحية الحائط وهي تملس بيدها على أخيها في الصورة بابتسامة مريرة حتى سمعته يهتف :
_ الصورة دي عملتها بعد وفاته بأسبوع وكنت كل ما باجي البيت هنا بفضل اتفرج فيها
التفتت له وقالت بصوت باكي ووجه مملتيء بالدموع مع ابتسامة واسعة :
_ جميلة اوي ياكرم بجد ، هو كان بيحب الصورة دي أوي ليكم
توجه ناحيتها ووقف خلفها مغمغمًا في حنو ودفء استشعرته في صوته :
_ فعلًا .. بس لو إنتي كل ما تدخلي الأوضة وتشوفيها هتعيطي كدا ، أنا ممكن اشيلها
التفتت له بجسدها كاملًا وهتفت تنهاه بسرعة وهي تجفف دموعها بظهر كفها :
_ لا لا اوعى متشيلهاش هزعل منك أوي بجد لو شلتها ، شكلها جميل خالص
اكتفى بابتسامته اللطيفة لتبتعد عنه وتبدأ في تفقد بقية المنزل وهو معها ثم جلسوا يتحدثون في امور مختلفة إلى مايقارب النصف ساعة تارة يغلب عليهم الضحك وتارة الجدية في أحاديث أخرى ، إلى أن دخلت غرفتها وبدلت ملابسها وارتدت بيجامة منزلية مريحة ورفعت شعرها الناعم لأعلى بشيء تثبته به لتنسدل بعض خصلاته على وجهها من الأمام وعنقها من الخلف ، وسرعان ما انتفضت واقفة في فزع عندما سمعت طرقه على الباب وصوته فتوترت بشدة وترددت قبل أن تفتح ولكنها حسمت أمرها واتجهت لتفتح له ، ولم يكن وضعه يختلف عنها كثيرًا ولاحظت توتره في نبرة صوته وهو يقول :
_ أنا في الاوضة التانية لو عوزتي حاجة اندهي عليا
ظهرت علامات الأسى والخنق على محياها وهي تقول في يأس :
_ إنت هتنام في الأوضة التانية ؟!
أطال النظر في محياها لثلاث ثواني قبل إن يهتف في لطف :
_ آه ، لو إنتي حابة أنام معاكي مفيش مشكلة
ارتبكت وهزت رأسها بالنفي وهي تقول متلعثمة :
_ لا لا براحتك مقصدش كدا ، أنا كنت بسأل بس
_ أمممم طيب تصبحي على خير
ردت عليه في ابتسامة مزيفة رسمتها بمهارة ” وإنت من أهله ” ثم اغلقت الباب ببطء واتجهت ناحية فراشها لتجلس عليه وهي تلوي فمها بحزن ، وتسمع صوت عقلها الذي لا يكف عن تأنيبها ” لما الحزن ، وفري حزنك فهذه البداية فقط ” ، زفرت بشجن وعدم حيلة ثم جففت الدموع التي ركضت لعيناها وتمددت على الفراش متدثرة بالغطاء وهي تغمض عيناها لتهرب من أحزانها عن طريق النوم .
أما هو فقد ذهب للمطبخ ليشرب المياه وقبل أن يضع كوب الماء في فمه انزله وهو يتأفف مغلوب على أمره ، فلا يستطيع تجاهل صوته الداخلي الذي يأنبه بأنه سيتركها تنام بمفردها في أول ليلة لهم في منزلهم ولا يستطيع أيضًا التغاطي عن شعوره بأنها تضايقت ، ليرفع كوب الماء مجددًا لفمه ويشربه دفعة واحدة ثم يعود متجهًا نحو غرفتها أو غرفتهم بالمعنى الأصح ثم فتح جزء صغير من الباب في تردد وهو يجاهد في السيطرة على مشاعره المضطربة فهو لا ينكر توتره بمجرد اقترابه منها أو اقترابها هي ، واليوم سيبذل مجهود عظيم ليشاركها في نفس الفراش والغطاء ، تغلب على اضطرابه وفتح الباب كاملًا ثم دخل وأغلقه خلفه بينما هي فظلت توليه ظهرها وتتصنع النوم ظنًا منها أنه دخل ليأخذ شيء وسيغادر مرة أخرى ولكن لحظات ووجدته يتسطح على آخر الفراش لتلتفت له برأسها في شبه ذهول وتتمتم في عدم فهم :
_ إنت مش كنت هتنام في الأوضة التانية ؟!
ابتسم بساحرية وهتف مازحًا :
_ ده اعتبره طرد بس بشياكة يعني ولا إيه !!
لعنت نفسها على حماقتها وما قالته لتقول مصححة قصدها في ارتباك :
_ لا والله أكيد مقصدش كدا ، انا استغربت بس إنك غيرت رأيك بسرعة يعني !
اجابها مخترعًا كذبة محترفة مكملًا مزاحه :
_ بيني وبينك أنا دايما متعود لما باجي الشقة بنام في الأوضة دي فاتعودت خلاص عليها وطلاما اتعودت على أوضة معينة مش بعرف أنام في مكان تاني ، متقلقيش نومي هادي ومش هزعجك والله
اعادت رأسها للوضعها الطبيعي وهي تبتسم على جملته الأخير وبنفس الوقت تفهم جيدًا سبب تراجعه في قراره وأنه خشي من أن تكون تضايقت فقرر قضاء الليلة معها أو ربما كل ليلة ، وبمجرد التفكير بأنه سيكون بجوارها كل ليلة أيقظ في أعماقها مشاعر متضاربة مابين السعادة والقلق والخجل ، مما جعلها ترفع الغطاء جيدًا إلى صدرها وتغمض عيناها محاولة الفرار من صراع عقلها ، أما الآخر فكان يواجه صراعًا مع توتره البسيط ويلقي نظرة بين الحين والآخر عليها إلى انتهى به الأمر وولاها هو الآخر ظهره أيضًا وأغمض عينه فارًا إلى النوم من صراعه مثلها !! ……
***
كانت تقف يسر في المطبخ تقوم بتحضير كوب شاي حتى تشربه وهي تشاهد التلفاز وبينما كانت تسكبه في الكأس لتشعر به يقف بجواره ويهتف ساخرًا :
_ وكنتي ناوية بقى تقعدي عند أهلك لغاية إمتى ؟!
قالت في هدوء تام :
_ لغاية ما الاقي نفسي عندي القدرة إني استحمل تصرفاتك من تاني ياحسن ، لإن اللي حصل وكلامك في اليوم إياه كافي إنه يخليني مش طيقاك لشهر كمان مش أسبوع
استند بساعده على رخامة المطبخ وغمغم في ابتسامة غير مبالية ووقاحة معتادة منه :
_ تقدري تنكري إن إنتي اللي استغليتي وضعي ، طاب أنا ومكنتش في وعي ولا عارف أنا بعمل إيه ، إيه وإنتي كمان مكنتيش في وعيك ؟!! ، إنتي كنتي قادرة تمنعيني بس اللي حصل كان يمزاجك قبل ما يكون بمزاجي أنا
كلماته الهبت النيران من جديد واشعلت ماقد اخمدته الأيام السابقة حيث التقطت السكين ورفعتها في وجهه هاتفة في غضب عارم :
_ إنت اللي مستغل واستغليت حبي ليك وسيطرت عليا بكلامك لغاية ما ضعفت للأسف قدامك ، فمتقولش إنه كان بمزاجي ، عشان إنت غدار ومحدش يديك الآمان خدعتني بكلامك وإنت داخل عليا وزعلان على الحيوانة اللي خدعتك وغفلتك وللأسف كان جزاء شفقتي عليك وعلى وضعك إنه اللي حصل .. وكلامك بعدين في الصبح اللي بيوضح قد إيه إنت معندكش دم وحقير
انزل يدها وهو يحدجها في عدم اكتراث لعصبيتها ويتمتم :
_ لا أنا مش حقير أنا بقول الحقيقة اللي إنتي مش عايزة تتقبليها وخلاص بقى ملوش لزمة نعاتب بعض اللي حصل حصل ومش هنقدر نغيره يامــدام يــســر !
ضغط على آخر كلمتين وهو يلفظهم من بين شفتيه قاصدًا إثارة جنونها أكثر ليستمتع به وبالفعل وجدها تحدق به بأعين لا تبشر بخير ولكنه لم تكفيه النظرات فقط حيث أراد أن يرى أسوأ ما في هذه الشرسة فهتف في كلامات تحمل معاني منحطة وهو يغمز بعيناه في لؤم :
_ بس تصدقي مكنتش متوقع إنك جامدة كدا !!
نجح ووصل إلى ذروة جنونها حيث تحول وجهها إلى كتلة نيران متوهجة وأحمرت عيناها ثم التقطت كأس الشاي وهي تقول بنبرة صوت توضح مدى شدة عاصفتها :
_ المرة اللي فاتت كانت القهوة وجات سليمة المرة دي الشاي فاير يعني هتتسلق ياحسن
أطلق ضحكة شبه مرتفعة وجذب الكأس من يدها وهو يرتشف منه ويقول ببرود مقصود :
_ ده ليا !!!! ، شكرًا يامزتي ، ابقي اعملي واحد تاني بقى ليكي
ثم استدار وانصرف من أمامها لتضرب هي بقدمها الأرض وترفع كفها ضاغطة عليه بشدة وتجز على أسنانها مصدرة أصواتًا تدل على شدة غيظها من كتلة الثلج المتحركة الذي تعيش معه !! ………
***
فتحت عيناها مع صباح يوم جديد وتسللت آشعة الشمس من خلف الستائر إلى عيناها فمدت يدها تحجبها عنها ثم القت نظرة بجانبها لتجد مكانه فارغ فتنهدت بهدوء وهبت جالسة وهي تفرك عيناها ثم اتجهت إلى المرآة وعدلت من وضعية ملابسها وكذلك شعرها الذي سرحته سريعًا وغادرت متجهة نحو الحمام لتغسل وجهها ويديها ثم خرجت واتجهت إلى الصالون لعله يكون فيه ولكن لا أثر له فظنت بأنه في غرفة المكتب الصغير الذي يوجد بها الصورة وذهبت باحثة عنه ولكنه ليس فيها أيضًا لتعقد حاجبيها باستغراب فلا يعقل أن يكون ذهب للعمل !! .
اخذت تبحث عنه في المنزل الكبير حتى وقفت أمام المطبخ وابتسمت عندما رأته يقف أمام آلة كبيرة نوعًا ما تبدو لتحضير القهوة موضوعة على الرخامة ، كانت آلة عصرية وحديثة لم يسبق لها وأن رأت آلة مثلها ولكنه كان يتقن التعامل معها ، انتبه لوجودها فالتفت برأسه لها وتمتم مبتسمًا :
_ صباح الخير
ردت عليه في خفوت جميل :
_ صباح النور
هتف بنفس نبرته السابقة وتعبيرات وجهه الدافئة :
_ تحبي اعملك معايا ؟
هزت رأسها نافية وأجابته ببساطة وابتسامتها لا تزال تزين شفتيها :
_ لا لا مش عايزة
عاد وأكمل تحضيرها حتى وجدها تقترب وتقف بجواره تتفحص الآلة بعيناها في فضول لمعرفتها ليأتيها صوته وهو يقول :
_ دي مش من مصر ، سافرت استراليا من حوالي تلات سنين وشوفتها بالصدفة ومترددتش إني اشتريها
هزت رأسها بتفهم وهي تتابعه وهو يتعامل معها حتى هتفت بصوت رقيق :
_ بس اللي أعرفه إنها مضرة لما تشربها كتير وخصوصًا لو على معدة فاضية
انتهي أخيرًا ووضع الكأس بجوار الآلة وهو يجيبها بنبرة صوت لا تفشل كل مرة في أثرها :
_ متقلقيش متعود على كدا
أخذت نفسًا عميقًا تستعيد ثقتها وشجاعتها بعد أن فقدتهم بسبب نبرته وابتسامته وتمتمت في خفوت مشجع وصوت انوثي ساحر :
_ يعني مش هتفطر
التقت فنجان القهوة خاصته وهمهم في لطف وحنو :
_ هو أنا مش جعان الصراحة بس عادي ممكن اكل حاجة بسيطة معاكي عشان متاكليش وحدك
حبست أنفاسها ومجرد ما ولاها ظهره وانصرف اخرجته زفيرًا قوي وهي تهز رأسها بالنفي ، فهو كالتعويذة التي تسحب الفتيات فقط لوحله وهي تفقد السيطرة على قلبها المتيم به كلما تنظر له وترى ابتسامته وتسمع صوته الهاديء الذي يعزفه على اوتار قلبها كسمفونية غرام ونظراته تغرقها في بحور عشقه الذي لا نهاية لها ، وفجأة عصفت بذهنها كلمات رفيف لها ” كرم بيعزك جدًا ياشفق والله وإنتي ليكي معزة خاصة في قلبه ولو وافقتي واتجوزتوا هتقدري بسهولة تكسبي قلبه صدقيني .. دي فرصة جاتلك ولو ضيعتها مش هتجيلك زيها تاني فمتهدريهاش وحاولي تستغلي الفرصة لصالحك ” استغلال الفرصة !! ، وهي أفضل من يستغل الفرص وللمرة الأولى ستكون انانية في عشقها ولن تسمح للظروف والأسوار والحصون أن تحول بينها وبين عشقها ، ستبذل قصارى جهدها في البحث عن مفتاح قلبه الذي امتلكته زوجته وتمكنت من الدخول بسهولة ، وستكون هي الشفق الذي يبشر بقدوم ليالي مليئة بالعشق والغرام !! ..
بعد مايقارب النصف ساعة انتهت من تحضير الإفطار ثم بدأت في نقل الصحون إلى الطاولة واتجهت إليه في الشرفة تخبره بأن الطعام جاهز فأماء لها بالإيجاب وبعد لحظات انضم لها على الطاولة ونظر إلى أنواع الطعام المختلفة ثم جلس وبدأ في الأكل وهو يستطعم مذاق الطعام فيجده ألذ مما توقعه ، أما هي فكانت تعلق نظرها عليه تتابع قسمات وجهه وقد قررت من اليوم أن تتوقف عن الخجل منه وتتحلى بدهاء النساء وانوثتها ، وتجد حلًا لمشكلة خجله وتوتره منها وتمحوه نهائي ، حيث هتفت باسمة :
_ يوم لما عزمك سيف الله يرحمه قبل ما يتوفى أنا اللي كنت عاملة الأكل كله لإن في اليوم ده ماما تعبت ومقدرتش تقف في المطبخ وحظك كان دايمًا إن لما سيف يعزمك عندنا كانت ماما بتتعب وكنت أنا اللي بعمل الأكل
رفع نظره لها ولاحت بشائر الابتسامة على شفتيه ثم قال ضاحكًا :
_ إنتي بتتكلمي جد ؟!
_ آه والله كانت بتبقى صدفة في كل مرة سبحان الله ، وفي الغالب لما كان سيف بيعزم حد ماما هي اللي بتعمل الأكل وأنا مبحبش أعمل الأكل بخاف الأكل ميعجبش الضيوف فكنت بكتفي بإني اساعدها لكن دايمًا في اليوم اللي بتاجي فيه إنت كانت بتتعب فجأة وبضطر أنا احضر الأكل وكنت ببقى خايفة جدًا يكون في حاجة مش مظبوطة وبمجرد ما كنت تمشي كنت بسأل سيف لو الأكل فيه حاجة
ضحك بخفة وهتف في تلقائية متحدثًا معها وكأنها صديق له :
_ لا مكنتش متوقع إنك شيف محترفة كدا ، تسلم إيدك ياشفق والله ، من هنا ورايح عايز من الأكل اللي كنتي بتعمليه ده كتير
شقت ابتسامتها طريقها وهي تجيبه شبه ضاحكة :
_ من عنيا !
ثم عادت تكمل طعامها وتجمعت الدموع في عيناها على ذكرها لأخيها وأمها ، الألم الذي يسكن قلبها الضعيف لا يمكنها تحمله فكم اشتاقت لمعانقتهم وكم اشتاقت لأمها وحديثها وصوتها وابتسامتها حتى توبيخها لها ، فلو هناك آلة تعود بالزمن كما في الأفلام الخيالية لما ترددت لحظة في استخدامها ، انهمرت دموعها دون أذنها فهبت واقفة واسرعت لغرفتها بعد أن لاحظت أنه انتبه لدموعها ، وبالفعل وجدته يفتح الباب ويقترب ليجلس بجانبها على الفراش هاتفًا في قلق :
_ مالك ؟!
لم تتمكن من التحكم في شلال دموعها الغزير فكلما تعصف صورتهم في ذهنها تزداد حدة بكائها ومعه يزداد قلقه وحيرته ، كانت بحاجة ماسة لشعورها بالدفء والحب الذي حرمت منه ولم تدرك ما تفعله حيث ارتمت بين ذراعيها متشبثة في رقبته بذراعها وتدفن وجهها عند مقدمة صدره اسفل وجهه بضبط هاتفة بصوت مبحوح من بين بكائها العنيف :
_ وحشوني أوي ياكرم ، نفسي اشوفهم مش قادرة استحمل حياتي من غيرهم .. خسرتهم هما الأتنين ورا بعض كنت لسا ملحقتش افوق من حزني على سيف وماما كمان اتوفت وراه في اللحظة دي حسيت إني خسرت كل حاجة وفكرت إني انتحر وكنت هعمل كدا فعلًا بس تراجعت في آخر لحظة
ضربت اشارت الإنذار في عقله واضطرب بشدة ولم يعرف كيف يتصرف أو ماذا يقول حتى من فرط ارتباكه ، انفاسها الحارة تلفح رقبته ويداها ملتفة حوله ، كل هذا يشعره بالخطر فهو رجل ورغباته الفطرية خارجة عن ارادته كأي رجل عندما تقترب منه انثى ولكنه تحكم في اضطرابه ومد يده مترددًا ثم مررها على ظهرها بسطحية شديدة متمتمًا في صوت واضح عليه التوتر محاولًا إيجاد الكلمات المناسبة :
_ عارف وحاسس بيكي لأن نفس الأحساس أنا لغاية دلوقتي بعاني منه ، بس الحياة مبتقفش على حد صدقيني وهما أكيد في مكان أفضل منينا ، وأنا معاكي ياشفق احنا عيلتك دلوقتي ، كفاية عياط وادعيلهم وإن شاء الله ربنا يجمعنا بيهم في الآخرة
خرجت من نوبة بكائها وانتبهت لوضعها فنالها ما ناله من التوتر والاضطراب ، وابتعدت عنه وهي تجفل نظرها وتجفف دموعها متمتمة في صوت خافت ومضطرب :
_ آمين ، آسفة نكدت عليك على الصبح
رسم ابتسامة عذبة وتمتم في حنو :
_ ولا يهمك .. قومي اغسلي وشك يلا عشان نكمل فطارنا
أماءت له بالموافقة ثم استقامت واسرعت باتجاه الحمام تختبيء فيه من فعلتها الحمقاء ، فهي نوت أن تتخلى عن خجلها منه ولكن ليس لهذا الحد ، أما هو فمسح على وجهه وهو يزفر بقوة ليزيح ما قد كان يكتم على انفاسه للتو وهي بين ذراعيه ، فقط شعور لا يود أن يشعر به مجددًا فلوهلة حس نفسه مكبلًا ومقيدًا لا يستطيع فعل شيء واقترابها الحميمي منه جمده بمكانه كالصنم وافقده السيطرة على مشاعره المضطربة ! …
***
خرجت ملاذ من غرفتها وقادت خطواتها نحو طاولة الطعام وبدأت تشاركه طعام الإفطار وهو ينظر لها بأعين ثاقبة وحادة بعض الشيء بعدما سمعها تتحدث في الهاتف منذ قليل وكانت تضحك بعفوية وتتكلم بطبيعية ولكنه فشل في معرفة مع من تتحدث وفقط فهم من صيغة الكلام أنها تحادث رجل ومنذ تلك اللحظة وقد غليت دماؤه في عروقه ، فانتبهت هي لنظراته المريبة لها لتتوقف عن الأكل وتحدقه باضطراب بسيط وتهز رأسه بمعنى ” ماذا حدث ؟! ” .
