رواية قدر مليء بالخيرات كاملة جميع الفصول بقلم ساره محمد

رواية قدر مليء بالخيرات كاملة جميع الفصول بقلم ساره محمد

رواية قدر مليء بالخيرات كاملة جميع الفصول هى رواية من تأليف المؤلفة المميزة ساره محمد رواية قدر مليء بالخيرات كاملة جميع الفصول صدرت لاول مرة على فيسبوك الشهير رواية قدر مليء بالخيرات كاملة جميع الفصول حققت نجاحا كبيرا في موقع فيسبوك وايضا زاد البحث عنها في محرك البحث جوجل لذلك سنعرض لكم رواية قدر مليء بالخيرات كاملة جميع الفصول
رواية قدر مليء بالخيرات بقلم ساره محمد

رواية قدر مليء بالخيرات كاملة جميع الفصول

- الدكاتره كلهم رفضوا المريضة دي للأسف يا دكتور لأنهم فشلوا معاها فشل ذريع، هي مجنونة من الأخر أو ممكن نقول ميتة..
مفيش أي تحسن ملحوظ ولو واحد في المية، محدش قدر يخرجها ولو خطوة واحدة من إللي هي فيه.
بصراحة صعبت عليا هتفضل عالطول كدا، دي عايشة ولا كأنها عايشة، على كدا أيامها معدودة ومش هتكمل عمرها.
رد الطبيب بأسف:-
- أنا يأست معاها وجربت كل أساليب العلاج ومفيش فايدة كنت قربت أتجنن، ومقدرتش أواصل أكتر من كدا واعتذرت.
- دا الدكتور السابع إللي يرفض الحالة ويفشل معاها.
كانت هذه جلسة لأطباء مشفى السبيل للأمراض النفسية والعقلية من بينهم الطبيب الجديد الذي استمع لكل كلمة بإنصات واهتمام.
قام من مكانه ثم هتف بهدوء ناطقًا بقراره المجنون المتهور:-
- أنا بقبل المريضة وتبقى حالتي الأولى هنا.
صُدم الجميع من قراره بعد كل ما قيل، هل سيكون أفضل من السبع الأطباء الذين أخفقوا!!
هتف الطبيب ماهر بتحذير:-
- إنت لسه جديد في مستشفى السبيل يا دكتور قيس، ولو دي حالتك الأولى هيكون في إحباط شديد لك.
إحنا واثقين من خبرتك ومن جدارتك بس إحنا متأكدين بردوه إن مفيش حالة زي دي قابلتك،
أتمنى تفكر وتسيب المريضة دي لحال نصيبها،
إنت متعرفش الحالة صعبة إزاي، ياريتها مثلًا بتثور ولا لها أي ردة فعل.
دي مهما عملت مش بيصدر منها أي ردة فعل وتقريبًا فاقدة النطق.
ارجع عن القرار المجنون ده يا قيس إنت لسه في بداية طريقك هنا.
قال بحسم وأعينه تشع إصرار:-
- عايز تقريرها لو سمحت يا دكتور ماهر أنا واثق من قراري وهباشر معاها العلاج والمتابعة من النهاردة وبإذن الله ربنا يشفيها ويجعلني سبب.
حرك الطبيب ماهر رأسه بقلة حيلة وقال:-
- إنت حر جرب مش هتخسر حاجة.
اتفضل دا تقريرها وأوضتها رقم ٢٠.
أمسكهم بإصرار وقال بصرامة:-
- شكرًا يا دكتور، بالتوفيق للجميع.
وخرج حيث مكتبه يتطلع للتقرير ما بين ذهول وتعجب وحيرة وحزن ثم بقوة خرج وصعد حيث الغرفة ٢٠ ليقابله مصير مجهول..
                 *****************
اقترب من الغرفة حتى توقف أمام بابها بملامح وجه معقودة ثم أخذ يتنفس بعمق مراتٍ عِدة قبل أن يدلف للداخل بعد أن طرق الباب بخفة..
لكن ما قابله بالداخل جعل الدماء تتجمد بجسده..
ظلام دامس تغرق به الغرفة إلّا من شعاع الضوء العليل هذا الذي ينبعث من نافذة دائرية ذات زجاج قاتم..
اقترب وهو يلمح جلوسها بتصلب فوق الفراش بسكون مهيب..
وسؤال واحد قُذف لعقله..
كيف لفتاة أن تُعالج من أزمة نفسية وسط هذا الظلام والكئابة؟!!
شعر بالغضب يسرى بأوردته غير متقبل هذا الأمر بتاتًا وهرع يُبعد الستائر ذات الألوان المُظلمة ثم أخذ يفتح النوافذ باتساع..
لتكون المفاجأة الثانية من نصيبه وهو يرى هذه الغرفة التي أقل شيء يُقال عنها أنها تُصيب بالأزمات النفسية..
الغرفة خالية إلا من مقعد واحد وفراش...
وألوان جدرانها رمادية باهتة، هل هذه أجواء يُعالج بها شخص مُحبط..!!
وسؤال أخر يدور بفلكه..
لماذا هذه الغرفة ليست كبقية الغرف!!
بقية الغرفة تعج بالحياة والأمل، ملونة بألوان زاهية مُزينة والضوء يغمرها وحديثة بأعلى المستويات كمستوى مشفى السبيل..
التفتت شاعرًا بنبض قلبه بعنقه لتقع أنظاره على الفتاة..
ظلت أعينه متوسعة تتأملها، باهتة، ساكنة، كاسفة، انقطعت أخبار الحياة عنها..
وجه شاحب، أعين يُكللها حلقات سوداء تلتف من حولها، جسدٌ باهت هزيل يتدلى فوقه ثوبٌ أبيض قطني بأكمام متسعة، بينما خصلات شعرها التي استرقت أغرب لون رأته عيناه، اللون النُحاسي..
تجلس وأعينها شاخصة في الفراغ بينما تضم ركبتيها لصدرها ولا يُشعرك أنها على قيد الحياة سوى رمشها بأعينها بين الحين والآخر..
كان قيس مأخوذًا مبهوتًا فسار حتى جذب المقعد وجلس بجانب فراشها يناظرها بشفقة وفضول فهي يلفها علامات استفهامية عديدة..
تنحنح ثم قال يجذب انتباهها:-
- أنا قيس..
وابتسم يكمل بمرح:-
- بس لا لا مش بتاع ليلى بس بيقولولي إن أمي هي إللي سميتني قيس أصلها كانت بتحب الأدب ومُعجبة باين بقيس بن الملوح..
بس مش تقلقي أن قيس البنا بس..
وكأنها لم تستمع لحديثه من الأساس لم يصدر عنها أي ردة فعل تدل أنها استمعت إليه..
واصل يتسائل ببعض الهدوء وهو لم يتفاجئ بردة الفعل هذه:-
- اسمك أيه؟
يعلم أن إجابته الصمت، كان بين يديه دفتره الخاص وقلم وأخذ يدون بعض الأشياء وقبل أن يواصل حديثه معها كان الطبيب سامي يقتحم الغرفة وعلى وجهه أمارت الفزع وهدر آمرًا:-
- يلا الكل يرجع يقفل الستاير دي ويضلم الأوضة.
انتفض قيس من مقعده وقال باعتراض:-
- كدا غلط كبير يا دكتور .. إزاي عايزنها تتعالج بالطريقة دي .. دي زنزانة مش غرفة في مستشفى كبيرة زي دي..
ردد الأخر بصرامة ونبرة لا تقبل النقاش:-
- دي أوامر يا دكتور قيس وأرجوك متفتحش علينا أبواب جهنم، وبعدين متحاولش تعالجها لأنها مستحيل تستجيب .. هي هتموت وهي مكانها كدا..
وخرج بغضب تاركين إياه بعد أن غرقت الغرفة في الظلام مرةً أخرى..
كلمات أشبه بالكثير من الألغاز العجيبة، ما هذا الهراء الذي تفوه به للتو، إنها جريمة!!
كان يتنفس بعنف وصدره يعلو ويهبط بجنون ليحاول تنظيم أنفاسه وهو يستدير نحوها ليراها مازالت على نفس الوضعية..
اقترب منها ينظر داخل عيناه التي تومض بشكل عجيب بلونها الزبرجدي تقابل أعينه البُندقية الحادة ثم ردد بإصرار أمام وجهها:-
- هتتعالجي وهرجعلك الحياة وهتعيش حياة سعيدة وهخرجك من الظلام ده بإذن الرحمن..
وعلشان أبدأ رحلة العلاج صح لازم أعرف أنتِ مين وحياتك كانت إزاي وأيه وصلك للمرحلة دي!
هوصلك وهفك لغزك يا .....
وصمت قليلًا ليهمس بإصرار:-
- يا ... قدر.
وخرج من الغرفة كالإعصار تاركها وسط ظُلماتها..
                  ****************
أبعد عويناته ينظر لهذه الطبيب المنتقل حديثًا للمشفى باهتمام، ظل يطالعه قليلًا فزفر قيس بملل وقال:-
- أيه يا زكي هتفضل تبصلي كتير كدا وكأنك أول مرة تشوفني ولا تعرفني..
لازم تساعدني بأي معلومة تعرفها عن قدر..
في حاجة غريبة أنا مش فاهمها.!
علّق زكي المسؤول عن الأرشيف بسؤال متعجب:-
- مين قدر؟!
طالعه قيس وهو يكاد أن يجن من بروده ليتدارك زكي قائلًا:-
- قصدك المريضة إللي في الأوضة رقم ٢٠..
ردد قيس بسخرية:-
- وهي ملهاش اسم يعني!! .. ملفها مكتوب إن اسمها قدر حتى الاسم الثلاثي مش موجود .. قدر كدا وخلاص .. ومفيش أي معلومات عنها أبدأ من عندها العلاج..
نطق زكي وهو شاب في بداية الأربعين من عمره بهدوء:-
- بصراحة متعودين نقول المريضة رقم ٢٠ .. ممنوع نطق اسمها..
جحظت أعين قيس باستنكار ليُكمل زكي بنُصح:-
- بص يا قيس أنتَ لسه جديد هنا ومتعرفش حاجة .. فخد مني النصيحتين دول لله وعلشان أنا بحبك..
متحاولش تتدور ورا المريضة رقم ٢٠..
مفيش هنا أي معلومة عنها أقدمها ليك ولا نعرف عنها حاجة إحنا كموظفين صغيرين..
الأوامر إللي تخصها بناخدها من المسؤولين الكبار وصاحب المستشفى..
وأنت كمان لازم تنفذ الأوامر علشان مش تتأذي ومتفكرش كتير يا دكتور قيس..
وتركه وذهب .. تركه في دوامة تبتلعه، للمرة الأولى يجابهه شيء كهذا..
منذ تخرجه وهو يعمل بكافة المراكز والمشافي المختلفة غير السبع سنوات الاحترافية بخارج البلاد بأعرق المشافي الأجنبية حتى أصبح اسمه يلمع في الأفق ... الطبيب قيس البنا..
والآن يقف عاجزًا خاوي اليدين أمام ... قدر..
رؤيتها لمرة واحدة نجحت في استحواذ فِكره وشحذ إهتمامه..
فمن هي قدر، وما الذي حدث لها، ومَن خلف هذا كله؟!!!
خرج يسير بالممر بشرود وعقله يعمل بجميع الجهات حتى توقف أمام الغرفة النائية التي تحمل الرقم (٢٠).
ودون تردد دلف للداخل لعله يصل لشيء لكن فور أن وقعت أعينه فوق الفراش حتى توسعت أعينه بصدمة....
وهمس دون إدراك:-
- قدر..!!
يُتبع..~
- هي فين .. قدر فين؟!
نطق بها وهو يقف على أعتاب الغرفة بأعين مرقوش بها التعجب، رفع أعينه يُمشط بهم أركان الغرفة لكن لا وجود لها..
حرك أقدامه بالممر يبحث عنها بخوف ليُسارع نحو أحد الممرضات المقبلة عليه يتسائل بتلهف:-
- لو سمحتي .. هي فين قدر وليه مش موجوده في غرفتها..
كررت بتعجب واستنكار:-
- قدر!! قصدك مين يا دكتور!
صاح بنفاذ صبر واستهجان من هذا الأمر ومحوهم شخصها وهويتها:-
- أقصد المريضة إللي في غرفة رقم ٢٠..
أجابته بتدارك متعجبة من عدم معرفته شيء هام مثل هذا بينما تُشير لأحد الممرات البعيدة الجانبية:-
- في أوضة الكهربا .. دا ميعاد جلسات الكهربا بتاعتها..
تخشب قيس بأرضه وقد سقطت الكلمات على أسماعه كصاعقة عاتية، همس بجنون وعدم تصديق:-
- جلسات كهربا!!
ولم يسمح لنفسه أن يستغرق في الصدمة أكثر من ذلك وأطلق لقدميه العنان يركض بالممرات الملتوية حتى اقتحم أحد الغرف بعنفوان ليقف العالم من حوله ويسكن كل شيء حين وقعت أعينه على مشهد لن ينساه مادامت الروح تنبض بجسده..
مزق الألم كل مُمزق بداخله وشعر بثوران من نار يمور بداخل قلبه وهو يراها مُكبلة بعدم رحمة بينما هناك العديد من الوصلات والأسلاك تطوف بها ...يديها ورأسها وهي تحت تأثير الكهرباء والتي نتج عنها انتفاضات عنيفة لجسدها وانتفاخ أوردتها نتيجة المقاومة ... تنتفض بين أيديهم كالذبيح وأعينها مسلطة على سقف الغرفة بثبات..
قطع قيس المسافة التي تفصلهم بتلهف وهو يقوم بفصل هذا الجهاز اللعين ويفصل جميع الأسلاك المتصلة بجسدها ورأسها برِفق..
انحرفت أعينها الوامضة بغرابة نحوه ترمقة برمقة أكثر غرابة منها .. رمقة كانت بمثابة لغز لقيس وعليه إيجاد حلٌ له بأسرع وقت..
صاح يزمجر وهو يضرب الجهاز بعنف:-
- أيه إللي بيحصل هنا .. إزاي تعملوا حاجة زي دي .. ليه عدم الرحمة دي ومُصرين تعذبوها، هي جايه هنا علشان تساعدوها ولا تدمروها...
إللي عملتوه ده ممنوع وهتروحوا في ستين داهية..
امتلئت الغرفة بالممرضات والكثير من الأطباء الذين أتوا على صياح قيس الجهوري الذي انتشر بأرجاء المكان..
نظر الطبيب المسؤول بتحذير إلى قيس وأردف بحزم:-
- ودي طريقة علاج يا دكتور قيس، وزي ما قولنالك هي منتهية ومفيش أي فايدة معاها حتى الكهربا..
فالأفضل تسيبنا نشوف شغلنا ومتدخلش فيه تاني علشان العواقب وحشة جدًا فوق ما تتخيل..
ازدادت شراسته ونضح وجهه بالرفض وهو يصرخ:-
- طريقة علاج إزاي يا دكتور دا أنتوا قاصدين تأذوها .. إزاي أصلًا تعرضها لجلسات الكهربا بدون تخدير وبالقوة دي، دا ليه مُسمى واحد بس وهو التعذيب..
هي مش محتاجة صدمات كهربية وكمان ثنائية الجانب يا دكتور دي ممكن تموت تحت إيدكم، وبعدين مش أنا الدكتور إللي مسؤول على الحالة إزاي تتصرفوا كدا من غير علمي..
