رواية مواسم الفرح كاملة جميع الفصول بقلم امل نصر

رواية مواسم الفرح كاملة جميع الفصول بقلم امل نصر

رواية مواسم الفرح كاملة جميع الفصول هى رواية من تأليف المؤلفة المميزة امل نصر رواية مواسم الفرح كاملة جميع الفصول صدرت لاول مرة على فيسبوك الشهير رواية مواسم الفرح كاملة جميع الفصول حققت نجاحا كبيرا في موقع فيسبوك وايضا زاد البحث عنها في محرك البحث جوجل لذلك سنعرض لكم رواية مواسم الفرح كاملة جميع الفصول

رواية مواسم الفرح بقلم امل نصر

رواية مواسم الفرح كاملة جميع الفصول

بحالة من التيه والشرود دلف الرجل لداخل منزله يغمغم بالتساؤلات والكلمات الغير مترابطة، لقد تزاحمت الحيرة برأسه، ولم يعد يملك من أمراه شيئًا لأخذ قرار صائب في هذه المعضلة الغير مفهومة على الإطلاق، ظل على حالته حتى جلس على أقرب أريكة وجدها أمامه في قلب المنزل.
انتبهت إليه زوجته التي كانت خارجة من مطبخها لتقترب وتجلس بجواره مبادرة بالتساؤل:
-مالك يا راجح؟ إيه إللي جرالك يا راجل عشان تكلم نفسك؟
رفع رأسهِ إليها يرمقها بتنهيدة طويلة ليجيبها بقلة حيلة:
- محتار يا نعمات، محتار يا بت عمي ومش عارفة اعمل إيه في الورطة التي اتشبكت فيها كدة فجأة من غير ما اعمل لها حساب
هتفت زوجته سائلة بنفاذ صبر:
-محتار في ايه طيب؟ جول بقى وخلينا نفهم.
زفر يجيبها وهو يضرب كفيه ببعضها:
-بتك يا محروسة ست الحسن والجمال، ولاد عمها التلاتة متجدمين لها في وجت واحد، والتلاتة احسن من بعض، دا غير إن غير خواتي متعشمين فيا بزيادة، يعني لو جبلت طلب ده، هيزعل ده، دليني بجى.
ضيقت حاحبيها المرأة تردف بتساؤل:
-تلاتة مين غير عاصم وحربي؟ مين التالت؟
رد راجح بوجه تغضن بالتعب:
- واد اخويا عبد الحميد يا نعمات، الدكتور مدحت اللي لغبطلي الدنيا اكتر ما هي متلغبطة، دا جيمة وسيمة وما يتعايبش، بس كمان عاصم وحربي سبقوه، ولا ابن العمدة كمان، دا انا راسي هتنــ فجر من كتر التفكير، لا انا عارف ارد على ده ولا اجاوب ده، وخلاااص مخي وجف
سمعت زوجته لتقول بانفعال:
- وهو إيه اللي فكره ب بدور دا كمان؟ دا بجالوا اربع سنين غايب عن البلد من ساعة ما اشتغل في المحافظة البعيدة عنينا، دا غير انه كبير عليها والبت يدوبك ١٧ سنة.
بابتسامة لم تصل لعينيه، رد راجح على زوجته ساخرًا:
- يعني وتفتكري من مخك كدة هو فاكرها أصلًا؟ لكن امه يا حبيبتي، راضية مرت اخويا ولا انتي تايهة عنها، أكيد هي لما سمعت بولاد عمها وابن العمدة اللي متجدمين، وزت لابنها وخلت ابوه دلوجتي ويكلمني .
مصمصت نعمات تقول بحالة من الاستياء اصابتها على الفور:
- يعني هي دلوجتي بجت عاركة على بدور الصغيرة، طب ونهال اختها، دي تجول للقمر جوم وانا اجعد مطرحك، يعني نوافج بجوازة اختها قبلها ونسيبها، طب دا كدا حالها يوجف.
هتف راجح غاضبًا بزوجته:
-مين دي اللي حالها هيوجف ان شاء الله؟ دا انتي بنفسك جولتي انها زي القمر، وكمان هتبقى دكتورة كد الدنيا، يعني أكيد ما فيش خوف عليها، وبكرة تتجوز اللي يستاهلها.
غمغمت زوجته من جواره تردد بالدعاء من أجل ألا يخذل الله ابنتها، ويعطيها خير الزوج، لتتشارك مع زوجها الحديث بعد ذلك في البحث عن حل سريع لهذه المشكلة التي تقابلهم.
غافلين عمن كانت تقف بالقرب منهم وقد سمعت كل الحديث الذي دار عنها وعن شقيقتها وهذا الطبيب ابن عمها والتي لم تتوقع باقصى خيالها ان يصدر منه هذا هذا الفعل، لتترك محلها وتذهب بخطوات مسرعة نحو غرفتها لترتمي على فراشها تذرف دموع الكسرة والحزن على حلم عمرها الذي تحطم هكذا وبكل سهولة، لقد كان فارسها المنتظر، كان القدوة التي تسعى وتجاهد من أجله حتى تصل إليه، لقد كان الحلم لا بل الوهم الذي تعلقت به.
ظلت تبكي وبحرقة حتى انها لم تنتبه لشقيقتها التي دلفت لغرفتها وحينما رأت هذا المشهد القت بجــ سدها جوارها على التخت لتسألها بهلع:
-نهال يا اختي، مالك يا حبيبتي ايه اللي صابك عشان تبكي بالحرقة دي؟
رفعت نهال وجهها المغرق بالدموع عن الفراش لتطالع وجه شقيقتها، لا تقدر على كرهها او الحقد عليها، وما ذنبها إن كانت جمالها الفاتن يجذب الأنظار نحوها، لون عينيها المختلط بعدة الوان متدرجة بين الأخضر والفيرزي وأحيانا الأزرق، بغرابة تجعل الجميع يحتار في لونه المحدد بالظبط لتجعلها قبلة للأنظار والإفتتان بها.
سألتها شقيقتها باستغراب لصمتها:
-ساكتة وبتبصيلي كدة ليه؟
اعتدلت نهال بجذعها لتجيب وهي تمسح سريعًا على وجنتيها اثار الدموع:
-ما تشغليش انتي نفسك يا بدور، اهي حاجات بسيطة وبتخلي الواحد يبكي احيانًا ومن غير سبب معين.
اعترضت بدور ترد على قولها بتشكك:
-كيف يعني بسيطة ومن غير سبب معين؟ ما تجولي يا نهال، ايه اللي مزعلك وخلاكي تبكي؟
حركت المذكورة رأسها بتعب ترد بعدم مقدرة للجدال:
-ابوس إيدك يا خيتي، سبيني في حالي دلوك، حن عليكي ياشيخة ماتسألنيش
تطلعت إليها بدور بصمت، ورغبة قوية تحثُها على المواصلة في الإلحاح، ولكنها استجابت في النهاية بناءًا على رغبة شقيقتها، لتنهض عن الفراش بجوارها وتقول بعدم رضا:
- زي ما تحبي يا خيتي، انا ماشية وسيباكي في حالك، على الله بس تجي بعد كدة وتطمنيني، او ربنا يزيح عنك الحاجة اللي تعباكي.
قالت كلماتها وانصرفت على الفور مغادرة، لتترك نهال تراجع نفسها، فلماذا تغضب من شقيقتها وتأتي باللوم عليها؟ وهي الصغيرة في السابعة عشر من عمرها، العيب عليه هو الطبيب الناضج، والذي تعدت سنوات عمره ما يقارب الضعف لها، اي لا يحق له التفكير بهذه الصبيانية والجهل.
❈-❈-❈
في هذه الليلة ظل الرجل على حالة الحيرة باتخاذ القرار الصائب في اختيار الرجل المناسب من بين الثلاثة ابناء أشقاءه أو المدعو عاصم ابن العمدة، وفي نفس الوقت يمتلكه الخوف من ظلم نهال بتزويج شقيقتها قبلها، لذلك ظل على حاله حتى أذن الفجر، صلى الفرض وبعدها حسم واتخذ القرار،
خطف ساعتين من النوم ثم نهض وجمع جميع ابناءه ومعهم زوجته، حتى يستشيرهم في قراره، لذلك كانت المبادرة بسؤال نهال:
-نهال يا بنتي، جاوبيني بصراحة كدة، بما انك مصممة على انك تكملي تعليمك، هتجبلي اختك الصغيرة تتجوز جبلك؟
أجابته المذكورة بدون تردد:
يا والدي انا اتفجت معاك من الأول على اني هكمل تعليم، يعني مش معقولة اختي تستناني ٧ سنين على ما اتخرج، اتوكل على الله لو عايز تجوزها، وانا نفسي راضية
اومأ لها يردد بارتياح:
- على بركة الله يا بنتي وانا معاكي وف ضهرك، وان شالله حتى تكملي الدكتوارة، زي واد عمك مدحت.
ابتعلت الغصة المسننة بحلقها نهال وقد ذكرها ابيها بهذا الجرح الذي شطر قلبها من الحزن، بعد ان علمت بطلب المذكور للزواج من شقيقتها، وهي التي كانت تراه دائمًا فارسًا لأحلامها، وقد تبخر الحلم الاَن، بما علمته،
اكتفت بهز رأسها صامتة لتتابع بعد سؤال أبيها لشقيقتها:
- بدور يا بنتي، الدور عليكي عشان تقولي رأيك، عيال عمك التلاتة طالبينك، مدحت وعاصم وحربي، وعليهم كمان معتصم ابن العمدة ، شوفي بقى انتي موافقة على مين فيهم؟
تطلعت نهال لوجه شقيقتها، والتي بدا عليه الحيرة هي أيضًا، وبداخلها تقسم انها سوف تنسى عشق ابن عمها الطبيب، لو كان هو الإختيارها، اما بدور فظلت على صمتها لعدة لحظات حتى هتف بها أباها مرة اخرى:
- ها يا بنتي اختارتي مين فيهم؟ قولي بقى وارسي على رأي .
ردت بدور بنظرة ضائعة:
-مش عارفة يابوي، هما كلهم ميتعيبوش، وانا بصراحة محتارة اختار، اللي تقول عليه إنت انا موافقة عليه.
اصدر راجح تنهيدة طويلة ثم قال:
- الله يريح جلبكم ، انتو كدة ريحتوني، ربنا يرضى عنكم .
تدخلت زوجته في الحديث سائلة باستفهام:
- يعني إيه يا ابو ياسين؟ انت دلوك هتختار مين فيهم؟
نهض راجح فجأة عن مقعده ليجيبها على عجل:
- انا مش هختار واحد فيهم واخسر حد من خواتي عشمان في نسبي، هسيب المهمة دي لأبوي وهو اللي يحكم فيها، واللي يحكم بيه انا موافج.
❈-❈-❈
في منزل عبد الحميد
جلجلت راضية بلهجة ساخطة لزوجها:
- ياعنى ايه الكلام ده؟ اخوك بيحط كفة ولدي مع التلاتة اللي الباقين، ويسيب ابوك هو اللى يحكم؟ هو هيلاجى زي نسبك ولا هيلاجى زى ولدى؟ دا دكتور كد الدنيا هو اخوك اجن مش عارف يميز؟
زجرها عبد الحميد بنظرة مخيفة ليهدر بوجهها:
- لمى نفسك ومتغلطيش يا راضية، انا اخويا سيد الرجال، ويعمل اللي على كيفه، هو بس مش عايز يزعل حد من خواتى ودي مفيهاش عيبة.
صاحت راضية بعدم اكتراث:
-بس انا ولدي مش صغير عشان يتساوى بالعيال دي، ولدي زينة الشباب في البلد كلها.
صاح عبد الحميد بنفاذ صبر:
-أخويا مش رافضه، لا بالعكس بقى، دا بيتمناه لبته، لكنه برضك هيمشي بالعدل.
اصدرت بفمها صوت استهزاء لتردف ساخرة:
- ياعنى على كده عم ياسين هايحطهم قصاد بعض ويعمل حادى بادى ولا هايعمل قرعه واللى يكسب هو اللى يتجوز السنيوره
ضرب عبد الحميد بكفيه، وقد ضج منها ومن حديثها المستفز ليردد بنزق:
- اللهم طولك ياروح، يا راضية لمى نفسك انا ماعنديش مراره لمسخرتك دى، وخلينا ف المهم... نبهتي على ولدك يجى ولا هايعمل زى كل مره ومايجيش.
ردت تجيب بجدية:
-لا طبعا، دا انا مسبتوش غير لما أكد أنه هيجي، دا جواز يعني لازم يحضر بنفسه.
تنهد عبد الحميد يتمتم بتمني:
- اللي فيه الخير يجدمه ربنا .
❈-❈-❈
يوم الجمعة
تجمعت العائلة في منزل الحاج ياسين الوالد وكبير العائلة، الرجال مع أبنائهم في مندرة المنزل، والسيدات مع الفتيات يساعدن في طهي الطعام وإعداد السفرة الكبيرة وأحاديث كثيرة لا تنتهي بينهن
-يعني انتي جوزك مكانش يقدر يحل الأشكال ده يا نعمات ويختار واحد ما بينهم، بدل ما نعملها قضية، وعايزة تحكيم من الراس الكبيرة.
هتفت بها راضية نحو المذكورة بتهكم اثار استياء المذكورة والنساء حولها لترد هدية زوجة محسن الشقيق الثاني لراجح قائلة بحدة:
- يعني على كدة لو كان وافج على ولدى حربى " ماكنتيش انتى هتزعلى يا راضية؟
تغضن وجه راضية بالغيظ، وقبل ان تجيبها تدخلت سميحة زوجة سالم الشقيق الاَخر لتردف بتحدي نحو الاثنتان:
- وان شاء الله بجى يوافج على ولدك ولا ولدها ليه؟ إذا كان ولدى عاصم هو اللى اتقدم الاول يبقى هو الاولى .
مصمصت راضيه ليخرج صوتها بتعالي زاد من إستفزار النساء:
- حربى ولا عاصم مين؟ ولا حتى معتصم واد العمده كمان، مين فيهم زى ولدى الدكتور اسم النبى حارسه
تدخلت نهال لتنهي الموقف قبل ان يتطور:
- صلوا عالنبى ياجماعه والله كلهم زين ومافيش حد فيهم يتعايب عشان كده ابويا احتار وساب الموضوع فى ايد جدى ياسين.
انتبهت لها هدية ترمقها بابتسامة متسعة وهو تقول لها:
- اللهم صلي عليه، اه منك انتى بس ياجمر ياما كان نفسى فيكى انتى لولدى بس اعمل ايه معاكي براسك الناشفة وانتي مصممه تكملى تعليم وتبقى دكتوره .. صح قوليلى اختك ست الحسن اللى عليها العين ماجتش ليه؟
اجابتها هذه المرة نعمات بعد فترة طويلة من الصمت اتخذتها بحكمة حتى لا تخطئ بكلمة مع واحدة منهن:
- جاعده فى البيت يا ام حربي، ايه لازمة جايتها معانا و هى خلاص سابت الاختيار لجدها؟
هنا تكلمت صباح شقيقة الرجال والأبنة الوحيدة للحج ياسين:
- عندك حق وصدقتي يا نعمات، هو دا الكلام الصح، وانتى وهى فضوها كلام بقى واللى رايد بيه ربنا هايكون
❈-❈-❈
والي جلسة الرجال في المندرة لم يختلف الأمر كثيرًا، ف الهمزات واللمزات كانت مستمرة، خصوصا نحو عاصم، والذي كان يزفر بضيق، لا تعجبه الجلسة وهذا الوضع من الأساس، شاكسه حربي بقوله:
ايه ياواد عمى ماتفرد وشك شويه، دا احنا مش في جنازة حتى.
التف إليه عاصم ليرد وهو يحدجه بنظرة غاضبة:
- وانت مالك يا بارد؟ ماهو انت لو محترم نفسك انت والمحروس التانى اللى عاملى فيها دكتور كبير ماكنش حد فيكم اتجدم بعدى وانتوا عارفين زين ان انا اللي متكلم عليها من زمان
رد حربي بسخرية:
- متكلم عليها من زمان، ياسلام يكونش كنت خطيبها وهى فى اللفه كمان؟
احتد عاصم يهتف عليه بانفعال:
- احترم نفسك بدل ما اعلمك الادب ياحربى انا على اَخرى أساسًا.
- ما خلاص انت وهو، بلاش رغي وحديت ماسخ، الأمر دلوقتي في يد جدكم، واللى هايجول عليه احنا موافجين
هتف بها سالم يحدجهم بنظرة محذرة، فتدخل محسن يخاطبه بقوله:
- ماهو كمان اخوك مسخها خالص يا سالم، ماكان خطبها لواحد وخلاص .
تدخل عبد الحميد بينهم يدلي بدلوه أيضًا:
- ياجماعه اخويا راجح غلبان مش عايز يزعل حد خصوصا بعد الزعله الكبيره اللى حصلت بينه وبين سالم بعد ما جوز بته الكبيره بطه لواد خالها ومجوزهاش ل بلال ولده
❈-❈-❈
وفي الجهة الأخرة دلف ياسين الصغير يركض نحو النساء الاَتي كنا في بهو المنزل يتعاون في ترتيب مائدة الطعام على السفرة الكبيرة، وهو يصرخ بصوته المرح:
-الدكتور مدحت وصل، الدكتور مدحت وصل.
توقفت النساء عما كنا يقمن به، لتتركز أنظارهن نحو مدخل المنزل، ليهل هو بهيئته المبهرة، حين ولج لداخل المنزل، ليخفق قلبها هي داخل صــ درها، بقوة كطبول أفريقية، وهي ترا بعينيها حلم طفولتها ومراهقتها بعد غياب سنين مرت، طوله المهيب، وعرض أكتافه على جسده المتناسق، النظارة التي كانت تعشقها على عينيه، يرتدي حلة باللون الرمادي أزادت من جمال هيئته
استفاقت من شرودها على صوت والدته التي هتفت من خلفها:
- اهو وصل اها، الدكتور اللي يستاهل ست الحسن والجمال وصل ونور البيت، حمد لله ع السلامة يا حبيب امك.
انتبهت لتعود لصوابها بعد انزاحت عن عينيها هذه الغشية الوقتية بصورة للحلم القديم الذي كان يسيطر على عقلها، وتذكرت فعلته بطلب شقيقتها ليترسخ بفكرها الصورة الصحيحة الاَن، أن يكون في سنه الوقور هذا وينظر إلى طفلة في عمر شقيقتها إذن هو رجل بفكرٍ سطحي.
فردت ظهرها ورفعت ذقنها للأمام تطالعه بنظرة نديه وهو يصافح النساء الاَتي كنا يرحبن به ويتسامرن ويتمازحن معه بالضحكات العالية، لتجده فجأة يشير نحوها متسائلًا:
- ودا مين الجمر اللى واقف مكانه ومتحركش يسلم عليا؟
لكزته عمته صباح على كتف ذراعه تخاطبه بحزم ضاحكة:
- طبعا ماانت بقالك ٤ سنين محدش شايفك يا خوي، قاعد فى البندر وماتعرفش العيال اللى كبرت ولا البنات اللى بجوا عرايس، دى نهال اخت العروسة، جدمى يا بت سلمى على واد عمك
قالت الآخيرة بأشارة إليها اضطرت على أثرها نهال، لتحريك أقدامها بصعوبة، ف اقتربت منه لتصافحه بكفها، وقلبها الخائن يرتجف داخل أضلعها، يعود لهذا الخفق القوي ببلاهة، ترسم الأتزان المبالغ فيه بجمود وأقدامها في الأسفل تكاد تستسلم للسقوط من فرط ما تشعر به في حضرته الاَن، بلمسة كفه التي أطبقت على كفها الصغير، ونظرة عينيه مع ابتسامة مشاغبة وهو يحدثها بإعجاب:
- بسم الله ما شاء الله ازيك يا بت عمي .
قالها وارتفعت عيناه نحو والدتها يقول بمشاكسة:
- ايه ياخالتى نعمات؟ هو انتى هاتفضلى كده على طول المورد الاول للبنات الحلوه فى العيلة؟
ضحكت نعمات لترد بتصنع الغضب:
- يا واد عيب عليك متكسفش البت، بس عشان تعرف يعني، البت دي دونًا عن أخواتها، احنا هنعلمها ومش ناوين نجوزها صغيرة، دى دخلت نفس كليتك وهتبقى دكتوره زيك، يالا شد حيلك عشان تساعدها
- انا مش محتاجه مساعده من حد .
قالتها نهال بعصبية وانفعال ظهر بقوة مع احمرار بشرة وجهها من الغيظ، وهذه النظرة الشرسة التي كانت تحدج بها والدتها، لتفاجأ برده المباغت:
- ياسلام! ومالك متعصبه جوي كده؟
❈-❈-❈
تمالكت تدعي التحدي بنظرة ندية تواجه بها سهام عينيه المصوبة نحوها لتبعث رعشة داخلها تجاهد بكل ما أؤتيت من قوة لعدم إظهارها أمامه:
- انا مش متعصبه ولا حاجه انا بس قولت مش عايزه مساعده من حد
- وانا اى حد يابت؟ انا واد عمك
تفوه بها ليزيدها تشتيتًا، وقد بدت نظرته تلتمع بشئ آخر لا تفهمه، ورغم كل ما تشعر تجاهه، تمكنت من الرد وهي تهز بأكتافها وتبتعد بعيناها عنه بعدم إكتراث تدعيه:
-حتى لو كنت واد عمي، برضوا انا مش محتاحة مساعدتك، وع العموم كتر خيرك.
-كتر خيري!
رددها بذهول خلفها، وأنظاره ثبتت عليها لا تريد الحيد عنها، حتى مع نداء عمته عليه لعدة مرات عليه، استجاب ليرفع عينيه عنها بصعوبة، ليجيب المرأة:
- أيوة يا عمتي.
سألتها المرأة على الفور بلهفة:
- ما جولتش يا دكتور، شوفت بقى بدور فين عشان تتجدملها، دا احنا بجالنا سنين مشوفنكاش.
عادت نهال بعينه إليه هذه المرة لتسمع الإجابة، وكأنه كان بانتظارها، التقط نظرتها العفويةنحوه ليصمت قليلًا قبل أن يجيب وابصاره نحوها:.
- لا ما انا شوفتها صدفة الجمعة اللى فاتت عندنا فى البيت لما جيت البلد خطافي كدة اسلم على أهلي واقعد معاهم ساعتين قبل ما ارجع لشغلي كالعادة، شوفتها مع نيره اختى ودي كانت اول مرة اشوفها من سنين، عشان اتفاجأ بيها زي ما انا اتفاجأت بنهال دلوك.
سمعت المذكورة لتبتعد بعينيها عنه مرة أخرة متنهدة بنزق، قبل أن تلتفت على رد والدتها:
- اه افتكرت، ساعة ما اختك اتصلت ببنتي وقالت عايزاكي في حاجة ضروري عشان تروحلها مخضوضة...
أوقفت لتتحول انظارها نحو والدته موجه باقي الكلمات:
- اَه منك انتي يا راضية، تجتلى الجتيل وتاويه ومحدش يحس بيكى .
عقبت على كلماتها المذكورة:
- وانت زعلانه ليه بجى؟ هى راحت بيت غريب مثلًا، دا بيت عمها ودا واد عمها .
تدخلت سميحة والدة سالم تقول بضيق
- دا طبعا بعد ما ولدى اتجدم مش كده يا راضية
- وولدى انا كمان ماتنسيش يا سميحة.
قالتها هديه والدة حربى بتحفز هي الأخرى، مما اضطر صباح أن تقطع الجدال من أوله بقوله الحاسم نحوهن ونحو هذا الواقف بشرود لا يفقه من حديثهن شيئًا:
- فضوها خلاص انتوا ها تعملوها عاركه ياللا ياولدى روح المندره اقعد مع الرجاله وسيبك من كلام الحريم .
انتبه على قولها مدحت يستفيق ليردد باضطراب:
- ها، تمام يا عمتي انا رايح اها، رايح على طول .
قالها وتحرك، يجبر أقدامه على المغادرة وتركهن او تركها هي على الأخص، ولا يعلم بكم الحزن الذي انتابها حتى شعرت به يمزق أمعائها، بعد أن عرفت بنزوله البلدة خصيصًا كي يرى شقيقتها ويختارها عروسًا له .
❈-❈-❈
وفي جلسة الرجال داخل المندرة ربت ياسين بكفه على كتف مدحت وهو ينحني يقبل يداه باشتياق وتوقير للرجل والذي كان يردد بتفاخر له:
- ربنا يبارك فيك ياولدى وتبجى دايما مشرف عيلتك، يا زينة الشباب انت.
قال راجح هو الاخر:
-يعني وهو كان في حد بيشوفه يا بوي؟ دا انا بجالي سنين مشفتوتش .
عقب على قوله مدحت.
-والله المستشفى والعيادة واخدين واجتى كله وحتى لما بنزل البلد مابلحقش اسلم على أهلى، حتى اسألهم بنفسك، لو كنت بقعد ساعة على بعضها عندهم.
قال ياسين بتفاخر:
- ايوه بس انا وضعي يختلف عن الكل، دا مافيش مره نزل البلد وجدر يمشى من غير مايسلم عليا.
التف مدحت يقول لجده:
- أكيد طبعا يا حج ياسين، دا انا لو اتأخرت عن الكل لايمكن اتأخر عنك.
- افهم من كده ان الباشا الدكتور هو اللى العين عليه ووجع عليه الاختيار.
تفوه بها عاصم بانفعال وصوت عالي أجفلهم، فجاء الرد من والده سالم، والذي هتف عليه بسخط:
- لم نفسك ياواد وبلاش خربيط في الكلام، جدك لسة محكمش بشئ، حتى لو حصل برضوا اللي يجول عليه نافذ.
صاح عاصم بعصبة أقوى:
- ماانت شايف ياابوى بعينك عمى "راجح" باينه مطبخها مع جدى بس مش عايز يبجى هو فى الصورة
- انا برضك يا ولدى؟ الله يسامحك يا عاصم برضو مش هزعل منك عشان انا عارفك زين.
قالها راجح بلهجة تظهر عتابه، فهدر سالم بصوت عالي : - بيمين لو مالميت نفسك لا اكون ا..
قطع كلماته مضطرًا، بعد طرقة شديدة بالعصا على الأرض، فعلها ياسين لينهي النقاش بعصبية هو الاخر بقوله الهادر:
- ولا كلمه تانى، احنا هنجوم نتغدى وبعدها انا هحكم باللى يمليه عليه ضميرى وبعدها مافيش كلام تانى يتقال.
صمت بعدها الجميع بإذعان وطاعة لقول الرجل المهيب، أبناء واحفاد، أنا مدحت فقد شعر فجأة بعدم الإرتياح، فتحركت أنامله على طرف ذقنه بتوتر غريب، يداهمه إحساس قوي بالندم، من وقت أن وافق لإرضاء والدته، وزج بإسمه في هذه المهزلة.
❈-❈-❈
على الغذاء مرت اللحظات بهدوء يشوبه التوتر لانتظار الحكم الذي سيصدره الحج ياسين بعد ذلك في اختيار واحد من الأربعة المتقدمين ل بدور من أجل خطبتها، نظرات الترقب كانت تشمل الجميع، إلا مدحت فقد كان في وادي اَخر، وقد نسى امر الجلسة وأمر الخطبة، مع متابعته لابنة عمه التي اكتشف نضوجها حديثًا،
وكأنه يراها لأول مرة، ويكتشف معها أيضًا مشاعر جديدة ظن انها اندفنت منذ زمن بعيد، والعجب انها جائت الاَن في هذا الوقت الغريب، وهذا الظرف الأغرب في تقدمه لطلب شقيقتها والتي بالمناسبة عرف الاَن رغم الإعجاب اللحظي الذي شعر به وقت أن رأها بناءًا على توصيات والدته، ورأى هذا الجمال المبهر، لم تلفت نظره لتكون أكثر من زوجة عادية تصلح له رغم صغر سنها ولكنها ابنة عمه، وهذا شئ عادي بأعرافهم، ولكن الغير عادي، أنه لم يرى هذه المتمردة شقيقتها سوى الاَن.
ومن ناحيتها كانت تدعي الاندماج في تناول الطعام كالبقية، وبداخلها تتأكل من الغيظ، لانتباهاها على نظرات الوقح ابن عمها الطبيب، وهو لا يرفع عينيه عنها، الا يعلم بوضعه كخاطب محتمل لشقيقتها؟
❈-❈-❈
بعد وجبة الغذاء كانت الجلسة الحاسمة، لقول القرار الذي أخذه ياسين، حينما وجه نظراته الشباب الثلاثة وأبائهم، أما السيدات فقد فضل الرجل بأن يظلوا خارج المندرة حتى تمر هذه الجلسة على خير، فقال مبادرًا بحديثه نحو حربي:
- حربي يا ولدي، هترضى لو الإختيار وقع على عاصم، واخترته هو يتجوز بدور بت عمك
سمع منه المذكور ليحدج ابن عمه بنظرة حارقة قبل أن يجيب جده بانفعال:
- ومتجوزهاش انا ليه؟ ناقص إياك.
كلماته اثارت غضب الآخر فهم أن يرد بكلمات أصعب ولكنه توقف على سؤال جده الذي وجهه إليه أيضًا:
-وانت يا عاصم، هترضى لو العرض راح ناحية الدكتور ووافقت بيه بدالك.
أحتدت نظرته ليناظر الطبيب مدحت بخطر وهو يجيب بعصبية:
-يا سلام، وانا مالي بقى إن كان دكتور ولا رئيس قسم حتى، انا اللي اتجدمت الأول، يبقى انا الأحق بيها.
تحمحم مدحت يرفع نظارته، وقد اكتنفه الحرج بشدة، فهذا الوضع جعله يشعر بالمهانة الشديدة، يلوم غباءه في مطاوعة والدته حينما وافق على الزج بنفسه في هذه المهزلة، انتبه على نداء جده موجهًا نفس السؤال:
- وانت يا دكتور، حترضى لو النصيب راح ل حربي واد عمك؟
اجابه على الفور بدون تردد:
- انا هرضى بكل اللي تأمر بيه يا جدي، بس ياريت بس تلموها بسرعة عشان نخلص بجى
- ماشي يا والدي .
اردف بها ياسين قبل أن يتوجه بحديثه نحو الجميع قائلًا:
-طب حيث كدة بقى يا اخوانا وبعد ما عرفنا برأي الشباب ف انا حكمت، إن البت لا هيتجوزها عاصم ولا حربي ولا حتى الدكتور، كدة منعًا للمشاكل او الفنتة بينهم ، وعشان نلم الموضوع من اوله انا وافجت على واد العمدة معتصم يخطبها ونخلص على كدة.
ساد الهرج والسخط وكلمات الاعتراض وسط حالة من الذهول اكتنفت معظمهم، وكان الرد الحاسم من ياسين ان ضرب بعصاه على الأرض بقوة هاتفًا:
-مسمعش نفس تاني، انا حكمت ومفيش رجوع عن حكمي.
نهض عاصم على غير عادته ليهدر غاضبًا بقوله:
- لا يا جدي دا مش حكم العدل، إزاي يعني بت عمي تبقي لحد غيري ومن برا العيلة كمان؟ انا أحق بيها اكتر من اي واحد من دول، انا اللي اتجدمت الأول.
تبعه حربي ايضًا بقوله:
- يا جدي دا مش كلام ده، إزاي يعني بت عمي تطلع من العيلة وتروح للغريب؟ واحنا عيال عمها متنا على كدة.
نهض ياسين لينهي الجدال بقوله الحاسم:
- وانا خيرتكم وكل واحد فيكم أختار نفسه، يبقى خلصنا على كدة، البت مش هتبجى لأي واحد فيكم وفضوها بجى عشان خلصت.
هم الأثنان بالإعتراض مرة أخرى ولكن الأباء الذين رضخوا لحكم أبيهم، نهروا بالصياح على أبنائهم، ليفر عاصم تارك الجلسة والمنزل مهرولًا للخارج، رغم هتاف أبيه عليه، اما مدحت فنهض هو الاخر، لكن بصمت ليلعن نفسه للمرة الألف، هذا اليوم الذي فقد فيه عقله حينما وافق بهذا العته من أجل إرضاء والدته.
❈-❈-❈
عاصم والذي كان يعدوا بخطواته السريعة بغضبه العاصف واقدامه حددت طريقها بدون تفكير، ليتوقف أمام منزلها، فيطرق على الباب بقوة مع قرع على جرسه دون توقف، مما جعلها تركض من الداخل كي تفتح مجفلة:
-أيوة أيوة، في إيه؟
قالتها بخضة لتراه أمامها، وتفاجأت به يحدجها بنظرات محتدة صامتًا، صدره يصعد ويهبط وصوت انفاسه الهادرة تصل إليها، ليدخل القلق في قلبها وتسأله:
- في إيه يا عاصم؟ حصلت حاجة؟ ما بترودش ليه؟
ظل على صمته ليزيد بقلبها الخوف، لتتابع:
- ابويا مش جاعد وانت عار......
- أنا مش عايز أبوكي، انا عايزك إنتي.
قالها بمقاطعة حادة أجفلتها، لتشعر بالخطر مع هذه النظرات العاصفة فقالت بتردد وهي تحاول إغلاق الباب:
- طب معلش عن إذنك، عشان انا مجدرش اقف معاك ولا اجدر ادخلك .
بحركة سريعة منه أوقف اندفاع الباب بقوة ليهتف بوجهها:
-ما اخترتنيش ليه؟ ليه ما جولتيش عايزة اتجوز عاصم؟
شهقت مخضوضة من جرأته لتحاول مرة أخرى بإغلاق الباب ولكنه ثبت على مسكه، لتفقد الحيلة وتستجمع شجاعتها في الرد عليه:
- لو سمحت ياعاصم انا ماليش شور ولاجول فى الكلام ده . الشوره شورة ابويا وجدى .
صاح غاضبًا ليزيد من ذهولها:
- إرفعي راسك وانتي بتكلميني، حطي عينك في عيني عشان اشوف الرفض فيهم دا لو كنتي محددة رأيك زين، ارفعي ووريني عنيكي إللي بنظرة منها بتحيينى وتموتينى فى نفس الوجت، كل السنين دى محستيش بحبى ليكى؟ كل السنين دي حاطانى فى الطابور اللى مستنى اشاره منك؟ عمرك ماحسيتى بالنار اللى جوايا وانا ....
قطع وقد بح صوته من ثقل ما يشعر به نحوها، وهي تلجمت وقد هربت الكلمات منها، فلا تجد ما ترد به، ليردف هو مستكملًا بحدة:
- ماتردى مالك؟ انتى معندكيش شخصية ولا رأى خالص ؟
- سيبها فى حالها ياعاصم وروح على بيتكم
قالتها نهال وقد وصلت بهذه اللحظة، بعد عودتها من منزل جدها، لتفاجأ بهذا الفعل الغريب من عاصم ابن عمها، والمشهور عنه العقل والحكمة، وشقيقتها تبدوا من هيئتها انها على وشك الانهيار، فرد هو بتحدي:
- لاه مش ماشى يا نهال غير لما اسمع رأيها ومين اللى جال امين على واد العمده هى ولا جدى وعمى؟
اقتربت منه نهال تخاطبه بمهادنة علٌها تمتص غضبه:
- خلي بالك يا عاصم، إن اللي انت بتعملوا دا غلط كبير، واحنا مش عايزين حد يجيب سيرتك يا واد عمي بحاجة عفشة، روح الله يرضى عنك، إحنا مش ناجصين فضايح، عشان خلاص مفيش منه فايدة الكلام، جدك وحكم والسهم نفذ، يعني مالهوش لزوم نعذب بعض بالكلام الجارح .
التفت رأسه بحدة نحو نهال باستيعاب قاسي، ليردد خلفها بمرارة:
- عندك حج، جدي حكم والسهم نفذ ومفيش داعى نجرح بعض.... لكن بجى، أشرب انا العذاب لوحدى، ماشى يابت عمى ماشى.... سيبلى انا العذاب لوحدى، لوحدي.
ظل يكرر بكلماته، وهو يتنحى ويرتد بخطواته للخلف ونظرته تركزت على بدور حتى التف يغادر كما أتى بخطواته السريعة، لتشهق المذكورة باكية وترتمي بحضن شقيقتها، التي استدركت لوضعهم، لتلج بها لداخل المنزل، قبل أن تغلق بابه بسرعة، وتتفرغ لها، ولهذا الأمر الغير متوقع على الإطلاق.
❈-❈-❈
- أبوك اتجن يا عبد الحميد، بيرفض ولدي أنا الدكتور؟
هتف بالكلمات راضية بسخط نحو زوجها الذي لم يتمالك نفسه أمام تبجحها، ليتقدم نحوها يتفوه بخطر:
- أبو مين اللي اتجن يا بت الفرطوس؟... دا انتي شكلك اتخبلتي وعايزة كفين يفوقوكي.
تقدم على الفور رائف ابنه الأصغر ليكون حائلًا بين الأثنين، ويردف من أجل تهدئة والده:
-إهدى يا بوي ومتعصبش نفسك، دول كلمتين ساعة غضب، متخدتش بيهم
صاح الرجل بوجه ابنه:
-دي بتغلط في ابويا يا ولدي، اسكتلها كيف بس؟
ردت راضية غير مكترثة:
- وانا غلطت فيه ليه؟ مش عشان فعله، عايز يطلع البت برا ويرفض ولدي انا .
- تاني برضوا؟
قالها وتقدم ينتوي ضربها بالفعل ولكن رائف تصدر يحتضنه ويردد بالكلمات لمنعه وهو يحاول فك نفسه ويهدر غاضبًا:
- سيبني يا ولدي افك خلجي فيها الفقرية دي، انا دمي بيغلي أساسًا
ردت راضية بصوتها العالي :
- تفك خلجك فيا؟ هو انا اللي كبرت وخرفت زي ابوك؟
- جدي لا كبر ولا خرف يا أمي .
صاح بها مدحت والذي دلف بالصدفة على هذا المشهد ليكمل نحو والدته:
-إحنا اللي غلطنا، وانا لو كنت اعرف ان عاصم اتجدم جبلي او ان الموضوع وخدينوا تحدي، كنت لا يمكن هوافق واطلب بدور، انا لايمكن هنسى منظرى الزفت النهاردة وانتى السبب لما زنيتى عليا فى الموضوع ده .
ردت راضية بصوت متأثر:
- ليه بس ياولدى بتجول عليا كدة؟ دا انا عايزالك احلى واحده فى الدنيا، عايزاك تتهنى يا حبيبي بعد سنين الشجا.
هزهز برأسه يقول بسأم:
- الله يرضى عنك يا أمي، فضيها على كدة ومتجبيش السيرة دي تاني، إجفلي ع الكلام ده عشان انا نفسي جفلت، أنا ماشي ومش هستنى دقيقة تاني في البلد دي .
بصق كلماته وتحرك نحو غرفته على الفور، فتحركت والدته خلفه تبتغي إثناءه عن الذهاب بترضيته.
وصلت إليه لتجده واقفًا وسط الغرفة صامتًا، فولجت إليه قائلة:
- متزعلش مني يا حبيبي، انا فعلًا استاهل الضرب على راسي لو زعلتك تاني .
التف إليها بجسده يرمقها بتفكير قبل أن يتفوه سائلًا لها:
- قوليلى ياامى، هو انتى ليه مجبتيش سيرة نهال عشان اخطبها وهي حلوة وماتتعايبش؟!!
متنساش ان الرواية موجودة كاملة في قناة التلجرام والواتساب
باغتها بسؤاله حتى جعلها تصمت بتفكير وهي تشاهد، ملامح وجهه المشتدة ونظرته المتسائلة، فردت اَخيرًا بتردد:
-مش عيب فيها يا ولدي، نهال ماشاء الله عليها، حلوة وزي الجمر كمان، بس بدور عنيها زي الممثلين اللي بياجو في التلفزيون، دا غير إنها صغيرة وهتبقى تحت طوعك، مش زي نهال اللي باصة في العلالي، وعايزة تبجى دكتورة زيك وتناطحك.
صعق مدحت وبدت على ملامح وجهه الصدمة، يتمعن النظر بوالدته ولا يستوعب هذا المنطق الغريب منها في اختيار الزوجة المستقبلية له، ورد بانفعال:
-يعني يا أمي، إنتي فضلتي تختاري الصغيرة عشان تبجى طوع في إيدي، ورفضت المتعلمة اللي كان ممكن تبقى مناسبة ليا عشان ما تناطحنيش؟!
ردت والدته على تصميم باقتناع:
-ايوة يا والدي، لهو انت عايز واحدة تراعي راحتك وتاخد بالها منك ومن طلباتك، ولا واحدة ترد لك الكلمة بكلمة!
تبسم ساخرًا حتى اصبح يضحك بغرابة ليقول بعدم تصديق:
- مش عايزالى واحدة متعلمة عشان متردش عليا طيب ياامى دا انتى مخدتيش ابتدائى حتى وبتردى على ابويا الكلمة بكلمتين مش كلمه واحدة
عبس وجه راضية غير متقبلة لنقد ابنها، وخرج صوتها بعتب:
- وه يا مدحت، لهو انت عايز تخليني انا المــ رة الكبيرة، زي البنتة الصغيرة بتاعة الايام دي....
صمتت برهة لتكمل باستدراك وصل متأخر:
-ولا يكونش البت نهال عجبتك؟
باغتته بسؤالها حتى ظهر عليه الارتباك، والذي حاول أن يخفيه بالتهرب، فتوجه لحقيبته كي يضع فيها متعلقاته الشخصية دون ان يجيبها، فكررت بسؤالها:
-يا والدي قولي لو كان عجبتك، وانا ارجع تاني واقول لابوها.....
- تروحي فين يا أمي؟
قالها مقاطعًا بحدة، ليكمل لها بعصبية وملامح متغيرة:
-جفلي الله لا يسيئك ع الموضوع ده، وكفاية قلة قيمة لحد كدة .
حاولت برجاء:
-لكن يا والدي....
اوقفها بإشارة من يده:
-خلاص الله يخليكي كفاية بقى.
+
❈-❈-❈
في منزل راجح.
وبعد أن خفت قليلًا نوبة البكاء الشديد ل بدور، خاطبتها نهال للتأكد:
-خلاص هديتي عشان تقدري تتكلمي دلوقتي معايا.
ردت وهي تمسح بأطراف أناملها لتجفف الدمعات المتبقية على وجنتيها:
-والله انا ممكن اقول لابويا واخليه يردلوا على جدي، وهو اللي يتصرف معاه، ليه بيعمل كدة يعني معايا؟ جاي يزعجلي ويتعصب عليا، هو انا اللي اخترت، دا جدي هو اللي اختار، وحتى لو كان، برضوا مش من حقه يعمل معايا كدة، لهو انا كنت مكتوبة بإسمه وانا مش عارفة، ولا إيه يعني بالظبط؟
ردت نهال بلهجة متأثرة:
-رغم إني متأكدة إن اللي عمله غلط، لكن بصراحة مش قادرة اكرهه ولا اشيل منه، اصل دي اول مرة اشوف عاصم بالشكل ده، دا طول عمره رزين وحافظ مجامه، لكن إني يفقد أعصابه بالشكل ده أبدًا، دا انا شوفت عيونه بتلمع يا بنتي، ودي في حياتي مكنت اتصور انها تحصل مع عاصم بالذات.
ردت بدور بعدم إستيعاب:
-بتلمع يعني أيه؟ يعني كان هيبكي؟!
مطت بشفتيها نهال وقد اكتنفتها الحيرة لتردف بتفكير:
-بصراحة انا طول عمري واخدة بالي من نظراته ليكي، بس دي اول مرة اشوفها بكل الوضوح ده، دا باين الجزين بيحبك يا بت؟...
توقفت لتسئل بفضول شقيقتها المحدقة بها:
-طب إنتي إيه رأيك فيه يا بدور، بغض النظر يعني عن إنه خلاص موضوعك اتحسم؟
فكرت قليلًا بدور قبل أن تجيبها:
-معرفاش اقولك أيه؟ بس بصراحة طول عمري بخاف منه عشان طبعه شديد وعصبي مع اي حد يكلمه، بس بيعجبني وهو راكب الحصان .
رددت نهال من خلفها:
-بيعجبك وهو راكب الحصان! بس كدة؟.... ع العموم هو الكلام اساسًا دلوك مالهوش لازمة، عشان جدك اختار انك تتجوزي معتصم واد العمدة
-وه معتصم! بصراحة دا كان اَخر واحد اتوقعه.
قالتها بدور لتسألها نهال على الفور بشك:
-امال كنتي متوقعة مين،
ردت بدور بعفوية:
-عادي يعني أي واحد من عيلتي، اصل احنا بنات العيلة ما بنطلعش براها غير نادر.
أومأت لها برأسها، وعلى حالة الشك التي انتابتها لم تقوى نهال على كبح سؤالها المباشر
- اهو حصل، وبقيتي انتي من النادر ده، المهم بقى، انتي ليه ما قولتيش انك شوفتي الدكتور مدحت ابن عمك الجمعة اللي فاتت، ولا تكونيش اتوقعتي ان الإختيار يرسى عليه؟
تبسمت شقيقتها لتردف لها ببلاهة:
-الدكتور مدحت دا اكبر منى بسنين كتيره وانا اساساً بعد ما شوفته الجمعه اللى فاتت بصراحه نسيت اجولك، او اقول لأمي حتى.
طالعتها نهال بغيظ لتردد خلفها:
-نسيتي تقولي لامك، ونسيتي تقوليلي، تصدجي يا بدور، اهو الدكتور مدحت دا بالذات كان يستاهل واحدة زيك
بعد يومين
وبعد وجبة العشاء التفت العائلة حول والدهم راجح لمعرفة تفاصيل الاتفاق الذي تم بين ابيه وعائلة العمدة الخاطب الجديد لابنة راجح، البنات ووالدتهم على أريكة والصبي الصغير ياسين على حجر أبيه
سألته نعمات:
- يعنى على كده الخطوبة هتبجى فى قاعة افراح فى المحافظة، طيب واحنا هنجدر ع المصاريف دى كلها يا ابو ياسين؟
أجابها الرجل:
- انا جولت كده بس بجى العمده اصر انه هيجوم بالمصاريف كلها، مش هو اللى عايز يتفشخر خليه يتحمل بجى انا عن نفسى كنت عايز حاجة ع الضيق فى بيتى او بيت جدها، وبلاها المنظرة الفارغة، لكن تجولي أيه بجى؟
هللت نهال تقول بفرح:
- طب ما هو حلو يابوى خلينا نشوف افراح البندر ونبجى زيهم، هو انا أقل منها يعني؟
ضحك الجميع على نبرة الحماس التي تخللت صوتها، التفت نعمات لتسأل صاحبة الشأن ابنتها الأخرى، والتى كانت صامتة ولا تندمج معهم.
-وانتي إيه رأيك يا بدور، فرحانة انتي كمان بالقاعة.
هزت المذكورة بكتفيها، لتجيب وكان الأمر لا يعنيها:
- عادى يعنى كله واحد معايا خطوبة ع الضيق ولا ع الواسع ماتفرجش .
-رددت نعمات بعدم استيعاب:
- متفرجش! كيف متفرجش؟ دي خطوبتك يا بتي، ولازم يبقى ليكي رأي فيها، يعني تجولي عايزاها تتعمل كيف؟
للمرة الثانية كان رد بدور أن تحرك كتفيها، وتمط بشقتيها، بما يدل على صدق قولها، في أن الأمر بالنسبة لها سيان، أو لا يمثل أهمية لها، لتثير الإندهاش بقلب والدتها وشقيقتها التي أصبحت تلاحظ شيئًا من التغيير بها.
غير راجح دفة الحديث بتوجيهه للسؤال نحو ابنته الصغيرة نهلة:
-وانتى ياست العرايس هاتكملى تعليم زى نهال ولا تتجوزى صغيرة زى اخواتك الباقين ؟
جلجلت نهلة بضحكة طفولية تجيبه:
- لا هاتجوز صغيره يابوى.
ضحك الجميع على صراحة الصغيرة والنابعة من شقاوتها، ليوجه راجح سؤاله هذه المرة لأصغر الأبناء، ياسين الجالس على حجره:
-وانت ياحبيب ابوك معندكاش اختيار زيهم انت لازم تتعلم وتبقى ظابط كبير او دكتور زى واد عمك .
صاح ياسين بلهفة:
- أنا هابقى ظابط يابوى.
ضمه راجح إليه بفرحة قوية:
- تعيش ياحبيب ابوك وتبقى احسن ظابط، ربنا يديني العمر يا ولدي واشوف اليوم ده.
تمتم الجميع خلفه بالدعاء، ثم هتفت نهال بحماسة:
- طيب على كده الخطوبه مش فاضل عليها غير كام يوم ، ومدام ميعادها الخميس دا كدا مفيش وقت معانا شد حيلك معانا يابوى فى الفلوس احنا عايزين نشرفك .
غمغم راجح بعدم فهم:
- فلوس اللي هتشرفوني بيها دي؟ هو انتوا عايزين إيه،
ضحكت نهال تخاطبه بشقاوة:
- وه يا بوي، كيف مش عارف قصدي، دا احنا عايزين نأجر فساتين سهرة، ونحجز في الكوافير والمكياج واللي زمنه، شد حيلك معانا يا عم راجح.
سمع منها راجح ليتمتم بقلة حيلة.
- اااه دا اللى كنت عامل حسابه هكفيكوم كساوى.
ولا جهاز للبت اللى هاتتجوز ولا مصاريف الكلية بتاعتك ياست البنات.
ربتت على كتفه نعمات تؤازره بضحكة بشوشة:
- ربنا يخيلك ليهم وتعيش مكفيهم العمر كله يارب
تمتم إليها راجح متصنع الغضب:
- أيوة يا ختي، هو دا اللي انتي فالحة انتي وبناتك.
هتفت نعمات ضاحكة:
- الحمد لله اني فالحة في حاجة.
❈-❈-❈
يوم الخميس.
في القاعة الفخمة في المحافظة، تم إقامة حفل الخطبة، لتجمع العائلتين، عائلة أهل العروس ومعهم بعض الأقارب والجيران وقد اتخذوا الجهة اليمنى بها، أما عن عائلة العريس والمتمثلة في أسرة العمدة وافراد من عائلته ومعارفه من رجال الاعمال والشخصيات السيادية في المحافظة، اتخذوا جهة اليسار.
أسرة سالم والتي اتخذ أفرادها طاولة لهم وحدهم بحالة من الوجوم تكتنف معظمهم، مما استفز الأب لتنبيههم:
-أفردي بوزك يا ولية انتي، جاعدة ولا اكنك في عزا .
ردت سميحة بغيظ:
- اعملك ايه يعنى اجوم ارجص مش كفايه خليتنى اجى بالغصب .
ضغط سالم يقول من تحت أسنانه:
- يعنى عايزه ماتجيش خطوبة بت اخوى عشان رفضوا ولدك انتى عايزه الناس تاكل وشنا؟
ردت سميحة تقول بحرقة:
- يغوروا الناس مش كفايه ولدى اللى اتكسر بخاطره وحالته لا تسر عدو ولا حبيب دا طول عمره مش شايف غيرها، عاصم زينة الشباب والبلد كلها.
شدد سالم بقوله لها:
- بجولك ايه ماحدش بيموت من العشج، بكره ربنا يكرمه بواحده تنسيه الدنيا بحالها، يعني انتى دلوكتى تفردى بوزك انتى والعيال وحاولى متبينيش مش كفايه ولدك مرضيش يجى معانا.
❈-❈-❈
وعلى طاولة أخرى، كانت أسرة محسن، والمتمثلة في زوجته هدية، وابنها حربي وبقية الأفراد من الأبناء.
فقالت هدية وعينيها تجول بلا هوادة على كل ارجاء القاعة، متتبعة حركة البشر والتجهيزات المبالغ فيها، لتعلق على كل شاردة وواردة:
- شايف يا سي محسن الهنا دا كله وكنت عايزهم يرضوا بولدك؟
رمقها زوجها بغيظ قائلًا:
-نصيب يا ختي، كل حاجة نصيب.
تدخل حربي يرد على والده بتهكم:
- نصيب برضوا يابوى؟ ولا هي لعبة، يعنى تبجى بت عمى ومتبجاش من نصيبى دا اكيد ترتيب على كبير من جدى وعمى راجح.
هم محسن للرد بحزم، ولكن اوقفه تغير الإضاءة بالألوان المبهجة، مع اشتعال الموسيقى بدخول العروسين.
دلفت بدور بصحبة عريسها ترتدي فستان من اللون الفوشيا، بقماشه الحريري والامع بشدة، مع لفة الحجاب التي زينها التاج الصغير في الأعلى، وزينة وجهها زادتها جمالًا، ورسمة العين التي اظهرت لونها المختلف بشكل خرافي، يجعل النظر إليها متعة، أما عريسها والذي ارتدي حلة باللون الكحلي، اظهرت نحافته الشديدة وصغر سنه، فمعتصم كان لا يفرق عن العروس سوى بثلاث سنوات
جمال الحفل بنتظيمه الرائع، مع جمال العروس المبهر، جعل الإنبهار يخيم على جميع الحضور، ولكن المفاجأة الأكبر كان هو طلة نهال شقيقة العروس، والتي ظهرت من خلفها، بفستان من اللون النبيتي محتشم ولكنه ناسب قدها الرشيق ببراعة، وزينة خفيفية وضحت ملامحها الرقيقة، لتسحر كل من يراها، حتى أثارت الأحاديث عنها، وعن جمالها الخاطف كشقيقتها .
حربي والذي سحره الهيئة المختلفة لأبنة عمه، همس لوالدته:
- شايفه يا اما البت نهال اللى بتجول ان دماغها في التعليم وبس، ومش عايزة تتجوز بجت ازاى؟
ردت هدية محدقة بها بتفكير:
-شايفة يا حربي، شايفة قوي.
❈-❈-❈
اوقف مدحت سيارته في الصف الطويل بجوار القاعة، بعد أن انهى مواعيد فحصه في العيادة سريعًا حتى يفرغ للحفل ويحضره، وجد شقيقه على مقربة من المدخل واقفًا بتحفز، اقترب من يصافحه ثم سأله على عجالة:
- ايه أخبارك؟ واخبار الفرح اللي جوا ده إيه؟
ردد رائف بتهليل:
-الفرح هايل يا عم الحج ومشعلل كمان، دا بنات عمك راجح جالبين الدنيا جوا سوا العروسة ولا نهال كمان . دى النهاردة حاجة تانية خالص.
-حاجة تانية ازاي يعني؟ ما لهم بنات عمك؟
سأله مدحت باستفسار، ليجيبه الاَخر:
-يعني المكياج واللبس خلاهم حاجة تهبل، حاجة كدة زي اللي بتشوفها في التليفزيون، وهما أساسًا حلوين ع الطبيعة، يعني مش محتاجين .
لا يعلم لما اعتراه هذا الضيق المفاجئ بدون سبب، فرد ببرود يدعي يدعيه عكس ما بداخله:
-وانت واقف على باب القاعة ليه؟ ما تدخل تهيص في الفرح الهايل زي ما بتقول؟
رد رائف ضاحكُا:
- هدخل يا عم الدكتور وههيص كمان، بس العيال صحابي اللي انا واقف مستنيهم، عشان لما ياجو ندخل مع بعض مجموعة ونولعها، ادخل انت هتلاجى ابويا وجدى جاعدين على طرابيزة واحدة.
اومأ له مدحت ودلف لداخل القاعة بجمود، يصافح الاقارب والمعارف بابتسامة مجاملة لا تصل لعيناه، ليواصل طريقه، وكأنه يبحث عن شئ ما، حتى أنه لم يكلف نفسه بالنظر نحو ركن العروسين، من أجل المباركة والتهنئة التي أتى من أجلها خصيصا، لتظل عيناه تجول بين الحضور حتى وجدها على طاولة جده، بهذه الهيئة التي تخطف الأنفاس، بزينة وجهها وهذا الفستان الذي اظهر جمال قدها، تبدوا وكأنها حورية من الجنة، وصف شقيقه المبالغ فيه، لم يعطيها نصف حقها، غمغم بالسباب داخله واحتدت انظاره نحوها وهو يراها تتسامر مع جده بالضحكات وكأنها منفصلة عن العالم، ولا تعي بالعيون المصوبة نحوها.
- مساء الخير يا جدي
ألقى بالتحية فور أن وصل إليهما، وارتفعت رؤوس الاثنان نحوه، ليتلاقاه ياسين بالترحاب الشديد:
-اهلا بالغالى زينة الشباب، ادخل في حضن جدك.
اقترب مدحت يتناول كف جده ليقبلها:
-يا حبيبي يا جدي، ربنا يخليك لينا.
ارتجفت نهال وقد اجفلها اقترابه المفاجئ منها وهي بجوار جدها، ثم ارتفعت عيناه الصقرية نحوها، بنظرة غامضة اصابتها بالارتباك، وهو يكمل ترحيبه بجده
حاولت السيطرة على توترها، تنهض فجأة قائلة:
- طب انا هروح اشوف اصحابى ياجدى وانت عقبالك يادكتور .
قالتها بمجاملة على عجالة، لتكمل بمد يدها من اجل أن تصافحه وتذهب بعد ذلك سريعًا، استقام هو ليبادلها المصافحة بوجه مشتد مبهم الملامح:
- وانت كمان عقبالك.
أؤمأت بشبه ابتسامة مضطربة وهمت بالذهاب، ولكنها تفاجأت به يوقفها بالضغط على كفها بكفه ومنع نزعها عنه، طالعته باستفهام مستغربة، فخرج صوته يخاطبها بحدة ونظرة مشتعلة:
- ايه انتي عملاه فى نفسك ده؟
سؤاله المباغت جعلها ترتبك في البداية، وكأن عقلها أصابه الشلل عن التفكير، ولكنها استعادت تماسكها سريعًا، لترد بكل التحدي وهي تتطلع إليه بقوة:
- وانت مالك؟!
ضيق عينيه غير مستوعب الجملة في البداية لتزداد ضغطة كفه عليها، مع شعور الغيظ الذي تملكه لنظرة التحدي التي كانت تطالعه بها، فهدر كازًا على اسنانه:
-يعنى ايه انا مالى ؟ يعنى ايه انا مالى هه ؟؟
اجفلها فعله الغريب، وهي تشعر بكفها تعتصر بين يده، فقالت ببعض المهادنة، لأن وضعها وانظار الناس التي كانت مصوبة نحوها، جعلها تود فعل اي شئ لتذهب من امام هذا المعتوه الذي ينقدها بغير حق بملاحظاته الوقحة عما ترتديه أو تتزين به:
- انا مغلطتش فيك على فكرة، سيب أيدي.
- مدحت :
هتف بها ياسين يومئ له بعيناه حتى انتبه، فنزع كفه عنها، يتمتم بالاستغفار، ليقول بخشونة ليُخفي حرجه:
- معلش مكنتش واخد بالى، بس انتى استفزتينى لما جولتيلى انت مالك،
سمعت منه والتفت نحو جدها تدلك كفها المتألم، وهي تطالعه بأعين التمعت بالدموع وكأنها تعاتبه لسكوته عن فعل هذا المجنون، التقط ياسين بفراسته، ما تفكر به، فقال يراضيها:
معلش يابتى واد عمك بس بجالوا سنين بعيد عن البلد وميعرفش ان البلد اتطورت والبنته بتلبس ع الموضة دلوك
انتفضت نهال لتسدير قائلة قبل أن تغادر من أمامهم بعصبية:
- حتى لو كان انا محدش ليه حكم عليا غير ابويا ثم انا مش عيله صغيرة، انا بكره هبجى دكتورة زيه واحسن كمان
قالتها وذهبت سريعًا من أمامم، هم مدحت لملاحقتها ، ولكن ياسين أوقفه بأن جذبه من كفه، ليجلسه عنوة، فقال مدحت يخاطب جده بغضب:
- عاجبك كدة يا جدى جلة ادبها عليا ولا اللى عملاه فى وشها والفستان اللي هي لابساه؟
شدد ياسين على كفه يقول بحكمة:
-براحة يا ولدي، بلاش طبعك الشديد ده مع بت عمك،
البت فرحانة باختها والبنته بتعمل اكتر من كده دلوك.
رد مدحت بحدة:
- والفرحانه تهبب دا كله فى وشها، ليه بجى كانت العروسه هى.
قال ياسين بلوم:
- يا ولدى مش كده انت ماخدتش بالك وانت جارص على يدها، انت الدكتور المتعلم عمرك ماكنت عصبى كده يا مدحت !
نفض رأسه مدحت ليغير دفة الحديث بقوله:
- طيب انت جاعد لوحدك ليه يا جدى ؟ ابويا وامى راحوا فين ؟
ربت ياسين على كتفه بحنان يجيبه:
- راحوا يباركوا للعرسان فى الكوشه ياولدى
عجبالك ياحبيبى هى دى اللى هاتبجى الفرحة الكبيرة ليا
- جريب ياجدى ان شاء الله جريب
قالها مدحت وكأنه يؤكد الكلام لنفسه!
❈-❈-❈
نهال والتي كانت تغمغم بالكلمات الحانقة، وهي تدلك كفها التي فقدت الاحساس بها بعد عصرها من قبل ابن عمها المعتوه، اصطدمت بفتاة لتجدها نوها صديقتها، والتي خاطبتها باستغراب:
- انتي كنتي فين؟ ومال يدك؟ ماسكها كدة ووشك مقلوب
تمتمت نهال بعصبية ودون أن تفكر:
- رجعى، متخلف لا وعاملى فيها دكتور.
سألتها نوها بعدم فهم:
- مين دا يا بنتى اللى بتتكلمى عنه؟
وكأنها لم تسمعها، رفعت نهال رأسها إلى صديقتها تقول:
- طيب وانا هزعل نفسى ليه ؟ وهو مالو بيا اصلا !!
بت يا نوها تعالى معايا هروح اظبط مكياجى فى الحمام
قالتها لتسحب نوها، من يدها، ثم تأخذها نحو حمامات القاعة، اطاعتها نوها رغم استغراب حالة صديقتها
وكلماتها الغير مفهومة، بغرض الإستفهام بعد ذلك.
❈-❈-❈
بعد قليل وأمام المراَة، كانت نهال تعيد على زينة وجهها الخفيفة، ونوها من خلفها لا تكف عن البكاء.
- بجى الدكتور مدحت اللى بجالك سنين وانتى مصدعانى بيه ومش شايفه فى الدنيا حد غيره دلوكتى بجى رجعى ومتخلف ياشيخه دا انتى دخلتى الطب مخصوص عشانه !!!
ردت نهال بعصبية:
- ايوه صح كلامك واكتشفت انى كنت حماره عشان كنت معميه على عينى وبحبه بس من ساعة ما اتجدم لاختى الصغيره وانا بجيت شايفاه زين و انا دلوكتى مش هابص غير لمستجبلى وبس .
.❈-❈-❈
وعلى كرسيها بجوار خطيبها المزعوم ، كانت بدور وكأنها في دوامة، لا تستطيع ترجمتها لهذا الإحساس، لا تشعر بفرحة العرس كأي عروس، ولا حتى هذه الشبكة الغالية التي وضعت على يديها، كلمات الغزل التي كان يلقيها على اسماعها ليثني على جمالها، كانت ترد عليها بحساب، ومعظم الوقت لا تجيب،
خرجت من حالة الشرود التي تلبستها من اول اليوم، على هذا المشهد الغريب، حينما وجدت معتصم خطيبها ، يشعل سيجارة يدخنها بجوارها وأمام أعين الجميع، فخاطبته مستنكرة:
- ايه اللى انت بتشربه دا يا معتصم؟ ارمى السيجارة دى من يدك حتى عشان منظرك فى الكوشة
رد معتصم، وهو ينفث دخان السيجارة بعدم اكتراث:
- منظر ايه اللى بتتكلمى عنه؟ انا اجدر اعمل اى حاجة وفى اى وجت ومحدش يجدر يبصلى حتى مش يكلمنى.
اغتاظت بدور من لهجته المتعالية، وهذه الغرور، فعقبت على قوله باستهجان:
- طيب سيبك من كلام الناس مش خايف على صحتك انت يدوبك ٢٠ سنه دى كده غلط جدا عليك؟ انت امتى لحجت تشربها اساسا؟
ضحك معتصم حتى ظهرت جميع أسنانه، ليزيد من استفزازها بقوله:
-تجدري تقولي إني من ساعة ما تولدت وانا السيجارة فى يدى ههههه .
اشمأزت بدور من ضحكاته الغير مبررة، وهي ترا أسنانه الصفراء عن قرب، لتشيح بوجهه عنه بقرف، فاصطدمت عينيها، بهذا الذي كان واقفًا في أول القاعة، يطالعها بنظرات غامضة وليست مفهومة.
❈❈-❈
وإلى عاصم والذي غلبه الشوق ف أتى رغم تصميمه على ألا يأتي، حتى لا يراها بحوار أحد غيره، ولكنه لم يقوى على ان يتحكم في نفسه، واقدامه التي قادته،حتى دلف للقاعة ، كي يراها، يقهره العجز وقلبه من الوجع يعتصر وينزف ولا أحد يشعر به
وفي الجهة القريبة كان مدحت قد انتهى من تحية احد اصدقائه، وفي طريقه للعودة إلى طاولة عائلته، ولكنه انتبه على دخول عاصم، بهيئة مزرية لا تخفى على رجل مثله، يقف متسمرًا، وأنظاره مثبتة على العروسين، وكأنه في عالم اَخر.
اقترب منه من أجل أن يصافحه، ويتحدث معه، ولكن الاخر كان قد انتبه إليه، فرمقه بنظرة كارهة واستدار ليخرج، لحقه مدحت يمسك بمرفقه وهو يقول له:
- اجف استنى عندك يا عاصم، أنا عايز اسلم عليك.
توقف مدحت على هذه المنظرة المذبــ وحة من ابن عمه، ليكمل سائلًا نحوه بجزع:
- انت مالك يا عاصم؟ ايه اللى حصل يا واد عمى ؟
نفض عاصم ذراعه عنه بعنف قبل أن يجيبه بحدة:
- عمرى ما هسامحكم لا انت ولا واد عمك حربى، عشان انتوا السبب في كل اللي وصلنا ليه، لو مكنتوش ادخلتوا في نفس اللحظة اللي انا اتقدمت فيها، مكنش حصل دا كله.
تنهد مدحت يعقب على قوله باستخفاف:
- يعنى انت عامل فى نفسك كده عشان متجوزتش بدور، يا عم هو ايه اللى حصل يعنى؟ بكره تتجوز احلى منها كمان، روق نفسك يا واد عمى هو اللى خلقها مخلجش غيرها .
رد عاصم بشبه ابتسامة وهو يربت على ذراع مدحت بخفة:
-ساهل جوى الكلام منك يا واد عمى عشان انت مجربتش .
توقف قليلًا، ليضيف بحرقة
- عشان انت لو حبيت بجد، أكيد يعني مش هتتحمل تشوف حبيبك فى الكوشه مع حد تانى غيرك، سيبنى ياواد عمى خلينى امشى.
قالها واتجه للخارج على الفور، يعود بسيارته التي أتى بها، في سكون، ويترك مدحت وكلمات عاصم تطن بعقله، وتوجع قلبه حزنًا على ابن عمه والذي شارك بغباءه هو فيما وصل إليه.
❈-❈-❈
وفي جانب وحدهم وعلى قرب انتهاء حفل الخطبة، تجمع نساء العائلة تقريبا جميعهم على طاولة وحدهم، ليتسامروا مع الحج ياسين:
فقالت هدية:
- خلاص ياعمى، انت مدام مبسوط جوى كده يبجى احنا كمان نعمل فرح حربى فى القاعه يعنى هو احنا اقل من العمد ولا ايه؟
نعمات بحسن نيه؛
- وماله ياحبيبتى يارب يكرم حربى بالعروسه هو كمان
قالت هديه بتلميح :
- شدى حيلك انتى ياحبيبتى معانا واحنا نخلى الفرحة فرحتين
تطلعت إليها نعمات تسألها باستفهام:
- اشد حيلى! جصدك يعنى ادور معاكى على عروسه؟
تدخلت سميحة تخاطب هدية وهي ترمي على نعمات:
- اللحجى يا هديه دى عامله نفسها مش عارفه
- عيب يا سميحه بلاش تلجيح الكلام ده.
هدر بها الجد ياسين هامسًا بحدة يوقف الاثنتان، ولكن نعمات اصرت على المعرفة
- يعنى ايه؟ ما تخليهم يتكلموا، انا مش فاهمه حاجة يا عمى .
ردت راضية بخبث هي الآخرى:
- افهمك انا ياغاليه اصل هديه وولدها حربى النهاردة حاطين عينهم على نهال من أول الفرح ولا انتي مخدتيش بالك؟
- نعم؟ إيه اللي انتو بتجولوه ده؟
قالتها نهال باستغراب، والتي وصلت وقتها وسمعت حديثهم، صمتت نعمات كالعادة حينما تشعر بانفعال بسري بداخل نحو موقف ما، حتى لا يخرج من فمها الخطأ، وتكفلت راضية بالرد على نهال :
- زى ماسمعتى كده ياحبيبتى حربى واد عمك عينه ماتشلش من عليكى النهاردة بس سيبك منه انتى خلاص هتبجى عروسة ولدى الدكتور هو اللى يستاهلك.
تملك نهال الغيظ وهذه النبرة المستهينة بها وباختيارها، لترد باندفاع:
- حيلكم حيلكم هو بلاها سوسو خد توتو، لا بجى انا هبجى دكتوره يعنى ما يلزمتيش اتجوز الدكتور ولا غيره
- شدى حيلك وورينا شطارتك
قالها مدحت اللى وصل على حظها في هذا الوقت، حالا ليتفاجأ من طريقة حديثها عنه، لتجفل وتلتف برأسها إليه، فترى هذا الاشتعال بعينيه، ليخيم الصمت على الجميع وتسود ذبذبات توتر في الهواء حولهم غير مريحة، ثم قال مخاطبًا والدته وعيناه على نهال:
- مش يا للا بجى يا امى عشان اوصلك انا شايف ان الخطوبه قربت تختم وملهاش لازمه الجعدة اكتر من كده
نهضت راضية عن محلها تطيعه دون صوت، وتحركت لتسبقه بخطواته البطيئة، اما هو ف أبى ان يترك الحفل دون أن يرد، ف اقترب من نهال يهمس لها بغضب، جعل قلبها ينتفض
اما نشوف شطارتك ياست الدكتورة.
❈-❈-❈
بداخل السيارة وفي طريقهم للعودة، كان مدحت يقود السيارة بعقل شارد مع هذه المتمردة، يعتريه الغيظ بشدة منها ومن رفضها له، دون تقدير بمكانته، وكأنه شخص بلا قيمة، كلماتها كانت تتكرر على أسماعه، حتى انه لم يكن منتبهًا لحديث والدته وشقيقته، حتى نفسه لتخرج افكاره بصوت مسموع:
- ماشى، ان ما كنت ربيتك مبقاش انا .
- مين دى اللي هتربيها ؟!
هتف بها رائف من خلفه وهو جالس على الكنبة الخلفية، لينتظر الإجابة من مدحت الذي لفه الأرتباك، وزاد من حرجه بأن سُمعت أفكاره .
ردت راضية بذكائها المعهود وهي جالسة في الامام بجوار ابنها،
- متخدتش على خاطرك وتزعل يا حبيبي، ما انا جولتلك من الاول البت دى محدش مالى عينها
- مين دى ؟
هتف بها رائف من الخلف، وعيناه تتنقل ما بين والدته وشقيقه الذي كان يقود بوجه متجهم، والذي تجاهله ليقول بغضب واستياء:
- امى الله يخليكي، انا مش عايز افتح كلام لأن انتى اللى غلطانه من الاول .
ردت راضيه بملامح حزينة:
- انا يا ولدى ليه؟ عملت ايه بس ؟
رد مدحت وعيناه ارتكزت نحو الطريق، دون ان يلتف بنظره نحوها:
- يعنى مش عارفه عملتى ايه؟! انتى خدتى رأيى جبل ماتعرضى عليها الجواز ياما؟
صاحت ترد بدفاعية:
- يعنى الحق عليا يا ولدى، دا انا مكنتش عايزاها من الاول عشان راسها الناشفة وعقلها الشاطح في التعليم والكلام الفاضي، لكن لما شوفتها عجباك جولت اجوزهالك.
ضرب بقبضته على المقود بعصبية وهو يهدر كازًا على أسنانه:
-تاني برضوا بتنفذي اللي في دماغك من غير ما تشوريني، تمام زي ما عملتي المرة اللي فاتت وخليتني اتحط في موقف محرج مع عيال عمي، طب انتي عرفتى منين انها عجبانى؟ انا جولتلك؟
صاح رائف من الخلف:
- لا بجى افهم مين دى اللى بتتكلموا عليها انا مش هجعد على طول كده زى الاطرش فى الزفة،
لم تلتفت إليه راضية ولكنها واصلت الحديث مع مدحت بحنان الأم :
- يا ولدى انا شوفتها فى عينك مين غير ما تجول، فقولت اللحق قبل ما تروح لحد تاني زي اللي راحت.
هم مدحت لقطع حديثها ولكنها سبقته بتصميم
- ماتحاولش تنكر ياواد بطنى، نظرتك ليها كانت فضحاك الليله وانت عينك مانزلتش من عليها، دا انت ولدي اللي انا حفظاه اكتر من نفسه.
كلماتها القوية أجبرته على الصمت مع تفكيره الذي عاد إلى هذه المتمردة التي شغلته طوال الأيام الماضية، من وقت ان رأها ببيت جده، حتى شجاره معها الليلة، بعد ان شعر بتوقف دقات قلبه عن النبض مع رؤيتها بهذا الجمال الساحر، وعيون البشر التي تتاَكلها من حوله، حتى نسي اتزانه وكاد ان يفضح نفسه بانفعاله عليها، انتفض من شروده فزعًا على صوت رائف شقيقه من الخلف:
- وبعدين يعنى معاكم انتو هاتفضلوا كده كتير تتكلموا بالالغاز انا عايز اعرف الكلام دا كله على مين؟
صاحت بدورها راضية عليه ترد بعصبية نحوه:
- يخرب مطنك يا شيخ، خبر ايه يا واد؟ انت ايه اللى جابك معانا اساساً ماكنت جيت مع ابوك وعمامك فى عربية الرجاله، هاتبيض وتعرف مين هى؟ .... ما بنجيبش سيرة حد غريب، احنا بنتكلم على بت عمك المحروسة نهال يا سيدى، ست الحسن والجمال اللى شايفه نفسها ومحدش مالى عينها.
سمع منها رائف ليعود بظهره للخلف مسترخيًا يقول:
- اااه يعني انتوا بيتكلموا على نهال، جولو كده عشان ابقى معاكم في الحديت، طب وهي نهال شايفه نفسها ياما؟ دى عسل ودمها سكر كمان.
قالها وهو يبتسم ببلاهة، غافلًا بغباء عن نظرات شقيقه التي كان يحدجه بها بعنف في المراَة الأمامية، فقالت راضية تغير دفة الحديث:
- طب انت برضك هتوصلنا وتمشى فى الليلالى يا ولدى؟ مش ناوي تبيبت، حتى عشان تقضى الجمعة معانا، دا انت بجالك سنين ماخدتش اجازه .
هم ان يرد بالرفض ولكن سبقه رائف بقوله:
- ايوه صح يا دكتور، دا حتى الجمعه بكره اول الشهر، يعنى العيله كلها هتتجمع عند جدى واهى فرصه تغير جو وتفتكر زكرياتك مع الحصان العالى بتاع جدى ولا كمان اكل عمتى صباح انت عارفه بجى مش هاجولك
رد مدحت بتفكير:
- العيله كلها، طب اما اشوف وجتى يسمح ولا لأ.
على تختها كانت جالسة بملابسها التي لم تقم بتبديلها حتى الاَن بوجه واجم، تتطلع على الأشياء الذهبية التي زينب أصابها ورسغ يدها بشرود، ينقصها هذه الفرحة التي تسمع عنها او راتها قبل ذلك على وجوه عرائس حضرت لياليهم سابقا من الأقارب أو الجيران، تتسائل بداخلها لما هذا التبلد الذي ينتابها ويمنع عنها الإحساس الجميل؟ تنهدت بقنوط فهذه الحيرة تتملكها منذ هذا اليوم الذي فاجأها به عاصم بهجومه المباغت لها، ليته تركها على حالها الأول فقد كانت هانئة البال ولا يشغلها شئ، أما الآن فهي لا تعلم ما الذي أصابها؟
-لسة برضوا ما مجومتيش من مكانك ولا غيرتي هدومك؟
هتف بها نهال تقطع عنها شرودها وهي تلج إلى الغرفة وقد بدلت لبيجامة بيتيه مريحة، فردت بدور بإجفال:
-إيه دا يا نهال خلعتيني؟ هو انتي عايزة مني حاجة؟
رمقتها المذكورة بنظرة ممتعضة لتقول وهي تجلس على تختها المجاور وتتناول هاتفها:
-سلامتك يا حبيبتي من الخضة، انا بس مستغربة حالتك، اصلك قاعدة من ساعة ما جينا وعلى نفس القعدة ع السرير ما تحركتي، مش ناوية تغيري طب عشان تنامي؟
تدراكت بدور بوضعها لتقول وهي تلملم فستانها وتحاول النهوض:
-حاضر حاضر، قايمة اها.
قالتها وتحركت خطوتين تجر بأذيال هذا الفستان الثقيل، ثم التفت سائلة شقيقتها:
- نهال هو ليه عاصم مجاش يباركلى زى حربى ولا الدكتور مدحت ؟!
رفعت رأسها نهال عن مطالعة الهاتف لتجيبها تهز رأسها بنفي:
-لا عاصم النهاردة مشفتوش خالص، دا باينه مجاش اساساً، وانتي بتسألي ليه؟
ردت بدور تقول بارتباك لا تعلم سببه:
- لامفيش يعني، بس انا بسأل عشان شوفتوا بعيني وحتى كان واجف على اَخر القاعة، فضل متنحلي وبعدها مشي واختفى،
- مشي على طول واختفى!
رددتها نهال بدهشة وهي تفكر، ثم ما لبثت ان تنفض رأسها وهي تردف:
- ع العموم كدة احسن، محدش عارف، يمكن لو كان جعد كان عمل خناقة ولا حاجة، دا طبعه حامي ومش مضمون..
أومأت بدور برأسها صامتة، حتى اجفلتها شقيقتها بقولها الحازم:
- ما خلاص يا بنتي اتحركي بجى عشان تغيري اللي لابساه ده، وخلينا ننام الوقت اتأخر.
تحركت بدور على قولها، ما ان اقتربت من الباب حتى توقفت على قول نهال التي استلقت لتشد الغطاء عليها:
- بدور ، يا ريت والنبي تلحجي تغيري بسرعة ومتنسيش تطفى النور، الله يخليكى مش عايزه اروح لجدى الضهر بكرة، ماشى
- ماشى.
قالتها بدور لتفعل ما طلبته منها شقيقتها، فهي الأخرى تريد ان تريح جسدها المرهق بالنوم، وعقلها أيضًا
❈-❈-❈
1
في اليوم التالي
تجمعت العائلة بمعظم افرادها، في منزل الحاج ياسين، بناءًا على قرار اتخذه الرجل منذ سنوات طويلة، حتى يجمع اولاده وأحفاده حوله في مكان واحد، اول جمعة من كل شهر .
السيدات يعددن الطعام ومساعدة صباح في ترتيب المنزل، والرجال في المندرة، اما الشباب والفتيات فكانوا يتسامرون في الحديقة، إلا نهال فقظ استأثر بها جدها الحج ياسين في جانب وحدهم على الاَريكة الخشبية المخصصة للرجل أسفل عرش الكرم،، غير مسموح لأي شخص الاقتراب بتحذير شديد من الحج ياسين الذي كان ممسكًا بكفيها الاثنان داخل قبضة يده، والقبضة الأخرى كان يضرب بها بخفة على جانب رأس نهال التي كانت لا تستطيع التوقف عن الضحك، وهو يقررها بتحقيق متواصل:
- يا بت جولى شوفتيها فين وعرفتيها كيف يا مجصوفة الرقبة، قولي يا بت.
قهقهت تغيظه ورأسها منكسة لتتلقى ضربات ياسين
- هههههههه مش حاجولك يا جد، مش هجولك.
صاح ياسين بعصبية تثير الضحك:
- عليا النعمه يابت الفرطوس لو ما اتكلمتى لاكون مكسر العصاية دي على راسك، ردى يا بت
جلجلت بضحكاتها تحاول التماسك لتجيبه:
- هههههههه خلاص خلاص هاجول.
توقف ياسين على مضص وهو ينتظرها تلتقط أنفاسها حتى استطاعت التحدث:
- شوف ياسيدى، اولا كدة انت تعرف الواد عيد صاحب الطاحونة اللى جانبينا؟
أجابها ياسين بتركيز شديد:
- ايوه عارفه طبعا مش الواد النشفان ده .
رددت نهال:
- هههه ايوه هو الواد النشفان دا، اصله اتجوز بتها نسمة اللى كانت زميلة اختى بطة فى المدرسة، وانا امبارح شوفتها بالصدفه وهى رايحه لبتها، تصدج هى اللى عرفتنى وسلمت عليا .
رد ياسين ليسألها بلهفة:
- ايوه ايوه جولى كدة، طيب هى شكلها عامل كيف دلوكتى؟ لساها حلوه برضو ولا كبرت؟ طب وشها كرمش كده وعجزت زيى ولا ايه؟ ما تجولى يابت.
هنا لم تقوى على التماسك لتعود للضحكات تغيظه مرة أخرى بقولها:
- ههههههههه مجدراش ياجدى مجدراش .
وإلى الشباب المنتشرين في الحديقة العتيقة لمنزل العائلة الذي مرت عليه العديد من العقود، كان الصغيرين نهلة وياسين ابناء راجح، يتلاعبون على جزع الشجرة الذي صنعوا منه ارجوحة يتبادلون الأدوار في اللعب بها، نيرة ومعها بدور كن يقفن متفرجات على رائف وحربي الذين كانا يتدربان على التصويب بالبندقية، يتساباقان على من يوقع عدد الاناءات الزجاجية الموضوعة للتنشين، والفتيات يقمن بالتشجيع، ليتوقف الجميع على صوت الصغيرين الذي صدح بالقرب منهم
-الدكتور مدحت جه، الدكتور جه.
توقف المذكور يتلقف الإثنان ليرفعهما على ذراعيه، ويقبلهما سعيدًا بهذا الترحيب الصاخب، اقترب بعد ذلك يصافح الشباب واقفيبن، ضمه حربي بعناق رجولي مرددًا:
- ازيك ياكبير، حمد لله ع السلامة يا راجل عاش من شافك معانا هنا.
تقبل مزاحه مدحت يقول ببشاشة:
-تعيش يا عم حربي، انا كمان وحشتني الجعدة في وسطيكم والله.
صافح رائف والفتيات على عجالة وهو يردف:
-عشان كدة بجى جولت اخد اجازه ولو يوم واحد اريح نفسى من الشغل شوية والدايرة اللي مبتنتهيش دي، جدى فين بجى عشان اروح اسلم عليه؟
اجابته شقيقته الصغرى نيرة:
- ياسيدى جدك مجتمع مع الدكتورة نهال لوحديهم ومش سامح لحد فينا يقعد معاهم .
- لوحدهم ليه يعنى؟ طب هما فين ؟
سأل مدحت، وردت نيرة تذكره بمكان جدها الدائم بالحديقة اسفل عرش الكرم.
❈-❈-❈
على وضعها في مشاكسة ياسين بعدم اراحته بالإجابة عن الأسئلة التي يلح بها بعصبية، كانت تضحك بهستيرية متسمتعة بهذه اللحظات مع جدها، حتى اصبح وجهها كحبة البندورة الحمراء، وبعض الشعيرات تدلت من حجابها على وجهها لتجعل رؤيتها تخطف قلب من توقف بالقرب منهم، يستمع لقول جده المكرر:
-جولي يا بت الفرطوس، هجعد اليوم كله جبالك انا
-إنت عايزاها تجول إيه يا جدي؟
قالها يُجفل الإثنان، لترفع نهال رأسها إليه، وتوقفت عن الضحك لترا هذه النظرة الغريبة التي كان يرمقها بها،
بعد ان انتبه أليه ياسين ليتركها ويستقبله بالترحاب وهو يدنو منه يقبل اعلى رأسهِ، ليتبادل على عجالة حديث ودي وهو يناظرها من طرف أجفانه، ليلقي عليها تحية سريعة ردتها إليه، لتفاجأ به يجلس بجوارها ويتحدث بطبيعية مع جده وكأن الوضع طبيعي، يدعي التغافل عن الرجفة التي شعر بها، وهذا التوتر الذي اكتنفها، فتسحبت بمرونة لتنهض مستئذنة منهما وتغادر بعيدًا عن حضوره الطاغي.
❈-❈-❈
التقطت انفاسها اخيرا فورت ان ابتعدت عن محيطه، حتى إذا اقتربت من جمعة الشباب تلقفتها على الفور نيرة متخصرة بيدها تقول ساخرة:
- اهلا اهلا ياست هانم اللي بقالها جلسات سرية مع جدي، ها يا حلوة خلصتى الكلام السر ولا لسة؟
اجابتها نهال بنفس الأسلوب:
-سري بجى ولا علني، مالك يا بارده باللى بينى وبين جدى
تدخلت بدور بينهم لتنهي الجدال من اوله:
- ماخلاص انتى و هى بجى، انتو هاتعملوها شغلانة...
توقفت لترتفع عيناها نحو هذا الذي أتى إليهم على الحصان بهيئته المهيبة دائمًا، فصدح صوت رائف يستقبله بقوله:
- ايه ياعم عاصم؟ واخد الحصان العالي من صباحية ربنا بتلف بيه فى البلد، هو طلع حجك فى الورث ياعم الحج وانا معرفش ولا حاجة يعني؟
جلجل عاصم بضحكة عالية وهي يهبط من على حصانه:
- عيب عليك تتكلم فى الورث وجدك عايش يا واد .
اكمل يلقي التحية على الفتيات متجاهلًا النظر نحو بدور :
- ازيكم يابنات عاملين ايه؟
رددن خلفه التحية ليذهب تارك الحصان لإيدي رائف، ويتغافل بقصد عن نظراتها المصدومة نحوه
ركضت نهال نحو ابن عمها قبل ان يعتلي الحصان مرددة بلهفة
- رائف رائف، سيبنى اركب الحصان والنبي عشان اخدلي صورة وانا عليه
رد رائف ضاحكًا:
-اصورك فين يامجنونة؟ هو انت كد الحصان العالي ولا القعدة عليه، ابعدي عنه يا ماما بدل ما ينفر في وشك يوجعك .
رددت بتحايل وكأنها طفلة صغيرة:
- والنبى والنبى ياواد عمى عايزه اغيظ البنات بالصورة وانا عليه.
ضحك رائف بصوت عالي يقول بشقاوة:
- خلاص انا موافج مدام هتغيظى البنات
هللت بفرحة عارمة تشكره بامتنان، لتحقيق أمنية غابت عنها منذ فترة طويلة، لاعتلاء الحصان ورائف يحاول تهدئته والسيطرة عليه حتى استقرت فوقه في الأعلى وما ان شعرت ببعض الأمان وقبل ان تفرح بذلك لتجهز نفسها لالتقاط الصور، الا وقد باغتها الحصان بحركة عنيفة جعلتها تسقط من فوقه، لحقها رائف قبل أن تقع على الأرض جيدًا، ليصرخ بها فزعًا:
- حاسبى رجلك يابت عمى، اوعى تكون اتأذت.
حاولت نهال ان تتحلى ببعض الشجاعة والتحمل لتجيب بابتسامة رغم الالم الذي شعرت به:
- الحمد لله متاذيتش يا رائف، متشكرة يا واد عمي .
قالتها وهي تحاول إسناد نفسها جيدًا على الارض دون مساعدته، لتجفل بعدها منتفضة على صيحة عالية من الخلف
- رااااائف.
التفت لتجده امامها باعين نارية يناظرها هي ورائف الذي كان ما زالت ذراعيه تسندها، حتى أنه لم ينتبه على يده فوق خصرها .
-❈-❈
صرخته القوية مع هذه النظرة الغريبة التي كان يرمقها بها وكانها أجرمت او فعلت شيئًا غير اخلاقي، جعلها تبادله بنظرة غاضبة غير متقبلة بأسلوبه في التعامل معها، أما رائف فقد كان رد فعله هادئًا، بل أنه ظل ممسكًا بها ولم يتخلى عنها حتى تناولتها منه بدور شقيقتها ونيرة شقيقته، ليكتفي بالرد ببرود نحوه:
-نعم يا حضرت الدكتور.
اجابه كازًا على اسنانه :
- اخلص عايزاك .
اشار بكفه إليه مع إيماءة بعيناه، ليلتفت قول حربي هو الاَخر والذي جاء ليطمئن على ابنة عمه:
- ايه يا نهال يا بت عمي، ليكون جرالك حاجة قولي .
ردت تجيبه بارتباك لتخفي حرجها:
-ياجماعه مفيش حاجة اطمنوا، حمد لله جات سليمة.
سألها رائف بقلق:
- طب امشى عليها قدامنا، وخلينا نطمن.
همت ترد ولكنها انتفضت مفزوعة على صرخة مدحت على شقيقه:
-إنت يا زفت انا بكلمك ما بترودش ليه؟
التف إليه رائف يرمقه باستغراب ليجيبه:
- حاضر طيب ياعم الحج، هى الدنيا خربت؟
قال مدحت ليزيد من ذهولهم بهذا التعنت:
-لا مخربتش، بس اخلص يالا وهات الحصان معاك .
تمتم حربي هامسًا ل رائف وقد ادهشه فعل مدحت أيضًا:
- هو اخوك ماله يا عم انت ؟
هز كتفيه رائف يرد بسأم :
-انا عارف يا عم ماله دا كمان؟ شغال يزعق والواحد اعصابه مش متحملة أساسها.
خاطبته نهال برجاء:
- خلاص يا رائف اطمن انت وروح شوف اخوك عايز ايه، انا جولتلك انى تمام .
رد رائف مستسلمًا:
- ماشى انا هروحلوا بالحصان وراجع تانى،
❈-❈-❈
- ما بدري يا باشا؟ وكنت جعدت شوية تاني كمان من غير ما تعبرني ولا ترد عليا؟
هتف بها مدحت بانفعال، ذراعيه الأثنان خلف ظهره، عاقدًا كفًا بالأخرى، وعلاقة المفاتيح تهتز منهما بعصبية:
رد رائف باستهجان:
يا سلام، وانت تستنانى ليه يعني، ما كنت جيت واخدته بنفسك مني؟
تناول مدحت لجام الحصان ليقول وهو يحاول اعتلاءه:
- معلش يا بشمهندس، لو كنت عطلتك شوية عن الضحك والمسخرة
رد رائف مستنكرًا تهكم شقيقه بهذه الكلمات:
- مسخرة! طب براحة شوية ع الحصان تلاجيه مستغربك بس عشان بجاله زمن ماشفكاش
قال مدحت بتحدي وهو يشدد على اللجام بغرض السيطرة على ذعر الحصان:
- متخافش عليا انا يمكن كنت بعيد عنه بجالى فتره طويله بس انا خيال واعرف كيف اسيطر عليه من تانى.
قالها ليأمر الحصان بالتحرك فور أن أتم احكام السيطرة عليه، ليتمتم رائف وعيناه تطالع ركض الاَخر بالحصان أمامه:
- هو ماله كده واخدها تحدى !
❈-❈-❈
- الله شايفين يا بنات اخويا بيجرى بالحصان كيف؟ فارس بصحيح.
هتفت بها نيرة مهللة بفرحة وهي تشير للفتيات على شقيقها وهو يركض بالحصان الذي اعتلاه منذ قليل، رأته نهال وهو يطير أمامها لتشعر بتخضم قلبها داخلها من البهجة، وقد ذكرها بحلمها وذكرى جميلة كبرت عليها لتجعله الوحيد بعقلها وفارس أحلامها عن حق ، كان هذا قبل أن تكتشفه حديثًا بعد ان نظر لشقيقتها، زمت شفتيها بضيق وقد عادت لعقلها بعد ان استفاقت من حلم الطفولة والمراهقة والمتعلق بهذا الكائن، قالت بدور بشرود مبتسمة جعلها تنتبه من افكارها
- برضك مش زي عاصم
-مين؟
تفوهت بالسؤال نهال بعدم استيعاب وهي تطالع شقيقتها بنظرات متشككة جعلت الأخرى تتربك وهي تحاول التهرب بعيناها عنها، فقالت نيرة مخاطبة نهال:.