اتاها صوته الرجولي الصلب وهو يسأل مباشرة في جدية تامة :
_ كنتي بتكلمي مين ؟
غمغمت في بساطة دون تردد في الإجابة وهي مازالت تعقد حاجبيها باستغراب من طريقته ونظراته :
_ إسلام .. أصل ماما قالتلي إنه كان تعبان إمبارح واتصلت اطمن عليه واتكلم معاه شوية
تابعت تعابير وجهه فلم تجد منه أي تعابير تخفف من حدة نظراته وفقط انزل نظره وأكمل طعامه بصمت ، فتأخذ نفسها في التفكير للحظات حتى تغيرت ملامحها من الهدوء واللطف إلى اليأس والضيق وتركت من يدها المعلقة هاتفة تسأله بوضوح دون مقدمات :
_ هتفضل لإمتى تشك فيا كدا يازين ؟!!
رفع نظره والقى نظرة جامدة وقوية عليها دون أن يتفوه ببنت شفة فابتسمت بمرارة وأسى وهدرت بعبوس :
_ كلها كام يوم ونكمل شهر وأنا طول الشهر ده بذلت كل حاجة اقدر أعملها عشان اثبتلك إني ندمت وإني مستحيل أكرر الغلط مرتين وإني عايزاك إنت .. بس تقريبًا مش أنا اللي فشلت في إني استعيد ثقتك فيا لا إنت اللي بتختار إنك متثقش فيا في كل موقف وبتختار إنك تشك فيا .. أنا بحاول أعمل المستحيل عشان العلاقة دي تستمر ومخسركش بس واضح إن إنت اللي مش فارق معاك تخسرني أو لا ومش عايزها تستمر ، وإنت كمان اللي عايز تحط خطواط النهاية لعلاقتنا مش أنا !
ثم استقامت وهمت بالعودة إلى غرفتها ولكن صوته اوقفها وهو يقول في لهجة شبه آمرة :
_ اقعدي كملي أكل
همهمت في عبث :
_ شبعت كمل إنت بالهنا والشفا
ثم دخلت إلي غرفتها وتركته ، حتى هو الآخر فقدَ شهيته عن الطعام فجعل يستغفر ربه وهو يمسح على وجهه بكفيه .. هي مخطئة هذه المرة ربما هذه هي المرة الأولى له منذ زواجهم التي لم يشك بها ، فقط ما داهمه كانت مشاعر غيرة وغضب عارم من أنها تحادث رجل وتضحك هكذا معه ولكن حين عرف أنه أخيها هدأت نفسه الثائرة قليلًا ، ولكنها اساءت فهمه ولفظت بكلمات من بين شفتيها لا تعرف مدى صحتها ، فهو مثلها يحاول الحفاظ على هذه العلاقة بل يبذل مجهودًا أكبر منها في نسيان ما حدث والعيش معها حياة طبيعية كأي زوج وزوجة ويواجه صعوبة في التأقلم مع هذه الأوضاع ، لهذا تجده غير متوازن في انفعالاته معها .. لحظات يكون جميلًا وحنونًا ولحظات يعود لجفائه معها وهو بالفعل سيبدأ في وضع نقاط حروف عشقه لها ، حيث هب واقفًا واتجه خلفها لغرفتها ثم فتح الباب ودخل ليجدها جالسة على فراشها وقدمها تضرب في الأرض بحركات متتالية وكفها على وجنتها تقرض ظافر سبابتها بحرقة ودموعها تجد طريقها على وجنتيها ، فأصدر زفيرًا متأففًا ثم تحرك نحوها وجلس بجانبها ومد يده يزيح خصلات شعرها التي تغطي جانب وجهها ويتمتم في خفوت صادق :
_ أنا مش عايز أحط خطواط النهاية ومش عايز اخسرك ، وصدقيني بحاول اصدقك وأثق فيكي بس مش قادر وكل ما بفتكر خداعك ليا برجع للصفر تاني .. أنا كمان عايزاك ياملاذ ومش عايز اطلقك بس لو علاقتنا استمرت بالوضع ده مش هنقدر نكمل لإن لا إنتي هتستحملي ولا أنا ، وعلى فكرة أنا مشكيتش فيكي دلوقتي أنا اتعصبت لما افتكرتك بتكلمي راجل غريب وبتضحكي كدا معاه
هتفت ببكاء حاد وحرقة قلب فهمها من كلامها ودموعها :
_ لا إنت مبتحاولش يازين ، ومتقولش إنك حاولت لإنك لو كنت حاولت وحاولت تصدقني مكنش وضعنا هيبقى كدا لغاية دلوقتي
حك ذقنه النامية وصمت لبرهة من الوقت وهو يأخذ شهيقًا قوي ثم تمتم في نظرة دافئة :
_ طيب هدّي لعلاقتما فرصة إننا نثبت لبعض بأفعالنا ومش هتبقى فرصة ليكي بس لا كمان ليا عشان اثبتلك إني زيك بحاول احافظ على العلاقة دي ويمكن اكتر منك كمان
_ وهو كل اللي عملته ده لسا ميثبتش ليك يازين ؟!
قالتها باستغراب وباسمة بسخرية ليقابل سخريتها برزانته المعهودة ويتمتم في صوت ينسدل كالحرير ناعمًا :
_ لا ميثبتش لأن علاقتنا تستحق أننا نثبت بأفعالنا ثقتنا وصدقنا واخلاصنا لبعض .. نثبت بالأفعال مش بالكلام
هدأت نوبة بكائها وسألت في استفهام وحيرة :
_ بالأفعال إزاي يعني ؟!
ابتسم وأجابها بلطف وحنو :
_ دي حاجة تخصك متخصنيش .. الفترة الجاية دي فترة اختبار لينا احنا الاتنين وياننجح فيها يانرسب
” لا بأس فإذا كان اختبار فكما اجتزت جميع اختبارات الحياة سأجتاز اختبار العشق وسأتفوق عليك ” كانت تحدث نفسها بهذه الكلمات ، ثم نظرت له وبادلته نفس الابتسامة وهي تهز رأسها بالموافقة لتجده يمد انامله ويجفف دموعها برقة هامسًا في أعين تلمع بوميض مختلف :
_ يلا قومي عشان تكملي فطارك
امسكت بكفه الذي على وجنتها وانزلته لتطبع قبلة رقيقة بشفتيها على ظاهره وهي تهمس بعاطفة جياشة :
_ حاضر
***
بعد ساعات قليلة داخل مقر شركة العمايري …….
خرج حسن من مكتبه ومر من أمام مكتبها في طريقه فتوقف لبرهة من الوقت مترددًا ، ثم اقترب بعد تفكير عميق وفتح الباب والقى نظرة متفحصة في مكتبها فلم يجدها به ليعقد حاجبيه باستغراب ويدخل ويغلق الباب خلفه وهو يلقى نظرة متأملة ودقيقة على محتويات مكتبها وأذا به ينتبه إلى الاجندة المتوسطة التي بحجم الكراسة ووجعل يتطلع لها بصمت وفي غلافها الجميل الذي عبارة عن صورة سماء زرقاء وبها لمسات اعطته جمال أشد ، فابتسم فور تذكره أنها هدية منه قدمها لها في عيد ميلادها السابع عشر عندما اقامت حفل عيد ميلاد فأهدى لها هذه الأجندة ومعها قلم فاخر صناعة مستوردة .. لعلمه في ذلك الوقت حبها للكتابة والقراءة ، ولكنه لم يكن يتوقع أنها لازالت تحتفظ بهذه الهدية بعد كل هذه السنوات ، فالتقطها وفتحها ليجد بداخلها ذلك القلم الفاخر فيلتقطه ويتفحصه بالتأكيد لم يعد يكتب ولكنها تحتفظ به ، اخرجه ووضعه على سطح المكتب ثم اتجه وجلس على الأريكة وبدأ يفتح صفحات عشوائية ويقرأ ما دونت به ، كانت ملاحظات مراهقة وهي تكتب احداثها المميزة بعضها اضحكه والبعض الآخر مر عليه كأنه لم يمر ولكنه توقف عند صفحة وهو يقرأ ما دونت به بإمعان “ربما كنت مخطئة بشأن مفهوم العشق على أنه يقود للجنون ، والآن يجب على الاعتراف بأنه قادني لمستنقع مظلم حبس انفاسي وحجب رؤيتي فغرقت في ظلماتي وحيدة دون أن أحصل على أي شيء ، وفقط حصلت على الخذلان للمرة الألف وأنا أفشل في تحقيق ما اسعى إليه من العشق ، ربما كان يجب على أن أكون أكثر واقعية وأن لا اتعلق بأوهام تمكنت من أن تتطيح بي إلى اقصى البلاد ، ورغم كل هذا مازالت ابحث عن العشق في هذه القلوب الغريبة ولست متأكدة إلى متى سيتسمر بحثي ، ولكن حتمًا ستكون نهاية هذا البحث أما أن أجد ما أبحث عنه أو اتوقف أنا عن البحث ويدب اليأس في قلبي ، فأعلن عهد جديد لا يوجد به مكان للعشق في قلبي !! ” كان يقرأ وهو يعرف جيدًا بأنها تقصده في كل كلمة ويأسف بشدة لأنه ربما لن يستطيع أن يبادلها العشق سواء الآن أو مستقبلًا ، ويتأسف لها لأنه لن يتمكن من أن يكون دليلها في طريق بحثها عن طرق قلبه ، هو يمكنه أن يعطيها كل شيء معاملته الطيبة وحنانه وعطفه ولطفه والصداقة والحب النقي في داخله لها ولكن عشق بمفهومه الذي يكون بالتحام الأرواح والقلوب والنظرات .. لن يتمكن ! .
تنهد بعمق ثم اخرج هاتفه واجري اتصال بها لتجيب عليه في صوت هادىء وتسمع سؤاله :
_ إنتي فين ؟
غمغمت بخفوت جميل :
_ في الكافيه اللي جمب الشركة
لم يجيب عليها وانهى الاتصال مما اصابها بالتعجب والاغتياظ بنفس الوقت وظنت أنه تطفل منه لا أكثر وحين عرف لم يكلف نفسه ويسألها عن سبب ذهابها حتى لهناك ، ولكنها لم تركز عليه حتى لا تعكر مزاجها بدون داعٍ .. أما هو فهب واقفًا ووضع الاجندة بمكانها وغادر يقود طريقه لخارج الشركة بأكملها .
كانت هي تتفحص هاتفها وبيدها الأخرى القهوة ترتشف منها بتأني واصابتها الدهشة حين رأته يجلس أمامها على المقعد المقابل لها في الطاولة ، فرمشت عدة مرات ثم هتفت بريبة :
_ إيه اللي جابك ؟
هدر في هدوء مشجع :
_ جاي لنفس السبب اللي جيتي عشانه .. وأهو اسليكي بدل ما أنتي شكلك وحش كدا والكافية كله ياما اتنين صحاب أو ولد وبنت !
التفتت برأسها حولها وهي تلقى نظرة سريعة على جميع الطاولات لتجد أن ليس هناك طاولة يجلس عليها فردًا واحدًا سواها بالفعل ثم تعود بنظرها له وتقول بعدم تصديق لما قاله للتو :
_ حسن أنا بتكلم جد ليه جيت ؟!
التزم الصمت للحظات وهو يطالعها دون أن يجيب ثم رسم ابتسامة واسعة وقال بمشاكسة :
_ عايزة الحق ! ، أصل أنا لقيت نفسي زهقان فقولت آجي اتخانق معاكي شوية
ضحكت بعفوية ولم تتمكن من كتم ضحكتها وأجابته مستنكرة :
_ وهنتخانق قدام الناس هنا !؟
قال مصححًا ومؤيدًا لكلامها في نبرة كانت شبة جادة :
_ اممم عندك حق .. طيب قومي نروح البيت عشان نتخانق على راحتنا
هزت رأسها مغلوبة منه وهي تضحك وقررت مسايرته في مشاكسته الجديدة وتمتمت متصنعة الجدية هي الأخرى بعد أن استندت بمرفقيها على سطح الطاولة وانحت للأمام قليلًا حتى تقرب وجهها منه في حركة تلقائية تدل على اهتمامها بالموضوع :
_ وهنتخانق على إيه بقى ياترى ؟!!!
استند هو الآخر على مرفقيه مثلها وقال وهو يزال يرسم الحدية المزيفة على محياه :
_ ياسلام ده مفيش اسهل من الخناق !! .. كلمتين وقحين مني على كلمتين مستفزين منك وندبها خناقة عادي جدا الموضوع أسهل مما تتخيلي
خرجت منها ضحكة شبه مرتفعة ثم قالت مستهزئة :
_ شكلك فايق ورايق النهردا !
عاد لجلسته الطبيعية وغمغم باسمًا بعد أن عاد لطبيعته :
_إنت شايفة إيه !؟
اكتفت بابتسامتها وعادت ترتشف من قهوتها من جديد حتى سمعته يهتف في جدية حقيقية هذه المرة :
_ جهزي نفسك عشان ماما عزمانا على العشا النهردا وممكن نقضي الليلة هناك
اماءت له برأسها في وجه لا يبدو عليه أي اعتراض وعادت تكمل قهوتها ويدخل هو في فقاعة الصمت ويكتفى بمتابعتها في شرود !!! .
***
في مساء ذلك اليوم …….
كانت يسر مستعدة ومتنظرة عودته حتى ينطلقوا ويذهبوا لمنزل عمها ، وبينما هي تجلس على الأريكة تنتظره سمعت صوت طرق الباب فهبت واقفة واتجهت ناحيته لتفتح ظننًا منها أنه هو الطارق ، فقبضت على مقبض الباب وفتحت لتتفاجىء بتلك الساقطة المدعوة برحمة !! ، هل جائتها الجراءة التي مكنتها من القدوم إلى منزلها بقدمها !! .. ولكنها على عكس العادي ضحكت يسر وقالت في سخرية :
_ إيه جاية تعتذري منه بعد ما عرف حقيقتك !
دفعت رحمة الباب بيدها في عنف لتفتحه جيدًا ثم دخلت ووقفت أمامها مباشرة صائحة في غل وسخط :
_ أنا عارفة كويس إن إنتي اللي قولتليه عشان تكرهيه فيا
مازالت هادئة ولم تفقد زمام نفسها حيث قالت بابتسامة مستنكرة :
_ ده على اساس إنه كان بيحبك مثلًا قبل ما يعرف اللي عملتيه فيه !!
رفعت الأخرى سبابتها في وجهها بنظرات نارية وأعين مشتعلة وغمغمت بنبرة محذرة ، ولكن كل هذه الشراسة لم تؤثر بها خاصة عندما تكون أمام مرأة كيسر :
_ اسمعي يايسر حسن ليا من قبل ما يكون ليكي ومش هيكون غير ليا ، فالأفضل إنك تطلقي منه وتصلحي اللي عملتيه بينا لأني أساسا مش هخليكم تتهنوا مع بعض ولا يوم
اطلقت ضحكة متأججة وأجابتها في شيء من الشيطانية الممتزجة بالدهشة المزيفة :
_ إيه ده إنتي جاية تهدديني وفي بيتي كمان ، لا وواثقة من نفسك أوي ! .. عجبتني الثقة دي الحقيقة شابو بجد
قررت رحمة أن تشعل فتيل النيران وهي غير مدركة لعواقبه التي ستعود عليها ، فقد اشعلت الفتيل بجانب قنبلة إن انفجرت ستفجرها إلى أشلاء ، وهتفت في ثقة حقيقية هذه المرة ونبرة متشفية ولئيمة :
_ بالظبط زي ما أنا واثقة بظبط إنك عايشة معاه زي الأخوات ، وكمان عارفة إنكم متفقين على الطلاق وعارفة إن الجواز ده اتفاق من البداية .. يعني حسن لا بيحبك ولا نيلة ده مبيطقكيش أصلًا !!
قررت رحمة أن تشعل فتيل النيران وهي غير مدركة لعواقبه التي ستعود عليها ، فقد اشعلت الفتيل بجانب قنبلة إن انفجرت ستفجرها إلى أشلاء ، وهتفت في ثقة حقيقية هذه المرة ونبرة متشفية ولئيمة :
_ بالظبط زي ما أنا واثقة بظبط إنك عايشة معاه زي الأخوات ، وكمان عارفة إنكم متفقين على الطلاق وعارفة إن الجواز ده اتفاق من البداية .. يعني حسن لا بيحبك ولا نيلة ده مبيطقكيش أصلًا !!
نجحت في اشعال فتيل النيران والآن هي في الثواني الأخيرة قبل الانفجار ، لا يهمها الآن من أين عرفت ولكن كلماتها أثارت جنونها وهيجت عواصفها المميتة ولن تهدأ إلا حين تعطيها نصيب من هذا الجنون لتعيدها إلى رشدها وتذكرها بقيمتها ، وبدون أي مقدمات قبضت على رقبتها نخقنها بعنف ونظرات لا تحمل أي ذرة رحمة أو رفق وهي ترى الاخرى تحاول التملص من قبضة يدها على رقبتها ولكنها لا تبالي وهمست في شراسة وشر يناسبها كثيرًا :
_ بقولك إيه ياحلوة خليكي بعيدة عني وعن حسن احسنلك ، لإن إنتي مش قد الكلام ده ولا قدي .. أنا ممكن امحيكي مش غير ما يرفلي جفن ، متحاوليش تستفزيني وتخليني احطك في دماغي بجد عشان صدقيني هتندمي
بدأت الأخرى تختنق بالفعل وأصفر لون وجهها وهي لا تقوي على أخذ أنفاسها فتركتها على آخر لحظة وجذبتها من ذراعها إلى الخارج ثم القت على الأرض هاتفة بقرف :
_ مش عايزة اشوف وشك تاني ، ومتنسيش كلامي هاا
ثم أغلقت الباب بعنف في وجهها واندفعت نحو غرفتها وهي تترنح من شدة الغيظ فجلست على الفراش واخذت تهز قدمها بشكل متتالي كدليل على فرط سخطها ثم هبت واقفة من جديد وأخذت تتحرك ذهابًا وإيابًا في الغرفة وتهتف محدثة نفسها في نفس ثائرة :
_ طبعًا هيحبني ليه ماهو غبي ومعندوش نظر عشان يحب جاموسة زيك مبتفهمش ، لا غبي إيه ده مخه محتاج يتعمله إعادة تركيب بسبب إن بعد ده كله ولسا بغبائه شايفك الملاك بتاعه ، وأنا الشيطان والشريرة اللي هتطلع في نص القصة وتفرق بين العشاق .. أها بقى ما أصل أنا يسر المستفزة والحيوانة والقذرة والبيئة وهي ياعيني الملاك الطاهر النقي اللي نزل من السما ، لا وهو واثق من نفسه أوي ومغرور .. هي مين أصلًا اللي هتحبك غيري ياعديم الاحساس لتكون فاكر نفسك توم كروز ده إنت تحمد ربك إنك لقيت واحدة تحبك وياريت بيطمر فيك يا…….
توقفت عن الكلام عندما انتبهت له .. فقد عاد للتو ودخل لها على أثر صوت تحدثها المرتفع من نفسها وكان يقف يستند بكتفه على الحائط ويعقد ذراعيه أمام صدره وعندما لاحظ توترها قليلًا حين رأته فأشار لها بيده أن تكمل وهو يبتسم بزيف متمتمًا :
_ كملي كملي متخليش حاجة في نفسك لتجرالك حاجة وابقى أنا السبب !
اخفت ابتسامتها بصعوبة ثم تحركت ووقفت أمامه هاتفة في صرامة واستياء :
_ إنت كنت عند رحمة قبل ما ترجع البيت يوم لما كنت مش في وعيك صح ؟!
استرجع ذكريات ذلك اليوم محاولًا تذكر ذلك الجزء وهل ذهب إليها أم لا ولكنه لم يتذكر أي شيء حول ذهابه لها ، ليمط شفتيه للأمام بعدم حيلة هاتفًا في صدق ونبرة عادية :
_ مش فاكر .. بس معتقدش إني روحت ، ليه ؟!!