تبادلوا مع بعضهم البعض النظرات القلقة أمام نظرات قيس الناقمة التي يتطاير منها الشرر والقوة..
انحنى قيس يزيح المسارات الكهربائية والأقطاب من رأس قدر برِفق بينما نظراتها كانت مازالت مثبتة ميتة لا حياة فيها..
ينظر لها وهو على حافة الجنون ووجهه معقود فكيف تحملت هذه الألام وهذا التعذيب الغير إنساني؟!
لماذا لا تتوجع .. لماذا لا تصرخ .. لماذا لا يتجلى الألم على ملامح وجهها وبداخل عينيها!!
كيف لها ألا تبكي؟!
أشار للمرضات ليعاونوها على الوقوف ومساندتها للذهاب لغرفتها، فاستقامت قدر بصمتٍ تام وأخذت تسير بصحبتهم بخوار أصاب قلب قيس في مقتل وهو يشعر بألم جمًا بقلبه حين رؤيتها، ألم لا يستيطع كبحه، قلبه مُلتاع لما يراه أمام أعينه. 
استدار نحو الطبيبان بوجهٍ متشرس وغضب ملتهب كالبركان الثائر، ردد أحد الطبيبان بوجه ممتقع بالإستياء:-
- هتعرض نفسك لخطر كبير يا دكتور قيس وأحنا حذرناك .. أحسنلك أبعد عن المريضة دي..
أنت زي أخونا الصغير ودكتور ناجح وحرام مستقبلك يضيع..
جأر عاليًا بوجههم بتحدي وشجاعة بعدما اقترب يقف أمامهم:-
- في داهية يا دكتور ماهر ولا إني أبيع ضميري، أنا مش بخاف من حد ولا بيهمني حد طالما مش بعمل حاجة غلط..
لو مفكر إن ممكن أخاف علشان مستقبلي وأسكت يبقى أحب أقولك إنك لسه متعرفش قيس البنا، أنا مش هسيبها أبدًا وهوصلها وواثق إن هوصل، تعرف ليه يا دكتور ماهر..
علشان أنا قوي .. معايا قوة تغنيني عن الكل وتحميني من أي حاجة..
إللي بتعملوه في المسكينة دي ميرضيش ربنا أبدًا وأنا لا يمكن أشترك فيه أبدًا..
ورحل خارجًا كالإعصار بعدما بصق كلماته القوية بوجوههم التي شحبت باصفرار ليردف الطبيب ماهر باضطراب:-
- مجنون وهيودينا ويودي نفسه في ستين داهية هو مش عارف بيورط نفسه مع مين، لازم نبلغ الدكتور سامي بأسرع وقت..
وافقه الطبيب الأخر بخوف جليّ وقد أصبحت وجوههم تحاكي الأموات في شحوبها..
         _______بقلم/ سارة نيل______
بعدما طرق بخفة فوق سطح الباب دلف بعدما ثبّط من ثوران غضبه ورسم إبتسامة هادئة فوق فمه، رأى الغرفة تسبح في ظلامها، غرفة بها ظُلماتٌ بعضها فوق بعض..
وهي ... مازالت على نفس الحالة التي رأها بها في المرة الأولى..
صامتة ... شاردة .. ساكنة .. غامضة يُحيطها هالة عجيبة.!
نعم لا يُثيرها أي شيء لكنه سينجح في إثارة إهتمامها، سينجح في جذبها له..
جرّ المقعد حتى جلس بالقرب من الفراش ثم أخرج هاتفه وقام بتشغيل الإضاءة الخاصة به، بدأ في الحديث بلهجة لينة وعلى الرغم من هذا مُشبعة بقوة عجيبة:-
- تعرفي .. مهما بلغت قوة أي حد ومهما بلغ تجبره في قوة أكبر منه، في قوة كبيرة أووي وقدرة ملهاش حدود، وهي معاكِ مستحيل أي شخص يهزمك أو يهزك...
تعرفي فين القدرة دي .. تعرفي أيه القدرة إللي ملهاش حدود؟
كان يُتابع ملامحها بدقة وردود أفعالها عَله يعثر على الفضول أو تساؤل ما نمى على وجهها لكنها كانت محتفظة بوجهها الخالٍ بمهارة وجدارة..
فابتسم هو وأجاب هو عن تساؤله بكلمة واحدة حملت سكينة غامرة:-
- الله...
كان يتحدث وأعينه مثبتة على ملامح وجهها لتنفرج أساريره وهو يرى ردة الفعل التي رصدتها أعينه بدقة..
للوهلة الأولى توسعت أعينها الزبرجدية اللامعة وجعلت تفتحها وتغلقها مراتٍ عِدة فاستغل هو إنصاتها الجيد له وأكمل حديثه:-
- أنا بس عايز أقولك يا قدر إن مهما كان مين إللي أذاكي ووصلك للحالة دي مهما كان قوي ومتجير في إللي أقوى منه وإللي يقدر ينسفه من على وجه الأرض، موجود إللي تتقوي بيه وتبقى في حمايته مطمئنة..
أنتِ صبرتي لشهور طويلة يا قدر وعايزك بس تعرفي أن الصبر يتبعه النصر وثمرة الصبر الظفر، الظلام ده هينتهي وهتقدري تخرجي منه بلطف الله وقوته .. أنا واثق أنك مش هتسيبي نفسك كدا أبدًا .. أنتِ بتحبي قدر وهتساعديها..
طالع ملامحها ليجدها مازالت على سكونها وجمودها فهتف يقول بلطف:-
- ممكن بس أقعد هنا عشر دقايق أو ربع ساعة كدا، بصراحة الأوضة بتاعة الأطباء بتبقى زاحمة أووي..
ثم رفع بين كفيه مصحفه الذي كان يحمله وأخذ يقرأ وِرده بصوت خاشع هادئ وظلّ يتلو بصوت وصل لأسماعها وفور أن وصل لهذه الأيات من سورة الشعراء يتلوها بخشوع..
{ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ} { الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} { وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} { وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ}{ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} { رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ}{ وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ}
ارتعاشة شديدة أصابت بدنها وهنا تصنم قيس ونمت إبتسامة عميقة على فمه بسعادة وقد دمعت عيناه حين رأها تلتفت له بسكون تنظر له بثبات ثم ابتسمت إبتسامة عريضة والدموع تنهمر من خرزات الزبرجد خاصتها بألم من بين إبتسامتها..
         ________بقلم/سارة نيل_______
الليل الملتحف بالسواد، الأسوار المنيعة، الكاميرات الدقيقة، الرجال الغشيمة لم تقف حائلًا..
جسد متشح بالسواد فوقه سواد الليل ووجه مُلثم لا يظهر منه إلا عينيان حادة سوداء تحمل بين طياتها نار مُلتهبة ستحرق الجميع..
قفز هذا الجسد الذي ينعكس ظله على جدار الشرفة وبمهارة بأداة حادة فُتح باب الشرفة بنجاح...
وببطء وحذر تخطى الشرفة حيث الغرفة ليصبح فعليًا بين جدران قصر (البحيري)..
من يصدق هذا!! قصر البحيري..!
تنام بهناء بعالم الأحلام قريرة العين وسط أجواء أمنية حاشدة ورفاهية لا تنعم بها سوى (مُنى البحيري)..
ترمقها تلك الأعين السوداء بكُره شديد وتتوافد الذكريات أمامها، نيران تتقد بالروح لا سبيل لانتطفاءها..
غرز بذراعها إبرة بها مخدر طفيف ثم أخرج لاصق متين واقترب هذا الجسد منها مُكمكم فمها بمتانة وقام وقيدها بأحبال ثقيلة جعلت حركتها وتململها مستحيلًا..
ووسط الظلام أخرج سكين حاد وبكل قوة وألم وغلّ وقسوة رفع ذراعية لتنغرز بكتف تلك النائمة بقسوة جعلتها تفتح عينيها على وسعهم وتشهق شهقة تردد صداها بجوفها وهي لا تستوعب ما يحدث سوى ألم فظيع لم يعتد عليه جسدها يومًا .. جسد لم يجد سوى الرفاهية والتدليل..
وسط الظلام الذي يتخلله ضوء ضعيف لم تلمح سوى محاجر سوداء ترمقها بشر جحيمي..
ولم يُلهمها وقت للإستيعاب وانهال عليها بطعنة أخرى أكثر قوة بفخذها جعلتها تصرخ بقوة تمزقت لها أحبالها الصوتية كان موطنها جوفها فقط...
ظلت تتلوى وهي تنظر له برجاء ووجهها أصبح غارقًا بالدموع الحارة لكن لم يرق قلب الأخر ولو قليلًا وهو يجعل جسدها خريطة من الجروح والطعنات الغير مُميتة، الغرض هو التعذيب فقط..
وفي الأخير قَلبها ليتبين لهذا المجهول كتفيها من الخلف ثم مدّ يده يخرج زجاجة صغيرة بها مادة مجهولة تحت ذعر تلك التي تتلوى بجنون علمت محتواها على الفور فور أن سقطت على كتفيها تأكل جلدها ولحمها ولم تكن سوى مادة كاوية مُذيبة...
توسعت أعينها وهي تشعر بألم لا يُحتمل وتهمهم بجنون وإلى هذا الحد لم تتحمل الألم وسقطت فاقدة للوعي..
فتحرك هذا الجسد المجهول خارجًا بحذر وهو يشعر بالسلام فذاك الثأر الأول ومازال خيط الإنتقام به الكثير مِمَن ينتظر دورهم...
أغلق باب الشرفة بكفيه التي يغطيهم قفازات سوادء كسائر ملابسه.... ورحل وهو يتوعد للبقية بالويلات..
 فارتقبوا فالحكاية لم تبدأ بعد....!
يُتبع..~
- هتروحي مني فين يعني يا قدر، أحسنلك تخرجي يلا هنا..
وارتفعت ضحكته البغضية تصمّ أذنها فخرجت من خلف هذا الجدار تركض بعزمها كُله غير آبهةٍ لجروحها وكدماتها فما يُعنيها الهروب من هذا الشيطان وإن كلفها الأمر ألا يبقى بجسدها شبرًا إلا جُرح وكُسر..
لكن كيف الهروب من الشيطان!!
يديه كانت تجذبها بكل قسوة تقبض على ذراعيها بعنف كاد أن يُحطم عظامها صرخت بألم وجحظت أعينها برعب ونبض قلبها المرتعب يكاد أن يصم أذنيها..
أقترب منها يُهسهس في أذنها بفحيح:-
- تعرفي أنا بستمد طاقتي منين قدر..!
بقت منكمشة على نفسها تُغمض أعينها التي ينجرف منها دموعها الحارّة ليُكمل فحيحة قائلًا بمرض:-
- من الرعب إللي شايفه في عنيكي ده، قمة اللذة وأنا شايف وحاسس خوفك..
بس تعرفي بردوه أنك مش سهلة يا قدر..
دي المرة الكام لمحاولة هروبك مني .. هااا..
كلمته الأخيرة أتبعها بصفعة قاسية اسقطتها أرضًا لتزحف بحماية للخلف ليعلو صراخه المجنون يشق الليل:-
- المرة الكام يا قدر انطقي .. متعرفيش عددهم..
إزاي متعديش حاجة مهمة زي دي ووصلات العذاب إللي بتاخديها بعد كل مرة...
وانحنى يهمس أمام وجهها مبتسمًا:-
- أنا بقى عارف عددهم ... حاولتي تهربي ١٤ مرة غير نظرات الإشمئزاز إللي ماليه عيونك دي..
أنتِ مش ناوية ترحمي جسمك من الأذى صح..
وأنا بصراحة مش ناوي أرحمك علشان تعرفوا أنتوا وقفتوا في وش مين واتجرأتوا واتحدتوني..
وغمس كفه القاسية بخصلاتها يسحبها بشدة وقسوة وهو يجرها تحت مقاوماتها التي لا تنضب مادامت الروح تدب بجسدها..
- محدش هيرحمك مني يا قدر .. محدش يقدر يخلصك مني..
رفعت رأسها تنظر للسماء بتلقائية وأعين يغشاها الدموع .. نعم لم تنطق ولم تستنجد لكن قلبها وأعينها كانوا مُكللين بالرجاء واليقين بأنه من سيخلصها..
وفجأة وجدته يسحبها بسرعة نحو طرف المسبح ثم دون أن تستوعب كان يغمس وجهها أسفل المياة. 
ظلت ترفرف بذراعيها وتتملل بقوة ورئتيها تستغيث مطالبةً بذرات الهواء فسحبها هذا الشيطان من خصلتها للأعلى..
شهقت تسعل بشدة وقد اكتسب لون وجهها لون الشفق وهي تسحب الهواء لرئتيها سحبًا ليغمس وجهها مرةً أخرى متلذذًا بعذابها ومن يراه للوهلة الأولى يجزم أنه مريض..
وعلى حافة الشُرفة كانوا يتراصون يشاهدون ما يحدث بشماتة وسعادة وافتخار..
تعالَ صوت أحدهم وهي ترسل لُه زجاجة صغيرة وتقول بتشجيع:-
- أحسن حاجة تعملها عاهة مستديمة، ماية النا"ر الحلّ في أنك تشوه جسمها ويسيب لها علامة تفضل فكراك بيها وكل ما تيجي تهرب تاني تفتكرك..
ولم تكن سوى "مُنى البحيري" التي لا تقل ملامحها شيطانية عن ملامحه....
نمت إبتسامة شيطانية على محياة وهو يتطلع للزجاجة ثم لقدر وردد بخبث:-
- عندك حق يا مُنى .. والله طلعتي زكية وبتفهمي..
رمقت قدر الزجاجة بين أصابعه برعب وجفونها المحمرة متوسعة وحركت رأسها بنفي بينما الماء يُبلل جسدها وينساب من شعرها ووجهها...
تلوت محاولة الهروب وقد أصابها الفزع الأكبر لكن كان أقوى من محاولاتها البائسة وقد جثم فوق جسدها يقتل تحركها وهو يفتح الزجاجة ولم تتوقف محاولات قدر المجنونة للفرار وهمس هو بأذنها بظفر:-
- وشك الجميل مقدرش أشوه يا صبارتي ولازم أخليكِ فكراني عالطول ... يبقى نضحي بكتفك الحلو ده...
ولم يمهلها وقت تستوعب مرضه وهو يسكب محتوى الزجاجة على كتفها لتشق صرخاتها سكون الليل:-
- لاااااااااااااااااااااا..
ليُسرع هو في تكميم فمها .. حتى حق الصراخ حرمها منه ليكون مصير هذه الصرخات الدامية بداخلها وبجوفها وقلبها .. صرخات وألم لا يُنسى..
شهقت بفزع وهي تنتفض من فوق الفراش بعد معركة ناشبة من التململات الجنونية..
ظلت تتنفس مسرعة وصدرها يعلو ويهبط من هذا الكابوس، عفوًا ليس كابوس وإنما ذِكرى .. ذِكرى لم ولن تنتهي..
التفتت حولها وهي تمسح وجهها البارد والذي يقطر منه عرقها لتجد الغرفة كعادتها سابحة في الظلام...
تمددت قدر مرةً أخرى وظلت أعينها تتأمل وشاردة في شعاع هذه الضوء الطفيف المتسلل وسط الظلمة حتى سقطت في نومٍ عميق مرةً أخرى..