- وانتى هتفضلى واجفة كتير متتحركى تمشى خلينا نشوف رجلك تمام ولا فيها حاجة
سمعت منها نهال فحاولت تحريك اقدامها لكنها شعرت بالالم الذي جعلها تعرج عليها، مما جعل شقيقتها تقترب منها لتسالها بقلق بالغ:
- اوعى تكون الوجعة اثرت على الكسر الجديم؟
نفت نهال بتحريك رأسها تقول:
- لاه مش المكان الجديم دى حاجه بسيطة
قالت نيرة تشاكسها بلوم:
- كان لزوموا ايه بس ركوبة الحصان العالى مكنتى ركبتى مهرة صغيرة وبرضك كنتى هتغيظى صحباتك . دا انتى تحمدى ربنا ان اخويا رائف لحقك و لا كانت الوجعة بجت فى المخ وبدال ماكنتى دخلتى طب، تدرسى كنا داخلناكى مستشفى المجانين مجنونة ههههه
ردت نهال بغيظ اشتد مع رؤية بدور التي تاَمرت بالمشاركة في السخرية عليها بالضحك هي الأخرى
- هاها ظريفه يا اختى انتى وهى، جاتكم الهم، انا سايباكم خالص وداخلة.
قالتها لتذهب من أمامهما ، تتحامل بالعرج على قدمها المصابة:
لحقنها الفتيات مرددات خلفها:
-خلاص واحنا كمان جايين معاكى، بس براحة شوية على رجلك فى المشى واسندى عليا .
❈-❈
على مائدة السفرة التي ارتص عليها كل ما لذ وطاب، تجمع افراد العائلة بعد صلاة الجمعة يتناولون وجبة الغداء، صباح كانت هي من تدور على الجميع تراعي وتوزع الابتسامات لتتأكد من إرضاء الجميع، خصوصًا مدحت والذي هتف معترضًا:
-خلاص يا عمتي الله يخليكي، كفاية بجى انتي مكلتيش خالص.
ردت صباح ببشاشة:
-يا حبيبى انا فرحانة بجيتك وعايزك تاكل زين، دا انت بجالك سنين مكلتش معانا.
قالت مدحت ضاحكًا:
- سنين برضو يا عمتى؟ اشحال إن ما كنت مشرف هنا الجمعة اللي فاتت، لحجتي تنسي برضو؟
جلجلت صباح بضحكة عالية تردف له:
- يوم الجلسة التاريخية هههههه بس انا ملحجتش ارحب بيك في يوميها، اصلنا كنا منتظرين الحكم ههههه.
القت بمزاحها صباح دون ان تدري بالحرج والضيق الذي اصاب البعض رغم، ضحكات البقية، حتى تدخل ياسين وهو يكتم ضحكته بعد ان شعر بذبذبات التوتر
- خلاص يا صباح اجعدى كلى وفضيها حديت، الكل بياكل هتجعدي انتي كدة بجى فوق راسنا لحد ما نشبع؟
ردت صباح مذعنة بطاعة:
- حاضر يا بوى، إنت تؤمر.
صمت قليلًا ياسين ثم رفع رأسه إلى الجميع موجهًا خطابه:
- انا مش عايز حد يزعل من حكم حكمته، يعلم الله انى خفت لتجولوا انى فضلت واحد عن التانى، يعنى يوم بطة بت راجح الكبيرة، لما اختارت بنفسها واد خالها اللي في بلد تاني عنينيا، انا مجدرتش برضوا إني
اجبرها على بلال ربنا يرجعه بالسلامة من الإعارة وهو واد عمها واولى بيها.
قال راجح بابتسامة ممتنة:
- كلنا عارفين غرضك يا بوى ومجدرينه عشان كدة محدش فينا عارضك في رأي، ربنا يخليك لينا وتجوزهم كلهم ان شاء الله.
تمتم الجميع خلفه بالدعاء وقال ياسين بإصرار:
- اسمعها منيهم واتأكد، عايز بزعل حد منهم.
قال عبد الحميد  بثقة بعد ان القى نظرة على زوجته وأولاده
- انا عن نفسى راضى بحكمك يا بوى، انا وولدى الدكتور مدحت.
قال ياسين مخاطبًا مدحت:
- صح يا دكتور كلام ابوك ولا انت ليك راي تاني؟
اجابه مدحت وهو يطالع نهال من طرف أجفانه:
- صح يا جدى، انا عايزك تبقى مطمن إني مش زعلان أبدًا، لأنها كانت غلطة مني، بس انا عارف كيف اصلحها.
قال الأخيرة بمغزى وصوت خفيض وعيناه اتجهت بشكل مباشر على نهال التي انتبهت مستغربة.
نقل انظاره ياسين نحو محسن سائلَا:
-كويس يا ولدي جول بصراحة لو عندك اعتراض إنت ولا ولدك .
تدخلت هدية قائلة:
-واحنا لينا حق نعترض برضوا يا عمي؟ دا انت الخير والبركة.
علقت راضية على قولها ساخرة:
- بيجول يا محسن مش يا هدية، هو انت حد جاب سيرتك اساسًا؟
كزت هدية على أسنانها تريد الفتك بها او التفوه بما يفحمها بها ولكن ياسين قطع عليها بقوله:
- ماتجول يا ولدى عن رأيك بدل كلام الحريم الماسخ ده.
اجابه المذكور:
- يا بوى انا وولدى ملناش حق نعترض في أي شئ انت حكمت بيه ع الكل مش على فرد واحد، واحنا تحت امرك فى كل اللى تقوله.
توجه ياسين ل حربي سائلًا:
-ودا رأيك برضوا يا حربي ولا ليك رأي غير ابوك؟
اجابه المذكور بخفي تردده:
- اا كل شئ نصيب يا جدى، وانا مش هبقى مخالف عن حد من العيلة.
تنهد ياسين بثقل يوجه سؤاله الاَخير نحو الجهة الشائكة:
- نيجى بجى للمهم وربنا يستر، ها ايه رأيك بجى في اللي حصل واتجال يا سالم؟ انت ولا وعاصم ولدك؟.
قالها ياسين وعيناه تطالع عاصم والذي فاجأ الجميع بقوله:
- ربنا يستر ليه بس يا جدى، هو انت فاكرنى اجل منهم في العقل يعني؟ دا انت جولت بنفسك، بطة لما اختارت ماجدرتش انك تجبرها و انا راجل يا جدى يعنى لو حكمت ادوس على جلبى هادوس.
قال الأخيرة وعيناه اتجهت مباشرةً نحو بدور التي شحب وجهها برده العنيف، لتزداد دهشتها مع قوله حينما اردف
- وعايزك تطمن يا جدى انا جريب هفرحك، عشان ازيح عن راسك همي.
تدخلت سميحة والدته، تساله بلهفة:
- صحيح يا:ولدى، يعني انت نويت ع الجواز صح؟
رد يجيبها:
صحيح يا ست الكل، وافرحي وفرحي الكل معاكي كمان .
توقف فجأة ليُفاجأ نيرة بسؤاله:
الا جوليلى يا نيرة، هو انتى فى سنة كام دلوك ؟!
اجابته نيرة بعفوية:
- انا فى تانية ثانوي زراعي
استمرت بعد ذلك الأحاديث الودية بين الأب والأبناء والاحفاد، أما بدور صاحبة المشكلة الرئيسية فقد كانت على مقعدها لا تعرف ما الذي أصابها، تشعر بدوار اكتنفها فجأة او حالة من الاختناق لا تدري بسببها، حتى انها فقدت شهيتها، وكانت تتلاعب بطبقها لدرجة من السهو جعلت والدتها تنتبه عليها لتعقب سائلة بصوت واضح:
-بتعلبي في طبقك وما بتاكليش ليه يا بت؟ هو انتي عايزة عزومة؟
رفعت عيناها لتهم بالرد لتفاجأ بعيني عاصم أمامها والذي انتبه على صوت نعمات، ليزداد ارتباك الأخرى واضطرابها، فصدح صوت الهاتف امامها على سطح الطاولة، لتعلم بهوية المتصل فابتلعت ريقها لتكتم الصوت على الفور، فهي لا ينقصها، ليجفلها الصوت مرة أخرى فور انتهاء المحاولة الأولى، مما جعل والدتها تخاطبها بضيق:
- خبر ايه يا بت؟ ما تردي ع المخروب ده وتشوفيه مين اللي بيتصل، بدل ما هو بيرن كدة ع الفاضي.
ضغت على الهاتف تقول لها :
- لااا ماهو مشهم ياما .
عاصم والذي كان يمثل التغافل امامها كان يعلم بهوية المتصل دون ان تقول، فيكفي حرجها أمامه ليخمن وحده، فكان يحاول السيطرة على حريق صــ دره، يمضغ الطعام بصعوبة تجعله يبتلعه في حلقه وكأنه حجارة، وليس طعامًا عادي
وبالقرب منه كان الاَخر لا يرفع انظاره عن متابعة رائف شقيقه وهو يمازح نهال بالهمس والتعليقات الساخرة عن وقعة الحصان، وهي تسجيب ضاحكة بصوتها الخفيض، رغم تحذيره من غضب الجد، وعدم راحتها من نظرات هذا المدعو مدحت التي كانت تلمحها كلما رفعت رأسها عن طبق طعامها، حتى غمغمت حانقة:
-- استغفر الله العظيم يارب .
- ايه مالك؟
سألها رائف لتومئ له بعيناها نحو شقيقه، ف انتبه هو الاخر ليعقب بعدم اكتراث متفكهًا:
- يا بنتي ما دا الطبيعي مش دكتور ومحترم، يعني اهم حاجة عنده الانضباط، اما الضحك والهزار الجانبي دا ميعجبوش أكيد يعنى مش زيى تافه ومهزهق
- هههه
صدحت بصوت واضح جعل الجميع ينتبه إليهما، وازداد اشتعال الاخر ليحدجهم بحدة مخيفة،وهتف ياسين موبخًا رائف بصوت عالي:
- انت ياد مش ناوى تسترجل كده وتجعد عاقل زي الناس، كل مره هانجولهالك ياد، فالح غير فى المسخرة مع البنتة
رد رائف بدفاعية ضاحكًا:
- وه يا جدى هو انا بهزر مع حد غريب؟ دى بت عمى.
فاض بمدحك لينهض فجأة عن كرسيه الذي أزاحه للخلف بعنف اجفل الجميع، فقال معتذرًا:
- انا خلصت وعايز اروح الحمام.
هتفت صباح تقول بعتب:
- طب كمل واكلك الاول يا ولدي، هو انت لحقت تاكل؟
-كلت وشبعت يا عمتي
قالها مقتضبة، ثم ذهب من أمامهم بسرعة البرق.
❈-❈-❈
بداخل الحمام وعلى طرفي المغلسة كان مستندًا بكفتيه، يتطلع للمراَة بأنفاس متهدجة من غيظ يكتنفه بشدة، يود تكسيرها أو فعل أي شئ يفرغ فيه طاقة الغضب بداخله، هو ليس صغيرًا حتى لا يعلم بحقيقة ما يشعر به الاَن، لقد فكر كثيرًا وحسم قراره، ولن يمنعه شئ في التنفيذ، دنى برأسه يفتح صنبور المياه ليتناول منها كمية باردة ليتغتسل بها على وجهه، علّها تهدئ النيران التي تسري بداخله الاَن
❈-❈-❈
وإلى نهال التي حاولت النهوض عن مقعدها بجوار السفرة، بعد الإنتهاء من الطعام وذهاب المعظم لشئونهم، لتفاجأ بهذا الألم الموجع بقدمها والذي جعل صرخة مكتومة تخرج منها دون إدارتها، حتى جعل والدتها والحج ياسين ينتبها لها ليسألاها على الفور:
- مالك يا بت في حاجة وجعاكي؟
-هي الصرخة دي طلعت منك انتي يا نهال .
هزت برأسها بحركات غير مفهومة، لتتأوه غير قادرة على كتمان الألم، تركت والدتها الذي كان بيدها من أطباق تحملهم لدخول المطبخ، واقتربت من ابنتها سائلة بجزع:
- إيه اللي واجعك يا جزينة؟
-رجلي مش قادرة ادوس ولا اخطي عليها.
همست بها بصوت باكي جعل ياسين يقترب منها، ليسندها بيده ويسألها بصوت ملهوف:
-ورجلك توجعك ليه؟ إيه اللي حصل؟
أجابت بدموع خانتها:
-اصلي وجعت عليها النهاردة
سمعت منها نعمات لتهتف بجزع:
-وجعتى عليها ربنا يستر، اوعى تكون ورمت يا بت، وريني كدة خليني اشوفها، ولا نواديكى للدكتور نطمن احسن .
قاطعها ياسين يقول بحزم وهو يشير على مدحت الذي كان خارجًا من حمامه الاَن:
- ونوديها لدكتور غريب ليه ان شاءالله؟ واحنا الدكتور فى بيتنا تعالى يا ولدى شوف بت عمك.
جزعت نهال من مجرد الفكرة لتهتف معترضة بفزع:
-لا طبعًا، انا مش عايزة حد يشوفني، انا رايجة أساسًا، حتى شوفوا اها.... ااه.
صرخت بالاَخيرة، فور ان ابتعدت خطوتين متحاملة على قدمها المصابة، لتفاجا بكفه التى امسكت بها على الفور يسألها بلهفة:
- مالك يا نهال فيكى ايه؟
توسعت عيناها وتغير لون وجهها، وهي تطالعه بهذا القرب الشديد، لتجد جدها يجفلها بقوله للاَخر:
-شوف رجلها يا ولدي البت دي....
قاطعته تشهق منتفضة لتردد بهستيريا:
- لا لا مينفعش انا رايجة، والنعمة انا رايجة ومافياش حاجة، خلينا نمشي ياما.
هيئتها المذعورة من لمسته وهذا الخوف الشديد من فحصها، جعل ابتسامة متسلية تعتلي محياه، يطالع خجلها الشديد بشغف وهي تحاول إخراج كفها من كف يده، ليشدد عليها بسماجة قائلًا:
- وليه يا ست نهال؟ مش شايفانى دكتور جدامك ولا إيه يعني؟
صاح الجد ياسين معترضًا:
-إيه الكلام اللي انت بتقوله دا يا دكتور؟ دا واد عمك يا بت، يعني مش غريب.
غمغمت نهال تصرخ داخلها بقهر:
- ما هو الغريب هيبجى احسن منه !!
يشدد عليها بإلحاح لفحص قدمها الذي ترفضه بشدة لدرجة جعلتها، تتشنج بين يديه وهو يدعي انه يسندها، ولكنه في الحقيقة اتخذها فرصة بإصراره على مناكفتها،
مستغلًا هذا القرب منها، تغمره الفرحة، وهو يرى تفاصيل ملامح وجهها المليحة عن قرب، يشعر بارتجافها مع خجلها الشديد بعدم النظر مباشرةً في عيناه، ممسكًا بمرفقها ويلح بسماجة لفحصها حتى هبط والدها مجفلًا على الدرج من سطح المنزل الذي كان يتشارك الجلسة به مع اخوته كعادتهم الدائمة بعد انتهاء وجبة الغداء بارتشاف الشاي في ضوء الشمس وفي الهواء الطلق، وذلك بعد ان أخبرته نهلة الصغيرة بما حدث مع شقيقتها الكبرى، فهتف لاهثًا بجزع:
- إيه اللي حصل؟ مالك يا بت يا نهال فيكي إيه؟
رد الحج ياسين باستهجان:
- تعالي يا ولدي شوف بتك وراسها الناشفة؟ تعبانة وتاعبانا معاها .
اضافت نعمات هي أيضًا:
- بتك رجلها مجدراش تجف عليها يا ابو ياسين و مش عايزه واد عمها يكشف عليها ولا يشوفها .
- وه
خرجت من راجح ليكمل بارتياع:
- مرضياش ليه بس يا بت؟ متخليه يشوف رجلك ويكشف عليها، عشان يعرف اللي بيها بالظبط ويحدد العلاج .
رد مدحت بخبث:
- يمكن مش مقتنعة انى دكتور يا عمى وعايزه حد غريب يكشف عليها .
قال راجح بعصبية:
- حد غريب كيف يعني ؟ وانت دكتور كد الدنيا
اجعدى يا بت خليه يشوف رجلك .
هتف بالاخير بحزم جعل نهال تقول بلهجة باكية:
- يا بوى حن عليك انا عايزه اروح بيتنا .
خرج عن شعوره ونفذ صبره راجح وهو يهدر بها ها تروحى كيف يا بت ال...
توقف وهو يقترب منها مخاطبًا مدحت:
- إوعى كده يا ولدى اوعى
أردف بها ثم باغت نهال برفعها عن الأرض ليحملها بين ذراعيه، شهقت نهال مجفلة وهي ترى تجاهل والدها اعتراضها ويدعو مدحت ليأتي خلفهما حتى دلف لحجرة الجد ياسين في الطابق الأرضي ليضعها على التخت النحاسي القديم لياسين، ثم هتف بحزم تجاه مدحت الذي لحق به ووالدتها :
- اكشف يا ولدي ع البت دي خلينا نخلص.
تطلع مدحت نحوها فوجدها انزوت الفراش، تغطي قدمها ودمعة ساخنة نزلت من وجنتها، مطأطأة رأسها بحرج، اصاب قلبه الشفقة عليها وشعر بعدم الارتياح في نفس الوقت ليتصلب مكانه متوقفًا بتردد لفعل اي شئ، حتى رفع رأسه إلى راجح يخاطبه:
- ها كشف عليها كيف بس ياعمى اديك شايف؟
قالها مدحت ثم التف بظهره عنهم، يمسح بكف يده على شعر رأسه حتى الألف، والأخرى بجيب بنطاله، ليصدر صوت نعمات من خلفه :
-ولي وشك يا دكتور وتعالى اكشف ع البت .
التف إليها ليجدها جلست بالقرب من ابنتها تستطرد بصرامة:
- اسمعني ايه يا دكتور ، انا امها وبجولك شوف رجلها يا ولدى، احنا مش ناجصين يطلع كسر ولا حاجه عفشة
شعر مدحت ببعض الراحة بعد ان راى استجابة نهال بان دفنت راسها بحضن والدتها التي دثرتها بالغطاء وكشفت عن القدم المصابة فقط
فتقدم ليجلس على طرف السرير، بحرج اصابه مرة اخرى، فتحمحم يجلي حلقه قبل ان يتناول قدمها والتي ما ان وضع كفه عليها حتى انتفضت، فخرج صوته بصعوبة ليقول بعملية يحاول التركيز بها :
- وبعدين بجى، انا كدة مش هاعرف اكشف على فكرة .
قالت نعمات بأمر لابنتها
- خلاص يا دكتور هى هتهدى على طول اها، ارخى نفسك يا بت شوية على واد عمك عشان يعرف يكشف.
استجابت لامر والدتها تحاول التماسك وتناسي لمسته على قدمها، رغم ضحيج قلبها بداخلها الذي ينبض بعنف وغباء انساها ألم الإصابة،
بعد ان انتهى من الفحص التف مدحت لعمه قائلًا:
- اطمن ياعمى مافيش كسر والحمد لله هى بس اجزعت والظاهر كده انها اتحاملت عليها، انا هكتبلها على شوية ادوية وان شاء الله خير.
قال راجح بلهفة:
- بجد يا والدي يعني هتجدر تمشي عليها بالعلاج بس من غير تجبير والمرار الطافح ده:
اومأ له مدحت قبل ان يوجه حديثه لها بصوته حنون:
- خلاص بجى ارفعى وشك متتكسفيش
سمعت منه لترفع رأسها ببطء من حضن والدتها، ليرى وجهها المخضب بالحمرة وعيناها التي لا تقدر على مواجهة خاصتيه، لتجعل قلبه يكاد ان يتوقف عن النبض لهذا الخجل الذي يذهب بعقله، ولكنه استفاق على سؤال والدها إليها
- لكن انتى وجعتى فين يا بت؟
تلبكت نهال لتجيبه بارتباك:
- ااا م على عتبة السلم يابوى.
شعر مدحت بكذبها ولكنه فضل السكوت لينتبه على قول والدتها:
- نحمد ربنا بجى انها جات على كدة، دا انا خوفت قوي لتكون جات على الكسر الجديم.
هم مدحت بالسؤال ولكنه توقف على دلوف الجد ياسين ومع نساء أعمامها
- عامله ايه دلوكتى يابت الفرطوس خلعتينى عليكى
قالها ياسين بمزاحه المعتاد وهو يجلس على طرف التخت بجواره وهو يقرب رأسه لحضنه، وجابت هي
- حمد لله يا جدى زينة.
قالت سميحة زوجة سالم:
- الف سلامه عليكى يا بتى، ربنا ما يجيبلك حاجة عفشة أبدًا.
أومأت برأسها إليها نهال بشبه ابتسامة كرد طبيعي، لتجفلها هدية زو جة عمها محسن بسؤالها:.
- بس انتى كنتى رايجة الصبح امتى وجعتى عليها بس؟؟
تدخلت راضية بقولها:
- شكلها كده وجعت عليها جبل الغدا، عشان انا لمحتها بتعرج على خفيف قبل ما نقعد ناكل كلنا، بس ملحجتش اسألها عن السبب، لكن الحمد لله بقى، ان الدكتور فى بيتنا، يعني مش هنعوز نطلع بيها بره عشان نكشفلها.
قالتها بإشارة عن ابنها مدحت الذي نهض من محله ليستأذن في الخروج بعد ان ازدحمت الغرفة بأفراد عائلته التي تريد الاطمئنان عليها.
اوقفه عمه راجج بقوله:
-طب استنى يا ولدي اكتبلى على ورقة بالادوية اللى هاجيبها قبل ما تطلع .
أومأ له مدحت برأسه ليقول:
- حاضر يا عمى حاضر على ما ارجع بس متشلش هم انت .
تحرك خطوتين ثم هتف على والدته قبل ان يصل للباب:
- أمى، هى البت نيره فين ؟
اجابته راضية:
- فى الجنينه ياولدى هى و بدور بت عمها ، اصل الاتنين جاموا من عالوكل مع بعض
بحديقة المنزل كانت نيرة تتابع المكالمة التي تجريها ابنه عمها بدور، بتسلية شديدة وضحك متواصل لا يتوقف والأخرى عابسة الوجه تجيب على محدثها عبب الهاتف بغيظ:
- زينه الحمد لله...... أمممم..... لا مافيش حاجه عادى.....أممم...... أممم....... طيب حاضر .... وانت كمان...... يالا سلام .
.انهت تتنفس بارتياح وكأن الهواء داخل صــ درها للتو فقط، لتزفر بصوت عالي قائلة:
- اووووف اخيراً خلص الكلام يا ساتر .
ضربت نيرة كفيها ببعضهم مرددة بدهشة
- لا اله الا الله، بجى هو دا كلام الخطاب يا ناس، دا انتى شوهتى الصوره عندى خالص، يخرب مطنك يا شيخة.
ردت بدور بعدم اكتراث:
- وانا مالى هو انا جولتلك تيجى معايا ؟
ردت نيرة :
- شايفة التليفون فى يدك رن رن فهمت على طول انه خطيبك، واما جومتى تردى جولت اجى اشوف كلام الحب اللى بنسمع عنه، سديتى نفسى ياشيخة
قالت بدور متفكة هي الأخرى :
- طيب احسن وبالمره ماتتجوزيش كمان
جعدت نيرة بوجهها تقول بضيق:
- يا شيخه غورى.
ضحكت على قولها بدور حتى انتبهت على رؤية مدحت فقالت :
- اخوكي باينه الدكتور جاي يندهلك .
نظرت نيرة في اتجاه اخيها بتساؤل حتى اقترب يخاطبهم:
- ايه يا بنات واخدين جمب لوحديكم يعنى؟
ردت نيرة سريعًا:
- لا ياةخوى ولا جمب ولا حاجة، دا احنا بس كنا بنحكى فى كلام بنات كده يعنى، لكن انت عايز حاجة؟
اجابها مدحت:
- لا يا ستي انا مش عايز حاجة منك، غير إني أسألكم بس، هى نهال وجعت فين النهاردة؟
انتبه مدحت على ارتباك الاثنتان ونظرات القلق التي يتبادلنها مع بعضهن، حتى قالت نيرة:
-هجولك بس انا مش عايزاك تقول لجدى ولا حد من عمامى.
اشار بسبابته لتكمل استرسال الكلمات دون توقف
- بصراحه يعنى هى النهاردة كانت عايزة تتصور عالحصان وخلت رائف يساعدها، بس الحصان وجعها، لكن الحمد لله رائف"لحجها بس رجلها جات تحتها.
ضيق عينيه بتفكير، يتذكر انفعاله على أخيه وقت أن اشتعلت برؤية كف أخيه على ظهرها، بجوار الحصان ليتبين الان السبب لذلك، فقال موجهًا كلمتها للفتيات:
- كدة انا فهمت، طيب انا حبيت اجولكم انها كانت بتصرخ منها دلوك ومجدرتش تمشى عليها.
صرخت بدور بخضة للتحرك على الفور مرددة:
- يا نهار اسود وانا جاعدة هنا بحكي؟ انا رايحالها.
همت نيرة بالحاق بها قبل ان توقفها كف أخيها التي أطبقت على رسغها، فتسائلت بدهشة:
- بتوجفني ليه؟ هو انت عايز مني حاجة يا خوى؟
قال مدحت بصوت حازم يسألها"
- عايز اعرف منك، إيه حكاية الكسر الجديم؟ هى نهال، رجلها اتكسرت جبل كده؟
اجابت نيرة على الفور:
- ايوه طبعا دى ضاعت عليها سنة دراسية من عمرها بسبب الكسر ده، هو انت مش فاكر؟
- لأ مش فاكر طبعًا، دا كان امتى بالظبط؟
قالها مدحت بعدم تذكر، لتهتف نيرة باستدراك:
- ايوه صح انت ساعتها كنت فى مصر بتدرس انا نسيت
هز رأسه بتفهم ثم سألها:
- بس انتي برضو مجولتليش، هي اتكسرت ازاى؟
اجابت بارتباك:
-ماهى كانت وجعة حصان برضوا، بس دى كانت الفرسة الكبيرة، اصلها كانت بتحب تركبها بس جدى من بعد الوجعة، حلف عليها ما تركبها تانى وعشان كده احنا مجدرناش نتكلم على الوجعة الجديدة
هتف مدحت بغضب:
- واخوكى عارف كدة، ومع ذلك اتصرف معاها باستهتار زى عوايدو؟
صمتت نيرة ولم تجد ما ترد به، فتركها ذاهبًا بغضبه دون ان تعلم وجهته.
❈-❈-❈
قبل قليل .
بخطوات السريعة كانت تهرول كي تطمئن على شقيقتها بعد أن أخبرها مدحت بالتعب الذي ألم بها، وما ان ولجت لداخل المنزل الكبير، إلا وقد وجدت حائط بشري ضخم كادت ان تصطدم لولا تراجعه هو للداخل بعد انتابه سريعَا، بهتف بصوته العالي:
- - حااااسب.
شهقت تخفض عيناها من الحرج فور ان عرفتهذ:
-انا اسفه ماكنتش شايفاك
قالتها بخجل شديد تتمنى الارض ان تنشق وتبتلعها
تحمحم هو يشيخ بوجهه عنها ليقول بصوته الرخيم:
- ااا محصلش حاجة، ادخلى انتى خلاص .
سمعت منه لتعدو على الفور بخطواتها السريعة لتختفي بداخل المنزل الكبير، واستغل هو ليُتابعها بعيناه المشتاقة رغم كل هذا الجمود الذي يدعيه زورًا أمامها، سمع صوت ضحكة مكتومة من خلفه جعلته يلتف برأسها ليجد ابن عمه رائف، يكتم بكفه على فمه وهو يكاد ان يقع من الضحك.
تمتم عاصم باستغراب:
- يا سلام وايه بجى اللى مخليك واجع على نفسك كده من الضحك؟
رد رائف غامزًا عيناه بمغزى فهمه عاصم، واللة تخصر بذراعيه يضغط باسناني على شفته السفلى يردف بابتسامة:
- يعنى انت بتتمسخر عليا انا !!
رد رائف بمشاكسة:
- هههه انت زعلت ياعسل .
قال عاصم بتحذير، والابتسامة ما تزال تعتلي قسماته:
- يا واد عمى انت مش كد دراعى ولا زندى .
زاد رائف بمناكفة:
- مش لما تمسكنى الاول يا عسل .
تحرك عاصم ببطء الفهد يقول بنبرة تبدو عادية:.
- لا يا سيدى، انا راجل ماشي في حالي، لا عايز عمى عبد الحميد يزعل، ولا الدكتور كمان ياخد جنب منى .
توقف على مسافة عطوة واحدة يطالعه بنظرة مبهمة، فقال رائف بضحكة سمجة:
- يعنى انت على كدة مش هتكلمنى عشان ابويا واخويا بس؟ مش عشان انا صغير ومجيش في نص دراعك؟
زادت اتساع ابتسامة عاصم بصمت حتى اعطاه الأمان ليباغته، بلف ذراعه حول رقبته ليضغط عليها قائلًا بزهو روجولي:
- مين دا اللى يسيبك ياد انت؟ انا عاصم ياد، انا مين ؟!!
رد رائف ضاحكًا رغم ألألم الذي يشعر به :
هههه سيب يا عاصم وانا اوريك انتى اساساً خدتنى على خوانه.
قال عاصم وهو يزيد بالضغط على رقبته:
- يخرب بيت شيطانك، ارحم نفسك واتأسف ياد .
استسلم رائف اخيرًا يردد بالضحك ايضًا:
- انا اسف انا اسف ياعاصم باشا
- ايوه كده.
اردف بها عاصم ، ثم فك ذراعه عن الاَخر، ليقول وهو يشير على عضلات ذراعهِ الضخمة بتفاخر واستعراض:
- ايوه كده لازم يعنى تشوف منى العين الحمرا.
رد رائف لاهثًا وهو يهندم ملابسه:
- يا عم انا عارف عاجباك فى ايه؟
عبس وجه عاصم ليقول بغضب:
- وبعدين معاك يا رائف انت كدة هاتزعلنى صح.
قال رائف بإصرار:
- يا سيدى انا مش عايز ازعلك بس يعنى بدور بصراحة كدة، عمرها ما عجبتنى، دايما مستكينة ومش مفهومة، ما بطلعش صوت ولا ليه فى الهزار مش زى نهال.
- مالها نهال ؟
صدرت بخشونة من خلفهم، فالتف الإثنان نحو مدحت الذي كان يقترب منهما وقد عرفاه من صوته، فاستقبله رائف بتهليل مستخف كعادته:
- اهلا اهلا بالدكتور.
تقدم مدحت بغضبه يباغت شقيقه بدفعه قوية بكفيه على صــ دره، حتى ارتد بأقدامه للخلف متفاجئًا يصيح به:
- إيه ده في إيه؟ هو انت جاي تضربني ولا إيه؟
هدر مدحت بعنف:
- في انك بني أدم عديم الإحساس، وتستاهل فعلا الضرب .
هتف رائف بانفعال:
- انت اجنيت ياك؟
هنا مدحت فقد البقية المتعقلة برأسها فهجم يريد ضربه، لولا ذراع عاصم التي تصدر بجســ ده امامه يمنعه عن أخيه بقوة قائلًا:
- اهدى يا واد عمي، متخليش الشيطان يوزك ، وجولي بس ايه اللى معصبك كده؟!
رد مدحت وهو يحاول أن بنزع نفسه عنه:
- سيبنى يا عاصم دا بنى ادام معندوش دم .
ضرب رائف كفه بالاَخر يردد بعدم استيعاب:
- لاحول ولا قوة الا بالله، هو انت حد كلمك يا عم ؟!!
هتف مدحت وهو يقاوم ذراع عاصم:
- يعنى بت عمك اللي ركبتها ع الحصان باستهتارك وغباءك الدائم ، لو كانت اتكسرت تانى النهاردة كنت انت ساعتها هاتحس على دمك !!!
صمت رائف يستوعب الكلمات، فقال عاصم بعد ان فك حصاره عن مدحت، بعد ان شعر باستكانته قليلًا، قبل يتابع بتحذير أخيه:
- من الاخر كده المسخرة دى ماتحصلش تانى، والضحك اللي من غير داعي دا ما يتكررش، يعني كلامك يبجى معاها بحدود .
طالعه رائف باستهجان يقول بتحدي:
- وانت بتتحكم كده بأي صفة؟ إنت اخرك واد عمها وانا برضوا واد عمها ولا فى حاجه تانية غير كدة يا باشا !!
برق بعيناه مدحت بشر، وقد بدأ يقفد أتزانه المعروف، فتقدم نحوه مرو أخرى، ينتوي على تاديبه هذه المرة بحق:
- يعنى انا كلامى ما هيتسمعش، طب كلمها تانى يا رائف وشوف اللى هيحصلك .
عاد عاصم يتصدر بجســ ده مرة أخرى، يخاطبه بحزم:
- اهدى يا دكتور الكلام ما يكونش كده.
صاح مدحت وعينيه تطلق شرارًا من الجحيم :
- امال يكون ازاى يا استاذ عاصم ؟ ولا انت عاجبك اللي عمله؟
تروي عاصم معه يرد بحكمة:
- يا واد عمى انا معاك انه غلط لما خلاها تركب الحصان العالى بس مدام ربنا ستر يبجى خلاص.
هتف مدحت بعصبية:
- لاه يا عاصم عشان الموضوع معداش على خير ، بت عمه وجعت من ع الحصان وبعد الغدا مجدرتش تمشى على رجليها.
تبادل عاصم ورائف النظرات بتساؤل، ليهتف الاَخير:
- انا بعد الغدا طلعت السطح مع ابويا وعمامى نشرب الشاى فى الهوا ومعرفش حاجة عن اللي انت بتقوله ده.
صمت مدحت يرمقه بغيظو، وسأله عاصم :
- طيب وهى فين دلوك:.
اجابه مدحت:
- جوا فى الاؤضة عند جدى ومعاها امها والحريم
تحرك رائف ليقول وهو رافعًا حاجبيه يرمق اخيه من طرف عيناه:
- خلاص انا رايح اشوفها .
سمع مدحت لتتراقص العفاريت امامه ليهدر لاحقًا به:
- رايح فين يا بارد؟
اوقفه عاصم عن التقدم لمنع التشاجر، ليصيح به :
- سيبنى يا عاصم خلينى اوجف البارد ده
شدد عاصم من الإمساك به ليقول بدهشة ضاحكًا:.
- فى ايه بس ياعمنا؟ هو داخل عليها اؤضة نومها دا انت بنفسك بتجول الاؤضة مليانه بشر .
هتف مدحت بعذاب :
- يا عم عاصم دا واد بارد، إنت مابتشوفهوش وهو بيتمسخر معاها ويضحكها، اووف استغفر الله العظيم يارب .
قال الأخيرة ينفض نفسه عنه، فازادت ضحكات عاصم الممتزجة بدهشته بقوله:
- طب وما يضحكها مش بت عمه؟ هو غريب عنها.
هتف مدحت وقد فاض به:
- انت كمان بجيت بارد زيه يا عم سيبنى يا عم .
جذبه عاصم من ذراعه ليتحرك به مرددًا:
- طب تعالى، تعالى بس، عايز اتكلم معاك ،تعالى.
قاومه مدحت بعصبية هاتفًا:
- إنت بتشدنى كده واخدنى فين؟
اردف عاصم:
- تعالى بس، هانحكى شويه على كنبة جدك اللى تحت العنبه، تعالى يا راجل عايز احكى معاك شويه.
استسلم مدحت ليسير على مضض ورأسه تلتف كل دقيقة نحو باب المنزل الكبير، يود لو يدخل خلف شقيقه ويطرده من جوارها
❈-❈-❈
قالت بدور مخاطبة ياسين بقصد التوسط لدى نهال الغاضبة منها ومن نيرة بعد ان ذهبا وتركنها وحدها بقدمها المصابة بعد انتهاء وجبة الغداء:
- وبعدين ياجد بجى، متخليها تكلمنا البت دي، احنا بجالنا ساعه بنحايل فيها.
رد ياسين بعدم اكتراث:
- وانا مالى؟ خليها تربيكوا انتو الاتنين
هتفت بدور بدهشة:
- وه يا جدى انت فرحان فينا؟
رد ياسين بمرح:
- ايوه فرحان وشمتان فيكو كمان.
شهقت الفتاتان لفعل ياسين المناكف لهم دائمًا، فهتفت نيرة مخاطبة نهال :
- ماخلاص بجى يا سنيوره، هو زعلك ده ملهوش نهاية واصل.
نهرها ياسين بخفته كالعادة:
- وه يا بت الفرطوس، ما تزعجيش فيها يابت والا هكسر العصايه دى فوج راسك، فاهمة ولا لأ،
قال الأخيرة وهو يشير بالعصا الغليظة خاصته ، جعل الفتيات الثلاثة يضحكن بانطلاق، حتى ردت نهال بكيد فيهن:
- تعيش يا جدى ربنا يخليك ليا .
قالت نيرة بغيظ:
- ايوه يا ختى عيشى الدور، اموت واعرف السر اللى بينكم .
هتف ياسين بانفعال محبب:
-وانت مالك يابت ال.... مالك باللى بينة وبينها ؟
رددت نيرة وهي تضحك وتبتعد عن مرمى عصا جدها:
- خلاص ياجدى خلاص.
دخل رائف يقول متفكهاَ:
- ايه يا جد؟ البت دى عملت ايه جولى وانا اربيهالك انا كمان.
هتفت نيرة بوجهه :
- تربى مين يا بابا؟ انا مربايه غصب عنك.
رد رائف باستعراض:
- بس يا بت انا مش رايجلك دلوكؤ انا جاى ل نهال
.عامله ايه ياست البنات ؟
أومأت له نهال برأسه وقالت بدور:
- اهى ست البنات دى زعلانة مننا عشان جومنا من ع الوكل وسيبناها
قال نهال :
ايوه ومش هاكلمكم بس
رد رائف بفرح شامتًا هو الاَخر:
- احسن خليها تربيكم .
❈-❈-❈
تحت عرش الكرم ، جلس به على الأَريكة الخشبية الخاصة بجدهم ياسين، والذي يخصصها عادة للجلسات العائلية او الأقرباء من عائلته، قال مدحت بنزق:.
- افندم يا عم عاصم؟ عايز ايه ؟؟
رد عاصم يدخل في الحديث مباشرةً:.
- هو انت بتحب نهال ؟؟
تفاجأ مدحت من فراسة ابن عمه في ألقاء السؤال ، مما جعله يتوقف لحظات يتأرحج ما بين الإنكار أو حق ما يشعر له، وتابع عاصم :
- ما تحاولش تنكر يا واد عمى النظره دى مايعرفهاش غير عاشج زى حلاتى .
استسلم مدحت ليقول بصدق:
- لا مش هنكر يا عاصم، ايوه بحبها وهتجنن دلوك لو مروحتش عندها وانا عارف ان البارد اللى جوا بيضحكها وعاملها قرد .
جلجل عاصم بضحكته قائلًا:
- اهدى يا واد عمى، الواد اللى جوا دا عفريت لو عرف اللى فيها هيجننك اكتر، وهى نفسها شايفاه زى اخوها يعنى مفيش داعى لدا كله .
عاد مدحت بهدر بعصبيته:
- يا عم بلا اخوها بلا زفت اوووووف
قال عاصم بعدم تصديق:
- وه يادكتور؟ دا انت غيرتك عفشة جوي بس انت امتى حبيتها كده؟ دا انت اتجدمت لاختها من قريب يعنى !!
قال الأخيرة بنبرة داخلها العتب، وصل مدحت فرد يجيبه بصدق:
- انا عارف يا عاصم انك زعلان منى بس يعلم الله انى ما اتجدمت لبدور، غير بس عشان ارضى امى ومكنتش لسه شوفت نهال بجالى سنين .
ربت عاصم على كتف مدحت المقابل له بخفة،، ليقول بوجع
- اطمن يا واد عمى انا مش شايل من حد فيكم، العيب فيها هى، لانها دايما مش عارفه تحدد عايزه ايه .
قال مدحت:
- صغيره يا واد عمى، ولجت جدامها كذا اختيار فاحتارت تختار
مط بشفتيه يقول ييأس عصام :
- يالا بجى هى حره، خلى العيل المجلع ده ينفعها، المهم انت هتعمل ايه مع نهال وهى شايفاك بصيت لاختها ؟!!
اجاب مدحت بثقة:
- هانت، بس تبتدى الدراسة فى الجامعة وتبجى تحت عينى وكل حاجة بعد كده تتحل .
تبسم عاصم يقول:
- وه دا الدكتور م خطط وعامل حسابه بجى.
رد مدحت وهو ينهض عن مقعده:
- امال ايه؟ المهم انا رايح مشوار دلوك، يا ريت عشان خاطرى تروح تنده ع الزفت اللى جوا تاخدوا من عندها .
هز برأسه عاصم يقول مع ضحكاته:
- حاضر اطمن هاروح اسحبه من جفاه ما تشلش هم انت .
قال مدحت بإعجاب قبل ان يحرك اقدامه للذهاب : -تسلم يا سبع الرجال، دا العشم فيك يالا بجى سلام.
❈-❈-❈
رائف وهو يشاكس جده العصبي دائمًا، بغرض أضحاك الفتيات في الغرفة التي تستريح بها نهال، حتى دلف عاصم إليهما مستئذنًا، يقول
- كيفك يا بت عمى؟ عاملة إيه رجلك دلوك ؟
ردت نهال بابتسامة مشرقة:
- الحمد لله، شكر يا واد عمى .
تبسم بداخله، وهو يرى خجل بدور وهي لا تقوى على رفع رأسها مواجهة له بعد هذا الموقف الذي مر بينهم على مدخل المنزل ، فقال يخفي ابتسامته:
- الف لا بأس عليكى يا ست البنات.
قال ياسين:
- ما تجعد يا ولدى واجف ليه ؟
رد عاصم وانظاره نحو ابن عمه:
-لا يا جدي معلش، انا كنت جاي اخد رائف وطالعين
رد رائف بسماجة:
- لاه مش طالع انا جاعد هنا.
هم ليرد عاصم ولكن ياسين قد سبقه بقوله"
- ما تجوم يا بارد شوف واد عمك عايز ايه؟
قال عاصم بخبث:
- جولو يا جدي، دا محسسني إني هخطفه.
رفه عصاه ياسين، يلكز بها رائف لتصدر ضحكات الفتيات أمام عاصم الذي ابتسم هو الاَخر:
- ياد جوم ياد، جوم وخلي عندك دم.
نهض رائف مجبرًا يتمتم بحنق مناكفًا:
- وه ياجد لما تطلب معاك هزار بايخ.
- بايخ يا ابن ال....
قالها ياسين لينهض من محله، ليلحق برائف بغرض تأديبه، ورائف يركض أمامه على ضحكات الفتيات، حتى اوقف عاصم جده، يقول بمرح:
- خلاص يا جدى جلبك ابيض، انا هاخدوا واطلع بيه دلوك، متزعلش نفسك.
رد ياسين:
- عشان خاطرك انت بس يا ولدى
قالها وعاد مرة أخرى لجلسته على التخت فسحب عاصم رائف عنوة، وقبل ان يخرج من الغرفة هتف رائف لجده:
- هاتوحشنى يا جد
- يا بن ال.. اجومولوا تانى الواد ده 
حاولت إيقافه نهال رغم ضحكاتها:
- هههه خلاص يا جدى ما تخدتش عجلك بعجله .
رد ياسين :
- عشان خاطرك انت بس
اعترضت بدور ومعها نيرة أيضَا:
- خاطرها هى بس واحنا بجى؟
رد ياسين بأصرار:
- ايوه خاطرها هى بس ويالا انتى وهى اطلعوا من اؤضتى انا مش عايز فيها غير نهال .
- واحنا عملنا ايه يا جدى
هتفت بها الفتيات ليفاجأهن بأصراره حتى خرجو ليتركوه وحده معها، ليخاطب ياسين حفيدته:
- انا مش سايبك انهارده غير لما تحكيلى كل حاجة
ردت نهال معقدة حاجبيها باستفسار:
- احكى على ايه ياجدى:.
اجاب ياسين بابتسامة بعرض وجهه:
- عن رضوانة!
- احكيلي عن رضوانة .
قالها ياسين ليرتسم البؤس على ملامح نهال، لتضع كفيها على جانبي رأسها تقول بتعب:
- تاااانى يا جدى، انت ما شبعتش كلام عنها؟
رد ياسين بإصرار :
- لا مشبعتش يا نهال وانتى هتجوليلى كل حاجة
- تجولك ايه يا جد؟
هتف بها مدحت والذي ولج بالصدفة لداخل الغرفة اثناء الحديث، ليُتابع بابتسامة مشاكسة، فور ان رأى العبوس على ملامح ياسين:
- هى ايه الحكاية يا جدى؟ دا انا كمان بقيت متشوق اسمع الأسرار اللي ما بينكم:
زفر ياسين بقول بقرف:
- يا خويا ولا حكاية ولارواية إنت ايه اللى جابك اصلاً؟
ضحك مدحت ليقول متقبلًا المزاح الثقيل لجده:
- الله يسامحك يا جدى، مش هاخد على كلامك وازعل عشان انا جاي لبت عمي بعد ما جبتلها العلاج .
قال الأخيرة وهو يشير على ما بيده، حيث الكيس البلاستيكي الذي امتلأ بالأدوية، وتابع :
- حاجة تانية كمان عشان اعمل بأصلي رغم معاملتك العفشة معايا.
نظر إليه ياسين باستفسار، فاستطرد مدحت:
- جاى اجولك ان ابويا مستنيك بره ومعاه الحاج اسماعيل جريبكم من طرف جدتي نحمدو الله يرحمها.
انتفض ياسين لينهض على الفور مرددًا بعجالة:
- وه اسماعيل ابو محمد مستنى بره كمان؟ دا من بدرى ما جاش، من ساعة ما اتوفت نحمدو، قليل الاصل ده  تو ما افتكر؟
تفوه بالكلمات وهو يخرج لتجد نهال الغرفة قد خلت عليها وعليه ، ليزيد من ارتباكها بأن جلس على طرف السرير بحوارها، ليخرج علب الأدوية ويقول بشرح مستفيض:
- شوفى يا نهال، دا هتخدي منه بعد العشا ودا مرتين فى اليوم بعد الاكل يعنى ها تاخدى منه دلوكت بصى كده واحفظى الاسم
قال الأخيرة وهو يقترب برأسهِ منها، ف اقتربت برأسها هي الأخرى تدعي التركيز فيما يقوله، رغم خفقان قلبها  الذي كان يضرب بقوة داخل أضلعها، وحاولت التماسك حتى تخفي اضطرابها وتمعنت النظر لتحفظ إسم الدواء الذي يشير إليه، ليفاجئها بقوله:
- استنى هنا ارفعى عينك.
تطلعت به عن قرب بتساءل لتجده توقف يحدق بعينيها، ثم قال:
- هو انتي عينيكى ملونة:
قطبت ترد بتمتمة وتشتت:
- هه
اقترب اكثر يحدق بعينيها حتى اشاحت بوجهها عنه، وصخب الضربات القوية لقلبها تخشى ان يصل إليه، لتتمتم داخلها بغيظ:
- دا باينه اتجن دا كانه ولا أيه؟
فعلتها البيسطة رسمت على ثغره ابتسامة مشاكسة ليقول مناكفًا
- انتى اتكسفتي، انا اسف بس دى اول مره اَخد بالى من لون عنيكى .
ظلت صامتة على وضعها وحالة من التوتر تجتاحها حتى كانت تلعب بخيوط الغطاء في الأسفل، ولكن شخصيتها المعاندة غلبتها لتغمغم بصوت خفيض:
- وانت من امتى بتاخد بالك أساسًا ؟
رد بابتسامة متسعة زادت من خجلها
- سمعتك على فكرة .
التفت سريعًا تهم بالرد ولكن الكلمات هربت منها، فعادت لتبتعد بوجهها عنه، ليرفرف قلبه بسعادة تجلت بقوة في نبرة صوتهِ إليها:
- انتى ليه بعدتى بعنيكى تانى؟ ماتخلينى اتحجج منها كويس ؟
قالت نهال تدعي الشجاعة والتغلب على خجلها:
- تتحجج من اى بس؟ انا مش فاهمة والله؟
قال ببساطة وجرأة لم تعتادها منه:
- من لون عنيكى؟ ولا تجوليلى انتى احسن ؟
صمتت تمسح بأناملها على جبهتها المتعرقة، فارتباكها قد وصل لاَخره، وهي تشعر وكأنها فأر صغير في مصيدة، تتمنى من قلبها دخول اي فرد من المنزل حتى ينقذها منه ومن حصار نظراته إليها.
اما هو فقد كاد الفضول أن يقتله لتُجيبه على سؤاله، رغم التسلية الشديدة في مراقبة أفعالها اللذيذة امامه، وفي الاخير قرر التصرف بذكاء، فقال مغيرًا دفة الحديث:
- اااا لكن انتى مجولتليش جهزتى نفسك بجى للجامعة؟
أجابت نهال مسبلة اهدابها تتطلع على الغطاء الذي تتلحف به:
- ايوه الحمد لله ابويا لجيلى سكن طالبات كويس
سمع مدحت ليهتف بانفعال يدعي الغضب:
- سكن طالبات ازاي يعني؟ وانتى ماجدمتيش ليه فى المدينه الجامعية اصلًا؟ ثم انه ازاى يعني ابوكى هيأمن عليكى فى السكن؟ احنا ضامنين الحتت الغريبة دي فيها إيه؟
بلعت الطعم، لتلتف رأسها إليه بحدة انستها خجلها، لتبرق عينيها في النظر بخاصتيه، وهذا ما كان يتمناه منذ لحظات، ليتقبل انفعالها بكل رحابة وسعة صدر:
- اولا انا ملحقتش التجديم فى المدينه الجامعية،
ثانيا انا بجولك سكن كويس و مع نوها صاحبتى ودى قمه فى الادب ومعاها بنتين من البلد مايتخيروش عنها فى الرباية، احنا مبنخطيش خطوة من غير تفكير، وحساب زين .
هلل مدحت وكانه طفل صغير فرح بلعبته ليجفلها بقوله:
- زتونى غامج!
قطبت تسأله بدهشة:
- اللى هو ايه؟!
اجاب بابتسامة متسعة بمرح:
- لون عنيكى السرى اللى مابيظهرش غير للجريب منك بس
- وه
قالتها بخجل شديد وهي تشيح بوجهها عنها، وتشد بالعطاء عليها بعصبية وحركة لا إرادية، وقد انتابها شعور قوي ان من يجلس امامها الاَن هو شخص آخر، وليس ابن عمها العاقل الرزين،
اما هو فقد غمرته السعادة حتى جعلته يحلق فوق السحاب، وتورد وجهها الندي نتيجة الخجل، يفعل به الأفاعيل، ليقطع عليه نشوته دخول الفتيات ومعهن عمته صباح التي خاطبته بمودة:
- حجه النهاردة يوم عيد، الدكتور هيتغدى ويتعشى عندينا، يا دي الهنا يا ولاد.
ضحك مدحت على لفتتها ليرد وهو يعتدل وينهص عن التخت:
- تسلمى يا عمتى متحرمش منك، بس انا عايز اروح بيتنا اريح جســ مى وانام، احسن حاسس ان عضمي كله مكسر .
هتفت صباح بلهفة حانية:
-سلامة عضمك يا حبيبي وجســ مك كله، بس انت تمشي وتتعب ليه؟ ما هو بيت جدك مفتوح اى اؤضه خش فيها وارتاح.
اعترض بابتسامة يناكفها، ليدور حديث سريع بينهما، استغلت نهال انشغالهم، لتتناول رسغ شقيتها لتجلسها عنوة، ثم تسألها بهمس غاضبة:
- انتى كنتى مختفيه فين؟
اجابتها بدور باستغراب:
- انا كنت بروق المطبخ مع عمتى ع السريع كدة، ليه؟ هو انتي كنتي عايزاني في حاجة؟
وقبل ان ترد نهال، تفاجئت بنيرة تحشر نفسها بينهن، وتسأل بسماجة:
- انتوا بتتكلموا فى ايه؟
ردت نهال بضيق:
- يا ساتر يارب كل حاجة حاشره نفسك فيها .
هزت برأسها نيرة موافقة وهي تبتسم بصفار تبتغي إغاظة ابن عمها، ولكن مدحت أجفلها:
- يا للا يا نيره عشان تروحى معايا.
قالت بدور:
- وانا كمان هاروح معاكم.
تدخلت نهال تقول سريعًا:
- لا استنى، انتى ها تمشى معايا انا وابويا.
هتفت بها صباح:
- هتمشى كيف يا بتى على رجلك اللى وجعاكى دي؟ انتي هتقعدي هنا وتتعالجي في بيت جدك لحد اما تروجي؟
اعترضت نهال تقول:
- لا معلش يا عمتى، انا متعودتش اغير فرشتى .
قال مدحت:
- خلاص تعالى معانا فى عربيتى .
على الفور أبدت رفضها تردد:
- لا لا انا هاروح مع ابويا .
رد مدحت بإصرار
- وتستنى ليه؟ انا هخلى عمى يروح معانا اساسًا؟
ردت بحرج :
- لا مفيش داعى، انا هستنى شوية، مطارتش هي ع المرواح، امشي انت ونيرة.
رفضها الواضح لرفقته؛ اصابه بضيق شديد، حتى انه هم ليُفحمها برد قوي حتى لا تعترض على قول له مرة أخرى، ولكن شقيقته نيرة سبقت بالرد :
- وتستنى ليه يا ختى؟ يا للا جومى معانا واحنا هنسندك انا وبدور لحد العربية.
همت لتعترض مرة أخرى، ولكن العمة صباح كانت لها بالمرصاد لتقول بحزم:
- خلاص عاد ملكيش حجة، ولا انتي هتتكسفى من واد عمك كمان؟ جومى يا بدور سنديها مع نيرة.
في السيارة التي استقلها راجح ليجلس في الأمام بجوار مدحت الذي كان يقودها، والفتيات في الخلف، نهال كانت بجوار النافذة بناءًا على رغبتها، ونيرة في الوسط، وبدور بجوار النافذة الآخرى، ومع هذا ايضًا، لم يرحمها من حصاره لها، وعينيه العميقة تراقبها في المراَة الأمامية، يتحدث مع والده ويسير بطريقه، ولا يرفع ولا يغفل عنها.
قال راجح بعتب:
- ملكش حج يا ولدى تكلف نفسك وتجيب العلاج من غير ما تجولى؟
أجاب مدحت وعينيه تراقب رد فعلها:
- فى ببتها يا عمى والموضوع مش مستاهل، يعني ماتشغلش نفسك انت .
رد راجح بحرج:
- لكن يا ولدى ما تأخذنيش كده ما ينفعش، انا لازم ادفع تمن....
قاطعه مدحت بحدة
متكملش يا عمى، اى كلمة تانية هتزعلنى منك والله، انا مش واخد غريب عنك ولا عن بنت عمي.
قال الأخيرة وانظاره اتجهت إلى انعكاس صورتها في المراَة امامه، هم راجح بالجدال والإصرار على موقفه، ولكن مدحت قطع بحدة معه، حتى استسلم راجح مجبرًا لفعله الكريم، لتستشيط نهال من الغضب في الخلف، حتى كتفت ذراعيها والتفت تراقب الطريق من نافذتها تحاول التماسك كي لا تنفجر بوالدها الذي سمح لهذا الشخص ان يحملها جميلُ، هي في الغنى عنه.
❈-❈-❈
قالت نعمات تجيب ابنتها التي صاحت على فعل والدها للسكوت على فعل ابن عمها والتغاضي عن دفع ثمن العلاج بعد ان فحصها ايضًا مجاناً وبناءًا على رغبة والديها:
- طب وفيها ايه يا بتى؟ دى حاجه بسيطة مش مستاهلة.
هتفت نهال لا تحتمل تبريرًا لفعل والدتها:.
- كيف حاجة بسيطة يعني؟ بجى يكشف على رجلي، ويجيب العلاج على حسابه كمان؟
دافعت نعمات:
- يا بتى انتي ليه مكبره الموضوع؟ هو واد عمك دا حد غريب.
صاحت نهال بانفعال وعصبية:
- الموضوع نفسه كبير يامٌا، انا مش عايزه احس نفسى مديوناله بشئ مش كفاية حكاية الكشف اللى غصبتونى عليه .
قالت نعمات بعد ان فاض بها :
-وه عليكى، دا انتى بجيتى صعبة جوى يا شيخة، اها ابوكى داخل يا ختي وكلميه بجى بنفسك.
قالت الأخيرة نعمات بعد ان انتبهت على دلوف زو جها للمنزل، والذي هتف سائلًا بدوره:
- فى ايه ؟ صوتكم عالى ليه؟
ردت نعمات :
-تعالى شوف يا راجح، بتك عاملة عاميلها عشان واد عمها كشف على رجلها واتحمل تمن العلاج .
قال راجح :
- وفيها ايه يا بتى دا واد عمك مش غريب.
لم تتحمل نهال الجملة المكررة، لتضع كفيها فوق اذنيها
- حن عليك يا بوى، انا ودانى تعبت من الكلمة دى النهاردة
رد راجح بعدم استيعاب:
- يا بت انت مالك اتجنيتى ؟!
قالت نهال بتعب :
- واضح ان مفيش فايده من الكلام، طيب ممكن تجولى دلوقتي، كان عايزك فى ايه سيادة الدكتور، بعد ما نزلنا انا و بدور. من العربية.
رد راجح ببساطة:
- كان بيسألنى على عنوان السكن بتاعك فى المحافظة.
هتفت نهال بصوت عالي بعدم احتمال:
- كمان يا بوى، هو ماله هو؟ حاشر نفسه ليه فى دى كمان !!
رد راجح بصوت عالي بدوره:
- خبر ايه يا بت؟ واد عمك عايز يطمن على سكنك وكمان يشوف المنطقة اللى هتسكنى فيها زينة ولا عفشة مش من حجه يطمن عليكى !!
حاولت نهال التهدئة من ثورة غضبها بأن تمسح بكفيها على وجهها، فقالت بهدوء نسبي:
- ماشى يا بوى ماشى اللي تقول عليه وتشوفه زين ماشي، واضح انى داخلة على ايام ما يعلم بيها الا ربنا .
غمغمت بالاخيرة بصوت خفيض، حتى تتجنب الشجار مع والديها
❈-❈-❈
في منزل عبد الحميد
ولج لداخل المنزل بمزاج رائق، واضعًا كفيه بجيبي بنطاله، يصفر ويغني بابتهاح ظهر على ملامح وجهه، حتى انه لم ينتبه على شقيقته التي دلفت خلفه، فهتف والدته بفضول:
- بسم الله ماشاء الله، الدكتور وشه بيضحك
دنى ليقبل رأسها ثم ردد دون ان يلتفت خلفه:
- مساء الخير ياست الكل .
ردت راضية بسعادة :
- مساء الهنا على عيونك يا حبيبي 
تدخل رائف يوقفه قبل ان يكمل طريقه نحو غرفته،
- ياحلاوه يا ولاد، واَخيرًا شوفنا الدكتور بيضحك!
طالعه مدحت بنظرة مشمئزة منه وهو يردف الكلمات والطعام في فمه:
- طب ابلع الاول جبل ما تتكلم وتستظرف بخفة دمك .
عقب عبد الحميد :
- والله عندك حج يا ولدى دا هيفضل طول عمره كده فى هبله ده ما هيتغيرش أبدًا.
سمع رائف للنقد من الإثنان، واستمر في تناول الطعام دون ان يبالي، وكأنه لم يستمع شئ
قالت راضية مخاطبة ابنها:
- قرب يا ولدى اتعشى معاهم، مستني إيه؟
قال مدحت بنبرة مكتفية سعيدة:
- لا يا امى انا شبعان، شبعان خالص، انا بس عايز انام وارتاح عن اذنك بجى.
قال كلماته وذهب على الفور، تاركًا والدته تتحرق لمعرفة سبب الحالة التي هو بها، لدرجة جعلتها تتلقف نيرة التي كانت خارجة من غرفتها بعد ان بدلت ملابسها، لتجذبها من ذراعها وتقربها إليها هامسة
- خدى هنا يا بت، اخوكى ماله ؟!
القت نيرة بنظرها على الباب الذي اغلقه شقيقها منذ لحظات بعد ان دلف لغرفته، ف سألت بارتياب
- ماله اخويا؟ ما هو زين اها.
- زين اها! تعالى يا بت معايا احكيلى كل اللي حصل بيت جدك .
قالتها راضية وهي تجذب ابنتها بحزم لتجلس بها في احد الاركان بالصالة لغرض الحديث، ولكن نيرة اعترضت، لتنزع يدها عنها قائلة:
- يا اما سيبينى انا هموت واتعشى، عصافير بطني بتسوسو.
لم تستسلم راضية ف جذبتها مرة أخرى قائلة بتصميم :
- يا بت الوكل مش، هيطير تعالى هما دقيقتين وبعدها كلي للصبح .
صاحت نيرة بصوت عالى جعل والدها ينتبه:
- ياما بجولك جعانة، باه، يعني هو الكلام هيخلص؟
هدر عبد الحميد بزو جته يجفلها:
- خبر ايه يا مره انتى؟ بتجولك جعانة سيبيها تاكل . هى الحكاوى هتطير؟
تركتها راضية مجبرة، لتتمتم خلفها بصوت خفيض، وهي تراها تجلس على مائدة السفر من قبل أن يختم والدها كلماته، لتأكل بنهم وشهية مفتوحة دائمًا:
- كلك ديب يا بعيدة
❈-❈-❈
على تحته كان جالسًا على طرفه بشرود، دون ان يبدل ملابسه، يتذكر كل همسة وكل رد فعل صدر منها، هذا الخجل الشديد الذي يميز شخصيتها العنيدة، ثم هذا الاكتشاف الجديد الذي علمه جديدًا عنها، وهو لون عينيها السري والذي لا يعلمه سوى المقربين جدا منها، لعن نفسه وغباءه الذي جعله ينشغل بتأسيس مستقبله بالعمل الدئوب دون توفف حتى أضاع عليه اجمل الفترات في مراقبتها وهي تكبر أمام عينيه حتى تصبح بهذه الروعة،
التفت رأسه فجأة نحو النتيجة الورقية المعلقة على أحد حوائط بالغرفة، وجدها عشرة بالشهر، ليتبين له المتبقي من الايام لن يتعدى ٨ ايام على فتح الدراسة بالجامعات، أخذ شهيق طويل وأخرجه مرة أخرى، ليهدأ ضربات قلبه التي تسارعت فجأة ، فما ينتظره قد اقترب، اقترب ميعاد ان تصبح بالقرب منه، ليراها يوميًا، بل وتتعلم في نفس مكان عمله، اقترب الميعاد الذي يجدد الامل إليه، لإصلاح ما أخطأ به سابقا، اقترب ميعادها مغه، تمتم يفكر بصوت واضح مع نفسه:
- هانت، هانت مدحت.
❈-❈-❈
بعد ٨ ايام
توقفت لتتطلع للمبنى الضخم امامها بمشاعر مختلطة ما بين الهيبة والإجلال والإنبهار، قلبها كان يضرب بتسارع رهبة من الموقف مع قرب تحقيق حلمها لتصبح طبيبة، لقد فعلت الصح رغم سذاجة تفكيرها في البداية، حينما علقت مستقبلها بدخول نفس الكلية التي دخلها هو؛ لتقترب منه وتُصبح لائقة له ومتكافئة معه، أما الاَن وقد اكتشف وهم تعلقها بإنسان سطحي، بأفكار رجعية جعلته يختار شقيقتها الصغيرة الغير مناسبة له من جميع النواحي، لا عمرًا ولا تعليمًا، ولا ثقافة، لتعلم هي بحقيقته وتلحق نفسها في التأسيس لمستقبلها، مستقبلها فقط.
- اه
صدرت منها فجأة إثر دفعة قوية تلقتها من صديقتها وزميلة الدراسة معها من البلدة نوها والتي قالت :
- ما تتحركى يا بت، انتى هتفضلى واجفه كده كتير؟
ردت نهال بضيق:
- يخرب بيتك خضتينى، كنتي هتكفيني على بوزي قدام الطلبة والزملا وفي اول يوم دراسي كمان، عشان ابقى مضحكة الكل.
ردت نوها :
- اعملك ايه يعنى؟ ما انتى اللى وجفتى مكانك ومش متحركة
سارت معها نهال لترد وهي تبتسم بسعادة:
-  مش مصدجة نفسى يا نوها، وفرحانة جوى انى خلاص هحقق حلم عمرى وابجى دكتورة.
قالت نوها بابتسامة فرحة هي الاخرى:
- مش انتى لوحدك يا ماما، انا زيك برضو ويمكن اكتر، وعشان كدة بقولك اتحركى بجى خلينا ندخل الكلية ونعيش الواقع بجد ونمارسه.
همت لترد نهال ولكن صوت الهاتف قطع عليها، لتنظر بهذا الرقم الغريب عنها، فتحت لتتبين من هو المتصل:
- الو السلام عليكم .
وصلها صوته المنفعل:
-السلام عليكم وحمد ع السلامة كمان، انتي فين؟
قطبت مندهشة لتبعد الهاتف عن اذنها لتهمس لنوها ياعين متوسعة مندهشة:
-دا الدكتور مدحت ابن عمي.
همست الأخرى سائلة:
-ودا عايز إيه؟
حركت رأسها بعدم فهم، ثم ردت بصوت مهتز:
- يعنى هاكون فين ؟ انا فى الجامعة طبعاً.
رد بصوت محتد:
- انا مش منبه عليكى وجايلك انى هاجى اخدك بالعربية واوصلك .
شعرت نهال بالغيظ منه لتجيبه بعند:
- وانا جولتلك متتعبش نفسك.
٠وصلها صيحة منه اجفلتها:
- انتى مالك اتعب ولا اتنيل حتى، انتى ليه مابتسمعيش  الكلام؟
انعقد لسانها ولم تعرف بما تجيبه وهو بهذه الحالة من العصبية التي لم تعتاد عليها منه، مع ازدياد غضبها بانفعاله الغير مبرر نحوها، وحينما طال انتظاره هتف بها:
- مابترديش ليه ؟
ردت تدافع:
- هاجول ايه يعنى ؟ ما انا بجولك طلعت مع زميلاتى فى السكن مجيتش لوحدى يعنى، يبقى إيه لزمة الزعيق والشخط فيا؟
هذه المرة كان الصمت من جانبه، ليصلها صوت انفاس متهدجة تزيد من توترها، فرددت بتساؤل:
- الو... الو يا دكتور مدحت.
- اجفلى يا نهال ، إجفلي دلوك.
قالها لينهي المكالمة سريعًا، ليجعلها تنظر في الهاتف باستغراب وقد تغير مزاجها على الإطلاق.
سألتها نوها:
- مالك شكلك اتغير ليه؟ هو قالك إيه بالظبط؟
اجابتها نهال:
الباشا الدكتور كان بيزعج معايا عشان جيت الجامعة ومستنيتش يوصلنى، اصلوا خايف يا ستى عشان بجيت مسؤله منه.
- خايف عليكى
- ايوه يا ختى خايف عليا، بس اللي مستغرباله ، هو عرف كيف نمرتي؟ بس هو مؤكد خدها من ابويا، اعمل ايه بس مع ابويا دا اللي بيثق فيه وعامله ولده
تبسمت نوها تناكفها:
- يا بت، يعنى انتى مكنتيش عايزه تسمعى صوته؟!!
ارتبكت نهال لتلكزها قائلة:
- لاه مكتش عايزه اسمع صوته ولا عايزه منه مساعدة انا جولتلك جبل كده انى مش هبص غير لمستجبلى وبس .
ردت نوها بعدم تصديق:
- يا شيخة! يعني عايزانى اصدق ان نستيه ونسيتي حبك ليه؟
- ايوه نسيت ويا للا ياختى همى برجلك شويه خلينا نوصل ونشوف النظام ايه .
قالتها نهال بجدية لتتهرب من الرد على سؤال صديقهتا، ولتسرع بخطواتها نحو الداخل:
❈-❈-❈
وإلى بدور التي كانت في طريقها نحو المدرسة مع ابنة عمها وصديقتها نيرة، يتسامرن بالحديث المسلي حتى يصلن المدرسة، حتى تفاجأن بمعتصم الذي كان متوقفًا بجانب الطريق وكأنه كان في انتظارهن، بمرفقها لكزت نيرة على جانب بدور تغمز لها لتُنبهها، ف ارتبكت الأخرى وتوترت وهي تجده يقترب منهن بابتسامة لزجة ليُصافحن بيده، مرددًا بترحيب:
- إزيكم يا بنات، عاملين ايه؟
اومأت له نيرة كرد، اما بدور فازداد ارتباكها وعيناها تتطلع يمينًا ويسارًا حولهم لتقول:
- إنت ايه اللى جابك يا معتصم؟ ولا واقف هنا ليه؟
رد بسماجة غير مبالي بقلقها:
- طيب  سلمى زين الاول، هو انا لحقت عشان تاخديني كدة على مشمي؟  عامله ايه يا نيرة فى الدراسة؟ زينة كدة ولا خايبة؟ ههه
بادلته نيرة ابتسامة على مضض كمجاملة، قبل أن تستأذن لتبتعد وتتركهما، كي تعطيهم فرصة للتحدث على انفراد.
تبسم معتصم يقول بمزح:
-عندها زوق بنت عمك دي والله، عرفت من نفسها ومن غير ما اقولها عشان تروق لنا الجو ههه
قطعت عليه بدور تسأله بحدة:
- معتصم انا سألتك إيه اللي موجفك على الطريق كدة؟ وجاي ليه؟
رد معتصم بعتب:
-يعني هكون جاى ليه يعنى؟ جاى عشان اشوفك يا بدور وحشتيني.
هتفت به بعصبية:
- تشوفني دا إيه؟! وكدة على الطريق كمان؟ هو انت مش خايف حد من ناسى يشوفك هنا تحصل نصيبة؟
رد معتصم بعدم اكتراث ضاحكًا:
- تحصل نصيبة ليه مش خطيبك انا؟ ثم انتى السبب يا بدور، عشان منشفاها عليا، دا انتى حتى التلفون بالعافيه بتردى عليه.
حاولت التماسك حتى لا تقرعه برد قاسي، فقالت بجفاء:
- بجولك ايه يا معتصم؟ إنت تحمد ربنا انى برد عليك من الأساس، ولا انت ناسى ان جدى حكم إن مفيش كلام تليفونات لحد ما يحصل جواز وانا لولا زنك الكتير فوق راسي، والله ما كنت رديت عليك اصلاً.
تقبل حديثها ليرد ببرود شديد:
- خبر ايه يا جمر؟ مزوداها كدة وشادة معايا في الحديت عشان كلمتين اتجالوا، وهو احنا يعني هنتبع كل اللى يتجال ياك؟
تملكها الغيظ من ردوده المستفزة، لتهدر به؛
- معتصم فوضها وامشى احسن، كفاية كدة، بت عمى واجفه فى الشمس احسن تتعب .
القى نظرة نحو نيرة التي كانت تتابعهم من قريب، ثم عاد إلى بدور قائلًا:
- تتعب كيف يعني، هى لحجت تجف ولا احنا لحجنا نتكلم اساسًا؟
هتفت به بدور وقد فاض بها:
-امشي يا معتصم احسنلك دلوك، امشي الله لا يسئك.
هز رأسهِ بابتسامة مستفزة يقول لها:
- ماشى ياجمر، عشان خاطرك بس، وكدة كدة الايام  جايا كتير، سلام.
اردف بها ثم ذهب لتعود إليها نيرة على الفور سائلة:
- كان عايز ايه ده ؟!
لم تجيبها بدور وقد بدا عليها الشرود وهي تغمغم بصوت خفيض وهي تتبع اثره:
- انا مش عارفة عجلى كان فين ساعتها؟
هتفت نيرة باستفسار:
- انتى بتجولى ايه؟ صوتك واطى وانا مفهمتش حاجة.
التفت إليها بدور تطالعها بنظرة غير مفهومة تجيبها:
-ما تشغليش نفسك يا نيرة، اهو جال كلمتين وراح لحال سبيله، يا لا بجى مايهمكيش انتي.
❈-❈-❈
وفي الجامعة وبعد ان استقرت مع صديقتها في المدرج لانتظار الدكتور الذي سوف يُعطيهم اول محاضراتم العلمية لبدء الدراسة، اقتربت فتاة جديدة تجلس بجوارهن لتبادرهن بإلقاء التحية:
- السلام عليكم يا بنات، ممكن اتعرف بيكم.
ردت نوها بمودة للفتاة:
- اهلا وسهلا بيكي، انا نوها ودى نهال صاحبتي وبت بلدي.
اشرق وجه الفتاة تردد:
- با أهلاً يا مراحب ببنات البلد، اهلا يا نوها، اهلا نهال...
توقفت فجأة محدقة بإعجاب نحو الأخيرة مردفة:
- بسم الله ماشاء الله، ايه الحلاوه دى؟
تبسمت نهال لترد على الفتاة بخجل:
- متشكرة يا ستي، بس مش لدرجادي يعني.
هتفت الفتاة:
-والله لدرجادي وأكتر كمان، هو انتوا من فين يا بنات؟ بس قبل ما تتكلموا احب اعرفكم بنفسى، انا بثينة من هنا، من المحافظه نفسها يعنى
ردت نوها:
- يعنى انتى من البندر؟ بس احنا يا ستى بلدنا بعيدة عن هنا.
عادت بثينة لتردف بإعجاب:
- بس ايه الحلاوه دى؟ دا انتو بلدكم بتطلع ابطال يا
البنات.
تبسمن لها الاثنتين يستجبن لمرحها، لتردف نوها:
- يعني انتي هتتجني على نهال، امال لو شوفتى اختها بدور كمان، دى عنيها ما تعرفيلها لون، اصلهم وراثة من امهم نعمات.
تمتمت بثينة بإكبار:
- ما شاء الله ربنا يبارك، لكن انتو متعرفوش مين داخل لنا دلوقت؟
تمتمن الإثنتان بصوت واحد:
- لا ما نعرفش صراحة، ما انتي عارفة احنا لسة جداد زيك .
استمر الحديث بمودة بين الفتيات الثلاثة حتى هدأت الأجواء، والتزم الجميع الصمت مع دلوف دكتور المادة؛ الذي ما ان رأته بثينة، هللت تصفر بصوت مكتوم بإعجاب مرددة:
- ايوة بقى افتحو كدة نفسنا من اولها عشان نبدأ الدراسة صح، هي دي الدكاترة ولا بلاش .
قالتها الفتاة لتنقل بأنظارها نحو الفتيات تريد مشاركتهن الرأي لتفاجأ بالجمود الذي أصاب الاثنتين، فقد كان هذا اخر ما يتوقعن، رددت باستغراب لهيئتهن:
- ايه يا بنات ما لكم قاعدين ساكتين ليه؟ ايه اللي جرالكم؟ هو انتو شوفتو عفريت!
ولا في أقصى أحلامها توقعت، هكذا ومن اول اليوم تراه أمامها وهو أيضًا من يعطيها اول درس تتلاقاه في الجامعة التي دخلتها من أجله، قبل أن تتغير ويصبح الحلم من أجلها هي نفسها، مع القرار الذي اتخذته بنسايه والنظر لمستقبلها وفقط، ثم يأتي ويفاجأها الاَن بفعله.
لقد كان يلقي محاضرته، يشرح بتركيز شديد ومعظم الوقت ابصاره ترتكتز عليها وسط الفتيات، بعد ان وجدها ببحث وضح من اول ولوجوه المدرج، لدرجة لفتت نظر الصديقة الزميلة الجديدة بثينة، حتى حاولت التحدث مع الفتيات عن ذلك، ولكن مع الحالة التي اصابتهم لم تتمكن.
أما عن نهال فقد كانت تكتنفها مجموعة من مشاعر مخلتطة، ما بين الصدمة والإعجاب الطاغي لحضوره القوي والرهبة التي فرضها بشخصيته القوية على الجميع، وجاذبية فطرية يتمتع بها، هذا بالإضافة إلى شئ اخر ترفض الأعتراف به، شئ يقارب الفرحة لتحقق أمنية عزيزة كانت تراودها منذ سنوات طويلة، رؤيته وهو يشرح مادته العلمية لها مع الطلاب زملائها.
حينما انتهت اَخيرًا المحاضرة التي حبست انفاسها، وسمح للطلاب بالإنصراف تنهدت اخيرًا بارتياح؛ كادت ان تشعر به وهي تلملم أشياءها للخروج سريعًا، حتى تفاجأت بصوت ورود رسالة نصية على هاتفها برقمه يخبرها:
-لمي حاجتك وتعالي ورايا عايزك في مكتبي.
رفعت رأسها نحوه وهو يرد على تساؤلات بعض الطلاب والهاتف بيده، يرمقها بنظرة خاطفة مسيطرة ثم تبعها برسالة أخرى:
-انا مستنيكي برا متتأخريش.
قرأتها لتثبت انظارها عليه وتطالعه بصدمة؛ لفتت أنظار نهى التي ناظرتها بتساؤل فهمته نهال لترفع الهاتف لمستوى بصرها للشاشة، كي تقرأ ما كتب بالرسالة.
سألتهن بثينة والتي استغربت هيئتهن:
إيه يا بنات هو انتو مبلمين كدة ليه؟
ظلت نهال على حالة الصمت تلك، وتكفلت نهى بالرد
-استني يا بثينة أنا هفهمك ما بيني وما بينك
توقفت لتوجه باقي الكلمات نحو نهال.
- روحى انتى معاه دلوك، واحنا هنستناكى فى الكافتيريا
أومأت برأسها كموافقة بتوتر رافقها حتى خرجت.
تسأئلت بثينة على الفور
- تروح فين؟ ومع مين؟
ردت نوها:
- هاجولك
.........................................
1
- اتفضلى .
قالها وهو يقوم بفتح باب غرفة مكتبه لتتقدمه، خطت لتلج للداخل وشعور متعاظم من الغيظ بداخلها مع الخوف أيضًا.
اقترب من مكتبه فوقف محله يخاطبها وهو يضع حقيبته السوداء على سطح المكتب:
-أقعدي يا نهال ولا انتي ناوية تفضلي واجفة مكانك؟
قالت برسمية:
- لا اتفضل حضرتك اجعد انت، انا مش هينفع اجعد ولا اتأخر.
سألها رافعًا حاجبه:
- ليه ان شاءالله مينفعش؟ مشغولة ولا وراكى حاجة؟
حاولت الرد بعفوية رغم استغرابها اسئلته:
- ورايا البنات اصحابي اللي مستنينى عشان اروحلهم.
- بنات مين غير نوها؟ البنتين التانين زميلاتك فى السكن كلياتهم بعيدة ولا صاحبتى ناس تانية هنا؟
برقت بعينيها لا تستوعب هذا التطفل نحوها من جانبه ، ثم معرفته الدقيقة لأمورها الشخصية، فقالت باندفاع غير مبالية:
- معلش يعني، ممكن تقوللى انت ساحبنى وراك لحد هنا ليه؟
اجفلته جرئتها حتى أنه تلعثم في البداية قبل يتماسك في قوله:
- ااا انا كنت عايز اسألك يا ستي، لو فى أي حاجة مفهمتيهاش جوليلى عليها.
رفعت ذقتها ترفض بعزة نفس:
- لا شكرا انا مش محتاجه مساعدة.
سمع منها ليصرخ بعصبية
- هو فى ايه؟ الصبح ارن عليكى عشان اخدك معايا تمشى ولا تعبرينى ودلوك بسألك لو فى حاجة مش فهماها وبتجولى مش محتاجة مساعدة هو انتى ليه بتعندى معايا؟
ردت بارتباك، :
- انا مش بعند ولا حاجة، انا بس مش عايز احملك همى وانت وراك مسؤليات كتيرة.
اقترب يجيبها بصوت متحشرج:
- حملينى يا ستى وما يهمكيش انا راضى.
اربكتها رقة العبارة التي يردفها مع ما رأته في عيناه من مشاعر ترفض هي التصديق بها، حتى لا يتعلق قلبها بالوهم، تجمدت أمامه ترفرف بأهدابها صامتة عن الرد وقد ضاعت الكلمات من رأسها، لكن حينما طال الصمت مع استمتاع الاخر بحالتها وعدم اكتفائه من التحديق داخل اللون الجديد عليه لعيناها الجميلة، استفاقت حتى لا تضعف وتنسى العهد الذي اتخذته على نفسها، أجلت حلقها ليخرج صوتها ببعض التماسك، فقالت منتهجة السياسة حتى لا تصطدم برد فعل غير مناسب منه:
- ااا ..ع العموم أنا متشكرة جدا لاهتمامك وو يعنى لو فى حاجه انا مافهمتهاش هاجولك برضوا.
- يعنى مش هتتكبرى انك تيجى تسأليني؟
قالها واضعًا كفيه بجيبي بنطاله فاردًا ظهره ليدعي الجدية رغم تحديقة المتمعن لكل تفصيلة بوجهها، وكان ردها هزة برأسها كموافقة، فتحرك مجبرًا أقدامه ليجلس خلف مكتبه، فقال:
-تمام يا ست يا نهال.... مش ناوية تجعدي بجى
هزت برأسها تقول برفض:
- لا طبعاً انا جولتلك عايزه امشى عشان البنات مستنينى .
سألها ببساطة مرددًا
-ما انا سألتك برضوا، بنات مين غير نهى اللي معاكي في المدرج؟ ولا انت لحقتي تتصاحبي على حد تاني؟
احتدت عيناها تناظره بغيظ لاستمراره في التدخل فيما لا يعينه وفي امر شخصي كهذا، فقالت متهكمة:
- ايوه انا صاحبت واحدة جديدة انهاردة والحمد لله انى بصاحب بنات بس عشان تتطمن .
- نهال اتعدلى فى كلامك.
هتف بصوت عالي أجفلها، فصمتت تمتص غضبه فهي لا تريد المزيد منه، ثم قالت بمهادنة:
- حاضر فى حاجة تانية؟
هدأت ثورته فعاد لطبيعته يسألها؛
- لو في اى حاجة نجصت عندك فى السكن وانتي محتاجاها جولى
- حاضر
- لو اى حد ضايجك او زعلك جولى؟
- حاضر
- لو
- ماخلاص بجى كام مره هتجولهالى؟
قالتها مقاطعة ليردف هو بغيظ:
- ما انتى اللي دماغك ناشفة مبتسمعيش الكلام، اعمل ايه  معاكى بس؟
اعتلت ابتسامة رائعة وجهها البهي ليُشرق كالشمس التي تضئ له عتمته لتقول بدلال فطري لديها لا تقصده متعمدة:
- ماتعملش حاجة سلام بجى.
قالتها والتفت تستدير للخلف نحو الباب ولكنه أوقفها مع النداء بإسمها:
-جبل ما تروحى ع السكن رنى عليا عشان اوصلك.
تنهدت تقول بتعب وقد ارهقتها تحكماته:
- تاانى، ما انا جولتلك انى هروح مع البنات، يعني متشغلش نفسك، لأن انت اساساً معندكش وقت.
قال مدحت بتصميم
- برضوا رنى وانا لو مش فاضى هاجولك
- حاضر .
قالتها بعدم اقتناع، حتى تتمكن من الخروج سريعًا للمغادرة والابتعاد عن محيطه المزعج، مزعج جددددًا!
❈-❈-❈
خرج عاصم من المنزل منشغلًا في الحديث على الهاتف مع أحد الرجال ليفاجأ بطيفها وهي تمر بصحبة نيرة في الطريق المقابل لمنزله، تلقي التحية بإشارة من يدها على عمها سالم واللذي كان بالصدفة جالسًا على المصطبة بالخارج، توقف متجمدًا على غير إرادته ف اين تكون الأرادة؟ مهما كان الذهن حاضرًا حينما يكون القلب هو المتحكم.
-دي بدور ونيرة يا سالم.
قيلت من خلفه لتُفيقه من غفوته ف التف نحو والدته التي كان خارجة بالصدفة من خلفه، رد سالم وعيناه انتبهت على ابنه الذي غفل عن محدثه بالهاتف حتى وصل لأسماعه صوت الرجل من الناحية الأخرى؛
-أيوة هما يا سمحية.
أردف سالم موجهًا الحديث لأبنه:
- رد على الراجل اللى بيكلمك في التلفون يا ولدى .
- هه حاضر يا بوى حاضر .
تفوه بها عاصم بارتباك وهو يبتعد عن والداه، ليغادر نحو وجهته التي نسيها في غمرة الشرود بمعذبته. سمحية والتي انتبهت هي الأخرى لما يحدث لابنها، تحدثت اَخيرًا وهي تجلس بجوار زو جها على المصطبة :
- وبعدين يا ابو الولاد احنا هنفضل سيبين عاصم كده كتير؟
طالعها سالم باستفسار يسألها:
- يعنى عايزانا نعمل ايه؟
ردت سميحة:
- نخطبله هو كمان خليه ينسى بت نعمات.
كز على أسنانه يقول لها:
- بت راجح مش نعمات يا مرة يا مخبولة انتي، فاهمه ولا لا؟
ردت على الفور بتخوف منه:
- فاهمة فاهمة يا ابو بلال، بس دلوكت احنا فى الواد اللى جلبه لسه متشعلج بيها، أنا عايزه اخطبله واحده تخليه ينسى
سألها سالم:
- عينك على واحدة؟
على الفور ردت بلهفة:
- ايوه طبعاً بت عمه نيره هى كمان حلا وجمال، متقلش عن بدور غير في العيون الملونة وانها رفيعة بس شوية عليها .
اطرق سالم برأسه نحو الأرض بتفكير، ثم قال بعدم اقتناع:
- شوفي ولدك واللى يجول عليه انا موافج ..
هللت سميحة بفرحة قائلة:
- هاجوله أكيد، وان شاء الله يوافج .
ظل سالم على صمته ونظرة التشكك في عيناه كانت بألف رد
❈-❈-❈
وصلت إلى مقر الكافتيريا بالجامعة ف جالت بعينيها حتى لمحت نوها وصديقتها الجديدة بثينة والتي كانت تشير إليها بيدها على محل جلوسهن وهي تحدثها في الهاتف:
-- ايوه يا بنتى احنا اللى قدامك،  شفتينا؟ طب كويس.
ردت نهال قبل ان تغلق الهاتف:
- ايوه ايوه، خلاص شفتكم.
انهت المكالمة وتحركت بخطواتها نحو الجهة المقصودة، ولكن وقبل أن تصل إليهن تفاجأت لمن يتصدر أمامها، توقف لتبصر هذا الشاب الغريب، والذي يبدو وكأنه طالب جامعي مثلها، يبتسم بلزاجة وهو يسألها
-أسف حضرتك لو وقفتك، بس انا كنت عايز أسألك ، لو تعرفي مكتب شئون الطلبة وتدليني عليه؟
رغم غرابة الموقف حاولت نهال الرد ببعض الزوق وكلمات مقتضبة:
- لا حضرتك معرفش .
قالتها وتحركت قدمها للمغادرة ولكنها تفاجأت بتصدره للمرة الثانية وعينيه تناظره بجرأة أكبر في قوله:
- ليه حضرتك هو انت اول سنه ليكى؟
هنا تحفزت كل خلاياها، وقد تأكدت من حدسها وفعله المكشوف أمامه، لترد بملامح شرسة وهي تضغط على كلماتها:
- أول بجى ولا اَخر، بقول لحضرتك، عن إذنك خلينى اعدى .
أمام هذا التغير الذي بدا على هيئتها بشر، لم يستطع الشاب الاستمرار اكثر من ذلك، فتنحى جانبًا على الفور، حتى تسير هي وتتخطاه
وصلت إلى الفتيات بمزاج عكر ووجه مكفهر، لسانها يتمتم بالاستغفار، وفور أن جلست بادرتها نهى بالسؤال:
- مين دا اللى كنتى واجفه معاه؟
استشاطت نهال من الغيظ لتجيبها بعصبية مستنكرة:
- كنت واجفة معاه؟ ماتنجى اللفاظك يا نهى، دا واحد وجفنى بيسألنى عن شئون الطلبة.
تدخلت بثينة قائلة:
- دا بيستهبل، وعايز يفتح كلام معاكى.
ردت نهال بانفعال:
- ما انا برضوا اخدت بالى وعشان كدو كشرت فى وشه.
خطفت بثينة نظرة سريعة نحو الشاب الجالس مع مجموعة من زملائه، فقالت:
- ايوه بس دا باين عليه تنح عشان من ساعة ما قعدتى وهو عينه عليكى ومرفعهاش.
عقبت نهى:
- خلاص يا بنات سيبكم منه وخلونا في المهم، احنا عايزين نعرف الدكتور واد عمك كان عايزك في إيه؟
قال بثينة بمرح:
- ايوه صحيح، يا نهال ياحلوه انتى جوزينى ابن عمك الدكتور والنبى ينوبك ثواب.
رفعت نهال حاجبًا مستنكرًا نحو نهى وهى ترد على الأخرى:
- هي الست هانم لحقت تقولك؟
زمت نهى فمها بابتسامة مستترة، وتابعت بثينة بأسلوب تمثيلي:
- ايوه قالتلى انه ابن عمك، عشان كدة بقى، أنا بترجاكى والنبى جوزيهولى.
ارتبكت نهال وضاعت الحروف منها، وهي لا تدري بما تجيبها، فرغم غرابة الحديث وشعورها بعدم جديته، لكنها لا تدري لما هذا الضيق الذي جثم على أنفاسها لمجرد التخيل، تابعت بثينة ونظرات التسلية تنضح من عينيها هي والأخرى:
- ها يا نهال يا قمر انتى، هتجوزينى ابن عمك دا بقى؟
خرج صوت نهال باعتراض:
- وه يا بثينة، مش هتبطلى هزارك ده؟
-وه
رددتها بثينة من خلفها، لتنفجر ضاحكة، هي وشريكتها نهى، غير قادرات على التوقف، حتى صاحت بهن نهال غاضبة:
- هى ايه الحكاية؟ انتوا اتفجتوا عليا ولا ايه؟
هززن الاثنتان رؤسهن بالموافقة، ف طالعت نهال وجه نهى بعتب، فهمت الأخرى لترد بدفاعية:
- والله ما جولت حاجة، هى اللى فهمت لوحديها!
قالت نهال بشك:
- فهمت ايه؟
ردت بثينة بابتسامة خبيثة:
- مش محتاجة حد يفهمنى يا حبيبتي، انا شوفتها لوحدى فى نظرته ليكى.
أثارت انتباه نهال لتسألها بحماس:
- شوفتي إيه بالظبط؟ فهميني.
ردت بثينة بابتسامة متسعة:
-عيونه كانت رايحة جاية عليكى، باين قوى انه مهتم ، بس دا كبير عليكى.
ردت نهال بلهفة وبدون تركيز في مغزى كلمات الأخرى:
- لا طبعا الفرق عشر سنين بس.
قطبت بثينة باندهاش تسألها:
- وإيه بقى اللى كان مانعه من الجواز؟ يكونش حب قبل كده ومطالش؟
- حب في حياته!
تمتمت بها نهال ورأسها تدور مع الجملة العابرة لتسأل بصوت خرج بصعوبة:.
- تفتكرى؟
مطت شفتيها الأخرى تردد بتفكير:
- مش عارفة، بس يعنى احنا بشر ودا شئ طبيعى  ان الواحد يمر بتجارب.
تدخلت نهى معهن في الحديث مع انتباهاها لحالة نهال الذي شحب وجهها وتبدل:
- احنا خلينى فى الوجت الحالى وانا و بثينة شايفينو مهتم .
قالت نهال تقول باستناج رأسها الذي يأن من الصداع الاَن:
- عاادى انه يهتم عشان انا بجيت مسئوليته زى ما بيجول هنا في الجامعة والمحافظة، وانا بعيدة عن اهلي .
عقبت بثينة بقلق:
- انتى مالك يا بنتى وشك اتخطف كده ليه؟
اكملت على قولها نهى هي الأخرى:
- أيوه صح يا نهال، مالك ؟
هزهزت نهال برأسها لتجلي رأسها من هذه الأفكار الكثيرة:
- متاخدوش فى بالكو انتو وسيبكم من الموضوع ده، المهم بقى، هو احنا عندنا محاضرات تانية؟
- لا مافيش، تحبى نجعد شويه ولا نروح؟
قالتها نهى لتهتف بثينة بحماس:
- وتروحوا من دلوقت ليه؟ دا احنا لسه مادخلناش فى الجد، تعالوا معايا النهاردة واعتبره اجازة عشان تتفسحو كدة وتعرفو بلدكم، دا انا هخدكم على اماكن فى المحافظة متعرفوهاش ولا عمركم شوفتوها.
ظهرت اللهفة على نهال لتسألها:
- زى ايه مثلا، عرفينا عشان ناخد فكرة الأول .
-يعنى مثلا نعدى ع المحلات، نروح كافتيريا ونقضى وقت حلو او نروح كافيه.
قالتها بثينة لتهلل الأخرى بفرح:
- انا موافجة، يالا بقى انا معاكى .