أغضبتها إجابته بـ ” مش فاكر ” فإذا لما يذهب ولم يخبرها هو ، إذا من أين عرفت ؟!!!! ، بالتأكيد هو ذهب لها وأخبرها بكل شيء بينما هو ثملًا والآن ستقع المصائب فوق رأسيهما بسبب إهماله .
وجدت نفسها تهدر في اغتياظ جلي :
_ أهاا مش فاكر !! ، بس فاكر اللي حصل بينا بالتفصيل مش كدا !
لم يأخذ حديثها على محمل الجد مطلقًا حيث قال بابتسامة لئيمة ونظرات تضمر خلفها معاني منحطة :
_ أكيد طبعًا .. هي حاجة زي كدا تتنسي برضوا ، تحبي احكيلك ؟!
رمشت بعيناها عدة مرات في ذهول على آخر كلماته وشعرت بالحمرة تصعد لوجنتيها ولكنها أبت إظهارها له وتصنعت الثبات أمامه وهي تقول بازدراء يخالطه ابتسامة مستنكرة :
_ هو مينفعش اتكلم معاك في مرة وتتكلم باحترام من غير وقاحة !
غمغم في خفوت ونظرة أشد لؤمًا من سابقها مما زادت من اضطراب نفسها الخجلة :
_ إنتي تعرفي عني إني محترم !
هزت رأسها بالنفي وهي تحت تأثير نظراته واقترابه منها لتسمع منه الرد بعد أن حصل على الرد منها بالنفي :
_ بس يبقى منتظرة مني اتكلم باحترام ازاي !!
قالت مؤيد كلامه في ابتسامة عريضة :
_ اممممم في دي عندك حق الصراحة
بادلها الابتسامة ثم عاد لطبيعته وهتف في جدية تامة :
_ طيب يلا عشان منتأخرش لإن ماما مستنيانا
التفتت وجذبت حقيبة يدها وهاتفها ولحقت به وارتدت حذائها عند الباب ثم غادرت واستقلت بالسيارة بجواره لينطلق هو محدد وجهته نحو منزل أبيه .
***
في مساء اليوم ……
وقفت أمام الباب مترددة تنظم الكلمات التي ستقولها بل هي لا تعرف ماذا تقول ، ولكنها سئمت من الجلوس بمفردها منذ الصباح وتريد الجلوس معه ، أخذت نفسًا عميقًا ثم طرقت برفق على الباب ليأتيها صوته يسمح لها بالدخول ، ففتحت الباب وادخلت نصف جسدها ونظرت له لتجده يباشر أعماله على الحاسوب النقال وأمامه اوراق خاصة بالعمل على المكتب وبيده قلم ينظر إلى الحاسوب ثم يعود للورق ويسجل أشياء ، ولكن كل هذه تفاصيل لا تهمها فقد ثبتت تركيزها على نظارته الذي يرتديها ولأول مرة تراه يرتديها ، ليس هذه المشكلة بل يكمن عمق المشكلة أنها زادت من وسامته أضعافًا ، فجذبها من هيامها به صوته الغليظ وهو يهتف دون أن يرفع نظره لها :
_ ادخلي ياشفق !
هزت رأسها بحركة منفرة لتخرج أفكارها الحمقاء من ذهنها وفرت الكلمات من عقلها وتوترت وانعقد لسانها فلم تعرف ماذا تقول ، ولكنها استدعت شجاعتها وتحلت بالجراءة المزيفة لتقول في صوتها الطبيعي الذي به بحة انوثية رقيقة وهي تبتسم ويداها تلفها خلف ظهرها :
_ أنا كنت قاعدة برا ومش جايلي نوم من الملل فحبيت اقعد معاك لو مش هعملك إزعاج يعني
رفع نظره لها وطالعها بابتسامة طاحت بها إلى أعمق نقطة وجعلت الأمر يزداد سوءًا بالنسبة لها ، وأشار لها بعيناه أن تدخل وتجلس على الأريكة المتوسطة ، فسيطرت هي على عواطفها وابدت عن سعادتها ثم اغلقت الباب وتوجهت لتجلس على الأريكة المقابلة لمكتبه وتتابعه بعيناها الذي تبتسم قبل شفتيها .. كانت تشاهد الأفلام والمسلسلات وترى الأبطال ولا تصدق بوجود هذا النوع من الرجال في الحقيقة ، والآن هي مع أحد الرجال الذي لا يختلف عن شخصيات الأبطال المذهلة في كل شيء .. وأحيانًا كثيرة تشعر أنها داخل حلم جميل وستستيقظ منه قريبًا وأن كل هذا ماهو إلا حلم رائع ! .
خرج صوتها الناعم وهي تسأله في لطف :
_ تحب اساعدك في حاجة ؟!
_ ياريت .. بس للأسف مش هتعرفي
هدرت في ثقة وابتسامة واسعة :
_ جربني الأول وبعدين احكم
تمتم في ضحك خفيف بإيجاب :
_ طيب تعالي
استقامت وجذبت مقعد لتجلس بجواره فيمسك هو بدفتر كبير نسبيًا وورقة ووضعهم أمامها هاتفًا في خفوت ساحر :
_ بصي انقلي اللي في الورقة دي في الدفتر بنفس الطريقة وافرزيهم بشكل منظم ، هاا هتعرفي ؟
أماءت له بالإيجاب ثم التقطت قلم وبدأت بإنجاز المهمة التي كلفها بها وهو بجانبها يحاول إنهاء شيء آخر ليأتيه سؤالها المتعجب :
_ هو حسن أو زين مش موجودين ولا إيه ، أصل إنت من الصبح في الأوضة وبتشتغل
أجابها بهدوء تام :
_ موجودين بس أنا اللي مسكت المشروع ده لإني أفضل من زين وحسن في الحسابات والهندسة والحجات دي ، يعني احنا بنقسم الشغل بينا وكل واحد فينا متميز في حاجة ولما بيكون في مشروع أو صفقة زي كدا بيمسكها المتمكن فينا في الموضوع ده
اكتفت بهز رأسها بتفهم ثم عادت تكمل ما بيدها وبعد مرور دقائق بسيطة رفعت نظرها عن الدفتر ونظرت له خلسة تتأمله عن قرب ، فهذه هي المرة الأولى التي سنحت لها الفرصة بالنظر له عن قرب ولن تكون الأخيرة ، تأملت تفاصيل وجهه بنظرات عاشقة .. ذقنه الخفيفة وشعره الناعم والجميل الذي يعطي لمسة كستنائية بسيطة ، بشرته التي تنضج بالشباب والساحرية ، وعيناه الرمادية التي بمثابة مغناطيس تجذبها إليها كلما أبت الخنوع لعشقه .. شفتيه حين تنفرج لتكشف عن أجمل ابتسامة رأتها من قبل وبينما هي منشغلة بتأمل تفاصليه الجذابة وذائبة بين بحور عشقه ووسامته ، نسيت نفسها هي واستندت بمرفقها على سطح المكتب واضعة كف يدها أسفل خدها وتحدق به في ابتسامة شبه خفية وقد فقدت حاسة السمع من شدة تركزيها به ولم تسمعه وهو يحدثها إلا أنها انتفضت جالسة فورًا حين انتبهت لصوته وهو ينظر لها بحيرة هاتفًا :
_ شفق أنا بكلمك !!
ابتلعت ريقها باضطراب واعتدلت في جلستها متمتمة في تلعثم وحياء :
_ أسفة سرحت شوية بس .. كنت بتقول إيه ؟
قطب حاجبيه وغمغم في نظرات دقيقة لاضطرابها العجيب :
_ ولا حاجة .. إنتي كويسة يعني ؟!
كانت تحاول تجنب النظر إليه وبداخلها تلعن نفسها الساذجة على فعلتها وتود أن تنشق الأرض وتبتلعها وتهتف في ارتباك ملحوظ :
_ آهاا كويسة مفيش حاجة
ثم ابتعدت بمقعدها قليلًا عنه وركزت كامل انتباهها على الورق وهي تقسم بأنها لن ترفع نظرها له مجددًا ، فهو يجذبها إليه كالسحر ليغرقها في الأعماق ولا تستطيع الخروج ، أما هو فتابعها وهي تبتعد وتضع مسافة شبه كبيرة بينهم وتثبت نظرها على الورق كأنها تتهرب منه فزاد استغرابه من أمرها وارتباكها المفرط ولكنه لم يعلق وفضَّل أن يتركها على راحتها !! …….
***
خرجت من المطبخ وهي تحمل على يديها صينية فوقها كاسات الشاي ثم لفت عليهم وانحنت على زوجة عمها وابنة عمها ليلتقطوا كأسهم فتهتف هدى بحنو :
_ يعني أنا عزماكم عشان تحضري إنتي يايسر
ابتسمت لها وتمتمت في احترام ورقة :
_ وفيها إيه يامرات عمي هو أنا غريبة يعني ده بيتي
ثم انتقلت ناحية حسن الجالس على الأريكة وانحنت نحوه تمد له كأس الشاي فيبتسم لها ويهتف في لطف :
_ شكرًا
بادلته الابتسامة ثم جلست بجواره لتهتف رفيف في خنق عند تذكرها لشيء :
_ الأسبوع الجاي هيبقى أسبوع الحوادث
نظر لها بريبة وهو يرتشف شايه وينقل نظره بين أمه التي عبست مثل شقيقته حتى وجد أمه تقول بصوت مختنق :
_ جدتك جاية هي وميار
ابدي الدهشة البسيطة وقال بضحك ساخرًا وجدية في الكلام :
_ جدتي وميار !!! ، لا ربنا يكون في عون زين !
تنفست يسر الصعداء وقالت في نفس منفرة من هذا الأمر الذي بات يخنق الجميع وليس زين وحده :
_ هي تيتا مش هتطلع موضوع ميار ده من دماغها بقى خلاص زين اتجوز
قالت هدى بعدم حيلة :
_ والله ما عارفة يابنتي ، أنا شايلة الهم من دلوقتي وخايفة البت ميار دي تعمل مشاكل بين زين ومراته ومش بعيد جدتكم تساعدها ، والخوف مش من ده لا القلق الأكبر من زين لأن أنا كنت بهديه بالعافية وهو كان بيعمل حساب لجدته لإنه بيحبها ومبيقدرش يزعلها ، وإنتوا عارفينه دماغه قفل يعني لو حاولت ميار تتقرب منه تاني الله أعلم ممكن يعمل إيه ! ، وبذات لو حاولت تضايق ملاذ هي وجدتكم
لاحظ حسن أن الجو بدأ يشحن بالتوتر والعصبية فقرر أضفاء لمسته الخاصة هاتفًا وهو يوجه حديثه ليسر ضاحكًا :
_ والله كان نفسي اقول سيبوا ميار للي مبترحمش يسر وهي تظبطها بس الصراحة أنا أخاف على البت وتصعب عليا دي متربية برا وحتة بسكوتة يعني بكلمة واحدة من الجبارة دي مش بعيد يغمى عليها
انطلقت منهم ضحكة مرتفعة باستثناء يسر التي طالعته باغتياظ وقد اشتعلت غيرتها فملست على كتفه هاتفة بغل :
_ ميصعبش عليك غالي ياحياتي
لاحظ نظرة الحقد والغيرة في عيناها فانفجر هو ضاحكًا لتهتف رفيف في ثقة وخبث :
_ ليه وهي ملاذ ساهلة استنوا واتفرجوا مش بقولكم هيبقا اسبوع الحوادث
قالت هدى موجهة حديثها لابنها في رفق وحنان أمومي :
_ ليه ياحسن متاخدش مراتك وتروحوا مكان تاخدلكم شهر عسل ياحبيبي ده إنتوا من ساعة ما اتجوزتوا ومخدتوش أجازة حتى من الشغل
هم بأن يجيب عليها بإجابة كانت تعرفها جيدًا يسر فقاطعته وقالت في رقة متصنعة البراءة وهي تضمر خلف قناع وجهها المكر الذي لا يستطيع رؤيته سواه هو :
_ لسا كنا بنتكلم إمبارح وقالي هياخدني وناخد اسبوعين في ايطاليا اول ما نفضى من الشغل شوية ، هو بيزن عليا من أول ما اتجوزنا وأنا اللي كنت بأجلها
أفغر عن شفتيه وفتح عيناه منذهلًا مما قالته ، وحدق بها في دهشة من الكذبة التي اخترعتها للتو أمامه وأمام أمه وشقيقته .. هو لا يصدق هذه الأفعى الجالسة بجواره ، ماذا تظن نفسها فاعلة !! ، يأمل أن لا تكون تود الذهاب في شهر عسل بالفعل وإلا لن يكون مسئولًا عن ردات فعله المعاكسة !! .
اكتفى بنظرته لها وهو يقول باستنكار يحاول إخفائه أمام أمه :
_ بزن عليكي !!!
قررت إن تكمل كذبتها باحترافية وتلعب على اوتار أعصابه حتى تستفزه وتستمتع بإغضابه فقالت في نظرات حازمة وابتسامة صفراء :
_ أيوة ياحبيبي إنت نسيت ولا إيه ؟!!
فهم من خلال نظراتها أن تنبهه لوجود أمه وشقيقته فجز على أسنانه وهتف يجاريها في كذبتها المستفزة بالنسبة له :
_ لا منستش طبعًا
رأي في عيناها نظرة متشفية وعلى شفتيها ابتسامة مستمتعة فبادلها الابتسامة وهو يود اقتلاع حنجرتها من رقبتها من شدة الغيظ .. لتبادل نظرات الحقد منه ببرود أشد استفزازًا !! .
***
دخل خلفها الغرفة بعد أن انتهت جلسة حديثهم الجماعية بالأسفل وأغلق الباب ثم اقترب ووقف خلفها هاتفًا في غطرسة وغضب دفين :
_ إمبارح وايطاليا !! ، لا وكمان بزن عليكي ده إيه الحلاوة دي
التفتت بجسدها له وطالعته بابتسامة خبيثة ومسكت لياقة قميصه تعدلها برقة هاتفة :
_ أصل إنت هتاخدني فعلًا ايطاليا
_ وأنا المفروض اوافق بقى ؟!
أماءت له بالإيجاب وهي تزيد من اتساع ابتسامتها وتقول في دلال انوثي مدروس :
_ للأسف هتوافق لإن مفيش غيرك هياخدني وأنا نفسي اروحها جدًا وهتوديني ياحسن ياروحي
ابعد يدها عنه في نفور وقال بصرامة :
_ لا مش موافق يايسر ومش هوديكي وياريت بلاش تعيشي دور المتجوزين بجد لإنك عارفة إننا هنطلق
عادت بيدها وهي تتعمد لمسه لترى مدى تأثيرها عليها وتزيد جرعة الأنوثة والغنج أكثر وهي تهمس :
_ ومين قالك إني بعيش الدور .. بالعكس خالص أنا حابة اروحها فسحة مش اكتر وطبعًا مينفعش اروح وحدي لازم تروح معايا ، وبعدين إنت مش قولت اننا هنتعامل مع بعض كإننا اصدقاء لغاية ما نطلق اعتبر نفسك بتفسح صحبتك
لم تؤثر به نظراتها ولكن لمساتها اربكته فدفع يدها وهتف في هدوء أعصاب مثير للعصبية :
_ لا ما أنا نسيت أقولك إني مبصحبش
يبدو أن الحسنة لن تجدي معه نفع وستسخدم الطريقة التي تجدي نفع معه حيث قالت في لهجة آمرة :
_ وأنا قولت هتوديني ياحسن وهنشوف كلام مين اللي هيمشي
قهقه باستهزاء ودفعها من أمامه هاتفًا :
_ هنشوف يامدام يسر
ثم اتجه وتمدد على الفراش فالقت هي نظرة متفحصة في الغرفة بحثًا عن مكان تنام فيه ولكنها لم تجد ، يبدو أن اليوم ستضطر إلى النوم بجوار هذا المنحط ، لاحظت هي نظراته المبتسمة بلؤم لها وهو يراها تنقل نظرها في الغرفة فوجدته يشير بيده على جانب الفراش الفارغ بجانبه يحثها على الانضمام له فلوت فمها بغيظ ثم التفت حول الفراش من الجهة الأخرى وتمددت عليه بدورها ورفعت سبابتها محذرة إياه :
_ متلمسنيش !
ضحك بغطرسة واضحة وازدراء على حماقتها ، هل تظنه حقًا يتلهف لها ولكي ينعم بليلة أخرى معها ، فهو لا يزال حتى الآن يندم على خطئه في تلك الليلة التي اصبحت فيها زوجته فعلًا وقولًا !! .
فقال لها بجفاء وعدم مرعاة لمشاعرها :
_ إنتي آخر واحدة أصلًا هببقى حابب إني المسها يايسر !
رمقته شزرًا ثم ولته ظهرها وسحبت الغطاء لأعلى جسدها ثم اغمضت عيناها لتخلد للنوم في ظرف دقائق بسيطة ! .
فتحت عيناها في صباح اليوم التالي وهي تشعر بثقل على جسدها واستغرق الأمر ثواني لتدرك الأمر وتفق من أثر النعاس ، حتى فهمت أنه يحتضنها من الخلف وانفاسه المنتظمة والدافئة تلفح عنقها من الخلف وذراعه ملتف حول خصرها يضمها إليه بحميمية ، فلجمت الدهشة لسانها والتفتت برأسها للخلف لتجده في ثبات عميق وفي البداية ابتسمت بسعادة وحب لشعورها بهذا الموقف الجميل وهو يحتضنها ولكن اشتعلت غيظًا بمجرد تذكر آخر جملة قالها قبل أن يخلدوا للنوم فلفت ذراعها للخلف تضرب على كتفه برفق وتبتسم في غيظ ليفتح هو عيناه وبمجرد ما أدرك وضعهم ارتد للخلف مبتعدًا عنها في فزع لتهب هي جالسة وتقول متغطرسة في ضحك ساخر تقلده بضبط :
_ إنتي آخر واحدة هبقى حابب إني المسها !!
ثم القت عليه نظرة أخيرة في استنكار ووقفت لتتجه نحو المرحاض ، فيمسح هو على وجهه متأففًا بضيق !!! ….
***
وقفت ملاذ أمام مقر الشركة .. ترفع نظرها لأعلى تحدق في هذا البناء الضخم ، وتذكرت المرة الأولى التي جاءت بها إلى هنا كانت في عتمة الليل معه بعدما عُقد قرآنهم مباشرة ، لم تسمح لها الفرصة في ذلك الوقت بتأمل ذلك البناء جيدًا ولكن ذكرياته مازالت عالقة في ذهنها ولن يتمكن الزمن من محوها بتاتًا .
أخذت نفسًا عميقًا ثم قادت خطواتها نحو الداخل وهي ترى الجميع يتحرك هنا وهناك مابين رجال ونساء وبحثت عن رفيف أو يسر بنظرها بينهم ولكنها لم تجد فاتجهت نحو الدرج وصعدت للطابق الثاني فوجدت فتاة تمر من جانبها استوقفتها وسألتها في لطف :
_ هو مكتب زين فين ؟
قالت الفتاة وهي تشير بيدها للطابق الثالث :
_ في الدور التالت في آخر الدور على إيدك الشمال هتلاقي مكتب وحده هو ده ، بس زين بيه معاه اجتماع دلوقتي ومش موجود في مكتبه
فهمت الآن لما الكل على عجالة من أمره ولما لا ترى أي من أخوته أو يسر في أنحاء الشركة ، فأماءت لها وهي تبتسم من خلف نقابها شاكرة إياها بامتنان ثم صعدت للطابق الثالث وتلتفت يمينًا ويسارًا ثم اتجهت يسارًا كما قالت عندما لمحت المكتب ، وعندما وصلت فتحت الباب ببطء وادخلت رأسها لتتأكد من وجود أحد أم لا وكان فارغ فدخلت واغلقت الباب خلفها وهي تتفحص بإمعان ، مكتب كبير من اللون الأسود وأريكة فخمة وعصرية تعطي لونًا رصاصيًا وسجادة طويلة من نفس لون الأريكة وكانت الغرفة مكونة من ثلاث حوائط فقط والحائط الرابع عبارة عن زجاج كامل يطل على الشارع مباشرة .. أعجبت بطراز الغرفة كثيرًا وظهرت علامات الانبهار على وجهها فاقتربت ناحية الزجاج ووقفت أمامه تتابع حركة السيارات والناس في الشارع ثم عادت بخطواتها نحو مكتبه ووجدت هاتفه على سطح المكتب وبجانبه إطار صغير بداخله صورة لرجل يبدو في عقده السابع أو السادس وتوقعت بأنه قد يكون والده ، تنهدت بعمق وتحركت نحو الأريكة لتجلس عليها وترفع النقاب عن وجهها لتتنفس القليل من الهواء الصافي .. ظلت بانتظاره إلى ما يقارب الربع ساعة حتى وجدت الباب يفتح ويدخل وهو بيده ملف غلافه من اللون الأحمر ويقلب بين ورقه في تركيز شديد وحين لمحها فزع واصابته الدهشة وأول شيء خرج من بين شفتيه هو :
_ ملاذ !! ، بتعملي إيه هنا ؟!