              ______بقلم/سارة نيل______
في جوف الليل استيقظ قُبيل الفجر خرج من منزله الصغير المتواضع الذي يقع في طرف أحد الحارات ثم توجه للمنزل المجاور له وبعد طرقته المعهودة على سطحه فُتح له، ابتسم قيس ببشاشة قائلًا وهو يدلف للداخل:-
- كالعادة صاحي يا حاج..
ربت رضوان على كتف قيس وقال:-
- خلاص بقى بقالي سنين على نفس الحال يا ابني .. اتعودت وبقيت أقوم تلقائي..
جلس قيس بجانبه فوق الأريكة وأردف بحنين وهو ينحني يُقبل يده المجعدة:-
- ربنا يتقبل منك يا أبويا.
شعر رضوان بالحنين يملأ قلبه وربت على رأس قيس وقال باشتياق:-
- وحشتني يا قيس ووحشني كلمة أبويا منك يا ابني، سفرتك المرة دي طولت أوي..
تنهد قيس وقال:-
- أنت وحشتني أكتر يا حاج رضوان بس كانت معايا دعواتك وبركتك وفضلت على عهدك..
كان لازم أتغرب وأتعب واجتهد علشان ابني نفسي وأقف على رجلي وانجح ورجعت وكل المستشفيات بفضل الله بتتعارك عليا ببركت دعاك يا أبويا..
ردد رضوان بفخر ومن يرى الفخر الذي بعينيه والحنان الذي ينفجر على ملامحه يعتقد أن قيس حقًا ولده من صلبه وليس فقط صبي ابن جاره قام بتربيته والإعتناء به بعد وفاة والدته وتلهي والده عنه بعدما تزوج بإحدى السيدات الأغنياء والتي اشترطت عليه قبل أن تتزوجه بتركه لولده بعيدًا عن حياتهم ومجتمعهم المخملي الراقي، فقبِل لأجل أن يقتحم هذا العالم المخملي والذي حلم كثيرًا اعتناقه وقد جاءت له الفرصة وكان عليه اغتنامها غير آبهٍ بهذا الصبي الذي بالكاد تم التسع سنوات، ليقوم إمام المسجد الشيخ رضوان وزوجته بالإعتناء بقيس الذي تُرك وحيدًا في هذا المنزل الصغير وكان والده يكتفي فقط بإرسال القليل من المال مع حلول كل شهر وزيارته بضع دقائق..
وفي كل محنة منحة فقد أحسن الشيخ رضوان تربية قيس والإهتمام به وزرع في قلبه الرحمة والرِفق والإيمان وحب الله عز وجلّ فنشأ قيس في كنف والده رضوان الذي أصبح له كل شيء وتناسى الماضي ومراحل الألم التي مر بها..
وكان قيس للشيخ رضوان العوض بعد ولده الذي طرده رضوان من منزله والذي لم يبلغ أربعة عشر عامًا وذلك لأجل.....
أوقف الشيخ رضوان استرسال الذكريات في عقله وطردها وهو يقول لقيس الذي يشعر بمقدار حزنه الدفين:-
- راضي عنك يا قيس ولسه ربنا هيعطيك ويعطيك يا ابني، أنت تستاهل كل خير لأنك تعبت واجتهدت واتعذبت وأكيد ربنا هيجازيك، وطول ما ربنا معاك كل حاجة هتبقى طوع إيدك..
قبل قيس رأسه وقال بإمتنان:-
- ربنا يبارك في عمرك يا أبويا ويرضى عنك..
ابتسم الشيخ رضوان بدفء واستقام بثقل نظرًا لتقدمه في العمر وقال وهو يُشير لقيس:-
- مش هتتقدم أنت وتصلي..
جذبه قيس للأمام برفق وقال برفض قاطع:-
- اتفضل يا إمامنا .. مستحيل أتقدم عنك ويلا أقم الصلاة علشان كدا قيام الليل هيفوتنا والفجر هيأذن..
ابتسم رضوان وهو يستقيم ليقم الصلاة وبجانبه قيس يؤدون ما تيسر لهم من قيام الليل..
أتت زوجة الشيخ رضوان وابنتيه يقفون خلف والدهم في مشهد ظلّ يتكرر سنواتٍ عديدة منذ أن كانوا أطفال وظلّ الحال كما هو حتى بعد سفر قيس الذي لم ينقطع عنها وكان يؤديها بمفرده، صورة متكاملة لم يُحذف منها إلا هذا الولد العاق ولم يتغير بها سوى الأعمار وظلت القلوب على حالها مع الله..
         _______بقلم/سارة نيل_______
ضجة عاتية أصابت قصر "البحيري" بعد ما أصاب ابنة "جعفر البحيري" "مُنى البحيري" بعرض موطنها ووسط هذا الكم الهائل من الحراسة والأمان وهي بين أحضان أسرتها..
يقف جعفر بثبات وقوة رغم تقدمه في العمر لكن على وجهه شراسة وشر تجعلك تخشى المرور أمامه .. شراسة وعدم رحمة وإجرام جعل رجال أشداء أمامه يرتعشون رعبًا..
تجرأ رئيس الأمن يقول برعبٍ جلي:-
- جعفر باشا .. الكاميرات ملقطتش أي حركة غريبة والرجالة كلهم والله يا باشا كانوا في أماكنهم ومفيش أي حاجة غريبة حصلت..
ودون أن يرف له جفن رفع سلاحه نحو رؤوس هؤلاء الرجال وتتابع صوت الرصاص يصدح في الأرجاء لينتشر الصمت المخيف في المكان..
التفت نحو أبناءه الذين يركضون في شتى الجهات للبحث عن أي خيط يوصلوهم للفاعل، صرخ بعنفوان وغضب:-
- فارس .. فهد..
أتوا ينفخون بضجر بينما أردف فهد:-
- مفيش أي أثر فعلًا يا بابا..
هتف فارس من بين أسنانه بشر ووعيد يشابه والده في شراسته:-
- يا ترى مين اتجرأ وعمل كدا في أختنا..
تسائل جعفر بصوتٍ حاد:-
- فين عزيز..
زفر فهد وقال بسخط:-
- ابنك الكبير الغالي مختفي بيخلص شغلك إللي محدش يعرف عنه حاجة .. أهو ده أخرتها لما تخليه مسؤول عن كل حاجة .. عن القصر والحراسة .. شوف وصلنا لفين..
حد مجرم اتسلل للقصر وأختي بين الحيا والموت، دا علشان كل حاجة عزيز .. عزيز..
أيّده فارس وأردف بحنق:-
- فهد عنده حق وكأن مش عندك ألا عزيز باشا..
سخر جعفر بداخله من كلمات أولاده، لا يعلون مُكر هذا الثعلب الذي همس بغموض وخبث:-
- ميعرفوش أن مجرد أداة وألة أنا إللي بحركها وعملتها زي ما أنا عايز، عزيز البحيري مجرد لعبة في إيدي وكبش فدا مش أكتر..
وفي هذا الأثناء كانت سيارة سوداء بأحدث طراز تدلف للقصر ويهبط منها شاب على مشارف الأربعين من عمره وسار حتى توقف أمام جعفر البحيري والذي مدّ يده له بكبرياء فانحنى يُقبلها بإذعان واستقام ودعني أخبرك بأنه إذا أحببت أن ترى نسخة أخرى عن جعفر البحيري في الإجرام والشراسة والجنون فانظر إلى "عزيز البحيري" الوجه الأخر للشيطان...
لم يتمهل جعفر وكان كفه القاسٍ يهبط على جانب وجه عزيز فوق لحيته التي عزاها بعض الشيب بقسوة جعلت أعين الجميع تتسع، اقترب جعفر يضع فوهة سلاحه عند حلق عزيز يغرزه بقسوة وهو يقول بفحيح أمامه وجهه:-
- حماية القصر من مسؤوليتك ومع ذلك بكل سهولة حد قذر دخل ووصل لأوضة نوم بنتي ومخلاش حتة في جسمها سليمة وشوهها...
لو بنتي حصلها حاجة مش هيكفيني عمرك يا عزيز أنت فاهم...
توسعت أعينه بصدمة وتفاجُئ انجلى على وجهه القاسٍ متسائلًا بعدم فهم:-
- مني .. إزاي .. وحصل أيه .. طب هي عاملة أيه دلوقتي..
رمقه جعفر بغضب وهو ينصرف بصحبة أبناءه قائلًا بأمر:-
- يلا على المستشفى...
بعد مرور القليل من الوقت كان عزيز يقف بشموخ أمام الطبيب المسؤول عن حالة مُنى يتسائل عن حالتها فأخذ الطبيب يُخبره..
- بصراحة يا عزيز باشا حالة مُنى هانم صعبة، في جروح صعبة في جسمها كذا طعـ..ـنة ونزفت كتير غير إن نص ضهرها إللي فوق اتشوه بماية النا'ر..
جحظت أعين عزيز وسرعان ما ضيقهم بحدة وشيءٌ ما أضاء بعقله بينما كرر بشر:-
- ماية نا"ر!
             ______بقلم/سارة نيل______
- هنعمل أيه دلوقتي يا دكتور سامي، لازم نبعد قيس .. أنت هتقوله وتديله خبر عنه..
التفتت سامي بغضب يقول:-
- أنت بتقول أيه يا دكتور ماهر، أنت عايز قيس ينتهي .. دا إللي بيقف في طريقهم بيخلصوا عليه، وأنا مرضاش الأذية الكبيرة دي ليه ... حرام..
تسائل ماهر بحيرة:-
- طب هنعمل أيه دلوقتي، قيس مش هيسكت ومش هيبعد عنها لأنه حطها في دماغه..
أسند مدير المشفى الطبيب سامي ذراعه على سطح المكتب وأخذ يفرك جبينه ثم أردف:-
- أحنا أهم حاجة عندنا دلوقتي يا دكتور سامي أننا نبعد قيس عن غرفتها النهاردة..
هو جايلها النهاردة ومش عايزينه يتصادف مع قيس أبدًا..
توسعت أحداق ماهر متسائلًا بجزع:-
- هو جاي النهاردة..
- أيوا..
ردد بشرود:-
- ربنا يستر..
             _____بقلم/سارة نيل_____
صفّ قيس سيارته ودلف داخل المشفى وهو يشعر بطاقة تغمره، على الفور توجه نحو غرفة قدر..
ولج لداخلها وكالعادة قابله الظلام الذي يكون أقل حدة بالنهار عن الليل..
ألقى أنظاره فوقها ليجدها مُمدة تستند على ظهر الفراش الحديدي بينما تنظر أمامها بهدوء..
ابتسم وهو يدور حول الفراش قائلًا ببشاشة:-
- صباح الخير يا قدر..
وكالعادة الصمت كان إجابته، ابتسم وقال بينما يضع شيء ما فوق وحدة الأدراج بجانبه:-
- بصي أنا النهاردة يوم مميز جدًا عندي، علشان كدا أنا جايبلك معايا حاجة أيه .. مش هتصدقيها..
أصل النهاردة بعد ما جيت من صلاة الفجر لقيت أمي رحيمة الله يبارك في عمرها بتعمل فطار أيه..!!
أحسن حاجة بحبها وكانت وحشاني أووي وأنا مسافر .. ألا وهو فطير مشلتت فلاحي معتبر..
ففطرت وعمرت نفوخي..
وطبعًا افتكرتك معايا متقلقيش وخليت أمي رحيمة تعبي فطير .. أنا عارف أن أكل المستشفى هنا ملهوش طعم وأكيد مش هيبقى زي أكل أمي رحيمة..
كشف قيس عن الطعام وهو يضعه أمامها بينما يقول بترقب وهو يراقب ملامحها الهادئة ويعلم بعدم إستجابتها يقينًا:-
- يلا دوقي فطير  الحاجة رحيمة وقولي رأيك قبل ما حد يجي ويكتشف الجريمة دي..
ظلّ الحال كما هو لم يلقى منها أي ردة فعل، وغابت تنظر للطعام بصمت حتى بدأ اليأس يتسلل لقلب قيس لكنه صُعق حين رفعت يديها وقربت الطعام منها وأخذت تُقطّع الفطيرة وتغمسها بالعسل ثم ترفعها لفمها تتناولها بصمت وظلت على هذه الحال بينما يشاهدها قيس بأعين متوسعة حتى شبعت وحملت باقي الطعام تضعه فوق وحدة الأدراج مرةً أخرى..
توسعت إبتسامة قيس هامسًا بإمتنان:-
- الحمد لله يارب وأنت راضي عني مفيش حاجة تعجز عليا بإذنك يارب..
مدّ يده لقدر وقال:-
- منديل امسحي بيه .. وبالهنا على قلبك يا قدر.
تناولته منه بهدوء وقد أصبح شعور الأمان يتسرب لقلبها بوجود هذا الطبيب الذي يختلف عن جميع الأطباء المتواجدون هنا..
أخرج قيس من حقيبة ورقية صغيرة دفتر متوسط الحجم باللون الأبيض ومتناثر فوقه فراشات كثيرة متباينة الألوان وقلم ملون يعلوه فراشة صغيرة..
وضعه فوق ساقها ثم أردف بهدوء:-
- دول هدية مني لكِ يا قدر..
لو مش هترتاحي بالكلام، تقدري تريحي نفسك بالكتابة .. ممكن تكتبي إحساسك أو ترسمي حاجة في خيالك أو تحكي عن شخص بتحبيه، أو حتى تشغبطي بدون أي هدف..
ممكن يبقوا تحت مخدتك أو تحت مرتبة السرير لو خايفة حد يشوفهم..
بس إللي عايزك تعرفيه متخافيش يا قدر أنا موجود ومش هسمح لأي مخلوق يإذيكِ وقبل ما أكون أنا موجود فاعرفي وكوني متيقنة إن ربنا موجود وأرحم بيكِ من أي حد .. استندي عليه بكل قوتك وخلي عندك يقين كبير وصدقيني مش هيخذلك أبدًا.
كانت تتحسس الدفتر بشرود وأصابعها ترسم حدود الفراشات وقبل أن يُكمل قيس حديثه كانت طرقات خفيفة تتصاعد على سطح الباب وبحركة تلقائية جعلت قلب قيس يُحلق في سماء السعادة حين سارعت قدر في تخبئة الدفتر أسفل الوسادة..
شعشعت أعينه بالأمل وأذن للطارق بالدخول ولم تكن سوى ممرضة أخبرته أن الطبيب سامي يريده بمكتبه..
حرك رأسه بإيجاب واستقام يقول:-
- تمام .. قوليله جاي..
التفت نحو قدر وقال مبتسمًا:-
- مش هغيب وهرجع عالطول، وخليكِ مطمنة أنا ههربلك هنا كل إللي هتحتاجيه..
كتب وكل الأكلات إللي بتحبيها وأي حاجة محتاجها..
بقت قدر شاردة لتنمو على شفتيها إبتسامة هادئة رقيقة وللمرة الأولى بعد مرور الكثير تشعر بهذا الشعور..
لوهلة فقط شعرت ببوادر رياح لينة رطبة تقترب من قيظها والذي سرعان ما تبدد كل هذا وحل الظلام القاتم على هذه الغرفة بعد أن اقتحمها بهيئته التي تبث الرعب في نفسها، هيئته المليئة بالقسوة والشراسة والعنف والجنون...