تدخلت نهى تقول بتخوف:
-استنى يا نهال وشوفي نفسك الاول، افرضي ابن عمك رن عليكى وسألك انتي فين؟
لمعت عينيها ببريق التحدي لترد بقوة:
- وهو ماله هو؟ انا مبعملش حاجة غلط عشان يحاسبني ولا يكلمني، يا للا بينا يا بنات
❈-❈-❈
وعودة للبلدة
في منزل سالم بعد أن أنهى عاصم وجبة غذاءه مع أسرته، ونهض من جوارهم تحت انظار والدته التي نهضت هي خلفه، هاتفة على ابنتها الصغرى:
- علجى ع الشاى يا بت وجبيه ورايا انا واخوكى فى اؤضته.
قالتها ثم التفت نحو زوجها الذي كان يتابع بأنظاره نحو التلفاز، في مشاهدة المسلسل الصعيدي، تغمز له بعينيها، حتى يفهم، عوج فمه المغلق بعدم رضا، ثم التف يكمل مشاهدة، وخطت هي تكمل طريقها نحو غرفة عاصم والذي ما ان طرقت بيدها على الباب الخشبي، حتى وجدته يهتف:
- مين ؟
- دا انا يا عاصم يا ولدي.
قالتها سميحة وهي تطل برأسها من الباب الذي فتحته بمواربة، لتكمل:
-ممكن ادخل؟
اعتدل بجذعه عن الفراش قائلا بترحيب
- أمى، تعالى يا أمي عايزة حاجة؟
دلفت لداخل الغرفة صامتة حتى جلست بجواره على التخت، وامتدت كفها لتربت على كتف ذراعه العريض، بابتسامة متوسعة
القى نظرة نحو كفها قبل أن يعود إليها سائلًا بتوجس:
- فى حاجة ياما ؟ وشك بيجول كدة.
ردت سميحة تهز برأسها بنفس الإبتسامة:
- ايوه يا حبيبى فى، بصراحة بجى انا نفسى افرح بيك .
اشاح بوجهه عنها يغمض عينيه بتعب وهو يرد:
- الله يخيلكى ياما أنا وعدتك جبل كدة، انى لما الاجى بت الحلال هجولك وافرحك، يعني ما لوش لازمة الحديت كل شوية.
تناولت بكف يدها اسفل ذقنه، لتعيد وجهه إليها قائلة:
- ما تبعدش عينك عنى يا ولدى، انا فهماك كويس، يا حبيبي انت عمرك ما هتفكر فى واحده طول ما هى قدام عنيك .
اطبق عينيه يبتلع الغصة المؤلمة بحلقه، ليكتم على جرح قلبه، الذي ينزف مناديًا بإسمها كل دقيقة، فهو  ليس بحاجة لتذكيره بها وهي اساسًا لا تغادر وجدانه.
اطلق تنهيدة قوية بقنوط قبل ان يعود إليها باستسلام قائلًا:
-عايزة إيه مني يا أمي عشان اريحك.
دب بقلب سميحة الحماس والتمعت عينيها لتجيبه بلهفة:
عايزاك تخطب يا حبيبي، واحده  تستاهلك ومن دمك .
ناظرها باستفسار، لتردف له على الفور:
-انا قصدي على نيرة يا ولدي، بت عمك عبد الحميد.
ردد خلفه بتفكير:
- نيرة!
❈-❈-❈
في التسكع ومشاهدة المعروض على واجهة المحلات بالشوارع الرئيسية بالمحافظة، ثم تعريفهم على أجمل المعالم الحديثة، وزيارتها او التسوق في المولات الشهيرة، قضين الفتيات يومًا طويلًا باستمتاع حتى قاربت الشمس على المغيب فهتفت نهى باستدراك وهي تشير على ساعة يدها:
- مش كفاية كدة بجى وخلينا نروح .
ردت بثينة باعتراض:
- كفاية دا ايه؟ يا بنتي خلينا نكمل اليوم بالمرة، دا انا هاخدكم على كافية البرنسيسة ودا لوحده يجنن.
سألتها نهى بقلق:
-كافيه! يا مري دا تلاقيه كله رجالة، هنروح احنا كيف؟
ضحكت بثينة تجيبها:
-الكافيه دا عائلي يا ناصحة، يعني هتلاقي بنات وولاد وأسر كاملة وأطفال معاهم..
توقفت على صوت الهاتف الذي دوى للمرة التي لا تذكر عدها، فقالت موجهة الحديث نحو نهال:
-ما تردي يا بنتي ع التليفون ده اللي مش مبطل رن
تطلعت نهال في شاشة الهاتف على الرقم الذي أصبحت تحفظه من كثرة التكرار، زامة شفتيها بزاوية، تتنهد بغيظ، قبل ان تحسم بوضعه صامت، قائلة للفتيات:
- ما انا جولتلوا إني مروحة ع السكن هي شغلانة، يالا يا عم.
تدخلت نهى لتثنيها عن قرارها:
-يمكن عايز يطمن عليكي يا نهال ويشوفك رجعتي ولا لا؟ أو يسألك عن محاضراتك.
ردت نهال بنزق:
- أديكي قولتليها بنفسك، هيسألني، وانا بجى مش عايزة اكدب، يبجى اخدها من جاصرها أحسن.
قالت نهى في محاولة أخرى معها، فلم يعجبها الوضع:
- يعنى هاتسيبيه كده يا نهال يرن من غير رد، ما هو كدة يمكن يجلج فعلآ.
صمتت نهال بتفكير ودارت رأسها عن رد فعل مدحت، مع تكرار اتصاله بها، مع عدم ردها عليه، ف همت أن تتصل به بناءًا على توصية نهى التي نبهتها لذلك، ولكن روح العناد بداخلها غلبت، لتهتف بتحدي نحو الفتيات:
- خلاص بجى، انا لما اوصل البيت هبجى اتحايل بإني كنت نايمة والتليفون كان على وضع الصامت.
نهى والتي فهمت عليها وعلى ما يدور برأسها، خاطبتها بمغزى:
- يا جلبك.
رفعت ذقنها تقول بعدم اكتراث:.
- دا الوضع اللي هنمشي عليه الأيام الجاية... بت يا بثينه هو الكافيه دا بعيد ولا جريب
قالت الاخيرة موجهة الكلمات نحو الصديقة الجديدة والتي كانت تتابع بصمت، فردت تجيب بحماس وتفكه:
- على بعد شارعين بس من هنا يا نهال باشا، نكمل الشارع اللي احنا فيه ده ونخش يمين على طول بعدها.
استجابت نهال تجاريها لتتقدمهن قائلة:
- تمام خالص، يالا بقى مدي رجلك انتي وهي.
قالتها وانطلقن الفتيات بالضحكات خلفها، لتردد بثينة بطاعة:
-أمرك يا كبيرة .
1
❈-❈-❈
توقف بسيارته والهاتف مازال بيده يكرر في محاولة الإتصال بها، رغم يأسه من عدد المرات الفاشلة في عدم ردها على أي اتصال.
- وبعدين بجى ما تردى انتى موتى .
قالها مدحت وهو ينهي الأتصال بغيظ قبل أن يهم بالترجل من السيارة للحاق بجلسة مع مجموعة قديمة من اصدقائه القدامى
أمسك بمقبض الباب وفور أن وطئت قدمه الأرض، إلا وقد تفاجأ بدوي صوت الهاتف، ف التف ليتناوله بلهفة، قبل أن يعود لإحباطه مرة أخرى، برؤيته لإسم المتصل، زفر بضيق قبل أن يجيب :
- ايوه يا يونس، انا داخل الكافيه أها، بس اعمل حسابك مش هتأخر عن نص ساعه عشان مواعيد العيادة
رد محدثه من الناحية الأخرى بلهجة مرحة:
-عارفين والله يا عم الدكتور إن اشغالك الكتير، واحنا برضوا ورانا اشغال، يعني مش هنأخرك ولا نزود عليك ، شد حيلك وتعالى بس
كان مدحت قد أغلق باب السيارة وخطا نحو المكان المقصود، وقال سائلَا، لهذا المدعو يونس عبر الهاتف:
-طب انا خلاص داخل، بس قولي بالظبط انتوا فين؟ عشان متعبش في البحث عنكم.
اجابه يونس:
- احنا اخر طرابيزه فى الركن ال....
سمع منه مدحت وهو يدلف لداخل المحل، فجالت عينيه في الأرجاء على الوصف، ولكن توقفت على ناحية أخرى، غير متوقعة على الإطلاق، لا يصدق رؤيتها أمامه، جالسة مع نوها وفتاة أخرى، بركن وحدهن، يتسامرن ويضحكن بانطلاق غير عابئات بالنظرات المصوبة نحوهن،
ليتسمر محله بعدم تصديق لعدة لحظات، حتى انتبه فيها على صوت يونس الذي كان يردد في الهاتف.:
-يا بني انت روحت فين؟ احنا قدامك اهو ..
اغلق في وجهه المكالمة، وتسارع بخطواته متجهًا نحوها حتى توقف أمام الطاولة الجالسة بها مع صديقاتها بهيئته المخيفة مرددًا بتحكم في أعصابه:
- مساء الخير .
قالها وانتبهت عليه نهال لتجحظ عينيها برؤيته، حتى تلجم لسانها عن الرد، والذي تكفل به الفتيات صديقاتها يرددن بارتباك:
- اهلا اهلا، مساء الخير يا دكتور .
لم ينتبه أو حتى يلتفت لهن فقد تحركت أقدامه إليها ليدنو منها بحركة مفاجئة، ثم اقترب من اذنها يهمس بلهجة اَمرة، قاطعة، حازمة:
- من سكات كدة ومن غير نفس حتى، تجومى زي الشاطرة ومسمعلكيش كلمة.
رفعت رأسها إليه ليواجهها بجحيم عينيه التي استعرت فيها النيران، تناظرها بشرر وكأنها على وشك احرقها .
هل مرت عليك هذه اللحظة أن تخطأ بشيء لا يستحق او في نظرك هو هكذا، ثم تفاجأ بظبطك متلبسًا وكأنك فعلت الجرم الكبير، وما ينتظرك من عقاب سيكون أشد وأعظم..
هذا هو ما شعرت به نهال وقت أن وجدته أمامها فجأة وبدون مقدمات، وقد كانت تقضي وقتها في التسامر والضحك مع نوها وصديقتها الجديدة بثينة، سعيدة بحرية اقتنصتها في المدينة الجديدة عليها، منبهرة بروعة المكان، وقد ارتخت اعصابها وهدأ عقلها عن التفكير في هذه الخاطرة التي ذكرتها بثينة عن عدم زواج مدحت حتى الآن، لأنه ربما بسبب قصة عشق له،
كانت مجرد خاطرة، لكنها تسببت باشتعال رأسها دون هوادة، مع شعور اخر لجلد الذات، لأنها لا تستطيع التوقف، وقد اتخذت قرارها في السابق بنساينه ونسيان حلمها الطفولي في القرب منه، بعد أن اثبت لها خطأها قبل ذلك؛ بطلبه لشقيقتها الصغرى، هذا الصراع كان كالطاحونة بداخلها، وعرض الخروج والتنزه كان كطوق النجاة الذي انتشلها حتى لا تغرق في بحر الأوهام، بأن تعيش حياتها الطبيعية تفرح وتمرح كأي فتاة في سنها، بعيدًا عن سذاجة في عشق يائس تأذي نفسها به، ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن.
لقد كانت مندمجة في الحديث، لدرجة أنها لم تنتبه لمجيئه بالقرب منها، سوى من نظرة الهلع التي ارتسمت على وجوه الفتيات صديقاتها، لترفع رأسها اتجاه ما ينظرون خلفها،، فتصعق برؤيته وهذه الهيئة الضخمة والقناع الثلجي الذي كان مرتسمًا على ملامح وجهه، رغم اشتعال عينيه في إلقاء التحية بتهكم صريح:
- مساء الخير.
قالها ورددن خلفه نوها وبثينة التحية بارتباك وتلعثم:
- اهلا يا دكتور، مساء الخير اتفصل.
تجاهل الرد عليهن، واتخذ طريقه نحوها لتجده يدنو ويقترب منها بعد ان شلت المفاجأة عقلها وانعقد لسانها عن الرد، وكأنها أصيبت بالخرس، ليكمل عليها بفحيح هامس بجوار أذنها:
- تجومى على طول من سكات وما اسمعلكيش حس ولا نفس حتى.
تطلعت لاشتعال عينيه، وشعرت بتحكمه القوي للسيطرة على انفعال بدا ظاهرًا من حركة فكيه، وبدون أدنى تفكير، وجدت نفسها تقف لتتحرك أَليًا معه، صدرت بعض الكلمات من صديقاتها بغرض إلهاء مدحت او فتح حديث بمودة:
-اتفضل معانا يا دكتور، دا احنا حالا واصلين الكافيه ونهال جات معانا بصعوبة..
أوقفهن مدحت بإشارة من كفه ليصمتن على الفور، ويده الأخرى أطبقت على كف نهال يسحبها وكأنها طفلة صغيرة، في انتظار العقاب من والدها الذي يسحبها الان بهدوء ما يسبق العاصفة،
أما هو فقد كان يُحجم غضبه على أقصى ما يمكن، حتى لا يلفت إليه الأنظار من أصدقائه في الناحية الأخرى من الكافيه وقد كان ينتوي بتقضية وقته معهم، ثم تفاجأ بها هي هنا، تتحدث وتتسامر بالضحك وكأنها من رواد الملهى المعتادين عليه، تقضي وقتًا ممتعًا وهو كالمغفل يتصل عليها بالساعات ليطمئن عليها وعن ميعاد عودتها للمنزل، وهي لم تترفق وتجيبه ولو في مرة واحدة حتى .
في غمرة شروده واحتقانه العاصف لم يكن يدري باعتراضها الضعيف والمها من قبضته التي كادت أن تهشم عظام اصابعها:
-يا مدحت خف عليا شوية، يدي بتوجعني... يا مدحت،
التفت رأسهِ بحدة نحوها بنظرة حادة الجمتها عن الشكوى مرة أخرى رغم ألم العظام الذي فاق احتمالها، ليعود ويكمل سيره متجاهلًا كل شيء حتى النداء بإسمه من صديقه يونس والذي ترك مكانه ليلحق به، ويرى السبب في عودة مدحت وتراجعه عن جلسة الأصدقاء القدامى التى أتى خصيصًا من أجلها حسب الإتفاق معه.
- إيه يا عم مالك؟ انت جاى ولا ماشى ولا ايه ظروفك؟!
قالها يونس يوقف الاَخر وهو يجذبه من ذراعهِ قبل ان يصل لمخرج الكافيه، ف استدار إليه الاَخير مجبرًا، والتفت معه يده الممكسة بها كي يخفيها خلف ظهره بعيد عن انظار يونس والتي توقفت عليها تلقائيًا:
- روحى انتى استنينى عند العربية.
همس بها مدحت من تحت اسنانه، قبل أن يجيب صاحبه، والذي تابعها بعينيه حتى خرجت من الكافيه، لتزيد من عصبية الاَخر، ويهتف به:
- فى إيه يا يونس؟
رد الاَخر تعلو وجهه ابتسامة مرتبكة:
- نعم يا عم بتزعق ليه بس؟ هى مين دى الى كنت ماسكها وخارج بيها ؟
إمتقع وجه مدحت من الغضب، وخرجت إجابته بصعوبة شديدة بتحم شديد على قبضته التي كانت تتحرق لضربه، ورد بابتسامة صفراء:
-  وانت مالك يا يونس؟
ضحك له الاَخير يردف ببرود غير اَبهًا بانفعال صاحبه:
- خلاص يا عم ما تزعلش منى واعتبرنى ماسألتش، المهم انت مش راجع معايا تسلم على الجماعة ولا ايه؟
ذهبت انظار مدحت نحو اصدقائه المتابعين من الجهة البعيدة:
- معلش يا يونس بلغهم سلامى واعتذاري لأن بصراحة جد عندي أمر ضرورى مش هقدر اتحل منه.
قالها وهو خارح من الكافيه، امام نظرات يونس التي رافقته باستغراب من فعلته.
- يا نهار اسود ومهبب، يا ريتنا ما جينا معاكى من الاساس، يا ريتنا ما جينا.
هتفت بها نهى بولولة نحو بثينة وهي تنهض وتلملم اشياءها كي تغادر هي الأخرى، ردت الاَخيرة بارتباك وقلق:
- يعنى وهو إيه اللى حصل يعنى؟ أنا مش فاهمة انتو مكبرين الموضوع كدة ليه؟
هدرت نهى بصوت خفيض خوفًا من لفت الأنظار إليها:
-حصل أيه؟ هو انتي لسة كمان بتسألي؟ يعني عايزاه فى أول يوم دراسة ليها يلاقيها فى كافيه وتجوليلى حصل ايه؟
ردت بثينة بتوتر اصابها بالفعل:
- عندك حق دا انا نفسى خوفت منه اشحال هى بقى؟
قالت نهى وهي تحاول الاتصال بهاتفها ولكن فشلت مع اهتزاز يدها:
- هى !! .... انا مش عارفة اعمل ايه؟ واطمن عليها ازاى؟ دا انا حتى خايفة ما اتصل بيها.
عقبت بثينة على قولها بتشتت:
- طب وبعدين بقى؟ هنعمل ايه يعني؟
حسمت الأخرى وهي تعلق حقيبتها اليدوية على كتف ذراعها وتتحرك:
- هنمشى يا ماما، ونشوف بجى هيحصل ايه بعد كدة!! وربنا يستر.
❈-❈-❈
سأل سالم زوجته وهو مضجع على وسادة قطنية ومستلقي على المصطبة المفروشة بالفراش من خيوط الصوف خارج المنزل، بعد استماعه لحديثها:
- يعنى هو جالك كده بعضمة لسانه؟!
ردت سميحة بلهفة وتشدق:
- ايوه والنعمة الشريفة زى مابجولك كده !!
اشاح وجهه عنها بتفكير ثم قال بعدم اقتناع:
-  مش عارف ليه مش عاجبنى لكلامك.
تغضن وجه زو جته فقالت بعتب:
- وه يا ابو بلال يعنى انا هاكدب ليه بس؟
زفر الرجل يضرب بكفه على طرف الفراش، ورد بضيق:
 - بطلي يا سميحة عمايلك دي، انا عارف انك مش بتكدبى، بس ولدك مش مضمون، وانا مش عايز اخسر اخويا .
ناظرته سميحة باستنكار هاتفة به:
-وه وتخسر اخوك ليه بس؟ هو احنا ولدنا طايش ولا عفش اسم الله عليه؟
زفر سالم يعتدل بجذغه ليضرب كفيه ببعضهما ويصيح بها بنزق بعد ذلك:
- يا مرة افهمى، ولدك جلبه متشعلج لسه ب بدور يعنى كده ممكن يظلم نيره بت عمه معاه، إفهمي بجى أنا جلجان ليه؟
اعترضت سميحة لتردف نحو زو جها بإصرار:
- ويظلمها ليه ان شاء الله؟ دى بت عمه مش غريبة عليه وعارفاه وعارفه طبعه .
اغمض عينيه سالم مخرجًا سبة وقحة من فمه قبل أن يتجه إليها يقول كازا على أسنانه:
- اجيبهالك ازاى بس يا ام مخ ضلم؟ ولدك واخدها عند عشان نيرة و بدور اصحاب الروح بالروح، يعني انتي من غير ما تجصدي جبتهالوا على الطبطاب.
رفرفرت سميحة بأهدابها تحاول الإستيعاب حتى ظنها فهمت مقصده، قبل أن تصدمه بقولها:
- مش فاهمه !!
عوج سالم فمه متنهدًا بثقل قبل أن يرد:
- ولا هتفهمى !
- يعنى ايه ؟!
سألته ليردف لها بحسم بعد أن فقد الأمل منها:
- يعنى تأجلى الروحة لبيت اخويا عبد الحميد وطلب نيره" لحد اما انا اجولك .
هنا اعترضت سميحة وكأنها تدافع عن قضية حياتها:
- ليه بس يا سالم توجف الحال؟ دا انا ما صدجت فرحت والواد راسه لانت، دا انا كنت مجهزة نفسي على إن اروح بكرة، دا حتى على رأي المثل زي ما بيقولو، خير البر عاجله..
- انا جولت مفيش روحة دلوك يعنى مفيش روحه دلوك
قالها سالم مقاطعًا بحزم جعل سميحة تنتفض من جواره، لتعود لمنزلها، تغمغم بالكلمات الحانقة نحو زو جها، الذي قطع عليها فرحتها بموافقة عاصم بالإرتباط بابنة عمه، وتعنته الغير مبرر بأسبابه واهية
1
❈-❈-❈
أما عن عاصم فقد كان مستلقي على فراشه، يسند ذراعه على جبهته، ليغطي عينيه بتفكير عميق عما وافق به منذ قليل مع والدته، يراجع نفسه إن كان هذا الأمر قارب الصواب أم الخطأ، فكرة ارتباطه ب نيرة ابنة عمه.
هو لا يريد ظلمها وقلبه معلق بغيرها، بل وهي اقرب الناس إلى مالكة قلبه، ولكنه ايضًا يريد المضي في حياته والتجاوز كي يعيش، يريد انهاء عذابه الدائم بالتعلق بالمستحيل، يريد الوفاء بوعده لنفسه بنسيانها الذي يصعب بمجرد رؤيتها وتتبخر معه كل الوعود في الهواء.
يجب التفكير جديًا في نيرة حتى لو كانت اختيار والدته، ف هي في الاول والاخير ابنة عمه، ولا ينقصها شيء، يكفي انها من دمه وتربية يـ  ده ويعلم جيدًا بأخلاقها، وهي مثال جيد للزو جة التي يتمناها الرجل، وهو إنسان ضعيف ومهما طال به الزمن أو قصر، ف مصيره إلى الزو اج، إذن بما يفيد التأجيل؟ ما دامت الأمور كلها بالنصيب كما يقال دائمًا، حسنًا ف ليأخذ هو نصيبه أيضًا!
❈-❈-❈
الإنتظار في هذه اللحظات، كان هو اصعب الأوقات التي مرت بها على مدار سنوات عمرها، لقد كانت ترتجف داخلها بعنف، رغم تظاهرها بالتماسك، تراقب كل همسة منه كرد فعل يخفيه عنها بصعوبة رغم احتداد عينيه، وتجاهله لها منذ أن انضمت معه في السيارة ، تعلم أن الأمر لن يمر على خير، والعينة بدأت من اول دخولها السيارة حينما جمد الدماء بعروقها بصيحته الهادرة بمجرد ان حاولت أن تستقل المقعد الخلفي ف زجرها هادرًا بصوته المخيف:
- انا مش سواج حضرتك، اترزعى من جدام اخلصى.
إننتفضت محلها لتتحرك على الفور مذعنة لتنفيذ الأمر، تخشى رده العنيف، وقد بدا جليًا بهذا الانفعال الشديد في القيادة، والنظرات الحادة التي كان يحدجها بها كل دقيقة، لتزيد من جزعها، حتى فاض بها وقررت التعجيل بالحسم، فخرج صوتها بارتباك:
- انا اسفه انى مرديتش عليك وماجولتلكش انى خارجة مع صحباتى
التفت رأسهِ بحدة نحوها يرمقها بعدائيه مخيفة زادت من جزعها، ثم من دون رد عاد للقيادة مرة أخرى، غمغمت داخلها بحنق، ثم اخذت نفس طويل تهدئ به توترها:
فخرج هذه المرة صوتها بقوة تدعيها وكأنها تناولت حبوب الشجاعة:
- على فكرة مفيش داعى لعصبيتك دى كلها، انت  شوفت بنفسك احنا كنا جاعدين باحترامنا فى مكان محترم والبنات اللى معايا فى منتهى الادب والاحترام كمان وو..... اه...
تأوهت صارخة بفزع مع اهتزاز جسده المفاجئ بعنف، حينما باغتها بأن ضغط على مكابح الفرامل، وتوقف بالسيارة بقسوة لدرجة جعلتها اندفعت بقوة للأمام، وارتدت على الفور، بفضل حزام الأمان الذي حمى رأسها وجسدها من الإصابة.
طالعته بصدمه كي تلومه، ولكن نظرته الخطرة لها جعلتها تبتلع ما بداخلها من كلام وتتراجع بكل جبن عن الإعتراض، لتنتفض بعد ذلك مع صيحته المخيفة:
- يعني انتى مش حاسه بغلطك ؟! لو انتي معاكى حج انطجى وقوليها ؟ سكتى ليه؟
تبخرت كل الشجاعة التي كان تعد نفسها بها في الرد على كلماته، ليحل الخنوع والأستسلام بهز رأسها إليه، وهو يتابع كازا على أسنانه:
- من اول يوم دراسة ليكى بتطلعى وتروحى ع كافيهات، امال لما تاخدى على البلد شوية هلاجيكى فين بعد كده؟
النبرة المتهكمة في تلميحه استفزتها، ف عادت لجنونها ترد بدفاعية:
- يعنى هتلاجينى فين إن شاء الله؟ والله انت عارف اخلاجى كويس على فكره.
هدر بها بعصبية يضرب بكفه على عجلة القيادة :
- انتى لسه ليكى عين تتكلمى بعد اللى عملتيه؟
ردت بشجاعة مزيفة:
- يعنى كل ده عشان روحت كافيه؟ كل بنات الجامعة بتروح كافيهات وبيتفسحوا كمان وبيروحوا رحلات، انا معملتش حاجة غريبة على فكرة .
تبسم بجانبية ساخرة يقارعها:
- وبيبجي برضوا من غير شورة اهاليهم؟!
برقت عيناها تهتف بانفعال مستهجنة قوله لها:
- اهاليهم كيف؟ إنت عايزنى اتصل بابويا فى البلد عشان اجولوا على كل مشوار ارحله! تيجي ازاى دى!
ذهبت السخرية عن ملامح وجهه فجأة ليجيبها بقوة وبدون تفكير أو تردد:
- انا اهلك .
لهجته الواثقة أصابتها بالإرتباك، لتردد خلفه بعدم استيعاب:
- اهلى كيف يعنى؟ إيه الكلام اللي انت بتجوله ده؟
اقترب برأسهِ منها، يضغط على كل حرف يتفوه به:
- يعنى انتى طول ما انتى هنا تبجى تحت مسؤليتي، مفيش خروج ولا طلوع يا نهال تاني مرة إلا بإذنى .
جحظت عينيها تصيح به باعتراض، متناسية خوفها وجزعها من رد فعله:
- يعني انت عايزنى اخد اذن منك فى اى خطوه او اى مشوار، ليه كنت جوزى مثلاً؟
جملتها العابرة والتي اردفت بها ساخرة دون أن تعي بوقعها عليه، وقد تسمر امامها، يطالعها بصمت لعدة لحظات، حتى صدر صوته بنبرة هادئة غريبة لم تفهمها:
- بصفتى واد عمك يا نهال، ودي مش محتاجة شرح أو توضيح، وع العموم لو مش عاجبك الكلام اتصلى حالاً بابوكى واشتكينى ليه.
ارتدت برعب مع تلميحه الصريح، لتسأله بتوجس:
- إنت قصدك ايه يا مدحت؟ يعني عايز تبلغ ابويا باللى حصل انهارده؟
رد ببساطة:
- مش انت شايفه نفسك ماغلطتيش تبجى خايفه ليه ؟!
تلجمت وانعقد لسانها عن مقارعته، فتابع سائلًا بتشفي:
- سكتى ليه ؟!
تكتفت بذراعيها تنظر للأمام متهربة من عينيه المتصيدة لكل همسة منها، تقول بصوت خفيض، وقد هزمها بحجته:
- يعنى هاجول ايه؟
تنهد بانتصار، فقال بنبرة قوية وبصوت متملك:
- كويس جوي الكلام ده، يبجى كده تسمعى الكلام، وتانى مره اياكى يا نهال، اياكى ماترديش على أي اتصال مني، فاهمة؟
ضغطت تجيبه هامسة بغيظ مكتوم :
- فاهمة
❈-❈-❈
وعند بدور التي كانت تراجع في استذكار دروسها، وهي منكفئة على كتابها، وهاتفها لا يكف عن ورود الإتصالات عليه، وهي في كل مرة تتناوله فتري الأسم، فتلقيه بأهمال دون إجابة، كي تعود لدروسها، فيعود الهاتف للإتصال مرة أخرى، فتزفز هي بضيق، مغمغمة بحنق لاستمرار هذا اللزج في الألحاح، وتشتيتها عما تفعله، حتى فاض بها، لتتناول الهاتف وتغلقه، قبل أن تلقيه بإهمال خلفها على التخت، متمتمة:
- غور يا اخى بلا هم.
❈-❈-❈
ولجت نهال لداخل الشقة الجديدة لسكن الفتيات، بعد أن فتحت بمفتاحها، ف استقبلتها على الفور نهى بأن ركضت نحوها لتسألها بقلق:
- ها عملتى ايه؟ طمنيني.
حدجتها نهال بنظرة محذرة، متجاهلة الرد عليها قبل أن تلقي التحية على الفتيات زميلاتها الاتي كن يجلسن في الصالة، يتابعن كل شيء:
- مساء الخير يابنات.
ردت إحداهن تُدعى أميرة :
- مساء الخير، انتى كنتى فين يا نهال؟ دى صاحبتك بجالها ساعة هتموت من الجلج عليكى .
التفت نحو نهى تحدجها بنظرة نارية لترد على الفتاة بغضب مكتوم:
- يعنى هكون فين يعني؟ انا كنت مع بثينة صاحبتى الجديدة بنجيب شوية ادوات وحاجات للدراسة، إيه يا ست نهى؟ هو انتي نسيتي؟
استدركت الاَخيرة على اللهجة المتشددة من نهال، وقالت باضطراب
- اَه، يا نهار ابيض دا انا كنت ناسية صح، وجلجلت عليكى بصراحة بعجلي الضلم ده.
تدخلت فتاة أخرى وتدعى سهام لتقول بتفكه:
- جلجتى! دا انتى روشتينا يا شيخة، رايحة جاية رايحة جاية، في الصالة قصادنا ولا اكن عليكي بيضة حتى.
تبسمت نهى بصفار نحو الفتاة والمزحة الثقيلة التي ألقتها، فهمت لتقرعها بالسخرية، ولكن اميرة اوقفتها بنظرة التشكك:
- وانتوا سيبتوا بعض ازاى يعني؟ دا انتو طول الوجت مبتفارجوش بعض نهائي.
بلغ الغيظ والكبت بنهال مبلغه، بعد ما مرت به منذ قليل، وما تجده الاَن من تحقيق، وهي لا ينقصها، همت لتفرغ شحنة الغضب في الفتاة، ولكن نهى سبقتها لترد بدبلوماسية:
- خبر ايه يا أميرة؟ انتى هتحسدينا ولا إيه؟ طب اهى حصلت يا ستى من نبركم وسيبنا بعض، انبطوا كدة واهمدوا بجى.
اصدرت المذكورة صوت مستهجنًا لترد على نهى بغيظ، والآخرى لم تقصر، ولكن نهال كان قد فاض بها ولم يعد بها التحمل لأي شيء، فاستئذنت باعتذار:
-معلش يا جماعة انا هلكت النهاردة في اليوم الطويل ده، ومعدتش جادرة حتى على الكلام.... عن اذنكم بجى، انا داخله اؤضتى عشان ارتاح .
قالتها وتحركت على الفور، وذهبت بدون انتظار رد منهن.
❈-❈-❈
دلفت لداخل غرفتها تصفق الباب خلفها بقوة، لتخلع عنها حجابها على الفور، حتى تلتقط انفاسها بلهاث وتعب، بعد أن ابتعدت عن أعين الفتيات المترقبة، وقد خلت اَخيرًا بنفسها، لا تصدق ما حدث معها هذا اليوم وما ختمه مدحت بأفعاله المتسلطة، لقد اظهر لها اليوم وجهًا جديدًا، لم تكن بحياتها أبدًا تتوقعه وهذا الغضب الحارق ليفرض عليها تحكماته مع أول خطأ بسيط تقع به، وهي التي ظنت انها خرجت عن محيط البلدة ومحيطه هذا في العشق اليائس، لتعيش القادم لنفسها ومستقبلها فقط، يأتي الاَن هو بتعقيداته معها، ليحجمها حتى تكون تحت سيطرته، زفرت بضيق لتسقط على طرف الفراش بتعب، وحسرة لختمام يومها الأول في هذا العالم الجديد، بهذا السوء.
رفعت رأسها على اندفاع باب الغرفة ودخول نهى فجأة  هتفت نحوها نهال بغيظ:
- مش تخبطى الأول يا زفتة انتي جبل ما تدخلى هجم كدة!
تغاضت نهى لهجة صديقتها الحادة لتقديرًا لغضبها، وخطت تقترب منها بعد أن تأكدت من غلق الباب جيدًا، فقالت بقلق:
- معلش يا نهال، بس أنا اصلى كنت هموت من الرعب والخوف عليكي،
رمقتها نهال بحنق صامتة ثم دنت لتخلع حذائها الابيض من أقدامها، ف استطرت نهى بلهفة:
- ما تردى يا نهال ساكته ليه؟ وقعتي جلبي يا شيخة.
حدجتها نهال بنظرة حادة ثم ردت بتوبيخ:
- اسمعى يا نهى، تانى مرة تاخدى بالك من تصرفاتك، انا مش ناجصه حد من البنات اللي برا دول، او في أي حتة تانية، يشنع عليا بكلمة واحدة فاهمة؟.... كفاية الهم اللى انا فيه .
- يا نهار اسود.
تفوهت بها نهى، ثم جلست بجوار نهال على طرف الفراش، تسألها بجزع:
- هم ليه؟ هو ايه اللى حصل بالظبط؟ وعمل إيه معاكي الدكتور مدحت؟
صممت قليلًا نهال، قبل أن تجيبها وهي تفرك كفيها بعضهما:
- الدكتور الباشا حكم عليا انى مخطيش خطوة واحدة، ولا أي مشوار اعمله إلا بأذن منه، وزيادة على كده هروح الجامعه معاه وارجع كمان معاه .
ازبهلت نهى تقول بعدم استيعاب:
- وه، دا واد عمك شديد جوى، طب وانتى هتبعيه يعني على كدة ولا هتعملي إيه؟
تطلعت نهال بها تجيبها بقوة:
- مضطرة دلوجت اهاودوا شوية كدة على ما يهدى ويشيلنى من دماغه، انا مش ناجصه يبلغ ابويا، عشان عارفه كويس ابويا هيصدجه مهما انا جولت او عملت، لكن بعد كدة بقى، يبقالي صرفة، ما انا مش هستحمل الوضع دا كتير
أومأت لها نهى بهز رأسها توافقها:
- هو دا الصح، تهاودي شوية على ما ينسى والموقف يعدي، واساسا يعنى، هو بكل مشاغله دي، هيلاجى وجت ازاى لتوصيلك الجامعة، روحة وجاية كمان؟
زفرت نهال مطولا ثم قالت
- يعدلها المولى ان شاء الله.
❈-❈-❈
صباح اليوم التالي
كانت نعمات تجهز الأبناء الصغار، ياسين بأن جهزت له حقيبة الروضة خاصته، ثم نهلة الصغيرة التي كانت تمشط لها شعر رأسها، ف اقتربت منها بدور مرتدية ملابس المدرسة استعدادًا للذهاب، تخاطبها:
- أما يا أما.
التفت لها نعمات وهي تربط بالرباط الصغير على خصلة كبيرة بأحد الجوانب لشعر نهلة، وردت بعدم تركيز:
- اممم، عايزة إيه يا بدور؟ معاكي حاجة ناجصة وعايزة تشتريها لمدرستك انتي كمان؟
نفت بهز رأسها ثم تحمحت تجلي حلقها وتجمع شجاعتها وهي ترد:
- انااا، عايزة افلت!
حتى الآن لم تكن منتبهة نعمات، لذلك انتظرت بدور والدتها حتى انتهت من شقيقتها، مردفة بالنصائح المعروفة:
- امشى على طول ياحبيبتى وخلى بالك من اخوكى من العربيات، واوعي تخليه يلعب كورة مع العيال الكبيرة، ليوقعوه زي امبارح، ولا يتأذى. 
هتفت بها بدور بنفاذ صبر
- ياما انتبهيلى بجى وسيبك من البت دى شوية، هي النصايح دي مبتخلصش؟
رمقتها نعمات بامتعاض قبل أن تصرف اطفالها الصغار للذهاب لدراستهم، ثم خاطبتها:
- ادينى انتبهتلك اها، جولى عايزه ايه بجى يا ست العرايس؟
ابتعلت بدور ريقها وبللت شفتيها بتوتر قبل تقول:
- ااا ما انا جولت وانتي مخدتيش بالك، انا عايزه افلت .
رددت نعمات بعدم استيعاب:.
- عايزه تفلتى! كيف يعني؟ معناه إيه الكلام ده؟
تشجعت بدور لتردف بتصميم وقوة:
- عايزة افلت، يعنى عايزة افسخ خطوبتى من معتصم ونوفوضها على كده واخلص.
- هى مين اللى تخلص يا بت الكلب؟ ايه اللي انتي بتهلفطي بيه دا يا بت؟
صدرت قوية أجفلت الأثنان مع دخول راجح بغضبه، وقد سمع ما قالته ابنته بالصدفة.
خرج عاصم من غرفته مرتديًا العباءة الرجالية السوداء فوق الجلباب الصوف، بأناقة اعتاد عليها خاصة حينما يخرج لشيء هام خارج البلدة، أكتافه العريضة، مع طوله الفارع، بوسامة رجولية خشنة تلفت إليه الإنتباه دائمًا، الشيء الذي جعل تهلل بالتكبير وترديد الأدعية الحافظة بمجرد رؤيته في الصالة اثناء جلوسها تتناول وجبة الإفطار مع زو جها على مائدة الطعام
-بسم الله، الله اكبر، عيني باردة عليك يا حبيبي، يحميك من العين ومن كل حد من شافك ولا صلاش ع النبي .
- اللهم صلي وسلم وبارك عليه .
رددها مع والده هو الاخر، ليقول ضاحكًا:
- إيه يا ام بلال؟ ناقص تجيبي البخور وتبخبرني؟
نهضت عن مقعدها سميحة بتحفز، قائلة بحماس وهي تخطو لتفعل بحق.
- هو انت بتقول فيها، والنعمة اروح اعملها صح.
قهقه يوقفها فور ان اقتربت منه ليقول ضاحكًا:
- جلبك ابيض يا ست الكل، انا كنت بهزر.
- وانا مش بهزر انا بقول جد.
قالتها وهي تحاول التحرك مرة أخرى ولكنها اوقفها بتقببل رأسها:
- خلاص يا ستي، دي مكانتش كلمة دي، صباح الفل.
- صباح الهنا على عيونك.
رددتها سميحة وزو جها ايضًا الذي خرج صوته برزانة:
- صباح النور يا ولدى، رايح فين ع الصبح كدة؟
اجاب عاصم متنهدًا وقد هدات ضحكاته:
- واريا بس شوية مشاوير كده عايزة اخلصها بس هاجى بدرى ان شاء الله.
قالها وهو يخطو حتى جلس مع والدته التي عادت لمقعدها هي الأخرى، فقال سالم بعد ان صمت قليلًا في وادعى انشغاله في تناول الطعام:
- لكن انت عديت على جدك زى ما جولتلك امبارح؟
تغير وجه عاصم لتعلوه الجدية وهو يرد :
- عديت يا بوى وسألنى عن جوازى!
سألته سميحة بلهفة:
- وانت بجى يا حبيبي جولتلوا إيه،
- جولتلوا اللى جولتوهلك سابج ياما.
قالها عاصم ليعقب والده على قوله بتحذير:
- لكن يا ولدى دا جواز، وكلمة هترتبط بيها وانت طول عمرك راجل ما بترجعش فى كلمتك، يبجى تفكر زين الأول وتاخد وجتك، الدنيا مطارتش.
صمت وتوقف الطعام بفمه لعدة لحظات، قبل ان يعود ليلوكه بصعوبة وقال:
- ما تخفش يا بوى ولا تشغل بالك، إنت جولتها بنفسك، انا ما برجعش فى كلمتى .
مع عدم تقبله للفكرة من الاساس، واحساسه بخطأ ما يفعله ابنه، سأله سالم ليؤكد عليه مرة أخرى:
- يا ولدى دى بت عمك، وانا أخاف انك تظلمها .
هتف عاصم بدفاعية:
وه يا بوى، وانا امتى بظلم حد عشان اظلم بت عمى؟ دا جواز مش لعبة وهتسلى بيها
بشبه ابتسامة رد سالم مقارعًا ابنه:
- الجلب وما يهوى يا ولدى .
سمع منه عاصم، ليقول بمرارة ملئت كيانه حتى فاضت:
- سيب اللى فى الجلب يا بوي فى الجلب، عشان كل حاجة نصيب، وانا عرفت نصيبي خلاص يا لا بقى.
صمت برهة ثم وجه حديثه نحو والدته يقول بحسم:
- روحى النهاردة ياما بيت عمي عبد الحميد، بس كلمى مرة عمى الأول تشوف البت ولو رضيت؛ ابويا يكلم عمى.
هتفت سميحة بفرحة، وعدم تصديق:
- حاضر يا ولدى من عنيا، بس النهاردة خابزه لو ملكت اروح العشية هروح ولو ما ملكتس هروح بكرة ع الصبح ان شاء الله مش هستني، دا يوم الهنا و.....
- إستنى يا مرة انتى، مستعجله على ايه؟
قالها سالم مقاطعًا لاحلام سميحة التي انخطف لون وحهها، وانتقلت عينيها برجاء نحو ابنها، مع توجسها برغبة زوجها في التأجيل او الألغاء، انتبه لها عاصم فقال مشفقًا يخاطب والده:
- خلاص يا بوى خليها تروح، مالوش لزوم التأجيل اكتر من كدة، احنا فى الحديت ده اساسًا بجالنا ايام .
- لكن يا ولدي.
قالها سالم بتردد حسمه عاصم للمرة الثانية بقوله:
- يا بوي مالوش لزوم الأخد والرد تاني، بعد ما رسينا على رأي، خلي امي تروح وتفرح بجى.
رد سالم بأنفعال وعدم رضا، لما يفعله ابنه في نفسه:
- تفرح ازاى بس وانت نفسك مش فرحان؟
صمت عاصم دون رد، فقال والده باستسلام:
- خلاص روحى بس خليها بكرة عشان خبيزك .
تنهدت سميحة بارتياح مع إحساسها بالوصول لمبتغاها اَخيرًا:
- الحمد لله، اخيرًا رضيت، يتمها على خير كمان يارب
في منزل راجح والذي كان يتناول وجبة إفطاره في هذه الوقت الباكر من الصباح، مع زو جته واولاده الصغار، قبل ذهابهم إلى مدارسهم، انتبه علي بدور التي نزلت من غرفتها بالطابق الثاني، ترتدي ملابس المدرسة هي الاخرى، وعلى ذراعها حقيبتها، تتحرك بخطواتها نحو المغادرة بصمت ودون صوت، لتجفل على صيحة والدها الذي قال بتهكم:
- صباحك وراكى ولا جدامك يا غندور؟
التفت إليه تجيبه بحرج اختلط بحزنها:
- صباح الخير يا بوى .
قالتها وهمت لتتابع سيرها ولكنه اوقفها مرة أخرى بقوله:
- ماشيه على طول ليه يا بت؟ مش تترزعى تفطرى الاول.
ردت بصوت ضعيف وحزين بالكاد يخرج قبل ان تتابع ذهابها:
- معلش يا بوي، بس ماليش نفس، عن اذنكم .
تابعت نعمات اثر ابنتها حتى اختفت وغادرت المنزل، ثم التفت إلي زو جها تخاطبه بعتب
- براحه شويه ع البت يا ابو ياسين، دي مهما كان برضوا صغيرة.
كز على أسنانه راجح، ليرد على قول زو جته بانفعال وعصبية:
- انا برضوا اللي براحة يا مجنونة انتي كمان زي بتك، دا انا ماسك نفسى عليها بالعافية، رغم اني اقد اكسر عضمها، جاية دلوك تجولى مش جابلة واد العمدة ومش عايزاه، كان فين رأيها ده لما اتجدمولها عيال عمها التلاتة ؟ اللى الوحد فيهم بس، بعشرة من عينة معتصم،
وهى معرفتش تختار حد منهم، وتريح نفسها وتريحنا من الحيرة اللي جبرتنا نوافج ع اللي اسمه معتصم ده.
ردت نعمات بمهادنة وإشفاق:
- أديك جولت بنفسك، التلاته رجالة عليهم الجول ومفيش حد فيهم يتعيب، وهي احتارت ما بينهم.
عقب راجح باستهجان:
- اه وجايه دلوكت يعني تختار بعد ما اتشبكنا مع الناس وجرينا فاتحة ولبسنا شبكة مش بس كلمة!
توقف ليهدر بها بحزم:
- اسمعى يا نعمات الكلام دا زين وفهميه لبتك، انا مبرجعش فى كلمه جولتها ومطرح ماتحط راسها تحط رجليها، وفهميها إني لحد دلوكت مش راضى امد يدى عليها، يعني تحط عجلها في راسها وترسى كدة.
انتفضت نعمات بارتياع لهذه الهيئة التي بدا عليها زو جها، فهي الأعلم به، دائمًا هاديء، ولكنه لا يصل إلى هذا الغضب إلا إذا كان الأمر جلل، وهي تعلم بذلك، فخرج صوتها بلين:
- وه يا راجح، دا انت عمرك ماعملتها مع واحده فيهم ولا حتى وهما صغيرين حتى، يبجى تعملها دلوكت وبتك عروسة؟
ضرب راجح بكف يده على سطح المائدة يحسم بتهديد:
- امال اسيبها توطى راسى مع الناس؟ معتصم بجى نصيبها، يعني بس تخلص سنتها الاَخيره وتكمل سنها وهجوزها على طول ومش هستنى،
ورفع سبابته يردف:
- ولو بتك زودتها يا نعمات وصممت ع اللي في راسها لكون مجوزها بالسُنة واللي يحصل يحصل.
بكف يدها ضربت على صدرها تردد بجزع:
- تجوزها بالسُنة يا راجح، طب ليه؟ هي طارت عليها يعني؟
نهض راجح عن مقعده بعنف يدفعه للخلف حتى اصدر صريرًا مزعجًا:
- مش احسن ما اسيبها تمشي اللي في مخها، العمدة وولده مستنين بس اشاره وهما مستعدين يكتبوا ورقة بمليون مش مية الف ضمان
❈-❈-❈
بداخل السيارة التي أصبحت تقلها ذهابًا وإيابًا من وإلى جامعتها، كانت جالسة شابكة كفيها الإثنين بأدب، تسندهم على حقيبتها التي تعلو حجرها، انظارها أمامها نحو الطريق مثبتة، لا تحيد يمينًا ولا يسارًا، بصمت كئيب، اتخذته نهجًا من وقت أن اصدر تحكماته الأخيرة نحوها، لا ينبت فمها إلا بالرد بكلمات مقتضبة إذا سألها، تتحلى بالصبر في انتظار أن يفرج عنها أو يمل او ينشغل بمسؤلياته، تشعر أن هذا اليوم قريبًا، لما تعلمه جيدًا، عن كثرة اشغاله الموزعة ما بين الجامعة والمشفى وعيادته.
- تحبى اشغل التكيف؟
قالها مستهبلًا، رغم علمه بطراوة الجو بالسيارة والذي يقترب من البرودة في هذا الوقت من الصباح، ولكنها حجة لفتح حديث معها، وقد ضاق وضج من هذه المعاملة الجافة منها.
-لا
قالتها مقتضة بكل هدوء لتثير سخطه، حتى اجبرته ليغمغم داخله:
- هي دي بس اللي قدرتي عليها؟ ماشي يا نهال.
تنهد بصوت مسموع يحاول معها مرة أخرى:
- تحبى اشغل لك اغنية تحبيها؟
التفت برأسها إليه تطالعه باستغراب صامتة، لتجيبه بكل برود، مرددى نفس الكلمة، قبل أن تلتف للأمام نحو الطريق مرة أخرى، ومع هذا تبسم داخله بابتهاج بعد أن اهدته نظرة جميلة منها، بلون عينيها السري والذي قد توهج بروعة، وانعكس مع نور الشمس الذي يشمل السيارة، ولكنه عاد لحالة الإحباط مرة أخرى، مع عودتها لحالة الجمود مرة أخرى، وزاد سخطه، مع اشتياقه بكل ذرة من كيانه إلى حيوتها وجنونها أيضًا.
وبحركة غير محسوبة وجد نفسه يزيد من سرعة السيارة، بقصد لفت انتباهاها، ولا يعلم أنه اثار الفزع بداخلها ولكنها بتمرد اعتادت عليه، حاولت الا تُظهر له رغم شعورها بقرب توقف دقات قلبها من الرعب، حتى ظلت صامتة، تعد على أصابع يدها، بغرض ان تلهي نفسها، واحد، أتنين، تلاتة، أربعة، خمس...
في الاخير لم تقدر على الأكمال، فخرج صوتها المرتعش بضعف في البداية مرددة:
- هدى السرعة... هدى السرعة شوية.
مع استمرار تغافله المقصود لهمساتها الراجية وهو يقود بتجاهل ويدعي التركيز في النظر أمامه، وتزايد الهلع بداخلها، لم تتحمل ألصمود أكثر من ذلك، فصرخت بصوت مرتعب:
- هادييييي .
على الفور خفف السرعة ملبيًا ندائها، والتف نحوها ليفاجأ باصفرار وجهها وتنفسها بصعوبة ولهاث، بأعين تترقرق فيها الدموع، شعر بالندم الحقيقي، وجموحه الذي أدى به إلى هذا التصرف الأحمق، فقال بلهجة حانية:
- اهدى خلاص، اهدى انا كنت بهزر بس عشان اشوف رد فعلك.
حدجته بغيظ تملك منها بشدة تهتف بسخط:
- بتهزر!.... كنت هتوجف جلبى واموت فيها من الرعب والخوف وتجولى بهزر.
اعتلى ثغره ابتسامة متسلية ليزيد من إستفزازها بقوله:
- اللي يشوفك وانتي بتعاندي وتتحدي، ميتوقعش منظرك ده وانتي نفسك منحاش ووشك مخطوف عشان بس زودت سرعة العربية، مكنتش فاكر ان جلبك خفيف كدة يا نهال .
سمعت منه لتحدجه بنظرة نارية، وبداخلها تتمنى ضربة على وجهه الجميل هذا، بأي شيء تناله يداها، فخرجت الكلمات من تحت أسنانها بتهكم ساخر، لا تقصد به المرح:
- ها ها ها وانا ماكنتش اعرف انك ظريف كده !
- هههههه .
صوت ضحكته المجلجلة والتي انطلقت في قلب المساحة الصغيرة في السيارة، أجفلتها لدرجة الإرتباك، حتى شعرت بقفزات هذا الخائن بصــ درها، بتسارع كاد أن يفضحها، اما هو فلم يكن بقادر على التوقف عن الضحك نهائيًا، بشكل جعله يستمر في القيادة بصعوبة، وعقبت نهال مستنكرة بخفة دمها المعروفة
- ما خلاص بجى هى نكتة؟
قالتها بنظرة تشتعل من الغيظ ليبادلها هو بنظرة غريبة لم تفهمها، ثم قال ببساطة:
- هى دى نهال !!
اربكها للمرة الثانية وزاد بداخلها التوتر، حتى التفت عنه تتحاشاه بالنظر نحو الطريق مباشرةً، ف انتبهت لقرب وصولها، لتتمتم براحة على الفور:
- الحمد لله وصلنا .
عقب مدحت بابتسامة ارتسمت على وجهه:
- ومالك بتجوليها بارتياح شديد كدة، لدرجادى انتى تعبتى منى ومن سواجتى .
خطفت نحوه نظرة عابرة بصمت عن الرد وهي تجهز نفسها لمغادرة السيارة، حتى إذا توقفت بها وهمت بالترجل، أوقفها بقوله:
- نهال ما تنسيش ترنى اول ما تخلصى على طول،
وحاولي تعرفي المواعيد من البداية عشان اظبط مواعيدي.
تنهدت تحاول التماسك والتحلي بالزوق في الرد إليه:
- على فكرة، كدة ماينفعش انك تعطل مصالحك كل يوم عشانى.
رد بابتسامة سمجة مزعجة:
- وانتى مالك ياستى انا عايز اعطل مصالحى، اسمعي الكلام بس ونفذي من غير كلام.
بدون ادنى رد قامت بفتح باب السيارة للترجل سريعًا منها، صافقة الباب بعنف مقصود من خلفها، حتى زادت من مرح الاخر، مع ابتسامة لم تغادر وجهها، مستمتعًا بمشاكستها.
❈-❈-❈
توك ما واصلة يا ست هانم . طبعاً تيجى براحتك وتصحى براحتك مدام فى عربية بتجيبك مخصوص مش احنا اللى نصحى من الفجرية عشان بهدلة المواصلات .
علقت بها نهى بمناكفة استفزت الأخرى لتهدر بها
- نهى اتعدلى بدل ما اعدلك .
سمعت منها لتزيد بمزاحها مستمعتة بهذا المزاج النزق من صديقتها.
- تعدلينى ليه بجى؟ ها؟ معوجة انا ولا كنت معوجة ها
ردت الأخرى بنفعال حقيقي هذه المرة:
- والنعمه انا على اخرى . لمى نفسك احسن واتجى شرى أحسن يا بنت الناس .
طأطأت نهى رأسها بتمثيل ودراما، وادعاء الخنوع التام في قولها:
- حاضر يا ست هانم اللى تؤمرى بيه .
تبسمت نهال مستجيبة لمزاح صديقتها تقول لها :
- ايوه كده، خليكى حلوة.
تابعت نهى بمزاحها تردد:
- حاضر يا ست هانم هبجى حلوة، اللي تجولي عليه ماشي.
ضحكت هذه المرة نهال بصوت واضح وقد استطاعت إلهاءها عما يحدث معها من مدحت وتعمده التضيق على حريتها، ورددت من بين ضحكاتها:
- هههه، يخرب مطنك ضحكتينى، وخليني افك شوية بعد ما كنت مضايقة.
- لا وهتنبسطى اكتر لما تعرفى ان المحاضرة اتلغت لأن الدكتور عنده ظرف صحى .
قالتها نهى بلهفة تفاجأها، وتوقفت نهال لتقارعها بوجه عابس:
- ودا بجى هيبسطنى ولا يفرحني يا ناصحة .
قطبت نهى بدهشة لتردد بعدم تركيز :
ايوه طبعاً، كدة نعتبره يوم أجازة أو راحة ونروح بجى نتفرج شوية على المحلات او نتمشى.
أيوه عشان مدحت واد عمى يعملى محاضرة
قالتها نهال وهي تزفر بنزق، ثم خطت حتى تصل إلى الاَربكة الخشبية الكبيرة أسفل شجيرة ضخمة، لتجد مكانًا لها بجوار مجموعة من الفتيات، ثم افسحت لنهى التي لحقت بها، لتقول بيأس:
- ليه يا نهال؟ هو لسه مشالكيش من مخه؟
كزت نهال على أسنانها تردف بغيظ وهي ترفع قبضة يدها أمام وجهها:
- كل يوم اجول النهاردة هينشغل عنى، النهاردة هينشغل عني بس مفيش فايده، دماغه زفت، مُصر يكبس على نفسي، وانا دمي بيغلي و....
قطعت حينما صدح هاتفها بورود مكالمة:
- استنى ارد عالتليفون اللى بيرن ده.
قالتها لتخرج الهاتف من الحقيبة وترى إسم المتصل، ليهلل وجهها مع روية الرقم، ف سألتها نهى:
- مين يا نهال؟
أشارت لها لتصمت قبل أن تجيب
- الو السلام عليكم .
جاءها الصوت المرح:
- ازيك يا بت.
ضحكت نهال مستجيبة للمزاح تردد:
- بت لما تبتك.
جاء الصوت هذه المرة عن قرب:
- يا بت عيب عليكى احترمينى انا واد عمك وكبير عليكى .
شهقت نهال ضاحكة وتقول بعدم تصديق فور أن رأته أمامها:
- إنت ايه اللى جابك هنا يا مجنون؟
تفكه رائف رافعها حاجبيه بمرح فور أن نزع النظارة الشمسية يقول:
- أنا محدش يتوقعني.
قهقهت نهال ضاحكة لافعال هذا المجنون ابن عمها، أما نهى والتي تفاجأت هي الأخرى، فقد حاولت إخفاء ضحكاتها، رغم ان غمازتيها فضحتها، حتى أنها لفتت انتباه الأخر، لخجلها في تجنبها النظر إليه، فتقدم نحوها يمد كفهِ نحوها كي يصافحها بأدب:
- اهلا يااا.
- إسمها نهى.
قالتها نهال وررد الاسم من خلفها:
- أهلا يا أنسة نهى .
غمغمت برد التحية بهمس وكسوف وهي تنزع كفها سريعًا:
- اهلاً بيك حضرتك .. طيب انا هاروح اشوف بثينة ولما تعوزينى رنى عليا يا نهال ماشى .
أومأت لها نهال موافقة، وتحركت هي مغادرة تحت انظار رائف التي رافقتها حتى اختفت، ثم اندمج مع ابنة عمه الشقية وأحاديثها الممتعة بعفوية اعتادت عليها معه، ولا يدريان بأعين تملأها الحقد والحسد تتابعهما وتراقب، في انتظار الفرصة!
❈-❈-❈
في البلدة
كانت عائدة بدور من دوامها الدراسي ومعها ابنة عمها نهال حينما تفاجأو بمن يتقدم نحوهن، بخطواته السريعة، انتبهت عليه نيرة لتلكز ابنة عمها من مرفقها، تقول:
- اللحجى المحروس خطيبك باينه استحلاها .
حدجته بدور بأعين تقدح شررًا تتابع خطواته المختالة بتبختر مستفز وابتسامة لزجة اثارت حنقها، حتى ودت ان تغلقه هذا الفم الكريه بكفها:
- إزكم يا بنات .
هتفت بها معتصم فور ان اقترب منهن، رددت نيرة وحدها التحية:
- اهلا يا معتصم، طب انا هستناكى يا بدور عند اخر السور.
قالت الأخيرة بإشارة نحو ابنة عمها التي ظلت صامتة حتى ابتعدت عنها نيرة، ثم ما لبثت ان تهتف عليه بغضب مكبوت:
- انت إيه جابك تاني هنا يا معتصم؟ ولا هى بجت شغلانه ؟
ذهب الإبتسام عن ملامح معتصم وحل العبوس والتجهم ليقول بغضب:
- ما انتى ما بترويش عليا نهائي لما بتصل بيكي، سايبانى ومش معبرانى خالص.
ناظرته بدور بتحدي لترد بكل ثقة:
- ولا هارود عليك يا معتصم، ولو مش عاجبك نفوضها سيره وارجعلك شبكتك !!
تطلع فيها معتصم لعدة لحظات بازبهلال وعدم تصديق، حتى ظن أنه سمع بالخطأ فسألها مرددًا:
- إيه بتجولى؟ ولا انا اللي سمعت غلط؟ كرري من تاني وخليني اتأكد من اللي سمعته.
نبرته الحادة وتغير لونه وجهه في وقت آخر كان سيشعرها بالخوف، لكن في حالتها الاَن فقد بلغ منها الضيق منها مبلغه، لذلك كررت بالفعل وبكل قوة، مشددة على أحرف الكلمات
- بجولك نفوضها سيره وارجعلك شبكتك.
اشتعلت عينيه فجأة وتحولت ملامحه لشكل مخيف وهو يهدر بها:
-  لكن انتى واعية للى بتجوليه ده؟ ولا دريانة بخطورته يا حلوة قبل ما تلهفطي بيه؟
بدت أمامه واحدة أخرى غير التي يعرفها على الإطلاق، حتى ظن أنها تفعل به مقلب، وستعود لرشدها بعد قليل، وتخبره بانتهاء المزحة، ولكنها فاجأته مرة أخرى بقولها:
- ايوة يا سيدى دريانه وبكامل قواية العقلية كمان، بجولك خلينا نفك الشبكه الزفت دى .
هنا انفرط العقد وتخلى معتصم عن هدوئه، لتطبق كفه على مرفقها ويهزهزها بعنف مرددًا:
- انتى اتهبلتى ولا اتجنيتى؟ ولا جرى حاجه فى مخك إيه؟ نسيتى نفسك يا بت راجح؟ دا انا ابيعك واشتريكى انت وناسك كلهم .
صرخت به بدور وهي تحاول أن تنزع ذراعها من قبضته:
- سيب يدى يا بارد يا عديم الرجوله يا لطخ
زاد معتصم من جنونه ليصرخ بها غير مكترث لخطورة ما يفعله:
- انا مش راجل با بت ال..
قطع جملته مع دفعة قوية تلقاها من نيرة التي أتت تؤازر ابنة عمها، ضد هذا الجلف عديم الحياء، فصاحت به بشراسة:
- سيب يدها، انت اتهبلت ولا اتجنيت بجولك سيييب، إيه يا خوي، مش لاقي حد يلمك ولا يقفلك؟ ولا مفكرنا بنتة ضعاف وهنخاف منك؟
اضطر معتصم ان يتركها وعينيه تطلق شررًا من جحيم غضبه، دلكت بدور على ذراعها مردد بألم :
- جاتك ضربة في يــ دك.
رفع قبضته مرة أخرى مهددًا:
- لمي نفسك ومتخلنيش افش غليلي فيكي احسنلك، انا على اَخري.
هدرت به نيرة وهي تزحزحه لتدفعه بعيدًا عنهن، تواجه بعصبية قائلة:
- تمد يدك على مين؟ هي سايبة ولا سايبة؟ ولا انت فاكرها ملهاش ناس ياك يردوك؟
تخصر معتصم يقول بعنجهية وغباء:
- نااس !! ناس ميين ياسنيورة؟ هو انتو كنتوا تحلموا تناسبونا أساسًا؟ دا انا ابويا هو اللى عملكم سعر لما فكر نناسبكم؟
همت بدور ان تفحمه برد قاسي، تعرف هذا التافه مقامه به، ولكن نيرة سبقت بردها الحاسم
- ماشى يا معتصم، بس خليك كد كلامك ده وكد الفضايح اللى عملتهالنا دلوك.
- فضايح !
قالها معتصم مجفلًا بعد ان شعر بجسامة الخطأ الذي ارتكبه، لانتباهه اَخيرًا على التجمع الكبير حولهم،من طلبة ومارة، وقفن يشاهدن ما يحدث، فتحركت قدميه ليغادر على الفور، يغمغم بالكلمات والسباب.
- ماشى، ماشى يا بدور، انا إن ما كنت اعلمك الأدب، انتي وعيلتك اللي فرحانة بيها دي، مبقاش انا.
فور ابتعاده واختفاءه من أمامهم اطلقت بدور لدماعاتها السراح، لتنهار من البكاء في حضن ابنة عمها، وزميلاتها في الدراسة التففن حولهن يؤأزرنها، نيرة والتي كانت تربت بكفها على ظهرها لتهدئتها، كانت تردد بانفعالها:
- خلاص ما تزعليش يا حبيبتى؟ اهو غار فى ستين داهيه ودينى ماهسكت ع اللي حصل وعمله معانا، إن مدفع تمن جلة حياه وغلطه ده جامد، مبجاش أنا.
❈-❈-❈
- شايف بتضحك وتهزر مع الواد الغريب دا ازى؟ وعند انا ما شوفش منها غير الوش الخشب!
قالها هذا الفتي الذي تصدر بجسده لنهال قبل ذلك في اول يوم دراسي لها، وهو الآن يراقب جلستها مع ابن عمها رائف، راصدًا كل لفتة او ضحكة منها، ويفسرها بحقد وضمير سيء، فقال صاحبه ليزيد عليه:
- ما يمكن كانت مستتجلة دمك يامحمود؟ اصل الدنيا  جبول برضك، والواد اللي معاها باينه دمه خفيف، دا غير ان شكله حلو وجيمة.
كلمات صديق السوء السامة زادت من اشتعال الحريق في برأسه، فهتف بحمائية وأعين تعميها الغضب:
- انا مش جبلانى؟! ليه انشاء الله ناجص ولا معيوب؟ ولا يكونش صاحبنا اللي معاها دا نجم سيما من اللي بيجو في التليفزيون وانا معرفش.
تمتم صديقه بخبث:
- طب وانا مالى يا عم ؟ بتتعصب عليا ليه يعني؟ لهو كنت انا اللي جاعد بهزر وبضحك معاها دلوك ، ولا انت مقدرتش ع الحمار هتحط غلبك في البردعة
ضغط هذا المدعو محمود على شفته يتمتم بتحسر:
-هتجن يا اخى، اشمعنا هو يعني؟ وانا كل ما اكلمها تكشر فى وشى، بصراحة هموت عليها .
تبسم صديقه يقول ساخرًا:
- طب ما تحاول معاها تاني، يمكن ترضى المرة الجاية؟
غمغم محمود بتصميم:
- طبعًا هحاول و لازم يبجالى صرفه مش هاجعد اتفرج عليها، كدة وبس، ما هو يا فيها يا خفيها!
في الجامعة كانت الجلسة التي جمعت نهال بابن عمها رائف، بعد ان فاجأها بزيارته، ولأنها معتادة عليه وعلى المزاح معه كأولاد عم تربوا معًا كأخوة، فكان التباسط والضحكات المرحة هي السمة المميزة للجلسة، مع الأسئلة الفضولية من المذكور، عن صديقتها:
- ايوه يا عنى، هي ابوها من عيلة مين بالظبط؟
قطبت نهال باستغراب الإلحاح منه وتكرار الأسئلة عن صديقتها:
- يا بنى وانت مالك بعيلتها ولا عيلة ابوها؟ هي صاحبتي انا على فكرة مش صاحبتك انت.
هتف يُراوغها بمزاحه المعتاد مرددًا:
- وه، وافرضي يا ستي، مش لازم برضوا اطمن عليكى وعلى الصحبة اللي بتمشي معاها يا غزاله يا شارده انتى .
ضحكت نهال تضرب كف بالاَخر غير قادرة على التوقف لعدة لحظات حتى قالت من بين ضحكاتها :
- غزاله شارده! والنعمة انت مخك ضارب ورايحة منك ع الاَخر، يا بنى انت متعرفش تتكلم جد شوية خالص؟
- ماشى يا ستي نتكلم جد، عاملة إيه بجى فى الدراسة؟ ماشية كويس ولا بتخلي مدحت اخويا يساعدك ؟
اردف بالأسئلة بعفوية، غير منتبه على عبوس نهال، لمجرد التلميح، فهتفت تجيبه بانفعال
- يساعد مين؟ انا مش محتاجة مساعدة من حد يا بابا، حتى لو كان واد عمي، انا اعرف زين اعتمد على نفسي .
طرق بكفه على سطح الطاولة بينهم يقارعها باستغراب رغم مزاحه:
- خبر إيه؟ بتهبي فيا وانتي متعصبة كدة وتاكليني، عشان بس بسألك، إيه يا بت؟
رغم علمها الأكيد بمزاحه وقصده لكن طبعها العنيد، جعلها تزداد انفعالًا :
- بت لما تبتك، انا دكتور محترمة يا فاشل انت .
سمع منها وازداد مرحه في الضحكات ليغيظها ، بعد ان احتقن وجهها وتغير لمجرد سبب تافه في نظره، وصدح الهاتف يقطع عليها قبل أن تزيد بكلمات ساخطة نحوه، نظرت للرقم المعروف تغمغم بصوت وصل لأسماع الاَخر:
- ودا عايز ايه ده؟
- مين؟
- اخوك الدكتور اللي كنت بتجيب سيرته.
- مدحت؟
أومأت برأسها إليه، قبل أن تجيب الاَخر:
- الو السلام عليكم .
رد يسألها على الفور بنزق:
- انتى ما اتصلتيش ليه تبلغبنى ان المحاضرة اتلغت؟
ارتفع طرف شفتها الأعلى باستنكار حاولت ان تخفيه بإجابة مراوغة:
- طب اديك عرفت، ايه اللى حصل يعنى؟
وصلها صوت انفاسه الهادرة، قبل ان يهتف متوعدًاا:
- ماشى يا نهال، وانتى فين دلوكت؟ فى المكتبة ولا خرجت مع اصحابك ولا بتعملى ايه بالظبط؟
قال الاَخيرة بصيحة عالية، جعلتها تستشيط من الغيظ، ولكنها تمالكت لتجيبه على مضض:
- مطلعتش من الجامعة ولا مشيت، انا في الكافتيريا مع....
قطعت جملتها إثر إنتباهاها على فعل رائف الذي كان يشير إليها بكفهِ لرفض ان تخبره بمجيئه، وصاح مدحت عليها في الهاتف:
- وجفتي ليه؟ ما تجولي يا نهال جاعده مع مين؟
للمرة الثانية يجفلها بصياحه لتهتف تجيبه بانفعال؛
- جاعدة مع البنات يا مدحت، هو انا اعرف غيرهم؟
رد مدحت ببساطة تذهلها:
- طيب انا ساعة كدة وهخلص الكشف اللى عندى فى المستشفى وهعدى عليكى اخدك.
كالعادة حاولت إثناءه والجدال:
- يا واد عمى متشلش همي، انا همشى مع البنات مش محتا..
قاطعها بحدة حازمًا:
- اجفلى يا نهال واسمعى الكلام .
قالها لينهي المكالمة بتعجرف، ليزيد من استفزازها، أمام رائف المندهش مما يحدث، وسألها على الفور:
- هو ايه الحكاية؟.
لم تتردد نهال في اخباره عما يحدث:
- الحكاية يا استاذ، هي إن اخوك الدكتور المحترم محكم رايه انه يوصلنى فى الروحة والرجعة، ومطلعش مشوار إلا لما اقوله، عشان انا جال ايه بجيت مسؤليته هنا
- مسؤليته! غريبة يعني؟
قالها رائف بدهشة وعدم فهم، ثم تابع بخبث:
- طب ايه رأيك؟ بدل ماتستنيه، اخدك انا ونروحله المستشفى اللى هو بيشتغل فيها، واللي هتيجي انتي ان شاء الله كمان دكتوره فيها، أصل بصراحة عايز اعمله مفاجأة، انا جاي هنا مخصوص عشان افاجئك وافاجئه.
ضيقت عينيها تسأله بتفكير:
- طب والبنات همشى من غير ما استأذنهم انا تجريباً مجعدتش خالص معاهم النهاردة
- إتصلى بيهم .
اعترضت نهال مرددة:
- لاطبعًا مينفعش، أنا لازم اروحلهم المكتبة اديهم خبر، وبعدين اَجى اروح معاك .
أومأ لها رائف ثم نهض عن مقعده:
- ماشى تمام، يالا جومى على طول.
نهضت نهال مع ابن عمها، ليتبعهم في الناحية الأخرى، هذا المدعو محمود، والذي لم يغفل عن مراقبتهم، ولو لحظة واحدة.
في طريق عودتهم بعد انتهاء المشاجرة مع معتصم، سألت بدور نيرة التي كانت تسحبها في طريق اَخر، غير هذا المؤدي لمنازل والديهم.
- هو احنا لازم يعني نروح لجدي ونجولوا، ما تخلينا نروح على بيوتنا أحسن يا نيرة.
هتفت نيرة بحدة وتصميم:
- ابويا ولا ابوكي، مش زي جدي، هو اللي هيعرف يتصرف في الموضوع دا زين، جدي أبدًا لا يمكن يسكت على الكلام ده.
ابتعلت بدور ريقها الذي جف من الخوف، تعقب بقلق:
- بس انا خايفة ابويا يزعل منى .
توقفت نيرة لتخاطبها بغيظ:
- ما تبجيش هبلة يا بت انتى، يزعل منك ليه ابوكي ان شاء الله؟ انتي رايحة لجدك تجولي باللي حصل ، مش راحة لحد غريب.
بدا على وجهها القبول رغم التردد، فسحبتها نيرة مرة أخرى من كفها لتشجعها على عدم التراجع، حتى إذا وصلوا إلى الوجهة المقصودة، هتفت نيرة:
- خلاص يا بدور احنا وصلنا لبيت جدي، شدي حيلك عشان احنا هنجول كل اللي حصل، والنعمة لو اخويا رائف جاعد دلوقتي، لكان عرفه مجامه صح.
- اه يا خاينة يا قليلة الاصل هتمشى وتسيبنا؟
هتفت بها بثينة نحو نهال فور أن اخبرتها هي ونهى، لنيتها في الخروج مع رائف، وهتفت الأخيرة هي الأخرى بدراما
- سيبيها يا بثيتة، دى شكلها خلاص نسيتنا، ومعدناش فارجين معاها.
ضحكت نهال معقبة على ردودهن:
- يعني جالبة معاكي تمثيل النهاردة يا ست نهى، طب يا حبيبتي، انا فعلًا نسيتكم، ومبجتش اتشرف بيكم كمان.
شهقت نهى، لترد مقارعة :
- نعم يا ختي؟ انتي صدجتي نفسك ولا إيه يا عنيا؟ ومين دول اللي متتشرفيش بيهم، إيه يا بت نعمات؟
ردت نهال ضاحكة معهن بحرص، تنبههن بعيناها عن النظرات المصوبة نحوهن من رواد المكتبة، فقالت بثينة بجدية فور توقفت ضحكاتهن:
- طب خلينا بجى نتكلم جد وقولى انتى ليه عايزه تروحى؟
اجابتها نهال بنظرة حالمة:
- بصراحة نفسى اشوفوا بلبس المستشفى وهو كده بيكشف على المرضى كمان.
تدخلت نهى بمكر قائلة:
- ما انتى بتجولى انك مش طايجاه ولا طايجه تحكماتوا فيكى ؟
نهضت نهال عن مقعدها بجوارهن في ردهة المكتبة تردد بابتسامة مستترة اختلطت بارتباكها:
- يخرب مطنك يا شيخة، إيه دخل ده بده يعني؟ ها؟ اوعى يا بت اوعي، انا ماشية اروح مع واد عمى رائف، دا شدد عليا إني متأخرش، يا للا بجى سلام
رددن خلفها بابتسامات ونظرات ماكرة:
- سلام.
❈-❈-❈
خرجت من مبني المكتبة بخطوات مسرعة، بغرض اللحاق بهذا المجنون، بعد ان تركته قريبًا من هنا، ولكنها وقبل أن تصل، تفاجأت بمن يقطع الطريق أمامها، رفعت عينيها فوجدته نفس الشخص الذي فعل هذه الأمر معها سابقًا، متعمدًا مضايقتها من اول يوم دراسي لها في الجامعة، ف هتفت بحدة في وجهه:
- انت اتجننت ياجدع انت ولا اتهلبت؟ ولا هي بجت عادة معاك وفاكرني هسكتلك؟
بابتسامة لزجة رد هذه المدعو بهدوء غريب، متجاهلًا شتيمتها:
- اصل بصراحة بجى عندي سؤال ليكي ونفسه اسأله، هو انتي ليه كل ما تشوفينى تكشرى فى وشى؟ شكلي عفش ولا مش عاجبك؟
استشاطت غيظًا منه ومن بروده، فهتف بانفعال وشراسة:
- نعم يا خويا، هي ناجصة استظراف واستعباط كمان؟ ولا فاكرنى هسكتلك على جلة الحيا ده؟ غور من وشى مش ناجصه استظرافك .
قالتها وهمت أن تتحرك ولكنه وبكل غباء كرر فعلته السابقة وتصدر يمنعها من تخطيه، ليقول بوقاحة:
- ما انتى بتقعدي مع شباب وعمالة تضحكى من الصبح، ولا هي جات عند انا و هتعملى فيها مؤدبة؟
شهقت بأعين جاحظة لا تصدق قوله، همت أن تفحمه بكلمات قاسية، ولكن رائف الذي وصل بالصدفة ليرى ما حدث، كان له السبق، بأن جذبه فجأة بعنف من ياقة قميصه، يهدر بصوت مخيف،
- من هى بجى اللى هتعمل فيها مؤدبه يا روح......
جن جنون الاخر مع سماعه لسبة رائف ليصيح بوجهه:
- إنت جيت يا حلو، طب شيل يــ دك دي عن جميصى بدل ما اجطعهالك.
تبسم رائف بهيئة مجرمة تظهر فقط مع من يستحق، ليردد ساخرًا:
- تجطهالى! طب لو راجل ورينى هتجطعهالى ازاى ...
قالها وختم بضربة رأس افقدت الاخر اتزانه، قبل يبدأ الهجوم ويلقنه درسًا قاسيَا..
❈-❈-❈
فور سماعها بما حدث، وقصت عنه الفتيات عن الفعل الأحمق لمعتصم معهن، وما اردف به اثناء الشجار، هتفت صباح بانفعال وصوت عالي :
- بجى الواد اللى ميسواش نكلة دا فى سوج الرجالة، يتجرأ ويعمل كدة؟ لأ وكمان يخربط بالكلام الواعر ده يا بوى عن العيلة كمان.
سمع منها ياسين، ليسال مخاطبًا البنات بخطر:
- انتوا متأكدين من اللى بتجولوه ده؟ يعني الواد معتصم جال الكلام ده صح؟
ردت نيرة بلهفة،:
- والله يا جدى احنا ماكدبنا فى كلمة
ضرب ياسين بالعاصا الأبنوسي، يحاول التريت وتحري الصدق منهما
- يا بتي الكلام دا كبير وواعر.
ردت بدور :
- بس هو دا اللي حصل فعلا يا جدي، واحنا جينا نبلغك وانت تحكم بنفسك
رددت صباح من خلفها بغيظ:
- بتجولك مد يدو عليها يابا وهانها هى وناسها في وسط الشارع وجدام مدرستها .
هم ياسين بالرد ولكنه تفاجأ بعاصفة نارية بدخول عاصم، وبهيئة وحشية هاتفًا بصوته العالي ، دون حتى أن يلقي السلام:
- الكلام اللى سمعته دا صح يا جد؟
- كلام إيه يا ولدي؟
سأله المذكور بصدمة افقدته التركيز كباقي الموجودين، ولكن عاصم تجاهله ليقترب مباغتًا بدور بسؤاله، بنبرة هادئة خطيرة :
- الود ده مد يــ دوا عليكى صح؟
ابتعلت بدور ريقها برعب من هيئته وقبل ان ينبت فمها بالإجابة كان رد صباح:
- استنى يا عاصم يا ولدى افهم الاول، وبعدين اسأل
هدر صائحًا بعصبية:
- انا مش عايز افهم، أنا عايز اعرف حاجة واحدة وبس، الواد اتجرأ ومد يــ ده عليها ولا لأ.
تلجمت الألسن وخيم الصمت على الجميع أمامه، خوفًا من رد فعله، او أن يرتكب جريمة، وذلك لعملهم الأكيد بطبعه العنيف نحو كل ما يمس العائلة، او يقترب منها بسوء، فما بالك لو كان هذا السوء مس إحدى بناتها بل واقربهم لقلبه، فصاح بعدم احتمال:
- ساكتين وما حدش ناطج فيكم ليه؟ هو الواد ده عمل ايه بالظبط ؟عمل ايه يا بدور؟ عمل ايه يا نيرة؟
قالها موجهًا سؤاله نحو الأثنتين، ف لم تقوى بدور على الرد، لتُسبل أهدابها عنه بحرج، غير قادرة حتى على مواجهة عينيه، أما نيرة فكانت تتحرق للكلام ولكن في انتظار الإذن من جدها والذي حاول معه بمهادنة:
- اجعد الاول يا عاصم، وبلاش عصبيتك دى، الامور ماتتخدتش كده .
- امال تتأخد ازاي ؟
صاح بها لتخاطبه صباح هي الأخرى:
- يا ولدي تبع كلام جدك واستهدى بالله، احنا بنجولك بس اجعد، مفيش كلام يتجال ع الواجف كدة .
زفر بقوة يسحب شهيقًا طويلاً وأخرجه، قبل ان يرسم ابتسامة بلاستيكية، ليقول بتهديد:
- ماشى يا جدي، هسمع كلامكم واجعد ، بس هتحكولى كل اللى حصل، وإلا قسما بالله، لا هروح اخد بندجيتى وافرغها فيه، من غير حتى ما افهم.
كز على اسنانه ياسين يقول بغيظ:
-ماشي يا عم عاصم بس في البداية كدة، مفيش اى كلمة غير لما تدينى وعد انك تحكم عجلك وتسمع أمري جبل ما تتصرف بأى فعل.
صمت عاصم يقلب الحديث برأسهِ، مستشعرًا المغزى خلف كلمات جده، ليزداد بقلبه الشك حول ما سمعه وتناثرت به الألسنة في البلدة، ولأنه يريد التأكد من صحة ما سمعه، كان لابد له من الموافقة.
بدا على ياسين بعض الارتياح وهم ان يحكي ما حدث، ولكن عاصم أوقفه:
- بعد اذنك يا جد، أنا عايزة نيرة أو بدو، المهم يعني واحدة فيهم اللى تحكى .
فهم ياسين وجهة نظر عاصم، فهو يريد الحقيقة بالتفصيل من افواه الفتيات، ولا يريد كلامًا مختصرًا بحرص منه او من صباح، لذلك اضطر صاغرًا الإذعان لرغبته، ف تمتم بفمه سبة وقحة مغمغمًا:
- ماشى يا بن ال.... احكيلوا يا نيرة .
سمعت الأخيرة لتنطلق مع إعطائها الإذن، وتقص ما حدث بالتفصيل، دون ان تفوت حرف واحد.
❈-❈-❈
في الجامعة
وامام عميد الكلية في غرفة مكتبه، وقف الثلاثة امامه، رائف، ونهال، وهذا المدعو محمود، والذي كان بحالة يرثى لها، بعد ضربه من الآخر في المشاجرة التي لم يوقفها سوى حرس الجامعة، ولولا ذلك لكان مكانه المستشفى الاَن.
قال عميد الكلية موجهًا الكلمات لرائف:
- يعنى انت سايب كليتك وجاى عندنا هنا تعمل فتوة
رد رائف بدفاعية:
- حضرتك انا جاي هنا في زيارة عادية، يعني لا قاصد اعمل فتوة ولا عايز اعمل مشاكل من الأساس، بس بجى لما اشوف البنى اَدم ده بيتعرض لبنت عمى، هسكت ازاي يعني ولا اعمل نفسي مش واخد بالي .
- كداب .
صاح بها هذا المدعو محمود ، ليتابع امام العميد:
- الواد ده بيكدب، لا هو يبجى ابن عمها ولا يعرفها دا هى اللى.....
قاطعه رائف بلهجة حازمة مهددة وسبابته رفعها للأعلى أمامه غير مكترث لوضعه او حتى في المكان الذي هو فيه :
- اياك تغلط بكلمة واحدة حتى، وألا هادفنك مكانك، وملكش عندي دية بعدها
هدر العميد بصوت عالي يضرب بكفه على سطح المكتب أمامه:
- بس يا ولد انت وهو، مسمعش صوت أي حد فيكم غير لما أسأله.
قالها ثم توجه نهال التي كانت تحاول السيطرة على ارتجافها والخوف مما يحدث معها، وما مرت به منذ قليل، ليسألها:
- وانتى... الكلام اللى بيقولوا الولد دا صح؟
أومأت برأسها وخرج صوتها بضعف كالهمس:
- رائف ابن عمي صادق فى كل كلمة جالها، والولد دا بيتعرضلى من اول يوم دراسى ليا
-اممم .
زام بها العميد بتفكير قبل ان يتناول بطاقات الهوية الخاصة بالجامعة ( الكارنيه ) التي انسحبت منهم، بعد دخلوهم لغرفة العميد، والذي ارتفعت راسهِ فجأة بسؤال لرائف:
- ايه دا؟ هو دا تشابه أسماء ولا انت فعلا، الدكتور مدحت عبد الحميد يلقى اخوك؟
اوما برأسهِ وقبل ان يقولها بفمه، توقف على طرق باب غرفة المكتب، ليلج منه مدحت بعد ان استأذن للدخول إليهم.
- السلام عليكم.
القى التحية بهدوء وثقة وعينيه تجول على ثلاثتهم، قبل ان يصافح العميد بأدب ويطلب منه الاَخير ان يجلس ويستريح، وجاء رده:
- معلش في البداية يا دكتور، انا بطلب منك ان تسمحلها تجعد.
قالها بالإشارة نحو نهال، والتي تفاجأت من فعله، والموافقة السريعة من العميد بان أمرها:
- تفضلى يا أنسة اقعدي .
سمعت منه لتجر أقدامها بصعوبة حتى جلست على الكرسي المقابل لمدحت، والذي رمقها بنظرة غامضة بجمود اثار الريبة بداخلها، قبل أن ينتبه على قول العميد:
- دا الظاهر بقى إن الولد دا كلامه صحيح، لما قال انه هو اخوك وانها هي بنت عمك، مدام جيت لوحدك بقى ومن غير ما نطلبك.
اومأ مدحت برأسهِ، فتابع العميد بعتب:
- بس برضو هو مالوش حق فى اللى عمله مع يا دكتور .
هم مدحت ان يرد ولكن رائف سبقه بعصبيته:
- بجولك اتعرض لبت عمى عايزنى اسكتله؟ دا كويس انى مطلعتش روحه.
صاح هذا المدعو محمود قائلًا بارتياع، وقد تبين من حقيقة ما يخشاه بالفعل:
شايف يا سيادة العميد ، اهو بيهددنى جدامك اها ، ومش مستني حتى لما اطلع من المكتب، طبعا بيتحامى في اخوه الدكتور.
حدجه مدحت مضيقًا عينيه بنظرة نارية صامتًا، وقال العميد:
- وانت صح بقى بتتعرضلها من اول يوم دراسى؟
علم محمود بضعف موقفه، وهذا المأزق الذي وضع نفسه فيه، فخرجت كلماته بغباء:
- لا يا دكتور دا هما الاتنين بيكدبوا عليا عشان انا معجبتنيش مسخرتهم مع بعض
إلى هنا ولم تقوى على الصمت اكثر من ذلك، وردت بانفعال غضبها:
- كداب وببفتري علينا، دا واد عمي وبس، دا زي اخويا.
وقال رائف هو الاَخر :
- خليه يحترم نفسه يا دكتور بدل ما اعرفه مجامه.
صاح العميد بسأم وتعب:
- نقي كلامك يا ولد انت واحترم نفسك، دي بنت عمه زي ماقالت.
- وخطيبتى !
قالها مدحت بثقة الجمت نهال بذهول، حتى ظنت انها سمعت خطأ، وفاجئت رائف بصدمة، أما هذا الولد محمود، فقد انتابه رعب حقيقي، من هذه النظرة الباردة المخيفة من مدحت
وقال العميد مخاطبًا له بفرحة:
- الف مبروك يا مدحت، انت اخيرا عملتها يا راجل؟ طب كنت قولى .
❈-❈-❈
بعد ان اسمتع من نيرة، تكلم عاصم رافعًا كفه أمامهم يفند الأخطاء على اصابعه :
- يعنى غلط فيها، وفى ناسها، لا وكمان اتجرأ ومد يــ دوا عليها، لا بجى الواد مالوش ديه عندى .
قالها ونهض على الفور بدون أستئذان ليذهب، ولكنه توقف على هتاف جده ياسين، وهو يضرب بعصاه على الأرض بحسم:
- اوجف عندك يا واد انت، خليك كد كلامك ولا ناسى انك ادتنى وعد
سمع منه وتذكر هذا الوعد الذي أجبر على النطق به قبل لحظات، يتنفس بخشونه وصوت مسموع، يضغط على قبضته بشدة، وهتفت صباح هي أيضا:
- اسمع كلام جدك يا عاصم، بلاش عند يا ولدي.
ظل على وضعه متخشبًا، وقدميه تدعو للتحرك وعدم التراجع، ولكن الصوت الاَخير كان له الكلمة العليا:
- حن عليك يا عاصم، إرجع يا واد عمى .
بدون ان يشعر وجد نفسه يستدير نحوها، والتقطت عينيه نظرة الرجاء في براح عينيها، مشاعر قوية انتابته لحظتها لتزلزل كيانه، ولفظ اسمه الذي تفوهت به، يتردد على أسماعه بتكرار وإلحاح.
قال ياسين ليفيقه من حالة الشرود والضياع الذي اكتنفه :
- تعالى يا عاصم واخزي الشيطان يا ولدي، ونتكلم انا وانت كلام كبار
تحركت أقدامه بصعوبة، يجاهد باستمامتة للسيطرة على انفراط مشاعره التي تبعثرت، بنظرة واحدة منها، لتعيده لنفس المربع، وينقض كل العهود التي اخدها على نفسها بنساينها، وقد ظن انه يستطيع.
وصل إلى جده، ليجلس بالقرب منه، ولكن هذه المرة قصد ان يعطيها ظهره حتى يستعيد توازنه، وتكلم على الفور، يدعي الجدية في مخاطبة ياسين:
- انا رجعت اها يا جد، سمعنى بجى كلام الكبار .
رد ياسين بلهجة ماكرة لا تخلو من الحكمة:
- هاجولك بس بينى وبينك .
توقف مخاطبًا ابنته:
- جومى يا صباح خدى البنته من هنا .
نهضت المذكورة مذعنة للأمر :.
- حاضر يا بوى، زي ما تحب، يالا بينا يا بنات .
اعترضت بدور وهي تنهض عن مقعدها، وتنهض ابنة عمها معها:
- لا يا عمتى انا ماشيه احسن، ياللا يا نيرة معايا، مع السلامه يا جدى.
هتف ياسين يوقفها فور ان استدارت عنه
- استنى يا بدور، انا كنت عايزك في سؤال قبل ما تروحي.
ناظرته باستفهام، فسألها على الفور:
- إنتى الواد دا لو فلتك من شبكته هتزعلى يا بتى؟
سمعت منه لتردد بلهفة وبدون تفكير حتى:
- لا يا جد بالعكس، دا انا نفسى اخلص من الشبكة الزفت ده.
قطب عاصم بدهشة، ورد ياسين هو الاَخر:
- وه، لدرجادى يا بتى؟
- واكتر يا جدى والله دا انا كل يوم بتحايل على ابويا وهو مش راضي
قالتها بدور بلهجة راجية اثرت في ياسين، الذي قال لها:
- خلاص يا بتى روحي انتي دلوك وتتعدل ان شاء الله.
ردت بدور بأمل امتزج بفرحة داخلها ان وجدت اَخيرًا من يساندها ويقف معها:
- ماشى يا جدى سلام بجى .
ذهبت بعد ذلك لتتابعها عيني عاصم وتتعلق بها، بعد ما سمعه منها ورغبتها في الانفصال عن خطيبها، وتسارعت دقات قلبه برهبة واماني تتراقص في خياله، يخشى أن تكون وهمًا
- عاصم
انتبه على صياح ياسين النزق:
- مالك سرحان في إيه يا جزين؟
انتفض يجلي راسه ليرد محاولا التركيز:
- ايوه يا جد انا معاك اها.
قال ياسين:
- بجولك يا ولدى مينفعش نوجع عيلتين فى بعض عشان عيل زى ده ولا يسوى .
عاد عاصم لعصبيته ليهتف بانفعال:
- يعنى ايه ؟ نسيبوا بعد اللي عملوا معانا يا جد؟ دا غلط فينا ومد ي.ده عليها.
رد ياسين:
- ومين جالك ان احنا هنسيب حجنا بس كل حاجة
بالعجل.
قالها بلهجة هادئة زادت من عصبية الاَخر:
- عجل ايه يا جدى؟ دا انا ناري جايدة وعايز افلجه نصين دلوكت، وانت تجولى عجل.
غمز ياسين بغموض يجيبه:
- متبجاش غشيم، انا مستعد اسيبك تعمل اللى انت عايزه، بس بعد كده النتايج هتبجى واعره على الكل، لكن بجى لما نشغل عجلنا هنوصل للي احنا عايزينه ونجيب حجنا تالت ومتلت، مش بالعفونة هي يا عم عاصم!
صمت الاَخير مضيقًا عينيه بتفكير، ليتابع ياسين في إقناعه:
- واعى إنت وفاهم للكلام اللى بجوله يا عاصم؟
فٌتح باب غرفة المكتب ودلفت هي اولًا، ثم تبعها رائف ، والاَخير كان هو، ثم صفق الباب خلفه بقوة، جعلتها تنتفض دون ارادتها، ليتقدم بعد ذلك بخطوات بطيئة رتيبة، وصوت سلسلة المفاتيح هو ما يقطع السكون، وقد وقف الأثنان ينتظرون العقاب، حتى أذا وصل إليهم، تكلم على الفور رائف بدون انتظار:
- من الاول كدة، ما تحاولش تغلطنى عشان انت متأكد ان معايا حج في كل اللي عملته.
مال برأسه إليه، مضيقًا عينيه بغموض قبل أن يتبسم بجانبية ساخرة
- ااه صح انت معاك حج تسيب كليتك وتيجى هنا؛ تقضيها ضحك وهزار مع بت عمك عشان كلب زى ده يطمع فيها واما يجى يتعرضلها تاخدوا انت ضرب وتلم الكليه كلها عليكم وتخلى سيرتها على كل لسان، دا انا لازم اجولك برافو عليك كمان
تدخلت نهال بانفعال تهتف بدفاعية:
- انا محدش يجدر يجيب سيرتى، انا..