هبت واقفة واقتربت منه هامسة في ابتسامة عذبة :
_ أنا مش قولتلك واخدت الأذن منك الصبح قبل ما تطلع إني هطلع مع صحبتي هشتري كام حاجة ، فقولت اعدي عليك وسألت عليك قالولي في اجتماع فدخلت وقعدت استناك
إعاد ذاكرته لصباح اليوم قبل أن يغادر المنزل ، فتذكر أنها بالفعل طلبت منه الأذن وهو سمح لها فاتجه نحو مكتبه ووضع الملف عليه هاتفًا في حزم بسيط :
_ وليه متصلتيش بيا تقوليلي إنك جاية ؟!
احست باستيائه أنها جاءت دون علمه فقالت متوترة بنبرة تحمل الأسف :
_ أنا مكنتش ناوية آجي أصلًا بس عديت بالصدفة ودخلت .. لو كنت أعرف إنك هتضايق مكنتش جيت أو كنت اتصلت بيك الأول
تمتم في حنو وعطف راسمًا علي شفتيه ابتسامة هادئة :
_ أنا مش مضايق أنا بقول كدا عشان أكون عارف لإنك جيتي أهو ولقتيني في اجتماع ولما مبكونش موجود في المكتب ممكن أي حد يدخل ويطلع فهمتي ليه
هزت رأسها بالإيجاب ولم ترد أن يزيد هذا الحوار أكثر من ذلك حتى لا يأخذ منحني سيء ، فتوجهت نحو حقيبة يدها وفتحتها ثم اخرجت منها كيس بداخله علبة طعام كانت رائحته نفاذة وشهية واقتربت منه تخرج له واحدة هاتفة في صفاء وعفوية :
_ كان نفسي فيه واشتريت واحد ليا وجبتلك معايا
جذبه من يدها وهو يبتسم ثم قال في صوت رخيم :
_ شكرًا ، مع إني مش بحب أكل المطاعم والمحلات بس مفيش مشكلة هاكله عشانك
حدجته بأعين مليئة بمشاعر جياشة ثم وجدها تجلس على الأريكة وتبدأ في تناول الطعام الذي احضرته ليقول مستعجبًا :
_ إنتي هتاكلي هنا !!
قالت بعفوية وحماسية أصابت جزئه الأيسر :
_ اممم وإنت هتاكل معايا أنا كنت ناوية إني هاكله في البيت بس بما إني جيت هنا فناكل مع بعض
لم يجيبها ولكن اكتفى بنظرته التي تتحدث بدلًا عنه متأملًا إياها بابتسامة خفية وهو يراها تأكل بشراهة كأنها لم تأكل منذ يومين ، ثم التقت خاصته وبدأ هو الآخر يأكل ولكنه استقام واتجه ليجلس بجوارها عندما اشارت بيدها له أن يأتي بجوارها لتريه شيئًا على الهاتف ، كانت بيد تمسك الشطيرة وبالأخرى الهاتف وتقلب في الصور تريه مجموعة مختلفة من الأحذية التي رأتها اليوم في تسوقها تأخذ رأيه وأيهم أجمل ، ثم تنتقل لقسم آخر في الصور وتريه إحدى مغامراتها مع أخيها وتشرح كل صورة وموقفها فيعم في المكان جو مرح يشوبه الضحك المتبادل بينهما !! …..
***
على الجانب الآخر من العالم تحديدًا في أحد منازل المانيا الفاخرة ، تجلس امرأة سبعينية على مقعد وثير وبيدها أحدى الكتب باللغة الإلمانية تقرأ بها في تركيز شديد وترتدي نظراتها الطبية ، بدت امرأة شامخة وذات قسمات وجه صارمة تنضج بالشدة والقوة ، بها قليل من جمال الشباب نتيجة لاهتمامها المفرط بمظهرها وصحتها ، تملك جسد بصحة جيدة ومتوسط الحجم ولوهلة من يراها لا يعتقدها تخطت عقدها الثامن أبدًا .
احست بقبلة رقيقة على وجنتها من الخلف وسمعت صوت حفيدتها الجميلة تهتف برقة :
_ Guten morgen oma ( صباح الخير ياجدتي )
التفتت برأسها لها وقالت بابتسامة حانية :
_ صباح النور ياحبيبتي يلا عشان تفطري قبل ما تطلعي
قالت ميار في عجالة من أمرها وهي ترفض رفضًا قاطعًا :
_ nein , ich kann nicht ( لا ، لا استطيع )
قالت الجدة في حزم وضيق :
_ مش هينفع ياميار تخرجي من غير فطار ، افطري بسرعة مش هتتأخري على الحفلة
هرولت ناحية الباب وقد كانت ترتدي فستان بحمالات يصل إلى ركبتيها بالضبط وتترك العنان لشعرها الاسود ، فارسلت قبلة في الهواء لجدتها تجيبها بالمصرية أخيرًا وهي تضحك :
_ باي يانينا مش هتأخر متقلقيش
ثم خرجت واستقلت بسيارة صديقها الذي كان ينتظرها بالخارج بعد أن تبادلا العناق أما الجدة فكانت تفكر في ابن أخيها التي اسرعت أمه وزوجته قبل عودتها حتى لا تتعقد الأمور أكثر !! …..
***
فتحت شفق الباب ظنًا منها أن الطارق هو ” كرم ” ولكنها عقدت حاجبيها باستغراب حين رأت رفيف أمامها فافسحت لها الطريق بالعبور وهي ترحب بها بسعادة امتزجت بنظرات الحيرة :
_ ادخلي يارفيف عاملة إيه .. ليه متصلتيش بيا تقوليلي إنك جاية ؟
قبضت على رسغها وسحبتها بعدما اغلقت الباب خلفها وجلسوا على الأريكة لتقول رفيف في وجه مضطرب :
_ أنا جيتلك عشان تشوفيلي حل لإن أنا حرفيًا في مصيبة
اتسعت عيناها بهلع وظهرت علامات الرعب على محياها وفورًا اجابتها في خوف وقلق بالغ :
_ مصيبة إيه قولي متقلقنيش بالله عليكي اكتر من كدا !
_ زين عايزني اشرف على تعديلات المطعم اللي بابا الله يرحمه كان قافله من سنين وعايز يمسكني الإدارة بمجرد ما اخلص آخر ترم في الكلية !
هدأت نفسها المضطربة والوجلة وقالت في هدوء بتعجب :
_ طيب كويس هي دي مصيبة يعني ؟!
أكملت وقد ازدادت ملامحها ارتباكًا :
_ استني ما أنا جيالك في الكلام أهو .. عارفة مين بقى المهندس اللي هيكون هناك عشان التعديلات اللي هنعملها وأنا هشرف معاه !
حدجتها بأعين متسائلة تطالب باستكمال حديثها لتعرف من هو الشخص ، لتظهر رفيف عن ابتسامة عريضة وبلهاء وهي تقول :
_ إسلام اخو ملاذ
شهقت بدهشة ووضعت كفها على فمها تكتم ضحكتها ثم أجابتها بتأكيد :
_ مش ده برضوا اللي حكتيلي قبل كدا عنه وإنك كنتي معجبة بيه !
قالت وهي تجز على أسنانه من الغيظ والتوتر :
_ ومازالت للأسف أنا بحاول اتجنبه أصلًا بقيت كل ما اشوفه مع ملاذ وشوفته كذا مرة في الشركة من فترة وبقيت اعمل نفسي مش واخدة بالي ، آخر واحد توقعت إنه يدخلني في الحوار ده زين لإنه مبيبحبش الاختلاط أصلًا وحتى في الشركة بيخلي تعاملي محدود مع الموظفين وبيضيق عليا جدًا
_ طيب وإنتي مش عندكم تقريبا اخو يسر ومهندس زينا ليه مدهوش هو الموضوع ده
قالت موضحة الأمر ببساطة أكثر :
_ علاء مش فاضي وكذلك حسن وكرم وحتى هو زين مش فاضي ، محدش فاضي كلهم مشغولين الفترة دي جدا ويسر ملهاش في شغل الهندسة أوي فمفيش غيري ، وهو بنفسه قالي إنه لو كان ينفع يخلي حد منهم يمسك الموضوع مكنش ادهولي ابدًا ، لإن زين دمه حامي ومتشدد ده غير إنه بيخاف عليا جدًا زي كرم .. بس أنا فاهمة الموضوع هو واثق في إسلام لإنه الحق يتقال هو محترم جدًا جدًا وكمان واثق فيا وعارف إني هخلي حدودي في الشغل بس ، وده فعلًا اللي هعمله ، بس فكرة إني هضطر اتعامل معاه علطول بحد ذاتها قادرة إنها توترني من قبل ما اشوفه… يعني هو زين ملقيش غيره مافي ألف مهندس !!
ضحكت وقالت في صوت رخيم وعقلية رزينة :
_ ولا توتر ولا حاجة ده شغل وإنتي حطي في دماغك إنه شغل هتلاقي الموضوع سهل ، وكمان عشان متحصلش مشكلة مع زين لو حس إنك بتتخطي حدودك معاه حتى لو من غير قصد
اخذت تقرض اظافرها بوجه مرتبك بشكل زائد عن الحاجة وهي تجيبها بتوتر مبالغ :
_ قلقانة أوي ياشفق .. هو كرم مش قاعد صح ؟
هزت رأسها بالنفي لتقول رفيف ضاحكة بعدما تبدل مزاجها بسرعة هائلة :
_ ماما بقت كل يوم تاخدلها ربع ساعة عياط ، بتعيطي ليه ياماما ؟ ، اخواتك وحشوني البيت فضي من غيرهم ! .. واللي يشوفها وهي بتعيط ميشوفهاش وهي بتزن فوق راس كل واحد فيهم عشان يتجوز !!!
اطلقت ضحكة شبه مرتفعة وقالت باسمة برقة :
_ طبيعي أي أم كدا .. هتتعود بعدين على غيابهم وهيبقى الموضوع عادي
بادلتها الضحك لتهب شفق واقفة وتقول في لطف :
_ هروح اعملك حاجة تشربيها
ثم تركتها واتجهت للمطبخ فبقيت رفيف لدقيقتين بضبط تحدق في السقف وتنقل نظرها بين ارجاء المنزل وأثاثه المألوف عليها فداهمها الملل ولم تتمكن من منع نفسها حيث اندفعت خلفها نحو المطبخ لتكمل حديثها معها بالداخل ويتبادلوا احاديث مختلفة بعضها مضحكة والأخرى جدية !! ……
***
أسبوع كاملًا مرت أيامه بروتينية على الجميع دون أن تطرأ أي تغيرات أو احداث جديدة ، ولكن اليوم هو بداية الحوادث التي ستعم علي زين بالأخص فهو يوم عودة الجدة وابنة العم التي تخطت 23 من عمرها وتنضج بالجمال الصارخ وبشرة بيضاء كالثلج مع شعر أسود ناعم وطويل يلمع بساحرية ، وجسد أنوثي مثير بإمكانيات انوثية مغرية .
استقبلهم من المطار حسن الذي رحب بجدته في شوق بالغ وجعلت هي تعانقه في اشتياق والقى نظرة فاحصة على كتلة الانوثة التي مع جدته فهذه الفتاة يرونها كل شهور مرة واحدة وفي كل مرة تزداد جمالًا أكثر ، فلم يضيع الفرصة ليصافحها ويغازلها تحت شعار المزاح ، ثم استقلوا بسيارته واتخذوا طريقهم نحو المنزل وكان كرم وزوجته بانتظارهم أيضًا في المنزل للترحيب بجدته وجلسوا إلى مايقارب الساعة يتبادلون الاحاديث والضحك حتى صعدت ميار لغرفتها لتبدل ملابسها بأخرى وتأخذ حمامًا دافي لتزيح عن جسدها إرهاق السفر وفي هذه اللحظات رن الجرس معلنًا عن وصول زين أخيرًا هو وزوجته وكانت الجدة في كامل التشويق لمعرفة المرأة التي اخترتها له أمه وفضلها هو عن ابنة عمه .
فتحت هدى الباب ورحبت بابنها ترحبيها حارًا وكذلك بزوجته ثم انتقل هو لجدته وانحنى مقبلًا جبينها وظاهر كفها متمتمًا :
_ حمدلله على السلامة ياست الكل
ضمته تعانقه بشوق وتشتم رائحته في حب :
_ الله يسلمك ياحبيب جدتك .. وحشتني ياولا
_ وإنتي اكتر والله
اقتربت منها ملاذ وبدورها قالت لها في تهذيب وهي تصافحها ” حمدلله على السلامة ” ، لم تتمكن الجدة من رؤية وجهها بسبب النقاب الذي يخفيه ولكنها اكتفت بابتسامة صفراء ومزيفة تضمر خلفها الحقد والضيق ليلاحظها زين ويتضايق ولكنه لم يبدي أي ردة فعل واتجه وجلس بجانب والدته واتخذت ملاذ مقعدًا لها أيضًا بجواره وبعد دقائق قليلة وقعت نظرات يسر على الدرج الذي كانت تنزل عليه ميار ، فافغرت شفتيها بذهول مما ترتديه فقد كانت ترتدي رداء من اللون الأسود يصل إلى اسفل ركبتيها ويغطي فقط اكتافها وبفتحة صدر واسعة بالكاد تخفي مقدمة صدرها ، وكان أول واحد يلاحظ ذهول يسر هو حسن الجالس بجوارها ليلتفت برأسه ويصيبه ما صابها بالضبط ومن ثم الجميع بدأو ينظروا وآخرهم زين !!!! …….
ابعد حسن نظره وكذلك كرم وقد بدت عليهم علامات الاستياء البسيط ، أما زين فخانه نظره والقى نظرة سريعة عليها كنوع من الفضول وبمجرد ما وقع نظره عليها اشاح بوجهه فورًا ومسح على وجهه متأففًا في غضب شديد متمتمًا :
_ استغفر الله العظيم يارب
كانت يسر قد اتت قبل زين بلحظات قليلة ولم تتمكن من الترحيب بها فاقتربت هي منها ومدت يدها تقول في رقة طبيعية منها :
_ Hi !!
مدت يسر يدها وصافحتها في عنف هاتفة باغتياظ وغل :
_ هاي ورحمة الله وبركاته ياحبيبتي
حك حسن ذقنه محاولًا إخفاء ابتسامته التي كانت ستنطلق على شفتيه بعدما رأي قسمات زوجته وردها المليء بمشاعر الحقد على ابنة عمها .. أما ميار فاقتربت من ملاذ أولًا تمد يدها لتسلم عليها ولكن ملاذ رمقتها بنظرة فاحصة كلها غيرة خاصة بعدما عرفت من زوجها قبل أن يأتوا أن جدته كانت تحاول تزويجه من هذه الفتاة المتحررة ، ثم صافحتها بخنق ولم تقترب من زين ولم تحاول أن تمد يدها المصافحة لعلمها أنه لا يصافح النساء ، وكان واضح على معالمه أنه ينقصه دقيقة أخرى وينفجر بالكل بلا استثناء من فرط غيظه وهو يتحاشي النظر إليها ولا يرفع نظره بتاتًا واحترامًا لجدته فقط هتف بامتعاض دون أن ينظر لها :
_ عاملة إيه ياميار ؟
ردت عليه في خفوت هاديء وتوتر من ملامح وجهه المحتقنة بالدماء :
_ الحمدلله كويسة
كان يسود الصمت المشحون بالتوتر والضيق من الجميع على ما ترتديه أمام أولاد عمها دون احترام لأحد ولكن زين لم يكن يستطيع تحمل هذه المهذلة حيث وجه حديثه لشقيقته في نظرة صارمة ومخيفة وصوت رجولي أجش :
_ قومي يا رفيف خدي ميار واديها حاجة تلبسها من هدومك
نقلت ميار نظرها بين الجميع في شيء من الدهشة وبالأخص جدتها التي اشارت لها بأن تفعل دون جدال فنهضت ولحقت برفيف إلى اعلى حيث غرفتها ، ليصدر هو زفيرًا ملتهب ويزداد سوء غضبه عندما سمع جدته تهتف مدافعة عن حفيدتها :
_ زين ميار متربية طول عمرها في المانيا واتعودت على اللبس ده كنت قولتلي أنا وأنا كنت هقولها
هدر في اندفاع وعصبية بصوت به لمسة خشنة مريبة :
_ اللبس ده تلبسه في المانيا ملناش دعوة بيها لكن هنا تحترم وجودنا .. مش طالعة قدامنا بقميص نوم
ثم هب واقفًا واندفع لغرفته بالاعلى وبدون تفكير لحقت به ملاذ .. وهدى كانت تنظر في عدم حيلة فهذا ما كانت تخشاه أما الجدة فقد ظهرت علامات الغضب على وجهها فلأول مرة يصيح بها حفيدها هكذا ، ليهتف كرم في هدوء ولطف :
_ متزعليش من زين ياتيتا إنت عارفاه عصبي ، انتي اتكلمي مع ميار بس وفهميها بهدوء
ثم تحولت نبرته من الهدوء إلى الحدة البسيطة وهو يكمل :
_ لان هو عنده حق برضوا تلبس اللي عايزاه في المانيا .. بس هنا تحترم وجودنا
كان حسن يتابع الذي يحدث في صمت وفضل أن لا يتحدث أبدًا حتى لا يكون فظًا أكثر من أخيه الكبير ، و لتنهي هذا التوتر هدى وهي تهتف معاتبة ابنائها في ضيق :
_ خلاص ياولاد حصل خير جدتكم لسا جاية من سفر هتضايقوها من أول كام ساعة كدا .. تعالي ياماما اوضتك فوق وغيري هدومك وارتاحي شوية من السفر
استقامت واقفة ثم اتجهت إلى غرفتها بالأعلى ولحقت بها هدى وانتهت الجلسة على كرم وزوجته وحسن ويسر ، ليقول حسن ساخرًا وهو يضحك بشيء من الضجر في اندهاش من جرائتها التي مكنتها من الخروج أمامهم بهذه الملابس الفاضحة :
_ على رأى زين ده قميص نوم فعلًا !!
بادله الضحكة الساخرة بنفس الضجر .. لتهب يسر واقفة وهي تتنهد الصعداء وتشير لشفق بأن تأتي معها ويجلسوا في أي مكان آخر ويجددوا مودهم الذي عكرته تلك الالمانية الصغيرة !! ……..
***
اغلقت ملاذ باب الغرفة خلفها برفق ورفعت النقاب عن وجهها ثم اقتربت منه وملست بيدها على كتفه هامسة :
_ ممكن تهدى الموضوع مش محتاج كل العصبية دي !
صاح منفعلًا :
_ مش محتاج ازاي ياملاذ إنتي مش شايفة كانت لابسة إيه … إزاي اصلًا قدرت تطلع قدامنا بالمنظر القذر ده !!