اقترب منها لتتضح ملامحه أمامها وهو ينحني نحوها مبتسمًا بمكر وسط الظلام ليشحب وجه قدر ويصفر لونها وهي ترى الشيطان أمامها بإبتسامته الحقيرة التي تجعل قلبها يجفل رعبًا، انحنى يحاوطها هامسًا بفحيح خبيث:-
- أيه يا قدر موحشتكيش .. عزيز جوزك حبيبك مش وحشك ولا أيه يا صبارتي....
يُتبع..~
- أيه يا قدر موحشتكيش .. عزيز جوزك حبيبك مش وحشك ولا أيه يا صبارتي....
كلمات سقطت على قلب قيس زلزلته بعدما عاد ليُحضر دفتره الذي نساه في غُرفة قدر، تخشب جسده وتربدت ملامحه بالصدمة وهو يقف أمام باب الغرفة الغير مُكتمل الغلق..
بينما في الداخل فمُحق الضعف من فوق وجه قدر وتبدل بالثبات والوجوم فاقترب عزيز منها يهمس أمام وجهها بنبرة مُهددة خبيثة:-
- أيه يا قدر الخوف والرعب إللي كنت بشوفهم في عينك مش موجودين يعني..
أوعي تكوني نسيتي رحلتنا سوا يا صبارتي ولو نسيتي أنا عيني لكِ أنا بحب أرجع الذكريات، بس يا حلوة متنسيش أنك لسه تحت إيدي ومش علشان طلقتك يبقى كدا عزيز إنتهى..
أنتِ عارفع أنا طلقتك ليه ... طبعًا فضيحة كبيرة لعيلة البحيري إن يبقى حد شايل اسمهم وفي بيتهم مجنون ... المجانين مكانهم هنا .. في مستشفى المجانين، أنتِ من البداية مكونتيش تستاهلي اسمي ولا تطولي إن حتى أبصلك وأنا مستنضفش أبدًا واحدة زيك تشيل اسمي..
اتجوزتك بس علشان أزلك وأكسرك وأكسر كبريائك وغرورك وأعرفك نهاية إللي بيقف قدامي، لولا أنه كان أمر جعفر باشا إن أطلقك مستحيل كنت طلقتك وخليتك طول العمر زي البيت الواقف لا طايلة سما ولا أرض..
بس أوعي تنسي إن رقبتك ورقبتهم تحت إيدي يا قدر .. ومستحيل توصليلهم ولا عينك تلمح طرفهم تاني .. هما كمان بياخدوا جزاءهم..
دار حولها ونظر لها نظرة ذات معنى ثم قال:-
- تعرفي إن منى حد هاجمها وهي نايمة وطع-نها في جسمها ... والغريبة .. ماية النا'ر .. فكراها أكيد يا قدر ...  ودي حاجة تتنسي بردوه..!!
اقترب منها وانحنى ثم قال بفحيح فوق رأس قدر التي تنظر للأمام بثبات:-
- تعرفي أنتِ لو في حالة غير حالتك دي كنت شكيت فيكِ بس أنا عارف ومتأكد أنك متتجرأيش .. وأكيد إللي حصل مش صدفة يا صبارة، بس اتأكدي إن لو عرفت إن ليك علاقة من قريب أو ومن بعيد .. ساعتها هشوفي جحيم ولا حاجة جمب الجحيم إللي شوفتيه وهتكون نهايتك..
كان يتحدث بنبرة تبث الرعب في أوصال من يسمعها، نبرة جحيمية تُحاكي ملامحه التي يرتسم فوقها شر لا نهاية له..
وأكمل يقول بنبرة مريضة:-
- اصبري على رزقك يا قدر دا أنا محضرلك مفاجآت هتعجبك..
وسار يخرج من الغرفة ليستدير قيس يصطنع السير في الممر وخرج عزيز نحو غرفة مكتب مدير المشفى..
بقى قيس جامدًا بمكانه يستوعب ما سمعه وفوران غضب يمور بقلبه كلمات هذا الحقير المريض كانت كحُمم بركانية تسقط على روحه، ويبدو أن ما خفي كان أعظم وأن قدر تُخبأ أسرارًا مؤلمة وأوجاع مرمرت جنبات روحها..
دلف لغرفة قدر ثم توقف أمامها فوجدها تنظر أمامها بشرود وأعين غائمة فهتف قيس وهو لا يشعر بأنها بدأت تتخلل روحه وتسكنها وهالتها تلك لا فرار منها..
- قدر .. عايز أقولك إن أنا الوحيد هنا إللي هقدر أساعدك وأخلصك بس الأول لازم تساعدي نفسك يا قدر .. المستشفى هنا مكان خطر عليكِ .. ساعديني وأنا مستعد أهربك من هنا..
وعد مني قدام رب العالمين إن مش هتخلى عن مساعدتك بس لازم أنتِ تقرري .. لازم تخرجي من القوقعة دي مستعينة برب العالمين..
لم يكن الحب يومًا مجرد كلمات عشق وحروف، الحُب سند .. وجود ملجأ دائم .. شعور بالحماية والإحتواء .. معانٍ أسمى من الحُب مدلولها الوقوع في العشق..
خرج قيس قاصدًا شيئًا ما وتركها خلفه بنظرات خامدة لا توحي بحياة..
عاد قيس سريعًا بعد أقل من ساعة وهو يحمل حقيبة قماشية متوسطة ليجد قدر كما تركها، فقط تنظر إلى هذا الخيط من الضوء الضئيل بشرود غريب..
وضع قيس الحقيبة فوق ساقيها ثم أردف بيقين:-
- دا المخرج لكل أزمة في الحياة، أي مشكلة وأي وجع وأي حاجة مستحيلة حلّها عنده صدقيني يا قدر .. يمكن تستغربيني بس أنا واثق من طريقة العلاج دي..
جربي ومش هتخسري أبدًا، جربي مش يمكن تلاقي الطريق إللي أنتِ تايهة عنه، أوعي تيأسي من رحمته مهما بلغ بُعدك عنه .. صدقيني هيستقبلك بحفاوة..
وتركها وخرج مرةً أخرى وقد نجح بجدارة ليُحول كل أنظارها تجاهه وتُحفر كلماته بقلبها قبل عقلها وهي تتسائل داخلها بتعجب..
من هذا قيس؟!!
أخرجت ما في الحقيبة لتتوسع أعينها باندهاش سُرعان ما تحولت إلى حنين وروحها المعطشة تهفو إليه..
ابتسمت بإشراق إبتسامة حانية وأصابعها تتحسس رداء الصلاة بلون السماء ونُقش فوقه الكثير من الفراشات البيضاء..
من أين علم أنها تعشق الفراشات.!!
أخرجت المتبقي في الحقيبة لتجد مصلاه "سجادة للصلاة"..
اقتحمت الذكريات السيئة ذاكرتها ودموعها تنزف ألم روحها على وجهها..
جذب حجابها الساتر الطويل من فوق رأسها وهو يُحرر خصلاتها الذي جذبهم منها بعنف بينما يسحبها وهو يسحب جميع أحْجبتها بيده الأخرى، ألقاها بأرضية الحديقة أمام أعين الرجال التي أخذت تتأملها بفضول لمعرفة ما كان يُخيئة الحجاب عن أنظارهم..
سقطت خصلاتها كشلال من النُحاس اللامع من حولها وهي تضم جسدها تحاول لملمة شعرها وتخبئته بكفيها..
فأخذ عزيز يصرخ كمن أُصيب بمسّ من الجنون:-
- قاعدة ليلك ونهارك بيه وبتنامي بيه وعاملة نفسك أحسن وانضف من إللي هنا ونظراتك كلها لنا استحقار .. طب من هنا ورايح هتفضلي كدا وهحرقهم كلهم قدام عينك واليوم إللي هلاقيكي لبستيه فيه هكسر صوابعك أنتِ سامعه..
وألقى بجميع أحْجبتها أرضًا أمام أعينها المحمرة التي تجمدت بها الدموع الحارة وهي ترميه بنظرات حادة شرسة كارهة تتوعده بأنه ينتظره يوم...
تصاعدت النيران أمام أعين قدر من أحْجبتها المحترقة..
استقامت تنفض ملابسها ثم دلفت داخل هذا القصر الملعون نحو غرفة سجنها وأخذت تبحث من بين ملابسها على أحد فساتينها الطويلة ومزقت منها جزء كبير ثم عقدته فوق رأسها تخفي خصلاتها..
صعد عزيز من خلفها وهو يصرخ بجنون:-
- قدر ... قدر .. إزاي تتجرأي وتمشي من قدامي من غير ما أسمحلك..
وبمجرد أن دلف للغرفة حتى تسمرت أعينه فوقها  وهو يرى هذه الإجابة الصريحة في تحديها وعدم خوفها منه ومن تهديده..
ترفع رأسها بكبرياء وتحدي وشجاعة وقوة هي من اسقطتها بطريقه..
فهي لا تخنع أبدًا...
انتفخت عروقه وتنامى غضبه وهو يرى عدم مبالاتها بتهديده وبأن الشخص الوحيد التي يفرض سيطرته ويمارسها عليه يتمرد، هجم عليها وهو يتذكر سيطرة جعفر البحيري التامة عليه وإذعانه له .. هجم ينهال بالضرب العنيف على قدر ثم سحب كفها وبشيطانية جذب أصابعها للجهة المعاكسة دون رحمة لتدوي صوت فرقعة وتكسر العظام بالغرفة مصحوبة بصرخاتها المتوجعة حد الموت...
انتفضت قدر تخرج من ادكارها فرفعت كفها أمام وجهها وهي تقبض أصابعها وتبسطها ثم كورت قبضتها بشدة..
استقامت تقف حافية القدمين واتجهت نحو المرحاض وبعد قليل خرجت وهي تسحب رداء الصلاة ترتديه وتبسط المصلاة بتجاه كانت تعلمه جيدًا ووقفت لتنمو إبتسامة هادئة فوق شفتيها وتومض قوة عاتية بأعينها الزبرجدية وهمست للمرة الأولى بنبرة شديدة شرسة:-
- الحر'ق .. النا'ر .. دول حقي وأنا منتظره عدلك..
ورفعت كفيها المُثقلة بالدعاء وسط الظلام ... وهل رُد مظلوم خائبًا من أمام باب الملك يومًا ما؟!
لقد أقسم بجلاله وعزته ..  لقد كان المظلوم من الثلاث الذي لا يوجد بين دعاءهم وبين السماء حجاب..
وعزتي وجلالي لأنصرنّكِ ولو بعد حين..
كيف يحزن مظلوم بعد سماع هذا الوعد!
           _______بقلم/سارة نيل______
وبذات الطريقة وبذات التوقيت رغم الحماية والحراسة المشددة كان يتسلل هذا المجهول لغرفة مختلفة..
اقترب من تلك الغافية بنومٍ عميق تضع سماعات الأذن بموسيقى صاخبة في أذنيها، غرز تلك الأبرة بذراعها وسحب المجهول أصبعها يضعه فوق شاشة الهاتف ليُفتح أمام أعينه..
وشرع في الخطوة الثانية من الإنتقام لكن تلك المرة ستكون مختلفة ... ومن العيار الثقيل..!
موعدهم معها الصُبح أليس الصُبح بقريب!!
        _______بقلم/سارة نيل_______
كانت فترة عمله للصباح، بجوف الليل بعد أن انتهى من قراءة ما تيسر له من القرآن وردد بعض الذكر خرج يتمشى بالممرات الساكنة الهادئة يتأكد أن كل شيء على ما يُرام قبل أن ينعم ببعض النوم..
وأثناء مروره بأحد الغُرف الجانبية تسلل لمسامعه صوت همس ضعيف..
عقد حاجبيه بعجب وأوشك أن يدلف لداخل الغرفة ليعلم ما الأمر لكنه توقف متسمرًا وهو يستمع لحديث مدير المشفى المنخفض وقد بدى متوترًا مرتجفًا:-
- زي ما بقولك كدا يا ماهر .. هو طلب نبدأ نديها العلاج ده .. تعرف ده معناه أيه..
ردد الطبيب ماهر بفزع:-
- بيعجل بموتها يا دكتور سامي، العلاج ده خطير جدًا .. علاج يدخلها في إكتئاب ويخليها متحسش بالعالم من حوليها ويوصلها بكل سهولة للإنتحا"ر ودا إللي يقصده..
- هنعمل أيه .. المجرم ده بقت المستشفى كلها تحت إيده ومهددني بأمي الكبيرة في السن..
ردد الأخر بهمّ وحزن:-
- وعيالي يا دكتور سامي .. أنا مش عارف أعمل أيه .. إحنا مالنا ومال إنتقامهم وليه يدخلنا في الحرب دي..
قال الطبيب سامي بحسم وأعين شاردة:-
- هنفذ يا دكتور ماهر .. من الصبح تنفذ..
هرع قيس يبتعد عن الغرفة بأعين متوسعة وهو لا يُصدق ما سمع، ألهذه الدرجة يصل الأمر؟!
تفاقمت نبضات قلبه تضرب صدره بعنف وهو يشعر أنه بدوامة لا يستيطع الخروج منها، لكن الأهم الآن هي .. حياتها أصبحت في خطر..
يجب أن ينقذها..
سار مسرعًا تجاه غرفتها فتلك المشفى أصبحت تُشكل خطرًا عليها، التفت بحذر قبل أن يلوى مفتاح الغرفة يفتحها بهدوء دون إصدار صوت، وفور أن فُتح الباب وقف مستمرًا ليتوارى سريعًا وهو يرى آخر شيء توقعه على الإطلاق..
صاعقة رعدية ضربت جسده بقوة مزلزلة قلبه..!
يُتبع..~
أُضرمت النير'ان بقلبه وهو يراها بأحضان رجل يبدو بمقتبل عقده الثالث، تحتضنه بقوة وتشبث وهو يضمها بشدة مطبقًا ذراعيه من حولها..
ران على قلبه الألم واحتدت نظراته وهذا الشعور ينهش يقلبه دون رحمة، قبض على كفيه بشدة حتى أبيضت مفاصله وهو يستنكر هذه المشاعر التي أخذت في النمو والترعرع داخل قلبه..
همس يستغفر الله سرًا بينما يصرف تفكيره من هذه الجهة وقُذف بعقله شيء آخر.. 
شخص يتسلل للمشفى حتى غرفتها .. وردة فعلها تجاهه عكس السكون الذي تنتهجه..
إذًا هي بخير!!
توسعت أعينه عند هذا الهاجس، فهل من الممكن أن تكون بخير، ومَن هذا الشخص المجهول!!
لكن هذا لا يُغير من أنها مُعرضة للخطر..
توارى ووقف في أحد الزوايا المخفية عندما رأى هذا الشخص يتحرك للخارج متنكر بزي ممرض وقناع طبي..
عاد قيس لغرفته بوجه مُجعد وكثير من التساؤلات هاجت بعقله وقد أصبح كل شيء أمامه ضبابي..
جلس خلف مكتبه مستندًا على سطحه بذراعيه ليغرق في التفكير العميق حتى ألمه رأسه، رفع أصابعه وأخذ يُمسد رأسه بإرهاق ليغفو جالسًا بعقل تائه...