قاطعها بحدة هادرًا:
- اخرسى انتى ما سمعلكيش حس خالص، ولا استنى صحيج .
توقف متذكرًا، فمال برأسهِ نحوها، يسألها بصوت مريب مخيف:
-  ساعة انا ما اتصلت بيكى، ليه مجولتليش ان الزفت ده معاكى؟
ارتبكت واضطربت ف خرج صوتها بتلعثم؛
- مما هو، هو اللى شدد عليا ما جولكش.
ردد رائف خلفها يضيف:
- ايوه انا اللى جولتلها متجيبش سيرة، عشان كنت عايز اعملك مفاجأة، لما نجيلك احنا الاتنين المستشفى .
جحظت عيني الآخر بصدمة، واحتقن وجهه، ليهدر به بعنف:
- كمان كنت عايز تجيبها المستشفى؟ إنت جنسك ايه يا بني آدم انت ؟ انا جرفت منك وتعبت، اقسم بالله لولا انى خايف من الفضايح لكنت خليت عقابك جدام الكل في الكلية بفصلك عشان تتربى.
صاح رائف بانفعال معقبًا:
- تربينى! ليه كنت ناجص أدب انا؟ هو اللي يحرج على بت عمه اليومين دول، يبجى هو اللي مش متربي.
- غور من وشى عشان ما رتكبش جريمة .
هتف بها مدحت بعنف، وحينما وجد الآخر على نفس وضعه ولم يتحرك، تابع بصوت عالي اَمرًا:
- غوووور بجولك، مش عاوز وشك تاني الساعة دي
على صيحته اللاَخيرة، لم يجد رائف بدَا من العناد اكثر من ذلك أمام غضب شقيقيه، ف تزحزح بأقدامه، حتى التف ليغادر، مغمغمًا بصوت عالي :
- طب براحة على نفسك شوية، أدينى ماشى وسيبهالك.
تحركت هي أيضًا لتلحق برائف، ولكن الاَخر أوقفها بالإطباق على رسغها يقول:
- ماشيه ورايحه فين؟ انا لسه مخلصتش كلامى معاكي على فكرة.
التفت رأس نهال نحو رائف، ثم عادت باستدراك نحو الكف القوية التي تقبض على ي- ها، حدجته بنظرة متسائلة، فهم مدحت ليتركها على الفور، وسألته بنزق:
- أفندم، في حاجة عايزني فيها تاني؟
رد على سؤالها بحدة:
- انتى ليه مجولتليش ان الواد ده بيتعرضلك؟
- عشان مكنش مهم، دي كانت كلها معاكسات عادية وبتعدي، والنهاردة بس، هو اللى زودها .
ردت بعفوية زادت من غضبه ليكمل على قولها بتهكم :
- طبعا لما شافك بتتمسخرى مع الزفت ده حس انك ساهلة.
هتفت غاضبة ترد بعنف:
- قطع لسان اللى يجول عليا كدة، محدش يقدر بجيب سيرتي، رائف دا زى اخويا بالظبط.
إلا هنا وانفرط عقد التحكم الذي كان يتحلى به مجبرًا، وسيطر عليه شيطان الغيرة التي كانت تحرق ص- دره، ليخرج عن حكمته، فلم يشعر بنفسه وهو يطبق على ساعدها بعنف هادرًا بتحذير وأعين حمراء:
- مش اخوكى، ولا كانش يصح انك تهزري ولا تجعدي معاه لوحدك من الأساس، وأياكي تكرريها تاني يا نهال وتتحديني، فاهمة ولا لأ؟
رغم الأرتجاف الذي أصاب أطرافها، والخوف الذي انتابها من هيئته، استطاعت التمالك سريعًا، لتنفض كفه عن ساعدها، وترد بعند:
- فيه ايه؟ ولا انت صدجت ان خطببتك صح ولا ايه؟
على العموم انت عارفنى كويس وانا مش محتاجة اغير من نفسى عشان ناس عجولها مريضة،
توقفت على إظلام وجهه، وأوداجه التي انتفخت بعنقه من فرط غضبه الحارق، وزادت بقولها:
- عن اذنك يا دكتور .
قالتها، ثم خرجت على الفور مغادرة، حتى لا يرى ضعفها حينما تنفجر من البكاء أمامه، أما هو، فقد نفث عن غضبه فور خروجها، بأن زمجر كالوحش المحبوس في قفصه، وذراعه امتدت لتلقي بكل المحتويات الموجودة على سطح مكتبه، لتسقط على الأرض بغيظ
في البلدة
حينما عادة بدور إلى منزلها، وبمجرد أن خطت أقدامها إلى الداخل، شعرت بالدهشة لهذا السكوت والهدوء المريب قبل ان تجفل على سماع اصوات رجال تعرفها من غرفة الضيوف اختلطت مع صوت ابيها الرزين. دائمًا، انتابها القلق وشعرت بشيء غير مريح وهي تكمل بخطواتها حتى إذا وجدت شقيقتها الصغيرة أمامها، أمسكت بها على الفور تسألها :
- بت يا نهلة خدي هنا.. مين اللي جاعد عندينا جوا؟
أجابت الصغيرة بهمس وكأنها تكشف لها عن سر ما:
- عمك العمدة وخطيبك معتصم جوا مع ابويا اديلهم يجي ساعة، بيتكلموا ويتحددتوا.
سمعت منها بدور وغلت الدماء برأسها على الفور، لتهدر بها:
- وجاعدين اكتر من ساعة كمان؟ هي إمك فين يا بت؟
نهلة والتي اصابها الخوف من هيئتها أجابتها بتردد وعدم فهم:
- امى جاعدة فى المطبخ جوا بتحضرلهم غدا.
- غدددددا! يعني كمان وبعد دا كله، بتحضرلهم أكل يطفحوه:
صاحت بها بصدمة، قبل ان تنتفض، وتهرول سريعًا نحو والدتها في المطبخ، وهي تتأكد من قول شقيقتها وبدون سلام او القاء التحية، هتفت بعدم تصديق؛
- انتى بتعملى ايه ياما؟ بتحضريلهم غدا صح زي ما جالت نهلة! طب ليه ياما؟ هو انتى متعرفيش إن الزفت اللى جوا دا عمل ايه معايا النهاردة؟
نعمات التي اجفلت في البداية بهجوم ابنتها، تداركت سريعًا لتجيب بضيق:
- عارفة يا بدور اللى حصل، وابوكي كمان، دا مفيش بيت فى البلد ميعرفش باللي وعمله معاكي معتصم عند المدرسة!
جحظت عينيها وافتر فاهاها بوجه مخطوف تردد بذهول :
- يعنى عارفين وبرضو بتضايفوهم وتحضروا أكل وعيش وملح، طب ليه ياما؟
زفرت نعمات لتضرب بكفها على ظهر الاَخر بثقل وتجيبها بقلة حيلة:
- عشان طبوا علينا فجأة يا بدور، وابوكى مسكتلهومش، وزعج وبهدل الدنيا، بس بجى العمدة عمال يعتذر ويحايل فى ابوكى من ساعة ما وصل، وانتي عارفة ابوكي يا بتي، مهما كان لازم يقدر جيتهم ودخولهم البيت، دي الأصول يا بتي.
هكذا سريعًا، بعد أن انبلج الضوء في قلبها ونبت الأمل في الخلاص من هذا الهم الثقيل والمزعج، تتحطم احلامها بمسافة الطريق، المسافة التي قطعتها من منزل جدها وكانت تحلق بها من الفرحة، بعد موقف ياسين معها، وتلميحه بفك هذا الإرتباط الثقيل والمؤذي، لتصل الاَن منزلها، فتجد وكأن شيئًا لم يكن، بل وعادت الأمور لطبيعتها وكأن ما عاصرته هذا الساعات الماضية من شد وجذب وشجار على قارعة الطريق، أظهر لها طبيعة النفس السيئة لهذه المتبختر، المتعجرف، الفاشل، لتتيقن اخيرًا من صدق إحساسها، في أن ما تشغر به الاَن هو الكره لهذا الشخص؛ وبعد أن ظنت انها نجت، يتحول كل ذلك لوهم، لم تدري بنفسها والدموع تتساقط بغزارة اوجعت قلب والدتها وهي تردد بانهيار:
- يعنى خلاص ياما، ابويا سامح عن حجى ورضى على كده ياما، رضي بضربي وإهانة عيلتي جدام الطلبة زميلاتي في المدرسة، والناس اللي تعرفني واللي متعرفنيش.
تركت نعمات ما كانت تعمل به ، وتأثرت لتمسح بكفها على صفحة وجهها بقنوط، متنهدة بثقل تتمتم لها:
- وانا إيه ذنبي بس يا بتي، مقدرش ادخل بين الرجال ولا اقول كلمة انا .
زاد شعور القهر لدى بدور حتى همت ان تصرخ بوالدتها، ولكن صوت شقيقتها الصغيرة أوقفها:
- يا بدور، يا بدور، ابويا بيجولك تعالى عنده جوا في اوضة الضيوف عشان تسلمي عمى العمدة اللي جاى يراضيكى .
وكأنها وجدت بها منفثها صرخت بها بغضب وشراسة متحدية:
- اخلصي وغوري من وشي، انا مش رايحة في أي حتة، ولا هسلم على أي حد غوري .
التصقت نهلة بوالدتها بخوف من الأخرى، والتي بصقت كلماتها، وذهبت مهرولة على الفور نحو غرفتها، وفور ان وصلت وأغلقت الباب خلفها تناولت هاتفها واتصلت على ياسين، ف جاءها الرد سريعًا منه:
- الوو، ايوة يا بدور.
شهقت ببكاء مكتوم لم بمكنها بالرد بجملة مفيدة، مما جعل ياسين يهتف بقلق:
- بتبكي ليه يا بت؟ مالك يا بدور فيه ايه ؟ .
ضغطت حتى خرج صوتها من بين البكاء، لتجيبه بتقطع:
- ايوه يا جد ... اللحجنى.... معتصم جاب ابوه واتصالحوا مع ابويا... اتصالحوا يا جدى اتصالحوا
❈-❈-❈
وعودة إلى نهال
التي كانت تبكي على سريرها، تدفن رأسها في الوسادة، بنشيج حارق، مع تذكرها لكل ما حدث وما مرت به خلال الساعات الماضية، وما واجهته مع مدحت وادعاء هذا الولد الفاسد بالكلمات السيئة عليها وعلى سمعتها أمام عميد الكلية وأبناء عمها الاثنين، نهي صديفتها، والتي ترافقها في نفس الغرفة، كانت تجاورها على الفراش الاَن، وتربت بالكلمات المهدئة، كي تخفف عنها:
- خلاص يا نهال ما تعمليش كدة فى نفسك.
استمرت الاَخيرة على حالتها ولم ترد أو تستجيب لها، فتابعت بمزيد من التأثر:
- يا بنتى انتى كده هتتعبى والله، وبعدين بجى..... والله لو ما اتكلمتى ورديتى عليا لاكون فاتحها مناحة زيك، وانت عارفانى لما بفتح ما بجفلش، والنعمة هتندمي بجد.
قالت الاَخيرة بصوت مبحوح، وقد ترقرقت في عينيها الدموع، توقفت نهال على النبرة الغريبة،، لترفع رأسها فوجدتها حقًا تمسح في الدموع السائلة على وجنتيها، على غير ارادتها تبسمت بذهول لموقف المساند من صديقة عمرها، حتى في الحزن على شيء خاص كهذا، واعتدلت بجذعها، تمسح باطراف أناملها على خديها دموعها هي وتخاطبها بمناكفة:
- يا مجنونة يا ام مخ ضارب، دا بدل ما تقويني وتشجعيني عشان أوجف، بتشاركيني البكا؟
نوها والتي بادلتها الإبتسام:
- ايوه يا اختى اضحكى انتى، بعد ما خوفتينى عليكى.
تبست تتناول المحرمة الورقية لتجبر نفسها على التوقف، وقالت:
- لا يا حبيبتي ما تخافيش، أنا جوية واتحمل، ياما دجت ع الراس طبول .
رمقتها نهى بنظرة قلقة صامتة، مقدرة ما مرت به، قبل أن تجفلها بسؤالها:
- صحيح مين اللي جال لمدحت؟ دا وصل قبل حتى ما يبعتله العميد.
تلجلجت نهى تشير بسبابتها على نفسها تجيب: باضطراب:
- بصراحة يعني... انا اللي جولتلو لما سألني عليكي..
ناظرتها نهال صامتة بنظرة لائمة مطبقة شفتيها، جعلت الأخرى تتابع بدفاعية:
- متزعليش مني، بس دا واد عمك ورائف يبجى اخوه، يعني كان لازم يعرف عشان يجوي موقفكم جدام العميد .
ظلت صامتة ولكن بدا عليها بعض الاقتناع بعد أن إزاحة عينيها عنها وتنهدت بثقة قائلة:
- يا ستي، ع العموم هو كان هيعرف هيعرف، انا بس اللي دايجني هو انه حضر وشافني في الموقف الزفت، والبني أدم المتخلف ده بيتبلى عليا جدامه
نهى والتى وصلها ما كانت تفكر فيه نهال ويحزنها، سألتها بتردد:
- لكن هو كان شديد جوي معاكي المرة دي؟
نزلت دمعة ساخنة مسحتها سريعًا لتجيبها بابتسامة جانبية ساخرة:
- سيبك! انا خلاص اتعودت عليه وعلى جسوته .
ردت نهى باستنكار:
- لا يا نهال ماتجوليش كده، انا شايفة انه مهتم بيكى وحاسة كمان انه بيحبك .
رفعت طرف شفتيها بعدم رضا، ترفض التصديق مرددة:
- حاساه! يا حبيبتى دا خايف على شكله ومنظره، وصراحة عنده حج، اللي حصل النهاردة مكانش جليل.
- الله يخرب بيته الزفت ده اللي كان السبب في كل اللي حصل، عيل عفش وبهدل الدنيا بهبله.
قالتها نهى بأشارة نحو الفتى الذي تسبب في المشاجرة، وتذكرت نهال، لتجفلها فجأة تضحك بين بكاؤها وتقول:
- بس بصراحة الواد رائف كان شديد جوي عليه، ومسح بكرامته الأرض.
استجابت نهى لتضحك وتردد معها:
- واد عمك خلى وش اللي اسمه بجى شوارع، بس هو يستاهل هههه.
❈-❈-❈
في غرفتها وبجوار النافذة كانت تقف تنظر للخارج تعد الدقائق والثواني، في انتظار الدعم والمساندة، بعد أن هاتفت جدها وأخبرته بما حدث، وقلبها يسقط منها في كل لحظة خوفًا من التأخير او حدوث أي شيء آخر يمنعه، شعرت بفتح الباب وصوت شقيقتها تنادي وهي تتقدم بخطواتها نحوها:
- يا بدور يا بدور.
التفت رأسها بحدة تجيبها:
- نعم عايزة إيه؟ يا بدور يا بدور، إيه؟
زفرت الصغيرة تلوك العلكة بفمها، وقالت بنزق:
- مش انا اللي عايزاكي، ابويا هو اللي باعتني، وبيجولك يالا عشان تيجي وتسلمي على العمدة وولده.
برقت لها بعينيها الملونة لتصيح بها بعند:
- وانا رديت عليكي من شوية وجولتلك خليهم يستنوا، يبجى غوري بجى.
دبت نهلة بأقدامها على الأرض تهتف بوجهها معترضة:
-  بتبرقي وتزعجي فيا ليه وانا مالى؟ ولا انتى عايزة تحطى غلبك فيا وخلاص.
هذه المرة صرخت عليها بحدة:
- بت انتى غورى من وشى احسنلك، انا على مش ناجصة كلمة واحدة حتى .
ارتعبت نهلة من هيئتها، لتكز على اسنانها الصغيرة والتفت لتذهب وتغمغم بغيظ وهي تذهب من الغرفة:
- انتى تجولى غورى، وامى وابويا يجولوا روحيلها يا نهله، استعجليها يا نهلة، مفيش غير نهله تتهزق فى البيت ده ؟
تابعتها بدور بعينيها، حتى غادرت وابتعدت، وعادت هي للنافذة، لمراقبة الطريق مرة أخرى، وف خرجت كنها هذه المرة شهقة الفرح، فور أن رأت السيارة القديمة لجدها في الأسفل، بجوار المنزل، وعاصم ابن عمها هو من يرافقه.
❈-❈-❈
في الأسفل كان عاصم يترجل من السيارة التي قادها بنفسه، يجاهد للتماسك حتى لا يترك نفسه لهواها في التدمير وتلقين كل مخطيء الدرس بالعقاب الذي يستحقه، دماء تغلي باردته بغير هوادة، من وقت ان سمع فحوى مكالمتها مع جده، وقد وصل الأتصال اثناء الجلسة مع الاَخير، وقبل أن يغادر هو منزل العائلة.
- حن عليك يا جدى خلينى اخش معاك
قالها مخاطبًا الاخر برجاء اثناء مساعدته للنزول من السيارة، وزفر ياسين يرد بسأم:
- وبعدين بجى؟ هو احنا اتفجنا على ايه بس؟
قالها وهو يستقيم بجســ ده، ليتكيء على عصاه ويتحرك، ولكن عاصم اوقفه:
- يا جدى العمده هاشم تعبان، وهيلف عليك زى ما لف على عمى دا شغلته الكلام الناعم .
عوج ياسين فمه بضيق، وضرب بكفه على الأخرى المستندة على رأس العصا، يردد بضيق:
- ولما يلف عليا زي ما لف على عمك، يبجى لازمتها إيه جيتي؟ بعد يا واد وسيبني، انا راسي اساسًا مش متحملة وعلى اعصابي، بعد يا عاصم يا ولدي وخليتي اللحق البت الله يرضى عنك.
قال الأخيرة بحزم جعل عاصم يتراجع، مسلمًا امره لله، يتابع خطوات جده البطيئة، وبداخله يود لو يرافقه ويقف لهذا المتحزلق وابنه، ولكن الخوف مما قد يقال في حقه وحقها بعد ذلك، جعله وقف متربطًا محله، كالعاجز لا يملك وسيلة الدفاع عن حقه بها....
على هذا الخاطر الاَخير استدرك جنوح فكره، والخطأ الذي قد يقع به لو استسلم لأحلام قد تكون الوهم ذاته، ارتفعت رأسهِ فجأة ، ليفاجأ بها، واقفه في شرفة غرفتها تراقبه هي الأخرى، تعاتقنت الانظار، وكأن العالم خلى إلا منهما فقط، لم تستحي او تتهرب بعينياها منه كعادتها! لماذا يشعر وكأنها واحدة أخرى، اتراها تغيرت؟ ام أن أحلامه بها تحولت لمرض وينسج كل هذا من وحي خياله؟.
❈-❈-❈
بداخل المنزل
كان راجح يفرك كفيه بتوتر عظيم، لتأخر بدور في الدخول حتى الآن، رغم ارسال ابنته الصغرى لها عدة مرات لاستعجالها، وفي كل مرة تعود بحجة مختلفة، مرة لتبديل ملابسها، ومرة أخرى كي تصلي فرضها، ومرة أخرى تتزين، لقد مل وهو لا يستطيع ترك الجلسة وترك الرجلين وحدهم حتى يصعد إليها بغرفتها في الطابق الثاني .
هتف العمدة هاشم سائلًا بابتسامة لزجة لا تخفي ضيقه:
- خبر ايه يا راجح؟ هي العروسه مش عايزة تيجي عشان نصالحها ولا إيه؟
رفم امتعاضه من اسلوب الرجل، وثقل الجلسة على قلبه، ولكنه اَثر الرد بزوق:
- ليه بس يا عمده؟ هي بس تصلي الضهر وجاية ان شاء الله.
معتصم والذي اصابه الضيق من كثرة الانتظار دون فائدة، رغم تنازله هو وأباه والاعتذار على شيء كانت هي المتسبب الأساسي فيه، خرج صوته بنزق:
- مش باين يا عمى انها جاية، اديلنا ساعتين مستنين ومحدش دخل لحد دلوكت.
- ولا هتدخل !!
هتف بها ياسين يجفل الثلاثة، نهض على الفور راجح يتلقفه من مدخل الغرفة، بلهفة لا يعلم سببها، وتناول كفه حتى يجلسه على أحد المقاعد، مرددًا:
- ابوى، اهلا بيك يا بوى، اتفضل معانا اجعد.
. اقترب منه العمدة هاشم يصافحه بكلمات منمقة كالعادة:
- يا أهلا يا اهلا، دا احنا انهارده عيد على كده، ان شوفناك يا عم ياسين.
تبسم الاخير بغموض يجيب ترحيبه باقتضاب:
- يا اهلا يا هاشم.
نهض معتصم يقلد والده، ولكن ياسين إزاح كفه الممدودة نحوه بازدراء قائلًا:
- بعد ياض عنى .
1
اهانة شعر معتصم بها وكأن دلوًا من الماء القذر اغرقه، ف التف نحو والده بصدمة، استوعبها هاشم سريعًا ليمتص الغضب ويتصرف بذكاء المعروف بأن اشار له ان يصمت، وينتظر
ابتلع راجح ريقه الجاف، وقد اخجله فعل والده، ولكنه لا يملك ان يراجعه، فظل صامتًا حتى تحدث ياسين
- ها كنتوا بتجولوا ايه بجى جبل ما ادخل؟
رد هاشم بلؤم:
- يعنى هنجول ايه بس؟ غير بكل ود ومحبة، دا احنا نسايب وحبايب.
- كنا، كنا نسايب وحبايب لكن دلوكت لا
هتف بها ياسين بحدة، وجاءه رد هاشم سريعًا:
- ليه بس كده يا عمى؟
صاح ياسين يكشر عن انيابه، بدون انتظار اكثر من ذلك:
- ما تبطل اسلوبك دا يا عمده، ولا انت فاكرنى نايم على ودانى ومش عارف باللى عامله ولدك لبت والدى عند مدرستها؟
ارتبك هاشم في البداية ولكنه تدراك سريعًا ليهديء من فورة غضب الاَخر، وقد علم الاَن السبب الأساسي لمجيئه وحضور الجلسة، وقال بمكر:
- عندك حج يا عمى إنك تزعل، دا انا هزجتوا ومسحت بكرامته الارض اول ما عرفت باللي حصل، واسأل راجح كمان، دا احنا جينا هنا جبل البت ما توصل من مدرستها وخليته اتأسف واعتذر لعمه راجح لحد ما الراجل اقتنع وسامح.
رد ياسين يجفلهم بقوله:
- بأي صفه؟
ابتلع راجح وشعر بالحرج يجيبه:
- خبر ايه يا بوى؟ بصفتى انى ابوها .
رفع ياسين سبابته للأعلى يخاطب بها الثلاثة:
- إنت تسامح فى اللى يخوصك، لكن اللى يخوص العيله ما يخوصكش لوحدك، دا يخص العيلة كلها وانا كبيرها.
حاول هاشم ان يلطف بقوله:
- براحه شويه يا عم ياسين، دول كلمتين هايفين فى لحظة غضب وعدو خلاص .
ضرب ياسين بعصاه على الأرض يهتف بحدة:
- لأه معدوش يا عمدة، ومكانوش هايفين، بجى لما يجولها ابويا هو اللى عملكم سعر لما فكرنا نناسبكم دي تبجى هايفة؟ ولا التانية كمان يمد يدوا عليها في وسط الشارع وجدام الناس، دي لو كانت مرته يمكن كنا ادينالوا عذر، لكن يعملها واحنا لسة ع البر ، حد جالوا إن ملهاش ناس اياك؟
صاح معتصم برعونة وعدم مراعاة لوضعه:
- انا مضربتهاش انا اخرى مسكتها من دراعها وبس، وهي اللي استفزتني من البداية على فكرة.
استشاط ياسين من الغضب وارتفعت عصاه نحو هاشم يشير بغضب:
- شايف الغلط ولا لاه يا عمدة؟ جولى ان كان عاجبك كلام ولدك .
حدج هاشم ولده بنظرة محذرة يهدر فيه للسكوت، والتف بعدها لياسين يقول بمهادنة:
-  شوف يا عم ياسين احنا خلاص عرفنا الغلط، بس امسحها فيا المره دى،
صاح عليه ياسين بشراسة:
-امسح ايه ولا يه؟ مش انت ولدك جال أنه عملتلنا سعر لما فكرت تناسبنا، وانا بجولك اها، احنا مش عايزين نسبكم .
عند الأخيرة انتفض هاشم يهدر بياسين:
- بس انت كده بتكبرها يا حج ياسين وبتشعللها بعد الدنيا ما هديت واحنا اتصالحنا مع ابوها.
نهض ياسين هو ايضًا يقابله بندية غير مبالي قائلًا:
- ابوها دا يبجى ولدى يعنى كلمته من بعدى .
التف هاشم بتهديد نحو راجح يسأله:
- صح الكلام دا يا راجح؟ انت ناوي تتبع ابوك وترجع فى كلامك معانا؟.   
وقف راجح يجيبه بهدوء رغم غضبه، وقال مصححًا:
- اولا انا لا يمكن اكسر كلمة لابويا ولو على رجبتى
والتانيه بجى، انا جولتلك ان البت هى اللى تحكم لو رضيت بالصلح تمام لو مردتش يبجى خلاص، يعني مدتكاش كلمة عشان ارجع فيها.
صاح هاشم:
- واحنا من امتى بناخد رأي البنتة؟ ولا انت ملكش كلمة عليها.
خرج راجح عن طبيعته ليهدر بغضب مكبوت:
- خلي بالك من كلامك يا عمدة، مش معنى ان جدرت جيتك وراعيت الأصول في استقبالك، يبجى هسكتلك، ولا انت فاكر إن بعد ولدك ما مد يده عليها وغلط فى اهلها وهى لسه مدخلتش بيته، يبجى هيبجالي كلمة عليها بعد كدة، ولا كمان اغصبها عشان اعجبك؟
تدخل معتصم بغباء، وقد تشجع بحدة والده في الحديث:
- يعنى انت هتتبع الراجل الخرفان ده وتفشكل الخطوبة؟
جحظت عيني راجح بشدة مذهولا لقلة حياء الاَخر، وقبل ان يرد ياسين، ويبرر الاَخر لولده، هدر قاطعًا بحسم:
- خرفان فى عينك جليل ادب عديم الرباية، اسمع يا عمده شبكتم هتوصلكم واحنا معندناش بنته للجواز .
قالها بشدة وقوة اجفلت العمدة، الذي لم يتحمل اكثر من ذلك، وخرج يسحب ابنه، يتوعد لراجح ووالده
- ماشى يا راجح، ماشى يا حج ياسين، خليكم كد الإهانة دي، انا لا يمكن اسكت ولا اعديها.
❈-❈-❈
خارج المنزل كان عاصم مازال على وقفته في انتظار الجد، وتفاجأ بخروج العمدة هاشم وهو يجر ابنه ويسحبه عنوة، يحاول بصعوبة السيطرة على جنونه، قبل أن يرتكب فعل متهور كعادته، ويزيد الوضع سوءًا، وانتبها الاثنان فجأة على هذا الضخم المستند بظهره على جذع النخلة خلفه، يناظرهم بتوعد وهيئة تشبه افراد العصابات والمجرمين، ابتلع هاشم ريقه، والقى التحية يشير بكفه:
- ازيك يا عاصم.
لم يرد، بل ظل يحدجهم مضيقًا عينيه، وازدادت انظاره اشتعالا، حتى ادخل بقلوبهم الرعب لينسحبا بخطوات مسرعة، ويتركا المكان والمحيط المقلق بوجود هذا المدعو عاصم .
ذهب العمدة هاشم بصحبة ابنه الساخط معتصم، وظل هو لعدة دقائق يحاول الإنتظار او منع جنوح نفسه بالدخول إلى منزل عمه راجح، حتى لا يظهر بصورة سيئة أمامهم، ولكن الفضول كاد أن يقتله، يريد معرفة ما قد تم، وماذا فعل جده في الجلسة مع هذا الرجل الداهية وعمه الطيب راجح؟ ترى من نجح وكيف سارت الجلسة وما الذي تم؟ غضب معتصم وهو خارج مع ابيه يجعل بعض الأمل يتسلل إليه، ولكن هذا لا يكفي، لابد له من أن يتأكد بنفسه، لذلك لم يجد بدًا من التحرك نحو المنزل، بحجة العودة بجده إلى المنزل.
- عمي راجح.
هتف بها كنداء وهو يصفق بكفيه، ف جاء رد الاَخر يدعوه:
- ادخل يا عاصم، مفيش حد غريب يا ولدي
ولج على قول الاَخير يتحمحم بخشونة، وهو يخطو بحرج، ويردف بتصنع:
- انا جيت اخد جدي يا عمي اللي اتأخر ده.
قطع جملته وتوقف فجأة متسمرًا بذهول، وهو يراها تحتضن جده وتضحك بانطلاق غريب عنها، بشكل اثار جنونه، ليجبر نفسه للإشاحة بأنظاره عنها بصعوبة، وخرج صوته نحو عمه راجح الجالس بجوارهم بسكون:
- إيه اللي حصل يا عمي؟
تكلفت نعمات بالرد وقد كانت جالسة بالقرب منهما، وتتابعهم هي الأخرى:
- مفيش حاجة تجلج يا ولدى، اصل بت عمك فرحانة عشان اتفشكلت خطوبتها من معتصم .
سمع منها وشعر بتوقف دقات قلبه عن النبض لعدة لحظات قبل أن يتمالك، حتى لا يُظهر سعادته، أو يهدئ هذا الذي تحول للخفق داخله فجأة بغباء، ف خاطبه ياسين بلؤم:
- ما تيجى تشوف بت عمك اللى اتجننت يا عاصم، البت هتطلع روحي من الفرحة يا راجل.
اطرقت بدور محرجة بابتسامة خجلة، واضطرب عاصم من جرأة جده ومزاحه المكشوف، لدرجة اربكته عن الرد، ف تجاهل عن عمد واتجه نحو عمه الصامت، واضعًا كفه اسفل خده، ليخاطبه بتوجس:
- طب وانت ليه زعلان يا عم؟
رفع رأسهِ إليه راجح ليجيبه بقلق:
- لا بالعكس انا مش زعلان، انا بس خايف يا ولدى من اللي جاي، دا غير إني مضمنش غدر العمدة
- يجدر يفتح خشمه ولا يعمل معاك اى  دجة نجص  . عشان كنت دافينهم هما وولده مع بعض .
هتف بها عاصم بعصبية انسته حذره، وتلقفها ياسين بمشاكسة، متلاعبًا بحاجبيه:
- ايوه كده يا سبع، طالع لجدك يا واد
لم يقوى عاصم على إخفاء ابتسامته، مع الضحكات التي انطلقت من افواه الجميع حتى راجح، أزاح عن عقله القلق، وبدور التي كانت تخفي ثغرها الضاحك بخجل زاد على جنون الاَخر، حتى هتف على حين غفلة مخاطبًا جده:
- مش كفاية بجى يا جدى خلينا نمشى، الدنيا ليلت يا راجل.
❈-❈-❈
في اليوم التالي
وداخل قاعة المحاضرات، ولج بهيبته التي تلجم الأفواه عن الكلام في حضوره، القى التحية سريعًا، وعينيه جالت تبحث عنها :
- صباح الخير.
حينما رد الطلاب عليه بالتحية، كان هو قد وجدها، في المكان اخر غير الذي اعتادت عليه مع صديقتيها الأخريات، بثينة ونهى، ورغم شوقه الذي اوجع قلبه في البداية، إلا أن ذلك لم ينسيه غضبه منها، لتجاهلها عن عمد، للرد على اتصالاته العديدة بها، بالإضافة إلى هذا المقلب السخيف، حينما تركته ينتظرها بالساعة في انتظارها في الصباح حتى يُقلها نحو الجامعة، قبل ان يكتشف ذهابها مع زميلاتها في السكن دون أن تخبره، صك على أسنانه من الغيظ ينفث دخان من أنفه، ليُلهي نفسه بالعمل، ويشرح المحاضرة، ولكن بداخله بركان يغلي ولابد له من الرد، ولابد من الحساب، يجب عليه الرد وبقسوة، يجب ان يريبها، لابد من تربيتها.
بعد انتهاء المحاضرة
همت ان تنسحب وتخرج كباقي الزملاء، ولكنه فاجأها بالنداء أمامهم:
- نهال، .... تعالى ورايا عايزك فى المكتب .
قالها على عجالة وخرج سريعًا، ف كشرت هي بغيظ وعينيها تتنقل بين صديقتيها، بأنفعال شديد من لأسلوبه المتحكم بجرأة اجفلتها امام الجميع:.
- شايفين الإستفزاز؟ عشان تبطلوا بس تدافعوا عنه.
قالتها للفتيات من تحت أسنانها، وردت بثينة:
- روحى شوفيه، دا باين قوى انه مش طبيعى .
نهى هي الأخرى
- ايوه يا نهال واد عمك باينه اتجنن لما مردتيش عليه النهاردة، دا وشه مدخن من اول ما دخل النهاردة.
ردت نهال بعند:
- ولا هعبره ولا هروحلوا حتى مكتبه .
قالت نهى بخوف:
- لا والنبى حن عليكى شوفيه عايز ايه واحنا هانستناكى.
زادت في العند قائلة:
- لا مش رايحة ولا معبراه ومطرح ما يحط راسه يحط رجليه .
تبسمت بثينة تنكافها بمكر:
- ما تقولى انك خايفة من مواجهته
التف إليها بصدمة تردد:
- انا خايفة من المواجهة؟
قالتها بتساؤل، لتصطدم بنظرات الاثنتين، فهتف بانفعال:
- ماشى يا بثينة، ماشي يا نهى، انا رايحة عشان اثبتلك انى مش خايفة ولا حتى جلجانة.
❈-❈-❈
بخطوات مسرعة ونفس يدفعها التحدي كانت مصممة على مقابلته كي تثبت لصديقتيها صحة ما اردفت به، ولكنها وبمجرد أن وصلت إلى باب حجرته تسمرت محلها لتخرج شهيق طويل وتخرجه لتهديء اضطرابًا تجاهد للسيطرة عليه، ابتعلت ريقها قبل أن ترفع قبضتها لتطرق على باب الحجرة، ليجفلها على الفور بصيحته:
-ادخل .
انتفضت فجأة ثم تداركت لتفتح الباب بهدوء، لتطل برأسها أمامها قائلة:
- حضرتك كنت عايزنى يا دكتور !!.
قالتها بعملية قبل أن تدلف إليه بجمود انتبه عليه هو وتغاضى ليرد بحسم:
- ادخلى كويس واجفلى الباب وراكى .
كتمت داخلها صيحة الرفض، وحاولت أن تتصرف بطبيعية معه، والتفت لتفعل ما أمرها به، ولكنها ترددت في غلقه بالكامل، فجعلته بمواربة قليلة، قبل أن تجفل على كف قوية تغلقة بقوة من خلفها، وصوت يردد
- الجفل يكون كدة، هو انتى خايفه ع الباب؟
قال الاَخيرة وعينيه تواصلت مع عينيها من مسافة قريبة جدا اربكتها لترتد للخلف صامتة بذهول، لرد فعله السريع، تتسائل بين نفسها، متى نهض ومتى وصل إليها بهذه السرعة؟ ويبدو انه فهم من نفسه، ف تركها على الفور ليعود إلى مكتبه، متسائلًا:
-  هتفضلى واجفة مكانك كدة كتير؟
استجمعت شجاعتها لتسأله بدون تردد:
-  انت كنت عايزنى ليه؟
وكأن بسؤالها اعطته الفرصة ليخرج شياطين غضبه، ف نهض عن مقعده بتحفز يسألها:
- انتى مالك ؟!
ادعت عدم الفهم لتجيب على سؤاله بسؤال:
- مالى كيف يعنى ؟! ما توضح؟
صاح بها بانفعال:
- انتى هتستهبلى وتعملى نفسك مش  فاهمه؟ ارن عليكى متروديش، استناكى عشان اوصلك الكلية تسبينى اتلطع بالساعة وفى الآخر اعرف من بواب السكن عندكم انك مشيتى مع زميلاتك فى السكن من غير ما تعبرينى ولا تديلى فكرة حتى، وبعد دا كله عاملة نفسك مش فاهمة.
عقبت بكل البساطة:
- أنا أسفة انى مرديتش على تليفونك، بس احب اجولك انى من هنا ورايح مش هركب معاك تانى عربيتك ولا هسمحلك توصلنى.
افتر فاهه ينظارها بصدمة، ليميل برأسهِ نحوها يقول بتهكم ساخر:
- نعم يا ماما، سمعينى تاني، مش هتسمحيلى !
قال الاَخيرة ليصيح بوجهها وعينيه تطلق شررًا من الجحيم نحوها:
- هو مين بالظبط اللي هيسمح ولا ميسمحش؟ ولا انا لما حكمت ان مفيش روحة ولا رجعة للكلية غير معايا، كنت خدت إذنك؟
اسلوبه المتسلط في توجيه الخطاب بعنجهية نحوها زاد من جرعة السخط داخلها منه، لتردف بقوة:
-  بصفتك إيه تحكم وتتحكم فيا؟
باغتته بردها حتى جعلته يرتبك في البداية قبل أن يجيبها بالرد النمطي المعتاد والمعروف:
- بصفتى واد عمك وانتى هنا مسؤليتى ولا انتي نسيتي دي كمان؟
استغلت لترد بقوة مصوبة عينيها في عينيه:
-  والناس هتعرف منين انك واد عمى؟ مش يمكن يفتكرونى بنت مش كويسه أو ... يفتكرونى ساهلة؟
ارتد برأسها للخلف مجفلًا من إجابتها التي تتضمن تلميح صريح لما أدلى بها نحوها بالأمس، تذكر حجم خطئه من نظرتها المتألمة رغم حدة حديثها، ورسائل اللوم التي يقرأها بها، ليسألهًا اَخيرًا:
- هو دا بجى السبب اللى مخليكى زعلانة منى؟
ترقرقت الدموع بعينيها لتهتف بجرح قلبها:
- يعنى انت عايزنى ابجى مبسوطة لما تتهمنى انى ساهلة وبخلى الناس تاخد فكرة غلط عني.....
قالت الاَخيرة، وانطلقت ببكاء اليم اوجع قلبه، الذي تألم لألمها، فقال بنبرة نادمة:
- أنا أسف إن كنت جرحتك، بس انتي عارفة إن دا مش جاصد أكيد.
بعد اعتذاره والاعتراف بخطأه، زاد بكاءها، حتى امسكها من رسغها يسحبها، ليجلسها على اريكة موضوعة في جانب الغرفة، تنهد بألم يمسح بمحرمته الورقية دموعها التي كانت تتساقط بغزارة ودون توقف، وقال بأسف:
-  خلاص بجى، اعملك ايه عشان تسامحى؟
خرجت منه بصوت ضعيف وحنون، جعلها ترفع رأسها إليه، ليقابلها بنظرة تجمعت بها كلمات الأسف والاعتذار وأشياء أخرى لم تفهمها، فقالت بشعور التوتر الذي اكتنفها:
-  متعملش حاجه خلاص، بس انا عايزاك تفهم كويس انا عمرى ماهزرت مع حد غريب عليا ورائف ده انا متربية معاه، وبالنسبالى اكتر من اخ.
- انا عارف.
قالها باقتضاب مقاطعًا لها، ف سألته باندهاش:
- طيب ولما هو كدة، ليه بجى بتدايج لما  تلاجيني اهزر معاه ؟
- عشان بغير!
قالها سريعًا وبدون تفكير، حتى ظنت أنها سمعت خطأ، وصمتت في انتظار تفسير لما سمعته، ف استطرد لها بقوة:
- ايوه بغير منه، ومن اى حد يكلمك ولا يهزر معاكى كمان، انا نفسى مكنتش اعرف بالعيب دا فيا غير لما حبيتك، يمكن عشان دي أول مرة احب فيها حجيجى وبجنون كمان .
بهتت تناظره بازبهلال وقد انسحبت من وجهها الدماء، لا تزال لا تستوعب ما يردف به، ينتابها مرة شعور الخجل ومرة أخرى تدعي عدم صحة ما تسمعه، فخرج صوتها بحيرة حاسمة:
- انت بتجول ايه بس؟ انا جايمة.
قالتها وهي تنهض، بالفعل ولكنه اوقفها مخاطبًا:
- انا عارف انك مكسوفه والكلام  ده ممكن يكون صدمة ليكي، بس انا واد عمك ومش هلف ولا ادور معاكي في الكلام، وعشان اوفر عليكي الحيرة، انا عايز ادخل في الجد على طول، ونفسى اسمع اى خبر حلو منك قريب عشان افرح ابويا وامى، ولحد ما يحصل ده، هسيبك براحتك عشان تبقالك حرية الاختيار .
أومأت برأسها تهزهزها باضطراب، حتى تتحرك وتذهب هاربة من أمامه سريعًا، ولكن وقبل أن تصل لمقبض الباب أوقفها بندائه
- نهال، ملكيش أي عذر لو مبلغتنيش بعد ما تخلصى محاضرانك عشان أخدك واروح بيكى .
أومأت برأسها مرة أخرى، وفتحت لتغادر سريعًا، لا تصدق ما سمعته، وهذا الطلب الذي طلبه منها، ثم المعضلة الأساسية الاَن كيف ستتعامل معه؟ لقد اصابتها كلماته بالخرس التام، ومشاعر قوية تتناحر داخلها، ولا تعلم ماذا تفعل؟
أما عنه فقد كان في حالة مختلفة على الاطلاق، بعد أن أزاح عن صــ دره ثقل ما كان يشعر به، وقد أفضى إليها اَخيرًا بما يحمله قلبه لها، رغم تخوفه قليلًا عليها بعد أن رأى بنفسه رد فعلها المصدوم جراء اعترافه، ولكنه في نفس الوقت يبتسم بسعادة كلما تذكر خجلها الشديد رغم القوة التي تدعيها دائمًا معه.
❈-❈-❈
بقلب منشرح ونفس تهفو لرؤيتها خرج عاصم من منزله ليجلس على المصطبة الأسمنتية، حتى ينتظر مرورها يستعيد زكريات جميلة له في نفس المكان بمراقبتها في الذهاب والإياب نحو مدرستها، قبل أن تنقطع هذه العادة في الأيام السابقة بعد أن حرم على نفسه رؤيتها، وذلك بعد خطبتها من هذا المتحذلق ابن العمدة معتصم.
ظهرت والدته أمامه فجأة وهي عائدة من مكان ما في الخارج لتقترب وتجلس بجواره بضحكة بشوشة وفرحة تقفز من عينيها تقول:
- ازيك يا نور عينى، عامل ايه يا عريسنا؟
سمع منها وسقط قلبه لأقدامه، وقد استعاد تفكيره الاَن هذا الاتفاق الذي تم بينهما بالأمس صباحًا على طاولة السفرة مع أبيه، فقال يخاطبها بذعر حقيقي:
- انتى كنتى فين ياما ؟
تبسمت سميحة تجيبه بمرح:
- كنت فى بيت عمك عبد الحميد، ع اللى اتفجنا عليه امبارح ولا انت نسيت؟
ختمت بغمزة أصابته في مقتل ليسألها بوجه مخطوف:
-  أوعى تجولى إنه حصل ؟
جلجلت ضاحكة تردد:
- طبعًا حصل يا حبيبى، وكلمت راضية وفرحت جوى وجالتلى انه يوم المنى واكيد البت مش هترفض
دارت رأسه ليغمض عينيه بتعب وكأن هموم العالم تجمعت فوقه كاهله، وقد تيقن الاَن أن نصيبه بها انقطع، وحظه السيء قد لعب لعبته
- ايه يا حبيبى انت مش فرحان؟
سألته سميحة ببرائة، فخرج صوته خفيض مبحوح:
- لا ازاي بس؟ فرحان ياما فرحان جوى.
ردت بعدم تصديق ولهجة تختلط بالعتب:
- لا يا عاصم شكلك مش فرحان .
بلع الغصة بحلقه ليسألها بغضب مكتوم:
- طب وانتى ايه اللى طلعك بدرى جوى كده ياما؟ ليه ما ستنتنيش لما اصحى؟ طب ما جابلتيش ابويا ولا جالك اى حاجة؟
جلجلت بضحك متزايد:
- ليه يعنى؟ هو فيه حاجة حصلت وانا معرفهاش مثلا؟
رد يجيبها بخيبة أمل:
- لا مفيش ياما ماتخديش فى بالك.
قالها مستسلمًا بقنوط، مسلمًا أمره لله، قبل أن يجفل منتفضًا على قبلة مفاجئة تلقاها على خده الأيسر من والدته، فهتف مخضوضًا بوجهها:
- فى ايه ياما انا فى الشارع مالك؟
رنت ضحكتها بصوت عالي زاد من فزعه بها، ليهدر بعصبية:
- وه  ياما انتى جرالك ايه بس ؟
كتمت بصعوبة كي ترد :
- معلش يا حبيبى بصالحك؟ سامحني بجى عشان عملت فيك مجلب .
عقد حاجبيه يقول بعدم فهم:
- تجصدى ايه ؟
تننهدت بوجه جدي رغم ارتسام الفرحة عليه:
-  يا حبيبى  يا نور عينى، دا انا مصدجتش نفسي ولا عرفت انام حتى بعد ما سمعت من ابوك امبارح ان بدور اتفشكلت خطوبتها من المجلع واد العمده؛ وعايزني بعد دا كله، اروح واخطب نيرة واجطع الامل تانى؟
على موضع على قلبه وضع كفه عصام يقول بحالة اوجعتها:
- والله حرام عليكى ياما انا كان هتجيلي سكتة جلبية؟
- سلامت جلبك يا نور عينى هات ابوسك تانى عشان اصالحك .
قالتها سميحة وهمت تنهض لتفعل، بمناكفة جعلته يصيح بها يوقفها مفزوعًا:
- حن عليكى ياما مش ناجصة فضايح، ارسى على حيلك كدة الله يرضى عنك .
جلست على الفور تدعي الأدب، فقالت تراضيه:
- حاضر يا سيدي مش هزعلك تانى وهجعد مؤدبة، طب اجولك، شوف كده ست الحسن اهى جاية من بعيد اهى.
قالتها واتجهت انظاره نحو ما تقصد، ليتأكد هذه المرة من صدقها، برؤية معذبته، وهي عائدة بملابس المدرسة مع ابنة عمه الثاني نيرة، والتي اشارت بكفها إليهم كتحية من مسافتهم، واكتفت هي بابتسامة ارسلتها لعاصم، فجعلته ينسى نفسه، وهذا المقلب الظريف من والدته.
❈-❈-❈
بجلسة جمعت الثلاث فتيات، بكافتيريا الجامعة وبعد ان قصت نهال ما حدث وما قاله مدحت لها، كانت الاسئلة المتواصلة من الإثنتان ، نهى وبثينة التي كانت لها البداية:
- طب وانتى كان ردك ايه؟
-  اوعى تكونى بوظتى الدنيا زى عوايدك؟
- والنبى شكلها  بوظت الدنيا!
- انتى هتجوليلى فيها، دى صحبتى وانا عارفاها خيبة وصوت بس إنما في الجد إنسى .
هدرت بهن نهال بعصبية توقفهن:
-باااااس صدعتونى يخرب بيوتكم، انا الغلطانة أساسًا انى جولتلكم .
قالت بثينة بمرح:
-  غلطانه دا إيه يا هبلة؟ دا أحلى خبر سمعتوا  منك.
نهى هي الأخرى:
- اه والله عندك حج يا صاحبتي، طب والله انا كان جلبى حاسس وكنت بجولها، بس هى العبيطة بجى مكنتش مصدجة.
ظلت على حالة من الوجوم بشرودها، واقتربت بثينة، تدغدغها على ذراعها بمشاكسة
- اييييه مالك يا جميل؟ سرحانة فى ايه بس؟
قالت نهى هي الأخرى
- ايوه صح يا نهال، انتى مالك شكلك مخطوف كده ليه ؟
مطت بشفتيها المطبقة لتقول بعدم تركيز:
-  مش عارفة، بس حاسة نفسى خايفة.
- خايقة !
قالتها نهى بعدم استيعاب تصيح بها:
- خايفه ليه يا مجنونة؟ مش دا اللى طول عمرك بتحلمى بيه؟
تنهدت نهال بتعب قائلة:
- ايوه صح اللى بتجوليه، بس انا كنت اقنعت نفسى انى هشيله من مخى من ساعة ما اتجدم لأختى وحطيت مستجبلى  هدف جدامى، لكن دلوك؟
قالت بثينة باستغراب:
- طب ودلوقتي وايه اللى هيمنعك بقى عن تحقيق هدفك؟ بالعكس بقى، انا شايفة إنه ممكن يساعدك كمان
أومأت نهال بتوتر وخوف مرددة:
- مش عارفه !
تدخلت نهى :
- انا عارفة انك خايفة عشان اتجدم لأختك سابج صح
صمتت نهال وتكلمت بثينة:
- نصيحه منى يا نهال، تشيلى الموضوع دا نهائى من مخك عشان متتعبيش نفسك، دا قالك انه بيحبك ودى تكفى انك تأسسى بيها حياة جميلة ما بينكم .
تنهدت نهال قائلة بشرود:
- عندك حج طبعا فى كل كلامك، بس فى حاجة تانية.
- إيه تاني؟
خرجت من افواه الاثنتين، ليتفاجأ، بتغير وجه نهال للحرج، وهي تفرك بكفيها بتوتر قائلة:
- بصراحة، انا من ساعة ما كلمنى وانا مش عارفة اتعامل معاه ومكسوفة جدا.
ضحكت نهى ومعها بثينة بفرح ساخرات منها يرددن:
- يا ختى كميلة، انتى بتتكسفى يا بطة، يا سلام يا جدعان، نهال طلعت بتتكسف !!
هتفت بهن بغيظ تملكها
- ابوشكلكم انتو الاتنين .
.
❈-❈-❈
على مائدة الطعام كان محسن وزجته هدية، يتناولون وجبة الغذاء حينما أجفلا الاثنان على صيحة قوية مع دخول ابنهم حربي بصوت عالي:
- بدور اتفلتت ياما، بدور اتفلت يا بوى .
محسن والذي انتفض مخضوضًا وتوقف الطعام بحلقه لعدة لحظات، هتف به غاضبًا:
- يخرب مطنك ويجل راحتك يا شيخ، مش عارف تجول السلام عليكم الاول يا واد؟
ضحك حربي وتقدم يجلس لينضم معهما على المائدة، وقال ببساطة:
- ماشى يا بوى، سلام عليكم الأول.
رمقه محسن بنظرة حانقة بصمت وتكلفت هدية بالرد:
- وانت توك ما عارف يا ناصح؟ دا انا سمعانة من امبارح عشية كمان.
رد حربي بانفعال والطعام في فمه:
-  ولما هو كدة، ليه مجولتليش ياما؟
ارتشفت هدية من كوب الماء الذي أمامها، ثم ردت وهي تعود لطعامها:
- الخبر جانا بليل بعد ابوك ما رجع من عند جدك، يعني كدة وانت نايم يا فالح، ولا انت ناسي انك نمت بدري عشان تطلج المية الفجر على زرعتك.
اومأ حربي رأسه بتفهم ثم تكلم وهو يلوك اللقيمة بفمه:
- طب ما تجولنا اللى حصل ايه يا بوي؟ انا سمعت طراطيش كدة عن عركة مع جدي، والواد معتصم مع بدور عند المدرسة بتاعتها، بس برضوا معرفتش، ما تجول يا ابو حربي.
زفر محسن يجيبه بقرف:
- وانت مالك باللى حصل؟ مدام خلصت الحكاية على كدة وكل واحد راح لحاله، تتفلت بجى ولا متتفلتش، انت مالك برضوا؟
رد حربي وهو يكبس مجموعة من اوراق الجرجير بفمه:
- يعني هكون بسأل ليه يعني يا بوي؟ مش عشان اتجدملها تانى واتجوزها .
تنهد محسن بتذمر، ليقول منفعلًا:
- هى شغلانة ما جدك جال انها مش هتتجوز من العيلة، وخلصت الحكاية على كدة منعًا للت ولا العجن من تاني .
انصدم حربي وتوقف الطعام بفمه، ولكن هدية والدته لم تصمت:
- متوجفش الحال يا محسن، الكلام دا كان في الأول ساعة ما كان التلاتة عيال عم متقدمين مع بعض.
- اول بجى ولا اخر، واحد يا ختي .
قالها محسن بضيق، ف عقبت هدية قائلة:
- خليك انت جول كدة، وجفل فيها يا محسن على كيفك، لحد اما نلاجى عاصم خطبها جبل ولدك .
هتف حربي بعصبية:
-  وه، دا لو حصل الكلام ده صح يا بوي، والله ما انا ساكت، ما هو انا مبحبش أكون مغفل، وانت يا بوي حن عليك اجف معايا عشان جدى يوافج.
قال الأخيرة برجاء جعل والدته تستغل الفرصة قائلة:
- ابوك باينه مش عاجبه الكلام يا ولدي.
سمع منها حربي وتوجه سائلًا والده:
- صح يا بوي، يعنى انت مش هتوجف جمبى؟
تنهد محسن بقلة حيلة بعد ان وضعته زو جته في هذا الموقف مع لده الوحيد:
- يعني هجول ايه بس، لله الامر من قبل ومن بعد.
❈-❈-❈
في السيارة التي كانت تقلها في المقعد الأمامي بجواره وهو يقود، بمزاج رائق، يردد مع الأغنية الدائرة من مذياع الراديو، يراقبها بطرف عينيه، وسعادة تتراقص داخله بتسلية، مع متابعته التوتر الشديد الذي يكتنفها، وهي تتهرب من النظر إليه، حتى عندما يسألها تجيبه باقتضاب، تنهد بشعور لذيذ يغمره، وقرر التحدث في شيء ما يخرجها من شرودها:
- هو الواد الزفت بتاع امبارح، اتعرضلك تاني؟
نفت برأسها تجيبه:
- لا من بعد الخناجة اياها واللى حصل معاه ما رفعش عينه فيا تانى؟
تنهد بارتياح قائلًا:
-  كويس خالص، طيب اى حد تانى دايقك؟
اكتفت هذه المرة بهز رأسها بالرفض صامتة.
لم يستطع منع نفسه اكثر من ذلك عن فتح الموضوع معها، فقال بمشاكسة:
- طيب انتى ليه مكسوفه جوى كدة؟
لوت ثغرها بطريقة اضحكته لتشيح بوجهها نحو النظر للخارج من النافذة، اجبر نفسه على التوقف بصعوبة حتى لا يزيد من حرجها، وقال بجدية
- على العموم احنا كدة كدة جربنا نوصل، متنسيش بجى تتصلى بكره وتبلغينى بميعاد محاضراتك.
- لا ما انا النهاردة مسافرة البلد مع البنات وهجعد فى البلد يومين عشان السبت اجازة.
أجابت بها لتُصيبه بالضيق على الفور مرددًا:
-  يعنى انا كدة هجعد يومين مشوفكيش؟
صمتت تلملم ابتسامة ملحة برد فعله الذي انعشها بالداخل، وعادت لوضعها للنظر في الخارج، وزاد هو على ضيقه بقوله:
 - وادينا كمان وصلنا.
اوقف السيارة بالقرب من مبنى السكن الذي يجمعها مع الفتيات، وظل هو بملامح عابسة، يتابعها وهي تلملم أشيائها ثم تترجل من السيارة، ليستدرك فورًا بتذكر ليوقفها قبل أن تبتعد:
- نهال، بكره اول جمعة فى الشهر مش كدة برضو!!
في منزل العائلة الكبير، كان يتوافد افراد العائلة، تباعًا مع اسرهم لتقضية اليوم المخصص لهم، وهو اول جمعة من كل شهر، بعادة اخترعها ياسين منذ سنوات طويلة لربط شمل عائلته دائمًا بعضهم ببعض، كل ابن له يأتي ويسحب زو جته وابناءه والاحفاد إن وجد، صباح التي فقدت زو جها منذ زمن طويل، ولم يبقى لها سوى ابنة واحدة منه، وزو جتها هي الأخرى في بلدة الإسكندرية، ولكنها عوضت فقدانها بالحب والرعاية لجميع ابناء اخواتها، كأولاد لها لم تنجبهم.
كانت ترحب في هذا الوقت بمحسن والذي كان أول الوافدين مع اسرته، وبعده كان سالم ونفس الأمر بأسرته، لتشتعل حرب النظرات الباردة والمتحفزة بين حربي وعاصم.
اتى بعد ذلك عبد الحميد يسحب زو جته راضية، ومعها رائف ونيرة، وكانت المفاجأة هي حضور مدحت لتهتف صباح مهللة بصوت عالي حينما صعقت بارتداءه الجلباب البلدي، والتي لم يرتديها منذ سنوات عدة، حتى انتبه كل الحضور، ف شعر مدحت بالحرج، ليهتف بها
-  حرام عليكى يا عمتى صحيتى الميتين بحسك العالي.
عانقته مرددة بالتكبير تقول:
- فرحانه بيك يا روح عمتك، بسم الله ما شاء الله عليك يا حبيبى تملى العين وتفرح الجلب....
قطعت فجأة تجفله بشهقة عالية منها تردف:
- اوعى تكون امك سابتك تطلع كدة من غير ما تبخرك ؟ قطب بدهشة ضاحكًا، وتكلفت والدته بالرد:
- ودى برضوا هتفوتنى، دا انا بخرته وبخرت اخواته كمان .
صاح بهم مدحتهم يوقفهم:
- خبر ايه يا جماعة؟ هو انتوا ليه مكبرين الموضوع كدة؟
تدخل ياسين من جلسته على كرسيه بوسط البهو الكبير، قائلًا:
-   تعالى يا ولدى سلم عليا وسيبك من كلام الحريم الفاضي ده.
سمع منه وتحركت قدميه سريعًا نحوه، يتناول كف يــ
ده، يقبل ظهرها بإجلال مرددًا:
- سامحنى يا جدي، مخدتش باللى منك وانا داخل، ما انت شوفت.
- شوفت إيه؟
ردد بها ياسين، وهو يضرب بكفه على رأس مدحت من الخلف متابعًا:
- انشغلت بكلام الحريم، ونسيت جدك، كيس جوافة انا ياد عشان ما تخدتش بالك مني؟
بضحكة عالية جلجلت في قلب البهو، كان يردد :
-   يا جدى مينفعش العمايل دى معايا، يا رجل جدر اني ادكتور محترم .
جدد ياسين بالضرب يقول بحزم:
محترم ولا نص محترم، هو انت ها تكبر عليا ياد؟
تناول كفه التي تضرب ولا تبالي ليوقفه عما يفعل بقبلة أخرى قائلًا مع ضحكاته كطفل صغير في حضور جده الذي لا يكبر أبدًا ولا تتغير معاملته بخفة الظل التي يتمتع بها مهما مر من السنوات:
-  معاش ولا كان حتى، اللى يكبر عليك يا جدى وسيد الكل انت .
انتشى ياسين من فعلته، وظهر الرضا على ملامح وجهه، ولكن وقبل أن يرد، وجد حربي يخاطب مدحت بقوله:
-  مش بعاده يعنى يا دكتور!؟ إيه هو انت رجلك خدت على البلد كدة، وحنيت تانى ولا إيه؟
تدخل عاصم بالرد قبل مدحت:
- وماله لما يحن لبلده يا حربى، وانت إيه اللي يزعلك فيها دي؟
اجاب الاخر يرفع قدم فوق الأخرى، يدعي عدم الاكتراث:
-  وانا ايه اللى هيزعلنى يعني في حاجة زي دي؟ بس انت بجى إيه اللي يدخلك؟
رد مدحت بحسم:
- اهدوا يا جماعه انتوا ها تعملوها مشكلة من غير سبب، فيه إيه؟
تدخل رائف هو الأخر ليقول بضحكة خبيثة متلاعبًا بحاجبيه:
- يا سلام با جدعان   دا احنا هنشوف ايام زى الفل.
- تجصد إيه يا رائف ما تلم نفسك.
هتف بها حربي بعصبية، اثارت ضحكة شياطينية من الاَخر، بدون أن يرد، لكن محسن كانت له الكلمة الحاسمة نحو ابنه:
- خبر ايه  ياد انت؟ هو انت جاى تتعرك مع ولاد عمك ولا إيه حكايتك؟
اردف رائف ببرائة ليزيد في اشتعال الاَخر:
- سيبه يا عمي، هو أكيد مش جصده، بس انا مسامح ولا إيه حربي؟
قالها ليجعد ملامح وجهه ببؤس، كرد فعل طفل صغير يقوس شفتيــ ه بعتب، مما اثار الضحك بهستيريا لدى معظم الحضور إلا صاحب الأمر حربي، الذي كان يطالعه بحنق، وغمغم عاصم بصوت خفيض:
- الله يخرب مطنك يا شيخ، ويخرب بيتك شيطانك.
قالها وانتبه فجاة على صوت عمته صباح وهي ترحب براجح شقيقها وزو جته نعمات، ف تعلقت عينيه الباب الذي ولجت منه معذبته خلفهما، بابتسامة زادت على إشراق وجهها البهي، لتجعل قلبه يرفرف بين أضلعه كعصفور يرفرف بجناحيه على غصن شجرة السعادة، عكس مدحت والذي ظل منتظر ظهور شقيقتها الكبرى نهال، خلف أسرتها، حتى اغلقت صباح الباب وهي لم تأتي بعد
ودخل راجح ليصافح باقي العائلة، وقبل ان يسأل مدحت سبقه رائف :
- هي البت نهال مجتش معاكم ليه؟
ردد مدحت من خلفه باستنكار:
- بت!
ردت بدور تقارعه:
-  بجى الدكتوره نهال يتجلها بت، متخلي بالك يا عم انت وشوف انتي بتتكلم على مين؟
ضحك رائف يقول بسماجة:
- مهما كبرت ولا وصلت حتى، برضوا هتبجى بالنسبالى البت نهال .
برد فعل غريزي، ينبع من غيرة استوحشت داخله، حتى اصبح لا يحتمل حتى النطق بإسمها من غيره، حتى لو كان أخيه؟ والذي هتف به:
- ما تلم نفسك ياض انت، بت عمك المقصودة مش جاعدة معانا عشان ترد عليك.
ضرب عاصم كفيه ببعضمها يصيح على الأخوين ضاحكًا:
- صلوا ع النبى يا جدعان، هو احنا اتحسدنا ولا ايه بس ؟
قالها ثم دنى من اذن مدحت يهمس بحذر:
- امسك نفسك شوية، اخوك باينه فهم وبيستفزك ، دا عفريت وانا عارفه.
همس يجيبه مدحت من تحت اسنانه بغيظ:
-  انا مش عارف الواد طالع بارد لمين؟
قالها ثم انتفض يوجه سؤاله لبدور:
- يعنى مجاوبتيش يا بدور، هى ليه نهال مجاتش معاكم ؟
رغم دهشتها من السؤال، ولكنها ردت تجيبه:
- نهال كانت جاية معانا، بس جابلت واحدة ووجفت معاها تسلم عليها وتحكي، وجالتلى روحى انتى جدامى وانا جاية وراكى .
غمغم مدحت بتساؤل وصوت خفيض
- واحدة مين ؟!
❈-❈-❈
في حديقة المنزل خرج الشباب كالعادة بها، وظلت النساء في المطبخ، يساعدن صباح في تجهيز الطعام وحديث لا ينتهي في موضوعات شتى اهمهم كان موضوع الساعة والتي بادرت بفتحه هدية:
- يعنى مجولتيش يا نعمات ايه اللى خلاكم تفشكلوا الخطوبه مع واد العمده؟
ردت الأخيرة بزوق رغم غضبها المكتوم:
- امر الله يا حبيبتى وكل حاجة نصيب، يعني نحمد الله انها جات على كدة..
تدخلت سميحة بقولها
- احسن حاجة عملتوها والنعمة، دا واد جليل الحيا ويستاهل الضرب على نفوخه، انا ولدي حكالي بكل حاجة حصلت، ما هو كان مع جده ياسين وقت ما البنتة راحو يشتكولوا.
راضية هي الأخرى:
- عندك حج يا سميحة، دا عبد الحميد لما حكالى انا كمان على اللى عملوا الواد ده عند المدرسة مع بدور كان  نفسى اروح اديلوا باللى فى رجلى .
بجى احنا عليتنا ملاهاش سعر ابن ال...
- هى كانت غلطتنا من الاول لما وافجنا بيه، واحنا من امتى بنتتنا بتطلع بره العيلة اصلاً.
قالتها هدية والتفت الرؤوس نحوها يناظرنها باستغراب، حتى قالت سميحة بعدائية:
- جصدك ايه يا هدية؟ وضحي يا غالية .
تبسمت الاَخيرة تجيبها بتحدي:
- جصدى اللى انتى فهمتيه يا سميحة، يعني احنا مش هنسيبها تطلع برا العيلة مرة تانية، وابو حربي هيفتح الموضوع تاني .
اجفلت نغمات من حدة اللهجة بينهن، فتدخلت صباح لتفصل بقولها الحاسم
- ما تبس منك ليها انتى وهى، هو لسه عدى يومين على فسخ الخطوبه عشان تتكلموا فى الكلام البارد ده؟
قالت نعمات بقلة حيلة:
-  جوليلهم يا صباح، دا احنا لسه ما فوجناش من ضربة واد العمدة ولا خدنا نفسنا حتى .
ردت صباح وعينيها تركزت على واحدة منهن باستدراك:
- عندك حق يا حبيبتى أكيد امال ايه؟ الا صحيح يعني مش بعاده يا راضية ما تتدخليش معاهم، ولا تقولي وتردي على كلامهم .
تقبلت راضية بابتسامة غامضة تجيبها بكل هدوء:
- ما انتي جولتي بنفسك دا كلام سابج لأوانه، ثم إن كمان الموضوع فض اساسًا من اولها، من ساعة ما حكم الحج ياسين فيه،
تطلع الأربعة لها باستغراب اقولها ، وقالت صباح:
-مش عارفة جايني إحساس انك مخبية حاجة، انا مش عارفاها.
ضحكت لتجيب فاردة كفيها ببرائة أمامهم تقول متفكهة:
- والله ما مخبية شيء، حتى تعالوا فتشوني كمان
قالتها لتجعل النساء من حولها تشاركها الضحكات، لتبادلن بعدها الأحاديث الودية المعتادة.
❈-❈-❈
دلفت نهال إلى داخل المنزل الكبير بخطوات مسرعة ولسانها يردد بالنداء:
- جدي ياسين، انتي فينك يا جد
- ايوة يا نهال.
هتفت بها عمتها صباح كرد وهي تخرج لها من المطبخ، وتتابع وهي تجفف بفوطة صغيرة كفيها؛
- ايوة يا نهال، انا جيتلك اها...
قطعت فجأة وتوقفت الكلمات بحلقها فور أن وقعت عينيها على من تقف بجوار ابنة شقيقها، والتي قالت:
- تعالى يا عمة سلمي الأول.
استدركت سريعًا صباح لترحب وتصافح المرأة التي كانت تشبه عليها في البداية:
- يا اهلا وسهلا .. ااا انتى رضوان..
قالتها بحرج وكان رد الأخرى، أن أومأت برأسها لها صامتة، وتكلفت نهال بالقول:
- ايوه هى يا عمتى .
سمعت منها صباح وزاد ارتباكها رغم الترحيب
- يا أهلا وسهلا  يا حبيبتى دى الدار نورت
بعد أن رحبت صباح بالمرأة واجلستها على مقعدها في الصالون، امسكت بنهال لتنفرد بها بعيدًا عن المرأة، لتسألها بهمس:
- هو فيه ايه بالظبط؟ ودى جبتيها كيف؟
اومأت لها برأسها وهي تجول بعينيها في الأنحاء حولها قائلة:
- بعدين يا عمتى هاجولك بعدين، هو جدى فين دلوك؟
اشارت لها بكفها للجهة خلفها تجيب:
- جوا فى المندره مع عمامك، بس انتي برضك مفهمتنيش، عايزاه في إيه؟
- ما جولتلك بعدين يا عمتي،
قالتها وهي تستدير وتذهب نحو المندرة المقصودة، وتحركت صباح بعدم فهم، نحو المطبخ كي تقوم بواجب الضيافة مع المرأة، وجدت زو جات اخواتها يقفن في انتظارها على مدخل المطبخ، وكأنهن فرقة استطلاع وكانت تراقب، حتى إذا ما اقتربت، جذبنها من كفها وكل واحدة بسؤال:
سميحه:
- هى دى رضوانة اللي كانو بيقولوا عليها يا صباح؟!
- طبعاً هى يا ناصحة، هو انا هاتوه عنيها.
هدية:
- وانتى تعرفيها منين؟
راضيه: 
- فاكراها من وانا عيلة صغيرة، من جبل ما اتجوز عبد الحميد بكتير
تدخلت نعمات باستغراب سائلة:
-  هى مين رضوانة دى اللي كلكم بتجيبوا سيرتها؟ انا مش فاهمة حاجة.
ردت صباح تجيبها:
- جولى لبتك يا حبيبتي اللى جايباها واعرفى منيها، عرفتها كيف الجزينة دي؟
ضربت هديه كف بالاَخر تردد بدهشة:
- أما دى عجوبة يا ولاد، بعد الزمن دا كله تظهر رضوانة وتاجي البيت هنا كمان، دا بجالها زمن طويل جوي من ساعة ما اتجوزت وبعدت عن بلدنا.
تنهدت صباح بسأم، وهي تتناول الركوة لتضعها على الموقد الغازي، لتصنع الشاي، وقالت بتعجب
- اموت واعرف هى ايه جابها عندينا اساسًا.
❈-❈-❈
بداخل المندرة بعد أن دلفت نهال وصافحت وسلمت على اعمامها، والأسئلة المعتادة والنمطية في كل لقاء، اقتربت بكل هدوء من جدها تهمس له بصوت خفيض لا يصل إلى احد سواه، انتفض فجأة، بارق العينان قائلًا بعدم تصديق:
- كدابة!
أجفل اولاده الأربعة، وقال راجح بتحفز وابنته تكرر الهمس بأذن جدها، الذي بهت وجهه بازبهلال أمامهم،
- هى جالتلك ايه البت دى يا بوى؟
ارتبكت نهال تجيب والدها:.
- انا ما جولتش حاجة عفشة يا بوى بل العكس!
تدخل سالم بعدم فهم:
- عكس إيه يا بت اخوي بس؟ انتي جولتى إيه خلى جدك مسهم كدة؟
انتفض ياسين واقفًا يقاطعه:
- مفيش حاجة مهمة، خليكم انتوا وانا هشوف اللى بره واجيلكم .
قالها بحدة قاطعة وهو يسحب نهال ليخرج بها على الفور، حتى لا يعطيهم فرصة للجدال معه
فقال عبد الحميد بعد مغادرتهم:
  - هو مين اللى بره ؟ وهو بينبه علينا نستنة هنا ليه؟
رد محسن هو الاَخر بتشتت:
- الله اعلم.
❈-❈-❈
خرج معها من المندرة قاصدًا التأكد من صحة ما أخبرته به حفيدته، وكانت المفاجأة فور أن وقعت عينيه على الجالسة مطرقة رأسها بخجل، وملتفة بملائتها السوداء، بصورة ذكرته بصورتها القديمة في ذهنه منذ سنوات، بقلب تسارعت دقاته غمغم لنهال:
-- ينصر دينك يا شيخة،
ضحكت حفيدته، لتخاطبه بجدية
- ايوه يا جدى بس خلي بالك، انا جايباها وجيلالها انك هتجف جنبها وتجيبلها حجها هى وبتها .
فجأة دبت الحماسة داخل ياسين باستدراك، فور تذكره السبب الذي ذكرته نهال وأتت من أجله المراة:
- ايوه صح صدجتي، خلينى بجى اروح اشوفها .
قالها واسرع بخطواته، حتى أذا اقترب، من مجلس المرأة، تحمحم بصوت مسموع، حتى تنتبه المرأة؛ والتي وقفت بعدها على الفور، تظبط حجابها، تتلقى تحيته:
- السلام عليكم .
قالها ياسين وامتدت كفيه لمصافحتها، مدت كفها هي أيضًا تجيبه:
- اهلا بيك يا حج ياسين .
تسمر ياسين بدون رد مع سماع صوتها والرؤية القريبة منها، انتبهت نهال، ف تكلمت بصوت عالي تدعو المرأة
- اتفضلى اجعدى يا خاله رضوانة واحكى لجدى كل حاجه حصلت، هو خد فكرة بسيطة عن الموضوع .
ردت رضوانة وهي تعود للجلوس على مقعدها:
- والله انا مكسوفة، وخايفة لا اجيبلكم احراج لو اتدخلتوا .
جلست هي الأخرى، وشدت بجذب قماش جلبابه من الخلف حتى ينتبه وردت تخاطب المرأة:
-   ما تجوليش كده يا خالتى رضوانة، دا انا جيباكى بنفسى .
انتبه اَخيرًا ياسين، ليجلس هو الاخر ويتدخل في الحديث:
- ايوه صح زى ما جالت نهال كدة، بس  انتى احكيلى كل اللى حصل .
❈-❈-❈
في حديقة المنزل
كان الشباب والفتيات، كل مجموعة بميولها ودرجة التقارب والتفاهم بينهما، رائف مع حربي الذي لم يرفع عينيه عن بدور التي كانت هي الأخرى جالسة في جانب ما من الحديقة بجوار نيرة ابنة عمها وصديقتها ايضَا
عاصم كالعادة، كان يأخذ جولة بالحصان في المساحة الشاسعة، يخطف النظرات نحو بدور التي كانت تبادله أياها كل فترة مع ابتسامة جميلة، وكأنها أصبحت لغة حوار بينهم، رغم اندماجها في الحديث مع نيرة
أما مدحت فقد اتخذ جانبًا له وحده، يزفر فيه بضيق، ويغمغم بالكلمات الحانقة مع نفسه:
- ماشى يا نهال، يعنى انا جاى والفرحة مش سايعانى عشان اشوفك واقضى وجت حلو معاكى، ولابس الجلابية البلدي مخصوص عشان اشوف رد فعلك وتجوليلى رأيك فيا.... وانتى اساسًا ولا هامك ولا معبرانى .. ماشى .
ترك عاصم حصانه، واقترب ليجلس بجواره، وقال مبادرًا لفتح حديث معه:
- إيه يا عم الدكتور مالك .
تكتف بذراعيه المذكور ليجيب بضيق:
- نعم يا عاصم باشا، عايز ايه ؟
لملم الاَخير ابتسامة ملحة لهذه الحالة المكشوفة التي وصل إليها ابن عمه الطبيب الرزين، وقال ناصحًا؛
- عايزك بس تاخد بالك، مش كدة يا واد عمى اهدى شوية، انت مبينها جوى واخوك الشيطان دا واخد باله، كل شوية يبصلك ياستغراب
رمقه بامتعاض قائلًا:
- اسم الله عليك انت يا عاجل يا راسي، بتنصنحني، وانت مشيلتش عينك من على المحروسه بتاعتك.
ضحك عاصم بمرح ليرد وهو يضرب كفه بالاًخر:
  - وه يا مدحت، اشحال يا راجل ما كانت حبيبة الجلب السبوع كله معاك، لحجت توحشك؟.
تغضنت ملامحه والتف يشيح بوجهه يقول بتأفف ملوحًا بيده:
- سيبنى فى حالى يا عم.
قهقه عاصم بالضحك، وقد اسعده مناكفة ابن عمه الطبيب بعد ان سقط بقدميه في بئر العشق، ف ليتحمل كما تحمل هو قبله
❈-❈-❈
خرجت صباح إلى الحديقة، حتى إذا اقتربت من الفتيات هتفت بالنداء عليهن:
- يا نيرة انتى و بدور، تعالوا انتوا الاتنين ساعدوا معانا نحضر السفرة
نهضت الفتيات ليتبعنها، ولكن وقبل ان تستدير هي سمعت بنداء مدحت عليها:
- عمتي، ثواني كنت عايزك.
اشارت إلى الفتيات ليسبقنها، قبل أن تلتفت إليه تجيبه بمرحها المعتاد:
- ايوه يا روح عمتك، عايز حاجة يا سيادة الدكتور يا نوارتنا انت؟
- تبسم متمتمًا:
- الله يحظك يا عمتي.
توقف ليتحمحم قبل ان يسألها بحرج:
- هى نهال لسه مجاتش؟
ردت صباح تفاجئه:
- مين دي اللى مجاتش؟ دى بجالها ساعه جاعدة جوه مع جدها ؟
- بجالها ساعة جاعدة مع جدها!
رددها مدحت خلفها بغيظ شديد، جعله يتحرك بعدها بخطواته المسرعة نحو المنزل بدون انتظار.
❈-❈-❈
رضوانة وبعد أن قصت على ياسين مشكلتها، كانت تمسح بطرف شالها الدموع التي تتساقط من عينيها لتقول:
- هو دا كل اللى حصل يا ابو سالم، يعجب اى حد الكلام ده بجى؟
ثار ياسين وانتفخت اوداجه، بحمائية مبالغة يردد:
- ابن ال.... دا انا هاربيه واعرفه مجامه كويس، عشان اتجرأ وطاح فيها، هو فاكرها سايبة ولا إيه؟ أنا إن ما اخليه يعرف ان الله حج مبجاش انا .
خاطبته نهال بمكر وهي تخفي ابتسامتها:
-  الكلام يكون براحه يا:جدى، انت مش حمل ذبحه صدرية .
التف إليها يهدر بانفعال جعله يلهث من فرط عصبيته:
- واد جليل الأدب ومش متربي، حرجلى دمى الله يخرب بيته.
- هو مين ده اللى حرج دمك  يا جدي،
تمتم بها مدحت بعد ان ولج إليهم سريعًا، لتنتبه نهال على هيئته المختلفة، بالجلباب البلدي، ف شهقت بصوت مكتوم، وقد بدا على ملامحها نظرات الإعجاب، التي انعشت الاخر قبل أن يجلس بجوار جده، مرحبا بالمرأة، وقال ياسين ليجيب عن سؤاله:
- جوز بتها يا ولدى، واد الفرطوس، ضربها وزمجها ودلوك ابن ال..... مش عايز يديها حجها في المؤخر ولا يديها عفشها...
توقف ليعود مخاطبًا رضوانة بحزم صائحًا:
- انتى تحطى فى بطنك بطيخه صيفى، بتك تبجى زى بتى وانا بنفسى حاجفله الواد المشجلب ده، واجيب من عينه كل جرش كله عليها.
قالت رضوانة ممتنة رغم شعور الانكسار التي يكتنفها ويشعرها بالحرج:
- متشكرين يا حاج، مع اني مش عارفة اودي جميلكم دا فين والله.
تدخل مدحت:
- متجوليش كدة يا خالة، جدي الله يباركله ميرضاش ابدًا بالحال المايل.
- ربنا يبارك فيه.
قالتها ونهضت عن مقعدها، تردف:
- عن اذنكم بجى، ادوبك امشى عشان اوصل البلد جبل الجمعة
هتف ياسين يوقفها:
- تروحى ليه دا خلاص ألوجت؟ اجعدى اتغدى معانا
تمتمت إليه رضوانة:
- تعيش يا حاج، ربنا يجعله دايمًا عامر، خليها في الفرح ان شاءالله، مش عايزة اتأخر ع البنتة أصلى سايبهم لوحديهم، عن اذنكم بجى .
هتفت عليها صباح والتي أتت فجأة على صوتهم:
- استنى يا خاله رضوانة انا جايه معاكى اخلى حد من الشباب يوصلك.
ردت رضوانة بحرج:
- مفيش داعى يا بتى.
هتفت صباح بتصميم:
- لا والنعمة، ولا يحصل أبدًا، تروحي لوحدك وعيالنا جاعدين، ودي تيجي!
هم ياسين ان يتكلم هو الاَخر، ولكن نهال جذبته من قماش جلبابه تخاطبه بهمس مناكفة بشقاوة تستفزه
- خلاص بجى كفاية يا عم الحج، انت ما صدجت؟
كز على أسنانه، وتمالك يكظم غضبه عنها بصعوبة، وانتظر حتى خرجت رضوانة، لينهض فجأة بعصاه نحوها مرددًا بتهديد:
- مين دا اللى ما صدج يا بت الل....
على الفور قفزت نهال تركض من أمامه لتختبىء خلف مدحت وهي تقع على نفسها من الضحك مرددة:
- هههه ، اعجل با جدي، اللحجنى يا واد عمى .
مدحت والذي تفاجأ بفعلتها، ثم بغضب ياسين وهو يندفع نحوها بعصاه يريد الفتك بها، لم يتمالك نفسه من الضحك هو أيضًا وهو يدافع ليبعده عنها يقول لياسين:
- هههه  صلى على النبى ياجدى هى عملت ايه بس ؟
خلف ظهره كانت تقهقه بشقاوة وهي تتهرب من جدها والذي كان يحجزه عنها هو بجســ ده الضخم، كحائط دفاعي من هجوم ياسين والذي كان مصمم على الفتك بها وهو يهدر صائحًا:
- سيبها يا مدحت، خليني أكسر عضمها البت دي.
جلجلت من خلفها بضحكاتها تردد:
- اعجل يا جد انا بهزر معاك .
ردد من خلفها صائحًا باستنكار وقد زادت من عصبيته:
- اعجل انا يا بت ال...... ياد سيبها ياد.
مدحت والذي كان يمنعها عنها بصعوبة واعصاب ترتخي شيئًا فشيئًا وهو يكاد أو يقع ارضًا من الضحك يخاطبه:
- طيب حتى جولى بس، هي عملت إيه لدا كله؟
سمع ياسين ليصيح بتشنج:
-وانت مالك إنت باللي هي عملته؟ سيبها خليني اخلص عليها مضروبة الدم دي.
طلت برأسها إليه تزيد من منكافته:
- طب اجول انا يا جد وهو يحكم ما بينا .
صعق ياسين ليبدوا كالذي صعقه ماس كهربائي:
- شوفت بت ال .. برضوا مش مبطلة، سيبنى يا ولدى خلينى افش خلجى فيها .
رد يجيبه بلهاث حقيقي من فرط ضحكاته:
- خلاص يا جدى كفاية عشان خاطري، انا راجل مش واخد ع الفرهدة دي.
توقف ياسين فجأة وقد اصابه التعب هو ايضًا، فقال:
- ماشى يا سي الدكتور، أنا هسيبها المرة دي بس عشان خاطرك انت .
أومأ له بتحية متنهدًا ببعض الإرتياح :
- كتر خيرك يا جدى والله، ربنا يخليك يارب.
رفع ياسين عصاه محدجًا نهال بغيظ جعلها تكتم ضحكاتها حتى غادر، لتواصل مرة أخرى واستدار لها مدحت، ليتسمر متجمدًا في النظر إليها، وهي تحاول وتجاهد للتوقف حتى تمكنت من القول اَخيرًا لتسأله:
- مالك بتبصلى كده ليه؟
تنهد بصوت عالي يجيبها:
- مش عارف اجولك إيه؟ وانتي دايمًا بتلخبطي الدنيا معايا كدة، دا أنا من ربع ساعة بس، كنت مخنوج ومش طايج نفسى وانتى نفسك كنت بتوعد لك بحساب عسير، لكن فى لحظة واحدة بضحكتك اللى تجنن دى نسيتنى الدنيا وما فيها .
اخجلها بكلماته، وهذه النظرة الدافئة والتي تخترق قلبها لتجعل الزيادة في خفقانه بسرعة ارنب يركض في البراري، فقالت باستفهام:
- طب وانت كنت هتحاسبنى ليه؟
- مش عارفه ليه؟
-لا مش عارفة؟
قالتها بصدق ليرد على الفور متذكرًا:
- اتأخرتى ليه؟ وتعرفي منين الست دى اللى انتى جايباها معاكى دلوك؟
عبست ملامحها تجيبه:
- يعنى هو ده جصدك، على العموم اديك عرفت السبب اللى خلانى اتاخر وهو انى كنت عايزه اجف جنب الست الغلبانة دى هى وبتها، ولو عن معرفتها، فدي حكاية طويلة، وعايزة جعدة عشان احكيلك...
قطعت منتبهه على تحديقه بها، فهتفت بشقاوتها المعتادة:
- إيه يا عم إنت؟ هتفضل كتير تبصلى وانت ساكت كده؟
حينما ظل على صمته، تابعت:
- بس إيه حكاية الجلبية البلدى دي؟ دا انت بجالك سنين طويله ما لبستهاش
كالطفل الصغير، تهلل وجهه ونسى ما كان برأسه من عتاب، فقال مبتهجًا:
-عجبتك ؟ دا انا لابسها مخصوص النهاردة عشان خاطرك ، وعشان اشوف رأيك.
أجفلها بكلماته والتي زادت على خجلها حتى لم تقوى هذه المرة على التهرب، وانعقد لسانها عن الرد، لتسبل أهدابها عن النظر ومواجهة عينيه، وانعكس ذلك عليه هو ايضًا، لتثير جنونه بها وبحالاتها التي تتغير سريعًا،
من شقاوة وعفرتة، إلى خجل شديد
قطعت عليه عمته صباح بندائها، وهي تهتف بإسمه:
- مدحت يا ولدى انت لسه جاعد هنا؟
التف إليها قاطبًا بتشتت يسألها:
- ايوه يا عمتى عايزة حاجة؟
ردت صباح بتعجب لحالته هي الأخرى:
- عايزه سلامتك يا حبيبى، انا بس افتكرتك روحت تصلى الجمعة مع عمامك وولاد عمك.
استدرك لينظر نحو الساعة التي تزين رسغه، فقال مجفلًا:
- وه دا انا اتأخرت صح، ويدوبك امشي واحصل الصلاة، عن اذنكم .
قالها وتحرك مغادرًا على الفور، شيعته صباح بعينيها، تردد من خلفه:
- روح يا حبيبي، حرمًا مجدمًا ان شاء الله .
سألتها نهال بانتباه:
- عمتى، هو مين اللى راح يوصل خالتى رضوانة ؟
التفت صباح مضيقة عينيها بريبة تقول:
- راح معاه حربي عشان يوصلها، لكن انتى عرفيتها كيف يا مصيبة انتى؟
تبسمت بلؤم تجيبها بمرواغة:
- نصيبة ليه بس يا عمتى؟ دى حتى بتها اللى كانت صاحبة اختى بطة، و هى اللى اتجوزت عندينا هنا في البلد وصاحبة المشكلة اللي جات لجدي عشانها والدتها، فيها حاجة دي يا عمتى؟
اردفت سؤالها الاَخير بخبث صريح، وردت لها الأخرى:
- يعنى انتى معارفاش فيه ايه ؟!
هزت رأسها بالنفي تقول ببراءة:
- وانا هعرف منين بس يا عمتى، لو في حاجة زي انتي ما بتجولي.
صمت صباح تطالعها بشك وعدم تصديق:
❈-❈-❈
اوعوا تكونوا اكلتوا من غيرى .
هتف بها حربي وهو يعدو بخطواته السريعة لداخل المنزل بعد عودته من الخارج، ردت عمته صباح :
- لا يا ولدى، دا احنا يدوبك بنجول بسم الله الرحيم .
جدم اسحب لك كرسى عشان تاكل معانا.
خاطبه والده بنبرة حانقة:
- وانت كنت فين يا محروس عشان متحصلش الصلاه معانا، وتيجي كمان ع الوكل متأخر؟
اجابه حربي بعدم تركيز وهو يتناول الطعام بشراهة بعد أن جلس وانضم إليهم:
- كنت فى مشوار يا بوى .
- مشوار ايه يا حيلتها اللى يخليك ما تحصلش صلاة الجمعة؟
قالها بتوبيخ، لترد صباح مخاطبة له بضيق:
- وه يا محسن، انا اللى بعته يوصل عمته رضوانة.
سألها محسن بعدم فهم:
- رضوانة مين؟
هذه المرة كان الرد من هدية التي هتفت وأنظارها نحو ياسين:
- رضوانة يا محسن، معرفش رضوانة اللى كانت مرة عمي ياسين زمان.
تدخل رائف يسأل بفضول:
- صح يا جد انت اجوزت حد تانى غير ستى نحمدو؟
وتدخل مدحت أيضًا:
- معقول! الكلام دا صح يا جد؟ يعنى اللى شوفتها النهارده كانت مرتك؟
رفع رأسهِ إليهم ياسين بعد فترة من الصمت بوجه عابس، وصوت خلى من مرحه الدائم:
- فضوها كلام خلونا ناكل وانت يا حربى بعد ما تخلص وكل حصلنى على اؤضتى .
صمتوا جميعهم مجبرين، فقد كانت هيئة ياسين غير مشجعة على الإطلاق لفتح أي حديث، بالإضافة إلى هذا الشرود في تناول الطعام، والذي لم يستمر سوى لحظات معدودة، قبل ان ينهض عنه وأكد مرة أخرى على حربي لضرورة اللحاق به.
عقب مغادرته، اشتعلت الاسئلة الفضولية والهمهمات واللمزات عن المرأة الغامضة والتي ظهرت الاَن في هذا الوقت بعد طول غياب،
فقال عبد الحميد:
- ودى إيه اللى جابها؟ دى بجالها عمر طويل محدش شافها !
ردت صباح :
- كانت جاية فى موضوع كده عشان بتها الزمجانة وجوزها اللى ضربها.
خرج عاصم عن صمته هو الاخر:
- يا جماعة حد يفهمنى، دى كانت جبل ستى نحمدو، ولا بعدها؟
اجابت والدته:
- دي اتجوزها على ستك نحمدو سنتين وطلجها .
سألتها بدور:
- طب هي ستى، كانت ساعتها مخلفة عيال؟
اجابها عن السؤال والدها:
- ايوه يا بتى، دي كانت مخلفانا كلنا كمان، بس دا بعد ماطلج ستك الطلجة الأولانية
- أولانية! وه، دي على كده ستى اتطلجت اكتر من مرة ؟
قالها رائف بعدم استيعاب وجاءه الرد من عمه محسن:
- مرتين يا ولدي، كان يطلجها ويردها تانى عشان خاطرنا احنا عياله، اصل جدكم كان طبعه حامى فى شبابه، لكن طول عمره حنين مع عياله.
رفع رأسه حربي إليهم باستدراك يقول وهو يلوك الطعام بفمه:
- بجى على كده المرة الحلوة دى كانت مرة جدى، وانا اجول، إيه سبب الاهتمام دا من جدي؟
تنهيدة كبيرة اخرجتها صباح لتقول مقررة:
- هي فعلًا حلوة، وجدك لحد دلوك مش ناسيها .
قال مدحت وقد تركزت انظاره نحو نهال
- يبجى كان بيحبها يا عمتى، دا حتى شكله اتغير لما جبنا سيرتها.
-❈-❈-❈
ادخل .
هتف بها ياسين نحو حربي والذي كان يطرق على باب غرفته، بناءًا على طلبه، دخل المذكور ليجد جده متكئًا بنصف نومه على الاَريكة الخشبية الصغيرة في الجانب القريب من باب الغرفة، يتلاعب في سبحته، بوجوم، فتكلم حربي يسأله:
إنت كنت عايزنى فى ايه يا جدى؟
اعتدل ياسين بجذعه ليقول:
- ايوة تعالي اجعد جمبي هنا، احكيلى عن كل اللى شوفته بالظبط عند عمتك رضوانة اللي وصلتها من شوية.
جلس مذعنًا لطلبه حربي، ورد يجيبه رغم حالة الدهشة التي اكتنفته، من السؤال:
- شوف يا جدى، انا بعد ما وصلتها، أصرت عليا ادخل اشرب شاى عندها في البيت، ما كنتش عايز بصراحة بس فى الاخر دخلت عشان ما تزعلش منى وتفتكرنى بتكبر عليها، وشوفت بيتهم يا جدي، باين قوى انهم ناس على كد حالهم .
سأله ياسين:
- مين اللى طلعلك من الرجال؟
مصمص حربي بشفتيه يجيبه بعدم رضا:
- ما فيش يا سيدى غير واد بتها اللى يدوبك ١٥ سنة، اظاهر كدة ان كل خلفتها بنات .
- وانت شوفت حد من بناتها ؟
سأله ليجيب الاَخر على الفور بلهفة:
- ايوه يا جدى بتها نسمة اللى كانت متجوزة عندينا هنا، صاحبة الموضوع اللي كلمتك فيه الولية امها، هى اللى دخلتنا الشاى، بس ايه يا جدى، بت تجول للجمر جوم وانا اجعد مطرحك، انا مش عارف كيف البت الحلوه دى تتجوز الواد الطحان العفش ده، لا وكمان هو اللي بيجلع عليها من خيبته!
عادت إلى ياسين النبرة المرحة في مخاطبته:
- دا انت بصيت على البنيه واتحججت كمان من وشها، يا بن الفطروس .
ضحك حربي يقول بحرج:
- وه يا جد مش سلمت عليا وكلمتني كمان، ساعة ما أمها جدمتني ليها؟ على العموم هى شبه والدتها.