قبضت على كفه تضغط عليه بلطف وتتمتم برزانة :
_ هي صغيرة لسا وزي ما قالتلك جدتك هي عايشة برا فمتعودة على كدا
قال ضاحكًا بسخرية على حسن نية زوجته :
_ ميار مش أول مرة تاجي عندنا يا ملاذ دايمًا بتاجي ولما بتاجي أنا بسكت وبستحمل وعمرها في مالبست اللبس ده
عقدت حاجبيها وهي تتساءل عن سبب تغير الأمر الآن وتهدر في حيرة :
_ وإيه اللي اتغير دلوقتي يعني ؟!!
قال بتوضيح أشد ونظرة مشتعلة :
_ اللي اتغير إن جدتي مش عجبها إني اتجوزتك وأكيد موصياها وهي فاكرة إنها لما تلبس كدا أنا هغير رأي وهتجوزها وهطلقك مثلًا .. من الآخر يعني كل ده مقصود وهو ده اللي مجنني ومخليني متعصب كدا عشان فاهم حركاتهم دي كويس أوي
تركت يده وظهرت علامات الغيظ والغل على محياها هل تسعى تلك الشيطانة الصغيرة للتفريق بين زوجها بعد كل ما فعلته لكي تحسن علاقتهم ، بالتأكيد لن تسمح لها بالعبث معها وستضع الحدود لردعها كما يجب ! .
مدت يدها وقالت بدلال وهي تعبث بقميصه وتنهدم من مظهره :
_ ومين قالك إني هسمحلها أصلًا إنها تفرق بينا حتى لو كانت جدتك
نظر إلى يدها التي على قميصه وتلمس صدره ونبرة صوتها المغرية ونظرتها فكاد لوهلة أن ينصاع خلف رغباته ولكنها اكملت في لؤم :
_ هي جدتك مش عايزاك تاخد اسبوع معاهم هنا .. أنا بقولك نقعد اسبوع وسبلي البت ميار دي
ابعد يدها بكامل الهدوء حتى لا تؤثر عليه أكثر من ذلك بلمساتها المذهلة وقال باسمًا بتحذير :
_ ملاذ أنا مش عايز مشاكل !
أجابته ضاحكة بمداعبة محببة لقلبه :
_ إنت تعرف عني إني بتاعت مشاكل برضو ياحبيبي .. اطمن
واستجمعت ثقتها وشجاعتها لتقترب وتطبع قبلة ناعمة على وجنته ، لتذيبه بالكامل على أثرها .. ألم تكفيها كلمة ” حبيبي ” حتى تضع هذه القبلة المسحورة على وجهه ، فأخذ هو نفسًا عميقًا ليخرج قليلًا من النيران التي اشتعلت في أعماقه على أثر قبلة واحدة ، ولم يغب عنها وضعه بالتأكيد حيث لاحظت تأثيرها عليه فابتسمت بعاطفة وتلفتت في الغرفة بحركة دائرية وهي تقول :
_ إيه ده أول مرة ادخل اوضتك
كانت غرفة هادئة والوانها تبعث الراحة والسكينة ، واسعة إلى حد ما وعلى الحائط لوحة صغيرة مكتوب عليها آية الكرسي ، ثم وقع نظرها على الفراش العريض فنقلت نظرها في ارجاء الغرفة بحثًا عن أريكة وعندما لم تجد شكرت ربها في قرارة نفسها وسعدت لأنها ستقضي اسبوعًا كاملًا وهي بجواره في نفس الفراش ، وستأخذ هذا الأسبوع وسيلة لتقوية علاقتهم أكثر ولن تسمح لجدته أو ابنة عمه بأن يشعلوا فتيل المشاكل بينهم ! .
عادت بنظرها مجددًا له وقالت في جدية وحنو :
_ روح اعتذر من جدتك مينفعش إنت عليت صوتك عليها برضوا ، متخليهاش زعلانة منك وهي لسا جاية من سفر
أماء لها بالموافقة ثم قرب كفه وملس بابهامه على وجنتها في حنان نابع من عيناه وهو يهمس شاكرًا إياها لأنها نجحت في امتصاص غضبه بأقل الكلمات :
_ شكرًا ياملاذ
طالعته بابتسامة عاشقة وأعين تلمع بوميض جميل لتصنع ابتسامتها وعيناها مزيج غرامي رائع ، واستقرت هو من عيناه نظرة دافئة أخيرة قبل أن يستدر وينصرف متجهًا إلى غرفة جدته حتى يعتذر منها عما صدر منه من فظاظة وانفعال ليس بإرادته ! ……
***
فتحت الباب ودخلت بعد أن اخبرتها رفيف بأنه في غرفته ، اغلقت الباب خلفها وسمعته وهو يتحدث مع أحدهم عن البحث عن شخص وكان مستاء بشدة ويقول بوضوح ” مهو أنا هجيبه يعني هجيبه هيروح مني فين ” فتوقفت للحظات تحاول توقع عن من يتحدث ولم يتعبها التفكير كثيرًا وبسهولة فهمت أنه يتحدث عن ذلك الوغد الذي قتل زوجته و لا يكف عن ملاحقتها ، فأخذت نفسًا عميقًا واقتربت منه بعد أن انهى الاتصال وكانت نظراتها تطلع اشارات مباشرة بعتاب وخوف فتستقبل منه الريبة والتعجب في نظراته حتى تمتم بخفوت :
_ في إيه ؟!!
قالت بأعين زائغة :
_ لسا مصمم علي اللي في دماغك وإنك مش هتسلمه للشرطة لو مسكته
أجابها في حزم ونبرة غليظة :
_ ومش هتراجع ابدًا
ازدادت نظرات عيناها حزنًا وقلقًا وغمغمت في رجاء :
_ ارجوك بلاش ياكرم .. إنت معقول عايز تقتله !! ، إنت لو حابب تخلص عليه نهائي ممكن تدخله السجن وهتقدر تخليه ياخد اعدام وهيبقى أخد جزائه بس بالقانون ومن غير ما تضيع نفسك بسبب الحيوان ده
حدجها بصمت دون أن يجيب فعلمت أنه لم يقتنع بما قالته ومازال مصر على قراره أي أنه لن يزيل فكرة القتل من عقله بتاتًا ، اصابها اليأس والشجن وقالت بأعين دامعة :
_ يعني مفيش فايدة !
هز رأسه نافيًا في اصرار واضح على ملامح وجهه الحازمة فتضيق هي عيناها بخزي وتتجه نحو الفراش وتجلس عليه بألم ، فشعور القلق يزداد بداخلها كلما تتذكر أنه لا زال يلاحقه ، التفت هو لها بجسده كاملًا وتمتم في نبرة رجولية خشنة :
_ أنا عايز اخد حق مراتي واخد حقك إنتي كمان
لم تتمكن من منع دموعها ورفعت نظرها له تقول مندفعة من بين بكائها :
_ وأنا بقولك أهو مش عايزاك تاخدلي حقي أنا عايزة القانون هو اللي ياخدلي حقي منه ، ومراتك ماتت خلاص .. يعني لما تقتله محدش هيستفيد حاجة إنت الوحيد اللي هتخسر حياتك
استغفر ربه مغلوبًا على أمره ولم يتضايق من كلامها الذي قد يكون قاسيًا على أحد لا يعرفها ، ولكنه بات يفهمها جيدًا ويفهم أنها لا تقصد فقط قالت هكذا من ضيقها واضطراب نفسها ، ولامه ضميره عندما رأى دموعها فاتجه وجلس بجوارها متمتمًا بعد أن عاد لطبيعته الساحرة والرقيقة :
_ طيب فهميني بس إيه سبب العياط أنا زعقت فيكي وأنا مش واخد بالي مثلًا !!
التفتت برأسها ناحيته وقالت بصوت مبحوح ونظرات راجية دون أن تفكر فيما تقول حيث اعترفت له بشجاعة ومباشرة :
_ سببه إنك مش عايز تفهم إني خايفة عليك ، ومش عايز تفهم إني مبقليش حد غيرك ومعنديش استعداد اخسرك إنت كمان .. قولي كدا إنت لما تقتله وتدخل السجن أنا إيه وضعي ، هيحصل فيا إيه !!
الجمته كلماتها وصنمته في مكانه فأخذ يتطلع إليها بسكون دون أن يتكلم ، بل ما قالته كان كافي لعدم إيجاده الكلمات التي سيجيب عليها بها ، فمن جهة ألم قلبه وناره على زوجته التي قتلت بابشع الصور ونفسه التي لن ترتاح إلا حين تأخذ بثأرها ومن جهة مسئوليته تجاهها ، والآن فقط فهم كم هو صعب مفهوم التضحية فعليه أن يضحي أما بثأره لزوجته أو يضحي بها ! .
حارب توتره الدئم بمجرد ما أن يقترب منها ومد كفه الكبير بصعوبة يضعه على كف يدها الناعم والصغير محاولًا تهدئتها وإبعاث الآمان إلى نفسها المضطربة والخائفة وهمس بالقرب منها باسمًا في حنو مع قليل من المداعبة ليخرجها من الكآبة المهيمنة عليها :
_ طيب ياشفق وإنتي دلوقتي شوفتيني قتلته ودخلت السجن ، أنا تقريبًا كل ما اتكلم معاكي بتعيطي لدرجة إني بقيت اخاف اكلمك لتعيطي ومبقتش فاهم في إيه !! .. أكيد عارفة إن الزعل الكتير مضر وخصوصًا لو كان على بنوتة قمر زيك كدا !
قال جملته الأخيرة بجرعة زائدة من الرقة افقدتها توازنها ولوهلة احست بأنها ستسقط بين ذراعيه فاقدة لوعيها حيث حدقت به بأعين هائمة وهي تقول في نفسها برجاء ” توقف ارجوك لا تنظر لي بعيناك الجميلة هذه وبهذه النظرات الدافئة ، فأنا لم اعد اتحمل وسامتك ورقتك ” ولكنها عادت لوعيها بسرعة واجفلت نظرها عنها في خجل واستحياء من مغازلته لها بل في الغالب كانت خجلة وفي نفس ذات اللحظة ترغب في الابتسام من دهشتها بأنه تغزل بها لأول مرة وهي تعرف جيدًا توتره الشديد منها ، فلم يكن الأمر مخجل بقدر ما كان مدهش بالنسبة لها !! .
ثم رفع كفه عنها وقال ضاحكًا عندما تذكر شيء :
_ استني هوريكي حاجة بس يارب متكونش ماما شالتها
ثم هب واقفًا واتجه نحو خزانته وفتحها وانحني للأسفل يفتش عن شيء معين بين الملابس حتى وجدها وكانت عبارة عن لعبة مهرج شكله قبيح قليلًا ثم عاد وجلس بجوارها مجددًا فاخذتها من يده تحدق به باستغراب هاتفة :
_ إيه دي ؟!
_ دي ياستي طفولتي البائسة .. كنت دايمًا وأنا صغير بعيط على أقل حاجة ومش عياط طبيعي لا ده ازعاج يعني كنت مزعج فبابا سافر برا مصر لشغل ولقي اللعبة دي بالصدفة وجبهالي مخصوص وهو جاي .. اللعبة دي بقي بمجرد ما تعيطي بصوت عالي بتقلدك بس بطريقة كوميدية ، وفي مرة بابا حبسني في اوضتي وسابها معايا وكنت كل ما اعيط من الزعل والضيق انهم حبسوني هي تقلدني وافضل اضحك .. طبعًا هي بنسبة لطفل لعبة مضحكة جدًا مع إن شكلها وحش .. ولما كنت بعيط قدامهم كانوا بيطلعوها قدامي فتقلدني واضحك فورًا ، فاللعبة دي كانت وسيلة للتخلص من الازعاج بتاعي ولغاية دلوقتي محتفظ بيها وكل ما اشوفها اضحك تلقائيًا فأنا هخليها جمبك في البيت في الاوضة عشان كل ما تعيطي كدا تضحكك
اطلقت ضحكة مرتفعة وقالت تبادله مداعبته في حب :
_ اممم انت عندك حق أنا فعلًا محتاجة اللعبة دي لأن الفترة دي بعيط بسبب ومن غير سبب
_ أهاا ما أنا ملاحظ كدا برضوا ، أهم حاجة ميكونش السبب أنا بس !
هزت رأسها بالنفي قائلة من بين ضحكاتها :
_ لا اطمن مش إنت
اظهرت شفتيه عن ابتسامة عريضة وقال في صوت به لمسة مريحة :
_ طيب الحمدلله .. يلا قومي عشان ننزل لهم تحت لاحسن تيتا تزعل لما متلاقيناش
مدت يدها وجففت دموعها بظهر كفها ثم استقامت بعد أن نهض هو واتجه نحو الباب فلحقت به حتى تخرج لهم معه ، فهي لازالت لم تتعود على اشقائه وزوجاتهم جيدًا وتتوتر منهم ، ولكن علاقتها قوية بأمه وشقيقته فقط ! …..
***
داخل غرفة الجدة …..
هتفت هي في عتاب وغضب دفين :
_ وصلت إنك تعلي صوتك عليا يازين !!
اجفل نظره أرضًا في خجل وقال بندم واعتذار صادق :
_ أنا آسف مقصدش والله ياجدتي اعلي صوتي عليكي أنا فقدت اعصابي ومقدرتش اتحكم في نفسي
هتفت في حدة وصرامة بضجر :
_ أي كان السبب مكنش ينفع تحرجها كدا قدام الكل ، رفيف بتقولي فضلت تعيط في الأوضة لما طلعت فوق
ضحك باستهزاء وهو يحاول تمالك اعصابه التي على وشك الانفجار من جديد وقال بنبرة مستنكرة مما تقوله جدته :
_ احرجها !!! ، ثم إن إنتي إزاي بتدافعي عنها !
_ أنا قولتلك إنها متعودة من صغرها بتلبس كدا وأنا مش بتدخل ومش بحب اضيق عليها البنت لا ليها أب ولا أم وملهاش غيري وغيركم إنتوا وعمك طاهر
لم يتمكن من حجب نفسه أكثر من ذلك حيث حدج جدته بنظرات مريبة وهدر بلهجة مخيفة :
_ وهي في بنت محترمة تلبس كدا !! ، ومفيش حاجة اسمها مش بحب اضيق عليها ياجدتي ، في حاجة اسمها إن دينا بيأمرنا بالحجاب والاحتشام والأدب والأخلاق لكن تطلع قدامنا بفستان بالمنظر ده يبقى لازم نحطلها حدود أنا مكنتش بتكلم لما كنتي بتاجي إنتي وهي كل مرة بس جبت اخري خلاص
لم يعجبها كلامه مطلقًا حيث قالت باعتراض وفي آخر كلامها ختمته بالشيء الذي زاد من اشتعال نيران غيظه :
_ برضوا مكنش ينفع تقولها كدا قدامكم كلكم .. وبعدين فهمني إنت إيه مش عاجبك في بنت عمك مش كنت إنت اولى بيها بدل ماروحت اتجوزت بنت لا نعرفها ولا تليق بيك أصلًا
تمالك أعصابه بصعوبة شديدة ومسح على وجهه متأففًا وهو يستغفر ربه وقال في هدوء يضمر خلفه أعصار تسونامي :
_ مراتي أنا اللي اخترتها وقررت إني أكمل معاها وطالما قررت القرار ده يبقى أنا شايف إنها تليق بيا .. بس برضوا هتكلم معاكي بالمنطق قوليلي ياجدتي بالله عليكي هي ميار تليق بيا ؟!
صمتت لبرهة وهي تحاول اسكات الصوت الذي بداخلها ويخبرها بأن تجيب عليه بـ ” لا ” وقالت باصرار على رأيها :
_ ومتلقش بيك ليه بقى ؟!
تنهد بعمق وقال في رزانة وقد هدأت ثورته الداخلية قليلًا :
_ إنتي عارفة إني عصبي ودمي حامي وعندي حدود وقوانين ومينفعش حد يتخطاها وميار متنفعش مع حدودي وقوانيني ، لان لا هي هتستحملني ولا أنا هستحمل دلعها واسلوب حياتها اللي اتعودت عليه .. من الآخر أنا عايز واحدة تقدر تفهمني وافهمها ، واحدة اقدر استأمنها على بيتي وولادي وأنا مغمض وتكون على خلق ودين وعاقلة ، لكن ميار مستحيل أنا وهي ننفع مع بعض فعشان كدا ارجوكي ياجدتي طلعي الموضوع ده من دماغك .. كفاية أنا تعبت والله
مازالت لم تتخلي عن رغبتها في تزويجه من ابنة عمها وخصوصًا بعدما رأت زوجته ولم تستلطفها أبدًا وقالت في استسلام سريع وعجيب بالنسبة له :
_ طيب ياحبيبي ربنا يسعدك مع مراتك
اقترب وقبَّل جبهتها في حنو وقال بشيء من الجدية :
_ أنا هقعد معاكي الأسبوع زي ما إنتي عايزة عشان خاطرك بس وعشان مزعلكيش بس ارجوكي خلال الأسبوع ده مش عايز أي حاجة تحصل تضايق مراتي أو توجهي ليها أي أهانة سواء إنتي أو ميار لإني مش هضمن ردة فعلي وقتها .. احترامها من احترامي ياجدتي !
رتبت على كتفه برفق مغمغمة بنبرة من الخارج تبدو عادية ولكن من في جوفها تحمل كل أشكال الغيظ والحقد والمكر :
_ حاضر اطمن متقلقش ده إنت الغالي ابن الغالي ومقدرش على زعلك ، ومراتك فوق راسي ياحبيبي
ابتسم له في دفء ثم رفع كفها لشفتيه يقبل ظاهره في مشاعر نقية وعذبة فتبادله نفس نظرة الحب النقية والصادقة وتملس على شعره بكفها الآخر في حنو ! …….
***
في تمام الساعة الثامنة مساءًا …..
خرج حسن من المنزل وقاد خطواته نحو الأريكة الكبيرة المتوسطة في نصف الحديقة وأمامها طاولة صغيرة فاخرة ، وكان في يده كأس الشاي الخاص به ! ، وجلس على الأريكة بجوارها بعدما وجدها تجلس بمفردها في الخارج وقال وهو يرتشف من كأسه :
_ قاعدة وحدك ليه ؟!
هتفت ميار في بساطة مبتسمة :
_ عادي زهقت شوية وحبيت اقعد هنا ، وإنت ليه مش قاعد معاهم جوا ؟!
أجابها بنبرة صوت عادية :
_ بحب اشرب الشاي في روقان
اماءت له برأسها في تفهم ثم هيمن الصمت بينهم لدقائق قليلة حتى نظرت له وقالت بمزاح لطيف :
_ لما نينا قالتلي في المانيا إنك اتجوزت يسر اندهشت الحقيقة
عاد يرتشف من كأسه مرة أخرى ويجيبها باسمًا في شيء من الفتور :
_ أمممم شوفتي .. هي الدنيا كدا يوم ليك ويوم عليك !!
ضحكت بخفة وانوثة ليست متكلفة منها ثم أكملت في ضحك أشد متشبعة بحرارة الحديث :
_ لا بس بجد آخر بنت كنت اتوقع إنك تتجوزها هي يسر ياحسن
قال بضحكة خفيفة في خنق :
_ هتصدقيني لو قولتلك وأنا كمان
اعتدلت في دي جلستها واصبحت مواجهة له وهي تقول بتشويق وفضول :
_ وإيه بقى إيه اللي خلاك تفكر تتجوزها
سكت للحظات قصيرة يعيد شريط الأحداث التي حدثت قبل أن يتزوجوا وماذا فعلت وكيف استغلت الصور والتسجيلات ضده لكي تصل لمبتاغها وهو الزواج منه ولا ينكر أنها نجحت بالفعل في إحراز أول اهدافها في معركتهما ! .