          ______بقلم/سارة نيل______
بغرفة قدر جلست فوق فراشها وبين يديها هذا الدفتر الذي دسه هذا الطبيب المختلف إليها، ابتسمت بشرود لتتفتح ملامحها الجميلة رغم ذبولها، أخذت القلم بين أصابعها تتحسسه بسعادة ثم شرعت تفتحه ونقشت تكتب في الصفحة الأولى بخط متوسط وأعينها تضوي هذه المرة ببريق السعادة..
"حامي الحِمى" 
تنهدت براحة ليغرق عقلها في هذه الذكرى التي كانت البداية لكل شيء، اليوم الذي تغيرت عنده حياتها وأصبحت تكتسي بالسواد..
في بلدة متواضعة يُميزها طيبة قلوب ساكنيها ومع بدء أول خيط للصباح والشمس لم تخرج بعد على حافة الشروق، انتشر الرجال عائدون من صلاة الفجر واستقيظت النساء والفتيات من ثباتهم بعد ليلة هادئة انتهت بنومٍ عميق باكر..
ضجت المنازل بالحيوية وانتشرت رائحة طعام الأفطار الشهي..
وفي هذا المنزل المتوسط الذي يعمه السكينة والودّ..
توقفت قدر تتخصر بتذمر أمام باب المطبخ ثم هتفت بإمتعاض:-
- أنا مش عارفة أيه السرّ العجيب في أنكم تعملوا فطار يوم الجمعة فطير..
الناس تفطر على حاجة خفيفة كدا على معدتها وإحنا يا عيني نصدمها بفطير مشلتت بالقشطة..
لوت السيدة حليمة والدة قدر فمها بتحسّر ثم أردفت:-
- أو ممكن مثلًا بلاش الفطير علشان عندي بنت مش عايزه تكلف نفسها وتساعد قبال أمها.!
وعلى أساس معدتك المسكينة مش هي إللي بتلهف الفطير بتاع الصبح ده..
أبوكِ وأخواتك وأنتِ بتحبيه وبطلي لماضة وأيدك معايا علشان نطيبه..
ارتفعت ضحكات قدر في المنزل ودلفت تحتضن والدتها بشغف وتقبلها وهي تقول:-
- عيبك أنك فهماني صح يا ست قلبي..
يلا أوريكِ شطارة قدر يكش يطمر في الجحشين رائف ورائد عيالك الطفسين..
وبمجرد انتهاءها من سبّها حتى دلف المطبخ شابان في السادسة والعشرون من عمرهم يكبروا قدر بخمس سنوات، هرعوا نحوها لتبدأ معركتهم الصباحية وصاح رائد بعنفوان:-
- جحش لما يطيرك يا قدر بُني غبّش على حياتنا..
بينما قال رائف وهو يضربها على رأسها من الخلف بخفة:-
- الناس تقوم الصبح تقول أصبحنا وأصبح الملك لله وأنتِ من الصبح جارة شكلنا كدا..
خليكِ شاهدة يا حليمة على بنتك..
وكعادة كل صباح خرجت صرخة من حلق حليمة لفضّ تلك المعركة بينما تجذب مغرفة الطعام الثقيلة ليسرع ثلاثتهم هارعين لغرفهم بحماية..
أخذ يقول رائف بصوت مرتفع بمكر:-
- ما أنا قولتلك يا سي رائف بلاش شيبسي بالطماطم ولا مولتو إللي جبناهم بليل وإحنا راجعين دول خسارة فيها يا عمّ..
أيّده رائد بمكره بينما يجذب شيء ما من الحقيبة البلاستيكية التي تجاوره وقال:-
- عندك حق يا رائف ..  يلا حلال علينا الشيبسيات والمولتو ده...
ولم يُكمل جملته حتى اقتحمت عليهم الغرفة بإبتسامة عريضة وهرعت تجلس بينهم تقول بحب:-
- أخواتي حبايبي .. ملايكه نازلة من السما، رائوفتي ورائودي أحن أخوات في المجرة..
تعرفوا أن إمبارح عملت حسابكم معايا واشتريت بيف مخصوص من إللي بينزل في قلبكم ده ودلوقتي هعمل حتة طاسة بيض بالبيف المعتبرة إللي أنا بعملها..
انهالت فوقها القُبل بمرح وحنان وأخذوا يدغدغونا بدلال لتنفجر ضحكًا فيقول رائف محتضنها:-
- قدرنا الأبيض إللي شبه النور وإللي محليّة حياتنا ياض يا رائد..
جذبها رائد لأحضانه يقبل فروة رأسها وقال:-
- هو أنا أقدر على يومي ألا ما يبدأ بقدر حبيبة قلب أخوها..
لم يكن مجرد مزاح فقد كانت هي لحياتهم وهج ونكهة لا يستطيع الجميع التخلي عنها، ورغم عنفوانها وعصبيتها وقوتها التي لا يستطيع أحد مجابهتها فهم لها سند واحتواء وهم بأعينها العالم أجمع، تلقى منهم دلالًا واحتواء فهي أميرتهم الوحيدة..
تجمعت الأسرة والتفوا حول طعام الإفطار يتناولون في جو مليء بالسعادة والودّ والمرح..
وبعد الإنتهاء من الإفطار خرجت قدر حيث شرفة المنزل الأرضية الأمامية الواسعة والتي تطل على حديقة المنزل الصغيرة ثم الشارع تحمل أكواب الشاي الذي أخذت رائحة النعناع الطازج تفوح منه..
وضعته بالمنتصف حيث يجلس والديها وشقيقيها فوق الأرائك تحت أشعة الشمس الصباحية الدافئة..
رددت قدر بمرح:-
- شاي بالنعناع إنما أيه محدش يقدر يعملها ألا قدر، ربنا ما يحرمكم مني أبدًا..
لوى رائف ورائد أفواههم بضجر وأخذ رائد في الهمس بضحر:-
- يلا أسطوانة الشاي بالنعناع بتاعة كل يوم ... مكانتش كوباية شاي يعني..
طوقت قدر خصرها وصاحت بإحتقان:-
- سمعني صوتك يا سي رائد أنا عارفة بتقولوا أيه يا ناكرين المعروف .. مكانتش كوباية شاي يعني، ماشي بكرا لما ميبقاش في قدر هتتشوقوا على كوباية الشاي دي وتقولوا فينك يا قدر ولا يوم من أيامك..
لا يعلم والدها لماذا ارتجف من هذا الحديث، جذبها لأحضانه مُقبلًا رأسها بحنان ثم قال:-
- ربنا ما يحرمنا منك أبدًا يا نن عيني دا أنتِ الخير ونوارة البيت ده يا قدري الأبيض الجميل..
نظرت لشقيقيها بغيظ بينما قالت والدتها وهي تجذب كوب الشاي:-
- أقعد دلع فيها يا أبو ياسين لغاية ما شايفه نفسها علينا ومستقوية على أخوتها. 
قال فتحي والد قدر بحنان:-
- تستقوى وأعيش وأدلعها يا أم ياسين، ربنا يجعلها قوية طول العمر..
جلست قدر بأحضان والدها الدافئة وأخذت تأكل الأشياء التي قد ابتاعها لها رائف ورائد بتسلية..
قال والد قدر بسعادة:-
- صحيح يا ست حليمة .. ياسين كلمني وقال إن هيوصل على أول الأسبوع الجاي..
تهلل وجهها بسعادة لعودة ولدها البكري لتنطق بفرحة:-
- بجد .. يوصل بالسلامة يا كبد أمه والله واحشني أوي..
ابتهجت قدر وهتفت بسعادة:-
- يااه واحشني موووت حقيقي البيت من غيره ناقصه كتير ومش ليه أي طعم..
وأكملت بمكر وهي تنظر لرائد ورائف:-
- يلا بقاا يا أم قدر نقعد نفكر في الوليمة إللي هنعملها ... بس طبعًا لياسو فقط...
محشي مثلًا .. ولا نقول مكرونة بشاميل بتاعتي، هو بيحبها من إيدي جدًا .. وممكن لحمة بالصوص ...إللي أنا بعملها دي يا حليمة .. عارفها وياسو بيحبها أووي...
امتعض وجه حليمة لتقول باستسلام:-
- أنا معرفش في الأكل المايع إللي بتعمليه ده بس ياسين بيحبه مع إن عايزه أعمله أكل يرم عضمه..
بس يلا اعملي كل الوصفات إللي بيحبها..
سال لُعاب كلًا من رائف ورائد واللذان أسرعا يجلسون على جانبي قدر وأسرع يقول رائد بوّد واهتمام:-
- بقولك يا قدر أنا نازل الأسبوع ده المكتبة، في كتب نقصاكي أو نفسك فيها .. روايات ناقصة لأجاثا كريستي أو مجموعة هولمز..
بينما أخذ رائف يقول:-
- بقولك يا بت يا قدر أنا شوفت حتة فستان في المول مرسوم عليه فراشات كتير أوي إنما أيه لُقطة .. أنا أول ما شوفته قولت هياكل حتة منك، ولونه أيه .. لافندر كمان..
هنزل عالطول وأجيبه قبل ما حد ياخده..
رفعت قدر رأسها بكبرياء ثم هتفت بغرور بينما تقضم حبات الشيبس:-
- هفكر وأرد عليكم..
وكادوا يتحدثون إلا أن صوت طرق شديد جدًا على باب منزلهم الرئيسي جعلهم ينتفضون بفزع..
انتفضت حليمة وهي تطبطب فوق قلبها قائلة:-
- يا ستار يارب أيه الخبط ده ..استرها يارب..
بينما انتفخت أوداج قدر غضبًا وسارت خلف شقيقيها ووالدها نحو الباب وبمجرد ما فُتح الباب وجدوا الكثير من الجيران متجمهرين بينما يوجد رجال غرباء كثيرة جدًا تنتشر في كل مكان يرتدون بذلات سوداء ويتواجد آلات هدم كثيرة.
تسائل فتحي بتعجب:-
- خير في أيه..!
هبط رجل في بداية عقد الرابع من سيارة سوداء حديثة الطراز ولم يكن سوى عزيز البحيري الذي رمقه بكبرياء وأشار وهو ينفث دخان سيجارته وقال وهو يستدير مواليًا ظهره لهم:-
- اخلوا البيت علشان هنبدأ نهد...
وقعت الكلمات على الجميع كالصاعقة أخرست ألسنتهم إلا من تلك التي خرج هدرها وتشرست ملامحها وهي ترمقه باشمئزاز:-
- نعم!! هو أنت جاي تعرض جنونك علينا هنا يا مجنون ... روح اتجن بعيد عن هنا..
قال نخلي البيت شكل دماغك لاسعة..
توقف بتخشب واستدار ببطء ينظر لصاحبة تلك الكلمات المندفعة التي ستندم عليها حتمًا، طافت أعينه يجرفها بنظراته التي اتقد الشرر بها، ابتسم لتُفتح أبواب الجحيم وقال بوعيد وهو يتأمل أعينها الزبرجدية المتشرسة والمغمورة بالقوة وحجابها الطويل وملابسها الفضفاضة:-
- صبارة .. بتشوكي يا صبارة .. بس مش أنا إللي بتشوك .. المهم هتندمي على كلامك ده يا حلوة بس دلوقتي مفيش حتى فرصة تخلوا البيت، يلا برا..
أفاق رائد من صدمته وهرع يتهجم على عزيز ليطبق عليه رجال عزيز فيصرخ بشراسة:-
- لم لسانه وعينك يا قذر وملكش كلام مع أختي ومتقولش كلام هتندم عليه..
وهي سايبه ولا أيه ..  أيه تهدوا البيت ده، دا بيتنا ومش هنخرج منه على جثتنا..
ازدادت إبتسامة عزيز شيطانية وهو يرى تجرأهم عليه ليقول ببساطة:-
- خلاص يبقى على جثتكم عادي جدًا..
اندفع نحوه رائف يمسك عزيز من تلابيبه وصاح بوجه ناري:-
- أنت بتهددنا ولا أيه يا حيوان .. أيه البجاحة دي جاي تخرجنا من بيتنا علشان تهده..
لم تتبدل ملامح عزيز الشيطانية وقد هجم رجاله يبعدون رائف ويقيدون حركته بينما يناضل للتحرر وهو يصرخ بعنفوان..
قال عزيز ببرود:-
- صدقوني موقفكم ده هتندموا عليه واحد واحد..
انتفض فتحي وهو يرى حال أولاده فاقترب من عزيز وقال باستنكار:-
- حضرتك يا أستاذ بتخبط على بيتنا وبتهددنا وعايزنا نخرج من بيتنا والمفروض بكل خنوع وهدوء نخرج!!
أنت عايز أيه يا أستاذ!
حرك عزيز كتفيه بهدوء وأشار من حوله نحو المنازل التي تجاور منزل أسرة قدر:-
- لو بصيت على البيوت إللي جمبكم بكل بساطة خرجوا جيرانكم وفضوا البيت بكل هدوء، أنتوا ليه بقاا عاملين إزعاج، إحنا هنبني مخازن لنا هنا وعايزن الأرض دي كلها.
 ااه أنا عرفت أيه السبب في موقفكم ده متقلقوش ...أكيد في مقابل مادي .. هنرضيكم..
هرميلكم قرشين على الجزمة وأنتوا زي الكلاب مش هنسمع لكم صوت تاني..
مار داخلهم وتوسعت أعينهم بصدمة متخشبين وهم يرون مدى وقاحة هذا الشيطان..
كان كلًا من رائد ورائف مقيدين الحركة ووالد قدر أيضًا ... بينما والدتها منهارة ببكاء عنيف..
كانت هي الوحيدة الحرة بينهم .. جعلت كلماته النير'ان تشتعل بداخلها، اندفعت بكل غضب نحوه وأعينها ترميه بنظرات مستحقرة وبكل قوتها وغضبها رفعت كفها بأعلى ما لديها وسقطت به على وجه ليُحدث لسعة أسمعت الجميع وجعلتهم يصمتون وكأن على رؤسهم الطير..
بينما هذا الذي تصنم جسده التفت ينظر لها بهدوء ليردف بهدوء أثار ارتعاب والديّ قدر:-
- تعرفي ... اليومين دول أنا حاسس بملل رهيب، بس يبدو أن لقيت لعبتي إللي هتسلى بيها..
بوعدك يا صبارة إن هخليكِ تتمنى الموت ومش تطوليه .. والقلم ده هخليه أهون حاجة من إللي هتحصلك..
وأشار لرجاله يقول:-
- نفذوا..
نظروا جميعًا بصدمة واجتمع الكثير من الرجال حول رائد ورائف الثائران يحكمون تقيدهم وبالمثل مع والديّ قدر التي جاءت تركض نحوهم لكن قضبة حديدة حول ذراعها جذبتها مرة الأخرى، ظلت تتلوى بمناضلة بينما يصرخ رائد ورائف ووالدهم..
- سيب أختي يا حقير ...والله لأقطع إيدك يا حيوان ...
- نزل إيدك عن بنتي يا شيطان..
انتفضوا على حركة ألآت الهدم التي تقدمت نحو منزلهم تقتحهمه وهم يرون منزلهم ينهار ساقطًا صرخت قدر وأعينها تفيض بدمعها:-
- لاااااااااااااااااااااا.
صرخت والدتها وهي تتململ تحت أيديهم بجنون وجميعم يحاولون تخليص نفسهم لكن كان كل شيء انتهى وهم يشاهدون منزلهم يسقط أمامهم في مشهد يدمي القلب..