أومأ ياسين يهز رأسه بتفهم وشرود، حتى هم حربي في الاستئذان والإنصراف، ولكن الأخر فاجئه بقوله:
- طب حكيلى تانى بجى، ليكون فى حاجة ناسيها.
ردد خلفه حربي بعدم تصديق:
- تانى يا جدى !
-❈-❈-❈
بعد تناول الغذاء
تفرق الأفراد كالعادة، راجح وأشقاءه الرجال صعدوا ليرتشفوا الشاي في ضوء الشمس، بعادة نشأو عليها منذ أن كانوا أطفالًا صغار في منزلهم هذا الذي ترعرعوا فيه، أما الزوجات، فقد ذهبوا مع صباح إلى المطبخ، لمساعدتها في الجلي والتنظيف قبل الذهاب ، الشباب والفتيات وقد تجمعوا هذه المرة في مكان واحد، في حديقة المنزل، للتحقيق مع نهال في هذا الموضوع الجديد
- جولى واعترفى يا سهونة ان هو دا السر اللى كان بينك وبين جدك .
هتف بها رائف وكان رد الأخرى
-،لاه مش جايلة، ومش هاريحكم .
قالت بدور:
- سيبك منها يا واد عمي، البت دي لو جعدتوا للصبح في السؤال معاها، برضوا، مش هتجول دى انا عرفاها .
اضافت على قولها نيرة:
- انتى هتجوليلى، دى استاذه فى اللوع .
صاحت بها نهال غاضبة:
- لمى نفسك يا نيرة، انا مش عايزة اتعصب عليكي.
رددت الأخيرة بتحدي:
- ليه يا حبيبتى؟ شايفانى مبعثرة ولا شايفاني مبعثرة؟
هتف عاصم بحزم نحو الاثنتين:
- خلاص بجى يا بنات انتو هتشبطوا فى بعض، فضوها بجى من الموضوع ده.
صاح رائف يعترض بمكر:
- ما تسيبهم يا عم خلينا نشوف مين اللى هتفوز فيهم .
- ماخلاص بجى فوضوها دا مش موضوع اللى هيخلينا نخسر بعض .
هدر بها مدحت بضيق ليصمت الجميع، فقد كان هذا الأمر اخر اهتمامه، ولا يعجبه هذا التجمع حولها، وهذه الأسئلة المكررة بملل، وهو يريد الأنفراد بها والتحدث معها.
- عقب رائف على قوله بخبث:
-، نخسر بعض! لا مش لدرجادى يعنى يا عم الدكتور . احنا ولاد عم، نشد ونرخى وفى الاخر نتصالح ونفضل حبايب.
غمغم مدحت بصوت خفيض حانقًا من سماجة شقيقه والإصرار على استفزازه:
- ابو دمك يا شيخ، عيل بارد .
ضحك عاصم بصوت عالي وقد فهم على مدحت، وبنفس الوقت انتبه على افعال الاَخر المناكفة بقصد، فتدخل قائلًا:
- بجولك إيه يا رائف، إنت متعرفش إن الفرسة الكبيرة جابت مهر صغير يشبه الحصان العالى .
هتفت بدور مهللة بفرح وحماس:
- ولدت مهر صغير، إنت بتتكلم جد يا عاصم؟
ضجك الاَخير يطالعها بقلب يقفز فرحًا بين أضلعه، وقد خاطبته أمام الجميع بإسمه، وتخلت عن تحفظها، لتسأله بتباسط وفرح طفلة صغيرة، فخرج رده بابتسامة اشرقت ملامحه وزينت ثغره:
- صح يا بدور، صغير وحلو جوي كمان، يشبه الحصان العالي ابوه.
ضحك رائف ضاربًا كفًا بالاَخر يردد :
- انتى فينك يا حربى يا واد عمى؟
تجاهله عاصم وكتم ابتسامته، أما نيرة ف قالت بلهفة:
- يا عم احنا مالنا بحربى دلوك، خلينا فى المهر الصغير ، انا جايمة اروح اشوفه .
قالتها ونهضت على الفور، تبعها عاصم وبدور وحتى رائف لم يستطع منع نفسه من رؤية الحدث الجديد.
همت نهال أن تنهض أيضًا ولكنها تفاجأت بيــ د
قوية تطبق على كف يــ دها التي كانت تتناول الهاتف من جوارها ع الاَريكة الخشبية، طالعته باستفهام، ولكنه وجه لها نظرة محذرة كي تصمت، ارتبكت بإجفال تنتظر حتى ابتعد اولاد أعمامها مع شقيقتها لتسأله بعدم فهم:
- إيه فى حاجة؟
تبسم ببهجة تغمره مجبرًا نفسه لرفع كفه عن كفها، وهو يقول:
- لأ مفيش حاجة يا ستي، أنا بس عايز اجعد مع بعض لوحدينا شوية.
قالت باضطراب وابتسامة متوترة:
- والنعمة خضيتنى، وافتكرت فى حاجة.
- سلامتك من الخضة يا جمر .
قالها مدحت لتصعق متفاجئة بكلمات الغزل التي جعلتها تردف بخجل تحاول أن تخفيه بمزاحها:
- انت كمان بتعاكس يا دكتور؟
رد يشاكسها محدقًا بها بنظرات تزيد على خلجلها:
- ومعاكش ولا اقول كلام حلو ليه؟ دا انا ابجى راجل معنديش نظر وغبي، دا انت عنيكي بس يتكتب فيها قصائد .
ضخات قوية، بأصوات تشبه الطبول لهذا الصغير داخل
صــ درها، لا تصدق ولا تستوعب أن يأتي هذا اليوم وتسمع منه هو هذه الكلمات بهذه المشاعر التي تصدر مع حرف منه، ضاع التعبير منها وضاعت هي أيضًا، فلم تتمكن سوى بالتهرب، بأن أسبلت أهدابها لتهبط بأنظارها للأسفل، فهتف هو يجفلها:
- ارفعي عنيكي يا بنتي، هو انا بكلمك عشان تهربي بيهم، دا انا ما صدجت الحوش اللي معانا مشيو، خصوصًا الواد رائف البارد.
سمعت منه لتضحك بمرح وتقول:
- اقسم بالله دي اول اعرف شخصيتك دي، طول عمري شايفاك الدكتور الراسي العاجل
رد يلوح لها بكفه:
- عجل مين يا ماما؟ الكلام ده كان زمان، جبل ما اشوفك بعد ما كبرتي وبجيتي كدة.
بابتسامة ارتسمت على ملامح وجهها بشدة سألته بفضول:
- بجيت كده ازاى يعنى؟
مال برأسه يطالعها بسحر نظراته، ليقول:
- شوفي يا ستي، اللي اجدر اقولهلك دلوقتي وتبجي متأكدة منه، هو اني اللحظة اللي شوفتك فيها هنا في بيت جدي بعد السنين الطويلة دي، جولت هي دي!....
همت ان تقاطعه ولكن هو كان الأسبق:
- عارفك هتجولي كنت جاي عشان خطوبة اختي، بس انا برضو هرجع واجولك ان دا هو اللي حسيت بيه، ويشهد ربنا إني ما بكذب في حرف.
ظلت لعدة لحظات تطالعه صامتة قبل أن يفتر ثغرها بابتسامة كانت تتوسع تدريجيًا حتى اردفت بمرح،:
- يالهوى عليا وعلى سنيني، طب انا ارد اجول إيه دلوك؟
رد يجيبها بحزم:
- يا ستي متفكريش ولا تتعبي نفسك، انتى ردى عليا بالكلمة اللي مستنيها وبس.
- كلمة ايه؟
صدرت فجأة بالقرب منهما، ليجدا أمامهم حربي واقفًا يناظرهم بوجوم وتجهم.
زفر مدحت غاضبَا يقول:
- مش تجول السلام عليكم الاول يا حربى، جبل ما تخض الناس وتتدخل في كلامهم.
رد حربي مقارعًا:
- اتخضيتوا! ليه بجى ان شاء الله؟ شوفتوني عفريت جدامكم مثلًا؟
هدر مدحت غاضبًا:
- عايز ايه يا حربى؟
- يعني هعوز إيه؟
قالها بنبرة بطيئة مريبة، اصابت نهال بالتوتر بالإضافة إلى هذه النظرات الغير مريحة منه وهو يتابع:
- انا بس مستغرب جعدتكم... وبجية الشعب مش موجود!
صك على فكيه مدحت يكظم غيظه حتى لا ينفعل ويهشم رأسهِ، بعد أن وصله التلميح الصريح منه، وردد خلفه مشددًا على الكلمات:
- بجية الشعب راحوا يشوفوا المهر الجديد.
تنهد حربي بوجه ممتعض، قبل أن يقول وهو يحرك اقدامه
- انا كمان هروح احصلهم، متزعش نفسك يا عم الدكتور، سلام .
تكلمت نهال فور مغادرته بوجه انسحبت منه الدماء:
- حربي شكله ميريحش، انا خوفت منه.
قال مدحت بحزم:
- وانتي تخافي ليه؟ ولا تجلجلي اساسًا منه؟ إدينى كلمة منك اروح لجدى وعمى دلوك ونتمم الموضوع.
ابتلعت ريقها ولم تدري بما تجيبه، وزاد هو بإلحاحه:
- ها ايه رايك؟
❈-❈-❈
في الأسطبل وبجوار المهر الصغير التي كان يقف بالقرب من والدتها:
هتف عاصم ضاحكًا:
- يا بت نزلى كفك زين وانتي بتلمسي عليه، هو هيعوضك؟
ردت بدور وهي ترتد للخلف كلما اقترب منها الصغير:
- لا يا بوي انا خايفة.
اقترب عاصم بالصغير يشاكسها بمرح:
- طب جربي بس ع الخفيف كدة وخليه ياخد عليكي، دا غلبان والله.
تدخل رائف قائلًا:
، ما خلاص يا عم عاصم، بلا تاخد بلا تنيل، سيبها على حالها كدة، دي بت خايبة.
تغضن وجه بدور لترد عليه بغضب وانفعال:
- احترم نفسك يا رائف ومتغلطش، مالك انت ان كنت خايبة ولا ناصحة، انت مالك ها؟
ردد عاصم خلفها متصنعًا الغضب:
- ايوه صح يا زفت انت، بطل برود وغلاسة واسمع الكلام،
التقطها رائف ليصيح مهللًا يردد:
- اسمع الكلام يا عينى ع الرجالة، يا عيني ع الرجالة
تبسم عاصم صامتًا، يخطف نظراته بطرف عينيه نحو بدور التي تخضبت وجنتيها بحمرة الخجل، وهي تدعي الغضب، متمتمة بكلماتها الساخطة:
- يا باي عليك يا رائف، دا انت صح والنعمة غلس ورزل كمان.
تدخلت نيرة بعد فترة طويلة من المتابعة:
- ما هو عندو حج صراحة يتريج عليكي، بجالك ساعة معرفاش تلمسى بكفك ع الحصان الصغير ده.
هتفت بها بدور حانقة:
- ما انا بصراحة بخاف من الحاجات الصغيره
دى، باه، حتى انتي كمان يا نيرة؟
ضيق عاصم عينيه بخبث قبل ان يفاجئها ويتناول كفها قائلًا:
- بتخافى من الحاجات الصغيرة، طيب تعالى نجرب مع الحصان العالى .
قالها وهو يحاول سحبها نحوه، وصرخت هي بزعر متشبثة بالحاجز الخشبي خلفها باليــ د الأخرى:
- لا يا عاصم لا، سيب يدي حن عليك.
تدخل رائف بسماجة يغيظها
- ايوه والنبى يا عاصم جربها من الحصان، اصل البت دى شلانى صراحة.
قهقه عاصم وقبضته ارتخت لا يريد تخويفها اكثر، ولكنها لم تقتنع وهي تصرخ نحو نيرة:
- ما تحوشي عني يا جزينة انتي، الاتنين بيتسلو عليا وانتي ساكتة؟
ضحكت نيرة هي الأخرى تقول بتسلية:
- يا حبيبتى ما انتى اللى خايفة من المهر الصغير، نعملك ايه بس؟
عقد حاجبيه عاصم يدعي الجدية في قوله:
- يا بت هو انا هرميكى له عشان ياكلك، دا انا بس هخليه ياخد عليكى، تعالى بس متخافيش .
اعترضت تحرك رأسها برفض قائلة
- لا يا عم، احسن يرفسنى ولا يكسر لى ضلع انا مش ناجصة.
- يا بت انا معاكى يعنى متخافيش .
قالها عاصم ليتفاجأ بمن يردد خلفه بصوت عالي:
- ما تروحى معاه يا بدور خايفة ليه؟
قالها حربى والتفت رؤس الاربعة نحوه، فقد كان مستندًا على باب الاسطبل.
ارتبكت بدور بخضة، وتحفز عاصم بعد ان تركها واشتدت ملامحه وهو يناظر الاَخر بتحدي، أما رائف فقد تصرف على طبيعته وقال ضاحكًا:
- إنت جيت يا غالى؟
رد حربي ساخرًا بقصد:
- ايوه يا حبيبى، انا جيت من اول الفيلم .
هدر عاصم بغضب
- فيلم إيه؟ ما تنجى كلامك يا حربي، بدل ما تهلفط بكلام ماسخ مالوش معنى.
اعتدل حربي في وقفته ليقول:
- يعنى هجول ايه بس يا واد عمى؟ وانا شايف المشهد ده مرتين ورا بعض .
- إنت تجصد مين؟
سأله رائف ورد الاَخر:
- جصدى ع الدكتور والدكتورة....
قاطعته بدور بغضبها:
- بجولك ايه يا حربى، احترم نفسك وبطل تلجح بالكلام .
خاطبها عاصم بانفعال:
- سيبيه يا بدور خليه يغلط، عشان لما يدفع تمن غلطه يعرف ان الله حق.
-' وانا لسه هستني لما اعرف، انا ماشى يا عم وسيبهالكم .
قالها حربي وهو ينفض جلبابه ليستدير مغادرًا على الفور، تبعه رائف حتى يلحق به هاتفًا :
- استنى يا حربى انا جاى معاك .
قالت نيرة عقب انصراف الاثنين:
- دا ماله دا اجن ولا إيه؟
توقف عاصم يتبادل مع بدور النظر بصمت.
صامتة، هادئة، بتفكير عميق ومشتت، تنظر حولها في جمبع الانحاء إلا عنه، فعيناه المصوبة نحوها تزيد من قلقها وتوترها، لا تدري بما تجيب عن طلبه المباغت لها.
- ها يا نهال، جولتي إيه؟
قالها للمرة الثانية او الثالثة لا يتذكر، فهو يتحرق لسماع إجابة منها تريح قلبه المعذب، يعلم أنه متسرع في طلبه منها، وربما هذا ما يجعلها بهذه الحيرة أمامه، ولكن هل كان بيده حيلة غير ذلك، يريدها، يريدها بحق، وهي حقه، ابنة عمه وهو الأولى بها، ولكن تكون لأحد غيره، إذن لماذا التأخير او حتى التفكير ؟
- وبعدين يا نهال، كل ده تفكير؟
قالها لترفع رأسها إليه، قائلة بانفعال:
- أمال عايزني اعمل إيه يعني، إنت خضيتني بطلبك المفاجيء ده، وانا بصراحة مش عارفة ارد واجولك إيه؟
- جولي اه
قالها اَمرًا بإلحاح جعلها تزم شفتيها عن ابتسامة ملحة، ولم تدري بما ترد، فهذا التعجل يربكها كما يربكها هو ايضًا بإلحاحه:
- رجعنا تانى للسكوت .
قالها ليزيد عليها، فهتفت به سائلة:
- أنت مش جولت هستناكى تقررى بنفسك؟ إيه لازمة الاستعجال بجى في طلبك؟ لا وعايز كمان دلوقتي حالا ارد عليك؟
أجاب ببساطة يُزهلها:
- كنت عيل يا ستي، ودلوك مش جادر اصبر تانى . ريحينى بجى يا بت عمى.
ضحكت بدون صوت، وقد تبين لها الاَن أن ابن عمها الطبيب الكبير، ما هو إلا طفل في هيئة رجل كبير، إذا أراد شيئًا بشدة نسى مركزه وهيبته في الإلحاح برجاء وربما انفعال من اجل تحقيق رغبته، وكم أسعدها ذلك أن تكون هي رغبته.
زام بصوت نزق بجوارها، يقول:
- يا بت الناس ريحيني بجى، إنت أساسًا ملكيش سكة ولا أي فرصة مع حد غيري، عشان تبجى عارفة.
قال الاَخيرة بوجه مشتد بدا عليه التصميم بعنف، تبتسم دون اردتها، حتى اطرقت برأسها تقول باستسلام:
- تمام خلاص.
ردد خلفها لعصبية :
- خلاص إيه بالظبط؟ وضحي
زفرت بضيق حقيقي، فهي بالكاد استطاعت أن تتفوه ل
بها، لماذا يصعب عليها هذا الأمر؟
- امممم
زام بها بصوته بجوارها، لترفع رأسها إليها قائلة بغيظ:
- ما خلاص يا عم جولت موافجة، فاضل إيه تاني؟
سمع منها وتبسم بعرض وجهه حتى ظهرت اسنانه، يردد بفرحة وعدم تصديق:
- إيه؟ سمعينى تانى كده ليكون سمعت غلط، سمعيني.
- لاه مش جايلة.
قالتها بتمرد وغيظ انساها خجلها، لتجعل السعادة تتراقص بقلبه، ليجلجل بضحكات عالية ساهمت في ازدياد اشتعالها، ف انتفضت بعدم احتمال مرددة:
-  طب ماشى خليك اضحك انت هنا وانا جايمة.
تماسك ليوقفها فجأة بأن جذبها من كفها ليعيدها للجلوس مرة أخرى قائلًا:
- إستنى هنا رايحة فين؟ هو انتى زعلتى؟
عبست بوجهها تجيبه:
- لا مزعلتش بس انا هموت واشوف المهر الجديد.
شاكسها مدحت يقول:
- يعني مش مكسوفة وعايزة تهربي مني يا نهال؟
هنا قد فاض بها لتهتف بعصبية وهي تنهض منتفضة:
- يا بوى، انا مكنتش اعرف انك غلس كدة.
جلجل بضحكاته مرة أخرى وهو يتبعها:
- طب استني يا مجنونة، دا مش،طريق البيت .
- انا مش رايحة بيت جدي، انا رايحة اشوف المهر.
قالتها وهي تسرع بخطواتها أمامه، ولكنها تفاجأت به يتصدر أمامها فجأة يوقفها قائلًا:
- طب حاجة اخيرة عايز اعرفها منك، وبعدها هروح معاكي نشوف المهر الجديد . بس استنى هنا.
ناظرته بتساؤل صامتة فتابع لها:
- إنتى عرفتى منين حكاية جدك و الست رضوانة دي مراته الجديمة؟
اومأت برأسها وهي تتحرح بقدميها من جوارها تقول:
- هجولك، بس واحنا ماشين؟
وافق ليسير بجوارها يرافقها في طريقهم إلى الاسطبل:
وقالت هي:
- الموضوع ده انا عرفته بالصدفة، ومن غير ما حد يقولي كمان.
- ازاى يعنى مش فاهم؟
سألها بتفسير لتجيبه:
- يعنى كدة فى مرة كان جدى عندنا ونسى محفظته، لجيتها انا ع الكنبة بعد ما مشي، الطبيعي طبعًا كنت هنده على امي او ابويا اديها لحد فيهم، بس انا بجى خدتني الحماسى وقررت اجري وراه واحصله بيها، بس اللي حصل بجى هي انها وجعت مني على عتبة البيت بعد ما طلعت واتفتحت جدامي، فظهرت فيها صورة قديمه لواحده ست فيها، انا استغربت انى معرفتهاش، والفضول خلاني ارجع بيها لابويا واخليه يشوفها وهو طبعًا عرفها وجال على صفتها، ساعتها بجى أنا فهمتها لوحدى وبجيت الاعب جدى بعد ما شوفتها على الحجيجة وعرفتها .. ما هو مش معجولة يعني واحد هيحتفظ بصورة طليجته العمر دا كله الا اذا كان بيحبها؟
تبسم مدحت باستغراب يسألها:
- معقول! دي تعتبر غريبة عنه بعد ما طلجها، بس إنه يحتفظ بصورتها...... هو لدرجادى يعنى جدى كان بيحبها؟
قالت نهال وهي تتنهد بابتسامة متوسعة:
- يوووه امال لما تشوف لهفته على اى خبر عنها دا بيبجى زى العيل الصغير .
قطب جبينه وضاقت عينيه بتفكير سريع ليقول بتأثر:
- بس دا كده معانه انه اتعذب ببعاده عنها يا نهال، انتي مش واخدة بالك منها دي؟
ذهبت عن ملامحها العبث لتقول بجدية:
- تصدج اول مرة اخد بالى منها فعلا، انا دايما باخدها هزار مع جدى .
تابع سيره مدحت وخرجت منه تنهيدة طويلة يقول:
- عشان صغيرة ولسه مجربتيش.
- مجربتش!.... يمكن !
قالتها لتكمل طريقها معه، والعبارة تتكرر برأسها دون توقف.
استنى اجف يا بني آدم انت، جطعت نفسي
هتف بها رائف حينما تمكن اَخيرًا من اللحاق بحربي الذي كان يعدو بخطوات سريعة غاضبة تماثل الركض، وتصدر له يوقفه:
- ما توجف بجى، خبر ايه؟ هو انت جطر؟
زمجر الاَخر بأعين يعميها الغضب صائحًا:
- نعم يا سي رائف؟ عايزه انت كمان؟ وبتوجفني ولا تحصلني ليه من أساسه؟
اشار له الاَخير يحدثه بمهادنة
طب براحة شوية وفهمني، انتي إيه اللي مزعلك؟
- يعنى انت مش عارف زعلان ليه؟ ولا بتستعبط وفاكرني مش فاهم؟
قالها بعنف جعل رائف يرتد بأقدامه للخلف قليلًا قبل أن يعود لمخاطبته بهدوء:
- ماشى انا فهمتك يا سيدي، بس متزعلش مني يعنى هى الدنيا وجفت على بدور؟
تكتف الاخر ليواجهه بقوله:
- لا هى ما وجفتش على بدور  يا واد عمي، هى وجفت عند انا . 
- تجصد ايه؟ انا مش فاهم.
سأله رائف باستفسار، تلقفه الاخر يهتف به:
- يا راجل، طب روح حصل اخوك جبل ما يكتب كتابه على بت عمه التانية، ما هو كل واحد فيهم حجزلوا واحدة.
صمت برهبة ليتابع بانفعال إكبر:
- يعنى هو خلاص، اخوك الدكتور كان جاعد مستنى نهال تكبر عشان يفتكر الجواز؟
على الرغم من عدم تقبل رائف لهذا الأمر، ولكنه لم يقوى على كبت اعتراضه وقال:
- بصراحة بجى انا مش فاهمك يا حربي، هو انت عايز الاختين يعني؟ إن مكانتش نهال تبجى بدور او العكس، دا كدة يبجى انت عايز واحدة حلوة وخلاص من بنات نعمات.
سمع منه الأخر واحتدت عينيه بنظرة مشتعلة يردد:
- جصدك انى معنديش شخصيه يا رائف، انت كد كلامك ده؟
تراجع الاَخير تقديرًا لغضب ابن عمه ومكانته الخاصة في قلبه، فقال يخاطبه بلهجة لينة بنصح:
- انا مش جصدى اهينك خالص على فكرة، انا بس عايزك تبص حواليك .الدنيا مليانه بنته حلوة يا واد عمي، يعني ما وجفتش  على بنات نعمات يعنى، دا غير انك مكبر الموضوع ومفيش حاجة تمت من اللى فى مخك اساساً يا حربى .
بشبه ابتسامة لم تصل لعينيه قال حربي ساخرًا:
- لا يا رائف، انا مش مكبر الموضوع وانت عارف و شايف نظراتهم لبعض، بس يمكن مش فاهم او لسة مخدتش بالك، بس مش هستنى حد تانى.
سأله رائف:
- يعنى هتعمل ايه؟
- هتعرف بعد يا عم رائف، ما هو مفيش حاجة بتسخبى..... سلام بجى .
قالها وتحرك على الفور تاركًا رائف متسمرًا محله، لمتابعة انصرافه متمتمًا من خلفه:
-  وعليكم السلام.
❈-❈-❈
وعودة إلى الاسطبل.
وقد توقفت نهال أمام المهر الصغير تلامسه بفرحة شديدة ومدحت بجوارها يشاركها ما تشعر به ولكن من جهة أخرى حيث كان مع عاصم الذي كان قص عليه ما حدث منذ قليل وما تفوه به حربي من كلمات في حقه وحق نهال، وقال يسأله:
- طب وهو راح فين دلوك؟
اجابه عاصم:
- طلع غضبان وراح وراه اخوك رائف عشان يحصله ويراضيه.
أومأ مدحت وطرف إبهامه يتلاعب على عظام فكه بتفكير، ليقول:
- خلاص مش مهم وسيبك منه، انا النهاردة هكلم ابويا وجدى وان شاء الله الجمعة الجاية بعد موافجة عمى تبجى الخطوبة .
ردد خلفه عاصم بإعجاب اختلط بذهوله:
- وه، النهاردة النهاردة! دا انت على كدة خدت موافجتها بجى.
ضحك الآخر يجيبه بثقة متفكهًا:
- والبركه فى حربى اللى جطع علينا المشهد .
ضحك عاصم يضرب كفًا بالاَخر يعقب:
- يعني هو كان صادج على كدة فى حكاية الفيلم، طب والله تستاهل ان اضربلك تعظيم سلام، ما شاء الله عليك ما بتضعيش وجت، مع اني دمي اتحرق وقت ما سمعت كلامه لما جال انه فيلم.
قال مدحت بغضب:
- فيلم فى عينه، انا لولا بس فرحان دلوك لا كنت طلعت عينه ع الكلام ده.
-  ربنا يفرحك يا واد عمى .
قالها عاصم من القلب، لتصل مدحت الذي قال محفزًا له:
-  شد حيلك انت كمان، انا شايف ان  البت ميلالك .
تنهد عاصم بتمني يقول:
- يا ريت، دا انا عايز النهاردة جبل بكرة، بس للأسف خايف من جدى ليعجد الموضوع عشان حربى، والكلام الاولاني بتاع انها متاخدتش حد من العيلة .
تفكر مدحت ليقول مشجعًا:
- انا هكلم جدى وان شاء الله فرحتنا احنا الاتنين تبجى فى ليله واحدة.
رفع عاصم كفيه للسماء مرددًا:
- ياارب، يارب يسمع منك
❈-❈-❈
- عجبك المهر؟
قالها مدحت مخاطبًا نهال، بعد ان انهي وقفته مع عاصم، لترد هي بعشق، وكفيها تلامس الغرة الأمامية القصيرة للحصان الصغير، وعظام وجهه المنحوته بأبداع الخالق:
- عاجبني وبس! دا انا بموت فيهم .
سألها بفضول وكفه هو الاخر تلامس الظهر ليعرف قوته:
- بتحبي الصغيرين بس؟ ولا الأحصنة عمومًا؟
تدخلت بدور تجيب عن سؤاله:
- والكبيره كمان، وياما حاولت تركب وتجري بيهم، خصوصًا مع الفرسة الكبيرة.
اضافت نيرة على قولها:
- ايوه صح دى، ما وجفهاش عن المحاولات، غير الوجعة الكبيرة اللي اتكسرت فيها رجليها.
التف إليها مدحت سائلًا مرة أخرى:
- يعني بتحبي ركوب الخيل ونفسك تبجي خيالة كمان.
اجابته بابتسامة متوسعة تهز رأسها، فرد يجيبها بجرأة اجفلت الجميع:
- من عيوني الجوز حاضر، اتجوزك بس واعلمك ركوب الخيل على اصوله .
صعقت بمفاجأة جعلت عينيها تبرق بعدم تصديق، امام شهقات الفتاتين بدور ونيرة، أما عاصم فظل يضحك مذهولا بجرأة ابن عمه وسرعته في الإنجاز
1
❈-❈-❈
في اليوم التالي .
- نهال .. نهال .. اصحى يا بت .
هتفت بها بدور بنزق وهي توقظها في نومتها، حتى استفاقت الأخرى لتقول مفزوعة:
- اييه فى ايه ؟.... حد يصحى حد كدة يا زفتة انتي؟
القت بدور بالهاتف بجوار رأسها لتهتف بتذمر:
- واعملك ايه يعنى؟ وانتى ولا كأنك ميتة حتى، مش سامعه تليفونك ده اللى مش مبطل رن، لما صدعني.
استفاقت تعتدل بجزعها لتقول بضيق:ا
- فين الإتصال؟ انا مش سامعة رن ولا حاجة؟
صاحت بدور وهي تضبط في حجابها أمام المراَة:
- الرنه خلصت يا ختى، دا انا بجالى ساعة بصحى فيكى.
قطبت نهال وعبس وجهها مع اثر النعاس، لتفتح الهاتف وتنظر به، ف عقبت بدور :
- شوفي يا ختي وطمني جلبك على حبيب الجلب اللي مش صابر على ما تصحي ده.
تطلعت نهال في سجل المكالمات لترفع رأسها وتقول بذهول
- إيه ده؟ دا رن اكتر من ٧ مرات، ليه دا كله؟...
وقبل ان تكمل اهتز الهاتف بالاتصال مرة أخرى، فقالت مجفلة:
- يا لهوى دا بيرن تانى.
ضحكت بدور وهي تتناول حقيبتها المدرسية لتعلقها على كتفها قائلة:
- طب والنعمة انا عمري ما كنت أتصور إن واد عمى الدكتور بالجنان ده؟ ردى يا ختى ردى وخدي راحتك، أنا ماشية على مدرستي وسيبهالك خالص.
❈-❈-❈
انتظرت شقيقتها تخرج قبل ان تجيب اتصاله:
- الوو.. صباح الخير.
هتف إليها من الجهة الأخرى بانفعال:
- اخيرا رديتى يا نهال، وانا اللى بجالى ساعه برن عليكى .
ردت تمتص غضبه بهدوءها:
-طب جول صباح الخير الاول، دا انا يدوبك جايمة صاحية ع الرنة بتاعتك وبرد عليك اها.
لهجتها الرقيقة جعلته يتحول على الفور، ليقول متغزلًا؛
- صباح الهنا والجمال كله، يعني توك ماصاحيه يا قلبى؟ بجى هى دى مواعيد الدكاتره برضو؟
ردت تجيبه بابتسامة مشرقة، وقد أسعدها قوله:
- ما انا معنديس دراسة طيب اصحى بدرى ليه بس،
جاءها رده:
- ياما كان نفسى اجضى اليوم دا معاكى، بس اعمل إيه بجى فى العيادة والعيانين؟
- ربنا يعينك يارب.
قالتها بعفوية لم تحسب حساب ما خلفها بعد أن صاح الاَخر كالمجنون:
- اه يانا ياما، انتى كنتى فين انتي من زمان بكلامك الحلو ده بس جوليلي:
ضحكت بصوت مكتوم، لتجعله يتابع مخاطبًا لها:
- ما ترد يا جميل ساكته ليه بس؟
ضغطت بأسنانها على شفتــ يها تجيبه بخجل:
- ارد اجول ايه بس؟
عقب على قولها بمرح-
- حلاوتك كدة وانتى مكسوفة، على العموم انا كلمت جدى امباح وهو اللى هيتصرف فى موضوعنا.
ظلت على صمتها غير قادرة على مجارته في هذا الموضوع، ليردف نحوها بانفعال:
- يا بت مالك سكتى ليه تانى؟
ضحكت تقول:
- ما انا مش عارفه ارد عليك بإيه طيب؟
زفر بتفهم لحالتها وقد اصبح يحفظ كل تصرف يصدر منها، وقال:
- ماشى يا نهال خلى الكلام بعدين، المهم دلوك، اول ما توصلى النهارده رنى عليا، ياما كان نفسى اخدك معايا
رددت خلفه:
- تانى كان نفسك.
هتف بصوته يجفلها:
- ايوه يا ختى كان نفسى، ونفسي فى حاجات كتيرة كمان، عايزة حاجة تاني؟ إجفلي يا بت إجفلي.
قالها وأنهى المكالمة، لتظل هي لفترة من الوقت تتطلع في الهاتف باستغراب وتغمغم:
- هو كدة من الاول مجنون ولا انا اللى ماكنتش واخده بالى؟
❈-❈-❈
-موضوعنا! دا على كده حربى مكدبش في كلامه، ولا كان بيهذي.
سمعها مدحت ليلتف نحو شقيقه الذي كان يدلف للغرفة بخطوات بطيئة ونظرات غامضة عقب قوله واضعا كفيه في جيبي بنطاله البيتي، توقف عما يفعله في لملمة متعلقاته الشخصية في حقيبته، وناظره بريبة يسأله:
- نعم عايز ايه يا رائف؟
تقبض الاَخير ليرد عن سؤاله بسؤال:
- انت صح عايز تتجوز نهال؟
أجابه مدحت على الفور ليعرف ما به:
- اه عايز اتجوز نهال في عند حضرتك مانع يا باشا؟.
قال رائف:
- لا يا سيدى ما عنديش مانع، بس سؤال يعنى، هو انت فعلا بتحب نهال عشان تجري كدة بسرعة وعايز تتجوزها؟
تنهد ليرد بسأم وابتسامة صفراء:
- مع انى مستغرب سؤالك وشايف إنه ميخصكش، بس اه يا سيدى بحب نهال فى عندك سؤال تانى؟
- طب و مها؟ نسيتها ؟!
قالها رائف يجفل شقيقه الذي انتفخت أوداجه واشتدت ملامحه بالغضب ليقول:
- وايه اللى جاب سيرة مها دلوك؟ انت مالك اساسًا يا رائف بالكلام ده؟
ناظره الاَخر بتحدي يردد:
- اللى جاب سيرة مها، هو انى على حسب ما سمعت انها اطلجت وعشان كده الست الوالده لما اصرت عليك المره دى تتجوز وافجت ب بدور العيلة الصغيرة عشان ماتضعفش وترجع لها .
اكمل على قوله مدحت:
- ولما جدى رفض يجوزهالى دورت عالبديل اللى هى نهال، مش دى هي وجهة نظرك يا رائف.
صمت الاَخير باعين متهربة فتابع مدحت:
- وانا اجول ليه رائف مزودها معايا؟ وحاسس بتصرفاتك الغريبة، وانا ظني انها غلاسة منك في الهزار.
قالها ليهبط بجســ ده على الفراش من خلفه بصدمة وقال الاخر مصرًا على رأيه؟
- ايه بكدب يعني؟! مش هو دا اللى حاصل فعلًا؟
بأعين يملأها العتب، ردد خلفه باستنكار:
- ايه هو اللى حاصل؟ وانت اللى بتخمن من مخك وتنسج في خيالك تحليلات، وانت مالك اساساً؟
- نهال بت عمى وتعز عليا .
قالها رائف بحمائية زادت على استفزاز الاخر، ف انتفض يلملم سلسلة مفاتيحه وأشياءه، حتى لا يرتكب جريمة مع شقيقه الاحمق، وقال على عجالة قبل ان يتناول حقيبته وسترته:
- لما تيجى تشتكيلك منى تبجى تجف معاها ضدى واعمل ما بدالك ساعتها، ماشى يا عم رائف، سلام .
قالها وانصرف مغادرًا على الفور، ف دلفت خلفه راضية التي سمعت بحديثهم بالصدفة خارج الغرفة، مخاطبة ابنها بلوم:
- ليه كدا بس يا ولدى؟ تكسر فرحة اخوك وتفكره بالقديم ليه بس ؟
قال رائف :
- ياما انا خايف ليكون لسه بيحب البت دى
و نهال بت عمى تتأذى، انا محملش عليها بصراحة.
رددت خلفه باستهجان:
- تتأذى ليه بس يا ولدى؟ انت مش شايف اخوك بجى كيف من ساعة ما شافها؟ دا رجع مدحت بتاع زمان، اللى بيضحك ويهزر وياخد ويدي معانا في الحديت ، البلد اللي مكانش بيعتبها بالشهور، دلوك مش بيستنى حتى اسبوع عشان يجيها، دا انا الجاهلة عرفت انه بيحبها وانت يا متعلم معرفتش .
قالت الأخيرة بانفعال جعله الاَخر يضحك:
- لا ياما معرفتش، باينى انا اللى جاهل مش انتى.
توقف ليغير حديثه، بعد ان شعر بخطأه:
- لكن هى البت نيره فين؟ ما شيفهاش يعني من الصبح!
ردت راضية وهي ترتب في الفراش وتلملم الملابس التي تركها ابنها الطبيب قبل خروجه:
- بايته عند اختك زهرة، عشان كانت تعبانة امبارح .. ما انت عارف حملها عفش.
- طب وهى رايجة دلوك ياما؟
- الحمد لله يا ولدى، نيره طمنتنى الصبح عليها وجالتلى انا جاية الضهر .
قال رائف بتهكم:
- يعنى على كده هى غايبة النهاردة من مدرستها، هى بت خايبة اساسا، وانا عارف من الأول إن اَخرها الجواز ، هى و بدور بت عمها .
مصمصت راضية بشفــ تيها تقول بامتعاض:
- ما هي كل البنته مسيرها للجواز، مخالفين هما يعني؟ المهم بلاش انت تزعل اخوك مرة تاني يا ولدى وسيبه بجى يعيش حياته، دا بجالوا سنين ما شاف الفرح ولا حسه. كل حياته شغل وبس.
قالت الآخيرة بلهجة مشفقة اثرت بالاَخر ليرضيها بقوله:
- حاضر ياما، مش هزعلوا تاني.
❈-❈-❈
في طريقها نحو المدرسة والذي كانت تقطعه اليوم وحيدة بدون رفيقتها الدائمة، نيرة ابنة عمها وصديقتها، كانت بدور على مقربة من الشارع الرئيسي حينما تفاجأت بمن يتصدر أمامها قبل أن تصل إليه؟
- ايه ده؟ هو انت جنيت ولا خبت؟
هدرت بها نحو الاَخر بإجفال وغضب، لتفاجأ بابتسامة سمجة منه وهو يجيب بكل هدوء:
- مش بعاده يعنى تمشى لوحدك من غير المحروسه بت عمك ؟
برقت بعينيها تصيح به:
- بعد عن طريجى يا معتصم، انا مش ناجصاك على اول الصبح .
سمع منها الاَخر ليقول بهيام غير مبالي بغضبها:
- يا بوى، حتى وانتى مكشرة ومبحلقة بعنيكى الملونه دى بتسحرينى .
ناظرته بازدراء وهمت أن تتحرك ولكنه تصدر للمرة الثانية حتى لا تتخطاه، فهتفت به رافعة سبابتها بوجهه بتهديد:
- اجصر الشر يا معتصم وبعد عن وشي، انا ناسى لو شموا خبر بس باللى بتعمله، الدنيا هتولع .
وكأنه لم يسمع، اقترب برأسهِ يسألها:
- طب جوليلى انتي الأول ليه ماحبتنيش يا بدور؟ هو انا عملت معاكى حاجة عفشة؟
- بطل كلامك البارد ده وحل عن طريجى .
قالتها وقد زاد الاحتقان بداخلها منه ومن فعله المتبجح، وهمت ان تتحرك ولكنها تراجعت على الفور ترتد بأقدامها للخلف،فور ان انتبهت لكف يــ ده التي امتدت نحوها، فصاحت بصوت قوي رغم ارتياعها:
- اقسم بالله لو لمستنى لاشندلك انت واهلك .
انفعل الاَخر وظهرت انيابه في الهتاف بها:
- فى ايه؟ الشده مش نافعه معاكى، والحنية مش نافعة، اعمل معاكى ايه بس؟ جوليلي.
خرجت الأخيرة بصوت عالي لتدب بقلبها الرعب، لقد تأكدت الاَن فقط، أنه ليس على وعيه الطبيعي، عينيه الحمراء، عدم اتزانه في الوقفة أمامها، كلها كانت شواهد تثبت لها أنه متعاطي او شارب شيئًا ما يذهب العقل، حتى يتجرأ ويفعل هكذا معها، ولكنها جاهدت حتى لا تُظهر أمامه خوفها، وعادت لتهدر به:
- بعد عنى يا معتصم احسنلك، وخليني اروح مدرستي انا مش فاضية لبرودك ده.
زاغت عيني الاَخر، وشعر بالإنتشاء حينما رأى نظرة الخوف بعينيها الجميلتين، وقال بوقاحة:
- وان مبعادتش هيحصل إيه؟
- انا اجولك هيحصل إيه ؟
صدر الصوت فجأة يجفل الإثنان، وشهقت بدور فور ان رأت مخلصها، والذي ظهر فجأة وكأنه خرج من الأرض، ليندفع فجأة وبدون مقدمات نحو معتصم، ويعتصر رقبته بذراعه التي التفت حولها، مرددًا:
- تحب اعرفك دلوكت هيحصل إيه؟
صرخ معتصم بصوت مختنق وهو يحاول بكل قوته نزع ذراع الاخر عنه
- بعد يدك عنى يا عاصم، انت نسيت انا مين ولا واد مين؟
شدد الاَخر يقول بفحيح بجوار أذنيه:
- طبعا انا عارف ان انت واد مين؟ ولسة كمان هتعرف بيك اكتر، روحى انتى ع البيت وبلاها مدرسة النهاردة.
هتف بالاَخيرة نحو بدور التي كانت تقف متخشبة وقد شلت تفكيرها المفاجأة، فخرج صوتها على الاَخير بصعوبة:
- ااا ياعاصم سيبك منه....
قاطعها بحدة وانفعال:
- بجولك روحى، يعني اسمعي الكلام وامشي عن سكات.
هنا لم تقوى على المجادلة، واستدارت على الفور عائدة لمنزلهم، وتاركه معتصم يقاوم حتى ينزع نفسه مرددًا:
- سيبنى يا عاصم، انا ورايا عزوه وبدنة يعنى لو لمستنى بس هتولع نار .
زاد من ضغطه عاصم ليقول بتسلية:
- ما انا عشان كده بجولك عايزة اتعرف عليك اكتر .. تعالى تعالى .
تفوه بالاخير وتحرك به يسحبه نحو طريق الزراعات، ليصرخ معتصم بارتياع:
- بعد عنى عاصم وسيبنى، انتى واخدنى ورايح على فين؟
صمت الاَخر ليتابع سحبه وذلك يردد بفزع يزداد مع كل خطوة يخطوها مجبرًا:
- واخدنى ورايح بيا على فين؟ ما ترد علي.
في منزل ياسين كانت الجلسة المنعقدة بينه وبين هذا المدعو عيد زو ج نسمة ابنة رضوانة، ووالده، الذي كان مطرقًا بخزي لفعل ابنه والكلمات الحادة من الأول تزيده حرجًا وخزي:
- دا برضوا كلام؟ دا برضوا فعل رجالة؟ مفيش تجدير ولا جيمة، عشان البت فردانية وملهاش كبير يوجفلك.
قال الرجل:
- مش كدة يا ابو سالم براحة شوية، الدنيا اخد وعطا واحنا برضوا مش عايزين خراب.
هتف ياسين بعصبية:
- اخد وعطا بعد اللى عملوا ولدك، كان فين الاخد والعطا ده لما ضربها ولا زمجها ودلوك مش عايز يديها حجها، ليه يا واد؟ مالهاش ضهر!
تكلم عيد مدافعًا عن نفسه:
- وانا ضربتها ليه مش لما جلت ادبها عليا، انا معنديش مرة ترد عليا، وهي لازم تعرف وتتربي.
كز ياسين على أسنانه يتميز من الغيظ في قوله مع هذا المتعجرف بغباء:
- عيب عليك الكلام ده، عشان دا يسيئك أكتر ما يسيئها، عشان انت لو حافظ مركزك صح، عمر مرتك مش هترفع عينها فيك .
احمر وجه المذكور بغضب وحرج، وكلمات ياسين تنزل فوق رأسهِ كالسياط لتلسع كبريائه الزائف، والذي لا يعرف قيمة ولا ادب، فقال باعتراض:
- وايه لزومه الغلط بس؟ ما انا ساكت اها ومحترمك احترمني انت كمان.
زجره ياسين هاتفًا:
لهو انت تجد تبجح فيا؟ ولا فاكرني انا كمان هين ليك
تدخل الرجل الكبير، ملطفًا:
- مش جصدو يا عم ياسين، بس انت كمان مش مدينا فرصه نتكلم .
التف إليه الاَخير يسألها بحسم:
- طب كلمة حق وعايز اسمعها منك، لو بتك هترضهالها ؟
صمت الرجل يبتلع ريقه ويسبل اهدابه بحرج، فقد وضعه ابنه بأخطأه المتعددة في موقف لا يحسد عليه، وعقب ياسين
- شوفت اها، أديك معرفتش ترد عليا، ودي بنية يتيمة، وانت بدل ما تجف معاها بتيجى عليها عشان ولدك.
بوجه متعرق اومأ الرجل بهز رأسهِ باستسلام:
- خلاص يا عم ياسين، احنا محجوجين خليها ترجع . على ضمانتى انا المرة دي.
رد ياسين بحزم:
- لو رضت هترجع بس بشروطها، وبعد ما اخد انا الضمان منك انت الكبير، عشان ساعتها هيبقى كلام رجال، لكن بجي لو مرضتش ودا طبعًا على حسب رأيها هجيبلها حقها منك ومن ولدك تالت ومتلت.
سمع الإثنان ليزدادا حقدًا نحو هذه النسمة التي وضعتهم في هذا الموقف مع رجل ك ياسين، الكلمة في شرعه احد من السيف واقوى من المعاهدات، لا يسمح بالتراجع فيها، فسأله والد عيد بفضول:
- طب وانت تجربلك ايه نسمة يا ابو سالم؟
- تجربلى ولا ما تجربليش انت مالك؟
هتف بها ياسين ليُخرس الرجل الكبير ووالده هذا المدعو، عيد
❈-❈-❈
في منزل راجح
اتخذت بدور موطنها في حضن شقيقتها لتبكي بخوف يقتلها على ما قد يكون حدث بسببها، تخشى تهور ابن عمها عاصم على هذا الفاسد معتصم، تعلم بعصبية الاَخر وحمائيته البالغة نحوها ونحو كل ما يخص العائلة، والدتها كانت تندب وتضرب بكفيها على وركيها بجزع مرددة:
- استر يارب، استر يارب، طب اعمل إيه انا في النصيبة دي؟ أروح ابعت لابوكم فى شغله عشان ياجي، ولا اروح انده لجدكم ولا حد من عمامكم يلحج عاصم قبل ما يخلص ع الجزين دكا.
هتفت نهال باعتراض وهي تشعر بزيادة تأثر شقيقتها مع كلمات والدتها:
- ياما اهدي شوية الله يخليكي، انتى كده هتكبرى الموضوع اكتر.
صرخت بها الأخيرة مرددة:
- يا بتى ما هو كبير لوحده، ومش انا اللي هكبره، لهو انتى فاكرة عاصم هيسيبه؟ واد عمك عفش وعصبي ، مش هيسيبه يا بتى انا عارفة، مش هسيبه.
زادت الأخرى بنشيجها الحارق، ونهال تربت بكفها على ظهرها تقول بتهوين حازم:
- يا بت انتى كمان ما تبطلى بكى واهدى لما نشوف اللى حصل الاول .
ردت بدور من بين شهقاتها:
- ما انا خايفة من كدة، خايفة لتحصل نصيبة وابجى انا السبب.
قالت نهال وهي تحاول في هاتفها الذي تمسكه بيــ دها الحرة:
- ما انا بجالى ساعه برن عليه دا كمان، وبيدينى مغلق،
خايفة ارن على رائف ولا حربى يشعللوها اكتر، اصلهم متهورين اكتر منه، يا ريت مدحت كان موجود، بس دا كمان سافر من طلعة الصبح.
انتبهن الثلاثة فجأة على صياح نهلة الصغيرة من الخارج :
- عاصم جه، عاصم جه ياما.
اعتدلت بدور عن حضن شقيقتها لتمسح على دموعها وتقف منتظرة مع والدتها ونهال، ليلج إليهم فجأة مرددًا التحية بلهجة عادية مع ابتسامة ترتسم على محياه
- السلام عليكم.
خاطبته نعمات سائلة بفزع:
- جتلتوا يا عاصم ؟ اوعى تكون وديت روحك فى داهية.
قهقه بصوته الرجولي يعقب على قولها:
- وه يا مرت عمى، أجتله كمان؟ مش لدرجادى يعني، مع انه يستاهلها .
- امال عملت ايه معاه يا عاصم؟
سألته بدور ليتنبه إلى وجهها الذي اصبح كقطعة حمراء ملتهبة وأعين ذابلة، ف سألها بتحشرج مصدومًا:
- انتى كنتى بتبكى؟
تدخلت نهال صائحة به:
- انت يا عم النحنوح رد علينا طمنا الأول وبعدين اسأل وجول اللي انت عايزه.
تبسم يجيبها:
- ربيته يا عسل، ربيته بس من غير ما اسيب اثر، يعني شغل محترفين كدة
- محترفين!
رددتها نعمات بعدم فهم، لتتابع:
- ازاى يعنى؟ ولا عملتها كيف دي؟
اجاب عاصم موزعًا انظاره بين الثلاثة:
- هجولك يا مرة عمي، أصل بصراحة كدة انا كنت مستحلفلوا من يوم ما مد ايدو على بدور عند المدرسة، لكن اللى منعنى طبعًا زي ما انتو عارفين، هو جدى عشان بدنتوا والمشاكل اللي ممكن توجع العيلتين في بعض لو حصل، بس إيه بجى؟
- إيه،
تفوهت بها بدور تتعجله، ليردف لها:
- خدته في ووسط الزرع وفي حتة خالية مفيهاش حد  ، وعند اقرب نخلة، جطعت جريد خضرة، ونضفتها من الخوص، وايه بجى، فين يوجعك؟
شهق ثلاثتهم ليتبدل الحزن والقلق الى حالة من الضحك المختلط بذهولهن، وقال نعمات
- يا مرارى يا عاصم وجالك جلب؟ دى بتبجى زي الكرباج وهى بتلدع .
جلجل الاَخير بضحكته، ليقول بخبث:
- لا وما تسيبش اثر وفي نفس الوقت مهينة ليه، عشان يحرم ما يرفع عينه تانى .
ردت نهال وهي تنفجر بضحك
- يا مرارى دا انت شندتلوا .
جلحلت ضحكات الأربعة، وصوتها نهال هو الواضح بهم، وعقب عاصم عليها:
- يا بت وطى صوتك فى الضحك شوية، اعجلي يا مجنونة.
كانت لا تستطيع التوقف، ف غمغم لها بصوت خفيض
- يخرب مطنك يا شيخة، جننتى الدكتور معاكى.
زادت بضحكاتها وزاد هو ايضًا، وعينبه تركزت على وجه بدور التي اصبحت بشكل مختلف، يجمع بين المرح والبكاء في نفس الوقت.

You'll also like
زهرة آل فوستاريكي  by AnaZilzail
زهرة آل فوستاريكي
1.6M
126K
كانت الزهرة بين تسعة من النخيل الشاهق، ذلك النخيل الذي وقف في وجه العواصف مانعًا إياها من الوصول للزهرة، لكن وبسبب زيادة تلك العواصف شراسة، اضطروا لاقتلاع الزهرة، وغرسها...
روح ملاكي ( جاري تعديل السرد )  by AnaZilzail
روح ملاكي ( جاري تعديل السرد )
7.4M
365K
سمع صوت صفير يأتي من جهه النافذه فنظر وفتح عينه بصدمه وهو يري فتاه تجلس علي حافه النافذه وتحرك قدمها كأنها تجلس علي الشاطئ واصفر بطريقه مزعجه فنهض وتحدث بغضب : جرا ايه ي...
بين وصالك أوصاف  by iauony
بين وصالك أوصاف
235K
1.7K
- الأوصاف - اللهمَ لا تجعل روايتي تُلهي عبادك عن عِبادتك
جميلة حد الفتنه (حياة حمزة) _ جاري تعديل السرد _  by AnaZilzail
جميلة حد الفتنه (حياة حمزة) _ جاري تعديل الس...
6.8M
256K
شاب ملتزم لايرفع عينه في امرأه يخاف الله وضع الله أمامه في كل خطوه حلم حياته ان يرزقه الله بزوجه صالحه ولكن ماذا ان كانت زوجته قد تربت وعاشت حياتها في أمريكا هل سيتقبل ا...
يوميات رام by moname_wa
يوميات رام
3.3M
84.2K
مُختلف حد الإشباع ..
عشقت مجنونة(الجزء الثاني) ....الرواية الاولي من سلسله روايات عشقني المتملك by ayayounees
عشقت مجنونة(الجزء الثاني) ....الرواية الاولي...
14.2M
264K
جميع الحقوق محفوظه للكاتبه آية يونس ... ممنوع النشر او الاقتباس الا بإذن الكاتبة آية يونس ... رواية بالعامية المصرية ... عندما يصبح الإنتقام والتحدي غريزة ... عندها فقط...
𝐔𝐜𝐡𝐢𝐡𝐚 𝐅𝐚𝐦𝐢𝐥𝐲 𝐃𝐢𝐚𝐫𝐢𝐞𝐬   by Jk_v_j_45
𝐔𝐜𝐡𝐢𝐡𝐚 𝐅𝐚𝐦𝐢𝐥𝐲 𝐃𝐢𝐚𝐫𝐢𝐞𝐬
77.4K
7.9K
بعض من يوميات اللطيفة لعائلة الاوتشيها...مواقفهم الفاصلة مع بعض... الشخصيات مالها علاقة بالانمي...من وحي خيالي الخاص✨ الگوبلات: ساسوساكو/ايتازومي/اوبيرين
❈-❈-❈
اااه ياما .. مش جادر .
كان يصرخ بها معتصم امام والدته بعدم احتمال للألم، ورددت هي مهونة عليه وساخطة على الاَخر:
- سلامتك يا نور عينى، روح يا عاصم يا واد سميحه يارب تتشندل و ما تدوج الراحة أبدًا على اللي عملتوا فى ولدى .
رد هاشم بجوارها:
- ابن الل .... شندلوا لكن من غير ما يسيب اثر، عمايل شياطين، يعني ناخد الضربة وما نقدر حتى نتكلم بيها، ع الإجل عشان الإهانة.
عاد معتصم للصراخ:
- ضهرى يا بوى، مش جادر اجعد ولا متحمل الوجفة، كله بيوجعنى، كله بيوجعنى يا بوى.
قالت انتصار زوجة العمدة، باعين يعميها الحقد:
: يعنى وبعدين، انت هتسيب حج ولدك، والواد ده يفرح بنفسه بعد اللي عمله، وعيش حياته كمان؟
سمع منها هاشم واحتدت عينيه بالغضب مرددًا:
- اسيبه! جال اسيبه جال !!
❈-❈-❈
بعد عدة ايام
- هو دا البيت، انت متأكد؟
هتف بالسؤال ياسين نحو حفيده والذي أجاب:
- ايوه يا جدى، انا فاكروا كويس وفاكر المنطجة كمان .
قال ياسين :
- طب روح استأذنهم الاول
-  حاضر يا جدى.
قالها حربي قبل ان يتحرك نحو باب المنزل القديم، ليطرق عليه، وتوقف ياسين ينتظر ويتابعه حتى انفتح وظهر شاب في عمر المراهقة يقارب الخامسة أو السادسة عشر، ليرحب بحربي بحفاوة وتبادل معه حديث ودي سريع قبل أن يشير الاَخير نحو ياسين الذي تحرك هو الاَخر ليترجل من السيارة، فتقدم الفتى حتى اقترب منه ليرحب هو الاَخر:
- يا مرحب يا حج ياسين، دا انت نورت الدنيا .
بادله ياسين المصافحة مهللًا:
-  اهلا يا ولدى يا مرحب بيك، اسمك ايه انت؟ 
اجاب الفتي:
- انا مروان، اتفضل انت معايا اتفضل .
في داخل المنزل وبعد أن ضايفهم هذا المدعو مروان، ولجت إليهم رضوانة تلقي التحية وخلفها ابنتها نسمة.
-  يا اهلا يا ابو سالم، نورت وشرفت .
- دا نورك يا يا
تلجلج بها ياسين فقد ارتبك أن يناديها باسم واحدة من بناتها حسب ما يعلم، وقالت هي تصحح له:
- ام جابر الله يرحمه .
تفاجأ ياسين بردها، فهمت عليه فتابعت له:
- دا كان ولدى اللى مات شباب .
هذه المرة كان الخبر كالصاعقة فوق رأسه، ليتمتم بصدمة:
- الله يرحمه.
تمالك سريعًا ليرحب بابنتها التي كانت تشبهها بالفعل:
- اهلا يا بنيتي، إنتي نسمة.
اومأت برأسها بحرج فتابع مبتهجًا بها:
-   اهلا يا بتى يا مرحب بيكى اهلا .
- تشكر يا عم ياسين، الله يخليك.
قالتها نسمة قبل ان ترحب بحربي أيضًا، ويجلس الخمسة، فتكلم ياسين مباشرة يبادر بالحديث
- بصو يا جماعة انا جاي ابلغكم بكلام مهم واسمع رأيكم فيه.
قالت رضوانة:
- جول يا حج ياسين واحنا معاك.
سمع منها ليخاطب نسمة:
- طب انا بعت لجوزك وابوه واتكلمت معاهم فى موضوع العفش، بس هما طالبين يرجعوكى...
قاطعه نسمة بحدة:
-  لا يا عم ياسين مش عايزه ارجعلوا، انا عايزه اطلج منه الراجل ده.
رد ياسين بعدم رضا:
- وايه لزوم سيرة الطلاج دلوك بس؟
تدخلت رضوانة هي الأخرى:
- انا بجولها اتحملى وخلاص وبكرة هو يتعدل لكن هى مش راضية.
اعترضت نسمة بتشدد:
-  لاه، انا مش طايجاه من الأساس يبجى اتحمل ليه، واحد بيعيرنى ويمرر عيشتى على اى حاجه تافهه.
انتفض ياسين ليسألها بغضب
- يعايرك! يعايرك بإيه ابن الفرطوس ده كمان؟
التمعت عينيها أمامه، في محاولة يائسة لاحتجاز دماعات تكاد تغلبها وتزيد من حرجها أمامهم، حتى ظهر ما تعانيه من نبرة صوتها المهزوز في الرد :
- على أي حاجة يا عم ياسين، مرة يتريج على طبيخى، مره على جهازى ويجولى انتو جيبتولى عفش جليل، مرة تانية لو شاف واحدة حلوة في التلفزون يلجح برضو بكلام يسم البدن.
كبت ياسين بداخله كم من السباب والكلمات الوقحة، يفضل بحنكته عدم الاستسلام لعاطفته في أمر كهذا وقال معقبًا:
-  بس هو بيجول انه ضربك لما طولت لسانك عليه.
- كداب.
صرخت بها لتتابع بقهرة:
- انا بس بردلوا لما يلجح عليا بالكلام، بحاول ارد بلساني بعد ما فاض بيا وتعبت، يعني لما يعيب عليا، ويقولي انتى تحمدي ربنا اني اتجوزتك ولا انتي فاكره نفسك ست زي بجية الحريم، اسكت عليها
توقفت وقد غالبتها الدموع لتسقط بغزارة على خديها وهي تتابع:
-  كل شويه يكسر بخاطرى لما خلانى كل ما ابص فى مرايه ادور ع العيب اللى فيا،
تعضن وجه ياسين بالحزن، وهو يطالع الذبول والكسرة على محياها، وهي كامرأة تستحق الافضل منه مئة مرة، هذا البائس عيد، هم أن يطيب بخاطرها، ولكن حربي سبقه بالدفاع قائلًا
-  المعفن ده هو كمان اللى بيجلع؟ دا وشه يشبه لجفاه . دا انتى مش حلوه وبس لا دا انتى تحلى من على حبل المشنجة.
تبسمت نسمة واطرقت برأسها نحو الأرض بخجل، أما رضوانة فقد طالعته صامتة بازبهلال، وياسين بداخله يغمغم:
- الله يخرب بيتك .
في الجامعة وبعد أن انتهت من محاضرتها في إحدى المواد، كانت تلملم متلعقاتها والطلبة من الزملاء والزميلات، يخرجون من القاعة افرادًا وجماعات، قالت بثينة وهي تتطلع في الساعة على شاشة الهاتف .
- الوقت لسه بدرى ع المرواح  يا بنات، ما تيجوا نروح الكافتيريا نقعد فيها شوية.
ردت نوها:
- انا ماعنديش مانع .
- لكن انا عندى مانع وماقدرش اروح معاكم
قالتها نهال لتعقب بثينة على قولها سائلة:
- ليه يا ماما ما تقدريش تروحى معانا؟ إيه اللي يمنعك؟
صمتت نهال وتولت نوها مهمة الرد عنها:
- يا حبيبتى ما انتى ماتعرفيش الجديد
- ايه بقى الجديد؟ اتحفوني بالجديد اللي عندكم خلوني اعرف.
سألت بثينة لتجيبها نهال وهي ترفرف بأهدابها قائلة بصوت مائع بتصنع الخجل:
- اصل الدكتور مدحت ابن عمي نبه عليا ما دخلش  الكافتيريا ، وانا مقدرش اكسر كلامه، ما انتي عارفة .
قلدتها بثينة مرددة بنفس الهيئة تكتم ابتسامتها:
- أنا عارفة!
اومأت لها الأخرى بهز راسها، لتضحكا الفتاتين لها قبل ان تنقلب بثينة لتهتف بها وتجفلها:
- ليه بقى يا ختي ان شاء الله؟ كانت حاجة عيب هي مثلًا، ولا إيه بالظبط؟
اجابتها نهال بابتسامة تشرق بوجهها:
- لا مش عيب يا ستي، بس هو بيجولى، إن لما بضحك بخلى الناس تاخد بالها مني، وهو مش عاوز  مشاكل .
شهقت بثينة لتستوعب قليلًا بتذكر ثم قالت
-  تصدقى كلامه صح، انتى فعلا بتلفتى النظر وانتى بتضحكى، واحنا دايمًا بنزغدك عشان تاخدي بالك .
اضافت نوها ضاحكة هي الأخرى:
- الله يكون فى عونه مسكين، يا عيني مخه راح على  الكافتيريا ونسى المكتبه ونسى المدرج .
عادت الفتيات للضحك، لتعلق بثينة:
- خلاص بقى، احنا ننبهو عليهم دول كمان ونفتن.
صاحت نهال ضاحكة بترجي:
- لا والنبى دا مجنون وانا مضمنش رد فعله .
- خلاص يا ختي مش هنجول صعبتى علينا
قالتها نوها لتتابع سائلة بجدية:
- بس يعنى احنا عايزين نعرف الأول هى امتى الخطوبة الرسمى؟
تنهدت نهال مطولا لتقول بوجه خلى من العبث:
- بصراحة مش عارفه جدى هو اللى هيحدد ويكلم ابويا .
سالتها بثينة باستفسار:
- ليه بقى جدك مش والدك؟
ردت تجيبها بحمائية:
- طبعًا عشان جدى هو الأصل، واهم حاجة موافجته هو قبل ابويا، بس هو جال ل مدحت هيخلص مشكلة نسمه وبعدين يكلم ابويا، استنى ارن عليه الاول واشوفه
❈-❈-❈
في عز انشغاله في العمل على حالة طارئة وردت إلى المشفى، صدح الهاتف بصوت ورود مكالمة، حاول في البداية التجاهل لكن مع التكرار سحب الهاتف من جيب البنطال، وفور أن تاكد من هوية المتصل ابتعد عن المريض الذي اوصى الممرضة برعايته حتى يعود، ليجيبها، بصوت خفيض متلهف
- الوو ازيك يا عمرى.
اجابت بلهجتها ناعمة:
- حمد لله، الله يسلمك .
تحمحم يجلي حلقه ليحفظ اتزانه ويقول بحذر: 
- بلاش الدلع ده الله يسترك، خليكي عاجلة الله يخليكي.
ردت ببرائة تكتم ضحكتها:
- اعجل ليه يعني؟ هو انا عملت حاجه؟
ذهبت انظاره فجأة نحو المريض المكسور قدمه، قبل يعود ليُجيبها، ضاغطًا شف٠ته السفلى، يكبت بصعوبة ابتسامة ملحة:
- يا بت انا مش فاضى لدلعك،  عايزه ايه؟
- يعنى انت مش فاضى، تمام بجى، اروح انا مع نوها و بثينة.
قالتها لتفاجأ بصيحته:
-'لا متروحيش مع حد، انتى مش كان نفسك تشوفينى وانا بشتغل، تعاليلى المستشفى اهى المسافة جريبة وتجيها مشى.
هللت بفرحة صدحت مع صوتها:
- بجد يا مدحت انت عايزنى اجيلك المستشفى،
أجابها مؤكدًا:
-  بس بسرعه ياللا خلينى اشوف اللى ورايا .
أنهى المكالمة معها، لتلتفت هي نحو الفتيات تخاطبهم بحماس يغمرها:
- هروح اشوفه فى المستشفى يا بنات، هشوفه بااليونيفرم الازرق، وهو بيكشف ع العيانين...
- خلاص يا بت.
قاطعتها بثينة لتتابع:
- يعني احنا كدة خلاص يعنى احنا نمشى بقى ونسيبك
- لا طبعًا تسيبونى دا ايه؟ انتوا هتمشوا معايا وتوصلوني.
قالت نوها:
- خلاص ساهلة احنا ها نوصلك فى طريجنا.
❈-❈-❈
- كنت فين يا محروس من الصبح ما حد شايفك؟
هتفت بها هدية لتوقف ابنها قبل أن يدخل لغرفته، والذي رد يجيبها
- كنت مع جدى فى مشوار كده، ليه انتي عايزاني في حاجة؟
- خير ان شاء الله، تعالى بس اجعد جمبى عشان نحكى .
قالتها وهي تشير بكفها على مكان ما بجوارها ع اللاَريكة الخشبية، وهي ترتشف الشاي من كوبها الزجاجي الذي تمسكه بالكف الأخرى:
تحرك ليجلس بجوارها وسألها:
- أدينا جينا وجعدنا،  عايزه ايه بجى؟
ارتشفت قليلًا ثم ردت بلهجة رائفة:
- يعنى هعوز إيه منك؟ انا بس مستعجبة، إنك بطلت ماتجيب سيرة بدور ولا الخطوبة من أساسه.
زفر يشيح بوجه عنها ليردد بسأم:
- ولزوموه إيه بس، نجيب في سيرة مواضيع خلصانة؟
توقف هدية عن شرب الشاي لتسأله بارتياب:
- خلصانه كيف يعنى؟ جصدك إيه يا حربي؟
انتفض فجأة من جوارها ليقول بتهرب:
-  إصرفى نظر ياما عن الموضوع ده، عشان انا كمان صرفت نظر عن بدور وعن نهال.
نهضت من خلفه تسأله بعدم استيعاب:
- صرفت نظر عن الاتنين؟ امال هتتجوز مين يكونش عينك راحت على نيرة؟ وماله ما يضرش يا ولدي، هى كمان حلوة وبت عمك ومن لحمك ودمك .
هتف يقاطع أحلامها:
- نيره مين ياما؟ دى شرانية ولسانها متبرى منها،  دى مش بعيد لو كلمتها كلمة ومعجبتهاش  تمسك فى خناجى، هو انتي معرفهاش؟
شعرت بالتشتت وروده المبهمة تزيد من حيرتها لتهتف سائلة:
- امال انت عايز بس مين ؟ طب عينك على واحدة فى البلد، جول وخليني اعرف، هو انا هكره؟
اومأ برأسه يزيد من غموضه قائلًا:
- مش وجته ياما، أكيد لما ياجي الوجت هجولك، متستعجليش كل شيء بأوانه.
اردف كلماته ليعود لغرفته، ويتركها محلها تشعر بالتخبط وعدم الفهم
❈-❈-❈
في طريق عودتهن من المدرسة ونحو الذهاب إلى المنزل، كانت تسير مع ابنة عمها التي تتحدث في عدة مواضيع وهي لم تنتبه لأحد منهم، ترمي بعينيها نحو الجهة الأخرى، ومنزل عمها سالم ، علها تتصادف برؤيته كعادته في الأيام السابقة، شعرت بإحباط يكتنفها وقت ان تأكدت من خلو الساحة الخارجية والمصطبة قبل أن تجفل
-  ايه الاخبار ؟
شهقت مرتدة للخلف مع نيرة، حينما وجدته بطوله المهيب يقف أمامهن.
- عاصم!
تفوهت بها نيرة مخضوضة والأخرى وضعت كفها على موضع قلبها متمتمة:
- خضيتنا يا شيخ، حرام عليك
قال عاصم:
:- سلامتكم من الخضة، معلش انا اسف، بس انا واجف هنا بجالى فتره مستنيكم، عشان اطمن، لو الواد المتخلف ده اتعرضلكم ولا حاجة؟
نفت بدور سريعًا:
-  لا طبعًا، هو يجدر بعد اللى حصله؟
أضافت نيرة ايضًا:
- ومتنساش كمان يا عم عاصم، انى معاها، وانت عارفنى بجى
ضحك الاَخير يعقب على قولها:
- عارفك يا نيرة ما يتخافش عليكى، بس انا عايزك انتى كمان يا بدور تبجى ناشفه ومتخافيش زيها، عشان متبجيش مضطرة لحد يساعدك، لو حد اتعرضلك.
اطرقت برأسها تقول بخجل:
- انا عمرى ما اخاف طول ما انت موجود .
تفاجات نيرة بجرأة قولها حتى طالعتها بازبهلال، أما هو ف ارتبك وتعرق، وخرجت كلماته بتلجلج:
- طب كويس كويس، انا بس حبيت اطمن، يا للا سلام بجى .
قالها وذهب مغادرًا على الفور، حتى لا تنفضح مشاعره أمامهن، ويزلف بقول قد يؤخذ عليه فيما بعد، وهو لا يريد إساءة التصرف، خصوصًا الان.
تمتمت نيرة وهي تنظر في اثره وقد ابتعد بمسافة كافية، عنهن:
. - و ه يا بدور دا انتى طلعلتي مش هيئة، اتجرأتي وطلعلك حس يا مضروبة
سمعت منها وهي صامتة ترتسم على محياها ابتسامة سعيدة وفقط.
في جلسته لمدخل المنزل وهو المخصص لاستقبال افراد البلدة وسماع شكاويهم في مظهر شكلي يعتمده منذ توليه منصب العمدية، وذلك لأن معظم وقته منشغلًا كما يدعي وان حدث واستقبل فهذا يكون في أصعب الحالات، ورغم أنه يمتلك مندرة في الجهة الأخرة من المنزل ولكنه يخصصها فقط لكبار الضيوف، وهل يصح أن يدخل كل من هب ودب، أم أنه يفتحها سبيل؟
نفث الدخان الكثيف ليفعل سحابة رمادية كثيفة أمام عينيه، ثم يزيد عليها ولا ينتهي، بشرود والتفكير المستمر فيما ينتوي عليه وما بعث به ابنه منذ قليل
لقد حسم أمره ولن يتراجع رغم صعوبة المهمة.
- السلام عليكم .
تفوه بها معتصم فجأة يقطع عنه شروده، لينتفض هو فور رؤيته، ليردد بلهفة:
- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ها عملت؟ ولا إيه الاخبار؟
تبسم الاَخير يتناول ثمرة تفاح من طبق الفاكهة الموضوع على الطاولة أمام، وقال بثقة:
- الاخبار تمام وعال العال .
سأله هاشم بمغزى:
- يعنى حصل؟
قضم معتصم قطعة كبيرة من تفاحة حتى اصدر اصوتًا مع مضغه لها وهو يقول بانتشاء:
- حصل يا بوي، و التنفيذ هيبجى فى اجرب وجت، أنا نبهت عليهم على كدة.
اقترب هاشم برأسه ليهمس نحو ابنه بحذر:
- ونبهت عليهم، انهم ما يزودوش عن الادب، احنا مش عاوزين الموضوع يوسع.
ازبهل معتصم وبرقت عينيه قليلًا باضطراب، ليرد ببعض التلعثم:
- اييوه، أيوة يا بوي زى ما انت جولت .
احتد هاشم في لهجته يرفع السبابة أمام وجه الاخر مشددًا:
- إياك، إياك يا معتصم تكون خالفت اومري.
ابتلع ريقه المذكور ليرد على الفور مجيبًا:
- لا يا بوى انا جولت اللى انت جولتهولى وبس، وهما بجى اللي عليهم التنفيذ الصح.
حدق به هاشم بتشكك، بم ما لبث أن يردد:
- لما نشوف يا معتصم، لما نشوف.
❈-❈-❈
خرج ياسين من المندرة يجر أقدامه جرًا من التعب وجولات مرهقة من مفاوضات قام بها في عدد من الساعات الماضية، استقبلته صباح بالسؤال فور رؤيته:
- ايه الاخبار يا بوى؟
سقط على كرسيه ليجلس مشيرًا بكفيه أمامها:
- حمد لله يا بتى اخيرا خلصت الموضوع وانتهينا، دا الواحد عينه طلعت.
- ربنا يعينك ويجدرك.
تمتمت بها صباح قبل أن تتابع:
- طب وانتوا رسيتوا على ايه يعني؟ هيروح يصالحها، ولا هتيجي هي معاك ولا....
- بكره ها يجيب المأذون ونخلص الموضوع .
قالها ياسين مقاطعًا، لتهتف هي بجزع:
- طلاج ليه بس ؟ يا ساتر يارب.
طالعها ياسين قائلًا بيأس:
- البت مش عايزه ترجعلوا يا صباح، ها نرجعها بالعافية يعني؟ الواد بخيل ومدب فى كلامه، يعني طامسها من كله بغشامته، والبت مش متحملة.
اومأت صباح رأسها بتفهم، ثم سألته:
- طب وعلى كده الطلاج هيتم فى بيتهم ولا في حتة تانية؟
تأوه ياسين يجيبها وهو يحاول النهوض عن كرسيه:
- ايوه يا صباح، هيبجى فى بيتهم، وربنا يتم على خير ومبجيبش مشاكل، انا قايم اروح اصلي عايزه حاجة تاني مني؟
نفت بصوت مختنق:
- لا يا بوى وهعوز ايه بس؟
تحرك بأقدمه المتعبة يقول:
- طب حضريلى لجمه أكولها على ما جيت .
خطا خطوتين ثم استدار إليها يفاجئها بقوله:
- لكن انتى كنتي تعرفى ان رضوانة كان ليها عيل شباب مات .
- ايوه يا بوى، دا يا عينى مات غرجان ربنا يرحمه برحمته .
قالتها صباح والتف هو عنها يجر أقدامه، يغمغم بصوت خفيض مع نفسه:
- ربنا يرحمه ويرحم امه المسكينه كمان.
بداخل القسم الذي انبأها عنه، كانت نهال تقطع الطرقة في المشفى بتشتت وعدم معرفة جعلتها تستوقف فتاة بملابس التمريض لتسألها:
- معلش لو سمحتى كنت عايزه اسألك على الدكتور مدحت، دكتور العظام .
قالت الممرضة:
- تقصدى الدكتور مدحت عبد الحميد؟
- ايوه هو نفسه.
اجابتها الممرصة:
- للأسف هو مشغول مع حاله دلوقتى، وانتي لو عايزاه استنيه هنا
اومأ لها نهال بصمت وانصرفت الفتاة لتقف هي محلها، لا تعلم ماذا تفعل؟ اخرجت الهاتف من حقيبتها تتناوله لتتصل به، حتى يخبرها بكيفية التصرف الصحيح، ولكنها وقبل أن تفعل تفاجأت بمن يخاطبها:
- هو انتى تبقي قريبة الدكتور مدحت؟
رفعت بأنظارها لترى صاحب الصوت، والذي لم تعرفه لذلك سألته باستفسار:
- هو انت حضرتك بتكلمني انا؟
اقترب الرجل ليجيبها:
- ايوة طبعا، هو انتى مش فاكرانى، انا يونس صاحب الدكتور مدحت، انتى مش فاكره الكافيه.
- الكافيه.
رددتها نهال من خلفه بخضة متفاجئة، فقال هو متابعًا:
- مقولتيش بقى، تقربي إيه للدكتور مدحت بقى،
ابتلعت ريقها بوجه انسحبت منه الدماء تجيبه مضطرة:
- بنت عمه، وطالبة في كلية الطب السنة دي.
رد يونس بابتسامة واسعه:
- بسم الله ماشاء الله، ممكن اتعرف باسمك .
- اسمى نهال .
قالتها لتفاجأ به مرحبا وامتدت كفه امامها ليصافحها:
- اهلا وسهلا بيكى يا انسة نهال، عاشت الاسامى .
خجلت ان تكسف الرجل، ومدت يدها هي الأخرى لتبادله المصافحة على مضض وعينيها لا ترتفع نحوه:
- اهلا حضرتك
قالتها لتفاجأ بمن بهتف بآسمها من الخلف:
- نهال .
استدرات على الفور لتفاجأ بمدحت أمامها، بأعين تقدح شررًا، وتتنقل بالنظر نحوها ونحو الاخر يونس.
وبرغم التوجس الذي انتابها مع انتبهاها للغة التحفز التي كانت تصدر من جســ ده، ولكن رؤيتها له بارتداء ملابس العمل ( اليونيفورم) كانت كالسحر بالنسبة لها، لقد كان جميلًا ووسيمًا بحق، لم يخطر في بالها ولو في مرة ان يكون بهذه الروعة، جديته رغم التجهم الذي يعلو وجهه تزيدها انبهارًا، تعشق النظارة الطبية التي تغطي عينيه، رغم النظرة التي كانت تصدر منها نحوها ونحو يونس الذي استدرك سريعًا ليردف بابتسامة متوسعة ليس لها معنى:
- اهلا يا مدحت، انت ماخدتش بالك منى ولا ايه؟
اجابه الاخر بابتسامة بلاستيكية وثبات انفعالي على وشك الانفجار:
- اهلا يا يونس، معلش لو مخدتش بالى فعلا، انت اتأخرتى ليه ؟!
قال الاخيرة يوجهها نحوها بخشونة اجفلتها لتجيبه باضطراب:
- انا متأخرتش ولاحاجه انا يدوبك خرجت بعد ما كلمتك على طول وتوى ما واصله، بس الممرضة جالت ان انت مشغول.
- طب يالا تعالي معايا عشان اروحك.
قالها بإشارة خفيفة برأسهِ كي تتحرك وتسبقه نحو الجهة التي اشار إليها، أذعنت لأمره حتى تتقي غضبه الذي كان يلوح في الأفق أمامها، وهم هو ان يتحرك خلفها، ولكنه تفاجأ بيونس يوقفه
- استنى هنا يا عم انت، ماشى كده على طول .
القى مدحت بعينيه على قبضة يونس على ساعده بنظرة خطرة جعلته يرفع كفه عنه على الفور، ليتنهد بحريق بعد أن انتبه لتوقف نهال بوسط الرواق في انتظاره، فقال كازًا على أسنانه:
- عايز إيه يا يونس؟
رد الاَخير يجيبه بسؤال ليزبد على الطين ابتلاله:
- هى بنت عمك دى مخطوبة؟
قالها واشتعلت الدماء برأس مدحت ، يجاهد بصعوبة الا يهشم رأس هذا الغبي، او يشوه وجهه ذو الابتسامة اللزجة المقرفة، فخرج قوله بحدة:
- أيوة مخطوبة، فى حاجه تانى ؟
بدت الصدمة جليًا على وجه الاَخر، ليتمتم :
- ازاي يعني؟ هي لحقت...
- لحجت ولا ملحجتش، بجولك مخطوبة
قالها بمقاطعة عنيقة قبل ان يتحرك ذاهبًا ليترك الاخر متسمرًا محله بصدمة ،
ليصل إلى نهال ويسبقها بخطواته السريعة دون انتظار، لتلحق به هي وقدميها تسرع بعدوها كالركض كي تجاري خطوته
❈-❈-❈
بداخل الغرفة التي فتح بابها سريعًا ليلج بها وهي من خلفه، لاهثة بتسارع لأنفاسها بعد الركض خلفه، لتنتبه على وقفته امام مكتبه يعطيها ظهره، واضعًا كفيه في جيوب سترته، بصمت مهيب، وكأنه يحارب شياطين الغضب بداخله، اقتربت على تردد تسأله:
- مدحت ، هو انت زعلان مني؟
وكأن بعبارتها البسيطة داست على الزرار ، ليلتف إليها بوجه اظلم بالإنفعال، ليهدر بها:
- تعرفى يونس منين عشان تجفى وتتسايرى معاه فى الكلام؟
انتفضت مجفلة بخضة من هيئته، لتجيب بخوف:
- والله ما اعرفه، دا هو اللى سلم عليا وعرفنى بنفسه ..
قاطعها بحدة ورأسه تميل نحوها بشراسة:
- ويعرفك منين عشان يعرفك بنفسه؟
ردت واقدامها ترتد للخلف بارتياع من هيئته:
- هو اللى جالى انه فاكرنى من ساعة ما شافنى معاك فى الكافيه...
- كمان الكافيه!
صاح بها بصوت يقارب الجنون ليتابع:
- يعني فاكرك من ساعة الكافيه! دا انتى على كده عجبتيه ودخلتى مخه من ساعتها .
برقت بعينبها لتهتف باعتراض
- ايه اللى انت بتجولوا دا؟ هو عمل ايه بس لدا كله ؟
كز على اسنانه ليضرب بقدمه الكرسي أمامه هادرًا:
- ما انتى لو ما روحتيش الكافيه الزفت فى يومها مكانش شافك وحطك فى مخه ؟
بعند زادت بعصبية تقارعه:
- طب اهو شافنى النهارده فى المستشفى؟ على كده كمان يا ريتنى ماجيت المستشفى، عايزه افكرك ان انت اللى جولتلى اجيلك واعدى عليك عشان تروحني السكن ولا انت ناسى؟
- لا مش ناسى، وعارف انك هتبجى دكتوره وتجابلى ناس كتير كمان....
توقف فجأة ثم التف ليضرب بقبضته على سطح المكتب يردد بشرود ولهاث
- انا لازم استعجل جدى عشان يخلص موضوعنا بسرعة، انا مش هستني اكتر من كدة، لازم يستعجل ويشوفلي حل.
ردت ببلاهة وبدون تفكير:
- موضوع إيه؟.
التفت اليه باعين تشتعل بالغيظ، لتستدرك هي وتتذكر على الفور:ا
- اه .. انت تجصد الخطوبة،
رد بلهجة خطرة:
- ايوه الخطوبة ولا انتى نسيتى؟
سارعت للرد تهادنه وكأنها تهادن طفل مجنون؛
- لا لا منسيتش طبعًا، ودى حاجة تتنسى برضو؟
❈-❈-❈
في اليوم التالي صباحًا
على مائدة السفرة كان يتناول سالم وجبة إفطاره مع زوجته، حينما سألها:
- هو عاصم لسه مصحيش من نومته؟ مش بعادة يعني؟
اجابته سميحة بقلق:
- لا كيف؟ دا اسم الله عليه طلع صلى الفجر على ميعاده، بس انا مش عارفة ليه لحد دلوكت ما رجعش؟
رد سالم باستغراب:
- يعنى إيه؟ مرجعش يفطر؟ هو جالك إن عنده سرحة ولا بيعة عايز يخلصها في السوق ولا الشادر
نفت تهز رأسها سميحة تردد:
- لاه مجالش.
شعر سالم بالقلق، ولكنه رفض أن يزيد على زو جته، التي كانت تتناول الطعام بصعوبة، فقال مهونًا
- يمكن اتشغل فى موضوع، ولا يمكن معاه مصلحه بيخلصها، يعني هيكون راح فين يعني؟
أومأت سميحة برأسها قائلة:
- يمكن برضوا، أكيد هو كدة زي انت ما بتجول، بس انا اتشغلت مش عارفه ليه؟
هتف بها سالم بإنكار يدعيه:
- تتشغلى ليه بس؟ هو ولدك صغير ولا جليل مثلا، عشان يتخاف عليه؟ بلاش الخوف ع الفاضي، وان شاء الله، ربنا مش هيجيب حاجة عفشة.
تمتمت سميحة خلفة بتمني:
- يارب، يارب
❈-❈-❈
في منزل رضوانة وبعد أن أنهى المأذون إجراءات طلاق نسمة من هذا المدعو عيد، والذي خرج على الفور بعد ذلك ووالده، مع الشهود والرجال التي أتت لتحضر من الأسرتين، فلم يتبقى سوى ياسين وحفيده حربي الذي يرافقه في كل مرة يأتي بها ، وهذا المدعو مروان حفيد رضوانة والتي دخلت بعد ذلك اليهم مع نسمة التي خاطبها ياسين:
- تعالي يا بتي واسمعي زين، عشان انا خليت الواد ده، يتعهد جدام كبارات عيلته انه يردلك كل حقوقك، يعني اطمني من الناحية دي خالص، أما بجى بخصوص العفش ف دا من بكره ان شاء الله، انا هبعتلكم عربيه تحمله من الشقة هناك، شوفى مين تأمنيها تروح وتلملك حاجتك كلها .
قالت نسمة:
- اروح انا بنفسي يا عم ياسين ألم حاجتي، لهو انا هخاف منه.
رد ياسين باعتراض جازم:
- لا يا بتى مينفعش .
- جولها يا ابو سالم يمكن تسمع منك وتفهم، دا انا من الصبح بجولها وهى مش مجتنعة ولا سامعة مني خالص.
قالتها رضوانة ليلتف إليها ياسين وانتبه عليها، ليسألها:
- انتى كنتى باكيه يااك ؟
ردت بحرقة واعين تترقرق بها الدموع:
- وكيف ما ابكيش وانا بتى بيتها اتخرب، دا طلاج يعنى مش حاجة هينة.
أطرق ياسين بخفض رأسه عنها بألم وقد فهم بمقصدها، فقال بصوت متأثر:
- ربنا يبعتلها اللى احسن منه ان شاء الله، والدنيا ماشية ومش بتجف على حد واصل، يالا بينا يا حربى .
قال الأخيرة لينهض على الفور، اوقفه مروان قائلًا؛
- ما لسه بدرى يا عم ياسين اجعد افطر معانا .
ربت ياسين بكفه على كتف مروان قائلا بإعجاب:
- تعيش يا ولدى ويجعله عامر بحسك وحس أهل البيت ان شاءالله، بس انا يدوبك احصل مصالحى .
تدخلت نسمة بقولها ايضًا:
- صح يا عم ياسين، دا انت تلاجيك جيت على لحم بطنك ومفطرتش، نعمل ايه بجى فى عم حسن المأذون؟ اللى اصر يجى الصبح بدرى .
رد ياسين بلهجة حانية نحوها، وقد أعجبه قوتها وعدم بكاءها على الرجل الندل الذي طلقها:
- ولا يهمك يا ست نسمة، انتى زى بتى برضوا وانا تحت امرك في أي وجت .
- تعيش يا عم ويبارك في عمرك .
تمتمت بها نسمة، وسمع منها ياسين ثم هتف ليذهبا، ولكن الاَخر أبى ان ينصرف بدون ان يتكلم:
- ربنا يعوض عليكى با الزين .
ردت الاخيرة بخجل:
- متشكرين يا استاذ حربى.
سحبه ياسين من كفه ليجعله يسبقه، حتى لا يخطيء بعفويته التي يعرفها جيدًا عنه، وتحرك هو خلفه، ولكن وقبل ان يخرج من غرفة الاستقبال نهائيًا القى نظرة خاطفة حزينة على من كانت حبيبته وز وجته العنيدة في السابق، قبل يكسرها الزمان وتصبح بهذا الوهن والضعف الاَن.
1
❈-❈-❈
وبداخل السيارة كان في حالة من الشرود والحزن الشديد، حتى انتبه عليه حريي ليسأله:
- مالك يا جدى؟ هو انت لدرجادي زعلان على نسمة؟
تنهد ياسين بثقل يجيبه:
- يعني، بس هي كدة بتكون حاجة، وتجيب حاجة تانية عشان نفتكرها ونحزن، وكأن النفوس كانت نسيت جبل كدة عشان يجي اللي يفكرها!
وصل إلى حربي ما يرمي إليه ياسين ليقول بفراسة:
- افتكرت اليوم اللى طلجت فيه خالتى رضوانة؟
نظر إليه صامتًا لعدة لحظات ليعقب بعد ذلك:
- كبرت و بجيت بتفهم يا حربى.
رد الاخر بابتسامة:
- مش محتاجة مفهوميه يا جدى، نظرة عنيك مبينة كل اللى جواك، ولا انا غلطان !!
اومأ برأسه ياسين يردد بقنوط:
- لا مش غلطان يا حربى، مش غلطان يا ولدى .
❈-❈-❈
هدر هاشم بغضب:
- هو دا اللى جولتلك عليه يا غبى؟
كان معتصم يحاول وقف تدفق الدماء الذي ينزف بغزارة من انفه، فقال:
- اعمل ايه يعنى ؟ ... انا كنت مأكد ع الرجالة بكلامك اننا نأدبه وبس، لكن دا طلع شديد جوى، وانا والرجالة مكوناش جادرين عليه، دا لولا واحد منهم خدوا على خوانة والله لكان خلص عليا كلنا دلوك وكنت روحت انا فى خبر كان .
تنفس هاشم بغيظ شديد قبل ان يأمره:
- طب انا عايزك تحكيلى كل اللى حصل، متسيبش ولا هفوة تقع منك، من غير ما تقولي عليها.
قبل ذلك بساعتين .
كان عاصم في طريقه إلى المنزل بعد أن انتهى من صلاة الفجر في المسجد الذي اعتاد الصلاة فيه منذ صغره، تفاجأ وبدون سابق انذار بفردين ضخام الاجســ اد، يقطعون عليه طريقه ليمنعوه من السير بعصا غلــيظة وضخمة، رمقهم ياستخفاف سائلًا:
- نعم يا باشا انت وهو، انتو مين؟ وعايزين ايه بالظبط؟
ظل الأثنان بهيئتاهم المتجهة ونظرات باردة دون التفوه والرد بحرف، سأم منهما، ليرفع العصا، ويتحرك ويتخطاهم، ولكنهم، عادوا ليغلقوا الطريق مرة أخرى، فهدر صائحًا بهم:
- ماترد يا ابن ال...... انت وهو، بدل ما انتوا بتسدوا السكه فى وشى كده من غير ما تنطجوا بحرف، وكأنكم جوز عجول وشاردة بغشم من صاحبها.
قالها عاصم ليجد الرد قد جاء من ناحية أخرى خلفه:
- انا اللى هرود عليك عشان انا اللى جايبهم .
تبسم وجه عاصم ليحدجه باستهزاء قائلًا:
- وه المجلع! هو انت خلاص يا حيلتها، ابوك يأس منك فجابلك بلطجيه يحموك ؟
اقترب معتصم بشر يردد وقد زادت عليه كلمات الاَخر احتقانًا:
- لا وانت الصادج دا انا جيبهملك انت مخصوص عشان يربوك ويعلموك الادب .
لم يابه له عاصم، بل قال بجسارة وعينيه تتنقل من معتصم إلى الرجلين الآخرين:
- انت حتى لما حبيبت تعمل نفسك راجل، جايب ناس هبله زيك طب استنضف ونجى خلج عدلة.
زام الرجلين بتحفز نحوه، وكان معتصم اكثر منهم ليهتف به:
- ماشى يا عاصم انا هخليهم يعلموك الادب .
ضحك له الاَخير ليزيد بسخريته ويشير على الرجلين اللذين كانا على حافة الجنون منه:
- بجى دول، جوز البهايم دول، هيعلموني انا الادب يا.... واد انتصار .
- انت بتنهدلى باسم امي، طب والنعمه لكون مربيك يا عاصم ، علموه الادب يا رجالة
صرخ بها معتصم امرًا الرجل، وتلقفها عاصم ليخلع، الشملة التي كانت تغطي كتفيه، ليلفها على يــ ديه، وبشجاعة يهتف بهم:
- ياللا يا حبيبي ورينى مرجلتك انت وجوز التيران اللى معاك يا...... حيلتها .
صرخ معتصم خلف رجاله :
- مستنين ايه؟ اهجموا عليه علموه الادب .
قالها ليهجما الاثنان بالعصى التي كانت في أيديهم، ولكن عاصم كان يتفادى الضربات، وكلما طال احد منهم، يضربه روسية أو قبضة قوية على وجهه، حتى لو ناله ضربة عصا من الاخر يتحملها ليواصل المعركة الغير متكافئة على الإطلاق، ومعتصم في ناحية قريبة يراقب بتوتر وخوف رغم ثقته في الرجال المحترفين والذين غيروا المنهج، لتكن ضرباتهم بالعصا الثقيلة بخطف سريع، حتى يستطيعوا الركض قبل ان يتمكن من أحدهم.
فرح اخيرًا معتصم حينما لاحظ الانهاك الجســ دي على غريمه، بعد ان توقف ليتلقى ضرباتهم دون حراك وعلى وشك السقوط، ف اقترب منهم بتشفي قائلًا
- ايه رأيك؟ ادينى بعلمك الادب من غير ما نوجع عيلتين فى بع.....