رفع نظره لأعلى بتلقائية فرأى زوجته في شرفة الغرفة تنظر لها بأعين نيرانية والغيرة قد وصلت لذروتها لديها ، وفقط يستطيع وصف نظراتها بأنها كانت تود أن تفتك بالجالسة بجواره ، وفي ظرف لحظة وجدها تدخل للداخل فعرف أنها قادمة إليهم ، ليقترب من ميار ويهتف ضاحكًا :
_ نصيحة مني لو خايفة على نفسك اهربي
حدجته بحيرة وقالت بتعجب متساءلة :
_ اهرب !! .. ليه ؟!
_ هتعرفي دلوقتي ليه
ولحظات بظبط وكانت يسر تتحرك في اتجاههم وهي تبتسم بتصنع ، وحده هو استطاع فهم الحقيقة التي تخفيها خلف الابتسامة المزيفة وهي أنها تشتعل بنيران الغيرة ! ، وحين وصلت لهم جذبت مقعد صغير وجلست بجوار ميار ثم وجهت حديثها له هاتفة في رقة متكلفة :
_ إيه ياحبيبي ليه مش قاعد معانا جوا ؟!
افتر عن ابتسامة عريضة ومتحمسة لما سيحدث الآن ولم يجب عليها فقط جلس بإرياحية أكثر على الأريكة مستندًا بساعده على ذراع الأريكة وهو يجهز نفسه لمشاهدة المعركة الكلامية التي ستحدث الآن !! ، وبالفعل تحدثت إلى ميار بشيء من الغيظ ولكنها تخفيه بابتسامة صفراء :
_ عاملة إيه ياميار ؟
اجابتها في عفوية وابتسامة عذبة :
_ gut
كنا لسا بنتكلم عنك وبقوله إني مكنتش متوقعة ابدًا إنكم تتجوزوا
القت نظرة مشتعلة عليه لتراه يحاول كتم ضحكاته ثم تعود بنظرها لميار وتهتف في هدوء ما قبل العاصفة :
_ مكنتيش متوقعة ليه ياحبيبتي ؟!!
_ يعني أصل الكل بيشهد دايمًا على خناقكم وعارفين إن كان حسن كان مش بيستلطفك أوي يعني العلاقة ما بينكم مش قد كدا
لم يتمكن هو من حجب ابتسامته ولكنه اخفاها بيده متصنعًا أنه يحك ذقنه ويقول في قرارة نفسه ” بتقولي إيه يابنت الهبلة هتاكلك ! ” وبالفعل رأى في عيناها علامات الغيظ والسخط ولكنها تحكمت في انفعالاته وقالت باقتضاب :
_ كااان .. لكن دلوقتي الوضع يختلف مش كدا ولا إية ياحبيبي ؟
وجهت له سؤالها في نظرات متقدة كلها غيرة وعصبية ليجيبها ضاحكًا مسايرًا إياها في كذبتها العلنية باستمتاع بغيرتها وعصبيتها التي تحاول اخفائها :
_ اممممم أكيد طبعًا يختلف ويختلف كتير أوي كمان !!
هتفت يسر محدثة ميار في لؤم :
_ ألا قوليلي ياميار هو الفستان اللي كنتي لبساه الصبح ده مش من مصر صح أصل عجبني أوي وكنت عايزة اشتري زيه
ارتبكت قليلًا بمجرد ذكر ماحدث بالصباح ولكنها قررت أن أن تكون لؤمًا أكثر منها وتسكتها تمامًا عن الكلام حيث قالت باسمة باستنكار :
_ وإنتي هتعملي بيه إيه يايسر ، اعتقد إنك مينفعش تلبيسه لإنك محجبة
بدأ الحديث يأخذ المنحني المفضل بالنسبة للشاهد الذي كان يتابع ما يحدث وهو يبتسم فوجد زوجته تضحك بخبث فاق مكر تلك الحمقاء التي ظنت نفسها قادرة على الانتصار عليها ، حيث قالت في خفوت ماكر ونبرة تقصد بها الإهانة ولكن بشكل غير مباشر :
_ لا ماهو إنتي متعرفيش إن الهدوم دي البنت بتلبسها في بيتها لجوزها بس مش في العلن عشان أمة لا اله إلا الله تتفرج ، بس واضح إن تيتا مقالتش ليكي الكلام ده لإنك لو كنتي عارفة مستحيل كنتي هتطلعي قدام ولاد عمك بالمنظر ده وللأسف الكل فاهم لبستي كدا ليه واولهم زين و……
نقلت ميار نظرها بين حسن الجالس وقد بدت علامات الدهشة على محياه حيث لم يكن يتوقع أن يكون ردها بهذا القسوة ، فقد أصابت الهدف تمامًا بكلماتها ، ولم يعجبه آخر ما قالته بالأخص في وجوده ، فلم يكن هناك داعي لآخر جملة حيث هتف مقاطعًا إياها بنظرة حازمة ونبرة قوية :
_ يــــســـــر !!!
التزمت الصمت بعدما رأت نظرته الغاضبة أما ميار فرمقتها شزرًا وباغتياظ ثم هبت واقفة واتجهت لداخل المنزل ، فتقول يسر ساخرة بقرف :
_ وكمان ليها عين ترد عليا .. ده إيه البرود ده أما بنت معندهاش دم صحيح !!
القى عليها نظرة مستاءة وزفر بنفاذ صبر وهو يشيح بوجهه عنها محاولًا تهدئة نفسه حتى لا ينفجر بها ، وفي ظرف لحظة وجدها تثب وتجلس بجواره ملتصقة به وتضربه على ذراعه بخفة هاتفة في غيرة شديدة :
_ شفتك بتضحك معاها ، بتضحك معاها ليه وكنتوا بتقولوا إيه هاااا ؟!!
بدا مفزوعًا من وثوبها المفاجيء إلى جانبه وضربها له على ذراعه فصاح بها منفعلًا :
_ وإنتي مالك كنا بنقول إيه !
فتحت عيناها على أخرهم مدهوشة من رده وقالت بعصبية وانفعال أشد منه :
_ أنا متقوليش إنتي مالك .. أنا مراتك ومن حقي اعرف كنت بتقول إيه لما تقعد مع بنت
ارغمته كلماتها وطريقة عصبيتها على الضحك ولكنه أيضًا مازال محتفظًا ببعض الغيظ حيث دفعها عنه هاتفًا بأعين مشتعلة :
_ الشاي هيتكب عليا !! .. ابعدي كدا بقى دي إنتي لزقة إيه الغلاسة دي
عادت تلتصق به من جديد قاصدة استفزازه وهي تقول بسخط حقيقي وليس مزيف :
_ مش هبعد وهتقولي كنتوا بتقولوا إيه ياحسن
رفع كأس الشاي لأعلى يوهمها بأنه سيسكبه عليها ويقول بضحكة بسيطة منذرًا إياها :
_ ابعدي هكب الشاي عليكي لو مبعدتيش والله
تراجعت للخلف وهي ترمقه شزرًا بامتعاض وعيناها تطلق شرارات حمراء فاطمئن لها وانزل الكأس ليجدها تهجم عليه وتغرز اسنانها بغل في وجنته فيرتفع صوت تأوه بتألم وتثب هي واقفة راكضة بعيدًا عنه حتى لا ينال منها وتسمعه يقول بغضب حقيقي هذه المرة واضعًا كفه على وجنته :
_ آاااه يابنت الـ ……..
هزت له كتفها يسارًا ويمينًا كوسيلة لزيادة ضجره وهي تضحك بخبث وتشفي ثم استدارت ودخلت للداخل تاركة إياه يتوعد لها !! ………
***
انتهى اليوم العائلي والجميع رحل باستنثاء زين وملاذ الذين سيقضون اسبوعًا كاملًا معهم في المنزل بناءًا على رغبة الجدة ، وقد دقت الساعة الثانية عشر بعد منتصف الليل وجميع من في المنزل بمضاجعهم نائمون في ثبات بعد اليوم الطويل والمرهق الذي مر على الجميع بلا استثناء ! .
كان زين في فراشه جالسًا ويستند برأسه على حافة الفراش من خلفه وبيده أحد الكتب الدينية يقرأ بها بتركيز شديد ولكن تشتت انتباهه بمجرد ما لمحها وهي تخرج من الحمام بعد أن أخذت حمام مسائي دافيء وكانت ترتدي منامة بنصف أكمام ، ضيقة بعض الشيء على جسدها أي أنها تظهر منحياتها بوضوح وتصل إلى أسفل ركبيتها ولديها فتحة صدر واسعة بعض الشيء تأتي على شكل مثلث ، فقد مر على زواجهم شهر ولم يراها ترتدي شيئًا كهذا قط من قبل والغريب من كل هذا أنها كانت تتصرف بطبيعية تمامًا ولم تنظر لها مطلقًا فقط تجفف شعرها بالمنشفة الجافة ومن ثم اتجهت إلى امام المرآة لتبدأ في تسريحه ! .
وكانت افكاره كالتالي ” ماذا تفعل ؟! ، هل تحاول اغوائي ؟!! .. أم أنها تحاول أن تسلبني عقلي حتى لا أفكر مجرد التفكير في ميار ، أي أنها تريد أن لا تجعل أي فرصة بيني وبين أي أفكار معاكسة قد تظهر فجأة في ذهني ! ” ، أخذ يحدق بها وهي تسرح شعرها وعيناه لا تنحرف عنها لثانية ، ويترك لعيناه الحرية في التأمل بهذه المرأة الفاتنة التي تقف أمامه بملابس مثيرة ، ولم يعلم كم مر من الوقت وهو على هذه الحالة حتى وجدها تقف أمامه وهي تبتسم برقة وتتمتم في إحراج بسيط :
_ لو مش حابب أنام جمبك أنا ممكن أنام على الأرض عادي
يقسم لها أنه لو كان يوجد بهذه الغرفة اريكة لكانت ستجده فورًا عليها ، فهو لا يضمن نفسه السيئة عندما تدخل معه في نفس الفراش بملابسها هذه ، وبالتأكيد لم يتركها تقضي ليلتها على الأرضية فافسح لها في الفراش عن مكان وقال بسخرية وجدية :
_ تعالي جمبي وبلاش هبل قال أنام على الأرض !!
ابتسمت ابتسامة خفية لن يتمكن من مشاهدتها ثم تمددت بجواره وسحبت الغطاء إلى جسدها وأخذت تتابعه بصمت وهو يقرأ في كتابه وبعد دقائق اعتدلت في نومتها وقالت بحماس مترددة في طلبها :
_ ينفع ندردش مع بعض شوية لو مش هتضايق ؟
ترك الكتاب من يده واسنده على الفراش بجواره ونظر لها متمتمًا بتنهيدة عميقة :
_ ندردش في إيه ياملاذ !
اقتربت منه واستندت بمفرقها على وسادة الفراش وكفها كان تحت وجنتها وهتفت في وجه بشوش :
_ في أي حاجة ، وأنا كنت حابة اسألك عن حاجة كدا
_ حاجة إيه ؟ .. اسألي !
أخذت نفسًا عميقًا قبل أن تبدأ في سؤالها وهي تقول بهدوء مشجع :
_ يعني أنا كنت عارفة إنك في فترة خطوبتنا مكنتش بتكلمني لإنك كنت خايف تغلط وتقول حاجة وتاخد ذنوب عليها من غير ماتحس ، لكن سؤالي بقى هو حرام فعلًا إن البنت تكلم خطيبها ؟!
ابتسم لها بحنو وأجابها بنبرة متشبعة بحرارة الحديث في ابتسامة ناعمة :
_ لا مش حرام طبعًا ياملاذ وإلا مكنتش هكلمك نهائي .. بس مش حرام لما المكالمة تبقى لمجرد السؤال والاطمئنان فقط زي ما كنت بعمل يعني كل كام يوم كنت بكلمك اسأل عليكي واطمن عليكي واقفل ، أو مثلًا لو كانوا بيتكلموا عن حاجة تخص شقتهم وكدا لازم يتفقوا مع بعض ويتكلموا عشان يجهزوا شقتهم وبرضوا بيبقى الكلام بحدود وبضوابط محددة ، لكن إيه هو الحرام بقى .. الحرام اللي بيحصل حاليًا ده خطيبي وبتكلم معاه في التلفون بيطمن عليا .. وبيطمن عليها دي اللي هي ساعتين أو تلاتة في كلام ملوش لزمة ، وعاملة ايه ياحبيبتي ووحشتيني ومعرفش إيه الكلام ده كله حرام زي ما هو حرام إن يبقى في خلوة بينك وبين خطيبك ولازم يبقى في غض بصر وكمان أنه يلمسك أو يمسك إيدك زي ما بيحصل حاليًا ده غلط ، لإن الخطوبة دي وعد بالزواج مش زواج يعني خطيبك ده غريب عنك واجنبي زيه زي أي راجل ماشي في الشارع غريب ، هل هتسمحي لحد غريب يلمسك أكيد لا وهو كذلك مينفعش
هزت رأسها متفهمة كلامه جيدًا ثم قالت باسمة بمشاكسة :
_ وإنت عشان كدا عجلت في الجواز
_ امممم لإني مبحبش الخطوبة دي نهائي وكنت بتعمد إني مكلمكيش أو اشوفك غير لما تبقى مراتي عشان تبقى كل حاجة حلال ومفيش حاجة غلط
تمتمت في نظرات غرامية وهائمة في بحور عشقه ونبرة تعزف سيمفونية حب ساحرة :
_ بجد أنا بحمد ربنا كل يوم إنه كرمني بيك يازين .. ربنا يخليك ليا وميحرمنيش منك
افترت شفتيه عن ابتسامة عاطفية ومد يده يعبث بخصلة شعرها المتمردة هامسًا :
_ طيب نامي يلا عشان الوقت اتأخر ، تصبحي على خير
ثم تمدد على الفراش وهم بأن يوليها ظهرها ولكنها اوقفته بقبضة يدها التي على كتفه وقالت بتعجب به بعض المداعبة :
_ مش هتقولي ويخليكي ليا إنتي كمان !!
قهقه بخفة وأجابها معيدًا ماقالته للتو في دفء :
_ ويخليكي ليا ياملاذ ، حلو كدا ؟!!
انحنت وخطفت قبلة سريعة من وجنته ثم تمددت بجسدها كاملًا على الفراش وجعلت وجهتها أمامه بالضبط تحدق به وهي تبتسم بسعادة غامرة بعد أن شعرت بدنو هدفها بينما هو فكان يوليها ظهره لا يرى وجهها الذي يتلون بمائة لون في اللحظة الواحدة من فرط سعادتها ، وظلت هكذا لدقائق حتى غلبها النوم وابحرت في عالم احلامها الخاص فيلتفت هو برأسه ناحيتها ثم بجسدها كاملًا ويبتسم لها بنفس مشاعر العشق المتبادلة ، ويلتقط كفها بحرص شديد ليطبع قبلة ناعمة على ظاهره ثم يرفع شفتيه لوجهها ويطبع قبلته الثانية على جبهتها ومن ثم وجنتها وأخيرًا على أعلى كتفها برقة أشد وحين وجدها بدأت تشعر بلمسات شفتيه المتفرقة على وجهها وكتفها وستستيقظ فابتعد عنها فورًا واغمض عينه سريعًا متصنعًا النوم !!!! …….
***
ترجلت رفيف من السيارة في صباح مشرق ودافيء ، ووقفت لدقائق وتحدق بالمطعم من بعيد وتفرك يديها ببعضها في توتر ، تحاول استدعاء بعضًا من ثقتها بنفسها وشجاعتها لتظهر أمامه في أول يوم عمل بينهم بكامل الثقة والشموخ ، ولكنها تعرف حق المعرفة أنها ستذعن لتوترها وإعجابها به بمجرد رؤيته ، وفورًا عصفت صورة أخيها في ذهنها فقالت بخوف في قرارة نفسها ” ماذا لو كان زين ينتظرني معه بالداخل .. لا لا استطيع يجب عليّ أن اضع الحدود لاضطرابي ومشاعري الحمقاء هذه ” فهندمت من ملابسها جيدًا وقادت خطواتها بكامل الثقة والثبات تجاه الداخل وبمجرد دخولها استقبلتها الفتاة التي تعمل في الشركة وقد كلفها أخيها بمهمة مساعدتها حتى لا تبقى بمفردها .
حدتثها رفيف في نظرات تتجول في ارجاء المطعم بأكمله :
_ أستاذ إسلام وصل يارحاب
اماءت لها بالإيجاب وقالت باسمة :
_ أها ومستنيكي جوا عشان نبدأ في الشغل فورًا
أخذت نفسًا عميقًا ثم قادت خطواته نحو جزء داخلي في المطعم فوجدته يجلس على طاولة متوسطة وأمامه أوراق بعضها كبير والآخر صغير ومنشغل بتفقدهم والعمل لتتحرك نحوه وتقف قائلة بخفوت :
_ أستاذ إسلام
رفع نظره لها وهب واقفًا فورًا وهو يجذب عكازه ليستند عليه في الوقوف ويمد يده مصافحًا إياها في عذوبة لتمد يدها وتتصافح معه بسطحية شديد ثم تسحب المقعد المقابل له للأمام وتجلس هاتفة باعتذار بسيط :
_ اتأخرت عليك أنا آسفة بس الطريق كان واقف
هز رأسه نافيًا يوضح له بساطة الأمر ويقول ببشاشة :
_ لا متأخرتيش أنا لسا واصل قبلك بدقايق أساسًا
افترت عن ابتسامة خفيفة على شفتيها وهي تقاوم ارتباكها منه ثم نظرت إلى الأوراق وعادت بنظرها له مجددًا تهز رأسها بعدم فهم ليقول في رسمية تليق بصوته الرجولي :
_ تمام بصي الورق ده فيه كل حاجة ومحتاج قعدة كدا طويلة عشان افهمك كل حاجة فيه ونشتغل صح ، واحنا وبنشتغل فنجان قهوة كدا هيظبط كل حاجة بتشربي قهوة ؟
تلعثمت لسبب مجهول هل لرسميته أم لوسامته أم لماذا ، لا تعرف ولكنها نفرت تلك الأفكار واستغفرت ربها في نفسها ثم قالت في هدوء تام :
_ أكيد بشرب قهوة
هب واقفًا وتحامل على عكازه موليًا إياها ظهره وقبل أن يتحرك خطوة للأمام التفت برأسه ناحيتها وقال في ابتسامة اظهرت عن غمازته :
_ فطرتي ولا اطلبلك فطار
بادلته الابتسامة التي كادت أن تكون ضحكة وقالت بامتنان :
_ فطرت الحمدلله ، شكرًا
عاد يوليها ظهره مجددًا وسار مبتعدًا عنها ليقوم بتحضير القهوة لكليها كما قال وتركها تتخبط في صراعتها وهي تعنف نفسها بشدة ولوهلة فكرت بأن تقول لأخيها بأنها لا تريد أن تتولي هذه المهمة ، فمن جهة توترها منه ومن جهة ضميرها الذي يلومها بشدة لأنها تعرف أن تلك المشاعر خاطئة ولا تجوز !! ……
***
داخل منزل حسن العمايري …….
كانت يسر تمسك باختبار الحمل بيدها وتحدق به بخوف ومشاعر متضاربة ، وتخشى أن تقوم بأجرائه فترى النتيجة إيجابية ، بالتأكيد ستفرح كثيرًا بمجرد تخيل أنها تحمل قطعة منه داخلها ، ولكنها تفكر كيف ستكون ردة فعله ياترى حين يعرف ؟! .
اتخذت قرارها النهائي وهو أن تقوم بأجرائه حتى تطمئن نفسها القلقة منذ تأخر موعد دورتها الشهرية عنها لأيام .. استقامت ثم دخلت الحمام وقضت دقائق طويلة ثم فتحت الباب وخرجت وهي تحدق بنتيجته والتي كانت تظهر شرطتين ! ، فشهقت بذهول ووضعت كفها على فمها لا تصدق ما تراه عيناها وتهتف بضحكة بلهاء ” أنا حامل بجد ” !! .
خرجت من غرفتها بعد دقائق وبعد أن هيأت نفسها لأخباره بكامل القوة والثبات دون ضعف واتجهت إلى غرفته ثم فتحت الباب لتراه يستعد للنزول ويصفف شعره بحرص شديد لتهتف في نبرة عادية بعض الشيء :
_ رايح فين ؟!