المنزل الذي شهد على سعادتهم ومرحهم وحزنهم وجميع ذكرياتهم متعلقة بجدرانه، لقد كانوا قبل دقائق يصرخون بصخب سعداء ويرتشفون الشاي بالشرفة ببساطة وسعادة..
صرخت قدر وهي تحاول تخليص نفسها بينما تراهم يجرون والديها وشقيقيها الذين أُبرحوا ضربًا نحو أحد السيارات:-
- بابااااااا .... مااامااااااا .. رااااائف ... رااااائد..
لاااا ..  استنوا .. واخدينهم على فين..
جذبها بقوة يُقيدها بعدم رحمة بينما يهمس وهو يُلقيها بسيارته أمامهم:-
- هما كمان هيتعاقبوا على وقفتهم قدامي، زي ما أنتِ كمان هتتعاقبي..
ملي عينك منهم لأن دي أخر مرة تشوفيهم..
صرخ رائف بجنون بينما يجرونه وهم ينهالون عليه ضربًا بعصا ثقيلة:-
- قــــــــــــــــدر  .....  لااااااااااا
سقط رائد أرضًا بينما جذب عزيز سلاحه ضاغطًا دون تردد فوق الزناد لتنطلق رصا'صة تخترق صدره ليصرخ ساقطًا:-
- قــــــــــــــــدر  ... أختــــــــي.. 
صرخت قدر وهي تعافر بكل قواها بينما تنظر لشقيقها الساقط أرضًا بفزع وجأرت بأعين تجمد بها الدمع حتى بُحّ صوتها:-
- راااائــــــــــــــــــد.. 
وهنا اختفى صوت قدر للأبد واختفى معه صوت شقيقيها ووالديها التي رأتهم يسقطون أرضًا بانهيار وانهزام لتكون المرة الأخيرة لرؤياها حتى الآن...
عادت قدر بذاكرتها إلى الحاضر على اقتحام قيس للغرفة ...وقف أمام فراشها ثم قال مباشرةً دون مراوغة:-
- قدر لازم تهربي من المستشفى دي، خلي عندك ثقة فيا يا قدر .. أنا ملجأك هنا صدقيني..
كان يتوقع صمتها وعدم استجابتها لكنها لدهشته ابتمست بهدوء وهمست ليسمع صوتها الذي جعله يتخشب بصدمة دون تصديق:-
- حامِي الحِمى...
يُتبع..~
- حامِي الحِمى...
هذا الصوت .. يعرفه قلبه جيدًا، هذا الصوت لو وُضع بين ألآف الأصوات لا يُمكن أن يُخطأه قلبه..
لكن كيف؟!
هل هي حقًا..!!
طال سكوته وعزوفه لكن كان الضجيج بقلبه على أشده، قلبه الذي تقاذفت نبضاته بشكل جنوني، أخرجه من دوامته صوتها الذي جعله يُغمض جفنيه يُشدد عليهم بقوة..
الصوت الذي هرب منه بعدما مال قلبه وأصبح يُشكل خطرًا عليه وعلى مبادئه، الصوت الذي كان يطارده في أحلامه وبكل مكان.
ابتسمت قدر بخفة فهي تعلم سبب حالته وصدمته وقالت بهدوء:-
- ليه عايز تحميني .. وأهرب معاك من هنا بأي صفة!!
استدار للجهة الأخرى يهرب منها ومن نفسه ومن المشاعر التي يتخم بها قلبه، ولا سبيل لتثبيط نبضه المجنون..
كتم صراخ كاد أن يتفلت من بين حناجره، أخشى عليكِ من نسمات الهواء الشديدة، لا أطيق أن أراكِ تؤذين، سيلان من الغضب الذي لم أختبره بحياتي يسري بدمائي لأجلك، مشاعري وقلبي أصبحوا يجأرون بكِ..
إلى هذا الحد يكفي..
لن ينجرف مع مشاعره تحت إطار الشيطان، ولن يواري بذرة العشق التي ترعرعت بقلبه منذ عامان، هو يستحق أن يحيا ويُغدق بالعشق، يستحق أن يحيا تلك المغامرة وهذه الحياة..
التفت يقول غاضضًا بصره:-
- ممكن تقولي علشان دا واجب أي دكتور عنده ضمير وبيخاف رب العالمين..
أظن أنتِ مش مريضة ولا وصلتي للحالة إللي بتتظاهري أنك عليها يا قدر..
أما بالنسبة للقسم التاني من سؤالك، تهربي معايا من هنا بأي صفة..
ممكن بصفتك مراتي .. نتجوز يا قدر، لو وافقتي النهاردة من هيعدي ألا ما تكوني على اسمي..
ووعد مني إن محدش هيقدر يأذيكِ ولا يطول شعره منك، وهحارب الدنيا دي كلها علشانك..
لما تبقى مراتي ساعتها ولا المستشفى ولا أي مخلوق يقدر يقف قدامنا..
اسمحيلي أفهم أيه إللي حصلك وأيه إللي بيحصل، أنا شوفت الحقير إللي جه هنا إمبارح وكان بيهددك وإللي عايز يتخلص منك، دا شخص مريض لأبعد الحدود، أمر أنهم يعطوكِ علاج بيعمل هلاوس وبيسبب الجنون وهيسلمك بكل سهولة للموت والكل هنا مُجبر إن ينفذ أوامره..
وافقي نتجوز علشان مفيش أي حدود تمنعنا ويكون بيني وبينك حواجز، وافقي علشان أعرف أنتِ مين..
ظلت على حالتها الهادئة وهاجم ذاكرتها ومضات ماضية منذ عامان فابتسمت وهتفت بغموض:-
- متأكد إن قرار الجواز ده غرضه حماية وبس يا دكتور ولا وراه قصة تانية وغرض آخر..!!
تذبذب قلبه للوهلة الأولى فهل استشعرت ما يكنّه قلبه لها وقبل أن يبرر قاطعه صوتها تقول بنبرة غريبة:-
- النا'ر دي نا''ري لواحدي وبس ومش هسمح لحد يتحر'ق فيها، أنت قولت بلسانك محدش قادر يقف قدامه .. يبقى ليه تإذي حياتك وتإذي مستقبلك وأكيد عندك أحبابك إللي محتاجينك وبيخافوا عليك..
ابتسم بمرارة فعن أي أحباب تتحدث!!
ألا تعلم أنه فريسة الوحدة؟!
تخشب جسده قبل أن يُجيبها حين استقامت وسارت حتى وقفت أمام النافذة الدائرية الصغيرة ونظرت للظلام المعتم بالخارج، كانت تواليه ظهرها فرفعت كفها تضعه فوق قلبها ثم أغمضت أعينها تشدد على جفتيها قائلة لحاجةٍ في نفسها:-
- بس دا ميمنعش إني موافقة على الجواز يا حامِي الحِمى...
توسعت أعين قيس بصدمة وعدم استيعاب تجاوزه سريعًا وهتف متسائلًا بنبرة حادة وقلب يتآكل:-
- مين إللي كان عندك بعد نصّ الليل .. وكان حاضنك وإزاي قدر يدخل لغاية هنا..
التفتت له مبتسمة بحنين ثم أجابت ببساطة ودون مراوغة أدهشته:-
- أخويا ... ياسين..
لن يُنكر تلك الراحة التي غمرته والتي دلت عليها تنهيدة طويلة لكن تلك التساؤلات التي تعجّ بعقله لم تهدأ بعد، شقيقها .. لكن قد أخبروه أنها لا أحد لها!!
ولماذا يتسلل شقيقها بهذه الهيئة للمشفى ويترك شقيقته في هذا الأمر؟!
بينما هي فيكفيها شعورها بالأمان الذي تسلل إليها لتُخبره بهذا السرّ الذي لا يعلم أحد عنه شيء...
يعلم قيس أن الأمر ليس بهذه السهولة، إنها بمثابة أرض مجهولة وسيكون هو مكتشفها سيكشف اللثام عن المجهول كاملًا وسيجعلها تسكب بين ذراعيه آهاتها ودموعها..
تنحنح قيس وأردف بحسم به بعض التحدي لهذه المشفى اللعينة:-
- بكرا .. هجيب المأذون معايا لهنا وهنكتب كتابنا.
وخرج من الغرفة تاركًا قدر التي تقف أمام النافذة بصلابة وأعين شاردة بعيدًا..
التفتت وسارت نحو الفراش ثم جثت تنزع الغطاء، مدت يدها تسحب من وسط الوسادة  الكبيرة من بين القطن شيئًا ما أمسكته بلهفة مقررة ما ستفعله..
           _______بقلم/سارة نيل_______
سواد الليل الجاثم على الأرجاء اختلط بهذا الغبار الدخاني الذي أخذ في التصاعد والتزايد، فالنا'ر المشتعلة أخذت تلتهم كل ما يقابلها بسرعة البرق. 
نا'رٌ عاتية شديدة غاضبة أصبحت قاتمة من شدتها لم تُبقي شيء .. نا'ر أشعلتها وكان وقودها نا'ر الإنتقام، فأصبحت نا'ر على نا'ر..
خرج هذا المجهول مستندًا على الشجرة يُشاهد ألسنة النير"ان الغاضبة والغبار الأسود يزيد من قتامة ثوب الليل..
نمت إبتسامة ظافرة فوق فمه وأعينه تمشط المكان المهجور أو لنقل السري..
مجموعة كبيرة من مخازن عائلة البحيري التي يقطن بها ذخيرة عملهم ومستقبلهم قد أصبحت الآن رماد...
مخازن أخفوها عن أعين الجميع في مكان لا يستطيع أحد الوصول إليه ولا يعلم بأمره سوى القليل جدًا..
استدار راحلًا بابتسامة واسعة تاركًا خلفه نيران بأصوات مخيفة قد سترها الليل وموعدهم معها الصبح أليس الصبح بقريب!!
            ________سارة/نيل________
مع إقتراب خروج الصباح بمناء تتراص به السُفن التجارية الضخمة اقتربت سفينة مُميزة تحمل اسم البحيري ومع إقترابها كان تقتحم قوة عسكرية من رُتب خاصة الميناء سيطرت على الجميع..
ردد القائد سليمان وهو يُشير نحو سفينة شركات البحيري:-
- الكل يبعد .. التفتيش والفحص من مسؤوليتنا..
ووقف الجميع على الرصيف الخاص برسو السفن تحت ترقب العاملين والضباط المسؤولين وتوترهم..
بعد مرور الكثير من الوقت ومع ظهور خيوط الصباح الأولى صاح القائد بوجه مكفهر بينما أصبحت السفينة تلتف بالشرائط:-
- احجزوا على كل حاجة وفضوا المينا والبضايع دي تنقولوها للمخازن الخاصة بينا..
           ______بقلم/سارة نيل______
عاد لمنزله في الصباح بعدما مرّ على غرفة قدر فوجدها غارقة في ثباتٍ عميق..
أراد تبديل ملابسه للإستعداد لهذا اليوم المُميز..
مسح منزله الصغير المتواضع بنظرة حانية، هذا المنزل الذي عاشت به والدته حتى توفاها الله، منزل يحمل ذكرياتهم معًا..
يتذكر كيف دائمًا ما كان يقف بجانبها في مطبخها البسيط وهي تطهو وتصنع له كيك اليوسفي المفضل له بينما مرحها وصوت ضحكاتهم يطوف بالمنزل..
كان يعشق المطبخ على عشقها له ويحب مساعدتها..
وقف بالمطبخ يصنع كوب من القهوة ليسترد نشاطه وتركيزه وسرعان ما انتشر رائحتها الرائعة بالأرجاء، سكبها بالكوب وجلس فوق أحد مقاعد تلك الطاولة المستطيلة البيضاء التي تتوسط المطبخ..
ابتسم بحنين وهو يتلمس كُتبها القديمة التي معظمها عن علم النفس والتي كانت تحرص أن تضعها بأحد أركان المطبخ، فقد كانت تفضل الجلوس وقت فراغها هنا وأمامها كوب قهوتها وبين يديها كتاب..
لقد كانت بسيطة، جميلة، مُحبة للحياة، ومتفائلة تلون حياته بالألوان الزاهية والبهجة، لكن كل هذا إنتهى برحيلها .. وها هو يجلس بمكانها المفضل لكن بدونها .. وحيدًا كحالة دائمًا من بعدها..
عاد بذاكرته إلى هذا اليوم حين وقف والده يخبره بكل هدوء وهو يحزم أشياءه وملابسه برحيله..
أردف ناصر والد قيس وهو يحمل حقيبته بينما يقف طفل بعمر العشر سنوات يُنكس رأسه للأسفل ثم رفع رأسه لتتبين أعينه المليئة بالدموع ويقول بحزن يمزق القلوب:-
- أنت كمان هتسيبني يا بابا .. طب أنا هفضل لواحدي إزاي .. هفضل هنا لواحدي، طب خدني معاك وهبقى مؤدب..
انحنى ناصر يقبض على كتف قيس يقبض عليه ثم أردف بقوة:-
- أنت كبرت ومبقيتش محتاج حد يا قيس، لازم تعتمد على نفسك، هيحصل أيه يعني لو فضلت لواحدك، المكان هنا آمن والجيران كويسين، مدرستك بينها وبين البيت شارع وكل حاجة موجوده في البيت .. شوف مصلحتك أنت مش محتاجني .. أنا لازم أسافر علشان أشتغل وعندي مسؤوليتي وكل فترة هاجي أشوفك..
يلا مع السلامه خد بالك من نفسك..
وخرج ليبقى قيس طفل في العاشرة وحيدًا بمنزل شهد طفولته ظلّ ينظر من حوله بتيهة ثم سار نحو فراش والدته يتكوم فوقه حتى ذهب في ثبات عميق..
ومرت الأيام وأصبح قيس ملزومٌ من نفسه، يستيقظ على منبة والدته صباحًا يرتدي ملابسه ويذهب ركضًا إلى مدرسته بعدما يحتفظ بمفتاح المنزل بجيبه بعناية ثم يعود للمنزل يُغلق الباب جيدًا ويقوم بصنع شطائر الجُبن ثم يصعد على مقعد صغير أمام حوض غسل الأواني يغسل الأطباق ويبدأ بمذاكرة دروسه...
وظل على هذا الحال حتى علم الشيخ رضوان بالأمر فتولى هو وزوجته الاعتناء بقيس ورغم هذا لم تُكسر وحدته، فمنذ أن أتم الخامسة عشر ووالده لم يأتي إليه حتى تلك المرات التي كان يكلف نفسه بها مرسلًا له النقود..
خرج من تلك الذكريات التي تتلبسه ليمحق تلك الدمعة التي خانت جفونه وسقطت وهمس بمرار:-
- الله يرحمك يا أمي ويرزقك الفردوس الأعلى..
خرج من المنزل ثم طرق باب منزل الشيخ رضوان الذي أطلّ عليه ببشاشة فابتسم قيس بود وهو يقول بمرح:-
- صباح الفل على سعادة الشيخ رضوان والدي العزيز .... 
ابتسم رضوان وهو يفسح له المجال قائلًا:-
- صباح الخيرات على دكتورنا الغالي .. ادخل أمك حليمة عاملة فطار معتبر..
تنحنح قيس وقال بجدية:-
- بالهناء على قلوبكم يارب أنا شربت قهوة .. المهم أنا عايزك في حاجة مهمة يا شيخ رضوان وفي موضوع مهم عايز أكلمك فيها..