لم يكملها وقد فاجئه عاصم بضربة قوية برأسه كسرت انفه، ليصرخ الاَخر كالمجنون والدماء تنزل منه بغزارة
- كسروه زى ما كسر لى مناخيرى، كسروووه.
وكأنهم كانوا في انتظار الإذن، هجم الرجال الاشداء يضربونه بعصاهم الثقيلة وبوحشية كان يتلاقها بمقاومة قوية رغم الالم المنتشر في كل عظمة من جســ ده ، حتى تمكن من سحب واحدة من أحدهم، ليزأر كالوحش ، ويهجم عليهم كالإعصار، يرد الضربات القوية لكلاهما، حتى من كان محتفظًا بعصاه لم يعد باستطاعته المجابهة، حتى سقط الاثنان كالجثث الهامدة في الارض دون حراك، ف استدار لمعتصم المتبقي في ركن وحده، ف انتفض الاَخر يتراجع برعب من هيئته، يصرخ بأسماء الرجال، حتى ينهض أحد منهما، وهذا يقترب منه ببطء الفهد حينما بحاصر فريسته، وهذا يصرخ بتوسل، حتى اسنطاع احد الرجال النهوض ليتحامل على ألمه، وتناول العصا الأخرى، ليضرب عاصم على قدمه من الخلف بضربه قوية على خلفية الركبة، جعلته يخر راكعًا دون ارداته، وكانت الفرصة لمعتصم الذي خطف العصا من الرجل الاَخر، ليضرب في عاصم بغل وهستريا مع الرجل الاَخر، الذي كان يشاركه، ولم يتوقفوا سوى بعد ان تركوه مدرجًا في دمائه،
انتشر الخبر وعرفت البلدة كلها لتحكي وتتحاكى عن عاصم حفيد الحاج ياسين الذي وجدته مجموعة من الشباب اسفل شجرة مضرجًا بدمائه، فاقد الوعي ، ليرفعوه على الفور نحو اسعاف الوحدة الصحية، والتي قامت بدورها في نقله إلى مشفى المحافظة، ليلحق به أهله الذين علمو بالمصببة كالاغراب، فشباب القرية كانو من السرعة في التصرف لإنقاذه، لدرجة لم تجعلهم ينتظرون عائلته، والذين خرجو بسيارتهم بعد ذلك رجال ونساء، للإطمئنان على ولدهم.
وفي المشفى كان حجم الكارثة يبدوا جليًا على الجميع، والدته سميحة، لم تكن قادرة على رفع نفسها، لتقف جيدًا على قدمها، ونساء العائلة يحتضنها، ليخففن عنها بالكلمات المطمئنة عسى ان يأتي بأي فائدة مع امرأة تموت في الدقيقة الف مرة في انتظار خروج ابنها الذي دخل غرفة العمليات من قبل ان تراه، قد مرت الساعات منذ حضورها. .
- اهدى يا حبيبتى وخلي عندك إيمان، إن شاء الله هيجوم بالسلامة، طمنى جلبك انتى بس.
قالتها نعمات لتضيف راضية هي الأخرة:
- اصلبى طولك يا سميحة، ولدك شديد وعنيد، وانا متأكدة انه هيجوم منها، انا عارفة عاصم زين، دا ولدي اللي مربتهوش ولا خلفته.
قالت هدية ايضا بعصبية وأنفعال:
- اقوي يا سميحة وشدي حيلك، ولدك ان شاءالله ربنا هينجيه منها، وابن الحرام اللى عملها هنجيبه من تحت الارض وناخد حجنا منه تالت ومتلت، احنا مش هينين ولا جليلين في البلد عشان يحصل معانا كدة، احنا حريم ورجالة لحمنا مر.
خرج صوت سميحة بارتعاش وارتجاف قلب أم انفطر قلبها على وليدها:
- خلصتوا عليه ولا موتوه حتى، ساعتها هايفيدنى ايه بعد ما يروح ولدى منى...
انهت الاخيرة لتعود إلى بكائها الحارق، ونعمات تشدد من احتضانها، ودموعها هي الاخرى لا تستطيع وقفها، فقالت راضية:
- يا سميحة متعمليش كدة، وخليكي جوية، ولدك في العمليات ومعاه مدحت واد عمه دلوك وانتى عارفه ولدى شاطر مع الغريب اشحال مع عاصم حبيبه.
لم ترد سميحة، فقد كانت تبكي وفقط.
في الناحية الأخرى
كان الرجال بقيادة ياسين، بجوار غرفة العمليات وكأن على رؤوسهم الطير، لا يوجد وصف لحالتهم في الانتظار، يبدون في الظاهر قوة وبأس امام من ياتي من اهل البلدة ليُأزرهم، وفي الداخل قلوب تكاد ان تنلخع من أماكنها من الخوف على ابنهم، وتوجس من اللاتي لو الحدث اتخذ الطريق الاسوء، إذا لم يقم عاصم منها لا قدر الله، فسوف يفتح باب الجحيم بعدها، لضرورة الأخذ بالثأر، وتدور الدائرة التي تدهس بلا رحمة ويضيع بسببها شباب ورجال لا عدد لهم، وسنين من العذاب يكن الجميع خلالها خاسر
خرج صوت ياسين سائلًا اخيرًا:
- يعنى محدش فيكم شافوا واصل وعرف اللى بحالته ولا اللي جراله ؟
رد راجح :
- محدش فينا شافوا غير الشباب، اللى مستنوش يبعتولنا وخدوه بأسعاف البلد .
تدخل محسن بقوله:
- انا زعجت لهم عشان ما بعتولناش، كان لازم حد فينا يجي في الإسعاف معاهم.
رد عبد الحميد بتوبيخ:
- ملكش حج فيها دي يا محسن، انا ولدى فهمني، وجالي إن دى احسن حاجه عملوها، عشان يلحجوه .
نظر ياسين نحو والده سالم والد عاصم، والذي كان بحالة من الجمود، تجعله يبدوا وكأنه ليس من الأحياء، او أنه بعالم اخر، فقال يخاطبه حتى يسمع صوته على الأقل:
- اتكلم يا ولدى مينفعش سكاتك ده لا يجرالك حاجة، ودا اكتر وجت انت لازم تكون فيه جوي .
من اجل ابيه، ولمعرفته بما يدور برأسه، خرج صوته ليرد بكلمات تخرج وكأنه كالحجارة بثقلها على لسانه:
- معلش يا بوى .. سيبنى فى حالى . . انا مش حامل اى كلام، ولا حتى أي شيء.
اومأ له ياسين بتفهم وقلبه ينشطر نصفين على ما اصاب الحفيد والولد ايضًا:
- عندك حج يا ولدى، انا جلبي حاسس بيك، وعارف ان الكلام على لسانك، ربنا يطمنك ويطمنا .

You'll also like
زهرة آل فوستاريكي  by AnaZilzail
زهرة آل فوستاريكي
1.6M
126K
كانت الزهرة بين تسعة من النخيل الشاهق، ذلك النخيل الذي وقف في وجه العواصف مانعًا إياها من الوصول للزهرة، لكن وبسبب زيادة تلك العواصف شراسة، اضطروا لاقتلاع الزهرة، وغرسها...
روح ملاكي ( جاري تعديل السرد )  by AnaZilzail
روح ملاكي ( جاري تعديل السرد )
7.4M
365K
سمع صوت صفير يأتي من جهه النافذه فنظر وفتح عينه بصدمه وهو يري فتاه تجلس علي حافه النافذه وتحرك قدمها كأنها تجلس علي الشاطئ واصفر بطريقه مزعجه فنهض وتحدث بغضب : جرا ايه ي...
بين وصالك أوصاف  by iauony
بين وصالك أوصاف
235K
1.7K
- الأوصاف - اللهمَ لا تجعل روايتي تُلهي عبادك عن عِبادتك
جميلة حد الفتنه (حياة حمزة) _ جاري تعديل السرد _  by AnaZilzail
جميلة حد الفتنه (حياة حمزة) _ جاري تعديل الس...
6.8M
256K
شاب ملتزم لايرفع عينه في امرأه يخاف الله وضع الله أمامه في كل خطوه حلم حياته ان يرزقه الله بزوجه صالحه ولكن ماذا ان كانت زوجته قد تربت وعاشت حياتها في أمريكا هل سيتقبل ا...
يوميات رام by moname_wa
يوميات رام
3.3M
84.2K
مُختلف حد الإشباع ..
عشقت مجنونة(الجزء الثاني) ....الرواية الاولي من سلسله روايات عشقني المتملك by ayayounees
عشقت مجنونة(الجزء الثاني) ....الرواية الاولي...
14.2M
264K
جميع الحقوق محفوظه للكاتبه آية يونس ... ممنوع النشر او الاقتباس الا بإذن الكاتبة آية يونس ... رواية بالعامية المصرية ... عندما يصبح الإنتقام والتحدي غريزة ... عندها فقط...
𝐔𝐜𝐡𝐢𝐡𝐚 𝐅𝐚𝐦𝐢𝐥𝐲 𝐃𝐢𝐚𝐫𝐢𝐞𝐬   by Jk_v_j_45
𝐔𝐜𝐡𝐢𝐡𝐚 𝐅𝐚𝐦𝐢𝐥𝐲 𝐃𝐢𝐚𝐫𝐢𝐞𝐬
77.4K
7.9K
بعض من يوميات اللطيفة لعائلة الاوتشيها...مواقفهم الفاصلة مع بعض... الشخصيات مالها علاقة بالانمي...من وحي خيالي الخاص✨ الگوبلات: ساسوساكو/ايتازومي/اوبيرين
وإلى ناحية الفتيات، فقد كانت بدور منهارة هي الاخرى في البكاء وشقيقتها تهون بحزم:
- امسكى نفسك شويه يا بدور احنا كلنا زعلانين، متخليش حد يركز معاكي.
ردت بدور من بي بكاءها،
- مش جادره يا نهال، مش جادرة، انا عارفه ومتأكدة ان كل الى حصله ده بسببى.
- بسببك ازاى يعني يا مجنونة؟
سألتها نهال غاضبة فتدخلت نيرة:
- مفيش غيرهم، العمده وولده يا نهال، واكيد كمان جدي وعمامي شاكين في كدة .
صمتت نهال تزن الكلمات برأسها، وهي وبداخلها تخمن صحة قول نيرة، فمن يملك الجرأة على تحدي عاصم، سوى جبان غادر، يأخذه من خلف ظهره، والناس بعد صلاة الفجر، في هذا الشارع الهاديء كما علمت سريعًا، من الاقوال المتواترة حولها، منذ أن وصلت إلى المشفى.
- انا هموت فيها لو جراتله حاجة، يارب اموت انا ولا يحصل إلى في بالي....
قالتها بدور تفيقها من شرودها، فهتف بها غاضبة:
- بس يا بت متقوليش كدة، لا انتي ولا هو ان شاء الله هيجرالكم حاجة، ربنا عالم بينا وبحالنا، أكيد خير
دلف رائف بخطوات مسرعة كاركض داخل المشفى، بعد ان علم اخيرا من احد اصدقائه من البلدة، بالذي اصاب ابن عمه وهو الاَن حديث الساعة، وصل إلى القسم المذكور، ليتأكد مما قيل له، وتوقف امام عائلته قائلًا باعين تعميها نيران الغضب، يوزع انظاره على الجميع:
- واد عمى مالو يا بوى؟ مين اللى استجرى وعملها يا حربى؟ مين اللي عملها يا جدى؟
اجابه عبد الحميد بقلق من هيئته:
- لسه محدش عرف حاجة يا رالف، احنا نفسنا جينا على ملا وشنا، وقاعدين زي ما انت شايف مستنين فرج ربنا .
رد بانفعال يهدد بحريق محتمل:
- يعنى ايه محدش عارف؟ واد عمي بين الحيا والموت في اوضة العمليات، وانتو محدش فيكم عارف، انا بجي لازم اعرف وحالا كمان.
دبت عصا ياسين بقوة على الأرض الرخامية للمشفي، ليهمس بحزم :
- أجل كل اللي في دماغك دلوك يا رائف، نطمن على واد عمك الاول وبعدين نسأل .
تدخل حربي هو الاَخر بحمية تثور بداخله:
- واد عمى مش هيكفينا فيه البلد كلها ؟
غضب عبد الحميد ليهدر كازًا على أسنانه:
- مش وجته الكلام ده دلوك يا غبي انت وهو، احنا في ايه ولا في ايه؟
تابع رائف بعند :
- مش وجته كيف؟ دا هو دا وجته، ولازم التنفيذ يبجى على الفور.
اضاف حربي هو الاَخر:
- ايوه يا عمى، ضربة واد عمى لازم تترد ع الحامى متستناش.
تدخل محسن بعد ان فاض به منهما :
- يا زفت انت وهو، الكلام ده ما يبجاش هنا، لا دا وجته ولا دا مكان ينفع يتجال فيه.
قال ياسين بحسم موجهًا الحديث نحو الجميع:
- ولا هنا ولا هناك، اهم حاجة نشوف ولدنا الاول نطمن عليه وبعدها كل الكلام يتجال
بقوله انهى الجدال، لتصمت الافواه جميعها، يكبتون غيظهم، في انتظار خروج عاصم من غرفة العمليات.
❈-❈-❈
بعد عدة ساعات
خرج مدحت ومعه طقم الأطباء والممرضين من الغرفة التي ضمتهم لإنقاذ عاصم، خرج سالم من جموده ليصل الى انن شقيقه الطبيب ليسأله بلهفة:
- طمنى يا ولدى واد عمك عامل ايه دلوك؟
بنظرة تحمل في طياتها الكثير، حاول بكل جهده ألا يزيد عليهم بضعفه وحزنه العميق على ما جرا لابن عمه، وما واجهه في غرفة العمليات حتى كاد ان يسقط أمام الفريق الذي رافقه من الأطباء والذين كانوا عوناً له ولولاهم ما كان استطاع ان ينقذ عاصم، فقال يجيب بتماسك مزيف:
- الحمد لله يا عمى اطمن.
- طب وحالته يا ولدي، زينة كدة ولا صعبة يعني؟.
لم يكد محسن ان ينهي السؤال حتى اجفل على صرخة قوية، ليلتف للخلف فوجد عاصم يخرج على سريره النقال، بحالة جعلت والدته تقع ارضًا، ليلتف نحوها السيدات ويرفعنها مع صوت صرخاتهن بجزع مزدوج، نحو الام والأبن، صاح نحوهن مدحت بحزم:
- هاتوها بسرعة نشوفها.
بدور الوحيدة التي تسمرت مكانها ولم تتحرك، وقد انخلع قلبها من محله وقت ان رأته بهذه الحالة، حتى خرجت صرختها بإسمه بدون ارداتها، قبل ان تحيطها شقيقتها بذراعها تهون عنها رغم ارتياعها هي الأخرى.
اما ياسين وابناءه ف التفو حول الحامل الذي ينقله ليوقفوه، حتى يتسنى لهم الرؤية عن قرب، وخرج صوت سالم يردد بحرقة:
- مين اللى عمل فيك كده يا ولدى؟ مين اللي أذاك يا حبيبي بالشكل ده؟ رد عليا يا نور عيني.
- ياجماعة خلونا نعدي بالمريض مش كدة الله يخليكم.
قالها الرجل الذي يسير بالحامل، ليجبر الجميع على التنحي حتى يكمل طريقه، فقال ياسين سائلًا:
- هما واخدينوا ورايحين بيه فين ؟
- على غرفة العنايه المركزة، دا شيء لازم .
قالها مدحت قبل أن يسحبه ياسين إلى ركن ما وحدهم، حتى يستطيع السؤال بحرية:
- واد عمك حالته ايه بالظبط؟ متخبيش عني.
بتنهيدة مطولة خرجت من العمق، اجاب بقلقل:
- بصراحة كده عاصم يا جدي لو مافاقش خلال ٢٤ ساعة.... يبجى ربنا يستر .
-❈-❈-❈
- عاجبك كده يا غبى؟ استريحتى يا محروسة بعد الدنيا ما خربت؟ افرحوا عاد ... الواد هيروح فيها وتجلب ع الكل.
كان يندب بها هاشم، وكفه تضرب على الاخرى المستندة على رأس العصا الغليظة:
ردت انتصار بعدم اكتراث مستنكرة:
- وه، طب وانا مالى عاد، انت هتجيبها فيا ليه؟
قال هاشم بغيظ يفتك به:
- دلوك انا هجيبها فيكى يا اختي؟ مكنتيش انتي السبب يعني في الزن واللت؟ لازم ولدى ياخد حجه يا هاشم،. لازم يبجالوا هيبة وسط الناس، الواد لازم يتربى عشان يبقى عبرة لغيره، ساكت ليه يا غبى؟
خرج الأخيرة بصرخة نحو ابنه معتصم، والذي كان جالسًا، على الاَريكة بينهما، باستكانة ولا مبالاة، وكأنه لم يفعل شيء، فقال ردًا على والده:
- وه يا بوى وانا يعنى كنت اجصد اللي حصل؟ مش حكيتلك بجى وجولتلك ع اللي حصل.
هدر به هاشم بصوت عالى:
- يا زفت الطين انت حس بجى، انت اللي هتروح فيها، لو حد عرف بإنك اللى عملتها، عاصم دا مش هين، دا شباب البلد تجريبا كلهم راحوا المستشفى وراه
قالت انتصار:
وايه اللى هايعلمهم بس؟ دى كانت حته مجطوعة زى ولدك ما بيجول، والدنيا هس هس بعد الفجرية، يعني لا من شاف ولا من دري.
- والله ما اضمن ولدك دا غبى ، وما اصدجه فى اى شئ.
قالها هاشم بضيق اثار سخط الاَخر ليهتف باعتراض
- خبر ايه يا بوى .. كل اللي على لسانك غبي غبي،
- كدبت انا يعنى ولا اتبليت عليك؟
قالها هاشم فنهضت انتصار بغضبها لتغادر الغرفة، وتلوح كفها بضيق مرددة:
- اجعد انت كدة كسر فى مجاديفوا، وجول غبي على كيفك لما هتخيبوا صح!
هتف هاشم من خلفها بصوت عالي حتى يصل إليها:
- انا برضوا اللي هخيبه يا انتصار؟ ولا انتي اللي جلعك الماسخ
❈-❈-❈
على مقاعد الإنتظار وبعد ان اطمئن على الحالة المستقرة لعاصم حتى يستفيق، او لا قدر الله يحدث ما لا يحمد عقباه، وذلك ما كان يقلق ياسين، حتى انه منع التحدث مع ابناءه واحفاده حتى يستبين القادم ، ويعطي نفسه الفرصة للتفكير الجيد في هذا الأمر الجلل.
كان يُسبح على مسبحته العتيق شاردًا حينما اتي احد الأشخاص يحدثه:
- حج ياسين ، عامل ايه عاصم دلوك؟
رفع راسه للتحقق من وجه الشاب الذي بدا انه يقارب في السن حفيده الاكبر بلال شقيق عاصم المغترب، فخرج صوته بسؤال
- إنت مين يا ولدى؟
اقترب برأسه اليه وامتدت كفه بالمصافحة قائلًا:
- انا عبد الرحيم، يا عم ياسين، اول واحد شاف عاصم ساعة.....
- ااه
خرجت من ياسين بتذكر ليتابع نحو الشاب بامتنان وكفه الاثنان يطبقان على كف الاَخر:
- تشكر يا ولدى على معروفك، انا سمعت من الشباب ع اللي عملته، والله جميلك دا على راسنا.
قال عبد الرحيم بوجه عاتب وهو يتخذ مكانه بجوار ياسين على أحد المقاعد:
- تشكرني ليه بس يا عم ياسين؟ هو انا عملت حاجة اصلا، عاصم دا زينة شباب البلد ويستاهل كل خير والله، من غير مجاملة.
ربت ياسين بكفه على كتف الاَخر يردد بكلمات الثناء عليه وعلى رجولته ، فتابع عبد الرحيم سائلًا بحيرة:
- طيب هو عم سالم فين اسلم عليه؟ انا مش شايفه خالص.
تنهد ياسين يجيبه بأسى:
- سالم ده الله يكون فى عونه، ما هي مرته كمان بعد ما شافت ولدها وجعت من طولها ودلوك هو عندها ... اتشندل ولدى لا عارف يجعد جمب ولده ولا عارف يطمن على مرته.
وعاد يتنهد مطرقًا رأسه بألم، حتى وصله صوت حربي والذي جاء يرحب بالاًخر:
- ازيك يا عبد الرحيم عامل ايه؟
نهض الاخير يصافحه بمؤازرة:
- اهلا يا حربى، الله يكون فى عونكم، فى مصابكم .
اومأ له حربي براسه مرددًا بالشكر والإمتنان ليردف:
- انا بلغنى انك انت اللى شيلتوا على كتفك وجريت بيه ع الوحده ومستنيتش الإسعاف تاجى تاخده.
ردد بالتهليل ياسين ليساله بفضول:
- بسم الله ماشاء الله عليك يا ولدي، لكن انت واد مين في البلد؟ متأخذنيش بجى، انت عارف السن.
- لا ولا يهمك يا عم ياسين، انا واد سليمان تاجر الفاكهة، احنا ساكنين فى اَخر البلد.
قالها عبد الرحيم، قبل ان يجفله حربي بسؤاله:
- لكن انت ما شوفتش اى حد من ولاد الحرام دول اللى عملوها؟ او حتى أي حاجة تدل عليهم.
رد عبد الرحيم بحمائية وانفعال:
- وهو انا لو شوفت حد منهم كنت هسيبه يا حربي، والله دا انا كنت جسمتوا نصين، ولاد الحرام دول انا مش عارف ان كانوا حراميه ولا ايه بالظبط؟ بس فى حاجة انا مرضيتش اوريها للحكومة واحتفظت بيها
- ايه هى دى؟
قالها حربي وجده بلهفة سريعًا قبل ان يدخل عبد الرحيم كفه في جيب بنطاله ليخرج لهم شيئًا ما رفعه أمامهما قائلًا:
- الساعه دى انا لجيتها فى يــ د عاصم كان ماسكها، مش لا بسها، يعنى احتمال تكن يكون بتاعة حد فيهم.. .
خطفها حربي منه ليتأملها باعين برقت بشر ليردد بغليل:
- انا عارف الساعة دى بتاعة مين يا جد، انا عرفت مين غاريمنا .
سأله ياسين بتوجس وعدم فهم:
- بتاعة مين دى يا حربى؟
- دى بتاعة المجلع واد العمدة يا جد، انا مش هاخليه يبيت فيها انهاردة
قالها حربي وهم ان يتحرك ولكن الاخر اوقفه على الفور"
-استنى هنا بالهداوة يا عم انت، الحاجات دى مالهاش الغشم .
رائف والذي اصابته الريبة من هيئتهم وصل اليهم سريعًا ليسأل بتحفز وقد وصله الجملة الاَخيرة:
- ايه هى دي اللى مالهاش الغشم؟
اجابه حربي بعصبية أظلمت ملامح وجهه الأسمر:
- واد العمده هو اللى غدر بواد عمك يا رائف بأمارة الساعه دى اللى لجيها عبد الرحيم فى يــ د عاصم .
سمع رائف لتزفر أنفاسه الهادرة، بخشونة سائلًا:
- وبتوجفه ليه يا عبد الرحيم؟ انا نفسى هخلص عليه حالا...
- أوجف عندك يا واد .
هتف بها ياسين ليتابع بحسم:
- اسمع الكلام انت وهو، عبد الرحيم بيتكلم صح .
اعترض حربي بعصبية:
- يعنى ايه يا جد الكلام ده؟ هتخلى ضربة واد عمى تبيت؟
- لا مش هنخليها تبيت، بس واد عمك دلوك فى ايــ د ربنا واحنا عايزين تبجى العين بالعين والسن بالسن .
قالها ياسين ليسأله رائف بعدم فهم:
- يعنى ايه يا جدى فهمنى؟
رد ياسين بحنكة اكتسبها من سنوات عمره العديدة:
- افهمك يا رائف انت وحربي.
❈-❈-❈
في غرفته داخل المشفى، دلف داخلها ليجد نهال منزوية على نفسها تبكي بحرقة وحدها، وكأنها ابت ان تظهر ضعفها امام الجميع، لتنخذ غرفته مخبأ لتساقط دموعها، اقترب منها ليجلس على حرف الأريكة، وقلبه انفطر عليها، على الرغم ان الحزن بداخله اضعاف، ود ان يحتضنها ليهون عليها وعلى نفسه، لكن للأسف لا يصح، دنى منها يقبل رأسها فوق الحجاب قبل ان يبادر بفتح حديثه معها:
- خلاص يا نهال، كتر البكا دا غلط عليكي .
رفعت وجهها المغرق بالدموع لتقول بصوت مبحوح زاد من ألمه:
- مش جادره يا مدحت، جلبى وجعنى على واد عمى، خصوصا بعد ما شوفت حالته الواعرة، هو ازاي في ناس كدة معندهاش جلب، عشان تعمل في واحد زي عاصم كدة؟
ابتسامة مريرة اعتلت ثغره ليقول:
- يعني انتي من شوفته بس بتعملي كدة؟ امال انا اللي كان تحت يــ دي في اوضة العمليات اعمل ايه؟ انا ربنا وجف معايا النهارده وعطاني جوة عشان اجدر اكمل ومهربش من انقاذه...
توقف برهة ليردف:
- مهما جولتك باللي حسيته مش هعرف اوصلك اللي حوايا، عاصم رغم فرق الاربع سنين اللى بينى وبينه وفرج التعليم، لكنه كان جريب جوي مني، دايماً بيفهني، خصوصًا في الفترة الأخيرة.
خاطبته برجاء سائلة؛
- تفتكر هيجوم منها يا مدحت؟
اومأ لها يجيب بثقة:
- هايجوم يا جلب مدحت، عاصم جوى وعنده اراده، دا غير انى انا كمان عملت حركة كدة عندى احساس كبير انها هتخليه يفوج.
- ايه هى دى الحركة ؟!
❈-❈-❈
في غرفة العناية، كانت هي الوحيده التي سمح لها بمرافقته لوقت ما، نظرًا لخطورة الحالة، وحساسية الوضع في العناية المشددة، جلست على الكرسي المجاور له، تخاطبه ببكاء:
- جوم يا عاصم، جوم انا فهمت دلوك وحسيت، ماعدتش البت الهبلة اللى شايفة نظراتك وافعالك اللى كلها حب ومش فاهمة يا عاصم انا يوم ما جيتلى وجولتلى ليه ما اخترتنيش؟ دا كان اول يوم ابتدى افهم فيه، وبعد ما اتخطبت لمعتصم فهمت اكتر .. وبجيت اقارن كلامه وكلامك، افعاله وافعالك، فى كل مره كانت كفتك انت اللى بتفوز، جوم يا جلبى، انا النهارده بجولهالك بالفم المليان، انا بحبك يا عاصم. يا واد عمى.
- جوليها تانى!
رفعت رأسها فجأة وقد خيل إليها انها سمعت صوتًا ما، فرددت سائلة بعدم فهم، رغم ظهور المؤشرات الحيوية التي تظهر افاقته، ولكنها لا تعرف او لا تصدق بمعني اصح:
- عاصم هو انت كنت بتتكلم؟ ولا انا بيتهيألي؟ عاصم ، عاصم .
رددتها عدة مرات حتى يأست، قبل ان تفاجأ على تحرك اجفانه، فتحرك قلبها يقفز بلهفة أرنب يجري في حديقته، حتى اشرقت شمس عينيه امامها، والتقت النظرات بعناق طويل قبل ان يخرج هي صوتها بتلجلج:
- عاصم....عاصم .
ردد ساخرًا بابتسامة رغم ضعفه:
- إيه؟!
ضحكت تردد ببلاهة:
- انت فوجت يا عاصم؟ فوجت؟
زاد اتساع ابتسامته وهي تتابع:
- الف حمد الله على سلامتك يا واد عمي، الف حمد...
- جوليها تانى .
قالها مقاطعًا رغم تعبه، فسالته بعدم تركيز:
- إيه هى اللى اجولها تانى؟
تبسم يجيبها رغم ضعفه:
- جولى بحبك وانتى عينك فى عينى .
لطمت على خدها مخضوضة تقول:
- يا مرارى، هو انت صحيت من امتى؟
ظهرت اسنانه بضحكة ضعيفة اشرقت بوجهه:
- من اول ما كنتى هبلة.
❈-❈-❈
في البلدة
كان معتصم يتخذ طريقه نحو القهوة التي تتيح له الشرب ومزاج الرأس من المكيفات التي يهوهاها، مهندم المظهر، بجلبابه الفاخر، يسير بتخايل وإعجاب بنفسه، متبخترًا كعادته، وقد زاده اليوم انتعاشًا بان تخلص من غريمه، بعد الاخبار التي وصلته، وقد اكدت له والدته انه سوف يخرج منها ولن تتركه يتأذى، فلا داعي للتاثر بكلمات والده، وهذا الخوف المبالغ فيه من جانب عائلة ياسين.
اجفل فجأة على صوت رصاصة انطلقت بين قدميه، صرخة قوية خرجت من حلقه، وقد ظن في البداية انها اصابته، لتظل انظاره مثبتة عليها لعدة لحظات بجزع وارتياع، قبل ان يرفع رأسهِ ليصعق برؤية من يقف امامه، حربي ورائف يمسكان بسلاحين، مرتديان الجلباب القاتم اللون، بهيئة إجرامية وكأنهم رجال عصابات او مطاريد الجبل المعروفين
انسحبت الدماء منه حتى اصفر وجهه أمامهم وجحظت عينيه ليلوح بكفه يردد باستفهام:
- إيه؟ في إيه؟
لوح له حربي بسبابته حتى يعود، هو متخشب محله بعدم فهم وقد شل الخوف اطرافه، متسائلًا:
- ليييه ؟!
زفر رائف بضيق وقلب عينيه بسأم، يخطف نظرة سريعة نحو حربي وكأنها لغة بينهما، قبل ان يباغته بطلقة أخرى، ويتبعها عدد آخر ومعه حربي حول الاخر، الذي لم يصدق نفسه وهذا الوابل من الرصاص يحاوطه من كل جانب، ليرتد على الفور صارخًا بصوته العالي:
- اللحجنى يا بوى .. اللحجنى يا بوووووى .
في منزل مدحت في المحافظة، وبعد ان بات الجميع ممن حضروا من العائلة بدخلها ليلتهم، فور أن اطمئنوا على استفاقة ابنهم في غرفة العناية بعد العملية الجراحية التي قام بها، اجتمعوا على طاولة السفرة ليتناولوا وجبة الإفطار، اعمامه ونساءهم، حتى نهال ايصًا اضطرت لعدم ترك والديها ومرافقتهم في هذه الليلة العصيبة.
كان الحديث العادي هو الدائر الان بعد أن التقطوا أنفاسهم وهدأت النفوس قليلَا
فقال محسن متغزلا بانبهار وعينيه تجول في الأرجاء:
- بسم الله ما شاء الله، الشجة بتاعتك يا ولدى حاجة من الاخر كدة يا دكتور .
تمتم إليه مدحت بامتنان وترحيب:
- تشكر يا عمى، والله دا انتو نورتونى بزيارتكم فيها، دي أول مرة افطر بنفس من ساعة ماسكنتها.
رد راجح بإعجاب هو الاخر :
- دا نورك يا ولدى، الشجة حلوة صح زى ماجال
محسن .
- ناجصها بس العروسة يا دكتور.
عقبت بها هدية، لتسبق والدته للرد بلهفة:
- ايوه يا ختى ادعي، دا انا نفسى اشوف اليوم ده وهموت عليه .
قال مدحت وهو ينهض عن مقعده بجوارهم:
- سلامتك من الموت ياما ان شاء الله. اليوم ده يبجى جريب، جريب جوي ان شاء الله.
قال الأخيرة وانظارها اتجهت نحو نهال بمغزى صريح، جعلها تخجل لتنكفئ على طبقها، تخشى ان ينتبه أحد من العائلة على تلميحه، والذي فهمته بدور لتلكزها اسفل الطاولة، لتغمز إليها بمكر ضاحكة بصوت مكتوم، جعل نعمات والدتهن تنهرهن بقولها:
- مالك يا بت انتى وهى، نازلين مسخرة وضحك كدة من غير سبب؟
تدخلت راضية تقول مبتسمة بمكر:
- ما تسيبهوم يضحكوا يا ست انتي، مش احسن من الغم اللى احنا كنا فيه امبارح .
تغضنت ملامح نعمات مع تذكرها للحادث بالأمس لتقول:
- الحمد لله، ربنا ما يعيدها تاني أبدًا، دا احنا ربنا نجدنا من الخازوق الواعر ده، لما ولدنا جام منها.
تدخل راجح هو الاَخر يضيف على قولها
- عشان ربنا كان كريم معانا لما ستر، دا عيالنا كانوا ولعوا فى البلد كلها .
- الحمد لله، ربنا يتم شفاه على خير.
قالها عبد الحميد بتأثر قبل أن تجفله نيرة بوضع الصنية على سطح الطاولة بجواره قائلة بنزق:
- الشاى اهه.
هتفت بها والدتها تنهرها:
-ومالك بترزعيها رزع كده؟ اتجنيتى يا بت؟
ردت نيرة وهي تسقط بجســ دها على المقعد بضيق:
- ياما انا جعانة وعايزة افطر زيكم، لكن البنته دول طلعوا يفطروا معاكم وسابونى اسوى الشاى لوحدى.
نهضت نعمات لتقوم بتوزيع أكواب الشاي الساخن قائلة بحرج
- معلش يا حبيبتي، افطرى دلوك وحقك عليا منهم، مضاريب الدم دول اللى سابوكى لوحدك .
مصمصت بفمها راضية وهي تطالع ابنتها التي انكفت على تناول الطعام بنهم، متمتمة:
- اموت واعرف بتودى الوكل فين؟ اللى ما باين عليها وكل ولا شرب حتى بجســ مها المعضم ده!
- بيروحوا فى خدودها الموردين دول، الله اكبر عليها، ولا انتي هتنكريها دي كمان يا ولية انتي؟
عقبت بها هدية لتبستم لها نيرة تقول بامتنان:
- تسلمي يا مرت عمى، دي عنيكي هي اللي حلوة.
- ايوة يا ختي افردي نفسك جوي.
قالتها راضية بتهكم، لتدخل في نزال مع هدية وسميحة ايضًا حول الشهية المفتوحة لنيرة، والتي كانت نتشارك معهن الحديث ضاحكة وغير مبالية، اما نعمات فانتبهت لكوب الشاي المتبقي لتتذكر قائلة وهي تتناوله:
-خدى يا بدور ودى كباية الشاى دى لواد عمك الدكتور فى المكتب، دا احنا كننا نسيناه.
همت ان تنهض الأخيرة لطلبها، ولكن راضية تدخلت بخبث:
- لا يا حبيبتى كملى وكلك، انتى جيتى فى الاخر، روحى انتى يا نهال ودي لواد عمك كباية الشاى .
باحراج شديد اذعنت لمطلب زوجة عمها، لتتوجه نحو غرفة مكتبه في المنزل، حاملة صنية الشاي بيــ د والأخرى طرقت بها على الباب، لتسمع إذنه بالدخول، ودلفت تقدم قدم وتأخر قدم، تموت من الخجل وهي تخاطبه:
- الشاي.
سمع منها لترتفع رأسه نحوها على الفور تارك الاوراق وبعض الأشياء الهامة التي كان يعمل بها، وتركزت ابصاره عليها وهي تعيد عليه ولكن بصيغة أخرى:
- اتفضل.
بابتسامة متسعة ناكفها بمرح:
- اتفضل ايه؟ مش تحددي بالظبط.
زمت شفتــ يها، تمنع ضحكة ملحة لتضع الكوب الساخن امامه على سطح المكتب، وتهم أن تهرب سريعًا ولكنه أوقفها بأن أمسكها من رسغها يقول مستهبلًا:
- مش تردى عليا وانا بكلمك، ولا انا مش مالك عينك عشان تعبريني؟
باعتراض واهي وابتسامة مستترة:
- يا عم سيب يــ دى باه، عايزه اطلع، ايه هو ده؟
ضحك بتسلية يجيبها:
- ماشى هسيب يــ دك واخليكي تطلعي كمان، بس جوليلى الاول، عجبتك الشقة؟
أومأت بهز رأسها وصوت خفيض:
- حلوة وجميلة.
جعد ما بين حاجبيه يردد خلفها:
- حلوة وجميلة بس؟ طب لو فيها حاجة مش عجباكي، أو عايزه تغيرها كلها كمان جولى وانا اغيرها من بكرة، دي هتبقى شجتك، يعني الرأي الأول ليكي.
تخضبت الدماء في وجنتيها على الفور، واضطربت لتردد بتلجج بعد أن اربكها بقوله:
- اجول ايه؟ ولا اعيد أيه؟ لسه مجاش وجت الكلام ده؟ بقولك خليني امشي يا عم.
ضحك مرة أخرى لكي يردد هذه المرة بجدية:
- ان شاء الله يكون جريب، وجريب جوي كمان، المهم بجى انتى نمتى كويس امبارح؟
- الحمد لله، السرير كان مريح، اللى نمت عليه انا و بدور و نيره .
قالتها نهال بعفوية لتجده يقول بلؤم:
- يا بختك نمتى واستريحتي، اما انا بجى حاولت انام ع الكنبة اللي هنا دي، لكن النوم وكانه خاصمني ما عتب جفوني أبدًا.
سألته بقلق :
- ليه بجى؟ هى الكنبه هنا مش مريحة؟
رد بوجه بريء وأعين تشع بالجرأة:
- لا هى مريحة وكل حاجة لكن المشكلة عندي انا.
ناظرته باستفهام، فتابع يفاجئها:
- يعني عايزه تنامى فى الاؤضه اللى جمبى وانا يجينى نوم؟
قالها لتشهق مجفلة بخجل من رده المباغت، وبدون كلمة واحدة حتى، تحركت أقدامها للمغادرة من أمامه على الفور، وصوت ضحكاته تجلجل من خلفها
❈-❈-❈
في المشفى
وبداخل الغرفة التي انتقل إليها عاصم، بعد أن أطمان على حالته الأطباء، كانت سميحة تقبله بفرحة غامرة وعدم تصديق مرددة:
- يا حبيبى يا ولدى يا نور عينى، ان شا الله كنت انا يا غالى.
بحرج شديد رد عاصم وملامح متغضنة:
- بعد الشر عليكى ياما، خلاص كفايه بوس، الله يخليكى .
انتبهت لترفع نفسها عنه مرددة بجزع:
- إيه يا ولدي اَللمتك؟ يجطعني يا حبيبى مخدتش بالي، جولي إيه اللي واجعك؟
صمت عاصم فتكلف سالم والده بالرد وقد فهم عليه من ملامح وجهه:
- يا ولية كفاية بجى، الواد خزيان من بوسك اللى عمال على بطال.
اعترضت سميحة وهي تجلس على الكرسي المجاور:
- وه يا راجل؟ مش فرحانة بسلامته، دا انا كنت هموت فيها وما صدجت رجعلى وفتح عينه وكلمني.
جلس هو الاخر سالم يردد هذه المرة بتفكه:
- اه في دي انا مجدرش اكدبها يا عاصم، امك يا ولدى كانت زى الميتة بعد اللي حصل، وبس ما جولنالها، عاصم فاج ونجلوه اؤضه تانية، لجيناها جامت فجأة جدامنا ولا اكنها كانت بتمثل.
تناولت سميحة كف ابنها تقبله معقبة على كلمات زو جها:
- امثل دا إيه؟ دا انا روحى اتردتلى لما علمت بسلامته، بس ايه بجى، البركة فى الدكتور مدحت، اللى خلى ست الحسن والجمال تجعد جمبك وتكلمك، عشان عارف ان روحك فيها وهتجوم عشانها .
اشاح بوجهها مرددًا بحرج متزايد:
- وه ياما، ايه اللى انتى بتجوليه ده بس؟
تدخل سالم ضاحكًا:
- بتجول اللى حصل يا سعادة الباشا، وانت خزيان ليه؟ ما احنا عارفين اللى فيها، ربنا يجعلها من نصيك يا ولدى انا شايف ان البت كمان بجت ميلالك، دا انت ماشوفتش بكاها وحرجتها عليك امبارح .
على الرغم من طبول الفرح التي كانت تضرب بداخله لسماع هذه الكلمات من والديه، وشرحهم عما كانت عليه بالأمس، بجزعها عليه، ثم فرحها باستفاقته، وهذا ما لمسه بنفسه، فضل الا يتابع معهما وترك كل شيء لوقته، فقال مغيرًا دفة الحديث:
- امال حربى ورائف فينهم؟ انا مش شايفهم من امبارح يعني؟
ضحكة عالية صدرت من سميحة قبل أن تجيبه:
- اسكت يا ولدى، عيال عمك منشفين ريج العمدة وولده، بيلعبوهم زى الجط والفار لحد اما يربوا معتصم ويدولوا الطريحة اللى هى .
-وهما ما لهم؟ أنا بس اجوم وان ما كنت عرفت العمده وولده مجامهم مبجاش انا.
قالها عاصم باحتقان، وجاء الرد من والده:
- واحنا لسة هنستنى لما تجوم؟ انت وراك عزوة وعيلة واللى حصل يخصنا كلنا مش وحدك .
- ايه هو اللى يخصنا كلنا؟
رددها ياسين بعد ان دلف إليهم فجأة داخل الغرفة، ابتهج عاصم بمجيئه حتى نسى وضعه وكاد أن يعتدل بجدعه:
- جد ياسين.
اوقفه ياسين بكف يده التي لوح بها أمامه قائلًا:
- خليك مكانك، انتى هتجوم وانت مدشدش يا جزين؟
قالها متفكهًا قبل ان يقترب يُقبل رأسه ويردف:
- عامل ايه النهاردة يا حبيبي؟
رد عاصم بابتسامة ممتنة:
- تسلملى يا جدى، الحمد لله على كل حال .
سمع ياسين ليُلقي نظرة شاملة على حجم الكسور بجســ د الاَخر، ليقول:
- يا حزنى، دا انت اتكسرت خالص يا جزين .
بوجه مشتد رد عاصم:
- الكترة تغلب الشجاعة يا جد، لكن ولا يهمك انا برضوا كسرتهم وما سيبتش حد فيهم من غير ما اعلم عليه.
قال ياسين مؤيدًا وهو يجلس على طرف الفراش بجواره:
- انت هتجولى؟ ما عيال عمك جالولى على اللي حصل في معتصم ومناخيروا المكسورة.
سمع عاصم ليقول بغضب مع تذكره لما حدث له وما فعله هذا الجبان:
- سيبوهولى يا جدى، إبعد عيال عمى عن الموضوع ده، انا كفيل اسد فيه لوحدي.
بحمية وعصبية هتف ياسين معترضًا:
- ابدا ولا يمكن، أنا لازم اعلمهم الادب هو وابوه، ولا يكونش انت فاكر، ان معتصم الاهبل ده هيعمل حاجة من غير شور ابوه؟
صمت عاصم بتفكير فقال سالم بتذكر:
- صح يا عاصم نسيت اجولك، اخوك بلال علم باللي حصل، ونازل مخصوص عشان يشوفك.
رد عاصم بصوت عاتب:
- وليه بس تجولوا ل بلال وتجلجوه فى الغربه يا بوى؟ دا كدة خوفه هيبقى اضعاف.
رد سالم نافيًا:
- ويعني احنا حد فينا فتح خشمه وجالوا يا ولدى؟ دا ناس من البلد زميالوا، هناك عرفوا من اهاليهم وجالولوا، مفيش حاجة بتستخبى يا ولدي، خصوصَا المصايب.
أومأ عاصم متنهدًا باستسلام واقتناع بقول والده:
- ينزل بالسلامة ان شاء الله .
❈-❈-❈
في المنزل العمدة والذي كان يقطع السير بصالته ذهاباً وإيابًا، هتف معتصم بجزع:
- اعمل ايه يا بوى ؟ اعمل ايه ياما ؟ انا مش جادر انام من الخوف.
زفر هاشم يجيبه بسخرية غاضبة:
- وانا اعملك ايه يا خايب يابن الخايبة؟ انيمك فى حضنى ولا اديك منوم؟
تدخلت انتصار توبخ زو جها:
- ما براحه على الود يا عمدة، انت مش شايف الرعب اللى هو فيه؟
ضرب بكفه على جانب فخذه يخاطبها بسخط:
- راحة ايه يا اختى؟ هو عاد فيها راحة؟ ما خلاص الحكايه بانت وولدك ربنا يستر وما يروحش فيها .
صرخت به:
- بعد الشر، انت بتفول على ولدك يا راجل؟
زاد الرعب بقلب معتصم ليجلس ملتصقًا بها يردد:
- صح ياما الكلام اللي بيقولوا ابويا ده؟ يعني هما ممكن فعلًا يخلصوا عليا؟
بكف يــ دها انتصار صارت تربت على ظهره وكتف ذراعه تهدهده:
- لا يا حبيبى متجلجش انت ، ان شاء الله نلاجيلك صرفة، ونخلصك من الموضوع ده نهائي.
ردد خلفها هاشم بسخط وقرف من أفعالها ودلالها المبالغ فيه لابنها:
- صرفة ايه يا ختى و رائف و حربى مراجبينوا وبيطلعولوا زى عفريت العلبة في أي حتة يروحها، دا فاضل بس يطلعولوا من الحنفية.
صاح معتصم بجزع:
- طب يا بوى ما تبلغ عنيهم العيال دي وتريحني وتريح نفسك، انا تعبت منيهم ومن عمايلهم معايا.
بضحكة خالية من أي مرح ولم تصل لعينيه قال هاشم:
- ابلغ اجول ايه؟ طب انا بعت الغفر امبارح فى المكان اللى جولت عليه ومالجوش حد منهم، الشغل ده شغل ياسين، انا عارفه دا بلوه مسيحة
- يعنى ايه؟ خلاص معدتش في حل ولا صرفة للعيال دي؟
هتفت بها انتصار وقال هاشم ردًا عليها:
- والله ما انا عارف، وحاسس مخي واجف عن التفكير، لكن اللى هيجننى هما عرفوا ازاى بالسرعه دى؟ جبل حتى ولدهم ما يفوج من الغيبوبة، طب حد شافوا يعني؟
استدرك عاصم يقول بتذكر:
- انا افتكرت حاجة يا بوى وحاسس انها تكون هي السبب، اصل من امبارح ملاجيش الساعة الجديدة، وخايف ليكون وجعت فى العركه ولا يكون عاصم شدها منى، ساعة ماخبطنى بالروسية وكسرلى مناخيرى .
صاح هاشم بانفعال شديد، يشعر ببواد ذبحة صــ درية، بعد ان صعقه معتصم بهذه المعلومة الخطيرة:
- يكون! يكون برضوا يا واد الخايبة؟ دا اكيد ألأكيد كمان، اعمل ايه فيك الله يخرب بيتك؟ كده بجي فى ايديهم دليل يعنى ممكن يحبوسوك بيه، اعمل ايه بس معاك؟ انا خايف لا تنزل عليا جلطه بسببك انت وامك.
❈-❈-❈
عودة إلى المشفى
وقد تجمع اعمام عاصم وزو جاتهم، تقريبًا جميعهم بالغرفة معه، حتى يطمئنوا عليه:
فقال راجح:
- سلامتك الف سلامه يا ولدى، دا انت نزعت جلوبنا من الخوف عليك، بس حمد لله ربنا ستر.
- يا للا بجى شد حيلك عشان ترجع وتنور بيتك .
قالها عبد الحميد لتضيف على قوله هدية زو جة محسن:
- اهم حاجه الوكل، اتوصى بيه يا سميحة زين عشان يرم عضمه، ويجوم أشد من الاول.
سمعت الأخيرة، لتردد بتعب:
- جوليلوا يا هدية، جوليلوا يا خيتي ونبهيه عليها دي، دا من الصبح منشف ريجى، وهو مش عايز ياكل ولا يشرب حتى زين؟
تدخلت راضية هي الأخرى:
- لا يا ولدي خلي بالك منها دي، دا واد عمك مدحت مشدد علينا جوى فى حكاية الوكل ده، وهو دكتور، يعني هو ادري بكلامه.
- اسمع الكلام يا واد، مفيش حاجة هتجومك على حيلك غير الغذا الزين،
قالها محسن ليرد على قولهم عاصم:
- يا جماعة انا عارف كل اللي بتقولوه ده، بس هو شوية شوية يعني، انا لسة نفسى مسدوه ومش جادر والله.
انتفض سالم فجأة قائلًا بنزق:
طب اسيبك انا مع كلام الحريم ده واروح الجهوه اشربلى حجرين معسل، حاسس نفسي اتكتفت من كتر الجعدة.
- وانا كمان جاى معاك.
قالها راجح وهو الأخر ينهض، لينضم معهما محسن وعبد الحميد أيضًا، ويغادروا الغرفة، تاركين النساء بالقرب من عاصم، والفتيات نهال ونيرة وبدور في جانب وحدههم ما زالن واقفات، لتخاطبهم سميحة:
- ما تجدموا يا بنتة، سلموا على واد عمكم واطمنوا عليه .
تقدمت اولهم نيرة تخاطبه:
- ألف سلامة عليك يا واد عمى، تجوم منها ان شاء الله وترجع احسن من الأول.
- الله يسلمك يا نيرة، تسلمي يا بت عمي.
قالها عاصم ليلتفت نحو الأخرى بجوراها والتي خاطبته هي الأخرى بابتسامة وخجل:
- حمد الله على سلامتك
بادالها عاصم الابتسام للرد عليها:
- الله يسلمك يا بدور.
قاطعت نهال وصل النظرات المتبادلة بين الطرفين، لتهتف بسماجة:
- عاصم يا واد عمي.
ردد متبسمًا لها:
- أيوه يا نهال يا بت عمي .
ضحكت تردف له:
- سلامتك.
بادلها الضحكة يجيبها:
- الله يسلمك .
❈-❈-❈
بداخل المشفى التي وصلها للتو رائف، كان يقطع طريقه نحو المصعد المؤدي للطابق الموجودة به غرفة عاصم ، حينما استوقفه صوت نسائي يهتف بإسمه، ليلتف إلى المرأة، وتوقفت مزبهلًا لمن وقفت أمامه، تخاطبه مبتسمة:
- ايه دا؟ معقول؟ أوعى تكون ما عرفتنيش؟ لا دا انا كدة هزعل اوي؟
استدرك رائف ليبادر المرأة ومد كفه أمامه للمصافحة قائلًا بزوق:
- لا ازاى عارفك طبعاً؟ انتى الدكتورة مها، انا بس كنت مستغرب في البداية.
قالت مها بعد ان بادلته المصافحة:
- مستغرب ليه بقى دا انا حتى دكتورة، يعنى طبيعى لما تلاقينى فى مستشفى اللي بشتغل فيها ولا انت تقصد حاجة تانية
شعر رائف بضيق بداخله منها ومن الحديث معها، ولكنه استطاع ان يخفي ذلك خلف ابتسامته وقوله:
- لا طبعاً ما اجصدش حاجة، انا بس بجالى سنين ماشوفتكيش، شيء طبيعي يعني اني اتوه شوية .
قالت مها بابتسامة لم تغادرها منذ بداية اللقاء:
- لكن انا اول ما شوفتك افتكرك على طول، ها بقى انت ايه اخبارك؟
❈-❈-❈
خرجت نهال من الغرفة لتبحث عن مدحت في الطابق الذي أخبرها منذ قليل عبر الهاتف انه يعمل به، ولكن في طريقها كادت تصطدم بأحدهم، فارتدت بأقدامها للخلف مرددة بأسف وانظارها في الأرض:
- انا أسفة ما كنتش واخده بالى .
جاءها صوت الرجل:
- على ايه بس؟ دى حتى صدفة جميلة، ازيك يا انسة نهال .
رفعت رأسها نحو المتحدت بجزع وقد علمت بهويته من صوته، فقالت على مضض وهي تهم ان تتحرك وتتركه:
- اهلا وسهلا حضرتك، كويسة والحمد لله.
حاولت التحرك ولكنه اوقفها بسؤاله:
- عاصم ابن عمك عامل ايه دلوقت؟ دا انا زعلت اوى على اللى حصله.
اومأت له برأسها تقول بضيق وعينيها تجول يمينًا ويسارًا تخشى من مجيء مدحت ورؤيتها واقفة مع هذا الرجل:
- الحمد لله زين، هو دلوك احسن من الاول بكتير... ايه دا رائف اللى هناك ؟ عن اذنك اروح اندهله .
قالت الأخيرة وانظارها بالفعل ذهبت إلى محل الاَخر حيث يقف، فرد يونس لها بخبث:
- طب استنى الاول، هو انتى تعرفى هو واقف مع مين، قبل ما تروحي وتسلمي او تندهي؟
ناظرته باستفهام تجيبه:
لا طبعًا معرفش، بس هي باين عليها انها دكتورة يعني.
- بس كدة! تعرفي انها دكتورة وبس؟ ومتعرفيش انها تبقى مها خطيبة مدحت سابقاً؟
قالها يونس ليرى على الفور، رد فعل كلماته على ملامح وجهها وهي تهتف باستنكار:
- خطيبته ازاى يعنى؟ انا عمرى ما سمعت انه كان خاطب.
تبسم يونس يردف لها:
- ما هو كان مشروع خطوبة لأنهم كانوا بيحبوا بعض اوى بس ما عرفش ايه اللى حصل وخلاهم فركشوا واتجوزت هى استاذوا فى الجامعة بس اهى اتطلقت . ربنا يلم شملهم تانى .
قالها هذا المدعو يونس فشعرت هي وكان دوار برأسها بدا يدور، ليلفها داخل غمامة من الأفكار السوداء، لا تصدق ولا تستوعب ولكن يبدوا من طريقة هذا المدعو يونس في الحديث الثقة التامة فيما يردف، استغل يونس شرودها وهذا الحالة من التيه التي تكتنفها ليسألها:
- هو صحيح انتى مخطوبة لمين فى ولاد عمك يا نهال؟
التفت تطالعه عاقدة الحاجبين باستغراب لتجيبه بعدم تركيز:
- مين جال إني مخطوبة، أنا مش مخطوبه لحد، عن اذنك .
قالتها وارتدت تعود للغرفة، صارفة النظر عن البحث عن مدحت، اما هو فكانت تغمره فرحة غير عادية!
❈-❈-❈
عادت إلى الغرفة بحالة شاردة جعلت راضية تنتبه عليها لتسألها باستغراب:
- مدحت ولدي مجاش معاكى يعنى؟ مش انتي كنتي راحة تندهيلوا؟
ردت نهال وهي تجلس بجوار شقيقتها:
- انا ما عرفتش هو فين؟ مشتفوش اساسا.
همست بدور تسالها باستغراب هي الأخرى:
- ايه مالك شكلك متغير ليه كده؟
طالعته نهال بتفكير، عدة لحظات حتى حسمت الامر للتحدث معها، فهي في أشد الحاجة لمشاركة احد قريب منها لمخاوفها:
- بجولك ايه يا بدور، تعالى نطلع شويه فى البلكونة.
❈-❈-❈
- صباح الخير يا بطلنا .
قالها رائف وهو يقتحم الغرفة فجأة ضاحكًا، لتبادله سميحة الابتسام مرددة
- خش يا حبيبى، دا واد عمك بيسأل عليك من ساعة ما فاق، انت وحربي معاك.
- وانا جيت اها، عامل ايه النهاردة بجى،
قالها وهو يصافح عاصم بخفة، والذي رد هو الاَخر:
- زين والحمد لله يا سيدي، ناجصنى بس شوفتكم انت وواد عمك حربى، هو مجاش معاك ليه؟
غمز رائف ضاحكا يجيبه:
- عشان مينفعش احنا الاتنين مع بعض يا باشا، أصلنا عملينها دوريه ولازم حد فينا يكون موجود فى البلد .. عشان المحروس ميغبش عن عنينا، ولا انت محدش بلغك باللي احنا بنعمله؟
ضحك عاصم يرد:
- وطبعاً رئيس العصابة جدى ياسين
جلجل رائف يردد ضاحكًا:
- طببعاً، أمال يعنى هيكون ابوك وعمامك الغلابة
❈-❈
بالشرفة التي انفردن بها معًا سالتها بدور:
- طب وانتى اتأكدتى من كلامه دا كمان عشان تشيلي الطين كدة وتنجهري؟
اجابت نهال:
- مش عارفة، بس هو هيألف مثلًا ولا هيجيب كلام من مخه؟ وحتى لو حصل، هيبجى ليه؟
طب لو فرضنا طلع الكلام صح، انتى يهمك فى ايه؟ .
- كيف ميهمنيش انى اعرف انه كان مجاطع الجواز عشان حبيبة الجلب اللى غدرت بيه واتجوزت استاذه ودلوك جاعدة معاه فى نفس المستشفى .
قالتها نهال بعصبيه اربكت شقيقتها لتتمتم:
- بصراحة انا مش عارفه اجولك ايه؟
- انتي مش عارفة وانا مخى هينفجر وحاسه الارض بتلف بيا .
قالتها نهال قبل أن تجفل على النداء باسمها:
- يا نهال يا نهال تعالى هنا .
التفت الأخيرة عائدة نحو الداخل لتجيب أبيها وخلفها شقيقتها:
- ايوه يا بوى عايز ايه؟
استقبلها راجح بضحكة متوسعه بفرح يخبرها:
- جالك عريس يا بتى، شكلنا كده هنطلع من المستشفى بجوازه يا عاصم يا واد اخوى .
سمع الاَخير وازبهل صامتًا وهو ونهال ومعهما كان رائف وبدور نفس الشيء، فجاء الرد من راضية بحدة:
- عريس مين ده يا ابو ياسين اللى معندوش دم عشان يتجدم فى الوجت ده؟
قطب راجح من لهجة راضية المهاجمة بدون داعي، فقال موضحًا:
- وه يا مرة اخوى ... الراجل غريب وبيدينى فكرة عشان يتجدم رسمى بعدين، يعني مطلبش حاجة عيب ولا حرام.
دلف مدحت ومعه جده بوسط الحديث الدائر، فسأل بفضول:
- هو مين اللى يتجدم رسمى يا عمى؟ الموضوع فيه عرسان ولا إيه؟
التقط راجح السؤال ليرد بفرحة وفخر:
- واحد مركزه كبير جوى هنا فى المستشفى وبيجول انه صاحبك حاجة كده جيمة وسيمة:
ضيق مدحت عينيه بتفكير سائلا:
- مين دا اللى جيمة وسيمة؟ وعايز يتجوز مين؟
هتف راجح وكأنه يخبره بالبشري:
- اسمه يونس يا عم الدكتور، وعايز يتجدم ل نهال؟
سمع منه لتفور الدماء برأسه، وبرقت عينيه بشر ليردف بدون تفكير، مدافعًا عن حقه:
- مين يتجدم لمين؟ نهال مخطوبة اساسًا يا عمي.
- مين يتجدم لمين، نهال مخطوبة يا عمي اساسًا؟
قالها بعصبية وتقرير وكأنه يتحدث عن شيء محسوم، مما جعل راجح يردد بعدم استيعاب أو كأنه لا يصدق ما وصل لأسماعه:
- نهال مخطوبة! ازاي يعني؟..... كيف؟ ولو مخطوبة يبجى لمين ان شاء الله وابوها ما يعرفش؟
اجابه الاخر حاسمًا بدون تفكير:
- انا يا عمى، وخطبتها من جدى كمان؟
ردد راجح ساخرًا بنظرة محتقنة
- يا حلاوة، ودا حصل من غير ابوها ما يعرف؟
تحمحم ياسين يخاطبه بمهادنة:
- يا ولدى هو كلمنى من فترة طويلة، بس انا اللى كنت مأجل عشان ورايا شوية مواضيع ومشغول فيها؟
تدخلت راضية تضيف هي الأخرى:
- يعني في بيتها يا راجح، دا واد عمها وطلبها من جدها، مش حد غريب هو.
صرخ راجح بها فاقدًا عقد تحكمه:
- لكن دا بيجول خطيبها من جبل ما ياخد موافقتي! ما ليش جيمه انا على كدة، عشان الباشا يقرر هو وجده، ويركنو ابوها على جمب.
شعر مدحت بفداحة الخطأ الذي ارتكبه، فقال بلهجة لينة يخاطب عمه:
-  يا عمى ما تزعلش منى ولا تاخد على كرامتك، احنا معملناش اي فعل، دا كان مجرد كلام ع الطاير وطبعا كل حاجة بعد شورتك، وانا دلوك اللي خلاني اتكلم هو اني اتعصبت لما عرفت ان البارد ده اتجدم ل نهال وانا جايلوا انها مخطوبة.
قالت نعمات بلهجة هادئة من أجل ترضيته:
- خلاص يا بو ياسين، هدي كدة، الموضوع خير ان شاء الله، مدحت واد عمها وهو أولى بيها.
سمع منها راجح وتجاهل متجه بخطابه نحو نهال:
- وانتى يا سنيورة ساكته ليه؟ مش عوايدك يعنى؟ ولا يكونش انتى كمان عارفة؟
اسبلت أهدابها بخفر لتطرق برأسها نحو الأرض صامتة، مما ساهم في ازدياد انفعاله، ليصيح بها:
- يا صلاة النبى، دا على كده انا اخر من يعلم !
صاح به ياسين بدوره:
- خبر ايه يا راجح؟ هو انت شوفتهم اتجوزوا يعني؟
بغضبه التف إليه يهتف بانفعال:
- ما هو دا اللى ناجص كمان؟ جومى يا نعمات، جومى يا بدور، خلونا نمشى.
سمعت الأخيرة لترد بسؤال:
- نمشى نروح فين يا بوى؟
ردد خلفها مستهجنًا:
- نمشى نروح بلدنا يا غندورة ولا انتي نسيتى ان  وراكى مدرسة؟
- لا منسيتش بس فيها ايه يعنى لو غبت يومين دى ثانوى زراعى، مش ثانوية عامة ولا حاجة مهمة.
قالتها ببساطة لتبرق عيني الاخر غيظًا وهو يهدر بها:
- وتغيبى ليه اساساً؟ ما احنا اتطمنا على واد عمك وخلاص، ولا انتي مصدجتي وافتكرتيها فسحة!
ردت بثبات تحسد عليه:
-لاه يا بوى لسه لما يجوم على رجله هبجى اتطمن مش دلوجت.
عقبت سميحة بالقرب منها:
- جدعه يا بدور، هو دا الكلام الصح، ما تسمع منها يا راجح، وسيبها تجعد لها يومين تطمن على واد عمها .
- وتجعد ليه؟ وإيه لازمة جعادها اساساً؟
صاح بها راجح قبل أن تجفله بدور بجرأة غير متوقعة:
- لازمتوا انى خطيبتوا، ما هو خطبنى انا كمان من جدى زى الدكتور مدحت ما خطب نهال.
قالتها ليُصعق عاصم بردها، لا يصدق ما التقطته اسماعه،
ويخيم الإزبهلال على وجوه باقي الافراد في الغرفة، بردود افعال مختلفة، سميحة تود إطلاق زغروطة مدوية، ونهال تناظر شقيقتها بأعين زائغة، لا تصدق ان شقيقتها جرأت على هذا الفعل، رائف وراضية ومدحت ونعمات أيضًا تلجمت افواههم عن المجادلة، وقد تفاجأو بالخبر الذي جعل هدية بجوارهم تغلي من الغيظ.
وياسين وسط كل هذا يعصر بعقله، ويراجع نفسه، إن كان عاصم قد حدثه قبل ذلك عن هذا الأمر.
مما ساهم في ازدياد تأجج جذوة الغضب بقلب راجح الذي التف لوالده بانفعال اختلط بعتبه:
- طب ما تجوزهم احسن من ورايا يا بوى!
اضطرب ياسين وقد اربكه الوضع عن التكذيب او التصديق، فقال بمهادنة:
- يا ولدى ما تخدتش كل حاجة كدة بعصبية، انا بجولك اها، كل اللي حاصل جدامك دا كلام، واهم حاجه رأيك انت في الأول والآخر.
خرج صوت راجح بهدوء ولوم:
-رأيى فين يا بوى؟ الاول بيجول خطيبتى والتانية بتجول خطيبى، والحجة جايبنها فيك انت ابويا، على اساس ان انت صاحب الرأي في الأمرين يبجى فين رأيى انا عاد؟.....
صمت برهة يحدج الجميع بنظرات اتهام قبل ان ينقل نحو زو جته بخاطبها:
- يا للا بينا يا نعمات، خلينا نروح ونشوف مصالحنا، مفيش داعي للجعدة اكتر من كدة، وان كان ع المحروسة فخليها مع اختها...... تطمن على خطيبها .
قال الأخيرة بنبرة متهكمة وانتفضت نعمات مذعنة للأمر لتنهض عن مقعدها، لتسير خلف زو جها مغادرة، وقبل أن يصلوا لباب الغربة أوقفهما مدحت بندائه:
- استنى يا عمى معلش، جبل ما تطلع من المستشفى بلغ ردك ل يونس بالرفض .
خرجت نهال عن صمتها لتجفله بردها:
- لا يا بوى ما تبلغش حد انا لسة ما جولتش رايى .
التفت رأسه بحدة نحوها، ليهدر بأعين مشتعلة
- ما جولتيش رأيك !، هو انتي لسة ليكي رأي فيها دي كمان؟
انزوت خلف شقيقتها برعب، ورد راجح:
-  انا لا هاجول ولا احزن، انا ماشى وفايتهالكم خالص، يا للا بينا يا نعمات، خلينا نحصل الجطر .
قالها واستدارا الاثنان ليغادرا على الفور، وتحرك ياسين خلفهم ليلحق بهما، مغمغمًا بقوله
- أدي نتيجة اللي يتبع العيال، ها تخسرونى ولدى يا ولاد الفرطوس .
بمغادرته هو الاَخر، التف مدحت نحو الأخرى بأعين مشتعلة، وخطوات متمهلة يقترب منها، يود خنقــ قها، أو سحب لسانها المستفز من حلقها، كي يؤدبها ويربيها، وخرج صوته بهدوء مخيف:
- تعالى هنا، سمعينى ها تجولى رأيك فى مين بجى؟
بقلب يرتجف من الرغب، ارتدت بخطواتها حتى أصبحت خلف رائف، الذي تصدر لشقيقه مرددًا بضحك:
- استنى يا مدحت، هى اكيد بتهزر .
- ودا وجته عشان تهزر في حاجة زي دي؟ وجدام ابوها كمان؟
صرخ بها مدحت ورائف يحجبها بجســ ده، حتى لا يستطيع النيل منها امام نظرات هدية المغتاظة بصمت، وضحك البقية حتى عاصم لم يقوى على كتم ضحكاته على جنون الإثنان، وما زال مدحت يهدر بها:
- هتفكرى فى مين يا بت؟ ردى عليا؟
بقوة كاذبة كانت تدعيها أمامه، رغم ارتجاف اوصالها من الخوف قالت بقوة:
-طب جولى حكاية مها الاول وانا اجولك.
قالتها لتجده تسمر محله فجأة يناظرها بذهول، والدته توقفت عن الضحك وتجمدت لتبدوا كتمثال بفاه مفتوح، حتى رائف العابث دائمًا، تجهم واستدار يسألها بدهشة
- انتى عرفتى منين حكاية مها؟
اجفلت نهال من رد فعلهم بمجرد ذكر الاسم ليبدوا جليًا أمامها ان ما اخبرها به هذا المدعو يونس كان حقيقي، لذلك جاء ردها على رائف بالسؤال:
- يعنى صح فى حكاية اها زى ما سمعت؟
سألها مدحت هو الاخر بصوت خفيض مريب:
- سمعتى من مين بالظبط؟
تلجلجلت بخوف تجيبه:
- اا مش لازم تعرف ؟ إنت جولى الكلام دا صح ولا لاه وبس؟
تدخلت راضية قائلة:
- لا يا بتى، انتى جوليلنا الأول مين اللى جالك عشان نعرف نرد عليكى؟
بعناد وتصميم ردت نهال:
- انتو جاوبونى وخلاص، مالكوش دعوه باللى جالى .
- مالناش دعوة، طب تعالى بجى عشان اعرف منك .. واجولك.
قالها مدحت وهي يباغتها فجأة بجذبها من كف يــ دها، بحركة سريعة، ليسحبها ويخرج بها، وهي تحاول التخلص من قبضته مرددة:
- سيب يــ دى، انتى واخدنى واريح بيا فين؟
توقف بها فجأة ليقول:
- انتى مش عايزه تعرفى حكاية مها؟
اومأت تجيبه بهز رأسها، فقال يجيبها وهو يعود بسحبها:
- يبجى تيجى معايا وانا افهمك
خرج بها من أمامهم، لتتمتم بدور متسائلة نحو الجميع بخوف:
- يا مرارى احسن يعمل فيها حاجة.
ضحك رائف يعقب على قولها
- هيعمل فيها ايه يعنى؟ هيموتها؟
قالت نيرة وهي تضرب كفًا بالاَخر:
- اخويا الدكتور العاجل الراسي، اللي كنا نحلف برزانته اتجن ، منك لله يا نهال، زي ما طيرتى عجل اخويا منه.
قالتها فضحك معظم الموجودين في الغرفة، ليضيف على قولها عاصم، وانظاره نحو بدور:
- معلش بجى، اصله حبها،  والحب يعمل اكتر من كده كمان.
تخضبت الدماء بوجنتي الأخيرة لتطرق رأسها بخجل عنه، ولتزيد من حقد هدية التي كانت على وضعها في المراقبة بصمت.
في الطرقة المؤدية لمخرج المشفى، لحق ياسين بولده قبل ان يتمكن من المغادرة، فجذبه من ذراعه يوقفه قائلها بحزم:
- استنى هنا يا واد انت، هو انا هجعد كدة اجري وراك ؛انت هتعمل زى العيال الصغيرين؟
- انا برضو يا بوى اللى عجلى صغير؟
قالها راجح بغضبه الذي لم يهدأ بعد، فقال ياسين بمكابرة:
- ايوه عجلك صغير، لما تزعل من حاجة زي دي، مجرد كلام وبس، مكبر الموضوع وعامله حكاية، طب هو انا يعنى مليش كلمة فى جوازهم؟
تماسك راجح حتى لا ينفعل بوجه والده؛ الذي يقلل من الأمر أمامه، مصرًا على ازدياد حنقه، فقال كازًا على أسنانه:
- يا بوى بلاش اسلوبك ده معايا، عشان انت عارف زين انا اجصد جلة التعبير، مش كلمتك .
رد ياسين مستهبلًا:
- طب وهو حصل ايه بس لكل ده؟
للمرة الثانية تماسك راجح يجيبه:
- يا بوى انت عارف زين، إن انا زعلان من ايه، فبلاش تلف وتدور عليا، عشان انا مش عيل صغير صح، لاجل ما يضحك عليا بكلمتين، وسيبنى امشى دلوك الله يخليك، وافتكر كويس ان ولدك مش هفية.
كلمته الأخيرة كانت قاسية على ياسين، حتى جعلته يصمت عن الجدال معه، ويتركه ليكمل طريقه نحو الخروج مع زو جته التي توقف بالقرب تنتظر منذ فترة.
2
❈-❈-❈
دفعها لداخل غرفة المكتب خاصته في المشفى، لتقف في الوسط بقلب على وشك التوقف، تراقب برعب عصبيته في غلق الباب عليهما، ثم التف إليها بوجه مظلم يتقدم بخطوات هادئة مريبة، فخرج صوتها بشجاعة تدعيها:
- انت بتجفل باب المكتب وبتبصلى كده ليه؟ عايز مني أيه؟
رد بتريث عجيب:
- وانتى خايفه ليه؟ دا احنا حتى هنتفاهم دلوك .
- نتفاهم على ايه ؟ إنت جولى على حكاية مها، ويبجى خلاص وخلصنا على كده .
قالتها نهال قبل ان تجده يتخطاها ليجلس خلف مكتبه، ثم جاء رده باستخفاف محنك:
- يا شيخة! بس كده، حاضر يا نهال هجولك حكاية مها، من طج طج للسلام عليكم، والتفاصيل كمان، بس على شرط انك تجوليلى مين اللى جالك على الموضوع ده من الاساس
اغتاظت بشدة من تعنته الشديد معها، ثم قلب الطاولة ناحيتها بذكاء، لتصبح إجابة مقابل إجابة، ولكن الأمر لن يمر على خير، لو حدث واخبرته عن هذا المدعو يونس الذي اخبرها بالموضوع، فكان الصمت حليفها في هذه اللحظة، ليأخذ مدحت فرصته في الضغط بقوله:
- اممم، سكتى ليه؟ ما تجولي يا دكتورة!
بكذب مفضوح اخترعت قولها:
- انا عارفه الموضوع ده من زمان بس افتكرت النهاردة
- كدابة.
قالها سريعة وقوية لتجادله باعتراض:
- وهكدب ليه ان شاء الله؟
نهض عن كرسيه فجأة ليقابلها وينظر في عينبها مباشرة بقوة قائلًا:
- عشان الموضوع ده محدش يعرفه غير امى و رائف، أبويا نفسه ما يعرفش بالسيرة دي، يبجى عرفتى انتى منين؟
نظرته الحادة القاسية، والمسافة القريبة بينهما، مع ضغف حجتها والشلشل الذي اصاب عقلها عن التفكير في رد مناسب، حتى تتجنب قول الحقيقية، كل هذا جعلها كالمخروسة أمامه لعدة لحظات زادت من قوة موقفه أمامها، فخرجت إجابتها اخيرًا بتهرب:
- طب وانت ليه مصمم تعرف باللى جالى؟
على نفس المسافة لم يتحرك بأنش واحد اجابها بابتسامة لم تصل لعينيه:
- عشان هو كدة، زى انتى ما عايزة تعرفى بحكاية مها، انا كمان عايز اعرف مين اللي جالك ويمكن اكتر.
زفرت بقنوط لتقول بقلة حيلة مستسلمة اَخيرًا:
- خلاص مش عايزه اعرف.
- خلاص يبجى تروحى تتصلى بعمى حالا وتبلغيه بموافجتك على واد عمك ورفضك للزفت اللى اسمه يونس.
قالها سريعًا وهو يعاود الجلوس على مقعده بأريحية، ليزيد من غيظها واضعًا قدم فوق الأخرى، ف التفت تضغط بأسنانها على شفتها السفلى كي تذهب ولسانها يغمغم بالكلمات الحانقة"
- ماشى يا مدحت، اعمل ما بدالك وابجى جابلنى لو نفذت اللى فى مخك، هاااا، ياااماااا
شهقت بالاخيرة مخضوصة حينما تفاجأت به أمامها يوقفها ممسكًا بيــ دها، ليجفلها بسؤاله، وعلى وجهه ابتسامة يجاهد لعدم اظهارها:
  - بتبرطمى بتجولى ايه؟ سمعيني.
-  ما جولتش حاجة ولا اتنفست حتى، انا بس بستغفر .
توسعت ابتسامة كبيرة على وجهه، رغم ادعائه الجديدة في قوله:
 - طب امشى نفذى اللى جولت عليه، ياللا.
ردت متصنعة الأدب:
- حاضر ..
تركها لتخرج وقد اغلقت هذه المرة فمها وتركت الغمغمة والسباب داخلها، لتتجنب جنونه
❈-❈-❈
بعد أن يأس ياسين من ترضية ابنه الذي اتخذ طريقه عائدًا إلى البلدة مع زو جته، اضطر للعودة هو الاَخر، نحو من كانو السبب الرئيسي في هذا الشقاق الذي حدث بينه وبين ولده، كان خارجًا من المصعد حينما تفاجأ بمن يهتف بإسمه من الخلف:
- حج ياسين، عامل ايه عاصم يا حج ياسين؟
استدار بكليته نحو مصدر الصوت ليتفاجأ برضوانة وهو تقترب بخطواتها منه بصحبة ابنتها نسمة، رحب بهما يمد كفه بالمصافحة:
- اهلا اهلا، تعبتوا نفسكم ليه بس؟
ردت نسمة بحرج:
- برضوا دا كلام يا عم ياسين؟ دا واجب علينا.
- حتى لو كان يا بتى، برضوا المسافه بعيدة، محدش هيلوم عليكم.
قالها ياسين وكفه تصافح رضوانة التي قالت:
- وهي المسافات عمرها كانت حجة يا حج ياسين؟
اضافت نسمة على قولها:
- ويعني احنا جايين عشان اللومه كمان؟ لا طبعًا.
اومأ برأسه لهن مطرقًا بقوله:
- بارك الله فيكم يا بوي، بارك الله فيكم.
سألته رضوانة:
-المهم بجى، عامل ايه عاصم دلوك ؟
تنهد ياسين بثقل قبل أن يجيبهن وهو يلتف:
- تعالوا معايا شوفوه بنفسكم واطمنوا عليه، بدل السوال كدة في الطرجة.
تحركن معه ليسرن بمحاذاته، فتمتمت رضوانة بصوت وصل لإسماعه:"
- ربنا يجومه بالسلامة، وما يحرج جلب حد على ضناه ابدًا يارب.
براسهِ التف يشيعها بنظرات مشفقة ليتمتم هو ايضًا:
-  ياااارب
❈-❈-❈
وإلى نهال التي كانت تاكل في نفسها من وقت ان تركته، حانقة من فعله معها وتعتنه وغروره، يفرض كلمته ويحكم ويتحكم بها، ولا يكلف نفسه حتى بإراحتها بكلمة، ينكر عليها حق المعرفة عن ماضيه او عن حبه القديم، يبدو ان انطباعها عنه كان صادقًا حينما رأته قريبًا بعد سنوات، رجعي وذو عقلية قديمة بائسة.
في غمرة شرودها وقعت عينيها فجأة عمن تسببت في كل ما حدث معها اليوم، عن صاحبة القصة المجهولة وقد كانت تقف وسط مجموعة من الممرضات تملي عليهن أمرًا ما:
بدون ان تشعر وجدت قدميها نحوها لتقترب وتسمعها وهي تسالهن عن بعض الحالات، وتردف عليهن التعليمات حتى ينفذنها، توقفت مزبهلة نحوها، تناظرها بتفحص من رأسها وهذا الشعر المستفز بنعومته وطوله، حتى اخمص قدميها في الأسفل وهذا الحذاء الرائع، لتغمغم داخلها بسخط:
- حلوه، لا وطويلة ومناسبه لطوله ولبسها حلو، عنده حج يعجب بيها، وبتتكلم بحراوى، بينها مش صعيدية كمان، يا ترى سابتوا وغدرت بيه؟ ولا ايه اللى حصل ما بينهم وخلاهم اتفرجوا واتجوزت غيره؟ طب هما لسه بيحبوا بعض!
خرجت فجأة من شرودها اثر صوت ما:
:- حضرتك عايزه حاجة؟
التفت بدون تركيز نحو محدثتها تردد:
- هااا، إنت بتكلميني؟
ردت الفتاة الممرضة
- بسألك لو عايزه حاجة؟ أصلك جاعدة بجالك فترة ساكتة جمبينا، ف انا جولت اسألك لتكوني عايزة حاجة؟
ارتبكت نهال تبحث عن حجة ولكن لسانها سبق وأدلى بما يدور في عقلها:
-   ااا انا كنت عايزه الدكتورة.
وبرد فعل غير متوقع تفاجأت بالمذكورة تلتف إليها لتخاطبها بصوتها الناعم سائلة:
- عايزه تسألينى على حاجة يا أنسة؟
- انتى الدكتوره مها؟
سألتها نهال بدون ادني تردد وجاءت إجابة الأخرى ممتزجة بدهشتها:
- ايوه انا الدكتورة مها، انتى عايزه تسألى على ايه بقى ؟!!!
❈-❈-❈
على الأوراق التي كان منكفئ عليها، يعمل بها بتركيز شديد، فقده فجأة حينما تفاجأ بمن يقتحم عليه الغرفة بدون استئذان، ليقف أمامه، يحدجه بنظرات مريبة وغريبة صامتًا استقبلها هو بكل برود ليرحب به قائلًا:
- اهلا مدحت، مش بعادة يعنى تدخل من غير استئذان! ايه بقى؟ هو انت عايز حاجة مني؟ اؤمرنى.
ظل مدحت على صمته يناظره بتفكر عميق، وكأنه يستكشف الشخصية الأخرى لرجل اعده من ضمن اصدقاءه، بعد زمالة في العمل استمرت طويلًا، منذ سنوات، شخصية سمجة لدرجة الاستفزاز، كيف غفل عن هذا الجزء به؟
- انت هتفضل تبصلى كدة كتير وانت ساكت؟ طب اقعد حتى ع الأقل، وبعدها اتأمل في جمالي براحتك.
قالها بمزاح سخيف لم يتقبله الاَخر، ليخرج عن صمته بسؤاله لها:
- مالك ومال نهال يا يونس؟
ضحكة عالية الصوت أصدرها يونس قبل ان يقول مستهبلًا:
- ايه دا؟ هو الخبر لحق ينتشر بسرعة كدة؟ طب انا كنت ناوى اقولك بس..
قاطعه مدحت بعصبية هادرًا:
- بس ايه؟ هو انا مش جايلك انها مخطوبة؟
نهض يونس عن مقعده، ليجيب وهو يعدل من وضع رابطة العنق المتدلية فوق ازرار القميص المنشي:
- اه صحيح انت قولت كدة، بس انا بقى سألت والدها وطلعت مش مخطوبة، ولما طلبتها منه، الراجل رحب جدًا، وكانت الفرحة مش سايعاه
- رحب بإيه؟
- بجوازى من بنته؟
-  يمكن! بس دا كان جبل ما يعرف.
- يعرف بإيه؟
- يعرف إن واد عمها طلبها للجواز، يعنى هيبحى احج من الغريب.
ذهب عن وجه يونس العبث وهذه الضحكة المصطنعة ليقول بعدم فهم:
-  يعنى ايه؟ انا مش فاهم.
قرب مدحت رأسه منه ليقول بثقة مشددًا على حروف كلماته:
- يعنى انا واد عمها، طلبتها للجواز، وفى الحالة دى، حتى لو انت خطبتها فهى بجت من حجى، دا عرفنا، وانت غريب وما تعرفش
تجهم وجه يونس ليقارعه بغضب:.
- يعني ايه؟ حتى لو هى مش موافقة؟
- وانتى عرفت منين انها مش موافجة:
- انا بسأل؟
خرج رد مدحت بصرامة لينهي الجدال:
- وه، هو احنا هناخد وجتنا كله فى اسئلة والأخد والرد ، طب اجيبلك انا من الاَخر، ملكش دعوه بنهال يا يونس لأنها بجت خطيبتى، ماشى .. 
❈-❈-❈
مضيقة عينيها باستفتسار وانتظار الرد منها، وهي على وضعها في الاضطراب لعدة لحظات، قلبها يحثها على الدخول في الموضوع مباشرة وسؤالها عن مدحت وعلاقتها به، ولكن عقلها يأمرها بالتريث والتوقف عن فعل قد يؤدي بنتائج عكسية فوق رأسها، فقال بعدم تركيز:
-  انا كنت عايزا اسألك؟
- ايوه عايزه تسألينى فى إيه؟
خرج صوتها بتلجلج وتفكير في البحث عن رد مناسب:
- ف... اه .. حالة عاصم ابن عمي اخباروا ايه؟
سألته مها باستفهام:
- عاصم مين ؟
اجابتها بلهفة وقد وجدت الحجة:
- عاصم اللى كان فى العمليات امبارح، ابن عم الدكتور مدحت !!
إلى هنا واستدركت الاخرى لتطالعها بتركيز وتفحص:
- وانتى تقربى ايه ل عاصم ولا مدحت بقى؟
رفعت رأسها ومدت ذقنها بتعالي تجيبها:
- انا ابجى خطيبة الدكتور مدحت.
بصدمة ظهرت جلية على قسمات الأخرى لتردد لها بعدم تصديق
- إنتى خطيبة مدحت؟ وهو من امتى خاطب اصلاً ؟
بثقة تصنعتها بجدارة قالت نهال:
- ايوه خطيبته، ايه مش عجباكى؟
- وانا مالى تعجبينى ولا متعجبنيش؟ ثم انتى بتسألينى ليه عن الحاله ؟ ما تسألى خطيبك الدكتور .
قالتها مها بتعجرف واسلوب مستفز لنهال؛ التي حاولت السيطرة على اعصابها في الرد:
- ما انا سألتوا وفهمنى كمان عن حالته بس انا كنت عايزه اعرف منك اكتر .
لملمت مها بأوراقها لتقول بنزق:
- معلش بقى، انا مش فاضية عشان اشرحلك ولا افهمك..
قالتها وذهبت لتترك نهال وقد تأكدت بيقين ان هذه المرأة، ما زالت تحمل بداخلها مشاعر نحو مدحت الذي تركته سابقًا وتزو جت بغيره، فهل يا ترى؟ ايكون هو ايضًا يحمل بدخله مشاعر لها؟
في الغرفة التي خلت إلا منهما، بعد أن خرج رائف بصحبة والدته وشقيقته نيرة، ليعود بهم إلى البلدة، فتبقت سميحة لتسحب هدية معها لداخل الشرفة بحجة وهمية، حتى تترك لهما مجالاً للحديث ولو لدقائق حتى أو نصف ساعة.
سألها بصوت دافيء خرج من اعماق قلبه الغريق بعشقها:
- انتى متأكدة من قرارك ده؟
أومأت له بهز رأسها تقول بخجل وصوت خفيض:
- أيوة طبعًا متأكدة.
عاود السؤال وكأنه يريد التأكد:
- يعنى الكلام اللى سمعته وانا بفوج من الغيبوبة كان من جلبك يا بدور ؟
رفعت أنظارها لتقابل بعينها الجميلة خاصتيه قائلة:
- انت شايف إيه؟
تطلع في بحر عينيها الأزرق بأمواجه، مع انعكاس ضوء الغرفة في هذا الوقت من النهار، ليجيب كالتائه:
- انا ... انا عينى عمرها ما شافت حد غيرك يا بدور، مش عشق في جمالك ولا جمال عنيكي اللي كل حال بلون تبهر أي حد يبصلها، لا يا بدور، دا عشج اتولد معايا وربنا خلجه في جلبي من اول وعيت ع الدنيا وعرفتها زين، وعرفتك.
اصعب يوم مر عليا فى دنيتى كلها كان يوم خطوبتك على معتصم، كنت حاسس كأن روحى بتتسحب منى بالبطئ، حاولت كتير اشيلك من جلبى وتفكيرى لكن مجدرتش، لدرجة انى فكرت اتجوز جبلك عشان اجطع الامل...
برقت عينيها فجأة لتخرج من السحابة الوردية التي كانت تلفها على اثر كلماته الجميلة، لتتحول في لحظة سائلة بعدم تصديق وقد نست خجلها ورقتها:
- انت بتتكلم جد يا عاصم ؟
أسعده هذا التغير المفاجيء لها، ورد يجيبها الحقيقية:
- بجد يا بدور، ولولا خناجتك انتى مع معتصم كان زمانى دلوك متجوز نيره بجلب ميت.
- نيرة!!
خرجت منها بغضب لتغمغم بالسباب:
- يا بت الجزمة يا نيرة.
ضحك عاصم يقارعها بانتشاء:
- طب بتشتميها ليه؟ هى ايه ذنبها بس؟ دى حتى متعرفش حاجة، ولا حتى أي حد من أهلها، دا كله كان كلام مع عمك ومرت عمك، جبل ما يحصل اللي يحصل، وتوجف كل حاجة.
ردت بشراسة غريبة عنها:
- أحسن، بس دا معناه إن انت فكرت فيها؟
حاول السيطرة على ضحكاته مع طبول الفرح التي تدوي بصخب داخله يتمتم لها:
- يخرب عجلك يا بدور، هو انا بجولك ايه بس من الاول؟ دا كان مجرد شروع في خطبة، والحمد لله مفيش حاجة تمت يا مجنونة.
انفتح باب الغرفة فجأة ليطل منه ياسين معقبًا
- وه، دا انت بتضحك يا عاصم! يبجى رايج على كده؟ خلاص يا جماعه اتطمنوا ولدنا زين ان شاء الله .
قالها بمزاح ليدلف وخلفه رضوانة وابنتها، لتخرج على الصوت سميرة بصحبة هدية، كي يرحبوا بالزائرتين، واستغل ياسين انشغال النساء بالحديث الودي السريع، ليقترب من عاصم وبدور هامسًا بتوعد:
- بتورطونى يا ولاد الفرطوس وتتخطبوا على جفايا .
هم عاصم أن يبرر:
- اصل  يا جدى......
أوقفه ياسين بإشارة من كفه، ليكمل بهمسه:
-  جد مين يا سهون انت وهى، طب ما كان من الاول، بدل التعب والتشابيك مع الناس، لكن معلش، حسابكم  معايا بعدين يا ولا ال.....
تمتمت له بدور بصوت خفيض وحرج:
- انا اَسفه يا جدى اني كنت السبب في كل اللي حصل
القى ياسين نظرة خاطفة نحو النساء التي كانت وشك الانتهاء من حديثهم الودي، ليقتربن من المريض ورؤيته، فغمغم لهما سريعًا بتوعد:
- خلى اسفك لبعدين يا ختى، مش وجته الكلام دلوك .
والى مدحت الذي كان على وشك المغادرة من المشفى بانتهاء نوبته، وقد بدل ملابس العمل بملابسه العادية، ولملم اشياءه ليغلق الحقيبة قبل ان يتفاجا بمن اقتحمت غرفته مرددة بالإستئذان:
- مساء الخير يا مدحت، ممكن كلمة
اجاب برد التحية:
- مساء النور، اتفضلي طبعًا،
اقتربت منه بخطوات مترددة تسأله:
- هو انت صحيح خطبت يا مدحت؟
قطب مستغربًا لعلمه بهذا الأمر الخاص، ولكنه تجاوز ليجيبها وهو يجلس:
-  رغم انى مستغرب معرفتك بالموضوع بس اه يا ستي، انا فعلا خطبت .
نزلت بثقل جســ دها على الكرسي من خلفها بصدمة تتمتم:
- يعني هو الأمر فعلا بجد؟ والبنت دي مبتكدبش لما قالت انك خطيبها؟
اهتزت رأسه باستفهام يسألها:
- بنت مين اللي جالتلك؟
قالها وتوقف ليغمغم بتفكير مع نفسه:
- ايه دا معجوله يكون نهال وصلتلك!
مها بعدم تصديق كانت تردد:
- ليه يا مدحت ؟ جاي دلوقتي تخطب بعد انا ما خلاص بقيت حره وقولت ان احنا ممكن نرجع لبعض و ...
أوقفها مدحت بأشارة من كفهِ مقاطعًا لها بقوله:
- لو سمحتى، ما تتدماديش فى احلامك.
تماسكت لتوقف ذرف دماعاتها مخاطبة له:
‐ أحلامى انا وحدى يا مدحت؟ وانت....
- انا ايه؟ لو سمحتى دا كان موضوع واتجفل .
قالها بحزم أجفلها، لتصيح به:
- إنت ايه يا اخى، للمره التانية هتبقى السبب فى بعادنا عن بعض؟
تماسك الا ينفعل حتى لا يخرج منه ما يسيئه، فقال بتحكم قوي بعصبيته المعروفة عنه:
- لو سمحتى اسمعينى ممكن، اولا هى كانت مرة واحدة، ودى كانت جبل ما تتجوزى الدكتور عزيز، واظن يعني انك بعد ما اتطلجتى ورجعتى تانى، مفتكرش انى اديتك عشم او اى امل اننا نرجع لبعض عشان يبجى فى مره تانية، يعنى كدة بالنسبالى، انتي كنتي تجربه وعدت خلاص، بحلوها، بمرها، فهى عدت .
رددت بدموع تتساقط بغزارة أمام جموده:
- انت بتنتقم منى يا مدحت، يعنى صابر الوقت دا كله وجاى دلوقتى تتجوز .
إلى هنا وقد نفذ صبره ليهدر بها:
- لا حول ولا قوة الا بالله، يا ستى انا مالى ومالك عشان انتجم ولا انيل، يعنى انتى لو مكنتيش اتطلجتى كنت انا هفضل مستنيكى؟ طب ليه يعني؟ مش هجدر اعيش من غيرك مثلًا؟
كلماته القوية والحازمة جعلتها تنهض بيأس تمكن منها وهي تتتمتم:
- اظاهر كدة ان مفيش فايده من الكلامء انا اسفة ان كنت ازعجتك، بس احب افكرك مره تانى انك انت اللى سبتنى فى الاول .
هز رأسه بموافقة غير مبالي قائلًا:
- حاضر.
ازداد غيظها لعدم اكتراثه، وتحركت بخطواتها تغادر، ولكنها وقبل ان تصل لباب الغرفة، استدارت فجأة تخاطبه بتحذير:
- اه ويا ريت تقول للهانم خطيبتك ما تجيش تسألنى عن حاجه تانى لأن انا مش غبيه عشان مفهمش غرضها .....