التفت لها برأسه وطالعها باستهزاء متمتمًا في حدة :
_ أظن حاجة متخصكيش
هدأت نفسها تمامًا بصعوبة ثم تحركت نحوه ووقفت بجواره هاتفة في جدية ونظرة مريبة :
_ عايزة أقولك حاجة
القي نظرة عليها بطرف عيناه متعجبًا من نبرتها ونظرتها وأحس بأنه أمر جديًا بالفعل فقال بحيرة :
_ في إيه قولي ؟!!!
اصدرت زفيرًا حارًا استكاع سماعه وبكامل شجاعتها وقالت بدون مقدمات :
_ أنا حامل
يتبع…
اصدرت زفيرًا حارًا استطاع سماعه وبكامل شجاعتها قالت بدون مقدمات :
_ أنا حامل
وكأن صاعقة من السماء اصابته في أرضه فوقف مصدومًا لا يتحرك ولا يتحدث وفقط يحاول تكذيب ما سمعته أذناه للتو ، هل قالت حقًا أنها حامل !!! ، لا هذا لا يمكن حدوثه أبدًا ولن يسمح له بأن يحدث .. التفت لها كاملًا بجسده وأصبح في مقابلة وجهها مباشرة وهو يقول ضاحكًا بسخرية وعدم تصديق :
_ نعم !!!!
عادت عليه جملته ضاغطة على الكلمات وهي تخرج من فمها :
_ زي ما سمعت ، أنا حامل ياحسن !
تحول لجمرة نيران ملتهبة بإمكانها أن تحرق كل شيء حولها وهي أول من سلتحقها نيرانه ، حيث فقد السيطرة على نفسه وهيمنت عليه انغعالاته وعصبيته التي لربما أول مرة تراها وجذبها من ذراعها صارخًا بها بصوت جهوري ومخيف :
_ حامل يعني إيه هااا ، يعني إيه حامل إنتي هتستعبطي !!
ارتعش جسدها على أثر صرخته وصوته الذي أول مرة تسمعه بهذه النبرة المرعبة وكادت أن تظهر أمامه خوفها ولكنها مازالت يسر الصامدة والقوية حيث دفعت يده عنها بكامل قوتها وصاحت به مثلما يصيح بها :
_ متعليش صوتك عليا كدا ، ماكله بسببك .. إنت السبب في اللي حصل واللي أدي للنتيجة دي
لم تهدأ ثورته وهيجانه حيث أكمل صياحه بعدم استيعاب :
_ محصلتش حاجة بينا غير مرة واحدة حصل حمل إزاي أنا عايز أفــــــهـــــــم !!!
_ وربنا أراد أنه يحصل حمل ، هتقول لا لإرادة ربنا !!
رفع سبابته في وجهها محذرًا إياها بنظرات تركت آثار سلبية في نفسها وارعبتها :
_ عارفة يايسر لو دي حركة زبالة من حركاتك عشان تحاولي تجبريني إني مطلقكيش اقسم بالله لاوريكي اللي عمرك ما شوفتيه في حياتك
فقدت زمام نفسها هي الأخري وصرخت به في نبرة جلجت الغرفة :
_ هتعملي إيه يعني هااا .. قول هتعمل إيه ؟!
كان يطلق زئيرًا مكتومًا من بين شفتيه ويجز على اسنانه بقوة كادت أن تتكسر من فرط الغيظ ثم ابتعد عنها وأخذ يجوب في الغرفة ذهابًا وإيابًا وهو يضع كفه على شعره يحاول التفكير في هذه المصيبة التي سقطت فوق رأسه ، حتى توقف فجأة وقال في قسوة بالغة ونظرات لا تحمل أي رحمة :
_ الطفل ده لازم ينزل
آخر شيء كانت تتوقعه أن يطلب هذا الطلب ، هل حقًا يطلب منها إجهاض طفلهم البريء من كل شيء حدث ! ، وينتظر منها أن توافق بمنتهي السهولة ! . يبغضها للدرجة التي جننته بمجرد تخيل بأنه سيكون لديه طفل منها وستكون هي أمه ؟!! ، بالتأكيد هو ليس واعٍ لما يطلبه منها ويحتاج إلى من يردعه عن سخافاته هذه ، حيث قالت باندهاش وضجر :
_ ينزل !! ، أنت مدرك إنت بتقول إيه ؟!
_ أيوة مدرك لأن ده هو الحل الانسب للمصيبة اللي حطيتني فيها
استفزها بشدة وصاحت به مندفعة في غضب عارم :
_ والمصيبة دي زي ما قولتلك إنت السبب فيها ، ذنبه إيه الطفل ده في كل حاجة بينا ملوش ذنب عشان نقتله .. وأنا مستحيل اقتل روح بريئة واغضب ربنا ، ده ابني ولا يمكن اقتله ياحسن ، لو إنت مش عايزه فأنا عايزاه
تصر على زيادة الأمر سوءًا وتجعل من غضبه يتفاقم ويزداد اشتعالًا ولابد من أنه سيفقد زمام نفسه بالكامل إن استمرت بهذه الطريقة ! .
صاح في انفعال مرعب ونبرة أشبه بالسابقة :
_ أنا على أخرى يايسر متخلنيش أعمل حاجة اندم عليها بعدين
وقفت أمامه مباشرة وقالت باسمة بتحدي وسخرية :
_ إيه هتسقطني !!
_ لو لزم الأمر هعمل كدا فعلًا
قالها بقسوة فاقت كل شيء ، فنجح في إخراج حقيقتها الشرسة والجبارة التي لا تقهر حيث هتفت في أعين نارية ونبرة لا تحمل تهاون :
_ ولو حاولت تقربلي بس أو تأذي ابني هاخد روحك ياحسن
القى عليها نظرة صامتة ومتقززة ثم استدار وهم بالرحيل ولكن وقف عند الباب والتفت برأسه لها هاتفًا وهو يرفع سبابته في وجهها بلهجة آمرة :
_ هتنزليه يايسر برضاكي أو غصب عنك ، وإياكي تقولي لحد إنك حامل فاهمة ولا لا وبذات ماما وجدتي
ثم تركها ورحل عن المنزل أكمله وبمجرد رحليه جلست على الأرض مستندة بظهرها على الفراش وضمت قدماها إلى صدرها منخرطة في نوبة بكاء عنيفة بصوتها المرتفع وقلبها ينزف من الألم والحرقة !! ……….
***
فتح كرم عيناه واعتدل في نومته وهو يفرك عيناه ليزيح عنهم أثر النعاس الذي لا زال يسيطر عليه بعد ليلة الأمس الطويلة ، وامسك بجبهته يفركها بقوة وخنق من ألم الصداع الذي ايقظه من نومه ، ثم القى نظرة على الفراش بجواره ليجده فارغ فاعتقد أنها بالخارج ، انزل قدميه من على الفراش واستقام واقفًا وهو يتمطع بذراعيه للخلف ويتثاوب ، وكانت وجهته الأولى نحو الحمام الداخلى في غرفتهم فأخذ حمام صباحي دافيء ومنعش ثم خرج وهو يرتدي بنطال منزلي أبيض ويترك نصفه العلوي عاري وبيده المنشفة يتحرك برأسه يمينًا ويسارًا بقوة لينثر قطرات الماء عن شعره ولكنه توقف حين صك سمعه صوت رنين هاتفه فأمسك به وقرأ اسم المتصل الذي كان ” مسعد ” وأجاب عليه في جدية :
_ أيوة يامسعد ؟
_ أيوة ياكرم بيه أنا حاولت اوصل لأي حد من عيلته أو صحابه معرفتش مفيش أي أثر ليه أو ليهم
القة بالمنشفة على الفراش وهو يتأفف بوجه بدأت تظهر عليه قسمات السخط :
_ والبنت اللي قولتلك عليها ؟!
قال وهو يهز رأسه نافيًا :
_ للأسف برضوا ملقتهاش لا هي ولا أمها
كور قبضة يده بغيظ وقال يحاول تمالك أعصابه :
_ طيب يامسعد خلاص أنا هشوف
ثم انهى الاتصال معه والقى بالهاتف على الفراش وهو يهتف متوعدًا وعيناه تلمع بوميض الانتقام الحقيقي :
_ هتروح مني فين مسيرك هتقع تحت إيدي .. لو نزلت سابع أرض هجيبك
ثم أخرج تيشرت له من الخزانة وارتداه وهو يتجه نحو الباب ليغادر الغرفة ويسير بخطواته نحو المطبخ باحثًا عنها فلم يجدها ثم يخرج ويبدأ بالبحث عنها في غرفة مكتبه الخاصة التي يوجد بها صورة أخيها الضخمة ولكن أيضًا لا أثر لها ، فعقد حاجبيه بريبة وبدأ يصيح مناديًا عليها :
_ شــــفــــق !!!
لم يجد إجابه منها فاندفع نحو بقية الغرف يفتش عنها في المنزل الواسع بأكمله وهو لا يتوقف عن منادتها ولكن المنزل كان فارغ تمامًا منها ، ليتوقف ويتساءل في حيرة وقلق ” إلى أين ذهبت دون أن تخبرني ؟!!! ” هو غاضب أساسًا والآن سيزداد سخطه الضعفين فكيف لها أن تخرج بمفردها ألم يخبرها ويلقي عليها تنبيهاته الجادة بعدم الخروج بدونه ، فهو لا يضمن ذلك الوغد ويخشى أن يستغل الفرصة حين تكون بمفردها فيحاول أذيتها ولكنها لا تفهم هذا وتصر على تعريض حياتها للخطر .
توجه وجلس على الأريكة الكبيرة وقدماه تهتز من فرط الأستياء ينتظر عودتها وأخذ قرار بأنه سيحاسبها عند عودتها على إهمالها ولن يشفق عليها كعادته ولن يكون لطيفًا وجميلًا كما اعتادت منه !! .
وبالفعل مر مايقارب الخمس دقائق بضبط وعيناه معلقة على ساعة الحائط لا تنزل عنها وعند الدقيقة الخامسة فتحت الباب ودخلت وهي تحمل بيدها أكياس طعام فحدجها بنظرة جديدة تمامًا منه اربكتها وجعلتها تغلق الباب بهدوء وهي تحاول إخفاء توترها من نظرته الغريبة حتى سمعت صوته وهو يسألها بخشونة :
_ روحتي فين ؟
رمقته بنظرة زائغة ومرتبكة بعد سمعت نبرته الجديدة تمامًا على مسامعها وتمتمت في تلعثم :
_ نـ..نزلت اشتري كام حاجة من السوبر ماركت اللي جمبنا
عاد يسألها ولكن بصرامة أشد :
_ وأنا منبه إيه عليكي ؟!
التزمت الصمت وهي تجفل نظرها أرضًا في خجل وضيق عندما تذكرت تنبيهاته لها لتسمعه يقول في نبرة لا تحمل أي رفق أو حنو :
_ ردي !!
غمغمت وهي لا ترفع نظرها له وبوجه واضح معالم الندم :
_ منبه إني مطلعش من البيت
_ والسبب ؟!
هنا رفعت نظرها له وحدجته بصمت للحظات فتجده يهز رأسه وبنظرة قوية يخبرها من خلالها أن تجيب على سؤاله فتقول بتوتر وأعين على وشك أن تجتمع بها الدموع :
_ عشان ميستغلش الفرصة ويحاول يأذيني
ليتزين وجهه بابتسامة مخيفة ويكمل بنفس حدته في الكلام :
_ طيب ما إنتي عارفة أهو كل حاجة ، يتطلعي وحدك ليه بقى ؟!
شعرت بغصة مريرة في حلقها وأنها على وشك البكاء فشدت على محابس دموعها وقالت بصوت ضعيف :
_ أنا آسفة !
ارتفعت نبرة صوته قليلًا وهو يقول بانفعال :
_ اعتذارك مش مقبول ياشفق .. لإن اللي حصل ده إهمال منك ، لما امسكه واخلص عليه سعتها مش همنعك وتقدري تطلعي زي ما إنتي عايزة لكن أنا بحاول احميكي واحافظ عليكي عشان دي مسئوليتي تجاهك وإنتي مهملة ، اللي حصل النهردا ده ميتكررش تاني مفهوووم
كان توبيخه لها قاسي بشدة وبالأخص لأنها لم تعتاد منه على التوبيخ والحدة في الكلام ، وفقط اعتادت علي لطافته ومعاملته الطيبة ورقته في الحديث ، فتركت كلماته ونظراته ونبرته أثرًا سلبيًا في نفسها الرقيقة ونجحت دموعها في اختراق الحصون حيث هطلت على وجنتيها وهي تهز رأسها له بالموافقة والخضوع ثم اندفعت نحو غرفتها تنعزل فيها قليلًا عن أي شيء !! .
***
نزلت ملاذ من الدرج وهي تلقي عليهم تحية الصباح ثم انضمت لهم على المائدة ، وكانت ترتدي بيجامة منزلية لطيفة وهادئة ، فكانت نظرات الأربع نساء معلقة عليها وكانت نظرات الجدة وميار مليئة بالحقد والغل على عكس هدى ورفيف التي كانت عادية تزينها ابتسامتهم الصافية ! .
ثم هتفت هدى متعجبة عندما انتظرت للحظات أن يأتي ابنها خلفها وينضم لهم أيضًا ولكن لم يأتي :
_ زين لسا نايم ولا إيه ياملاذ ؟!
هزت رأسها بالتفي واجابت عليها في أدب وابتسامة عذبة :
_ لا زين طلع من الساعة 7 عشان معاه شغل مهم واجتماع وقالي إنه هيخلص وياجي يعني ممكن كمان شوية وياجي
_ طلع من غير مايفطر ؟
زمت شفتيها للأمام تؤكد على سؤالها بالإيجاب لتسمع صوت الجدة وهي تهتف بحزم ونظرة متقدة :
_ مينفعش تخلي جوزك يطلع من غير فطار
هي تحاول تمالك نفسها أساسًا وهذه المرأة هي وحفيدتها الافعى يحاولون استفزازها ولكنها ستكون أكثر أدبًا ولطفًا فقط احترامًا لزوجها وقالت في وجه نجحت في رسم الابتسامة عليه بصعوبة :
_ والله حاولت معاه بس هو كان مستعجل وحضرتك عارفة إنه عنيد أكيد ، وقالي هيفطر في الشركة واتصلت بيه قبل ما انزل ليكم عشان اتأكد قالي فطرت
قالت ميار بنبرة ماكرة قاصدة اوقاعها في الكلام :
_ على حد علمي إن زين مبيطلعش من غير فطار أبدًا ومش بياكل من restaurants ( مطاعم بالألمانية )
” إنتِ اصمتي ولا تتحدثي أبدًا فكم أود أن اقبض على رقبتك واخنقك لاحبس انفاسك للأبد ” قالتها ملاذ في قرارة نفسها وهي تحدقها بأعين كلها شرارات الغضب ثم قالت باقتضاب :
_ اهاا عندك حق ، بس أصل في حاجة كدا مضايقاه وسدت نفسه عن الأكل ، تحبي تعرفي إيه هي ؟!
وضعت رفيف الجالسة بجوارها كفها على قدمها من اسفل المائدة لتهدئها وهي تنظر لها بابتسامة مزيفة ففهمت ما ترسله إليها من خلالها لتصمت وهي تصر على أسنانها بغيظ أما الجدة فقد ابتسمت بلؤم وتبادلت النظرات هي وحفيدتها ، وعندما لاحظت نظراتهم شعرت بأنها ستفقد زمام نفسها فهبت واقفة وهي تعتذر منهم وعادت لغرفتها لتتأفف هدى بخنق وتنظر للجدة في جدية وضيق ، فتبادلها هي نظرات غير مكترثة ، وكذلك رفيف التي لم تتحمل الأجواء الموترة للأعصاب واستقامت وهي تقول :
_ أنا رايحة الشغل ياماما عايزة حاجة
_ لا ياحبيبتي عايزة سلامتك خلي بالك من نفسك
اماءت لها بالموافقة ثم اتجهت نحو الباب وفتحته فتندهش بأخيها وهو يحدقها بحنو ثم دخل وبدأ في نزع حذائه عنه وهو يقول :
_ السلام عليكم
ردوا عليه جميعهم تحية السلام فيما عدا ميار ثم اقترب من أمه وقبل رأسها واتجه لجدته يمسك بكف يدها ويطبع عليه قبلة ، فترتب على كتفه في حب ليسمع صوت والدته تقول :
_ اقعد افطر ياحبيبي
_ فطرت الحمدلله ياماما .. امال فين ملاذ مش بتفطر معاكم ليه ؟
اجابته هدى في اختناق :
_ طلعت دلوقتي على الأوضة
حدق بها بأعين تحاول قراءة ما يحدث بسبب نبرتها ونظرتها ولكنه فشل فسأل في ريبة :
_ ليه !
القت أمه نظرة ممتعضة على الجدة بها شيء من عدم الحيلة لينقل نظره هو لجدته وسرعان ما توقع الذي حدث لتتبدل حالته من الهدوء والبشاشة إلى الضجر وكانت نظرته لجدته كفيلة لتوضح كل شيء يود أن أن يقولها لها ثم تركهم واتجه نحو غرفته ، وكانت ميار تتحرق غيظًا فهو لم يلقي عليها نظرة واحدة فقط وكأنها نكرة !! .
***
فتح الباب ثم دخل واغلقه خلفه بهدوء ليلقى نظرة عليها فيجدها تجلس على حافة الفراش وساقيها تهتز بعنف من فرط غيظها وتفرك اصابعها ببعضهم ، فزدادت ريبته وظن بأن الأمر جديًا بالفعل بما إنها غاضبة لهذه الدرجة ، اقترب منها ليجلس بجوارها هامسًا في خفوت :
_ حصل إيه تحت ؟!
نظرت له وقالت في اقتضاب وأعين تشتعل بنيران حمراء :
_ محصلش حاجة بس لو كنت قعدت ثانية واحدة كمان كان هيحصل وكنت هتاجي تلاقيني جايبة بنت عمك الحرباية دي من شعرها
لم يبدي أي ردة فعل وبدا هادئًا تمامًا وهو يعاود سؤالها :
_ حصل إيه للعصبية دي كلها ؟!
لم تجيبه على سؤاله ولكنها عادت تعيد ما قالته تلك الأفعى الشقراء ، تقلدها بحركات يد مضحكة :
_ اللي أعرفه إن زين مش بيطلع من غير ما يفطر ومش بياكل من restaurants .. بنت مستفزة صحيح !!
ثم عادت تثبت نظرها عليه وهي تهتف في أعين نارية وملتهبة بنيران الغيرة :
_ هي تعرف منين إنك مش بتطلع من غير فطار ومش بتاكل من مطاعم !!
انحرفت شفتيه لليسار قليلًا لتظهر عن ابتسامة خفيفة ، حين رأى نيران الغيرة بعيناها وهي تأكلها أكل وقال بصدق وهو يضحك :
_ هي قالتلك كدا !!! ، معرفش عرفت إزاي ممكن تكون جدتي قالت ليها !
_ بس وحياتك لاوريها البنت الرخمة دي
هتف ببساطة وابتسامته لم تفارق شفتيه :
_ أنا مش قولتلك نرجع بيتنا أفضل بس إنتي اللي صممتي إننا ناخد الأسبوع هنا
هدرت في إصرار شديد وعدم تنحي عن قرارها :
_ أيوة ومازالت عند قراري ويا أنا يا هي عشان تحرم بعد كدا ما تفكر مجرد التفكير فيك
عقد حاجبيه وتمتم في عدم تصديق بوجه سمح :
_ إنتي غيرانة للدرجة دي بجد ياملاذ !!