أثار حديثه قلق رضوان الذي تسائل باضطراب:-
- خير يا قيس قلقتني..
- محتاج مأذون موثوق منه ضروري، ممكن نكلم الشيخ مُحسن المأذون..
             _______بقلم/سارة نيل______
كان هذا الصباح في قصر البحيري يختلف بكل المقاييس.. لقد انصبت المصائب فوق رؤسهم صبًا..
احتراق مخازنهم التي تحتوي على جميع شحنات عملهم..
وقف جعفر يجأر بملامح متشرسة:-
- إزاي دا يحصل ... بيتنا اتخرب .. مين بيعمل معانا كدا ... عزززززيزززز..
أتى عزيز الذي كان يقوم ببعض المهاتفات بوجه منتفخ غبضًا ليصيح بجنون وشراسة:-
- المسؤول عن إللي حصل مش هيكفيني فيه عمره، هخليه يتمنى الموت ولا يطوله. 
بقى شغلي إن أوصل للي بيعمل معانا كدا..
اقترب جعفر منه يرمقه بشر ثم قال من بين أسنانه بوعيد وهو يطبق على تلابيبه:-
- ٤٨ ساعة يا عزيز .. لو المسؤول عن إللي حصل مكانش قدامي هعتبرك المسؤول..
ارتفع رنين هاتف عزيز وعندما نظر لهذا الرقم أجاب على الفور ليأتي صوت إحدى الممرضات بمشفى السبيل تقول بهمس:-
- عزيز باشا .. في حاجة مهمة عن الست قدر لازم تعرفها .. والدكتور الجديد..
يُتبع..~
- ليه عايز تتجوزها، عايز تتجوز قدر أختي ليه يا قيس؟!
نمت إبتسامة حانية فوق فم قيس بينما يقف أمام ياسين شقيق قدر أو لنقل المقدم ياسين بصحبة الشيخ رضوان والشيخ محسن المأذون بالقرب من المشفى..
ياسين شاب تعدى الثلاثون من عمره وجهه مُغلف بغموض عجز قيس على تحليله وفهمه، كان ينظر له بثبات وأعينه بها شدة وبأس .. أعين وملامح لا تبتسم .. هكذا كان ياسين..
أردف قيس بهدوء وصدق مباشرةً:-
- أنا راجل دغري يا ياسين .. وأحب أقولك الحقيقة .. علشان أنا عاشق .. بعشقها بس هي متعرفش حاجة عن مشاعري ولا ينفع أنا أصارحها بيها ألا تحت إطار الحلال وهو إطار الزواج..
ظل وجه ياسين ثابتًا لم ينمو فوقه شيء وضيق أعينه متذكرًا حديث قدر شقيته عبر الهاتف ليلًا، حديثها عن قيس وطمأنته بأنه شخص جيد وقد أخبرته سابقًا عن حمايته لها وشجاعته..
إذًا قيس في هذه المعركة مكسبًا لهم..
تأمله ياسين عن كثب، الصلاح الذي يُنير وجهه والصدق الذي ينبثق من عينيه...
طرح ياسين سؤالًا بصوته الرخيم:-
- وأنت تعرف أيه عن قدر يا قيس..!!
هدر قيس بصوت متأجج وعروق وجه منتفخة:-
- أعرف إن في شخص مريض حقير بيطاردها وهو أكيد السبب في وصولها للمكان ده، وإنه عايز يإذيها ويد'مرها ... أنا مش عارف أصل الحكاية يا ياسين بس قلبي عارف قدر وفهمت إشارة ربنا صح ودا يكفيني..
جملته الأخيرة كانت بمثابة لغز لياسين الذي جعد جبينه بتعجب لكن كان قيس يُكمل حديثه:-
- أنت واضح أنك شخص لا يُستهان بيه يا ياسين مش عارف إزاي سايبها في المكان ده وأنت متأكد إن الخطر بيحاوطها .. إزاي سايبها تحت إيد الشخص ده حقيقي أنا مش فاهم حاجة..
وضع ياسين كفيه بجيبه وابتسم إبتسامة فاترة قبل أن يردف بغموض أكبر:-
- مش يمكن ده هدفنا وخطتنا يا دكتور.!
تفاقم جهل قيس وردد بعد فهم:-
- إزاي مش فاهم!!
- لنا قاعدة طويلة يا قيس مع بعض دا مش وقتها، المهم هتنفذ إللي هنتفق عليه بالحرف الواحد .. وأنا شايف من رأيي أننا نخرّج قدر من المستشفى وبعد كدا نكتب الكتاب..
خرج صوت قيس قاسٍ بتحدي:-
- لا... في قلب المستشفى وفي الغرفة رقم ٢٠..
نمت إبتسامة ياسين الواسعة لهذه القوة التي يراها بأعينه وقد فهم مقصده ليتيقن أن قدر أصبحت بين أيدي أمينة الآن..
أتت فتاة تهرول باتجاه ياسين تقول لاهثة ليحاوطها هو برفق وتلين ملامحه:-
- ياسين .. ياسين وقت الراحة ومش هيبقى فيه مرور لمدة ساعة .. يدوب يا ياسين بسرعة..
أمسك ياسين يدها برفق وقال:-
- إهدي يا مرح .. إهدي يا حبيبتي.
ومن الوهلة الأولى فور أن وقعت أنظار قيس على ملابسها أردف:-
- أنتِ ممرضة في مستشفى السبيل صح..
حرك ياسين رأسه وقال بجدية:-
- مرح صاحبة قدر المقربة ومراتي والجندي السري إللي بيحمي قدر جوا المستشفى وعنيا جوا كمان..
يعني تقدر تقول إللي بيغير علاج قدر المُضر، إللي بيتلاعب بجهاز الصعقات...
وإللي عزيز البحيري القذر معينها جاسوسة على قدر..
اندهش قيس وتوسعت أعينه بدون تصديق وهو يسمع لتلك المخططات الدقيقة السرية التي يقوم بها ياسين...
أخرجه من شروده قول ياسين:-
- لازم نتحرك دلوقتي الوقت بيعدي..
انحنى قيس يسحب حقيبة كبيرة من سيارته وساروا جميعًا باتجاه المشفى التي يبعدهم عنها خطوات بسيطة..
تسائل قيس:-
- طب أنت والمأذون والشيخ رضوان هتدخلوا إزاي يا ياسين..
تبادل ياسين النظرات مع مرح وأردف بثقة:-
- دي عليا أنا، أدخل أنت والشنطة مرح هتاخدها وهندخل بطريقتنا..
قال قيس بمرح:-
- واضح أنك جامد يا ياسين باشا..
اشتدت أعين ياسين قسوة وهتف من بين أسنانه:-
- لازم أكون كدا علشان خاطرهم، ويلا أدخل أنت عادي علشان محدش يشك في حاجة..
تحرك قيس وقبل أن يدلف تسائل مرةً أخرى ببعض الفزع:-
- طب الكاميرات يا ياسين..!
ابتسم ياسين وردد ببعض المرح:-
- ما أنا قولتلك مرة أنا موجود يا دوك..
ابتسم قيس ببشاشة وهمس وهو يدلف:-
- مش ساهل يا ياسين وغامض زي أختك..
ارتفع رنين هاتف ياسين الذي أجاب من فوره ليأتيه صوت من الجهة الأخرى مردفًا:-
- كله تمام يا ياسين .. أحب أطمنك شحنات شركات البحيري اتصادرت والقوات في طريقهم لقصر البحيري ... وأخيرًا وقعوا في إيدنا يا ياسين..
بس الخوف من الناس الكبيرة والخونة إللي ورا جعفر البحيري يطلعوه منها زي الشعرة من العجين..
هتف ياسين بثقة ووجه يتلظى بالنيران:-
- مش المرة دي .. المرة دي الموضوع في إيد الجهات العُليا أوي والجهاز المركزي، المرة دي الفضيحة كبيرة .. المرة دي مش أسرة الحاج فتحي الراجل البسيط إللي في حاله .. المرة دي مش فتحي وحليمة ورائف .. المرة دي مش رائد إللي انضرب بالرصا'ص .. المرة دي مش قدر..
كان يتحدث والنيران تنبثق من أعينه وتشتعل بقلبه ... حُمم بركانية تسري بأوردته..
اقتربت مرح منه تُمسد ذراعه بقلب متألم لهذا العام المرير الذي مرّ عليهم وتلك الفترة التي عاشها ياسين الذي بلغت أوجاعه عنان السماء..
الجميع كان يحيا بهدوء وبساطة إلّا أن هجم هؤلاء الشياطين على حياتهم فجعلوها خاوية على عروشها..
كانت صديقة قدر المقربة بل الشقيقة التي لم تلدها والدتها، تمت خطبتها لياسين وتم عقد قرآنها لكن لم يتم الزفاف..
ياسين الذي أتى منكبًا على وجهه بعد تلك المُهمة التي كُلف بها بخارج البلدة، أتى بعد غياب وتعب ومشقة وشوق لعائلته الصغيرة، أتى مُحمل بالهديا .. جلباب أبيض لفتحي ورداء جميل ستسعد حليمة عند رؤيته وساعة اليد التي يتمناها رائد والقميص الذي يُفضله رائف..
بينما قدر .. قدره السعيد كما ينعتها فحدث ولا حرج .. لقد قام بجلب القائمة التي أحضرتها قدره السعيد .... لكن أين هم ... أين منزلنا .. لم يجد قدر .. لم يجد والديه باستقباله لم يقابله أصوات شجار أشقاءه رائد ورائف مع قدر .. لم تقابله رائحة طعام حليمة ووصفات الطهي الخاصة بقدر..
فقط خراب ... سكون مهيب ... وانتقام على مشارف الأبواب..
حين أخبره الجيران ووالد مرح بما حدث سقط على ركبتيه كالطفل يصرخ صراخ ملأ الأركان، صراخ متمزق ودموع حارة انغمست بلحيته وأعينه ينبثق منها شرار يرتجف له الأبدان..
لو لم يتحكم بلجام غضبه، لو لم يحثه والد مرح على عدم التهور لأجل عائلته التي تحتاج إليه لكان مصيره مصيرهم لم يكن ليصل لقدر ويجعلها بين يديه وتحت أنظاره بحِنكة..
حتى وصل لهذه الخطوة لقد مرّ بالكثير، تخطيط محكم دقيق عمل عليه لعامٍ من الحزن..
هذا العام جعله وحشًا كاسرًا..
         _______بقلم/سارة نيل______
دلفت مرح لغرفة قدر بأنفاس متسارعة وبيدها الحقيبة التي أعطاها لها قيس..
كانت قدر تجلس فوق الفراش وبيدها مرآة صغيرة تخبئها أسفل الفراش، أخذت تتحسس أسفل أعينها وبشرتها بشرود، ثم كشفت عن كتفها لتنظر لتلك الندبة البشعة التي تأكل كتفها بقسوة..
اشتعلت أعينها بقسوة وهي تتحسسها لتقبض على كفيها بشدة حتى أبيضت مفاصلها وأخذ صدرها يعلو ويهبط بإنفعال واضح..
اقتربت منها مرح بحنان بعدما أغلقت الباب بإحكام هتفت بلهفة:-
- قدر أنتِ كويسة..
اكتفت قدر بتحريك رأسها فسحبتها مرح بحزن لأحضانها قائلة:-
- كابوس وانتهى يا قدر .. الحياة الجديدة السعيدة في إنتظارك، هتاخدي حقك منهم وإن شاء الله زي ما ياسين وصلك هيوصل لبابا فتحي وأمي حليمة ورائد ورائف..
همست قدر بفزع وهي تضع يدها فوق صدرها نحو الموضع الذي اخترقت ر'صاصة القذر عزيز صدر رائد ودموعها جامدة بمقلتيها:-
- رائد...
- أنتِ في البداية يا قدر .. لسه البداية بس، وخلاص بعد دقايق هتتجوزي قيس وهتبقى في حمايته هو ياسين..
واضح أنه شخص كويس وبيحبك يا قدر..
لازم تجهزي يا قدر الوقت ضيق جدًا .. قدمنا أقل من ساعة..
رددت قدر بتعجب:-
- أجهز..!!
فتحت مرح الحقيبة وأخرجت منه فستان أبيض فضفاض توسعت أعين قدر عند رؤيته، فستان أبيض من الحرير الناعم النقي وعند الخصر حزام رفيع من البلور الأبيض ويهبط باتساع وعند نهاية الأكمام أساور دائرية من البلور وبرفقته حجاب أبيض طويل ساتر..
لم تتوقع قدر هذا أبدًا، لم يكن بحسبانها أن ترتدي الأبيض..
تحسسته بأعين غائمة فقالت لها مرح بسعادة:-
- حقيقي الدنيا دي ضيقة أوي يا قدر مين يصدق أن هو نفسه دكتور قيس البنا!!
عند قيس وقف شاردًا منتظرًا مهاتفة ياسين على أحر من الجمر، تنهد مغمضًا أعين وتلك الذكريات تموج بعقله...
منذ عامان..
عاد من المشفى بإرهاق فارتمى فوق الأريكة بتعب ليقترب منه صديقه محمود قائلًا بتسائل:-
- يعني أنت إللي هتابع الكورس ده يا قيس، هتشرح محاضرات على الزوم وزي ما أنت قولت نفتح المحادثات معاك علشان لو في أي استفسارات..
فقد تطوع قيس بإلقاء محاضرات في علم النفس تقربًا لوجه الله للإفادة، وكان ممن هرعوا لتلك المحاضرات الكثير من طُلاب كلية آداب قسم علم نفس وكليات الطب النفسي وطُلاب انضموا للإستفادة والثقافة، وتكاثر الجميع عندما علموا أن من سيلقى المحاضرات هو طبيب نفسي مشهور ناجح يعمل في أشهر المشافي بالخارج الطبيب قيس البنا..
كان ممن قاموا بحضور تلك المحاضرات قدر وصديقتها مرح..
ومرت الأيام حتى أصبح هذا الحساب باسم "تركواز" والذي يميزه صورة أمواج زبرجدية يحوز على تفكير قيس بطريقة مخيفة وبالأخصّ عندما استمع إلى صوت تلك الفتاة الذي يجهل اسمها وهويتها..
وأصبح يغرق أكثر وأكثر حتى شعر بمشاعره تنجرف نحو منحدر خطير يتخطى حدوده وصوتها الذي يتردد صداه بعقله وأذنيه لا يفارقه..
حتى أصبح ينتظر موعد المحاضرات ويترقب تساؤلاتها الصوتية التي كانت تظهر له فقط على شوق وترقب، كلماتها المستفسرة في إطار الشرح فقط كان لها وقع على قلبه من بين جميع الحاضرين..
لكن كان يجب أن يستفيق من تلك المشاعر ويتخلص من صوتها الذي يحفظ نبرته الرقيقة البريئة عن ظهر قلب..
همس قيس متنهدًا بعدما انتهى من صلاته:-
- يارب ساعدني وقويني وشيلها من قلبي وعقلي، أنا مش عارف دا حصل إزاي وإمتى بس غصب عني يارب .. يارب احفظ قلبي من الفتن والمعاصي وأبعد عني كل إللي لا يرضيك أو يغضبك...
وهنا تم الإعلان عن إنسحاب الطبيب قيس البنا واستلام الطبيب محمود صديقه زمام الأمور، انسحب مؤمنًا أن من ترك شيء لله عوضه الله بخيرٍ منه..