بصقت كلماتها لتخرج بعدها على الفور، تاركة مدحت تعتلي ثغره ابتسامة مشاغبة، حول فعل نهال، رغم غيظه منها لتصرفها بعدم علمه، ليغمغم بقلة حيلة:
- اعمل ايه بس معها المجنونه دى؟
❈-❈-❈
عاصم يا حبيب عمتك، يا غالى يا واد اخوي.
هتفت بها صباح وهي تقتحم الغرفة لتباغت عاصم بالهجوم بقبلاتها المتلهفة بلوعة، والاَخر على وشك الأصابة بأزمة قلبية من كم الإحراج الذي يتعرض له بفعلها، وصوته يردد:
-  خلاص يا عمتى، انا زين ورايج اها، الله يرضى عنك كفاية.
صاحت به بانفعال:
- رايج فين يا حبيبى؟ كسر يده اللى عمل فيك كده.
بالقرب منهما هتف بها ياسبن:
- خبر ايه يا بت؟ مش تسلمى الاول ع الناس، نازلة كدة هجوم ع الواد اديله نفسه طيب.
التفت صباح توزع أنظارها على جميع الأفراد بالغرفة قائلة:
-   معلش يا جماعة سامحونى بجى، ربنا يكفينا ويكفيكم شر الغفلات.
أمم الجميع خلفها بتقدير لموقفها، وتنقلت هي بخطابها نحوهم:
- كيفك يا هدية؟ الف سلامة لولدك يا سميحة، وانتى ازيك يا رضوانة؟ وازاي بتك ؟
اجابتها الأخيرة بابتسامة:
- زينه والحمد لله يا حبيتى، بس انتى كنتى غايبة فين يعني عنه؟
جلست صباح على طرف التخت لتجيبها:
- كنت مسافرة يا خيتي عند بتى المتجوزة فى اسكندرية ،وتوى ما راجعة، وسمعت الخبر من الناس فى البلد، ونار جادت فيا، ما ستريحتش غير وانا مخليه السواج اللى جابنى ياخدنى تانى ع المستشفى .
سألتها سميحة:
- طب وعلى كده بتك رايجة وزينة؟ طمنينا عليها يا ولية.
بابتسامة اجابتها صباح:
- اسكت يا بوى، دا الدنيا اتغيرت خالص فى اسكندرية، ولا عيال بتى اللى كبروا، دا انا معرفتش حد فيهم، بجوا عرايس وعرسان يا حبيبتي، كبروا البت معاهم .
عقب على قولها ياسين:
- وحشونى والله ولاد الفرطوس، ونفسى بجى البت دي تاجى وتجيب عيالها اشوفهم
- وهى كمان نفسها تشوفك يا بوى وتجيبلك العيال، دى هتموت على البلد وناسها، بس ظروف الشغل بتاعة جوزها بجى، هي اللي معطلة الدنيا معاها
قالتها صباح ليتمتم لها ياسين:
- ربنا يجيبها بالسلامة شاء الله .
سالتها هدية:
- طب وعلى كدة انتى ما شوفتيش حد من خواتك، وانتي جاية؟
ردت صباح بعدم تركيز:
- شوفت سالم ومحسن وسلمت عليهم جبل ما اداخل ..  لكن مين البنيه الحلوه دى؟
انتبهت رضوانة نحو الجهة التي تشير إليها فقالت تجيبها:
- دى بتى نسمة للى كانت متجوزه فى البلد عنديكم يا ست صباح متعرفيهاش؟
هزهزت برأسها الأخيرة نافية تردد:
- لا يا خيتي معرفهاش عشان محصلش نصيب ولا شوفتها جبل كدة، لكن بصراحة، بسم الله ماشاء الله، دا انتى زى العسل يا حبيبتى وخساره فيه العفش ده.
تمتمت نسمة بخجل:
- تسلمى يا خالة ربنا يخليكى.
حضر سالم ليطرق على باب الغرفة يستأذن، فقال ياسين يدعوه
- ادخل يا ولدى، مفيش حد غريب، ولا انت معاك حد تانى غير اخوك؟
رد محسن الذي ولج خلف شقيقه:
- ايوه يا بوى، عبد الرحيم داخل معانا .
سمع ياسين لينتفض عن مقعده يستقبل الأخير بترحاب مرددًا"
- وه، عبد الرحيم، ادخل يا ولدى، دا انت فى مجام عاصم دلوك.
دلف المذكور بحرج ورأسه مطرقة يردد بحرج:
- تشكر يا عم ياسين، السلام عليكم .
تلقفه عاصم مرحبا هو الاَخر:
- اهلا يا عبد الرحيم اتجدم ادخل، شرفتني والله.
اكمل بخطواته عبد الرحيم لتقع عينيه على نسمة الجالسة بجوار والدتها، أنزلها سريعًا، ليكمل نحو عاصم كي يسلم عليه ويجلس على الكرسي المقابل له، وقال سالم:
- ايوه يا بوى، دا غلاوتو عندى دلوك فى غلاوة عيل من عيالى، البطل ده واد الأصول
بفضول وصوت خفيض تسائلت رضوانة:
- هو مين عبد الرحيم ده؟ وايه حكايته؟
اجابتها سميحة بهمس هي الأخرى:
' ما هو دا اللى نجد عاصم وشاله على كتفه، انا هاحكيلك .
اكملت سميحة لتشرح بالتفصيل الممل، عن شجاعة عبد الرحيم في انقاذ ابنها وقت إصابته، ونسمة بجوارهن، تستمع وأعينها تناظره بإعجاب، ومن جهته أيضًا كان يفعل المثل، ولكن بنظرات خاطفة
❈-❈-❈
والى البلدة
حيث خرج معتصم من منزله بتخوف ينظر يمينًا ويسارًا، وفي كل الأنحاء، يسير متسحبًا برعب حتى إذا وصل إلى الرجل الذي كان ينتظره في الحديقة، بدون سلام خاطبه بسخط:
 - انت ايه اللى جابك هنا يا غبى؟
اجاب الرجل ذو الهيئة الإجرامية :
- ما انت اللى خايف تيجى  تجابلنى فى مكانا  المعروف عند الجهوه اللى غرب البلد، كنت عايزني اعمل ايه؟
قال معتصم بعصبية
- وتيجى ليه اساسًا؟ خلاص الود مجطع بعضه ما بينا؟
هتف به الرجل بتذمر:
- جرا ايه يا سى معتصم؟ هو انت عايز تاكل حجنا  ولا   نسيت  اتفاجنا وعايز  ماتديناش عرجنا؟
بضيق واستفزاز عقب معتصم:
- عرجكم دا ايه يا حبيبي؟ هو انت هتسوج فيها؟ اشحال ما كان  الزفت ده حط عليكم وكسركم.
بابتسامة شامتة رد الرجل:
-يعني هو كان كسرنا لوحدينا؟ دا انت اول واحد فينا كسرلك مناخيرك ، ولا انت ما عندكمش مريات تفكرك باللي حصل؟.
صك على فكه معتصم بغل يهتف به:
- انت هتتماجلت عليا يا كلب انت؟ ولا انت ناسى انا واد مين؟ ولا اجدر اعمل فيك ايه دلوك في منطقتنا.
تأفف الرجل ليرد بعدم اكتراث:
- بجولك ايه، انا مش عايز رط ولا رغي كتير، بجية فلوسنا تجي دلوك، كفاية علينا الكشوفات اللى كشفناها انا واخويا عند الدكاتره بعد العركة مع اللى كان عاملى فيها هركليز دا كمان.
ابتلع ريقه معتصم بارتباك يقول:
- بس انا ممعايش دلوكت غير دول، خد صرف نفسك بيهم انت واخوك .
قال الأخيرة وهو يخرج من جيب بنطاله بعض الاوراق المالية، تلقفها الرجل ليرفعها أمام عينيه مرددًا بسخرية:
- ها، إيه دول يا عنيا؟ ولا انت فاكر نفسك هتضحك عليا بشوية الملاليم دي، لا فوج لنفسك يا حبيبي، انت تدخل دلوكت تجيبلى بجية الفلوس، يا هيحصل ما لا يحمد عقباه، فاهم ولا لأ.
ازداد اضطراب الاخر ليردد بتوتر:
- اروح فين عشان اجيبلك اللي بتقول عليه؟ انا ابويا لو عرف هايبهدل الدنيا .
تبسم الرجل يقول بسخرية وعدم تصديق:
-  يعنى ابوك على كده ما يعرفش يا حبيبي، امممم، طب اسمع بجى الخلاصة منى، بكره تيجي ع القهوة بتاعتنا ومعاك الفلوس اللى باجية، والا هتشوف منينا اللى ما يعجبكش واصل، ماشى يا حيلتها .
قالها الرجل وتحرك ذاهبًا على الفور، ليغمغم معتصم بسخط وهو ينظر في أثره:
- حيلتها فى عينك يابن ال......ان ما كنت ربيتك ما بجاش انا .
تحرك بعدها هو الاَخر ليعود ألى داخل منزله، غافلا عمن كان يتصنت للحديث من بدايته، وقد كان متخفيًا خلف احد الاشجار بالحديقة.
❈-❈-❈
-مين الواد العفش اللى كان مستنيك بره؟
هتفت بها انتصار فور أن ولج معتصم لداخل الدار، بعد مراقبتها له منذ لحظات، منذ ورؤيتها لهذا الشاب المجرم وهو يقف معه في الحديقة، اجابها الاَخر بتوتر مكشوف
- دا الواد البلطجى اللى كان معايا فى العركه مع عاصم ياما .
قطبت لتسأله باستغراب:
- وهو ايه اللى يجيبوا عندك؟ مش خلاص  الموضوع تم وخلصنا على كدة، وكل واحد راح لحال سبيله.
ابتلع ريقه يجيب بارتباك ملحوظ:
- ما هو عايز فلوس تانى باجى حجه.
شهقت مستنكرة رافعة حاجبها الرفيع قائلة:
- اسم الله يا حبيبي، حج ايه تاني كمان؟ هو انت مش ادتلوا حجه كامل ولا اا
توقفت فجأة لتتابع باستدراك:
- لتكون صرفت الفلوس اللى ادهالك ابوك يا وكلهم، والراجل دا صح صادج في كلامه؟
اجابها معتصم
- ما انا ادتلهم النص وجولتلهم النص التانى بعد ما يخلص الموضوع.
بريبة سألته:
- طب ما هو زين كلامك ده، اديهم يالا الفلوس يا حبيبي، ايه اللي معطلك؟
بصوت خرج كالغمغمة اجابها بتردد:
- ما انا ممعايش دلوك، اصلهم اتصرفوا  فى لعبة جمار فى الجهوة وراحو مني في ضربة حظ من الواد الفجري اللي كان بيراهن معايا.
- هو برضوا اللي فجري؟!
صاحت بها انتصار، لتلوح بكفها في الهواء مرددة:
- جاتها خيبه اللى عايزه خلف، جاتها ستين خيبة اللي عايزة خلفتك، غور من وشى يا واد، غور من وشي يا جزين .
بتخوف كان يحاول تهدئتها بهمس حذر:
- وطي صوتك ياما بلاش فضايح، مش ناجص انا حد يسمع من الخدامين ويروح يفتن لابويا بعد كدة.
حدجته بنظرة نارية تنفخ دخان من منخاريها لتكتم غضبها حتى لا يحل غضب العمدة فوق رأسها اذا سمع بالفعل وعلم بالأمر، فقالت مستلسمة في الاَخير:
- خلاص غور دلوك ، انا هاتصرفلك فى الفلوس بس اياك اياك تصرفهم تانى، لأما ساعتها هسيبك لابوك يتصرف هو معاك.
هلل فرحاً يقبلها فوق خدها معتصم ويردد:
- تسلميلى ياما ، دايما سترانى .
غمغمت انتصار بضيق
- اياكش بس يطمر ويجيب فايده معاك، مع انى اشك .
❈-❈-❈
في داخل السيارة التي كان يقودها، ليُقل الفتاتين، نهال وبدور التي سألها بمناكفة ضاحكًا:
- يعنى على كدة جدى بيتحلفلك انتى و عاصم يا بدور؟
هتفت نهال وهي جالسة على المقعد الأمامي بجواره، ورأسها ملتفة إلى الخلف، نحو شقيقتها التي كانت جالسة وحدها .
- تستاهل اللي يعملوا فيها، عشان تتبلى تانى على جدى الراجل الكبارة.
ردت بدور بعصبية وضيق:
- يعنى كنتي عايزاني اعمل ايه بس؟ ما انا كان نفسى اجعد عشان اطمن اكتر على عاصم، وابوكي راسه والف سيف ان امشي معاه.
خاطبها مدحت ببشاشة:
- جدعه يا بدور، انتي اتصرفتي باللي شار بيه جلبك، وعاصم لايمكن ينسهالك دى
ردت بلهجة متأثرة:
- والله وهو يستاهل كل حاجه حلوة؟
سمع منها لينقل بأنظاره نحو نهال قائلًا:
- اهي دي البنتة الشاطرة صح، سامعة ياللى تعبانى معاكى؟
رمقته باستنكار رافعة طرف شفتها تردد:
-  انا برضوا اللى تعباك؟ ولا انت اللى عامل زى البير وغويط.
بلهجة بائسة درامية قال ببرائة:
- بجى انا اللي عامل زي البير وغويط كمان؟
توقفت متنهدًا بيأس يتابع :
- يارب صبرنى على بلوتي، دا انا غلبان ومش كد الافترا دا يارب.
ضحكت بدور لتندمج معه في المزاح قائلة:
- الله يكون فى عونك يا واد عمى، ويعينك يارب.
كشرت نهال بوجهها مخاطبة الأثنان:
- يعني انتوا الاتنين اتفجتوا عليا النهاردة، ماشى يا "
بدور خليه ينفعك، على العموم احنا وصلنا .
اوقف مدحت السيارة ليقول بجدية وقد تخلى عن المزاح:
- مش كنتوا نمتوا الليلة دى عندى فى الشجه مع عمامى، مش عارف ايه لزوم الاصرار على النومة في السكن؟
ردت بدور وهي تترجل من السيارة:
- متشكرين جدا يا واد عمى بس انا عايزة اجضى الليلة هنا مع البنات صحاب نهال، نضحك ونتساير، في جعدة بنتة.
اضافت نهال على قولها وهي تحاول التخلص من حزام الأمان:
- وانا كمان عندى محاضرات مهمة بكره ومش عايزه اتأخر، كفاية اللي فاتني النهاردة.
قالتها وقبل تهم بفتح الباب وجدته يوقفها بأن امسكها من يــ دها ليسألها بصوت خفيض لم يصل إلى شقيقتها:
- لكن انتي اتعرفتي على مها ازاي؟
ردت بعدم تركيز وقد أجفلها بسؤاله:
- ها مها مين؟
تبسم بمكر قائلًا:
- الدكتورة مها اللي روحتي وعَرفتي نفسك بيها النهاردة انك خطيبتي، ولا انتي نسيتي يا نهال؟
انسحبت الدماء بوجهها لتظل صامتة تبحث عن رد مناسب وقد هربت منها كل حجج المنطق
❈-❈-❈
دلف رائف بصحبة والدته وشقيقته لداخل المنزل، بعد ان عاد بهم من المحافظة وزيارة عاصم، القى بمفاتيحه، ليسقط بجســ ده المتعب على الاريكة الخشبية التي وجدها أمامه، عقبت راضية فور رؤيتها لهذه الحالة التي عليها هو :
- سلامتك يا ولدى من التعب، ادخل اتسبح وانا ححاضرلك لجمه تاكلها وبعدين نام براحتك على سريرك وفي اوضتك، احسن من الكنبة الناشفة دي.
تدخلت نيرة لتسألها:
- مين بجى ياما اللى هيحضر الوكل، انا كمان تعبانة وعايزه انام .
زفرت راضية تطالعها باستهجان قائلة:
- وانتي تعبانه ليه يا ختى؟ كنتى شجيانة فى الغيط ولا شغالة فاعل؟
غمغم رائف مغمض العينين بتعب ورأسه استراحت على الوسادة من خلفه:
-  سيبيها ياما البت دى، مش عايز حاجة من خلجتها، لا تحضر ولا تزفت، أنا اساسا جعان نوم.
همت راضية أن تجادله ولكن رنين هاتفه اوقفها،
ليخرجه بصعوبة من جيب سترته حتى يعرف هوية المتصل، والذي ما ان رأى رقمه، اعتدل بجزعه ليجيب باهتمام:
- الووه، ايو يا حربى، إيه الاخبار؟
وصله إجابة الاَخر:
- الاخبار تمام وعال العال، انا عرفت مين اللى ساعد معتصم فى العركه مع عاصم.
بتركيز شديد ولهفة للمعرفة، سأله رائف:
- مين يا حربى؟ من البلد واحنا نعرفهم، ولا إيه بالظبط؟ وانت اساسًا عرفتهم ازاى؟
رد حربي بلهجة هادئة ليمتص حماس الاَخر:
-  شوف يا عم رائف، انا كلمت جدك وهو دلوك ركب عشان يرجع البلد، يعنى كده ساعتين تلاته تلم نفسك وتيجى عشان نعرفوا هنعمل ايه، وسلام بجى .
سمع رائف ليغمغم مع انهاء المكالمة بشرود:
- سلام يا حربى يا واد عمى، هاااااانت
بعد يوم كامل من الكتم والغيظ انفجرت هدية بزو جها بمجرد ان دلفت إلى المنزل، بعد عودتها من المحافظة، وزيارتها لعاصم في المشفى، ليتكرر الشجار حتى اليوم التالي معه، فقد كانت مراجل الغيظ لم تهدأ معها على الإطلاق، كلما مر بذهنها موقف ما من المواقف العديدة التي حدثت أمام عينيها:
- عشان لما ولدى كلمك معجبكش الكلام، اديهم طلعوا مظبطينها ومطبخينها مع بعضيهم، وطلع ولدى بس اللى غلبان فى العيله دى .
تمتم محسن بالسباب داخله ليقول بسخط:
- ما خلاص بجى يا ولية انتى فوضيها، من امبارح وانتى شغاله لت وحديت فى الموضوع ده .
صاحت بها تضرب بكفيها على فخذيها:
- إنت هتستكتر عليا الحديت كمان؟ مش كفايه فرستى امبارح وانا شايفه العشاج مع بعضيهم، لا والاكاده ان كل ده بشورة ابوك، الراجل الكباره اللى عاملى فيها بيحكم بالعدل .
هتف بها ناهرًا:
- إنتى كمان هتغلطى فى ابويا؟ ما تلمى نفسك يا هدية، انا مش طايق نفسي، وعلى اَخري من عمايلك.
بغيظ يأكلها تابعت بصياحها:
- والم نفسى ليه بجى؟ هو مش جال ان بدور مش هتاخد حد من العيلة عشان نفض الإشكال من أوله، وافج ليه بجى دلوك بعاصم بعد ما فلتها من واد العمدة؟ لا وكمان فى السر من غير ما يجول لحد، عامليهنا مفاجأة، ولا الدكتور اللى ساكن في المحافظة بجالو سنين، طلع خاطب الدكتورة من غير ابوها ما يعرف، يا عينى عليك يا ولدى، غلبان ولا تعرف في اللف ولا الدوران زيهم.
سمع منها محسن ليتمتم بحيرة:
- والله ما انا عارف اجولك ايه ؟ جلبتى مخى برطك ولتك الكتير، بس انا متأكد ان ابويا عنده إجابة لكل اللى بتجوليه ده.
نهضت من جواره بحزم تصيح به:
- يجول اللى يجوله، انا المهم عندي دلوك هو ان ارضي ولدى الغلبان، ولازم ادورلوا على عروسة احلى من الاتنين .
- دورى يا ختى، انا هكره، ان شالله حتى تجوزيه من عشية، المهم هو فين دلوك؟ من الصبح مش شايفه؟
- جاعد نايم عشان اتأخر امبارح فى السهر عند جده.
❈-❈-❈
- وانتى رديتى عليه بإيه يا ختى؟
سالتها نهى عقب سماع ما قامت بسرده عليها وهي بثينة حول موقف الأمس بينها وبينه، وردت تجيبها:
- انا، انا فضلت ساكتة مش عارفه ارد بأى شئ، وفى الاَخر هو لما زهج منى جالى انزلى .
سألتها بثينة:
- قالك انزلى كده وبس؟ من غير ما ياخد اجابة؟!
- هو دا اللى حصل، ومفيش اى كلمه تانى زيادة.
قالتها نهال لتقول نهى بتفكير:
- على فكره انا كده مش مطمنة.
قالت بثينة أيضًا:
- طب وانتى مقولتيش الحقيقة ليه بس يا بنتى؟ بدل اللف والدوران ده، وانتي عارفة ان الدكتور مدحت مش سهل، واكيد مش هيعدي الموضوع كدة.
هتفت بقلة حيلة:
- حقيقة ايه بس اللي أجولها انتي كمان؟ عايزني اجيب سيرة يونس صاحبه اللى طلب يدى للجواز، واجول ان هو اللى حكالى على موضوع مها عشان تبجى مصيبة وطبلت فوج راسي.
عقبت نهى بغيظ متفهمة لما تردف صديقتها:
- بس لو ما كنتيش تغلطى بلسانك اللى عايز جطعه ده! اديكي جلبتي الدنيا فوج راسك من غير ما تحسي.
رددت نهال خلفها بيأس:
- هو فعلا عايز جطعه، ولولا التسرع مني ، مكانش حصل كل ده
- مساء الخير
سمعت الصوت الرجولي لترتفع رأسها وتصعق متفاجئة، وتلجم لسانها عن الرد الذي قامت به صديقتيها بدون علمهم بهوية الرجل،
- مساء الخير!
- ازيك يا اَنسة نهال، عامله إيه؟
قالها ليزيد من صدمتها، أمام النظرات المتسائلة من صديقتيها، فخرج ردها بتلجلج:
- اا الحمد لله، كويسة.
بلباقة خاطبها قائلًا:
- ممكن كلمتين على انفراد، ارجوكى مش هاخد من وقتك خمس دقايق.
قالها برجاء اسكتها عن الرفض وأحرج الفتاتين، لينهضن فجأة من جوارها، وقالت بثينة باستئذان:
- طيب احنا هنستناكى هناك ع الطربيزه القريبة دى، انا ونهى .
ودت نهال التمسك بهن والاعتراض، حتى نهى تثاقلت في النهوض مع شعور بعدم الإرتياح كان يتسلل إليها، لدرجة جعلت بثينة تهتف بها
- يا للا بقى يا نهى قومي.
قالتها وهي تجذبها من كفها وترفعها عنوة، ليستغل الاخر، ويجلس على المقعد المقابل لنهال.
على مضض استجابت نهى للسير مع بثينة لتهتف بها معترضة فور أن ابتعدن بمسافة كافية عنهما:
- شدتينى ليه يا بثينة وجومتيني، هو احنا عارفين مين ده؟ عشان نسمحلوا يجعد معاها لوحديهم؟
دافعت بثينة قائلة:
- أمال كنتي عايزانا نعمل ايه انتي كمان؟ ما شوفتيش الراجل وهو بيطلبها مننا بالزوق عشان نقوم؟ بصراحة المنظر كان محرج.
نهى بتفكير عميق وهي تركز بالرجل:
- ايوه بس احنا منعرفوش، رغم ان شكله مش غربب عليا ... يا نهار اسود ليكون دا صاحب الدكتور مدحت اللى شوفناه فى الكافيه، انا جلبى حاسس ان هو .
رددت بثينة خلفها بتوتر اكتنفها على الفور:
- جرا يا بنت انتي متقلقنيش، مش معقول يكون بالجرأة دي، ثم انتى كمان عرفتيه ازاي؟ دا احنا فى يوميها ما شوفناش غير قفاه ومن بعيد كمان.
ردت نهال بتصميم:
- ما هو دا اللي خلاني اتأكد، جفاه يا بثينة، انا دلوك افتكرت لما شوفت جفاه، بعد ما شوفته من ضهره.
ابتلعت بثينة لتردف بقلق مستنكرة:
- حتى لو كان زي ما بتقولي، دا مكان عام فيه كل الطلبة، دا غير ان احنا معاها وهى مش فى موعد غرامى اصلا.
❈-❈-❈
وإلى نهال التي وضعت في موقف لا تحسد عليه، تموت من القلق وأعينها تجوب يمينًا ويسارًا وفي كل الأنحاء حولها، قدميها تهتز اسفل الطاولة بتوتر، تود القفز والركض هاربة، والاَخر يحدثها بأدب ولباقة:
- اسف انى طبيت عليكي فجأه كده، بس انا عارف ان دا المكان اللى بتيجى فيه انتى وصحباتك على طول .. وبصراحه بقى، كنت محتاج اعرف رأيك فى الموضوع اللى كلمت والدك عليه .
قطبت باستغراب تجيبه:
- بس اللى اعرفه انا، هو ان ابويا اتصل بيك ورد عليك بالرفض .
رد يونس بوجه متجمد الملامح:
- دا صحيح، بس انا مش مقتنع وعايز اسمعها منك.
- حضرتك انا مخطوبة لواد عمى الدكتور مدحت هو مش جالك كدة برضوا؟
قالتها نهال لتجده يردف باستنكار وعناد:
- قالى وانا مش مقتنع على الإطلاق، ان واحد يتقدم ويخطب على خطبة واحد تانى .
- لكن هو متكلم عليا بجالوا فترة
- ايوة بس دا مكنش كلامك لما سألتك في المستشفى وقولتيلى انك مش مخطوبة ولا انتي مش فاكرة.
تلجمت نهال مستشعرة حجم خطئها، وزلة لسانها في لحظة العصبية التي استغلها هذا الرجل والذي أكمل:
- ارجوكى متخليش حد يأثر عليكى بالعادات والتقاليد الباليه، ارجوكى تفكرى ويبقى قرارك فى طلبى من دماغك، متخليش حد يجبرك على شئ انتى مش عايزاه .
تلعثمت بأضطراب أصابها تخشى إحراجه، وخرج ردها:
- افهمني بس يا أستاذ، اناا..!!
- انتى ايه ما تردى ع الراجل عدل !!
سمعتها نهال لتشهق مفزوعة لرؤيته، وقد كان واقفًا أمامها بتحفز، وقد بدا انه استمع لكلمات هذا الموعو يونس الذي تجاهله باستفزاز يخاطبها:
- ارجو يا دكتورة نهال انك متتأثريش، ويبقى ردك من جواكي بدون ضغط.
بصعوبة شديدة حاول مدحت السيطرة على انفعاله، ليخاطب الاَخر بهدوء ما يسبق العاصفة:
- اقسم بالله لولا انى فى مكان عام وليه قدسيته، لكنت عرفتك مجامك يا يونس، لأنك انسان مش محترم .
همت نهال بالإستفسار قائلة:
- مدحت اناا....
بنظرة نارية خرجت من قعر الجحيم، أوقف الكلمات على طرف لسانها، ليأمرها بصوت مخيف:
- انتى تخرسى خالص دلوك، وتسبجينى حالا على مكتبى من غير ولا نفس.
بدون ادنى تفكير، تحركت قدميها على الفور لتذعن لأمره ، حتى تذهب وتتركهما، وقد اخمدت صوت العقل وصوت الحكمة وكل شيء برؤيته.
على الطاولة القريبة كانت نهى وبثينة يقفن برعب متابعات نظرات العداء بين الإثنين، مدحت والذي بدا على شفا الهجوم، وهذا المدعو يونس يواجه ببرود يحسد عليه ليزيد من غضبه
- على فكره هى من حقها تختار، وانت مش من حقك تفرض نفسك عليها.
سمع مدحت ليشيح بوجهه عنه حتى ينظم انفاسه، قبل أن يلتف فجأة ويباغت يونس بلكمة قوية، صرخ على اثرها، لينفض الاخر قبضته، ويغادر امام نظرات الاستغراب من الجميع، طلبة وموظفين .
❈-❈-❈
في المشفى
وبجانب تخته الطبي المستلقي عليه برأس مرفوعة الاَن، ليتلقى منها الطعام، وهي جالسة بالقرب منه، ممسكة بالطبق، وتناوله بالملعقة، حيث كان شاردًا بها، حتى صاحت به بتذمر:
- بطل تبصلى كده كتير عشان ما جومش اجيبلك عم سالم هو اللى يأكلك.
ضحك عاصم بخفة يقول بمشاكسة:
- يعنى اكل وانا مغمض عينى، كيف دي؟
بحزم مصطنع هتفت به:
- محدش جالك غمض عينك بس متركزش، واديني فرصة اوكلك من غير ما تحرجني
غمغم باستسلام يراضبها:
- حاضر يا ستي، شوفى انا هتبع كلامك وابص بعين واحده، والتانية هغمضها اها .
فعل كما اخبرها فضحكت قائلة:
- يا بووى دا انت طلعت بلوة يا شيخ، انا مكنتش فاكراك كده!
- امال كنتى شايفانى ازاى؟
سألها لتجيبه بخجل وهي تترك الملعقة على الطبق.
- بصراحه انا كنت بخاف منك .
تجعد جبينه ليسألها بانتباه:
لييه يا بدور؟ ايه اللى يخليكى تخافى منى؟
ردت تردف بما كانت تشعر به:
- مش عارفه؟ بس انت كنت دايماً جامد كده، ومبتهزرش زى حربى أو رائف، رغم انك جريب منهم فى العمر، وانا كنت بخاف منك لما تبصلى .
تبسم متفاجأ من قولها، فقال موضحًا:
- اممم، طب افهمك يا ستي، اولا انا مكنتش بهزر كتير عشان دا تجل، فاهمانى، ولا تفتكرى اغنية سعاد حسنى بتاعة يا واد يا تجيل احسن.
- يا سلام ! ....
قالتها متفاجئة بالوجه الجديد الضاحك له، فتابع لها
- ولو ع التانية، في انك تخافى منى وانا ببصلك تبجى عيب منك يا خايبة، هو انا هاكلك!
تغضنت ملامحها تقول بسخط:
- متجولش عليا خايبة يا عاصم .
سمع ليرد بابتسامة متوسعة:
- حاضر مش هجول خايبة دا انتى جمر وبدر الزمان كمان، ايه رأيك ؟
تبسمت تقول بانشكاح وقد اعجبها غزله:
- حلوه بدر الزمان دى، جيبتها منيين ؟
رد بمرح لمرحها بقوله:
- مجيبتهاش من حتة، هى جت كده معايا، بس لايجه عليكى صح
- لا يجة جوي.
-❈-❈-❈
- والله العظيم انا اتفاجأت بيه لما هل علينا انا والبنات واستاذنهم يجوموا، انا اتكسفت احرجه لما جالى خمس دجايج بس، حتى اسأل البنات اروح اجيبهم تسالهم .
قالتها نهال مدافعة عن موقفها منذ قليل، والاَخر ينظر لها صامتًا بجمود غريب، كفيه مشبكها خلف ظهره، يستمع بصمت دون ادني رد فعل، حتى قال اَخيرًا:
- اسألهم فى ايه؟
- فى اللى جولتلك عليه وعمالة احكي فيه بجالى فتره معاك دلوك.
- اه صح اللي بتتكلمى فيه، اممم
تفوه بها ليتوقف مشيحًا بأنظاره نحو الجهة الآخرى، ثم التف اليه سائلا:
- نهال هو أنا فعلا فارض نفسى عليكى؟
اجفلها بقوله لتقول بانفعال:
- فارض نفسك عليا! ليه يا مدحت بتجول كدة؟ هو انت صدجت الراجل المخبول ده؟
سمع لتبرق عينيه يصيح بها بشر:
- و لما هو كدة، الزفت دا لما سألك، ليه رديتى وجولتى مش مخطوبة؟
باغتها بالسؤال، لتشعر وكأن دلوًا من الماء البارد القي فوق رأسها، ف ابتلعت تقول باضطراب:
- شوف يا مدحت، عشان تفهم القصة دي لازم تسمعنى كويس ..
اومأ راسه وبصوت خفيض اجابها:
- كملى وانا سامعك .
بخوف شديد وقلب يضرب بقوة بين اضلعها، أجمعت أمرها لتردف الحقيقة، فلا مفر منها الاَن:
- بصراحه كدة اللي اسمه يونس هو اللى جالى عن موضوع مها لما شافنى فى المستشفى امبارح وانا كنت بدور عليك، وجتها انا كنت مصدومه ومخى مشوش رديت عليه بلا لما سألنى مخطوبة لمين فى ولاد عمك؟ مكنتش مركزة، ولا اعرف انه خبيث وهيستغل .
ضيق مدحت عينيه بتفكير يردف بانفعال:
- يعنى انتى وجفتى تتسايرى معاه وخد وادا فى الكلام معاكى وحكالك عن قصتى مع مها، حكايلك ايه تانى يا نهال؟ جوليلى.
هتفت بدفاعية:
- والله هما يدوبك خمس دجايج وكانت صدفه كمان .
احتدت عينيه تطلق شررًا بغضب قادر على حرق الأخضر واليابس، وقال:
- انتى عارفه يا نهال، انا و مها سيبنا بعض ليه على الرغم اننا كنا متفجين على الجواز وتجريبًا انا كنت مخلص الشجه اللى هنتجوز فيها .
- ليه؟
قالتها لتجده تقدم ليجلس على الكرسي أمامها ويجيب:
- جولتيلى ليه؟ الحكايه يا ستى كانت لما جاتلى مها تشاورنى وتجولى ان الدكتور عزيز و اللى كان استاذى .. متجدملها وطالبها للجو از، هتصدجينى لما اجولك، ان انا اللى جولتلها وافجى بيه واتجو زيه .
سقطت على الكرسي المقابل له تردف باستغراب:
- ليه ؟!! ..... مش انت بتجول ان انت كنت بتحبها ومتفقين ع الجو از؟
اقترب برأسه يقول بمغزى:
- عشان يا نهال حسيت في نبرة صوتها وهى بتتكلم عنه وعن حالته الماديه والعروض اللى عرضها عليها انها ليها غرض، زائد إنها لو حابة ترفض مش هتيجى تقولى وتعرض عليا المغريات دى كلها .
- قولتلها اتجوزيه وهان عليك الحب
قالتها نهال بصدمة، ليميل برأسه أكثر نحوها، وعينيه نصب عينيها مرددًا:
- لمجرد بس انى حسيت انها مش متمسكه بحبى ليها وان عجلها بيشاورلها توافج.
وصلتها كلماته وفهمت مغزاها لتسيل الدموع على وجنتيها قائلة:
- وانت بقى دلوقتى حاسس انى مش عايزاك ؟
قالتها وظلت منتظرة ردًا منه، وهو يبادلها النظر بصمت قاتل، وملامح مبهة لم تفهم منها شيء، نظرة حادة وغضب يطل من عينيه، حتى انها لم تتحمل اكثر من ذلك، لتتناول حقيبتها وتنهض عن مقعدها، لتذهب من أمامه بدون استئذان، يشيعها بنظراته حتى اختفت، وقد تملك الغضب منه حتى عن توقيفها لتفهم باقي حديثه
❈-❈-❈
في البلدة
قالت نعمات وفي محاولة يائسة لتهدئة زو جها الذي كانت يتفتت من الغيظ:
- ما خلاص يا راجل، فك كدة وروق شوية، ميبجاش زعلك عفش كدة
بنظرة نارية هتف مرددًا:
- انا برضوا اللي زعلى عفش؟ ولا بنتتك انتي اللى بجيو ماشين على كيفهم، ومش عاملين لي حساب.
- وه، على كيفهم كيف يا جزين؟ ما تخلى بالك من كلامك يا راجل، دا انت بنتتك الكل يشهد على ادبهم .
صاحت بها معترضة، ليقارعها راجح متهكمًا:
- ايوه ادبهم يا ختي، يعنى على كدة انتي عجبك المحروسة اللى جاعدة فى البندر جمب واد عمها فى المستشفى وبتجول عليه خطيبها من غير شورتى؟
التوى ثغرها بحنق لتقول بسأم:
- احنا برضوا هنجيب السيره دى تان ما البت جالتلك كلم جدها.....
قاطعها صارخًا:
- اه يا ختي، وهى دلوجتى موافجة وراضية بعد الدنيا ما ولعت، ما كان من الاول، بدل ما نتشبك مع العمده وولده، وتحصل النصايب دى كلها:
صاحت به بدورها:
- يوووه. النصيب عاد، حد عارف بكره هيحصل ايه؟
هدر بانفعال حاسمًا:
- يحصل ولا ما يحصلش اتصلى ببت ال..... بتك خليها تلم نفسها وتيجى مع اى حد من عمامها نازل البلد والا هروح اسحبها من شعرها واحلف ما اوافج على جوا زها من واد عمها خالص .
-❈-❈-❈
وعودة إلى الجامعة.
حيث كانت تذرف دمعاتها دون توقف، في مكانها المخصص بالمدرج الذي كان خاليًا إلا من بعض الطلبة المتفرقين، وبصحبة صديقتيها الاَتي فقدن الحيلة في تهدئتها، حتى وصلت للإعتذار بثينة:
- انا اسفه يا نهال، والله لو كنت اعرف البنى ادم ده ما كنت قومت من جمبك نهائى.
اضافت نهى:
- انا الراجل ده ما كنتش مطمناله وما كنتش عايزه اجوم بس بثينة اللى شدتنى واحرجتنى جدامه.
رمقتها الأخيرة بعتب تخاطبها :
- فيه ايه يا نهى؟ انا افتكرتوا قريبها ولا معرفة بيها.
تجاهلتها نهى لتتوجه بخطابها نحو نهال سائلة:
- بس انا عايزه افهم، هو انتى كده فشكلتى الخطوبة ولا ايه بالظبط؟
بتماسك مزيف تكلمت وهي تحاول حبس الدمعات:
- بيجولى انا ما بتمسكش بحد مش عايزنى وفاكرنى انا مش عايزه، يبجى ايه ؟.. دا بيجولى انا فارض نفسى عليكى، هو فارض نفسه عليا؟
قالت بثينة بشفقة:
- طب وانتى سكتى ليه؟ كنتى قولتيلوا عن حبك ليه من ايام طفولتك، من قبل هو نفسه ما يشوفك انسه ويحبك.
بحرقة عادت تبكي وهي تردد بنقطع:
- انا ما تحملتش لما جابلى مها مثل عشان يفهمنى، وحاولت الاقى تفسير غير اللى فى مخى ما لجيتش، جومت سيبتوا ومشيت، دا حتى ما سألش عشان يوصلنى زى كل يوم ، يبجى خلاص .مش كده يا نهى؟ خلاص يا بثينة، انا هسافر البلد على اول جطر، محملاش اجعد دجيجه فى البلد دى
❈-❈-❈
قالت انتصار وهي تقف على مدخل الغرفة تراقب ابنها الذي كان يهندم ملابسه أمام المراَة:
- هتاخد حد من الغفر معاك؟
رد باستغراب وهو يتناول الفرشاة ليصفف شعر رأسه:
- عايزانى اخد حد من الغفر جهوة سلام الحشاش . . عشان يوصل الخبر لابويا، وتبجى جضية.
قالت انتصار بسخط:
- وانت اش ضامنك انك متلاجيش حد من مضاريب الدم دول متربصلك زى المره اللى فاتت، خد حد من الغفر يكون أمان ليك.
ابتلع معتصم ريقه الذي جف فجأة مع تذكره ليقول بخوف
ما هما مش باينين من امبارح، انا طلعت مع ابويا وطلعت لوحدى مالمحتش حد فيهم نهائى .
قالت انتصار بحسم:
- بردك متضمنش الظروف، انت خد الواد جبيصى وانا هديلوا فلوس عشان ما يجولش لابوك .
طب لو ابويا سأل عليه، هتردي بأيه؟ ما انا ما هجدرش اخليه معايا السهره كلها .
شهقت بصوت مستكنر تهتف به:
- لهو انت ليك نفس كمان تسهر بعد دا كله؟ توصلهم الفلوس وتاجى على طول يا واد، انا مناجصاش حرج دم.
جادلها معتصم بطفولية:
- مينفعش ياما، الجو حلو هناك والبت الغازيه حلوه جوى.
كزت انتصار على أسنانها لتهدر به مشددة:
- بجولك ايه يا واد انت، مفيش سهر ولا زفت، انت هتروح وتاجى على طول وهتاخد جبيصى معاك فاهم ولا لاه؟
اومأ رأسه بطاعة يقول برجاء:
- فاهم ياما فاهم، بس هي نص ساعة كده تفاريح مش هتأخر، صدجينى مش هاعوج
-❈-❈-❈
في سكن الفتيات
وبالتحديد في غرفتها وهي تلملم اشيائها، وتضع ملابسها في الحقيبة، خاطبتها بدور برجاء:
- لزوموا ايه السربعه بس؟ ما كنا استنينا شوية تاني....
قاطعتها على الفور تصيح بها
- اسمعى اما اجولك يا بدور، انا معنديش مرارة للت والعجن، انتي لو عايزه تترزعى هنا، خليكي جاعدة وانا اسافر لوحدى.
قطبت بدور مندهشة لرد فعلها الحاد معها لتقول:
- باه يا نهال ، دا انتى بجيتى صعبه خالص، هو أيه حصل وخلاكى كده،
هتفت بها بانفعال:
- مالكيش دعوة باللى حصل، انتى اساساً ابوك اتصل بيا النهارده عشانك وجالى خليها تنزل بدال ما اربيها ... عايزه تجعدى تانى وتعصى ابوكى؟
نفت بدور بهز رأسها، لتقول بيأس:
- لا طبعاً مجدرش اعصاه، انا بس كان نفسى اسلم على عاصم جبل ما نمشى .
بنفاذ صبر اخرجت نهال الهاتف من الحقيبة تخاطبها:
- يوووه اتصلى بيه وخلصى، بس متعوجيش عايزين نحصل الجطر ..
-❈-❈-❈
في القهوة وبعد أن أعطى الرجال باقي نقودهم، استرخي ليجلس مستمتعًا برقص الفتاة التي كانت تتمايل أمامه بميوعة يستقبلها بمرح وهو يدخن من الشيشة التي كان ممسكًا بذراعها، بمعاملة الملوك يتصرف معه اصحاب المقهى مدام يصرف ببذخ ودون حساب، قطع عليه نشوته دوي صوت الهاتف بجيب جلبابه، اخرجه ليرد بقرف على الغفير المكلف بحراسته
- الوو .... ايو يا جبيصى الزفت، انا مش منبه عليك ان انا اللى هارن عليك وجت ما اكون عايز اروح عشان تيجى .
وصله صوت الاَخر:
- ايوه يا معتصم بيه، العمده اتصل بيا وبيجولى انه عايزنى ضرورى.
صاح به الاَخير بعصبية:
- يعنى ايه يا زفت انت؟ هتمشى وتسيبنى اروح لوحدى؟
- يا بوى انا بتصل بيك عشان كده، انا مستنيك بره الجهوه تحت الشجرة الجديمة ناحية الزراعة بشربلى حجرين جوزة، بسرعة ياللا اطلع عشان انا عايز احصل العمدة، مش عايز مشاكل معاه.
زفر معتصم يردد بالسباب قبل ان يستجيب مضطرًا له قائلًا:
- طب غور ادينى طالعلك، جليت مزاجى إلهي يجصر بعمرك .
❈-❈-❈
وفي الخارج وبعد ان انتهى من المكالمة، التف جبيصي برأسه نحو الوقفان من خلفه بالسلاح المصوب على خصره، وظهره، يخاطبهم:
- استريحتوا كده يا بهوات؟ انا اكيد هاروح فى داهية بسببكوا.
ربت رائف على كتفه يردد بتصنع التأثر:
- بعد الشر عليك يا جبيصى؟ انت ذنبك ايه بس؟
تكلم حربي أيضًا:
- ايوه يا جبيصى، انت دلوك تروح ولو سالتك انتصار جولها ولدك مشانى وطبعا العمده ميعرفش بالمشوار .. يعنى انت فى امان.
ربت رائف مرة أخرى لكن هذه المرة بحزم وتهديد له:
- يا للا بجى جر رجلك وامشى، خلص ياللا .
نبرة التهديد والوعيد، جعلت جبيصي يزعن مضطرًا ليرتد ويتحرك مذعنًا للأمر، وفمه يرد بولولة مع ضرب كفيه ببعضهما:
- يا وجعتك المطينة يا جبيصى، يا وجعتك الزفت يا جبيصى
❈-❈-❈
بعد مدة من الوقت جاوزت النصف ساعة ، خرج معتصم يبحث عن غفيره جبيصي، في المكان الذي ذكره له، خلف القهوة اسفل الشجرة القديمة، وفمه يهتف"
- انت يا جبيبصى، جاعد فين يا جبيصى الزفت
- انا هنا ياروح جلبى .
قالها رائف فجأة وهو يخرج له من قلب الظلمة التي كان متخفي بها، ليظهر وجهه الشرس، بعد ان ازال عنه الشال الذي كان يغطي نصفه، انتفض معتصم بزعر مرددًا اسمه:
- رائف
- وحربى كمان، ايه رايك ؟
قالها الاَخير، وقد جاء من خلفه، يثبته بالسلاح الذي شعر به معتصم على عظام ظهره، ليلتف اليه برأسه فقط، وعينيه تبرق بارتياع المقبل على نهايته، وقلبه على وشك التوفف
بأعين غائمة وذهن شارد في ما حدث وأدى ألى هذه النتيجة التي هي بصددها الان، كانت نهال تتطلع من نافذة القطار الذي كان يجري بهن في طريقه المؤدي إلى البلدة، شقيقتها الجالسة بجوارها، انتبهت على الدمعة الساخنة التي سقطت على خدها، لتسألها بجزع:
- وه يانهال، هو انتى بتبكى؟
سمعت الأخيرة لتجففها سريعًا، وتجيب بهمس:
- ايه يا بدور ؟ وطى صوتك فضحتينا، دى عينى بس اطرفت من هوا الجطر الشديد، مفيش حاجة يعني.
بشك وفراسة قالت بدور:
- اتطرفت برضوا؟! ولا انتي فاكراني مش،واخدة بالي من هيئتك من وجت ما كنا في المحافظة؟ حصل ايه بس بينك وبين مدحت يخليكى تزعلى كده ؟!
طالعتها نهال بتفاجئ لتسألها:
- إنتي ايه اللى خلاكى تخمنى ان فى مشكلة بينى وبين مدحت؟
- مش محتاجه اخمن، هي باينه لوحدها، انتى مطفية وكأن ميتلك ميت وهو مرنش عليكى نهائى من ساعة ما ركبنا الجطر، ودى مش عادته، دا بيتصل ع الفاضى وع المليان، دا غير انه موصلكيش السكن زى كل مرة.
بكلمات شقيقتها وتذكرها لأفعاله العادية معها، والتي تخلى عنها اليوم، اغرورقت عينيها بالدموع وخرج صوتها ببحة متحشرجة، بثقل ما ينتابها:
- خلاض يا بدور كل حاجة انتهت، وكل واحد راح فى طريج.
بإجفال واستنكار هتفت بها بدور:
- انتى بتجولى إيه؟ أنا الكلام لا يمكن اصدجه، وهو يستحيل يحصل اساسًا، انتى بتحبيه وهو بيحبك
هزت برأسها لتقول بألم:
- ما يعرفش يا بدور انى بحبه، ومش من جريب لا دا من زمان، زمان جوى يا بدور من ساعة ما فتحت عينى ع الدنيا وانا مش شايفه حد غيره، لكن هو !!!
خلاص يا بدور جفلى ع السيره دى، انا مش جادره اتكلم .
صمتت بدور حتى لا تزيد عليها، لتظل تطالعها بقلب منفطر، بعدم فهم لما أدى إلى هذه الحالة التي هي عليها الآن، تود معرفة ما حدث بالتفصيل لتعرف السبب الحقيقي، ولكن قلبها اشفق عليها من الضغط، يكفيها ما بها، ولتتنتظر هي حتى تهدأ وتعلم بالأمر ثم تقول رأيها
❈-❈-❈
في البلدة
وتحديدًا في منزل العمدة كانت انتصار في الحديقة على وشك الانفجار وهي تعدو وتجيء في نفس المكان بقلق عظيم في انتظار ابنها الغبي، والذي تأخر عن موعده كما اتفقت معه من أجل سلامته وخوفًا من غضب أبيه حينما يبلغه الحقيقة في إهدار النقود التي اعطاها له في السابق كأجر متفق عليه مع هؤلاء المجرمين.
نظرت من البعيد نحو الغفير الذي وكلته بحراسته جييصي، وهو يقترب منها بخطوات مسرعة وهيئة زادت من قلقها، وهي لا ترى ابنها في صحبته، فور اقترابه هتفت به سائلة:
- واد يا جبيصى، جاى لوحدك ليه؟ فين معتصم؟ مجاش ليه معاك؟
تلجلج المذكور يبتلع ريقه بتوتر
- اصل ا، اصل ا ..
- اصل ايه يا زفت انت؟ انا مش منبها عليك، ان رجلك على تبجى رجله، فين الواد؟
هدرت به بحزم جعله يردف على الفور:
- والله ما ليا ذنب يا ست هانم، انا السلاح اتحط فوج راسي وضهري، معرفتش اعمل ايه؟
سمعت انتصار لتصرخ به بجزع وقد سقط قلبها من الرعب:
- سلاح ايه يا جزين؟ إيه اللى حصل لولدى؟ انطج يا زفت.
- اللحج ولدك يا عمده، ولدك هيروح منينا يا عمدة ان مكنش راح، يا حبيبى يا ولدى....
صرخت بها انتصار مولولة وهي تلج لداخل المنزل تلطم على وجنتيها برعب بارتياع جعل زو جها يخرج إليها من غرفته بالداخل مفزوع؛
- فى ايه يا وليه؟ انتي اتجنتى ولا اتخبلتي؟ بتصرخى كدة ليه؟
اقتربت تخبره بهذيان:
- ولدك يا عمده، رائف وحربى، أحفاد ياسين هيخلصوا عليه دلوك ان ماكنش خلصوا، يا مرك يا انتصار، يا مرارك اللى هتشربى فيه لوحدك يا انتصار .
هدر بها هاشم بعصبية وصوت عالي:
- جرا ايه يا ولية انتي يا خرفانة؟ ما تفهمينى فى ايه؟ سيبتى ركبى من غير ما اعرف حاجة، الله يخرب بيتك.
التفت انتصار نحو غفيرها تردد بانتحاب:
- جولوا يا جبيصى، جولوا ياحزين، انا مجدراش اتكلم ، مجدراش يا مرارى، دا جانى على خمس بنته، هعمل ايه لو راح؟ هعمل إيه لو راح؟
- اخرصييى، ما سمعلكيش نفس تانى عبال الواد ده ما يحكيلى وانت ياد، اخلص جولى اللى حصل بالتفصيل، بسرعه يالا .
صرخ بها هاشم مقاطعًا لها بقوة، لتصمت انتصار تكتم بكفها على فمها مجبرة حتى يقص الاخر ما حدث للعمدة زو جها
❈-❈-❈
على موضع اللكمة التي تلقاها منذ ساعات في الجامعة وامام اعين الطلاب والموظفين بإهانة صريحة له لم يتعرض لها قبل ذلك طوال حياته، وعلى مدار تاريخه المهني، كان يونس يتحسسها بيــ ده شاردًا في كل ذلك، ورأسه تغلي من الغيظ، دلفت إليه مها ضاحكة تخاطبه ساخرة
- إنت لسه قاعد مكانك ومقومتش تروح؟
رد يونس بغل:
- انا لسه دمى بيغلى اساساً، ومليش نفس اروح .
جلست على المقعد المقابل له، تمد بكفها اليه قائلة:
- طيب شيل ايدك ورينى كدة.... طب ما هى خفت عن الاول اهى، كويس بقى انك دكتور وفاهم .
قالتها بتتدقيق النظر وهي تتفحص الإصابة على فك يونس المتألم، وقال الاَخير:
- طب والإهانة؟ دا انا الكلية كلها شافتنى بنضرب . وانا راجل وليا وضعى، وفى ناس عارفانى هناك.
ردت الأخرى بشماتة صريحة:
- وكان حد قالك تروحلها الجامعة، وانت عارف صاحبك وجنانه!
بنظرة ذات مغزى قال يونس:
- واعمل ايه بقى؟ ما انتى لو اتصالحتى معاه كان زمانى دلوقتى خطيبها من ابوها اللى كان هيطير من الفرحه اول اما كلمته، قبل ما يجي صاحبنا ده زى غراب البين ويخطفها منى .
بحنق شديد ردت مها تفور من الغيظ:
- يا سلام !!! وفيها ايه دى يعنى عشان تجذبك انت وهو بالشكل ده.
برغبة خبيثة داخله قال ليزيد عليها:
بصراحة البت حلوه اوى، دا غير انها كده بخيرها، ولسة ما اتعلمتش اللوع وحركات بنات الأيام دي .
نهضت بعدم تحمل تهتف بها ساخطة:
- طيب يا خويا ورينى شطارتك وشوف هتفكها منه ازاى دا كمان؟ بلا قرف
قالتها ثم خرجت لتترك الاَخر، يغمغم مع نفسه ردًا عليها:
- اكيد هفكها منه، ان مكنتش فكيتها اساساً ، دا صاحبى وانا عارفه .
❈-❈-❈
طرق بعنف وأصوات تصيح غاضبة على باب المنزل :
- افتح يا حج ياسين، افتح اما اجولك .
- يا ساتر يارب، مين اللى هياجى دلوك فى الليالى وبيخبط علينا كده بالغباوه دى؟
قالتها صباح وهي تخرج مجفلة من غرفتها، لتضغ الشال على رأسها المكشوف لتغطيته، في طريقها لفتح الباب، قبل أن تفاجأ بوالدها الذي خرج من غرفته على سماع الصوت هو ايضًا، هاتفًا بها:
- استنى عندك يا صباح، هفتح انا .
- هو انت عارف يا بوي باللي واجف برا ع الباب؟
سألته صباح وقبل ان يجيبها في طريقه، دوى الصوت من الخارج:
- انا بجولك افتح يا ياسين، افتح ياللا خلص انا على اَخري.
سمعت صباح لتصيح غاضبة :
-ما تستنى لما نفتح يا جدع انت يالى واجف ع الباب . كنت حكومة اياك، ولا كنت حكومة!
أوقفها ياسين بإشارة بكفه أمامها في الهواء، وبعدها قام بفتح الباب، ليجد هاشم الذي كان واقفًا بغضبه، يباغته بالسؤال على الفور:
- ولدى فين يا حج ياسين ؟
وقف الاَخير يناظره بصمت مضيقًا عينيه، ليقول بلؤم مدعي عدم المعرفة:
- ولدك !! وايه اللى هيجيب ولدك عندى يا عمده؟
زفر هاشم يخرج الدخان من أذنيه وأنفه ليصيح به:
- إنت عارف يا ياسين، وبلاش تتلائم عليا انا عارف ومتأكد انك تعرف مكانه .
على نفس الوتيرة إكمل ياسين:
-وهرف عرف منين بجى؟ ثم أنا إيه اللى بينى وبين ولدك عشان اخطفه ولا اعرف مكان خطفه حتى .
كز هاشم على أسنانه بحنق قائلاً:
- برضك بتلف وتدور عليا وتعمل نفسك مش عارف؟ طب اسمعني بقى وكلم رائف و حربى، ميجربوش من ولدى، انا متأكد انهم هما اللى خطفوه.
بسخرية متهمكًا قال باسين:
- ومال عيالنا بولدك ؟ هو فى حاجه ما بينهم لا سمح الله .. ما تجول يا عمده بدل ما انت سايبنى كده زى الاطرش فى الزفه.
كلماته الا مبالية ورد فعله الهاديء بشدة زاد من استفزاز هاشم ليُظر وجهه الحقيقي في قوله:
- لأخر مره بنبه عليك يا ياسين، كلم عيال ولادك انا ولدى مش هيكفينى فيه البلد كلها .
سمع منه ياسين ليتخلى على عبثه وقد وصل إلى غرضه الرئيسي منه، ليجيب بقوة:
- واحنا ولدنا مش هنفرط فى حجه ولو هتطير فيها رجاب، سامعنى يا هاشم.
شعر هاشم بخطئه في تهديد رجل مثل ياسين فحاول الحديث ببعض اللين:
- اتصل بيهم يا ياسين، واحنا هنتراضى ونعمل جلسة صلح وليك عليا اجيبلك حج عاصم واراضيه .
بابتسامة ساخرة رد ياسين:
- وان شاء الله هتراضيه كيف؟ هتديلنا فلوس ولا ارض ؟
- اللى انتو عايزينه انا موافج بيه .
قالها هاشم بلهفة ليجد الرد السريع من ياسين:
- شوف يا عمدة، اللى احنا عايزينه هو العدل، هتجدر تحجج العدل يا عمدة؟
قال هاشم بتوتر امتزج برجاءه:
- هراضيكم باللى تطلبوه، بس بلاش تجربوا من ولدى دا الوحيد على خمس بنته.
- اسمع يا هاشم احنا اللى يرضينا، ان اللى غلط يتعاقب ..
قالها بقوة ياسين ليرد هاشم، وقلبه على وشك التوقف من الخوف:
- وايه هو العقاب اللى انتو عايزينه؟
رفع ياسين كفه أمام الاَخير ليردف ملوحًا بالسبابة والأبهام:
- حاجة من الاتتين، يا نمشيها جانونى وولدك يتحبس .. يا نمشيها عرفى وتبجى العين بالعين والسن بالسن .
ابتلع هاشم يجيبه بتساؤل:
- تجصد ايه ياسين؟!
اشتدت ملامح الاَخير بقسوة وهو يقول بعزم،:
- يعنى تحمد ربنا ان ولدنا ربنا كتبله عمر جديد، بدل ما كنا خلصنا على ولدك من عشيتها، لكن مدام رسيت على كده يبجى جبال كل عضمة اتكسرت من عاصم، يتكسر جبالها عضمة فى ولدك اختار يا عمدة.
سمع هاشم ليهدر بشيطان تلبسه بالرفض والخوف والتهديد:
- انا مش هسكت يا ياسين على ولدى لو جراتله حاجة، هبلغ عنيكم وهوديكم فى داهية، ولدى لو لمستو شعره واحدة بس منه هولع فيكم كلكم، انا مش هسكت يا ياسين، دا الحيلة اللى طلعت بيه من الدنيا، انا مش هسكت يا ياسين، مش هسكت .
ظل يرد ويكرر وهو يغادر منهيًا حديثه، وياسين وقف يراقبه حتى اختفى، ليلتف بعد ذلك على قول ابنته صباح التي سمعت بالحديث من أوله وفهمت كل شيء:
- هاشم مش هيعديها يا بوى، دا تعبان ،وسككه الشمال كتيرة.
رد ياسين رافعًا حاجبه بشر:
- خليه يجيب آخره، عشان الحساب يجمع .
❈-❈-❈
- بس لو تجولى ع اللي بيك، ومخليك شايل الهم كده ومش طايج حد.
قالها عاصم مخاطبًا مدحت الجالس على كرسي بجواره، متكتف الذراعين بوجه مقلوب، وكلمات تخرج بصعوبة، فتابع له عاصم:
- ما ترد يا واد عمى وبلاش تكتم فى نفسك، انا عارفك زين، انك تبجى بالهيئة دي يبجى الموضوع كبير جوى.
تنهيدة كبيرة مثقلة خرجت من الاَخر ليقول بتساؤل:
- تفتكر نهال بتحبنى يا عاصم؟ ولا انا ضيجت عليها في موضوع جوازي منها.
قطب عاصم مستغربًا يجيبه:
- وه، مين جال الكلام ده؟ وايه لزوم السؤال اصلًا وانت عارف....
قاطعه مدحت بقوله:
- انا مش عارف حاجة يا عاصم، جولى انت عشان انا مخى هينفجر .
وينفجر ليه بس؟ و ايه اللى دخل الفكرة دى فى مخك اساساً؟
صاح بها عاصم متسائلًا والاَخر يكمل برجاءه:
-جولى بس يا عاصم لو تعرف ؟
- اعرف ايه يا بني أدم انت، دى بتحبك من جبل انت حتى ما تحبها، نهال اتربت على يدى هى وبدور، وانا اعرف الاتنين من نظرة عنيهم، من غير حتى ما يتكلموا.
قالها عاصم بثقة جعلت الاخر يسترخي قليلًا مع شعوره بصدق الكلمات، ولكنه انتبه على الأخيرة ليسأله باستفسار:
- من جبل ما احبها! كيف يعنى ؟ كانت بتحبنى وهى عيله صغيره مثلا؟
- وليه لأ ؟ مش يمكن كانت شايفاك فارس لاحلامها زى معظم البنته.
طيف ابتسامة سعيدة اعتلت ملامحه، وقد اعجبه الوصف، قبل أن تتغضن مرة أخرى بيأس يقول:
- ازاى بس يا عاصم؟ دى طلعت عيني على ما وافجت بيا وعمرها ما جلتهالى صريحة.
- حجها تطلع عينك، ولا انت ناسى انك اتجدمت لاختها الصغيرة فدا اجل واجب تعمله معاك .
قالها عاصم ليستوعب الاَخر ببعض الاقتناع، مرددًا:
- يا ريت يا عاصم، دا انا من ساعة ما الزفت ده اللى اسمه يونس ما جالى انت فارض نفسك عليها وانا الدنيا بتلف بيا وخايف لاكون صح فارض نفسى عليها وانا مش عايزها تيجي كدة، عشان بحبها جوى، جوى يا عاصم، لدرجة خلتني اميز واعرف ان تجربتى مع مها كانت لعب عيال ونهال هى الحب الحجيجى ليا .
فهم عاصم واستشعر بصدق الوجع المؤلم بقلب ابن عمه، فقال بنصح:
- بت عمك بتحبك وانت بتحبها يا مدحت، فبلاش تدى للشيطان فرصة يوجع ما بينكم، مع اني مش عارف ايه اللي حصل، وكنت اتمنى انك تحكيلي عشان اشوف الصورة اوضح .
مع بعض الارتياح الذي تسلل إلى قلبه، تشجع مدحت ليتناول الهاتف من جيب سترته، قائلا لعاصم:
- طب استنى اتصل اطمن عليها الاول وبعدين احكيلك كل حاجة، دا انا من ساعة اللى حصل ما كلمتهاش .
صمت عاصم ينتظر، ومدحت يحاول الاتصال، ليرد بعدها بخيبة أمل:
- للاسف تليفونها مغلق .
اضاف على قوله عاصم:
- وللأسف كمان هى سافرت النهاردة البلد مع بدور...
انتفض مدحت يريد تكسير الهاتف والقاءه بعصبية:
- سافرت من غير ما تجولى ولا حتى تديني خبر، ماشى يا نهال، انا ان ما ربيتك ما بجاش انا .
ضحك عاصم يردد بعدم استيعاب لحالة الاَخر وقلبته السريعة:
- يا بنى انت مجنون؟ عليا النعمة انت مجنون، طب ايه ذنب التليفون؟
1
❈-❈-❈
داخل منزل قديم وبالغرفة وحده مقيد في العمود خرساني بالحبال الغليظة، التي لا تمكنه من حلها على الأطلاق، حوله الفئران والزواحف منتشرة على الأرض، واعلى الجدارن المتشققة، يرتجف بذعر صارخًا بأسمائهم:
- يا رائف يا حربى، حد ياجى يفكنى، انا معملتش حاجة لدا كله، يا رااائف، يا حربييييى، حد فيكم يعبرنى ولا يرد عليا، يا بووووى، انا هموت هنا فى الحتة المعفنة دى اللى عامله زى الجبر، يا بوووووووى، هتشيلوا ذنبى يا بوووووى .
طل برأسه عليه حربي من الفتحة الصغيرة بالباب، ثم عاد مرة أخرى قائلًا لابن عمه رائف، والذي كان بجوار النار التي أشعلها في صالة المنزل المهجور منذ قليل للتدفئة وإعداد المشروبات الساخنة :
- ابن المحروج ده صدعني، اروح اكسرلوا نفوخه واستريح منه ومن جرفه .
ضحك رائف وهو يصب من الركوة الشاي الساخن في الكوبين الزجاجيين:
- ما هي دى عوايدوا، الصراخ زى الولايا، يعمل النصيبة وبعدين ما يتحملش توابعها .
قال حربي بغيظ:
- ااه يا نارى، يا ما نفسى ادخل اديلوا العلجة النضيفة اللى تنسيه اهله.
اعترض رائف بحزم يعاتبه:
- لا يا حربى، احنا ننفذ اللى يجول عليه جدك بالحرف هو ادرى منينا فيها دي.
سمع الاَخير، ليتناول كوب الشاي خاصته، كي يرتشف منه ثم يقول:
- ماشى، اما نشوف إيه اخرتها .
❈-❈-❈
في منزل العمدة لم تكف ولم تتوقف انتصار عن النحيب، مع مرور الوقت وتعقد الأمور اكثر من ذي قبل:
- ياحبيبى يا ولدي، يا ترى عملوا فيك ايه دلوك؟ يا مين يطمنى عليك يا حبيبى ولا يجولي على مكانك، يا مرك يا انتصار، يا مرك، يا مرك .
هدر بها هاشم بسأم وقد فاض به منها:
- ما تبس يا ولية انتى فضيها، خبر ايه؟ هتفضلى تندبى كده للصبح؟
ردت تضرب بكفها على فخذها مستمرة فيما تفعل:
- ولو بطلت هتريح جلبى وتجولي ولدى فين ؟ جولى ان كنت تعرف، جولى يا عمدة.
صرخ بها بانفعال:
- فوضيها يا انتصار، انا فيا اللي مكفيني، ولدك بعت الرجاله اللى تبعى يجلبوا البلد عليها واطيها عشان يجيبوه.
ردت انتصار بعدم تصديق:
- اممم وهيعرفوا يجيبولي ولدى من ياسين؟ دا انت عارفه اكتر مني، ناعم لكن جرصته والجبر.
بثقة وتصميم قال هاشم:
- هيعرفوا يا غالية، دول مش غفر الحكومة اللي شغالين عندك، دول ولاد ليل يعنى يعرفوا العفريت مخبى عيله فين؟ .... استنى ارد على واحد فيهم بيرن ع التلفون
قالها وتناول هاتفه الذي يدوي بصوت الاتصال ليجيب محدث:
- الووو ........... كيف يعنى مش لاجيله اثر خالص، دور تاني وتالت ورابع، تجيلي ولدي من تحت الارض......... متجولش اهدى، جولي خبر عن الواد، يا متكلمنيش خالص......... اسمع إيه يا غبي؟ هو انا فيا دماغ للت والعجن كمان......... بتجول ايه؟
عند الاخيرة برقت عيني هاشم واعتدل بجلسته حتى انتبهت انتصار لتنصت جيدًا له وهو يأمر الرجل:
- هاتهم!.
- هو مين اللي يجيبهم.
سألت انتصار، ولكنه اوقفها بإشارة من بكفه ليتابع للرجل عبر الهاتف:
- ايوه هاتهم وملكش دعوة، وانا هبلغك تروح بيهم فين؟ بس بعد ما تديني التمام .
انهى المكالمة لتسأله انتصار بلهفة وتعجب:
- تمام ايه وكلام فارغ ايه؟ هو انت سلطته يجيب مين؟
تبسم هاشم بثقة عادت إليه اضعاف يجيبها:
- هجولك يا انتصار!
❈-❈-❈
في منزل راجح وقد كان مستغرقًا في نومه، ليستقظ مجفلًا على صوت الهاتف المزعج والذي كان لا يكف عن دوي صوت الاتصالات به، حتى اضطر على مضض يجيب بنعاس:
- الوو.... مين معايا؟
- ايوة يا راجح ،اصحى معايا كده وافهم اللى بجوله .
اعتدل بجذعه راجح يقول مستغربًا:
- انت مين يالى بتكلمنى كده فى الساعه دى؟
الطرف الآخر:
- أنا واحد من طرف العمدة يا عم راجح، وهو اللي بيجولك توصل الرساله دى لابوك، إن ما كنش يرجع معتصم سالم غانم لابوه، يبجى جول على بنتتك انت الدكتوره واختها يا رحمن يا رحيم!
بعودة الغائب تسترد الروح وهجها، وبلقاء الأحباب تطفيء نار الإشتياق فيهدأ البال، وتغمر النفس السعادة بالقاء.
هذا التعبير كان أقل كثيرا مما كانت تشعر به سميحة وهي تقبل وتحتضن ابنها البكر بلال، بعد عودته من سفره في إحدى الدول العربية من أجل الاطمئنان على شقيقه:
- حمد الله ع السلامة يا حبيبى، اتوحشتك جوى يا غالى .
- يا وليه سيبه شوية ياخد نفسه،  لسه ما شبعتيش احضان فيه.
قالها سالم بمناكفة لتصبح به سميحة بانفعال:
- باه يا راجل، مش بجالى سنين ما شوفتوش، الغالى البكرى حبيب جلبى ده.
تدخل عاصم مدعي الغيرة:
- والله واتنسيت يا عاصم، وجاه اللى ها ياكل الجو منك.
هتف يشاكسه بلال ضاحكًا، وهو يزيد باحتضان والدته؛
- انت لسه شوفت حاجه،  دا انا هاروشك الايام الجايو، يا حبيبتى ياما يا غالية
قال عاصم بدرامية:
- شايف يا بوى؟ اللى عامل نفسه نازل مخصوص عشانى، جاى يغيظنى .
رد سالم مندمجًا معه في مزحته:
- عندك حج يا ولدى، وانا اللى كنت فاكره عجل بعد ما سافر الخليج !!
جلس بلال بوالدته على أحد المقاعد يردد للإثنان:
-واعجل ليه يا بوى؟ انا هفضل طول عمرى كده، عشان ما كبرش ابدًا .
هنا رد عاصم بجدية:
- ما هو باين عليك يا واد ابوى، اللى يشوفك يفتكرك فى العشرين وانت معدى الخمس والتلاتين
جلجل بلال بضحكة عالية قائلًا:
- وه يا عاصم، انت هتنبر عليا ولا ايه؟
جاء الرد من سالم والده:
- ينبر عليك ليه يا خوى؟! كنت احلى منه ولا احلى منه .
عبس بلال موجهًا حديثه لوالدته بدرامية:
- واعيه ياما ابويا بيلمح لأيه؟ بيدوس ع الجرح، عشان عاصم طويل وعريض عليا، يرضيكى ياما ؟
ضحكت سميحة تندمج معه في حزب مضاد لعاصم وز وجها:
- لا يا حبيبى ما يرضنيش، الجماعة دول متفجين مع بعض عشان هما طوال، ضدنا انا وانت عشان مجربين من بعض في الطول.
بسخربة ضحك سالم يردد:
- يا جلب امك يا خوى، فرحان بالهشتكة والبرود!
اومأ بلال بهز رأسه يردد بتأكيد:
- ايوه انا جلب امى يا بوى دا حجيجى، مش وارث من طولها.
ضحك الجميع ليظلوا في مشاكسات ومناكفات، يستعيدوا بها أوقات سعيدة كانت تمر في السابق عليهم حينما كانوا جمعة، قبل ابنهم عنهم، والذي غلبه طبعه المتعصب ليحدث شقيقه بجدية وغضب:
- ها يا غالى، جولي بجى اتعركت مع مين؟ عشان انا جاى اخلص.
اجفل عاصم من هذا التحول الغريب لشقيقه ليرد بانفعال هو الاَخر:
- تخلص كيف يعني؟ هو انا عويل ومش هعرف أجيب حجي عشان ترجع من سفرك وتجيبه؟
عقب سالم والد الإثنان:
- انت لساك مجنون يا واد انت؟ مين جالك اساسًا بالموضوع ؟!
رد بلال بعدم بأصرار:
- عرفت زي ما عرفت يا بوى وخلاص، المهم دلوك اعرف مين هو اللى سلط عيال ال..... على عاصم، لأن الأمر ده ميخصهوش وحده، دا يخصها كلنا فاهمني يا باشا انت؟
وجه الأخيرة لشقيقه، وتدخلت والدته ايضًا:
- خبر ايه يا بلال؟ هو انت لساك على طبعك ده، جال واحنا اللى جولنا ربنا هداك لما روحت الخليج.
ببراءة مصطنعة رد بلال:
- ما انا ربنا هدينى ياما، هو انا عملت حاجة دلوك يعني؟ انا بس عايز اعرف ابن المركوب اللى اتجرأ ومس اخويا بسوء، فيها حاجه دى؟
على سجادة الصلاة كعادته في هذا الوقت ، كان جالسًا مربع القدمين على الأرض يقرأ ويسبح على مسبحته العقيق، قبل ان ينتفض مجفلًا على صياح ابنه، الذي ولج فجأة لداخل المنزل مرددًا
- اللحجنى يا بوى، بنتتى يا بوى، هيضيعوا مني يا بوي.
نهض ياسين عن جلسته مفزوعًا ليسأله:
- مال بنتتك يا واد؟
اقترب منه راجح لاهثًا بفضل ركضه من منزله حتى هنا، ليقول
- بنتى خطفهم العمده يا بوى، عشان انت خاطف عاصم، زى ما بيجولوا .
سأله ياسين بعدم استيعاب:
- هما مين هما اللى بيجولوا؟ انا مش فاهم حاجة.
صرخ به راجح:
- يا بوي افهمني، دول جماعه اتصلوا بيا جبل الفجر من شوية كدة، جالولى انهم خطفوا نهال وبدور وعايزني ابلغك انت مخصوص، حن عليك يا بوى، دولا عيالى يعنى انا عندى ادفن حى ولا حد يمسهم .
تفهم ياسين ليهدر به بعصبية:
- ومين اللى هيجدر يمسهم اساساً؟ اجمد يا واد كدة، بس المهم دلوك انت اتاكدت من الكلام ده؟
ردد راجح بصوت ملتاع وجسد يهتز من فرط خوفه:
- ايوه يا بوى، ودا لأن البت امبارح اتصلت وجالت انهم نازلين البلد فى الجطر، يعني كان مفروض يرجعوا من ساعات لكن اللي حصل هو أنهم لحد دلوك ما وصلوش وبرن ع التلفون بيدينى مغلق، يبجى حصل يا بوى والكلام صح اللى جالهولى واد الفرطوس .
اشتعلت رأس ياسين واحتدت عينيه بنيران وقد تبين من جدية الموضوع الاَن، ليتمتم بالسباب قائلًا:
- اه يا هاشم الكلب...... هى وصلت كمان للحريم ...دا انا هشربك المر كاسات كاسات...
قاطعه راجح بصوت مرتجف:
- احب على يدك يا بوى رجع معتصم لابوه ، دولا عرضى يا بوى.
هدر به ياسين غاضبًا؛
- اصلب طولك يا واد، محدش يجدر يمس عرضك .. والعمده اكتر واحد عارف بالعواقب لو بس لمسهم .
صرخ راجح غير بعدم احتمال:
- يا بوى اسمعنى، دا اللى  بلغنى جالى جول على بناتك يا رحمن يا رحيم، حن عليكم بعدونى انا وبناتى من الحسبه، وان شالله اهج واسيب البلد حتى .
جذبه ياسين من ذراعه ليعانقه ويربت على ظهره حتى يخفف عنه، مقدرًا لوعته وخوفه الشديد على البنتين، تلقف راجح حضن والده، لتسفط دمعات ساخنة منه على غير ارادته، للشعر به ياسين على كتف ذراعه، وكأنه نار تحرقه فقال يريحه:
- خلاص اهدى، كل اللى انت عايزه هيحصل، وهرجع معتصم لابوه وارجعلك انت بنتتك منه.
سمع راجح ليرفع رأسه عن والده، قائلًا وهو يجفف بطرف كمه الدمعات:
-  ارجوك بسرعه يا بوى انا سايب امهم شايله الطين فى البيت ولولا انى حلفت اليمين عليها لكانت جاتلك صارخه من بيتى.
ربت على كتفه ياسين مرة أخرى، بابتسامة مطمئنة، ولكن عقله كان يسبح في جهة أخرى، مفكرًا في هذا الخسيس الذي لعب معه بقذارة، يفعل احط عمل في عرف البشر أجمعين، وليس عرفهم هم فقط.
❈-❈-❈
فتحت أجفانها للضوء الخفيف الذي كان يتسلل في هذا الوقت من الصباح، ظلت ترفرف بأهدابها لعدة لحظات تستعيد وعيها، لتضيق عينيها باستغراب؛ للنقوش التي تزين السقف ثم تنزل على الجدران الغريبة عما تراه بمنزلها او سكنها في الجامعة، شقيقتها غافية ايضًا بجوارها على تخت كببر وضخم، اعتدلت فجأة لتتوسع عينيها بذهول لهذه الغرفة الواسعة بحجم الصالة في منزلهم، اللوان قديمة وبعض الصور المؤطرة الملتصقة بالجدران والاثاث الكلاسيكي، تصميم يشبه منازل البكوات والبوشات التي كانت تراها في شاشات التلفاز،
بزعر تملكها حاولت تعتصر بعقلها للتفكر في السبب الذي أتى بها إلى هنا، للتذكر القطار وهبوطها هي وشقيقتها في محطة البلدة ثم الخروج والبحث عن وسيلة تقلهن الى منزل والديها، ثم....... هنا تذكرت الرجل الغريب الذي استوقفهن سائلًا برجاء عن عنوان طبيبة نسائية لزو جته المريضة بشدة في السيارة الأجرة، وأجابته هي عنوان قريب في إحدى البنايات القريبة من المحطة، قبل تفاجأ برذاذ قوي أعمى ناظريها مع شهقة مكتومة من شقيقتها التي ما أن حاولت أن تلتف اليها لتجدها تسقط مغشي ورجل ما يتلقفها، وقبل أن تتمكن هي من الصراخ على الرجل، انقطع الضوء امامها، واختفى الشعور بأي شيء، وتعي الاَن وضعها.
انتفضت فجأة لتوقظ شقيقتها:
- بدور يا بدور، جومى اصحى شوفى احنا فين؟
بهزهزتها بعنف استفاقت بدور مرددة برأس ثقيل:
- ايوه أيوة يا نهال، صحيت اها صحيت.
صاحت بها بحزم:
- يا بت جومي، دا اختا شكلنا اتخطفنا يا جزينة.
- اتخطفنا كيف يعني؟
قالتها بدور مجفلة وهي تستعيد وعيها جيدًا، لتتابع وهي تعتدل بجذعها عن الفراش بأعين تجول في الأنحاء حولها:
- ايه ده؟ احنا فين صح؟ وايه واللى جابنا هنا؟
هتف بها بانفعال:
- ما انا بجولك فوجي خلينا نشوف مين اللى جابنا هنا؟ وهنطلع ازاى؟
برعب تملكها، تطلعت بدور برعب نحو شقيقتها المتحفزة بانفعال جعلها تنهض لتتفحص النافذة لتجدها محكمة الغلق، لتبرق عينيها بغضب نحو شقيقتها مرددة:
- الشباك متمسمر بالمسامير الحديد عشان محدش يعرف يفتحها، تمتمت بدور بارتياع واضعة كفها على فمها:
- يا مراري اللي جابونا هنا مجرمين؟
- ليكونوا
رددتها نهال بتهكم، قبل أن تتحرك نحو الغرفة تحاول فتحه، بعدة محاولات باءت بالفشل، وذلك لأنه كان مغلق بمفتاحه من الخارج، فاض بها لتضرب بكفيها الاثنان بقوة على الباب، وبصوت عالي كانت تنده:
- انتو ياللى هنا افتحو، ورونى وشكم يا ابن الفردوس، يا واكل ناسك انت وهو، حد فيكم يرد عليا، دا انتوا بينكم اتخبلتوا عشان تخطفوا احفاد الحج ياسين، افتح يا زفت انت وهو، افتح اما اجولك.
على التخت الذي اللتصقت به، تكلمت بدور بصدمة:
- يعنى على كدة احنا مخطوفين صح يا نهال دلوك؟
طب ليه؟
هتفت بها نهال بقوة:
- متخافيش يا بت، وحتى لو خايفه متبينيش لحد منيهم انك خايفة، فاهمه ولا لاه؟
اومأت لها بدور بهز رأسها، وداخلها لا تشعر بالثقة في أنها تستطيع فعل ذلك، لكن ما يطمئنها بعض الشيء، هي القوة التي تتحدث بها شقيقتها، والتي لم تكف على الطرق بقوة وازعاج على باب الغرفة، مما اضطر الرجال القابعين في الخارج للرد عليها
- ما تبس يا بت انتي وهي فضوها
❈-❈-❈
- ما تبس يا بت انتي وهي فضوها .
صاح بها أحد الرجال منزعجًا ويدعى عيسى، وقد جالسًا مع رفيقه على مائدة السفرة القديمة يتناولان فطورهما، ليعقب الاخر ايضًا وهو يدعى عبد الناصر:
- لسانها حامى جوى البت دى، بس انت سيبك منها، تصرخ لبكره حتى، لما تشوف مين هيسمعها فى الجصر الكبير ده.
قال عيسى بابتسامة عابثة؛
- تتخيل من فيهم يا عبده؟ ام عيون خضرا ولا اللى عينها كيف الزتونى كدة؟
سمع الاخر ليجيب بانبهار:
- يا بوى، دا الاتنين يحلوا من على حبل المشنجة، ايه الحلاوة دي؟
ضحك عيسى قائلًا:
- اه والله عندك حج، بس لو ماكنش العمده مشدد علينا، اننا ما نجربش منهم، كنا خدناهم انا وانت واتجوزناهم .
شرد عبد الناصر ليقول بتمني:
- وه، دا انا كنت ابطل اجرام وابطل حتى الشغل واجعد بس اتأمل فيها؟
انتبه عيسى ليطرقع بأصباعيه أمامه ليُفيقه:
- هو انت اخترت خلاص؟ اصحى يا عبده، احنا مصلحتنا انهم يرجعوا سالمين لاهلهم واحنا نعكملنا مبلغ محترم من العمدة وبعد كده انت هتجدر تختار على كيفك اللى تتجوزها وتتوبك، دول الشغل يا حبيبى، ماشى يابا. اصحى اصحى .
قال الأخيرة بنكزة على ذراعه جعلته يصدر صوتًا متألمًا، عقب على اثره زميلهما الثالث الذي كان يدلف لداخل المنزل ليشاركهما الإفطار:
- بتزغده ليه على دراعه؟
رد عيسى بارتباك:
- متشغلش نفسك انت يا متولى، دا انا بس بشد عليه عشان عينه ما تغفلش .
اومأ متولي بهز رأسه، لينكفيء على الطعام ويتناول بنهم، قبل أن يجفله عبد الناصر بقوله:
- متولى، مدام انت من البلد وعارف اهلها، يبجى أكيد تعرف جوز البنته اللى زى الجشطه دول صح! هما بنتت مين فى بلدكم؟
توقف الطعام بخلق متولي ليرفع انظاره إليه بغضب، يقول بتحذير:
- اعرفهم ولا معرفهمش إنت مالك؟ اسمع اما اجولك انت وهو، البنته اللى جوا دول، اياك حد فيكم يبصلهم حتى، مش يكلمهم، انا بحذركم، انتوا الاتنين اغراب عن البلد، فاهمين ولا اجول للعمده يفهمكم .
على الفور رد عيسى باضطراب:
- فاهمين أكيد يا ابو عمو، هو انت هتكبر الموضوع ليه بس؟
❈-❈-❈
فتح حربي عليه باب الغرفة القديمة فجأة، ليجد رأسه المتدلية، على صــ دره المقيد بالحباب وسائر جسده في العمود الخرساني، كما تركاه منذ الأمس، اقترب منه ليطرق بكف يده على عنقه من الخلف ليصرخ مجفلًا وقد أيقظه صارخًا:
- اه
صاح به حربي هادرًا:
- اصحى ياد، هو احنا جابينك تنام هنا يا روح امك ياك؟
بنبرة باكية رد معتصم:
- خبر ايه معاكم عاد؟ مش كفاية ربطني من امبارح زي البهيمة، كمان مش عايزنى انام!
دلف رائف على الصوت ليقول بحزم:
- مش تحمد ربنا ان احنا سايببنك عايش اساساً؟
بوجه انسحبت منه الدماء قال معتصم:
- عايش كيف؟ وانتوا سايبينى من امبارح مربوط مع الفيران والخنافس وحاجات كتيرة، مش عارف اساميها حواليا بتمشى، حرام عليكم .دا انا ضهرى وجعنى من الوجفه وسيابينى جعان من غير وكل .
حربي بلهجة متهكمة:
- جاك الطين، وهو ليك نفس كمان تاكل يا جزين؟
رد رائف :
- معلش يا واد عمى خلينا نوكله، ما احنا كمان مش مستعجلين على موته برضوا .
ردد خلفه معتصم بزعر:
- موت مين؟
ضحك رائف يجيبه وهو يرتد بأقدامه ليخرج:
- تفتكر هيكون مين يعني؟ اكيد موتك انت يا بطة.
قهقه بضحكة عالية يكمل:
- ثوانى يا جلبى اجيبلك تاكل يا نور عيني.
ضحك حربي أيضًا وهو يلحق بابن عمه وعينيه تراقب رد فعل معتصم الذي شحب وجهه من الرعب كالأموات.
❈-❈-❈
صاحت حتى بح صوتها، وطرقت على باب الغرفة حتى تعبت ويأست من أي نتيجة، لتعود للجلوس بجوار شقيقتها، التي كانت تضم قدميها إليها، متكورة على نفسها تبكي الخوف من المجهول، ونهال تطالعها بعجز، لا هي بقادرة على طمأنتها، ولا تجد ما يعدها بذلك، ليظل هذا الوضع قائمًا انفتح باب الغرفة فجأة بدفعة قوية أجفلتهن، جففت بدور سريعًا دمعاتها بطرف كم بلوزتها، وانتفضت نهال بتحفز لتواجه الرجلين الذين ولجا لداخل الغرفة عندهن، واحدهما يحمل صنية طعام، فقال يدعوهم بهدوؤ
- الفطور يا عرايس.
صاحت بهن نهال:
- انتوا مين؟ وليه خاطفينا انا واختى؟
قال عيسى يجيبها:
- ملكيش دعوة، انتى ليكى تاكلى وتشربى لحد اما يتفك حبسكم انتى والسنيوره اختك وتمشوا بعدها، بس كدة.
تجرأت بدور لتسأله:
- بتجولك خاطفينا ليه؟ رد عليها وخلص .
جاءها الرد من عبد الناصر الذي كان يدعي الأدب رغم جرأة انظاره لها:
- معلش يا ابله سامحينا، حنا مش هنجدر نجولكم على حاجة، بس انتوا اتطمنوا، عشان احنا مش هنجرب ناحيتكم خالص، وهنروحكم سالمين غانمين .
اضاف عيسى على قول الاَخر، رغم استغرابه اللطف المفاجي، لصديقه:
- بس تجعدوا باحترامكم وما تحاولوش تعملوا معانا اى حاجه عفشة.
زجرته نهال بشدة قائلة:
- طب يا للا خد فطارك وغور، احنا مش عايزين حاجة من خلجتكم .
صاح بها عيسى ساخطًا:
- خبر ايه يا بت؟ شادة حيلك كده علينا، هو احنا غلطنا فيكى؟
باعين مشتعلة هدرت به محتدة:
- وانت تجدر تغلط اساساً، عشان كنت علمتك الادب ساعتها، ولا دفعتك تمن الغلط أضعاف.
ردها القوي اجفل عيسى ليردد بعدم استيعاب:
- وه وه،  دا انتى واعره جوى يا بوي، سبحان مين يصبرنا عليكى.
عبد الناصر هو الاَخر:
- شديدة علينا من غير داعي، ومن غير ما نعملك حاجة، انا مش عارف والله، ليه متبجيش عاجلة وراسية زى اختك اللى عامله زى الجمر دى وساكته.
قال الأخيرة بإشارة نحو بدور التي ارتجفت من نظرته الوقحة، مما ساهم في ازدياد غضب نهال، لتصبح به غاضبة:
- اختى مين يا كلب انت؟ عينك دى لو رفعتها فى اختى او اى واحده فينا هفجعهالك فاهم ولا لأ.
انتفض عيسى وقد شعر بتطور الامر، وقد تفاجأ بالشراسة الغير عادية لنهال، مما اصطره لسحب الاَخر من ذراعه مرددًا قبل ان يخرج به: .
- الوكل عنديكم لو عوزتوا تاكلوا، ياللا انت كمان خلينا نطلع،  بدل ما ارتكب جريمة، يالا بينا.
❈-❈-❈
للمرة التي لا يذكر عددها، كان يحاول الإتصال بها، فور أن استيقظ من نومته التي لم تكمل الساعتين على الرغم من تعب الانتقال والقيادة من المحافظة للبلدة في عتمة الليل، للحاق بها، وذلك بفضل قلقها المتزايد لهذا الصمت المبالغ فيه، واغلاقه المتعمد للهاتف منذ الأمس، غمغم داخله بتوعد لها، حتى لا تكرر معه هذا الفعل الذي يكاد أن يصيبه بالجنون مهما بلغ بينهما درجة الشجار.
- ما تردى بجى، وبعدين عاظ، دا انا مستنيتش دجيجة بعد ما عرفت من بينهم عاصم وجيت على طول وراكى البلد عشان اصالحك، اروح اخبط عليهم الساعه ٧ الصبح عشان يجولوا عليا اتجن؟ يا مين يصبرنى الساعتين دول ماشى يا نهال ماشى.
دلفت نيرة على حديثه مع نفسه، لتجفله بقولها الساخر:
- اسم الله عليك يا خوى، انت بتكلم نفسك؟
بحنق وضيق، تناول الوسادة ليلقيها عليها ناهرًا لها:
- وانتى مالك يا زفته انتى؟ اتكلم ولا اتنيل .
تفادت نيرة الوسادة ضاحكة لتردد
- وانا مالى يا بوى، كلم نفسك على كيفك، وانت مدام خطبت المجنونه نهال هيبجى فيك امل تانى .
سمع منها لينزل باقدامه على الأرض يشير بسبابته نحو صــ دره بتوعد لها:
- بجى أنا، الدكتور مدحت على سن ورمح، على آخر الزمن، تيجى عيله تافهه  زيك وتجولى الكلام ده دا انت سنتك مش معدية النهاردة.
فور ان تحرك ليهجم عليها ركضت نيرة من أمامه ترد ضاحكة"
- اللحجنى يا بوي، اخويا مدحت ، هيموتنى .
- استني هنا يا جبانة .
كان يهتف بها من خلفها وهو يعدو بخطواته المسرعة ليلحق بها، حتى خرجت من الغرفة ، بتقف فجأة وتتوقف ضحكاتها، وهو كذلك بنفس الفعل، بعد رؤيتهما لوالديهما الجالسان بهيئة غير مطمئنة على الإطلاق.
فقد كان عبد الحميد مطرق الرأس التي يحاوطها يكفيه، بذهن شارد، وراضية تضع يــ دها على خدها بوجوم غريب.
وجهت لهما السؤال نيرة:
- فى ايه يا بوى؟ مالك ياما؟
تساءل مدحت بنفس الأمر:
- إيه اللى حصل يا بوى؟ شكلكم يجلج .
- نهال وبدور .
قالتها راضية ليتسمر مدحت محله، يشعر بقلبه على وشك الخروج من صـ دره من الخوف، ليسأل بتوجس ورعب
- مالهم ياما نيرة وبدور.
❈-❈-❈
في منزل العمدة
هتف جبيصي مرددًا وهو يعدو مسرعًا بخطواته:
- يا جناب العمدة، يا جناب العمدة .
رد هاشم بنزق وهو يضع من كوب الشاي من يــ ده على الطاولة أمامه:
فى ايه ياض انت؟ مالك؟
جبيصي بلهفة ظاهرة في نبرته:
- الحج ياسين، داخل البيت وعايز يشوفك .
اعتدل هاشم في جلسته بتحفز يأمره:
- طب روح ياد وخليه يدخل على طول .
- انا مش هستنى اذن عشان ادخلك يا هاشم.
قالها ياسين وهو يلج بغضبه إلى مقر هاشم في مدخل المنزل، والذي نهض يستقبله بابتسامة بشوشة، وفرحة داخله تتراقص بصخب:
- يا أهلا يا حج ياسين، دا تاَنس وتنور كمان، روح ياد انت دلوك وجيب حاجه نشربها.
لم ينتظر ياسين حتى بادره على الفور بتحفز قائلًا:
- دي عاملة برضوا تعملها يا واطى؟ هي حصلت للحريم كمان؟
بتبجح صريح رد هاشم:
- امال كنت عايزنى اعملك ايه؟! وانت خاطف ولدى؟
رد ياسين بحدة:
- وهو ولد كان حريم؟ يا راجل يا عديم الأصل والمروة.
تماسك هاشم يلتزم البرود حتى يصل لغرضه:
- من غير شتيمة بس يا حج ياسين، انا مش عاوز اتهور معاك وانت راجل كبير وانا برضو من دور عيالك .
هدر به ياسين ينهره:
- عيالى مين ياد؟ هو انت خليت فيها كبير ولا صغير، بعد ما دخلت الحريم بندالتك.