توترت وتلعثمت بعدما سمعت ما قاله ولم تعرف بماذا تجيبه ، فهيمن عليها الصمت القاتل للحظات وهي تحدق به فقط وتصرخ بعقلها قائلة ” هيا اسعفني بسرعة ماذا اجيب عليه ! ” وبعد ثلاث ثواني اشاحت بنظرها عنه وهي تهتف في استحياء وصوت مضطرب :
_ لا مش غيرة بس هو الكائن ده كل ما بيتكلم بيعصبني
أطلق ضحكة مرتفعة على كلماتها لتسترسل هي حديثها بغطرسة :
_ وبعدين أغير إيه ! ، أنا أغير من دي !! .. ميار دي آخر بنت ممكن أغير منها وهي معصعصة كدا وشبه خلة السنان ، ثم إني اعقل وانضج بكتير من كدا ، شغل الغيرة ده للبنات التافهة ، لإن الغيرة دي اعتراف مباشر من المرأة إن في واحدة تاني اجمل منها وأنا الحمدلله واثقة في نفسي
كلامها متناقض إلى الحد الذي جعله ينفجر ضاحكًا ، فهي تقول بشكل مباشر أنها لا تغار وهي تشتعل من نيران الغيرة وكلماتها التي كلها ذم في ابنة عمه تثبت هذا ، ليجيبها من بين ضحكاته :
_ امممم مهو واضح فعلًا إنك مش غيرانة منها
لم تثبت نظرها عليها واعطته نصف استدارة وهي تجلس على الفراش لتوضح له احتجاجها على سخريته منها ، فتشعر بجسده يلتصق بها ويحاوط كتفيها بيديه ثم يبعد خصلات شعرها عن عنقها وظهرها وينحني برأسه ناحية أذنها هامسًا في نبرة وقع أثرها على جسدها كرياح باردة في ليلة شتاء مثلجة :
_ في بنات كتير احلى منك أكيد ، بس في نظري أنا مفيش بنت في جمالك ولا احلى منك
ثم ابعد شفتيه عن أذنها ونزل بها إلى رقبتها اسفل أذنها بالضبط طابعًا قبلة عميقة وبعد لحظات طويلة رفع شفتيه وانتظر أن يرى ردة فعلها ولكنها كانت كالصنم لا تصدر أي صوت أو حركة فقط تفغر شفتيها وعيناها بصدمة ، ليبتعد عنها تمامًا وهو يبتسم ثم يتجه إلى الحمام وبمجرد رحليه التفتت هي ناحية الحمام ووضعت يدها على رقبتها مكان قبلته وهي لا زالت في حالة ذهول لا تستوعب ما حدث !! .
***
حل المساء واسدل الليل ستائره المظلمة ليرتفع ضوء القمر المكتمل في السماء والنجوم الساهرة تعطي منظرًا جميلًا ومريحًا للأعصاب .
فتحت هي عيناها واعتدلت في جلستها بعدما أدركت أنها غفيت على مقعدها الهزاز في الشرفة دون أن تشعر وفركت عيناها بخمول ثم هبت واقفة ودخلت للغرفة واغلقت باب الشرفة لتسدير وتعود لفراشها .. مددت نصف جسدها السفلي وجذبت الغطاء عليه ثم رفعت نظرها إلى ساعة الحائط فوجدتها تخطت الثانية عشر بعد منتصف الليل ، لتتنهد بأسى وتسأل نفسها بحزن هل هو غاضب مني لهذه الدرجة فهو لم يتأخر خلال الأيام السابقة لهذا الوقت أبدًا !! .
وظلت لدقائق مثبتة نظرها على الساعة وهي تحاول تهدئة نفسها بأنه سيأتي الآن وسرعان ما علت ابتسامتها لشفتيها العابسة حين سمعت صوت باب المنزل ينغلق ، ولكن أخفت ابتسامتها وبقيت كما هي على وضعها ترسم العبوس من جديد على محياها لتوهمه بأنها أيضًا غاضبة من طريقته الجافة معها في الصباح ، وانتظرته للحظات لكي يدخل وحين فتح الباب فتحة بسيطة والقى نظرها عليها هخانتها نظراتها ونظرت له ولكنها اشاحتها فورًا عنه ليفتح هو الباب كاملًا ويدخل ثم يغلقه خلفه ويقترب ناحيتها وهو يلف كلتا ذراعيه خلف ظهره يخفي شيء مجهول كانت ستحترق من فرط فضولها لمعرفته ! ، وحين رأته يجلس بجوارها على الفراش وهو يطالعها بتعويذة شفتيه الباسمة فرفعت رأسها بسيطًا للأعلى رافضة النظر له متصنعة الثبات أمام نظراته وابتسامته وتحدث نفسها بتحدي ” لا مش هضعف قدامه .. مش هضعف !! ” وسرعان ما تراجعت حين سمعته يهمس في نبرة نجحت في اوقاعها بشباكه مثل كل مرة :
_ أنا آسف !
خنثت وعدها مع نفسها دون تفكير حيث نظرت لها وهي تظهر جزء بسيط من ابتسامتها التي اتسعت بشدة واظهرت عن اسنان ناصعة البياض عندما وجدته يسترسل في اعتذاره الجميل مثله :
_ عارف إنك زعلانة مني ! ، أنا آسف مكنش قصدي اتعصب عليكي أو اتكلم معاكي بطريقة قاسية سامحيني ، أنا حبيت آجي اعتذرلك ومتأكد إن قلبك طيب ومش هتكسفيني وطبعًا مينفعش آجي اعتذرلك وأنا إيدي فاضية
ثم أخرج يديه الذي خلف ظهرها وهو يمسك بهما عبلة من أفضل أنواع الشوكولاته واغلاها ، لتحدق بالعلبة المتوسطة والممتلئة بأنواع مختلفة من الشوكولاته في ذهول وصاحت في عفوية وسعادة :
_ الله !!
ضحك بخفة وقال في نبرة دافئة :
_ من خلال معرفتي المحدودة مع رفيف اللي أعرفه إن البنات كلها بتحب الشوكولاته فقولت اصالحك بدي واتضح إنك من عشاقها غالبًا
جذبت العلبة من يده وفتحتها وهي تحدق بالأنواع المختلفة ثم نظرت له وقالت بفرحة شبيهة بفرحة طفلة :
_ كله ده ليا وحدي بجد .. أنا بعشق الشوكولاته بطريقة متتخيلهاش
وبدون تفكير غارت عليه وهي تعانقه وتلف ذراعيها حول رقبته هاتفة بامتنان ونبرة عاشقة :
_ ميرسي جدًا ، ربنا يخليك ليا ياكرم
دهش في باديء الأمر من حركتها المفاجأة وتعلثم كعادته ولكنه مد يده وملس على ظهرها في حنو ورقة وهو يبتسم ثم ابتعدت هي عنه وفتحت العلبة من جديد والتقطت أحد الأنواع المفضلة لديها وبدأت تأكلها برقة وبمجرد ما أدخلت قطعة صغيرة في فمها أصدرت أنينًا متلذذًا وهي تبتسم ومغمضة عيناها ، ليجدها تصدر حركات طفولية بجسدها وهي تضحك قائلة :
_ الله حلوة أوي ، نفسيتي كانت محتاجة ده بجد !
قهقه بقوة على حركاتها العفوية لتطالعه هي بابتسامة بها شيء من الحياء البسيط ثم مدت يدها بقطعة شوكولاته إلى فمه لينفر هو قائلًا بنفور :
_ تؤتؤ مش بحب الحجات دي مليش فيها
رمقته بنظرة حادة وقالت بحدة مزيفة ونبرة آمرة وهي تخفي ابتسامتها بصعوبة :
_ افتح بقك
فتحه مغلوبًا على أمره لتضعها في فمه فيغلق هو فمه ويأكلها وعلامات النفور والتقزز بادية على ملامحه ، فتضحك هي على منظره وتقول ساخرة :
_ طيب والله طعمها جميل جدًا ، ده أنا أخدت pour رهيبة بسببها
ليجيبها وهو لا يطيق ذلك الشيء الذي وضعته في فمه :
_ أمممم جميلة فعلًا !!
ثم التفت خلفه وجذب كوب الماء الممتلئ على المنضدة الصغيرة وشربه دفعة واحدة ليزيل ذلك الطعم الذي يشعره بالرغبة في التقيأ ، ويعود يكمل ببساطة :
_ أنا عدو الحلويات وأي حاجة مسكرة وعندي حساسية منهم
شهقت بفزع وقالت في خوف حقيقي :
_ يعني اللي اكلتها دي هتتعبك !
هز رأسه نافيًا وهو يبتسم بلطافة متمتمًا :
_ لا مش هتعملي حاجة متقلقيش
لتأخذ نفسًا عميقًا بارتياح وتجده يهتف بمرح يسرق القلب :
_ هااا نقول صافي يالبن خلاص ؟
أصدرت ضحكة انوثية رقيقة وهي تفتح شفتيها باتساع وتجيبه مبادلة إياه نبرته المرحة بنبرة قاصدة من خلالها التغزل به :
_ حليب ياقشطة
أكمل مداعبته لها بعدما فهم نبرتها الخبيثة ونظرتها وقال ضاحكًا :
_ أنا بتعاكس ولا بيتهألي !!
انطلقت منها ضحكة متأججة وقالت هي ترفع سبابتها متصنعة البراءة :
_ لا متفهمنيش صح !
نجحت في اطلاق ضحكته المرتفعة والجميلة وغمغم مشاكسًا :
_ هحاول افهمك غلط !
ثم هب واقفًا واتجه إلى الخزانة وأخرج ملابس المنزل خاصته واتجه إلى الحمام ليبدل ملابسه وهو يلقي عليها نظرة باسمة وبمجرد ما ان دخل واختفي عن انظارها أصدرت تنهيدة حارة وهي تبتسم بهيام ، فقلبها يتعمق كل يوم أكثر في عشق فريدها ووسيمها !!! …………
***
فتح حسن باب المنزل ودخل ثم اغلق الباب خلفه وبدأ في نزع حذائه عنه وإذا به يسمع صوتها وهي تتحدث في الهاتف فاسرع في نزع حذائه واندفع نحوها بعدما توقع مع من تتحدث وبالفعل بمجرد ما أن وقف أمامها مدت يدها له بالهاتف وهي تبتسم بلؤم :
_ خد كلم مامتك
اشتعلت نظراته وحدجها شزرًا ثم جذب الهاتف من يدها بعنف ووضعه على أذنه يجيب على أمه بمضض :
_ أيوة ياماما
اتاه صوت أمه الضاحك وكانت في قمة سعادتها :
_ الف مبروووك يابني أخيرًا ياحسن هشيلك ولاد ياحبيبي .. الفرحة مش سيعاني والله
القى نظرة مرعبة على يسر وهمس لها في وعيد حقيقي :
_ وحياة أمي لأربيكي
ثم عاد يجيب على أمه باقتضاب :
_ الله يبارك فيكي ياماما
_ خلي بالك من مراتك ومتخليهاش تتعب في البيت ولو زعلتها ياحسن حسابك معايا أنا ، الزعل وحش على الجنين وأنا عايزة حفيدي ياجي صحته زي الفل
_ حاضر
قالها بامتعاض حتى ينتهي من هذا الحديث المستفز ويتفرغ لتلك الأفعى ويلقنها الدرس الذي تستحقه ، ولكن بمجرد ما أن انتهت والدته أخذت منها الهاتف الجدة وهي تلقي التهئنات عليه وسعادتها لا تختلف عن هدى كثيرًا وهو يكاد يشعر بأنه سينفجر من الغيظ وحين انتهى من حديثه معهم القى بالهاتف على الأريكة وصرخ بها بوجه عبارة عن بركان خامد مازال لم ينفجر حتى الآن :
_ أنا قولتلك إيه الصبح !
تجاهلت كلامه وعصبيته وقالت ببرود :
_ وأنا قولتلك إني مش هنزله
ثم أكملت بخبث :
_ تخيل مرات عمي تعرف بإنك عايز تطلقني وإنك مش عايز الطفل وعايزني انزله ممكن يحصلها إيه وهي تعبانة وعندها القلب
قبض على ذراعها بعنف وصاح في صوت جهوري :
_ هتنزليه يايسر .. وزي ما بتمثلي وبتكدبي هتكدبي وتقولي إنه الحمل مكملش واجهضتي
ابتسمت بمرارة وقالت في خذي :
_ إنت إزاي كدا ! ، إزاي قاسي بالشكل ده ، مفيش ذرة رحمة في قلبك .. الطفل وفهمنا إنه مش فارق معاك طيب وأنا !! إنت بتعرض حياتي للخطر باللي بتطلبه مني ، عمليات الإجهاض دي بتبقى خطيرة هيكون إيه منظرك قدام نفسك وضميرك لو عملتها وحصلتلي حاجة أو مت
ثم دفعت يده عنها وقالت بنفس نبرتها السابقة :
_ ده ابنك !! ، أنا كان عندي أمل إنك على الأقل تقول ده ابني ومش هفرط فيه حتى لو إنت مش عايزني وجوازنا ممكن ميكملش بس مكنتش منتظرة منك كدا ومتوقعتش إنك تطلب مني انزله وتجازف بحياتي
قرب وجهه منها وقال في قسوة تليق به وبنظراته القاتلة غير مباليًا لأي مما قالته ، فالآن هو لا يرى شيء سوى ذلك الطفل الذي سيربطه بها للأبد ويريد التخلص منه بأي شكل ممكن :
_ وأنا مش عايزه عشان منك وإنتي امه يايسر
غامت عيناها بالعبارات بعدما احست بسكين رشقت في يسارها بسبب كلماته المسمومة ، في كل يوم تقول بأنها ستصل لمبتغاها حتمًا ولكن يأتي هو ويعيدها للصفر بقسوته ، وكانت قد سعدت اليوم بخبر حملها واعتقدت بأنه فرصة اهداها إياها الله لتتمكن من كسب قلبه ويكون لديها وقت أكثر وكانت قد عزمت على استغلال هذه الفرصة أفضل استغلال ولكن دون فائدة .
هاجت عواصفها واغتاظت بشدة منه حتى وجدت نفسها تهتف بعدم وعي :
_ مفكرتش في الكلام ده ليه يوم لما جيت سكران ومش في وعيك واستغليتني ، مفكرتش ليه في النتيجة دي وحسبتلها حساب ، جاي دلوقتي تقولي الكلام ده !! ، بس أنا غبية فعلًا أصل منتظرة إيه من واحد عديم مسئولية وقذر وحيوان وسافل وميعرفش شيء عن الرجولة بالاسم بس راجل !
غلي الدم في عروقه وكأنها وضعته على موقد ملتهب ، وأخيرًا طففت حممه البركانية معلنًا عن انفجاره الحقيقي والمرعب وفقدانه التام علي السيطرة في أفعاله ، فلقد حذرها الاف المرات من أن تستفزه وتتخطي الحدود الحمراء ولكنها لا تفهم هذا ، والآن هي تستحق ما سيفعله .
نزل بكفه الكبير على وجنتها يصفعها بعنف ثم جذبها من خصلات شعرها إليه هامسًا بجانب أذنها في صوت يقذف الرعب في الأبدان :
_ هكتفي بكدا المرة دي لكن المرة الجاية مش هكتفي بده ، لإني جبت أخري منك خلاص ومبقتش طايقك ولا مستحملك
ثم دفعها بعدم اكتراث لتسقط على الأريكة ويبتعد عنها وهو يرمقها باشمئزاز وغضب عارم …. !!
***
داخل شركة العمايري في صباح يحمل الكثير من المفاجآت العجيبة …. !
كان علاء في مكتبه يقوم بإنهاء أعماله الخاصة وبينما هو منشغل ويثبت كامل تركيزه على عمله انتشله رنين الهاتف فكان سيتجاهله لولا أنه لمح اسم المتصل والذي كان والده ، ليتأفف بنفاذ صبر ويمسك بالهاتف وهو يجيب عليه مقتضبًا بعدما توقع سبب اتصاله :
_ الو يابابا
_ أيوة ياعلاء عامل إيه ؟
تمتم علاء في هدوء مختنق :
_ كويس يابابا .. إيه إنت امتى جاي ؟!
اتاه صوت ابيه الذي كان طبيعيًا في بدايته ومع نصف الكلام تغيرت نبرته تمامًا :
_ يومين كمان إن شاء الله .. روحت سلمت على جدتك ولا لا ؟!
كما توقع تمامًا سبب الاتصال وهاهو يتحدث عن الجدة وابنة العم الساقطة ليجيبه بثبات انفعالي :
_ لا مروحتش
جاءه صوت أبيه الحازم وهو يلقي عليه اوامره :
_ روح سلم عليها وجهز نفسك عشان لما آجي إنت عارف هيحصل إيه
صاح بأبيه مندفعًا في عصبية :
_ وأنا قولتلك يابابا مش موافق .. عايز تدبسني في ال**** دي ليه ، أنا مالي
هتف طاهر في غضب عارم :
_ امال عايزنا نتفضح ، هتتجوزها ياعلاء
هيمن عليه الصمت لثواني قليلة حتى لمعت عيناه بوميض مخيف وهو يقول بوعيد ونبرة لا تحمل في طياتها المزح أبدًا :
_ طيب طالما إنت مصمم معنديش مشكلة بس محدش ليه دعوة بقى باللي هعمله فيها تمام
لم يجيب عليه أبيه وفضل عدم الحديث الآن وحين يعود سيتصرف كما ينبغي مع الجميع وأولهم أمه وابنة أخيه التي تدللت زيادة عن اللازم ولم يكن هناك حارس على أفعاله فأقحمت نفسها واقحمتهم جميعهم في نازلة كبيرة !! ………
***
كان يجلس إسلام على المقعد وعيناه معلقة عليها وهي تتحرك هنا وهناك وتلقى الأوامر والتعليمات على الجميع حتى لا يتكاسل أحد منهم عن العمل لدقيقة ، وكانت شفتيه تنفرج لتظهر عن ابتسامة إعجاب .. فقد تمكنت من ترك بصمتها منذ أول مقابلة لهم في النادي بعدما سكبت القهوة على قميصه .. انتبه لنفسه بعد لحظات طويلة ولما يفعله فهز رأسه نافرًا تلك الأفكار اللعينة التي يفكر بها وهو يستغفر ربه .. بعدما عاتبه ضميره بشدة لأنه ينظر لها بهذه النظرات بعدما أمنه أخيها عليها ، فاشاح بوجهه عنه وهو بزفر بخنق ولكن صك سمعه صوتها وهي تنادي عليه :
_ بشمهندس إسلام تعالى لو سمحت لحظة
نظر لها وتنهد بيأس ثم هب واقفًا وقاد خطواته خلفها معتكزًا على عكازه ، حتى دخلوا لغرفة كبيرة بعض الشيء وكانت موجود عليها الكثير من الأوراق لتبدأ هي في إخراج الأوراق أمامه وتتحدث معه برسمية تامة على عكس عادتها وهي تملي عليه ماسيفعلونه بالضبط ليبدأ هو يشاركها الكلام ويعرض عليها وجهة نظره وبعد دقائق توقفت عن الحديث واطرقت رأسها أسفل مغمضة عيناها بتعب ليقول بريبة :
_ إنتي كويسة ؟!
_ آه كويسة دوخت بس شوية !
أجابته بصوت واهن ومرهق ليطيل النظر إليها بتدقيق من قسمات وجهها التي أصفر وجهها وبمجرد ما أن ازاح نظره عنها وعاد ينظر للأوراق ويتحدث من جديد ليجدها تفقد توازنها وتغمض عيناها معلنة عن تغيبها المؤقت عن الواقع وقبل أن تسقط يسندها بذراعه وجسدها يرتخي تمامًا .. اصابته الدهشة في باديء الأمر وهو يحدق بها وهي بين ذراعيها وفورًا قام بإنقاذ الموقف وإنقاذ نفسه حيث تحامل على قدمه بصعوبة بعدما سقط العكاز من بيده وسحب مقعد كان بعيد عنه قليلًا ثم اجلسها عليه بحرص شديد واسرع ليجلب كوب ماء ثم عاد لها وبدأ ينثر قطرات الماء على وجهها وهو يحدثها باسمها حتى تفيق ولكن دون فائدة فلجأ للحل الثاني ومد يده لانفها وبدأ يفرك بسبابته وابهامه على عظمة الانف العلوية وباليد الأخرى ينثر الماء و