كز على اسنانه هاشم يردف:
- شوف يا حج ياسين، بنتت ولدك فى امان ومحدش هاوب ناحيتهم، المهم دلوك تجيبوا ولدى اسلمكم البنت
هدر به ياسين محتدًا:
- يا راجل يا عديم الدم ولدك راجل واحنا خدناه عشان نجيب حجنا منه، لكن انت بجلة اصلك بتخطف بنته ملهاش ذنب، خلاص بجينا ندخل الحريم فى عاريك الرجاله ولا صح ولدك مش محسوب ع الرجالة
- احترم نفسك يا ياسين .
صرخ بها هاشم بعدم احتمال، ليراجع ياسين نفسه ويحاول الزمالك في قوله:
-  ناهيتوا، روح هات البنته وانا هبعت اجيبلك المحروس ولدك .
تبسم هاشم ليجلس على الاَريكة بأريحية يقول:
- كده بالساهل !!
عقد ياسين حاجبيه بنتسائلًا بتفكير
-  يعنى ايه؟
اجابه هاشم:
- يعنى يا حج ياسين، انا لو خدت ولدى النهاردة، اضمن منين انك ما ترجعش تعيدها انت او عيال ولدك .
انفعل ليهتف بحيرة متزايدة:
- تجصد ايه يا هاشم؟ جيب اللى فى عبك خلصنى .
رد هاشم بادعاء الطيبة:
-  شوف يا حج ياسين، انا مش عايز عداوة بينا وما وبينكم، انا عايز نبجى حبايب وعشان نبجى حبايب، يبجى نرجع النسب اللى كان ما بينا تانى، ومعتصم يتجوز بدور ويبجى يادار ما دخلك شر .
برقت عيني ياسين بالغضب مرددًا:
- يعنى انا اجولك العدل بعقابه، وانت عايزنى اكافئه ببت ولدى كمان .
بوجه مكشوف زاد هاشم بوقاحته قائلًا:
- ويكون فى علمك، المرة دى مش هتبجى خطوبة، لا  دى هتبجى جواز على طول، ولو على سنها فهى مش اول بت تعجد بالسنة، واما تكمل سنها القانونى نبجى نعجدلها على يد ماذون وهى على  ذمة ولدى، واحنا حبايب ونسايب، ما هو مش معجول هاتئذوا جوز بتكم ولا ايه يا حج ياسين؟
قصت عليه والدته بعجالة الأمر الجلل عن اختطاف العمدة هاشم ابنتي عمه، بدور ونهال من أجل مبادلتهم بمعتصم الموجود بحوزة الشباب الاَن، رائف وجربي، كان صامتًا بهدوء ما يسبق العاصفة، لا تظهر ملامح اية رد فعل عما يدور بداخله، بجمود ظاهري يخفي نيران استعرت بشراسة بداخله، حتى بدأ الانفعال يظهر تدريجيا بنتفسه الحاد حتى أصبح مسموعًا، رغم صمته الذي اثار التوجس بداخلهم منه، يستمع لتعقيب والدته عن الأمر وشقيقته تلطم ببكاء حارق عما حديث لابنتي عمها بفعل خسيس لا يفعله سوى انقاص الرجال كما كان يقول سالم. على نفس وتيرته في الهدوء منسحبًا من أمامهم ليزيد حيرتهم، ويدخل غرفته ثم يخرج سريعًا في ظرف ثواني قليلة ليفاجئهم بارتدئه الجلباب البلدي، ومن دون أذن خطا بأقدمه ليدلف بغرفة والديه، هنا انتفض سالم متسائلًا من أجل أن يوقفه
- إنت داخل الاوضة ليه يا واد؟
اكمل طريقه دون رد، لتنهض راضية على الفور حتى تلحق به، مغمغة بتساؤل:
- ودا داخل الاؤضه هيعمل ايه؟
- بتعمل ايه عندك؟ وه دا انت جلبت الاؤضة كلها ليه كدة؟ بتفتش على ايه فى الدلاب؟
رددت بالأسئلة راضية مندهشة من حجم الفوضى التي كان يحدثها مدحت في غرفتها بغير حق، وخصوصًا دولاب الملابس التي كان يلقيها بعدم احترام، ليزيد استياءها بصمته المستمر وعدم الرد، فتابعت بحنق له:
- يا ولدى رد عليا، بتدور على ايه فى هدوم ابوك...
توقفت فجأة بخضة وهي ترى وكأنه قد عثر على غايته، حينما اخرجه من الرف الأوسط، صرخت بارتياع وهي تطالع السلاح المرخص لوالده وهو يلتمع بيــ ده، لتركض على الفور ناحيته لتعترض طريقه مرددة:
- يا مرك يا راضية، عايز تضيع نفسك يا مدحت؟ هتضيع نفسك يا حزين، سيب الجندلة ده من يدك.
بعزم شديد كان يضغط على نفسه بقوة حتى لا يؤذي والدته المتشبثة به بقوة، بدفعها من أمامه، حتى يمضي في طريقه ليفعل ما انتوى عليه:
- سيبنى ياما، بعدى عنى الله يرضى عنك .
- اللحج ولدك يا عبد الحميد، هيجتل العمده .
صرخت بها بقوة نحو زو جها الذي أتى على الصوت دون انتظار، ليطبق عليه ممسكًا به وبالسلاح، قبل ان يتمكن من الخروج به، ليخاطبه بحزم حتى ينتزعه منه
- رايح فين وعايز تتخطانا كلنا، هو ابوك ولا اعمامك ميقدروش يمسكوا السلاح زيك؟
بصوت خشن متحشرج بانفعال شرس كان يسمتيت من أجل أن يتركاه:
- سيبنى يا بوى، الله يرضى عنك، متبعش كلام امي.
زاد عبد الحميد الإمساك به بقوة قائلًا:
- اسيبك عشان تضيع نفسك، اعجل يا ولدي واخزي الشيطان.
راضية ايضًا:
- استهدى بالله يا ولدى واسمع الكلام
وكأن وحش يصارع لفك قيوده كان يصيح:
- سيبونى حرام عليكم اروح افرغ مسدسى فى صــ دره، الواطي عديم الشرف ده.
عبد الحميد وهو يخطابه بالعقل:
- وموته هيفيدنا بإيه؟ احنا نجيب البنته الاول وبعدين نعمل معاه اللى احنا عايزينه .
بإصرار شديد هتف مدحت:
- خلاص اروح احط المسدس على راسه واخليه يجول على مكانهم.
- فى بيته! وفي وسط غفره! عشان يحبسوك ولا يخلصوا عليك ولا يبجى ليك ديه حتى .
قالها عبد الحميد ليصرخ له مدحت بعذاب ينهش به؛
- يعنى اسكت زى الحريم وانا خطيبتى مخطوفة يا بوى، دا انا اموت احسن، الموت أهون يا بوي.
- بعد الشر عليك يا حبيبي من الموت.
هتفت بها راضية، ليضيف على قولها عبد الحميد:
- يا ولدى انا عاذرك وحاسس بيك، بس احنا لازم نشغل عجلنا الاول، دا شيطان وعرف يلوى دراعنا، يبجى احنا ماينفعش نتغاشم معاه، عشان نردله ونعرف نحاسبه على غلطته صح.
اكملت راضية من أجل تهدئته:
- اسمع كلام ابوك يا حبيبى واصبر شوية، جدك مش هيسكت واكيد فى صرفه.
هتفت نيرة هي الأخرى والتي كانت واقفة على مدخل الغرفة، بصوت مرتعش من فرط بكاءها الحارق:
- حن عليك يا خوى اسمع كلامهم اكيد فى حل .
- رسيتوا على ايه ؟
سألت انتصار فور خروج ياسين من المنزل، بعد جلسته مع زو جها والذي فرد نفسه أمامها بغرور يقول:
- تفتكرى إنت إيه؟
ردت انتصار وهي تجلس على الكرسي المقابل له:
- شكلك مبسوط وحاطط على جلبك مراوح طب ما تجولى انا كمان وريحنى بالمره على ولدي اللي هموت عليه.
بسأم طالعها هاشم يقول:
- يا ولية ما تبجيش غبية بجى واتجلي، ولدك ها يرجعلك وهجوزه المحروسة اللى هيموت عليها كمان، عايزه ايه تانى؟
قارعته انتصار بشكها:
- وانت تضمن ياسين وحركاته؟ ولا حتى عيال عياله، ما انت عارفهم.
بعنجهية وثقة زائدة رد هاشم:
- حركات ايه ولا كلام فارغ ايه؟! دا انا شرطت انهم ما هيشوفوا البنتة غير فى بيتى وساعة كتب كتاب بتهم على ولدى و بيد المحامى بتاعنا، هيبجى فيه حركات تانى بجى؟
تابعت انتصار بسؤال اخر:
- طب ما يمكن يعتروا على مكان البنتة وساعتها تتجلب فوج راسنا وتطين اكتر ما هي مكينة.
سمع هاشم ليجلجل بضحكة عاليه يقول:
- يعتروا كيف يا جزينة؟ دا البنتة جاعدين فى حتة الدبان الازرج ما يعرفهاش.
قطبت انتصار باستغراب تسأله:
- ليه بجى؟ هو انت خافيهم فين يا هاشم؟
رد الاَخر رافعًا حاجبه يقول:
- مش لازم اجولك، بس انتى حطى فى بطنك بطيخة صيفى من ناحية مطرحهم، عشان دي اخر حاجة تشيلها همها وياريت متسألنيش عنه، عشان مش هجاوب لو حتى وجفتي على شعر راسك.
- طب بلاش اسأل ع العنوان، المهم بجى انا عايزة ولدي يبات فى حضنى مش جادره استنى تانى على بعاده عنى .
قالتها انتصار ليصيح بها هاشم بضيق:
- يووه يا عليكي، يا ولية افهمي بجى، ولدك دا راجل .. الهم ع البنتة، يعنى هما نارهم اشد منك باضعاف، دول عرض .
قالت انتصار:
- يعنى ايه؟
رد هاشم
- يعنى اتجلى وانتى تلاجيهم جايين زاحفين .
❈-❈-❈
دلف متولي إلى داخل القصر القديم ليتفاجأ بالاثنين المكلفان بحراسة الفتيات متربعي القدمين على الصالون القديم، بجلسة مزاج يتناولون المكيفات بالسجائر الملفوفة، فهدر يجفلهما:
- ايه اللى انتوا بتشربوه ده يازفت انت وهو؟ هى كانت ناجصه مصاطيل كمان؟
ضحك عيسى ليرد وهو ينفث الدخان الأخضر من سيجارته أمامه في الهواء:
- مساطيل كيف يا عم انت؟ دا حاجة كده خفافى واحنا ناس روسنا تجيلة وتتحمل.
كز على أسنانه متولي يصيح وهو على وشك الإصابة بذبحة صــ درية منهما:
- هو دا كمان فيه خفافى الله يخرب بيوتكم هتودونا فى داهية، هو انتو اتحدفتوا علينا من اي نصيبة؟
اعترض عليه عبد الناصر بحنق قائلًا:
- خبر ايه يا عم متولى؟ شادد حيلك علينا اكده، ما جولنالك الحاجات دى احنا متعودين عليها، يعنى معدتش تأثر فينا، دى بجيت كيف كوباية الشاى كدة بالنسبالنا .
هم ان يقرعهم بكلماته ولكنه تذكر انه لا فائدة من ذلك، فقال ساخرًا بغيظ:
- كوباية الشاي! نهايتو، خلينا في المهم دلوك، مين فيكم اللى هينزل البلد يجيب وكل وتومين؟ الوكل اللى فى المطبخ جوا، ميكديش غدا حتى الرجالة اللى واجفة بره دى.
قال عيسى لعبد ناصر
- روح انت يا بطل.
اعترض الاخير بعدم اكتراث:
- أنا ماريحش فى أي حتة، انت عارفنى خلجى ضيج وممكن اشبط فى حد واتعرك معاه وتخرب بعدها.
عبس بوجهه عيسى موجهًا خطابه للاَخر:
- طب روح انت يا متولى، البلد بلدك وتعرفها اكتر منينا.
رفض متولي يرد بحزم:
- بجولكم إيه انت وهو، اتفجوا مع بعضيكم وشوفوا صرفو، انا العمده منبه عليا مسيبش مطرحى ابدًا انتو مهما كان برضوا اغراب.
زفر عيسى ينهض مجبرًا وينفض جلبابه، يقول بيأس:
- يعنى خلاص لبست فيا انا، جاكم الطين انتوا الاتنين .
❈-❈-❈
على كرسيه كان جالسًا فاردًا ظهره، وكفه مستندة على رأس العصا الغليظة، رأسه تعصف بالأفكار المختلفة بعد عودته من زيارة العمدة وفعله الخسيس، لقد كان يتوقع من البداية تطرف هاشم بفعل إجرامي من نجاة ابنه، وهذا ما كان يتمناه من اجل ان يوقعه في شر أعماله، ويدفع ثمن فعلته مع ابنه، لكن ان تصل الدناءة والخسة لاختطاف النساء والشروع في إجبارهم على زو اج ابنتهم ببذرة الشر ابنه لقد فاق كل الحدود بفعلته، وظنه بأنه بالضعف الذي يجعله يرضخ لهذا الفعل ولو كان بطلوع الروح، ولكن الدنيء يلوي ذراعه بحفيدتيه الاَن، إذن كيف يستطيع التصرف في هذا الأمر الجلل؟ كيف؟ كيف؟
- عملت ايه يا بوى؟
هتف بها راجح وهو يلج لداخل المنزل بصحبة شقيقه محسن، فتحمحم ياسين باضطراب يجيبه:
- إتجدم الأول واجعد انت واخوك .
على الفور جلس راجح بلهفة وكذلك شقيقه الذي قال :
- انا كنت عايز اتصل بحربى، عشان اجولوا يجيب الواد الزفت ده .
هتف به ياسين بتحذير:
- أوعى يا محسن، ولا حتى تبلغه غير ما بعد ما تاخد شورتي
ارتاب راجح من فعل والده، فعقب بقلق:
- يوعى ليه يا بوى؟ آمال احنا هنرجع البنته ازاى من غيره؟
صمت قليلًا ياسين، قبل أن يرد:
- انا بعتلكم كلكم ليه ما جاش عبد الحميد؟ وسالم دا كمان هو منزلش البلد لسة؟
تولى الإجابة محسن بقوله:
-عبد الحميد اتشندل شويه مع ولده مدحت اللى كان عايز يروح للعمده يخلص عليه بالفرد اللي ابوه مرخصه، وسالم زمانه على وصول، اصل عاصم اتكتبله النهاردة بخروج من المستشفى وهيكمل علاج فى البيت .
التوى ثغر ياسين يغمغم بحنق داخله:
- يعنى مدحت وعاصم النهاردة فى البلد عشان تكمل، ما هو انا كنت ناجص جنانهم!
بقلق شديد وعدم تحمل عاد راجح بالسؤال مرة أخرى :
- يا بوى ما ترد عليا، عملت ايه مع الزفت العمده وامتى هيجيب البنتة؟
تنهد ياسين بثقل ما يدور بداخله ليقول:
- هجولك يا راجح هجولك.
❈-❈-❈
بعصبيه شديدة كانت تقطع المسافة في الحجرة الكبيرة ذهاباً وأيابًا، متمتمة بغيظ:
- يعنى وبعدين؟ هنفضل كدة مش عارفين ولاد ال.....دول خاطفينا ليه وحابسينا؟
بخوف شديد عبرت بدور عما تشعر به:
- انا جلبي هيوجف من الرعب يا نهال، الرجالة اللى بره دول شكلهم عفش ويخوف.
هتفت بها نهال بصوت مشدود:
- جولتلك متخافيش من حد فيهم، ولا تخلي حد منيهم يحس بخوفك، الناس دى مالهاش اللى يخاف منها، دول مجرمين وشكلهم اغراب عن البلد كمان .
اومأت برأسها بدور تتمتم:
- عندك حج، هما فعلا شكلهم غرب، عشان انا عمرى ماشوفت حد منيهم فى نواحينا نهائى، أو في اي حتى من البلد، بس دول يعرفونا منين عشان يخطفونا ؟!. ومين اللى سلطهم علينا؟
ردت نهال وهي تفرك بكفيها، فهذه الأسئلة تدور بعقلها طوال الوقت مع أخرى غيرها، حتى أصابها الصداع النصفي من كثرة التحليلات والتخمينات، وردت لشقيقتها:
- مش عارفة، مش عارفة يا بدور، بس احنا لازم نحاول وما نيأسش عشان نفك نفسنا منهم، أنا جاتنى فكرة
استنى
قالت الأخيرة وتحركت على الفور نحو الباب تطرف عليه بكفيها وتصيح أمام انظار شقيقتها المذهولة:
- انت يا زفت انت وهو، انتو يا حوش يا للى خاطفينا، حد يرد عليا، حد ير......
قطعت مجفلة على دفعة قوية بالباب مع فتحه، وظهور هذا المدعو عبد الناصر أمامها يجيبها:.
- إيه فى إيه؟ عمالة تصرخى كدة وتزعجي هي الدنيا خربت؟
بشراسة اتخذتها منهجنا في التعامل معهما هتفت به:
- ايوة هو كدة الدنيا خربت عشان انا عايزة اتوضى واصلى، والحمام اللى فى الاؤضه سباكته بايظة.
بغباء عقب عبد الناصر:
- ويعنى انتى لازم تصلي......
قاطعته بحدة تصيح به:
- كمان مش عايزني اصلي؟ انتو ملتكم ايه بالظبط؟ عايزنى افوت عليا فرضى؟ دا انتوا......
قاطعها هو الاخر هذه المرة بعدم احتمال يشير بكفه في الهواء مرددًا:
- بسسسس، خبر إيه؟ هي ماسوره واتفتحت؟ تعالى ورايا و ادخلى الحمام اللى بره، بس متعمليش أي حركة عفشة، و ألا ساعتها هتبجي انتى الخسرانة، أصلك متعرفيش انتى جاعده فين؟ ومع مين يا حلوة،فاهمة؟
بغيظ شديد تمالكت لتهادنه بقولها:
- ماشى، بس اختى هتطلع معايا انا ما هسيبهاش فى الاؤضه لوحديها.
قالتها بقصد، وقد ازعجها النظرات التي كان يوجهها كل لحظة نحو شقيقتها، وجاءت إجابته بتهكم:
- وليه ان شاء الله بجى؟ عيلة صغيرة واختك هتحرسك !
بسخط شديد هتفت به:
- بجولك ايه ما تتريجش عليا ولا تستظرف، اختى هتاجى معايا، يعنى هتاجى معايا.
بنزق شديد رد عبد الناصر وهو يتنحى عن مدخل الباب من أمامهن
- خلاص يا ستى باه ، اتمشى جدامى انتى وهى خلصونى يالا.
❈-❈-❈
خرجت من الغرفة بجانب شقيقتها التي كانت ملتصقة بها بخوف، عكسها هي فقد كانت انظارها تدور يمينًا ويسارًا، وفي كل جهة حولها تبحث عن مخرج، مع تبينها لصحة استنتاجها ألأولي عن حقيقة المكان وقد وضح جليًا أنه قصر فخم من أثاثه الكلاسيكي والديكورات القديمة، وتصميم جدارنه والمنقوشات بها، الأمر الغريب فعلا هو أنها لا تعلم بوجود هذا المبنى في بلدتهم، شعرت بالخوف وسؤال يتردد بعقلها، هؤلاء المجرمين أتوا بهم إلى أين؟
- استنى عندك، الحمام جدامك اها، خلصينا .
قالها عبد الناصر وهو يشير بطول ذراعه نحو الجهة الموجود بها الحمام بالفعل، تقدمت لتفتح بابه وهي تشدد على شقيقتها:
- توجفى هنا ع الباب ما تتحركيش نهائي ولا تروحي فى اى حتة، فاهمة؟
أومأت لها بدور بهز راسها بموافقة، لتفعل وتقف خلف الباب الذي اغلقته شقيقتها بعد ان ولجت للداخل، وتنتظرها هي برعب تخشى اظهاره امام هذا الكائن الغريب الذي وقف أمامها وانظاره لم تتزحزح عنها
في الداخل
كانت تبحث نهال عن نافذة او شيء يصلح للهروب، فلم تجد سوى فتحة صغيرة عالية بالقرب من السقف، شعرت بالإحباط الشديد لدرجة البكاء فقد كانت هذه فرصة رائعة لهما، خصوصا بوجود هذا الأبله وحده بدون صديقه الاَخر، وحينما يأست، لم تملك أمامها سوى أن تتوضأ، وتؤدي فرض ربها عسى ان يفك الكرب بالدعاء. وقد سلمت أمرها أليه وهو على كل شيء قدير.
في الخارج
كانت بتدور تغلي بداخلها من هذا الكائن اللزج، والذي يقف متسمرًا أمامها، يطالعها بغباء مزبهل لها دون حياء، حتى قال لها :
- لكن انتى عنيكى لونها ايه بالظبط؟
- نعم!
تفوهت بها باستنكار ليجيبها على الفور عبد الناصر:
- اصلى يعنى امبارح كنت فاكرها خضرة، لكن دلوك انا لا عارفها زرجه ولا خضرة ولا ايه بالظبط؟ ما تجولى هى لونها ايه ؟!.
بشجاعة جرأت نفسها لتهدر به، تنفيذًا لتوصيات شقيقتها:
- وانت مالك زرجه ولا خضرة ولا حمرة حتى؟ هو انت هتصورنى؟
بعكس ما كانت تتوقع، تبسم لها عبد الناصر بتسلية يقول:
- وه، دا انا انت كمان جريئة، طب مدام كده اجرب انا اشوفها بنفسى .
قال الأخيرة ليفاجأها بقطع المسافة حتى اصبح أمامها بالفعل، فارتدت بأقدامها بمسافة ليست كافية مع امساكها بمقبض الحمام، وخرج صوت باهتزاز:
- بعد عنى يا جدع انت واحترم نفسك.
بوقاحة ليست غريبة عنه، امتدت يــ ده، ليرفع وجهها اليه، يقول وهو يبتلع ريقه:
- ورينى بس، خليني اشوفهم زين .
بيــ دها الحرة أصبحت تضرب على ذراعه لتنزع قبضته على ذقنها وتصرخ به
- شيل يدك عنى يا حيوان يا جليل الحيا.
وصل صوتها لنهال بالداخل، لتخرج على الفور، وتجد امامها هذا الوضع، فهجمت غير مبالية، تضربه بقبضتبها بشراسة وهي تسب وتشتم:
- يا عديم الشرف يا بن ال...... يا.....
التفت لها يحاول ابعاده عنه، لتزداد شراسة، وتتجرأ شقيقتها تفعل مثلها، وهو يقاوم ويضرب ايضًا ويصيح بهن:
- يا بت انتى بعدى عنى بدل ما اموتك مكانك
- انت ليك عين تكلمنا ياواطى يا.....
اردفت بها لتصبح مشاجرة بالأيدي والصراخ والأصوات العالية، حتى دلف على اثرها متولي الذي يتولي الحراسة مع الرجال في الخارج، ويفاجأ بهذا المشهد، فركض يردد بصوت مرتعب:
- الله يخرب بيت ابوك، هتودينا فى داهية، يا حشــ اش يا بن ال.........
وقبل ان يصل وجد أمامه مزهرية ثقيلة، اخذها في طريقه ليدفعها على رأس عبد الناصر بقوة، ليسقط الأخير بفضلها على الاَرض، مضرجًا في الدماء
صرخت بدور بارتياع:
- يا مرارى، دا مات دا ولا ايه؟
- الف شكر ليك يا اخينا يا......
خرجت من نهال على عكس شقيقتها، توجهها بارتياح نحو الرجل قبل أن تتوقف الكلمات بطرف لسانها، مع تذكرها له:
- انت اللى وجفتنا امبارح تسألنا عن عيادة دكتور عشان مرتك المريضة؟
اطرق متولي برأسه، وعيناه انخفضت للأرض يتمتم
- معلش بجى سامحوني، ما هو للضروره احكام .
طالعته نهال بتفحص قائلة:
- على فكره انا من امبارح بعصر فى مخى افتكر شوفتك فين و حمدلله دلوكت حالا افتكرت، إنت شغال غفير عند العمده صح؟
ظل على وضعه متولي وقد زاد عليه الخزي بقولها؛
- يعنى دى جزاة المعروف؟ إنت مين اللى مسلطك علينا؟ وليه؟
رد متولي برجاء وعينيه ترتفع إليهم بصعوبة:
- حن عليكم ادخلوا جوا، انا راجل بنفذ وبس .
صاحت به بدور:
- بتنفذ ايه بالظبط؟ ترضاها لبتك واحد غريب يمد يده عليها ؟
صاح بدوره يقول بدفاعية:
- يا بت الناس، ارضاها كيف وانا اللى نجدتكم دلوك .. والعينه جدامك اها ؟
قال الأخيرة وهو يشير بسبابته نحو عبد الناصر الملقى على الأرض كالجثة، فهتفت به نهال بذكاء:
- طب انا مش ها سألك انت تبع مين وعايز ايه ؟! بس هفكرك ان احنا عرفناك دلوك، يعنى لو عملت معانا دجت نجص هتوصل لأهالينا بعد كده ولو عملت معانا معروف برضوا هيوصل لاهلنا، بس شوف الفرق ساعتها يبجى كيف؟
فهم ما ترمي اليه فهتف معترضًا:
- لا يا بت الناس، أنا مجدرش اهربكم، انتو ما تعرفوش انتوا جاعدين فين؟ ولا مع مين؟ وانا عندى عيال وعايز اربيهم أكيد ميرضكيش أذيتي؟
بمهادنة منها حاولت معه أخرى:
- طب متهربناش، بس ع الأجل خلينا نتصل بأمى اللى زمانها دلوك راجدة عيانة عشانا.
جحظت عينيه باعتراض يصيح بها:
- وتكلمي ابوكي بالمرة ويجيب العيلة كلها، انا لا يمكن اجبل بالكلام ده، وبعدين كمان الواد زميل الجزين ده زمانه على وصول، يعني حن عليكم ادخلوا اؤضتكم وخلصونى.
عبست نهال بوجهها تقول بعتاب يمتزج بالشدة:
- أنا جولتك امي، دا غير ان كل حاجة هتبجى جدامك، لكن تمام خليك فاكرها .
.❈-❈-❈
كان ياسين قد اصر على عدم الحديث إلا في وجود جميع أبناءه، ليُجبر راجح مضطرًا للإنتظار مع شقيقه محسن الذي كان لايقل عنه، وحينما وصل عبد الحميد طان يسحب بيــ ده مدحت والذي رافقه على مضص، اما سالم فبمجرد أن حطت اقدامها للبلدة، واراح ابنه عاصم على فراشه حتى أتى على الفور ليلحق بالاجتماع الذي لن ينعقد بدون اكتمال العدد به ومعه كان بلال هذه المرة، ليستمع مع والده إلى شروط العمدة، التي القاها ياسين على أسماعهم، ليكون اول المعقبين:
- ايه؟ ايه؟ هو الراجل ده اتجن ولا اتهف بعجله عشان يفكرنا نوافج بالهبل ده؟
جاءه الرد من والده سالم:
- انتوا شايفوا هبل بس الموضوع طول ما وصل للبنتة ف ابن الكلب واخدها فرصة عشان يلوي دراعنا.
قال راجح موجهًا خطابه بلوم نحو والده:
- عاجبك كده يا بوى اللى حصل؟ جيبت حج عاصم دلوك ؟
- استهدى بالله يا راجح ابوك ما غلطش .
قالها محسن من أجل تهدئته ولكن الاَخر صاح به باعتراض:
- لا غلط لما اتحدى العمدة وانتوا عارفينه شرانى وزى التعبان، يعنوا انتوا تعملوا اللى على كيفكم مع العمده .. وانا وبناتى ندفع التمن .
قال سالم:
- يا واد ابوى استنى بس نفكر في حل.
هتف به راجح
- افكر فى ايه بس؟ اجوز بتى غصبن عنها؟ دا يرضى مين بس يا ناس؟
اجفل ياسين من نبرة الاتهام الموجهة إليه من ابنه وخرج صوته بصدمة:
- يعنى انت تجصد إن انا السبب فى كل النصايب دى يا راجح؟ الله يسامحك يا ولدى .
قال عبد الحميد ملطفًا:
- طبعًا هو ما يجصدتش يا بوى بس دى نصيبه كبيرة وانا نفسي مش لا جيلها حل .
تكلم مدحت بعد فترة طويلة من المتابعة بصمت:
- بس انا عارف الحل، اروح اموته واريح البشريه منه .
تدخل بلال مؤيدًا:
- مش هتروح لوحدك، احنا نلم شباب العيلة كلها ونعملها حرب مع العمدة وناسه لو مارجعش البنتة، واحنا عيلتنا كبيرة
صرخ به راجح بارتياع:
- ساعتها بناتي هيكونوا أول ناس هيتئذوا، انتوا بيتكلموا كيف؟ ارحموني يا ناس انا عايز بناتى.
صاح به مدحت بعصبية وهو يخرج سلاحه:
- مش هيلحج يا عمي، انا هحط الفرد على راسه واخليه يجول مكانهم غضب عنه، يالا بينا يا بلال نخلص على السريع دلوك وانا مبجاش راجل لو ما رجعتش مــ رتى .
قال الأخيرة بعفوية لم ينتبه لها راجح الذي انتابه الرعب لمجرد الفكرة ليصرخ بهما:
- فضوها انتو الاتنين، انا هجوز بتى لواد العمدة واخلص بدل المرار ده.
❈-❈-❈
كانت نهال قد فقدت الأمل من هذا الرجل، فلم تزيد عليه بالرجاء، بل فضلت التراجع لغرفتها تسحب معها شقيقتها، ولكن وقبل ان تصل وجدته يوقفهن بقوله:
- واحده فيكم بس اللى هتتكلم ويدوبك دجيجة واحدة.
قالها متولي وقد أدار الموضوع في رأسه بعد ان كشفت هويته امام الفتيات، مع معرفته التامة ان العمدة لن يستطيع احد المساس به، أما هو فمن المؤكد ان ياسين لن يتركه حينما يعلم انه كان ضمن الخاطفين.
سمعت نهال لتعود اليه على الفور، فقال يخاطبها بتحذير وهو يخرج هاتفه من جيب جلبابه:
- التلفون اها، بس بسرعه كلميها وزي ما وصيتك.
بلهفة وعدم تصديق امسكت بالهاتف، وما ان همت بالإتصال ومض بعقلها فكرة ما جعتلها، تحاول مرة أخرى وهي تدعي من داخلها، فقالت:
- بس انا مش فاكرة نمرة امى يا عم متولي، الله يخليك ادينى تلفونى النمرة مسجلة فيه، هكلمها دجيجة زي ما جولت وبسرعة.
قطبت بدور باستغراب ولكنها التزمت الصمت حتى لا تُظهر ذلك أمام متولي الذي انفعل قائلًا:
- كمان عايز تلفونك؟ يا بت الناس متأذنيش.
كررت نهال برجاء :
- ربنا يسترها معاك، ادينى التليفون اتصل بامى اطمن عليها واطمنها عليا ارجوك دى امى
في منزل راجح
دلفت راضية ومعها ابنتها نيرة، بصحبة هدية زو جة محسن، إلى نعمات لمواستها في المصاب الذي حل بها، وتطيب خاطرها في هذه المحنة التي تمر بها، فقد كانت حاضنة ابناءها الصغار نهلة وياسين الصغير، تبكي بصمت ودموع تنزل بلا توقف، فقالت راضية
- استهدى بالله يا نعمات، ان شاء الله ربنا هيحلها والبنته ترجع الليلة
قالت صباح والتي أتت إليها من وقت أن علمت بالأمر:
- جوليلها يا راضية، دا انا من الصبح لسانى نشف من الكلام معاها، وهى ولا اكنها سامعة.
تدخلت هدية هي الأخرى:
- ليه كدة بس يا نعمات؟تتعبى يا بت الناس وتمرضى كمان والارض مش مهملة.
ردت صباح بعدم رضا:
- دا انتوا جيتوا فى الاخر بعد ما هديت واتهدت، امال لو شوفتوها ساعتها، وهى بتندب وتخبط فى الارض والنعمة دا انا جولت هتتلبس ولا تروح فيها، بس ربنا ستر .
قالت نيرة بإشفاق وانظارها نحو الصغار المرتعبين في حضنها:
- سيبى العيال يا مرة عمى، إنتى كده بتخاوفيهم.
خرجت نعمات عن صمتها لتهتف بحدة نحو الجميع:
- خليهم مرعوبين ، المهم يبجوا فى حُضنى وما يبعدوش عنى، يعنى مش كفايه عليا بتى الكبيرة اللى جلبى واجعنى على بعادها عنى، عشان يجى كمان العمده ويخطفلى البنتة اللى بجوا عرايس، يبجى اللى فاضل ايه كمان؟ انكم تاخدوا دول وتموتونى بالمرة، خدوهم وموتوني بالمرة.
تمتمت راضية بجوارها، تحوقل:
- لاحول ولا قوة إلا بالله، يا نعمات ارحمى نفسك، بتك بطه جاعدة مع جو زها فى مطروح، يعنى مش بره مصر والبنتة اللى اتخطفوا، هياجوا باذن الله ومش هايطول بعادهم.
ايوه يا نعمات، خلى املك بالله كبير ووو... هو فى تلفون بيرن هنا .
قالتها هدية وهي تشعر باهتزاز وصوت مكتوم أسفلها على الكنبة التي كانت تجلس عليها، تحركت قليلًا، لتكتشف الهاتف، فقالت مخاطبة الأخرى:
- دا باينه تلفونك دا يا نعمات، اللى بيرن بجالوا لحضة،
وانتي كانك ناسياه.
بعدم اكتراث ردت نعمات بالرفض:
- يرن زي ما يرن، انا مش جادره اكلم حد اساسا.
عاتبتها هدية بضيق قائلة:
- ملكيش حج فيها دي، مش يمكن تكون بطة، اللى عاترن دلوك، خودى كده شوفى يا نيرة نمرة مين دى !!.
تناولت منها الأخيرة بتصرخ بمجرد رؤيتها لأسم المتصل وردت على الفور:
- الو يا نهال، انتي فين يا بت عمي؟
وقبل أن تجيبها انتفضت نعمات تختطف الهاتف من نيرة لتتحدث بلهفة ودموع:
- ايوه يا بتى انا أمك، عاملة ايه يا نور عيني؟
وصلها الصوت من الجهة الأخرى:
- ايوه يا أمى رايجة و الحمد لله، متجلجيش.
سمعت نعمات الصوت لتذرف الدمعات بحرقة مرددة بصوت متحشرج:
- مجلجش كيف؟ مجلجش كيف بس؟..... طب واختك يا حبيبتى .. زينة كمان ولا فيها حاجة؟
اجابتها نهال وعينيها نحو شقيقتها:
:اختى زينه والحمد لله كمان، بس اطمني ومتخافيش ياما.
بلهفة سالتها نعمات:
- طب انتى فين؟ و ليه من امبارح مش مكلمانى؟
بهمس حذر ردت نهال:
- ياما انا مش هجدر اجولك حاجة، أنا بكلمك سرجة عن طريج واحد بن حلال.
قالتها وقد ذهبت بانظارها نحو متولي الذي أعجبه الوصف، لكنه لم يغفل عن مرور الدقيقة المتفق عليها، ليباغتها بخطف الهاتف وانهاء المكالمة قبل ان تكمل جملتها مع والدتها قائلًا:
- كفايه كدة، الدجيجة خلصت، اديكى اتطمنتي وطمنتى امك عليكي، ياللا بجى جدامى انتوا الاتنين على اؤضتكم .. انا عملت اللى يرضيكم .
رضخت نهال لتتحرك على الفور بطاعة مع شقيقتها وقد تسللت بعض الراحة داخلها، عكس بدور التي عبست وتجمدت من الغيظ، لعدم تمكنها من الحديث مع والدتها.
في منزل سالم
كان يعج بالبشر التي تأتي وتذهب، كي تطمئن على عاصم بعد عودته من مشفى المحافظة، وتتلقى والدته التهاني بخروجه، ومع كل فرد يدخل عليه كان يصاب بالأحباط، ينتظرها ولم تأتي من وقت ان وصل، فقد كان يتوقع وجودها وقت مجيئه، هي او والدتها او شقيقتها او حتى عمه، وقد اختفوا ولم يظهر منهم أحد حتى الاَن.
بمجرد خروج اخر فوج من عنده لعدد من الجيران، سأل والدته
- اما .. هو ليه عمى راجح مجاش لحد دلوك يباركلى على طلوعى بالسلامه ؟!.
اضطربت سميحة تجيبه:
- يعنى هيكون فيه ايه بس؟! .يمكن تلاجيه مشغول ولا حاجه؟
رد عاصم بعدم تصديق
- مشغول !! طب بدور، ولا نعمات والدتها كمان الاتنين مشغولين .
- بدوووور .. جول كده .
قالتها سميحة بقصد المزاح لتلهيه عن إجابة السؤال، فقال هو بسأم، يما بلاش تمسكي في كلامي، دا حتى جدي مجاش، ولا عمتي صباح، ولا كمان ابويا وبلال اللي اختفوا، دول ما صدجوا حطونى على فرشتى وطلعوا على طول، هو فى اي؟!.
قالت سميحة بتوتر مضاعف:
- يعني هيكون في ايه بس؟ متشغلش نفسك انت، دلوكت تلاجيهم داخلين عليك اصبري بس
قالتها وقبل ان بهم بالمجادلة صاحت بقصد نحو الشاب الذي كان بهم بالدخول والاستئذان:
- ادخل يا ولدى، انت مش غريب .
تقدم الشاب لتحمد ربها وقد كان مجيئه نجدة لها ، حتى يرحمها مؤقتًا من وابل الأسئلة المتواصلة من ابنها، وهي فيها ما يكفيها من غصة تجرحها بكسرة فرحتها بخروج ابنها، وقلبها الذي يكاد ان يتوقف من الرعب عن مصير الفتيات، ومع ذلك تجاهد بابتسامة تغتصبها بصعوبة على ثغرها، في استقبال المهنئين
❈-❈-❈
- إنت بتجول إيه يا عمى؟ عايزنا نطاطى لابن الفرطوس ده؟!
هتف بها بلال بصدمة، ليضيف على قوله مدحت
- لا وكمان عايز يكسر جلب بدور ويغصبها على انسان مش بتطجيه
بصرخة المغلوب على أمره قال راجح:
- امال اعملكم إيه بس؟ وانتوا عايزين تولعوها وتجلبوها حرب، وانا مش عايز دم .. انا عايز بنتتى وبس .
هتف به ياسين:
- وانت بكده عايز بنتتك؟ دا انت كدة بترمى بتك فى النار بيــ دك .
تدخل سالم بقوله هو الاَخر:
- مش هى بس يا بوى، ولدى كمان هيضيع فيها، دا مش بعيد يهج ويسيب البلد المره دى بعد ما فرح ودفع التمن وكان هيروح فيها.
سقط راجح على كرسيه يردد بضعف وقلة حيلة:
- طب اعمل ايه بس؟ دبرونى، انا في نار يا ناس، ربنا ما يحط حد في مكاني.
بتفهم شديد ربت ياسين على كتف ابنه يدعمه، ثم قال موجهًا خطابه للجميع:
- امال انا جمعتكم ليه؟ عشان السبب ده، انا عايز الشباب يجسموا بعضهم مجموعات ويلفوا ويدورا فى كل بيت وكل حتة ويسألوا، يمكن نلاجى اثر ولا حد من البلد يكون شافهم .
- ولو ملجيناش نعمل ايه؟! مع ابن ال... اللى حاطط السكينة على رجابنا ده؟
سأل محسن فخرجت الإجابة من بلال بحماس:
- انا عارف نعمل إيه، هلم الشلة الجديمة بتاعتى، وزى ما جدرنا نسيطر على حرامية المواشى اللى كانوا راعبين الاهالى زمان، إن شاء الله هنجدر نعتر على البنته .ونعلم العمده وولده الادب .
وقال مدحت ايضًا:
- وانا معاكم، إن شالله اسيب الدكتوراة والطب كله، مش هسكت ولا اهدى غير لما اعتر على نهال ومعاها بدور.
بتفكير وقلق عقب راجح:
- بس انتوا كده ممكن تعوجوا على البنته وانا هموت واتطمن عليهم .
رد ياسين بحكمته:
- يا ولدى افهم، هو صحيح لاوي دراعنا بخطفه للبنتة، بس هو كمان صباعه تحت درسنا وولده تحت يــ دنا، يعنى هيحافظ ع البنتة زى عنيه، عشان احنا منأذيش ولده.
اومأ راجح بهز رأسه ببعض التفهم، قبل ان يجفل على صيحة ابنته الصغري، وهي تركض بشقيقها نحوهم:
- يا بوى يا بوى، نهال اتصلت يا بوى يا بوى .
انتفض الجميع بتنبيه، وبسرعة البرق التقطها مدحت قبل أن تصل لأباها يسالها بلهفة:
- إنتي بتجولى إيه؟
بلهاث شديد، خرجت كلمات نهلة بصعوبة:
- نهال اختى اتصلت توى على تلفون امى .
وصل اليها راجح ليمسك بها مع مدحت سائلًا:
- انتى بتتكلمى صح يا بت انتى؟ ولا دى لعبة جايا تلعبيها معانا؟
- بتتكلم صح يا ابو ياسين، ايوه فعلا نهال كلمتنى .
قالتها نعمات والتي كانت تدلف خلفها بسرعة كي تبشر زو جها وتطمئنه.
- وانتى بتسمعيها، صوتها زين كده ورايجة يا مرت عمى.
قالها مدحت بلهفة محب وقلبه يكاد ان يخرج من صدره من سرعة الدقات.
بنبرة مطمئنة ردت نعمات تجيب عن سؤاله، وقد وصلها لوعته الظاهرة في عينيه.
- زينه ورايجة يا حبيبى وانا لو ما كنتش اتطمنت، كنت جيتلكم جرى دلوك .
سألها ياسين هو الاَخر:
- طب هى جالتلك على مكانها؟
تغضن وجهها تجيبه بحزن:
- لاه مجدرتش، هما كلمتنين جالتهم وبسرعة الخط جفل، بس جالت ان واحد ابن حلال ساعدها، تتكلم سرجة فى التلفون.
بسرعة بديهة سألها بلال:
-طب هى كلمتك برقمها ولا رقم غريب؟
- ايوه برقمها اللى مسجلاه انا عندى .
قالتها نعمات ليهلل الاخر بفرحة قائلًا:
- ينصر دينك يا نهال ، دى كده جصرت علينا نص السكة
فهم عليه مدحت ليسأله بحيرة:
- أيوه بس احنا كدة عايزين مساعدة من رتبة كبيرة عشان تجصر علينا الوجت كمان.
تدخل راجح يسأل بعدم فهم:
- ما تفهمونى يا جدعان تجصدوا ايه بكلامكم ده؟
- هطمنك يا عمى، والله هطمنك، بس انت ادعيلنا بالتوفيق وجول يارب
قالها بلال وهو يسحب مدحت من ذراعه، ليردد راجح خلفه بأمل متزايد وهو يراهم مغادرين من أمامه:
- ياااارب
خرجا الإثنان من المنزل يسرعان بخطواتهما وقال بلال:
- انت مستعد تبجى معايا للاَخر مهما يحصل.
اجابه مدحت بكل حماس:
- طبعا معاك فى كل خطوة، بس جولى احنا رايحين فين الاول ؟!.
- هاجولك.
قالها بلال قبل أن يفاجأا بياسين الذي خرج خلفهم، بصوت عالي يوقفهم:
- استنوا يا ولاد متنسوش تخبرونى بالجديد اول باول .
اجاب الاثنان بنفس واحد:
- دا اكيد يا جدى .
-❈-❈-❈
من وقت أن دلفت نهال داخل الغرفة المحتجزة بها مع شقيقتها وهي لا تكف على الدعاء إلى الله بخشوع تام، عسى ان يتقبل الله منها ويفك الكرب، حتى اذا انتهت وقعت عينيها على بدور، وهذا الوجوم الذي يعتلي وجهها، فسألتها بانتباه:
- مالك؟ شكلك مجلوب من ساعة ما دخلنا .
بنتهيدة مثقله ردت بدور وهي تشيح بوجهها عنها :
- وانتى يهمك فى إيه زعلى يعنى؟ عادي يا ستي.
قطبت نهال باستغراب شديد ترد:
- كيف ما يهمنيش؟ الله يرضى عنك يا بدور جولى اللى مزعلك منى على طول، انا مافياش دماغ .
بنظرة عاتبة ردت بدور:
- طبعا مفكيش دماغ ليا، وانا اهمك فى إيه يعنى؟ تتكلمى مع امى وتطمنى عليها، وانا ولا اكنى اختك المخطوفه معاكى، وعايزه اسمع صوت امى، حتى لو كلمة منها، عشان تردلى روحى .
قالت الاَخيرة بصوت متحشرج يرافقها دمعة ساخنة، اثرا بنهال لتجذبها من ذراعها، وتضمها إليها، تخاطبها بحنان وهي تربت بكفها عليها
- عندك حج فيها دي، انا فعلا غلطانة، بس معلش بجى سامحينى يا جلبى، انا كنت مركزة فى حتة تانية خالص لما كنت بتكلم فى التليفون وبدعى ربنا انها تحصل .
رفعت رأسها إليها بدور تسألها
- حتة إيه اللى كنتى مركزة فيها وبتدعى ربنا تحصل ؟! .
تحمست تجيبها بصوت خفيض
- مينفعش اتكلم دلوك، احنا مش ضامنين احسن يكونوا سامعينا، بس اللى اجدر اجولوا، ان لو حصل اللى فى بالى، إن شاء الله اهلنا ها يعتروا فينا .
بصوت هامس هس الأخرى، رغم الحماس الذي دب بقلبها:
- صح اللى انتى بتجوليه دا يا نهال ؟!.
أومات لها نهال برأسها قائلة:
- صح يا بدور بس انتى جولى يارب انه يحصل
سمعت الأخرى لتردد من خلفها"
- يارب يارب
-❈-❈-❈
خارج الغرفة كان متولي يلتقط انفاسه، بعد تحركه السريع عقب الاتصال، لأعادة هاتف نهال إلى نفس المكان الذي وضع به في السابق، حتى لا ينكشف أمره، ليذهب بعد ذلك بالقطن والشاش والمطهر، نحو هذا المرمي على الأرض يجثو على اقدامه بجواره لرفعه، ثم محاولة أفاقته:
- إنت يا أخينا، جوم يا جزين، مش ناجصه نصايب هى .
- نصايب ايه ؟! هو ايه اللى حصل ؟!
هتف بها عيسى للذي دلف حالا لتبرق عينيه بجزع، فور ان طالع بعيناه صديقه الذي كان كجثة هامدة، ورد متولي بنزق وهو يدفع الاَخر نحو الأرض:
- اللى حصل لعبده، انا اللى اتسببت فيه عشان كسرت الزهريه دى على راسه، اللى عايزه الكسر .
هتف عيسى بانفعال:
- وبتجولها فى وشى كمان؟
لم يكترث له متولي، بل نهض عن الأرض يقابله ليرد وهو يطالعه بتحدي:
- جوم صاحبك وطهرلوا الجرح اللى فى راسه واربطها بعد كده بالشاش زين، ولو معرفتش تبجى اكبسها بشوية بن وخلاص، الأهم بجى، انه لما يفوج نبه عليه، إن اللى حصل النهاردة مع البنتة، ما يتكررش تانى يا اما هوصل للعمدة، ويشوف هو حسابه معاكم .
قالها وهو يضع القطن والشاش بكف عيسى ثم غادر على الفور، ليترك الاَخير يستوعب قليلًا بتفكير، قبل يجثو نحو عبد الناصر ليُفيقه مرددًا:
- انت عملت ايه يا جزين؟ جوم يا عبده فى سنينك الغبره معايا، هببت ايه بس؟ الله جاك الطين .
-❈-❈-❈
بعصبية شديدة وانفعال ظاهر في هز أقدامه وهو جالس في انتظار الخبر الأكيد، يشعر بمرور الدقائق وكأنها ساعات، وجه سؤاله لبلال:
- وبعدين بجى الظابط دا عوج جوى، خبر ايه ؟! هو بيحضر الذره .
رد بلال والذي كان جالسًا على الكرسي المقابل له أمام مكتب الظابط ياسر فهمي:
- خبر ايه يا واد عمى؟! هو ااراجل لحج! اصبر شوية كدة.
سأله مدحت بفضول:
- طب وانت تعرفه منين ده؟! دا احنا بجالنا وجت مستنين فى مكتبه، من جبل حتى ما نشوفه، دى بينها معرفة جوية.
ضحك بلال يجيبه بزهو:
- يعنى كدة تجدر تجول، إنه معرفه من أيام الشجاوة !
هم مدحت أن يجادله ولكن اوقفه اندفاع الباب ودخول الرجل ممسكًا بملف من الأوراق، يقول ؛
- اتأخرت عليكم .
مد كفه يصافح الاثنان مرحبًا:
- اهلا وسهلا، حمد الله عالسلامه يا عم بلال .
تبسم بلال بإشراق يقول :
- الله يسلمك يا باشا، اعرفك بواد عمى الدكتور مدحت.
- اهلا وسهلا بيك يا دكتور، اتفضلوا اقعدوا يا جماعة، انتو وااقفين ليه؟
قال الاَخيرة وهو يجلس خلف مكتبه، وعادوا هم لمقاعدهم، ليبادره مدحت على الفور
- ها يا باشا، ايه الاخبار عرفتوا مكانهم؟
بدا على وجه الاَخر التوتر وهو يدفع الأوراق أمامه على سطح المكتب قائلًا:
- فى الحقيقه انا من ساعة ما اتصل بيا بلال، وبلغنى .. بحكاية بنات عمكم، و ادانى نمرة البنت اللى كلمتكم . وانا خدت الامر بجدية شديدة، وعملت الاجراءات مع شركة الاتصالات بسرعه عشان اعرف المكان واطمنكم .. بس للاسف انا نفسي ما اطمنتش .
بقلق متعاظم سأله مدحت:
- ليه بس يا باشا ؟
فرك الاَخر بكفيه يجيبه:
- لأن المكان اللى موجودين فيه خطر جداً، يعني بحسب كدة المكالمة اللى رصدناها من تليفون بنت عمكم، ف المكان مش بعيد عن قريتكم، لكن للأسف، المكان دا يبقى فى الجبل، وتحديدا فى قصر حسين العربى اللى كان اكبر تاجر مخدرات فى التسعينات عندكم ، وكان عامل مملكه لنفسه هناك، اظن الناس في بلدكم لسة فاكراه.
رد بلال:
- ايوه احنا عارفين بالحكايه دى، بس كمان اللى نعرفه ان الحكومة جبضت عليه من زمان وعلى المجرمين اللى كانوا معاه، دى كانت معركه رهيبة بينه وبين الحكومة و لحد تاريخنا هذا، الناس بتحكى عنها، والتانيه كمان، دا محدش من الاهالى بيهوب هناك عشان القصص اللى بنسمعها وبتخوف الناس، يبجى كيف؟
ياسر وكأنه عثر على طرف الخيط قال:
- أهو دا بقى المفيد ، عشان هجران الناس للمنطقه دى، خلى مجموعة مجرمين يزرعوها بالمواد المــ خدرة ويسيطروا من تانى، مستغلين ان محدش من الأهالي بيقرب عندهم، بس اللغز بقى، مين اللى جمعهم وسيطر ع القصر المهجور!
اغمض مدحت عينيه بألم ليتمتم بصوت مبحوح:
- يعنى احنا كدة مش هنجدر نجيبهم !!
رد الظابط ياسر؛
- لا ان شاء الله هيجوا بس انا عاوزكوا تقدموا بلاغ رسمى وانا هعمل المستحيل عشان اطلع بقوة من الظباط والعساكر ونهجم عليهم .
اومأ مدحت بهز رأسه، صامتًا بدوار يلفه بالأفكار السوداء، ولكن بلال رد بتماسك غريب:
- ماشى يا سيادة المقدم، بس ممكن تسرع بالبلاغ والنبى عشان نلحج
❈-❈-❈
خرج من القسم بصحبة ابن عمه، بذهن شارد، لا يرى أمامه جيدًا، يشعر بقلبه يكاد أن ينخلع من الرعب على حبيبته وشقيقتها، ان يكونوا وسط مجموعة من المجرمين وقطاع الطرق في منطقة مهجورة، هذا ليس بالهين على الأطلاق، بل هو أكبر من احتماله، كيف يأتيه نوم او راحة قبل العثور عليهن؟ كيف؟
على خاطره الاَخير قام بفتح باب السيارة يطلب من ابن عمه بعدم تركيز:
- ممكن يا بلال تسوج إنت، لانى مش جادر .
على الفور اتخذ بلال موقعه خلف عجلة القيادة، يخاطبه بلهجة عادية وهو ينضم بجواره في الأمام:
- ماشى يا واد عمى، المهم تبجى فايج معايا.
خرج مدحت من شروده ليقول باستغراب:.
- هو انا ليه حاسك مستخف بالأمر ولا كانك فرحان .
رد بلال وهو يقود السيارة لتتحرك بهما:
- مش لدرجة فرحان يا عم الحج، أنا بس مكنتش اعرف ان الزمن هيعيد نفسه، وارجع لايام الشجاوه من تانى، بعد ما عجلت وبجيت مدرس محترم .
- نعم!
تفوه بها مدحت مستفهمًا، قبل أن يتابع بعدم فهم:
- شجاوة إيه بس مع المجرمين وبتوع المخــ درات دول؟ يا بلال جول كلام يُعجل ؟!
بجدية تامة رد بلال:
- إسمع يا واد عمى، مجرمين ولا بتوع مخــ درات احنا مش هنتستنى الحكومة، احنا هنجيب البنتة بنفسنا ومبجاش راجل، لو مرجعتهمش  الليلة، وانا عارف هارجعم كيف؟
باستفاقة فورية لينتبه بتركيز شديد يسأله
- تجدر تجولى هنعمل إيه بالظبط؟ عشان انا لازم افهم كل حاجة دلوك.
❈-❈-❈
انتفض ياسين مفزوعًا يقول بإجفال فور ان علم باَخر التطورات من مدحت:
- اه يا هاشم الكلب.. دلوجتى بس انا عرفت الفلوس اللى بيهبل اللى هلت عليه فجأه كدة، جات منين؟
- يعنى انت تجصد يا جدى إن هو اللى جمع ولاد الليل من تانى
قالها مدحت كسؤال وجاء الرد من ياسين:
-  دا اكيد يا ولدى ، جال وانا اللى كنت فاكره شاطر وجدر يكبر ورثه من ابوه، اتاريه !!، المهم انتوا هتتصرفوا ازاى دلوك؟
اجابه مدحت:
- بلال بيلف على اصحابه الجدام اللى كانوا واجفين معاه ضد حرامية المواشى زمان اللي كانت بتسرج  البهيمة ويطلعوا بيها الجبل .
قطب ياسين بتفكير سائلًا:
- طب وشباب العيلة يا ولدي راحوا فين ؟! دول لازم يكونوا معاكم عشان تبجوا عزوه ضد ولا ال....دول، الموضوع مش سهل.
بابتسامة ضعيفة قال مدحت:
- ما هي دى بجى مهمتك انت يا جدي، احنا هنطلع الأول زى فرجة استطلاع وبعد ما نعرف، الدنيا ظروفها إيه هناك، هنتصل بيك ونعرفك عشان تلمهم .
بابتسامة محفزة ربت ياسين على كتف الاخر يشد عليه ليقول بمزاح:
-  والله وبجيت فارس و رايح ينقذ حبيته من الاشرار ، ونسيت  الطب والدكتوراه كمان؟
بصدق ظهر جليًا في نبرة صوته، قال مدحت:
- أنا عشان نهال انسى الدنيا كلها يا جدى، مش بس الدكتوراة.
في منزل العمدة
كان القلق داخل انتصار يعصف بها، تقطع المنزل ذهابًا وإيابًا، تطالع زو جها وهي تفرك بيــ ديها وتزفر من فمها بحنق صامت، وهو كذلك كرد فعل له منها، يمصمص بشفــ تيه، وهو يدخن من شيشته بصمت ايضًا، ولكن الأخرى في الاَخير قد فاض بيها لتهتف به بعصبية:
- وبعدين بجى احنا هنفضل مستنين كده لحد امتى؟
تمتم هاشم بضيق:
- وانا اعملك ايه يعنى؟ ما تصبرى شوية؟
صاحت به بانفعال وعدم احتمال:
- وهو الصبر دا مش،هيخلص؟ من الصبح كل ما اَجى اكلمك واجولك ولدي، تجولى اصبرى اصبرى اصبرى، هفضل صابرة لحد امتى؟! الدنيا ليلت ومحدش فيهم رد علينا ولا جال حاجة، خبر ايه؟! هما مش هامينهم بنتتهم؟ الناس دمها برد ولا ايه؟
سمع منها ليترك ذراع الشيشة ويغمغم بقلق اصابه هو الاَخر، بحيرة لهذا الصمت من جهة ياسين وابناءه:
- والله ما انا عارف إيه الحكاية، دا انا جولت راجح، ماهيستناش دجيجة وهيجى جرى، دا اكتر واحد فيهم جلبه خفيف .
صاحت به انتصار بسخط:
- اهو تجل جلبه يا خوي ومجاش جري ولا زاحف زى ما جولت، انا بجى هفضل كدة كتير جلبى واكلنى على ولدى؟
صاح بها هاشم وقد فاض به منها:
- يعنى هما يتجلوا جلبهم ع البنتة وانا ابو الراجل اضعف! في إيه يا ولية؟ ما تصبرى شوية بجى تاني واما نشوف آخرتها.
❈-❈-❈
توقف مدحت وبلال، وراجح وإخوته في طريق المدافن، لانتظار وصول باقي الشباب على الإتفاق بسرية مستغلين ظلام الليل وهدوء المكان حتى لا يصل أمرهم إلى العمدة أو أحد من رجاله.
حينما وصل اصدقاء بلال، كانوا يتوافدون فرد وراء الاخر لتجنب الجمعة ولفت الأنظار، رجال عرفهم ياسين ورجال لم يعرفهم، لكن المفاجأة حقًا كانت حضور عبد الرحيم، الذي ما ان رأه مدحت حتى هلل به بعدم تصديق:
- معجولة انت يا عبد الرحيم؟ الراجل العاجل الراسي، تطلع تبع صاحبنا ده، ولا يبان عليك يا اخي!
قالها بإشارة على بلال الذي تبسم صامتًا، وجاء الرد من عبد الرحيم:
- عشان هادى يعنى، لا يا سيدي ميغركش هدوئى انا برضوا راجل واعرف اسد.
بنظرة فخر طالعه ياسين يقول:
- وانا نظرتى فيك مخيبتش من الأول، وجولت عليك راجل وسيد الرجال .
رد عبد الرحيم بامتنان:
- تشكر يا حج ياسين الله يباركلك ويبارك فيك وفي صحتك، المهم احنا هنعمل ايه دلوكت؟
جاء الرد هذه المرة من صاحب الخطة الأساسية، والمدبر الرئيسي بلال:
- انا اللى هجولك يا باشا، إحنا دلوكت هنمشى بعربياتنا فى الطريق ده اللى يوصل للجبل على طول، وهنفضل ماشين كده لحد التلة الكبيرة اظن انت فاكرها، هنوجف وننزل واحد ورا التانى بهدوء ونكملها مشى لحد زراعات فدادين المخــ درات، انا خدت فكرة عنهم النهاردة الصبح، هما سادين السكة جدام الجصر الجديم اللى جاعدين فيه البنات.
سأله مدحت بتركيز:
- يعنى انت تجصد اننا هنمشى مجرفصين وسط الزراعات دي لحد اما نوصل للجصر؟
- بالظبط كدة، وهنجسم نفسنا كل فردين تلاتة فى ناحية، وبعد كدة ان شاء الله هنلاجى فرصه لدخول الجصر، انا عارفه زين وياما دخلتوا ايام الشجاوة.
قالها بلال فتدخل راجح بقوله:
- طب انا اروح معاكم بجى، عايز اطمن ع البنت.
همس له سالم يتحذير:
- وبعدين يا راجح احنا مش اتفجنا اننا هنروح وراهم بعد ما يأمنوا السكة، عاوز تبوظ الخطة ليه بس؟
اضاف محسن:
- ورحتك مش هتجدم معاهم، بل العكس، دي هتعطلهم، دول شباب صغيرة وحركتهم خفيفة، لكن انت وانا واخواتك حركتنا تجلت يا واد ابوي.
- هو كدة فعلا زي ما جالك اخوك.
قالها ياسين، ليتابع موجهًا حديثه للشباب:
- ياللا ي اشباب كفاياكم عطلة اكتر من كدة بجى اتحركوا، ربنا معاكم، واحنا فى الانتظار ..
تحركوا على الأمر يتسللون بخفة، ليغمغم عبد الحميد خلفهم بقلق:
- ربنا يستر طريجكم ويوفج خطاكم، ويحميكم من كل سوء.
على التعليمات بدقة كان يسير الشباب في جو الصحراء المظلم والمخيف بهدوءه القاتل، لكنهم كانوا معتادين على ذلك، عكس مدحت والذي كان يعيش التجربة لأول مرة، يدفعه العشق ويقوي قلبه لاقتحام المصاعب من أجلها.
حينما وصلوا إلى التلة المقصودة، جمعهم بلال إلى ثلاث مجموعات، في طرق مختلفة، جميعها تؤدي إلى القصر، مدحت وبلال وعبد الرحيم، كانوا كمجموعة وحدهم، بهدوء شديد يخترقون فدادين الزراعات الممنوعة حتى ظهر ضوء القصر من بعيد ليتوقفوا على أمر من بلال:
- شايفين يا شباب كام فرد واجفين بسلاحهم جدام الجصر ؟
تمتم عبد الرحيم يجيبه:
- دول كتير جوى، حباية واجفين والباجين بيتسامروا فى الارض ويشربوا جــ وزه او حشــ يش دا حتى متولى غفير العمدة معاهم .
انتبه بلال نحو الجهة التي يقصدها الاَخر والموجود بها هذا الرجل، ليتمتم بتوعد:
- اه يا بن ال...... حسابك معايا عسير ماشي.
تدخل مدحت بينهما بعملية قائلًا؛
- المهم دلوك هندخل ازاى احنا في الجصر ده؟!
- انا عارف هندخل ازاى؟ المرة دى هنغير طريجنا عشان نوصل للجصر من الخلف، اكيد الحراسة خفيفة هناك.
قالها بلال وهو يتحرك ليلحقا به، ويستمر السير بتخفي حتى أصبحوا خلف القصر بالفعل، ولكن المشهد هناك هناك كان أكثر من مخيف، بل كان يقبض القلب، شجر كثير وقديم، يبدو مهملا حتى جف وانكسرت فروعة وبعض الجزوع، مع الضلمة الموحشة.
عقب عبد الرحيم على ما يراه امامه:
- يا ساتر يارب، عشان كدا محدش واجف هنا، وكل دى حيوانات ميتة، ربنا يستر ومايطلعش علينا ديب دلوك .
ردد حلفه بلال:
- على رأيك ربنا يستر، احنا مش ناجصين عطلة.
بعدم اكتراث قال مدفوعًا بحماس داخله من أجل الوصول إليها، سألهم مدحت بلهفة:
- طب احنا دلوك هندخل الجصر العجيب دا ازاى؟ مفيش وجت.
اجابه بلال:
-'انا وانت هنطلع عالشجرة المكسرة دى، هتوصلنا لشباك المطبخ وبعديها، ان شاء الله، أي اؤضه انا هعرف افتحها، وانت يا عبد الرحيم، هتكلم الشباب عشان ياخدوا بالهم من اى حركة وبعدها تحلصنا، هتلاجى شباك المطبخ مفتوح تدخل منه على طول
بعد قليل
كان مدحت مع ابن عمه داخل المنزل، بعد صعودهم للشجرة المؤدية للنافذة في المطبخ، والتي فتحها بلال، بحرفية اعتاد عليها من الصغر، ليلج هو في البداية، وبعده كان مدحت.
أمره بلال بصوت هامس، بالكاد يسمع:
- احنا دلوك هندور ع البنتة فى الاؤض بس براحة عشان محدش يحس بينا.
اومأ له مدحت بطاعة ليتبعه في السير على أطراف أصابعهم، خرجوا من المطبخ، ومع اول غرفة قابلتهم، بحثوا سريعًا، ولم يجدوا شيء، وبعدها الثانية والثالثة، حتى وقعت عينيهم على عيسى وعبد الناصر، المتربعان على الصالون المدهب بعشوائية، يدخنون السجائر الممنوعة وهم يلفونها بنفسهم، ويتسامران بانبساط وأريحية، ليستمعا إلى عيسى وهو يردد:
- اَخ يا عبده، بس لو تبطل عمايلك العبيطة دى، هتاكل الشهد معايا، انت جلبك ميت ودا اللى بيعجبنى فيك، بس جدام الحريم الحلوة بتجلب خروف.
رد عبد الناصر بعقل مغيب بفضل ما يدخنه:
- باه خروف، ممم، حتى لو كان، بس برضك يا عيسى، جوز البنتة اللى فى الاؤضه دى حاجة تانيه يا اخى .. يا بووووى، أيه الحلاوة دي؟
سمع مدحت واشتعلت رأسه، وهم ان يندفع نحوهما يريد الفتك بهما، لولا بلال الذي لحقه، ليجذبه خلف أحد الأعمدة والبعيدة عن مستوى نظر الاَخران، ليخاطبه بهمس حذر:
- إمسك نفسك شوية وحكم عجلك، المهم احنا عرفنا مكان البنتة
بصــ در يصعد وبهبط بحدة، هدر مدحت بهمس خشن:
- ماشي يا بلال معلش، اتلم ع البنات الاول وبعدين اعرفوا مجاموا ابن ال...... ده.
رد بلال ببعض الراحة:
- زين جوي، احنا دلوك نرجع مكانا، ونستنى بس يواربوا دجيجة عن الاؤضة وبعدها ندخل للبنات .
سايره مدحت ليظلا واقفين محلهم يراقبان حتى مرت اكثر من نصف ساعة، وبعد ذلك اجفلا على الصوت الغريب والذي يشبه صوت ذئب يتشاجر مع احدهم.
الصوت كان قوي لدرجة انتبه لها عيسى وعبد الناصر لينتفضا بفزع وينهضا بسلاحهم، مغمغمين:
- يا وجعة طين، دا بينه ديب!
قالها عيسى ليكمل على قوله عبد الناصر:
- كنه بيتعرك مع واحد من رجالتنا الله يخرب بيته. تعالى نشوف مين.
كتما بلال ومدحت أنفاسهما حتى خرج الاَخران، واطمأنوا لابتعادهم بمسافة كافية، ليركضا على الفور نحو الغرفة المقصودة، ليحاول بلال فتحها بطريقته المعتادة، بدون مفتاح.
في الداخل
نهال انتفضت بفزع مع شقيقتها على الحركة الغريبة في الباب، فتمتمت بدور خائفة:
- ودا مين دا اللى مش عارف يفتح الباب؟
قطبت نهال باستغراب تقول:
- مش عارفة؟ حاجة غريبة فعلًا.......
قطعت شاهقة بصوت عالي وهي تتفاجأ بابن عمها بلال المغترب من سنين وهو يدلف إلى داخل الغرفة، وبعدها كان مدحت ليزداد ذهولها، فكتمت بكفها على فمها، حتى لا تصرخ بالفرح، وانتظرت حتى اغلقا الباب خلفهما بحذر، ليخرج اسمه من بين شفتــ يها بعدم تصديق:
- مدحت!
سمع منها ليقترب بشوق المحب المفترق عن محبوبه منذ سنين، لاغيًا العقل والتريث مرددًا
- يا جلب مدحت.
لم يعطيها فرصة الإستيعاب او الإستماع جيدًا، وقد باغتها برفعها عن الأرض يضمها ، ضحكت بدور متفاجئة، أما بلال فقد صعق مجفلًا من فعله، ليغمغم بدون تركيز:
- يخرب بيت ابوك!
2
❈-❈-❈
في البلدة وحينما دخل حربي على والده في غرفته ليُلقي عليه التحية، كما فعل مع والدته، قد جاء المنزل كزيارة للإطمئنان على أهله بعد ان ترك معتصم في حراسة رائف وحده:
- إيه دا اللى انت ماسكه فى يدك دا يا بوى؟
قالها متفاجأً، بأبيه الذي كان ينظف السلاح ويعمل على تجهيزه، تبسم له محسن يجيبه بإجفال بعدما انتبه إليه:
- حربى! اهلا يا ولدى، إنت إيه اللى جابك؟
رد باستغراب:
- وه يا بوي، اللى جابنى انكم سيبتونى انا ورائف مع الزفت معتصم، وما سألتوش تانى فينا، خبر إيه؟ مفيش أخبار؟
نهص محسن عن مقعده وهو يرفع بندقيته ليقول بعدم تركيز:
- معلش يا ولدى هانت، ان شاء الله الليلة هتتحل كل حاجة وهترجع تنام في بيتك من تاني، بس انت جول يارب
- يارب
تمتم بها حربي يتابع والده الذي يتحرك للذهاب مغادرًا ببندقينه، تابع يوقفه بسؤاله:
- هى إيه الحكاية بالظبط؟ وانت معمر ســ لاحك ورايح فين؟
ضيق محسن عينيه بتفكير يطالعه صامتًا للحظات قبل أن يحسم قائلًا:
- طب تعالى معايا، ما احنا اكيد هنحتاجك، وانا هاجولك على اللي انت عايزه واحنا ماشين في السكة، عشان انا اتاخرت عليهم اساساً.
- اتأخرت على مين يا بوي؟.
سأله حربي بعدم فهم، والاَخر يسحبه من ذراعه مرددًا:
- ما انا بجولك اها، جر عجلك معايا وانا هجولك على كل حاجة، خلص ياللا.
❈-❈-❈
- يا بوى تعبت يا بوى، يا بوى فكونى يا بوى، حرام عليكم، حراام
كان يردد بها معتصم بصوت ضعيف بالكاد يخرج، وقد خارت قواه، ونفذت طاقته في الصراخ، ولم يتبقى له سوى النواح الضعيف، وقد اهلكه القيد، جاءه الرد من رائف بحزم:
- اسكت ياد انت متصدعنيش، انا اساسًا على اخري منك، ومش حامل، خبر إيه؟ خشمك دا ما يتجفلش واصل.
تمتم حربي بتعب:
- بجالى ليلتين مربوط وحتى الصوت مستكثره عليا! ما تموتونى احسن، انا تعبت تعبت .
بعصبية ونزق صاح به رائف:
- وانا اعملك ايه يعني؟ لما اشوف حربى هيجينى دا كمان، ولا يهج وميسألش زى جدى وعمامى، اللى حتى ما بيردوش على اتصالاتى بيهم.
توقف ليتمتم بصوت خفيض وكأنه يحدث نفسه:
- و اما اشوف انا ايه اخرتها!
❈-❈-❈
من نافذة المطبخ، دلف عبد الرحيم، وقد كانت مفتوحة بفضل بلال الذي تركها على هذا الوضع من أجله، وقد نجح في فتحها هو، نزل بأقدامه على الارض ليتمتم بكلمات الحمد والثناء، وقد نجاه الله وكتب له عمر جديد، بعد ان كان يفرقه عن الموت لحظات
قبل قليل
بعد ان صعد بلال ومدحت على الشجرة العجوز، ذات الجزوع الجافة، وكان عبد الرحيم يأمن من خلفهم، حتى لا يأتي أحد من رجال الحراسة المرتصة أمام القصر، بعد ان اطمأن بدخولهم داخل القصر، اتصل ب معروف صاحبه الاَخر، كي يأتي بمجموعته، ويقوموا بدورهم في التأمين، حتى يلحق هو الاَخر بصديقيه في الداخل، وبعد ان جاءه الرد من معروف بالموافقة.
ليتوقف قليلًا في انتظارهم، ولكن أتت الرياح بما لا تشتهي السفن، وذلك حينما شعر بصوت غريب، يدعس على فروع الشجر الجافة والمرتمية بكثرة على الأرض من حوله، ثبت سلاحه على وضع التجهيز، ليتبين من صدق تخمينه فور أن رأى الذئب الذي كشر بأنيابه في الظلام، وهو يتقدم نحوه بخطوات بطيئة قاتلة، ابتلع ريقه بقلب على وشك التوقف وحيرة تعجزه عن التفكير السليم، سلاحه بيــ ده وهو قادر ان يرديه قتيلا برصاصة واحدة في الرأس، ولكن وقتها سيتسبب في افتضاح امرهم وفشل الخطة، فكان يرتد بأقدامه للخلف وهذا الوحش يتقدم بدوره، حتى التصق ظهر عبد الرحيم بإحدى الأشجار، قرر وقتها ان يواجه الموت لمواجهة الذئب، وليفعل الله ما يريد، ولكن ما حدث هو مجيء معروف فجأة، ولم يكن منتبهًا للذئب حينما هتف باسم الاَخر:
- خلاص يا عبد الرحيم انا وصلت والجماعه جاين اهم وراا........
لم يكمل جملته وقد باغته الذئب بأن قطع المسافة كالبرق ليهجم عليه، لتصبح ذراعه بين الأنياب الحادة للذئب وهو يقاوم، على الفور هجم عبد الرحيم بقاعدة البندقية التي في يــ ده على رأس الذئب وبقوة، ولحسن الحظ كانت قد وصلت باقي المجموعة معه، ليصبح الهجوم مضاعف، حتى خلصوا معروف بصعوبة وذراعه التي انكسرت بفضل الأنياب التي غرزت بها، بعد أن سيطرو بجمعتهم حتى اردوه قتيلًا .
خلع عبد الرحيم الشال الذي كان حول عنقه، ليلف به ذراع معروف الذي كان ينزف بغزارة والاَخر، يأن من الألم الموجع بشدة.
- احمد ربنا اللى جات على كدة، ياللا يا شباب خدوه بسرعه ع الوحده الصحية، وانت يا منعم انت و سعد امنوا المكان هنا.
على أمر عبد الرحيم ذهبت مجموعة بمعروف من أجل إنقاذه، وصعد هو الشجرة القديمة من اجل دخول القصر، تاركًا منعم وسعد يراقبان في الأسفل كما أمرهم.
❈-❈-❈
هذه اللحظة لم تكن من ضمن تخطيطه، كل ما كان يشغل رأسه، هو أن يخرجها من القصر ويذهب بها مع شقيقتها، ويعود بهن إلى المنزل، ويتمم بعدها الخطبة والزو اج بها ، لكن ما حدث وبمجرد رؤيتها، فقد السيطرة على نفسه متناسيًا الاعراف والتقاليد، وقد غلبه الأشتياق، ليضمها إليه، فنسي تعبه ونسي الظرف، في حضنها، يتنشق رائحتها وكأنها اكسير الحياة بالنسبة إليه، أو هي الجنة نفسها، والتي لو بيــ ده، ما اختار أن يخرج منها أبدًا.
أما هي فقد الجمتها الصدمة عن المقاومة وعجز لسانها عن الكلام، حينما وجدت نفسها بحضنه، واقدامها مرتفعة عن الأرض، يهمس له بصوت دافئ وعميييق في أذنها:
- وحشتينى .. وحشتييييينى جوى جوى يا عمرى .. يا كل دنيتى.
- ما خلاص يا عم، سيبها بجى .
قالها بلال ليُفقه، وزاد بالتشديد هامسًا بتحذير:
- مش وجته دلوك يا عم انت .. باه
سمع مدحت وتركها على الفور، ولكن عينيه كانت تتشرب تفاصيلها، بشوق اكتسح مشاعره، برائحتها التي ما زالت تداعب حواسه، ورؤيته لحمرة الخجل التي اكتست ملامحها، لتزيده جنونًا بها، هدر به مرة أخرى بلال بعصبية وصوت خفيض:
- فوج يا مدحت وركز معايا الله يرضى عنك .
أومأ له باستدراك للوضع ليُعطيه الانتباه كاملا هذه المرة ، فوجه بلال خطابه للفتيات:
- بسرعه يا بنات البسوا تحاجيبكم خلينا نطلع بيكم .
هللت بدور بفرحة وهي تتناول حجابها قائلة:
- يا ألف حمد الله ع السلامه يا واد عمى .
بضحكة بشوشة رد بلال :
- الله يسلمك يا بدر البدور انتي .
تكلمت نهال ايضًا وهي تلف حجابها، ولكن بخجل شديد بعد هذا الموقف الذي وضعها به مدحت:
- الحمد لله انكم جيتوا، وحمد الله على سلامتك يا بلال يا واد عمى .
قال الاَخير بمرح وعينيه تتنقل عليهن:
-- بسم الله ماشاء الله، انتوا الاتنين بجمالكم وحلاوتكم دى تفتنوا بلاد، صحيح خلفة نعمات...
توقف ليوجه خطابه لمدحت متابعًا:
- إيه بتبصلى كده ليه؟ يكونش غيران كمان؟
تبسم له الاخر ليقول مقارعًا:
- لا ياعم اغير ليه ان شاء الله؟ دول حتى كد عيالك .
تفاجأ بالرد ليلكزه بغيظ متصنعًا الغضب:
- اه يا بن ال...... معلش حسابك بعدين، المهم يا بنات .. انتو هتطلعوا معانا على طول من غير ولا صوت والحمد لله عبد الرحيم وصل حالًا، وهيأمن السكه ياللا بجى بسرعة.
قال الاَخيرة، وانظاره على الهاتف الذي اشتعل مضيئًا بورود رسالة من الاَخر تخبره بذلك.
❈-❈-❈
في جانب اخر
كان عيسى وعبد الناصر جالسان على عقبيهما، يقلبان في الذئب الميت امامهم بتفحص شديد لرأسه المهشمة.
فقال عيسى:
- تفتكر مين يا عبده اللى عملها؟ وجدر يوصل هنا من الاساس؟
اجابه الاَخر:
- ما انت سألت الرجالة وجالولك محدش فيهم ناجص يبجى مين؟
قال عيسى بتفكر متعمق:
- دا اكيد واحد جلبه ميت اللى جدر يوصل هنا وكمان يجتل ديب.
رد عبد الناصر بحدسه الإجرامي:
- ومين اكدلك انه واحد، مش يمكن اكتر !!
سمع الاخر لينتفض مفزوعًا، وينهض قائلًا:
- طب يالا بينا بسرعة، منسيبش مكان فى الجصر، من غير ما نمسحه، وتعالى معايا ننبه على الزفت اللى اسمه متولى يبعت رجالة يفتشوا عن اى حد غريب عنينا .. فى كل النواحى
❈-❈-❈
خرج بلال من غرفة الفتيات يستطلع الأمر أولًا، فوجد عبد الرحيم يقف بالقرب من المدخل بسلاحه، وأنظاره نحو الباب وعليه، اطمأن بلال ليقوم بفتح الباب فخرج مدحت وخلفه الفتيات، ليتخذ وضعه بعد ذلك في الخلف بسلاحه وابن عمه في المقدمة يسير بهم نحو السلم المؤدي إلى البدروم، فهذه الفيلا ليست غريبة عنه، ويعلم مداخلها ومخارجها، وعبد الرحيم مؤمنًا لهم من جهة أخرى،
نزل اولا بلال وخلفه الفتيات على السلم الداخلي للبدروم، وبعدها ومدحت والاَخير كان عبد الرحيم ، الذي أغلق الباب المثقل من خلفهم، ليلجا الجميع في الداخل، يسبقهم بلال الذي كان يقودهم، وعيناه تتأمل التماثيل والصناديق الأثرية المرتمية بكثرة في الانحاء حولهم:
- باه باه باه، كل دى آثار؟ خبر ايه يا هاشم ؟! دا انت بتاجر فى كله بجى؟
من خلفه قالت بدور:
- حمد لله ربنا نجانى من جرشه الحرام، هو وولده ابو دم يلطش.
قال مدحت لبلال:
- أهم حاجه دلوك، احنا هنطلع منين؟
اجاب الاخر وهو يشير بيــ ده:
- تعالى كدة.
قالها ليسبقهم في السير داخل ممر طويل يؤدي إلى باب حديدي كبير، طالع مدحت الباب الضخم ليتسائل باندهاش:
- واحنا بعد ما نطلع منه هنروح فين؟
رد بلال وهو يحاول في فتح الباب:
- احنا هنطلع من هنا وعلى سكتنا طوالى، عشان نوصل للطريج الزراعى، امال انت كنت فاكر ان حسين العربى كان بيطلع المــ خدرات والسلاح من باب الجصر الرئيسى اياك!، لا طبعًا، دا هنا السكة كان تمام وع المظلوط معاه، وصاحبك هاشم، اكيد ماشى على النظام الجديم، اااه الباب دا مزنجر جوى.
- استنى اجى اساعد معاك .
قالها مدحت وهو يتقدم بالفعل، ولكن عبد الرحيم اوقفه بقوله
- لا يا دكتور خليك انت مكانى وراجب زين .. انا هجدر مع بلال دا احنا ياما فتحناه .
عقبت نهال باندهاش:
- ليه بجى؟ مكنتوش بتخافوا من العفاريت؟
اطلق بلال ضحكة مجلجلة يرد:
- عفااريت! دا احنا نفسنا كنا عفاريت!
على جانب الطريق الزراعي، كانت السيارات المرتصة بانتظام وهي تحمل ياسين واولاده، وبعض من شباب العائلة الثقة، في انتظار إشارة واحدة من بلال اذا استدعى الامر التدخل حتى يهجموا بالسلاح، وليحدث ما يحدث، من أجل إعادة الفتيات وتأمين عودتهم.
- عوجوا جوى يا بوى.
قالها راجح بقلق يتزايد مع مرور الوقت بخوفه، ورد سالم مهونُا:
- هانت يا خوى، ولدى توى باعت رسالة بيطمنى ع البنات، عيال عمهم وصلولهم، فاضل بس أنهم يطلعوا من الجصر الفقر ده، ادعي بس وجول يارب .
- يارب يارب.
تمتم بها راجح بصوت عالي وتدخل عبد الحميد أيضًا:
- ربنا ان شاء الله هايسترها معانا، احنا دايمًا ماشين بما يرضي الله عمرنا ما اذينا حد.
صدر صوت حربي الساخط بجوارهم بغيظ:
- بس لو كنتوا جولتولى من الاول وريحتونى، اكيد كنا هنلاجي صرفة انا ورائف، نربي بيها العمدة ابن الكلب بولده.
تكلم ياسين بحنق يرد عليه بعد ان كان ملتزم الصمت:
- ايوه يا خوي، عايزنا نجولك عشان تخلص على معتصم مش عارفك انا ياك؟ ولا عارف جنانك إنت والمخفي التاني واد عمك؟
عقب سالم بغيظ قائلًا:
-هو بس اللى مجنون؟ طب واللى جاعد فى العربية دلوك ده وسايب فرشته، هو اللي عاجل يعنى!!
❈-❈-❈
انفتح اَخيرًا القفل الصديء بعد محاولات مضنية من عبد الرحيم، وبلال الذي هلل بفرح:
- الحمد لله اَخيرًا، يا للا يا بنات اتحركوا ياللا.
تقدم مدحت ليسبقهم، ومن بعده الفتيات ثم بلال، لكنهم تفاجأو بمن يقف أمامهم بتحفز يصوب نحوهم السلاح يقول بتهكم:
- على فين يا وحش انت وهو وواخدين الحلوين معاكم .
اشتعلت الدماء برأس مدحت، ولكنه تمالك ليجيبه على مضض متجنبًا الهجوم عليه:
- بعد عنينا احسنلك، احنا مش عايزين نأذيك .
تبسم عبد الناصر يرد باستخفاف:
- لا انا عايز اتأذى، نزل سلاحك انت وهو، بدل ما اخلص عليكم.
قالها بصيحة جعلت بلال يرد هو الاَخر:
- بعد ياد انت احنا مش ناجصينك، ولا ناجصين وجف حال.
رد عبد الناصر:
- ابعد كدة بالساهل! هو انتو فاكرينا هبل يا حبيبي انت وهو، مكنش عمدتكم اختارنا مخصوص وجابنا من بلادنا وامنا على الجصر دا واللى فيه .
- بعد عنيهم بدل ما اخلصلك عليه.
صدرت من عبد الرحيم الذي تباطأ في خطوته فور ان لمح هذا المعتوه، ليرتد للداخل، ويعثر على متولي بالصدفة والذي نزل يطمئن على مخازن العمدة وقتها، ليجهز عليه سريعًا وياخذه رهينة.
تطلع عبد الناصر إليهما وإلى متولي الذي كان يناشده بعيناه قبل أن يباغته مفاجئًا الجميع، بأن أطلق رصاصة من بندقيته على قدم الاَخر يقول بعدم اكتراث مخاطبًا عبد الرحيم:
- طب أها، تحب اجيبها فى جلبه كمان؟
سقط متولي على الارض صارخًا وهو يمسك قدمه
- أه، الله يخرب بيت ابوك، بتضرب كدة وبجلب ميت إنت ما عندكش عزيز واصل؟ ولا حتى عندك تجدير للعيش والملح؟
تقبل عبد الناصر بابتسامة مستخفة لا تعنيه الكلمات ولا التوبيخ، لينقل بأنظاره نحو بلال وعبد الرحيم الذي تسمر من هول المفاجأة مع مدحت الذي دخل الرعب قلبه بالفعل، فهذا الغبي يستطيع إيقاف كل شيء وفساد خطة هروبهم بغشم فعله الذي يجبرهم على المواجهة الدامية وهذا اكثر السيناريوهات خطورة، فالخسائر وقتها تصبح من الجانبين وهذا ما يخشاه بالفعل بوجود الفتيات
- استاذ عبده ممكن تسيبنا نروح؟
قالتها بدور بحركة جريئة منها تجفله، تلقفها عبد الناصر بضحكة بلهاء مرددًا خلفها:
- استاذ! و" عبده" كمان! ايه الحكاي........
لم يكملها فقد بوغت بتقيده من الخلف من قبل منعم وسعد اصدقاء بلال الذين كان ينتظران خروجهم في ناحية اخرى لم ينتبه لها عبد الناصر والذي كان يقاوم بشراسة تطويق أحدهم له بقوة، والاخر سحب منه البندقية، ثم احكم القيد مع صديقه، ليصيح بهم بلال بعد ان اثنى على فعلهم
- اوعو تخلوه يفلت منكم وانت يا مدحت إجرى ع الطريج دا طوالى، انت والبنات بسرعة، جبل ميجى صاحبهم التالت، تلاجيه بيلف حوالين الجصر كمان ويدور علينا ، ولا يجى حد من الحرس بسلاحهم، وانا هتصل بابويا يتلجاكم على اول الطربج .
قالها بلال ليمسك الهاتف ويتصل بالفعل وانضم عبد الرحيم في الهجوم مع الرجال حتى يسيطروا على هذا المدعو عبد الناصر
❈-❈-❈
بعد قليل كانت نهال تسحب شقيقتها ويركضن في الطريق الموصوف، خلفهم كان مدحت بسلاحه يأمن يمينًا ويسارًا وفي كل الإنحاء، حتى يحميهن من وحوش،الصحراء، سواء كانوا بشر او حيوانات مفترسة، حينما قطعوا نصف المسافة، وجدو حربي يقطع عليهم الطريق ليلتقطهم، بعد الاتصال الذي ورده من بلال، تحرك على الفور، وكانت المفاجأة من نصيب بدور التي ما ان همت تصعد للسيارة حتى وجدته أمامها في الداخل ينتظرها.
- عاصم!
صاحت بها بعدم تصديق
تبسم لها يجيب بسخرية:
- لا خياله! اركبي يا مجنونة، انتي لسة هتستوعبي!
بضحك هستيري دلفت للسيارة لتتمتم له:
- الله يسامحك، ع العموم حمد لله ع السلامة؟
من خلفها نهال ايضًا خاطبته:
- حمد ع السلامة يا عم عاصم.
رد عاصم بابتسامة مشرقة يتابع انضمام مدحت في السيارة معهم:
- حمد لله على سلامتكم انتم، وسلامة البطل اللي وصل بيكم لهنا .
بادله مدحت الابتسام ولكن بسخرية يقول:
- بطل مين يا عم؟ هو احنا لولا بلال كنا عرفنا اساسًا ندخل هناك ولا نطلع، حمد لله انها جات على كدة.
سمع حربي ليتدخل معهم في الحديث وهو يقود:
- صدجت يا واد عمي، انا عن نفسي لو كنت شميت خبر من وجتها لكنت خلصت على معتصم، بس معلش وجت الحساب جرب خلاص
وصلت السيارة بالشباب والفتيات وانطلفت الأعيرة النارية في الهواء ابتهاجًا بعودة نهال وشقيقتها وقد كانت على أتم التجهيز استعدادًا لأي فشل في خطة بلال، فقد كان الأمر محسومًا ولا رجعة فيه
احتضن راجح ابنتيه، فسقطت دموع الفرح من عينيه على غير ارداته، ليعقب ياسين:
- ولزمتها ايه بس الدموع دى دلوك؟
تدخل عبد الحميد يقول بتأثر لحال شقيقه، وقد كان شاهدًا على حاله الساعات الماضية:
- سيبه يا بوى دى دموع الفرح، ربنا ما يجيب حزن ولا أي حاجة عفشة تانى، يارب فرح وبس
التقط مدحت ليأخذ الحديث لمصلحته:
- ايوه يا بوى احنا عايزين فرح، نفسنا نفرح بجى
ولا ايه يا عمي؟ مش نفسك انت كمان معانا ؟
فهمت نهال ما يرمي إليه مدحت لتخبئ وجهها بخجل في حضن أبيها الذي رد يجيب:
- وه يا دكتور؟ وهو في حد يكره الفرح، ربنا يسهل ان شاء الله، جول يارب.
قالها راجح ليتمتم الاخر خلفه بتمني ومعه كانت بدور التي انتقلت بانظارها نحو عاصم الجالس بداخل السيارة يتكئ على عصاه فغمز لها بطرف عينه، وانتبه على فعله ياسين الذي يراقب كل شاردة وواردة حوله، فعقب ساخرًا
- عال عال يا ولاد الفرطوس .
❈-❈-❈
وعودة إلى بلال الذي سيطر مع اصدقاءه على عبد الناصر، حتى قيدوه بحبل من المخزن، كما كتموا على فمه بقطعة من القماش حتى لا يصدر صوتًا فيفتضح أمرهم مع باقي رجال الحراسة، ليظل متولي على حاله بجلسته على الأرض ممسكًا بقدمه المصابة، بحالة استسلام لما وصل إليه، لا يشاغب ولا يعترض على ما يفعله بلال واصدقاءه والذي خاطبه:
- عاجبك منظرك كدة وانت كان ممكن تروح فيها وتدفن هنا فى الجبل من غير تمن، هينفعك ساعتها العمدة ولا فلوسه؟
سمع منه ولم يتحمل التوبيخ، فقال متهربًا:
- حن عليك يا بلال يا ولدى، خدني وودينى ع المستشفى او الوحدو حتى، رجلى هتروح منى يا ناس .
بشبه ابتسامة قال بلال وقد فهم فعله
- معلش يا عم متولي سامحنى بجى، لانك مضطر تستنى نصيبك .
بعدم فهم سأله عبد الرحيم:
- طب واحنا هنستنى ايه تانى كمان ؟! .
ألقى بلال بنظره نحو الطريق الذي أمامه، ليقول بشرود:
- مش هنستنى كتير، عشان خلاص جه وجت الحساب .
تدخل منعم بفضول هو الاخر سائلًا:
- حساب إيه ؟!
❈-❈-❈
في اليوم التالي
قبل أذان الفجر، قرع جرس المنزل باستمرار ودون انقطاع طرق قوي على الباب بهسترية جعلت هاشم ينتفض من نومته مفزوعًا، لينهض مضطرًا ليرى من الطارق يغمغم بالسباب ويردد:
- يا ساتر يارب يا ساتر، دا مين ده اللى هيجينا كده جبل الفجر، خلاص الدنيا طارت مش جادرين يصبروا على ما النهار يطلع ..
نهضت من خلفه انتصار تتمتم بنزق:
- تلاجى فيه نصيبة حصلت .. فى البلد الفجريه دى .
تغضن وجه هاشم يرمقها بضيق وهو يفتح باب الغرفة ليخرج منها قائلًا:
- نصيبه! كدة فى وش الفجر، الملافظ سعد يا ست انتصار.
رددت من خلفه وهي تلحق به:
- سعد ولا حسين، انا جايه معاك، اشوف مين ؟!
-معتصم !!
صاح بها هاشم بدهشة فور خروجه ورؤية ابنه وهو يدلف لداخل المنزل راكضًا، فور ان فتحت له فوقية الخادمة الباب
صرخت انتصار وهي تركض أيضًا تتلقف ابنها بالاحضان والقبلات
- ولدى! يا حبيب امك يا غالى أنت .
- تعبت جوى ياما تعبت جوى، انتوا ما كنتوش بدوروا عليا ولا ايه ؟
كان يردد ب