خرج قيس من شروده على صوت رنين هاتفه ليتنهد براحة فها هو يُرزق بها في الحلال بعدما امتنع هو عن ميل قلبه لها وخشى الوقوع في الذنب ... لقد عوضه الله بالخير..
اقترب من الغرفة رقم ٢٠ ونبضات قلبه تثور بجنون .. دلف للداخل والسعادة تملأ قلبه ولم تُرفع أعينه بقدر التي تقف كملاك ترتدي فستانها الأبيض الفضفاض وحجابها الذي اشتاقت إليه فزادها جمالًا وفتنة..
خشى رفع أعينه بأعينها الزبرجدية قبل أن تصبح زوجته فيعجز عن رفعها عنها وتسحبه إلى هاوية لا نهاية لها...
رأى ياسين والشيخ رضوان والمأذون يقفون بمنتصف الغرفة، تعجب من كيفية دخولهم لكن لم يكن هذا توقيت التساؤلات فقد جلس المأذون يُجري محادثات عقد القرآن تحت سعادة قيس التي لا مثيل لها وخفقان قلب قدر الذي غاب عامان بعد المرة الأولى ليخفق للمرة الثانية لنفس الشخص ... لا تصدق أنها بعد دقائق ستصبح زوجته..
كانت الغرفة تعج بالكثير من المشاعر، التعجب وعدم الفهم لما يحدث من جهة الشيخ رضوان والسعادة الطفيفة والحذر من جهة ياسين، والسعادة المطلقة من جهة مرح..
بينما كان كلًا من قدر وقيس بعالمهم الخاص..
قدر يشوبها الكثير المشاعر والترقب للقادم، للمرة الأولى تفعل شيء لأجل ذاتها، لقد وافقت على هذا الزواج لأجل قلب قدر لتُكتب حكاية أبدية كان عنوانها قدر قيس..
نطق الشيخ محسن ببشاشة:-
- بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير.. مبارك لكم..
وهنا سمح قيس لنفسه برفع أعينه التي كان متيقن من أنها لن تخرج من داخل أعينها بسهولة، تخضب وجنتي قدر من نظراته وهي تختبر تلك الأشياء للمرة الأولى بعد عام من القحط ومازال لكن لا تنكر أن بعض الورود قد نمت من بين شقوق الجفاف..
اقترب منها قيس وأعينه لم تزحزح من فوقها حتى توقف أمامها، أخرج من جيب سترته الداخلي وردة واحدة بيضاء كبيرة الحجم زكية الرائحة ثم سحب كف قدر بحنان ورفعه نحو فمه مقبلًا باطنه برفق وحنان وطبع قبلة مطولة فوق جبينها ثم همس:-
- مبروك لقلبي يا قدر..
ومد يده بالوردة فأخذتها بخجل ليقترب ياسين يقول بغيرة واضحة:-
- حيلك حيلك يا أخينا هو أنت ما صدقت ولا أيه، وبعدين ميغركش سكونها ده دا أنت لما تتعرف عليها هتتصدم صدمة عمرك .. استعد للقادم يا وحش..
تشرست ملامح قدر وهي ترمق ياسين ليسرع قائلًا:-
- خلاص مش هنبدأ .. المهم دلوقتي هتخرج أنت وقدر يا قيس وأنتِ يا مرح هتعملي المطلوب..
قال قيس:-
- بس أنا لما أوصل قدر لمكان أمان وأطمن عليها هرجع المستشفى تاني يا ياسين..
هتف ياسين باعتراض:-
- دا اسمه إنتحا'ر يا قيس للأسف أنت متعرفش إجرام القذر إللي اسمه عزيز وممكن الموضوع يوصل بيه لأيه ...دا شخص مريض حقيقي وكدا أنت بتعرض حياتك للخطر..
هدر قيس بحدة:-
- أنا مش هستخبى ولا ههرب يا ياسين، القذر ده ميقدرش يإذيني ومش لازم نعمله حساب دا إللي بيخليه يتفرعن كدا..
أهم حاجة أبعد قدر وبعدين نشوف أخر المريض ده أيه..
حرك ياسين رأسه بعدم فائدة وسار نحو الخزانة الصغيرة بنهاية الغرفة، حرك الخزانة للأمام ليظهر باب صغير ضيق فتحه ليطل على أشجار في الحديقة الخلفية فيقول ياسين:-
- يلا يا قيس قدر في حمايتك..
مدّ قيس كفه نحو قدر التي أمسكت يده بدون تردد جعله يبتسم لها بحنان وانحنى يخرج من الباب وهي بيده، بينما تمسك الحقيبة التي بها أشياءها التي كان مخبأة بالغرفة سرًا..
وخرج الشيخ رضوان والمأذون بصحبتهم ليبقى ياسين ومعه مرح بالغرفة..
قال ياسين بغضب:-
- يلا يا مرح اتصلي..
رفعت مرح هاتفها وضغطت فوق اسمه الملعون تجري الإتصال وفور أن وجدته أجاب قالت بهمس:-
- عزيز باشا .. في حاجة مهمة عن الست قدر لازم تعرفها .. والدكتور الجديد..
الدكتور ده بيساعد قدر وسمعت أن هيهرب معاها في ساعة الإستراحة...
            ______بقلم/سارة نيل_____
بعد مرور القليل من الوقت وبسرعة البرق كان كالعاصفة يقتحم المشفى بهيئة تتحدث عن حالته وجنونه، شر العالم يجتمع على وجهه وبيده يحمل سلاحه ويصرخ بقوة اهتزت لها الأركان:-
- قــــــــــــــــــــــــــــــدر... 
خرج جميع العاملون والأطباء ومدير المشفى بوجه شاحب لوجود هذا الشيطان بهذه الهيئة..
قال الطبيب سامي باعتراض:-
- دي مستشفى يا عزيز باشا .. مينفعش الأسلوب ده...
لم يستمع لحديثه بينما ركض نحو غرفتها يقتحمها ليتخشب جسده وتتشرس ملامحه حين وجدها فارغة صاح بجنون:-
- قدر ..  قدر .. فين قدر.. 
اصفرت وجوه الجميع حين رأوا غرفة قدر فارغة ليسرع الطبيب ماهر يقول بتوتر:-
- يمكن في أي مكان هنا في المستشفى يا عزيز باشا...
كان الرد عليه لكمة قوية من هذا الأهوج الذي صاح بتهديد:-
- هربت يا شوية خرفان من قلب المستشفى والله لأخرب بيوتكم وأدفعكم التمن غالي..
الدكتور الجديد هربها..
ردد الجميع بصدمة وهم لا يتعحبون من فعلة قيس تلك:-
- قصدك دكتور قيس .. لا لا مستحيل يعملها دا يتعرض للمسائلة القانونية..
ردد بشر وصدره يعلو ويهبط بجنون:-
- وهو أنا هستني مسائلة قانونية ولا بعترف بالكلام ده .. هيشوف مني الجحيم بعينه. 
فين الجبان ده .. هرب هو كمان زي الفراخ..
- تؤ تؤ .. كدا بقاا عيب الغلط ده .. ما أنا وراك أهو يا بتاع الفراخ..
استدار عزيز بجنون وهو يرى هذا الذي يقف بأنف عالية وبنية قوية يقف بتحدي واضح وأعين قوية شرسة، هرع يرفع كفه للكمة قوية لكن كانت يد قيس القاسية تمنعه وضغط على ذراعه بشدة ثم نفضه بقوة..
وقال قيس بهدوء بارد:-
- مش قلة ذوق بردوه وهمجية منك لما أسيب عروستي بعد جوازنا وأجي أسقبلك بنفسي ويكون ده استقبالك يا ... بتاع الفراخ..
صاح عزيز بجنون وهوس:-
- فين مراتي ... قدر فين يا حقير ... مرااااتي فين .. انطق.. والله لأدفعك التمن غالي، أنت بتلعب في عداد عمرك ومتعرفش أنت واقف قدام مين..
وقف قيس أمامه بشجاعة وقال ببرود وهو يتجاهل حديثه:-
- مراتك .. ودا إزاي بقاا!! دا حتى إحنا لسه متجوزين من ساعة حتى شوف..
ووضع أمامه الهاتف على صورته هو وقدر بفستانها الأبيض بينما يحتضن قيس خصرها بتملك..
تبدلت ملامح عزيز لأخرى مخيفة جدًا وتلبسه جنون وشر كبير .. فهذا القذر لا يرف جفنه حين يثقب الأجساد بالرصا'ص، فكرة أن قدر لم تعد ملكه .. وأصبحت لغيره أصابته بالجنون..
ابتسم إبتسامة مخيفة ودون تردد وبجنون قال وهو يرفع سلاحه يضعه فوق عنق قيس:-
- هقتلك..
يُتبع..~
- قدر ملكي .. ليا أنا وبس، ومحدش يقدر ياخدها مني ولا يبعدها عني، قدر ملكية خاصة بعزيز وبس..
كان يصيح بهوس والشر يتدفق من عينيه بينما يغرز سلاحه بعنق قيس الذي كان ثابتًا لم يتزحزح ولم يلقي له بالًا..
وتلك القوة والثبات اللذان يشعان من أعين قيس جعلَا عزيز يفقد أعصابه ويرمقه بكره فها هو عدوه الجديد...
تلفظ قيس بثقة وهو يتمعن بوجهه وينظر له بتحدي:-
- ولا تقدر تمسّ شعرة منها طول ما أنا عايش وفيا روح..
زاد عزيز من إقترابه وهو يرى تحدي هذا الطبيب له الواضح ويبدو عشقه لقدر الصارخ بأعينه، هسهس أمام وجه قيس بنبرته الكريهة ومازال السلاح على عنق قيس:-
- يبقى هاخد روحك يا دكتور المجانين..
قلّب قيس أعينه بلامبالاة وردد وهو يشيح بعيناه بعيدًا:-
- أخرك فاضي يا بتاع الفراخ .. متقدرش تقرب مني وإلا هتروح ورا الشمس لاني مش أي حد، علاقاتي مع ناس برا البلد وناس متقدرش تبص بس على طرفهم ومعايا الجنسية ولو عرفوا بس  ولا شموا خبر بأي أذية ليا هينهوا عليك بدون غمضة عين .. أنت ضعيف يا بتاع الفراخ متقدرش تعمل أي حاجة .. أنا مش أي حد يا بتاع الفراخ وأختلف عن أي حد أنت تعرفوا وقابلته...
وبعدين أيه ملكي وبتاعتي والكلام المريض ده..
ولكز قيس عزيز بكتفه بقسوة والذي سقط سلاحه وهو يدرك أن خصمه لا يستهان به ويجب عليه التخطيط لإنهاءه بتروي..
وتحدث قيس من بين أسنانه بتحذير:-
- قدر مراتي يا حقير واسمها أوعي يجي على لسانك القذر ده .. مراتي مش هتقدر تلمح طرفها حتى .. وحقها هاخده منك واستعد للي بيحصلك وهيحصلك، حقها هيخلص منك واحدة واحدة، اصبر أنت بس الدور عليك...
وخرج قيس بخطوات قوية ثابتة تهتز لها الأرض تاركًا عزيز من خلفه ساقطًا في دوامة من التساؤلات..
عقد حاجبيه بتفكير وهو يدقق في كلمات قيس المتحدية، أخرجه من شروده رنين هاتفه، وفور أن أجاب أتاه صوت فارس الصارخ:-
- عزيز أنت فين ..  الشرطة جات على القصر وأخدوا بابا ... الثفقة إللي كانت عن طريق البحر اتكشفت .. في توصيه علينا جامدة وحد بينكش ورانا يا عزيز .. أنت فين من ده كله، أنت السبب في إللي بيحصل معانا .. جعفر باشا الشرطة أخدته وأنت بتجري ورا البنت دي .. تعرف ده معناه أيه!!
ثبتت أنظار قيس عند نقطة ما وأضاء حديث قيس الأخير بعقله وهو يتوصل إلى مفتعل تلك الفوضى...
خرج متلهف نحو مركز الشرطة وهو يتوعدهم بالجحيم، بعد القليل من الوقت كان يدلف لمركز الشرطة وبصحبته العديد من المحامين وتم إجراء الكثير من المهاتفات من أًناس ذو صلة وقوة..
تقابل عزيز مع جعفر وعمل جيش المحامين على الدفاع وتقديم أوراقهم الرابحة..
في حين كان جعفر البحيري يُعامل معاملة الملوك وكأنه مجرد زائر وليس بمتهم..
رمق جعفر عزيز بشر وتوعد ثم قال من بين أسنانه:-
- شغلك مش بقيت شايفه يا عزيز باشا، هتدفع تمن الغلطة دي كتير أوي..
خنع أمام جبروت هذا الذي علمه الجبروت لكن بقت ملامحه ثابته وقال بوعيد:-
- محدش يقدر يمسّ جعفر باشا بحاجة أقل من ساعة زمن واحدة وهتكون في قصرك يا باشا..
وأنا وصلت للي ورا إللي بيحصلنا ده..
رمقه جعفر بتسائل وترقب ليقول عزيز بوجه مكفهر:-
- دكتور جديد بيعالح قدر وبينقم لها، واتجوزها كمان وهربها من المستشفى ووقف قدامي أنا عزيز البحيري يتحداني ومش خايف ولا عامل إعتبار لاسمنا..
أشعل هذا الحديث فتيل غضب جعفر وطرق بيده فوق الحائط وأردف والنيران تنبثق من أعينه:-
- قولتلك أقتل البت دي من زمان ونخلص منها أنت دخلتنا في مسرحية ملهاش لازمة مش كفاية اتجوزتها ولوثت اسمي مع بت زي دي..
الدكتور ده يكون قدامي بليل لازم يدفع تمن جُرأته ووقفته قدام جعفر البحيري..
قال عزيز بتأكيد:-
- ودا إللي هيحصل يا باشا...
وبعد أقل من ساعة كان يخرج جعفر وخلفه عزيز من مركز الشرطة تحت إكراه المسؤولين لكن ماذا يفعلون أمام أوامر من جهات عُليا يغمرهم الفساد..!
وهذا المبرر يتردد:-
- جعفر باشا اسمه أشهر من النار على العلم ومعروف وسط السوق ومستحيل يكون هو ورا الثفقة دي .. وهنعرف مين إللي وراها وبيحاول يورط جعفر باشا..
                    ****************
بهذا المنزل البسيط بالقرب من الشاطئ والمياه الزرقاء وقفت تنظر بشرود وأعينها غائمة بالذكريات لتعود بذاكرتها إلى الوراء..
قالت قدر لمرح التي تجلس أمامها بغرفتها ووجها شاحب:-
- أنا قررت يا مرح هنسحب من الدورة دي مش هقدر على كدا وأنا متعودتش أحسّ بالمشاعر دي وشعور العجز ده .. لازم أبعد طالما مشاعري بدأت تتحرك تجاهه وأتعلق بيه علشان مغضبش ربنا ومعذبش نفسي يا مرح وأنا مش حِمل العذاب ده ومش حمل ذنوب، لما أبعد من دلوقتي أحسن ليا علشان متوجعش أكتر وأنا مستحيل أتخطى الحدود إللي شرع فرضها..
لو ليا نصيب في حاجة هتجيلي لغاية عندي ربنا قادر على كل شيء دا يقيني..
دي أخر مرة هحضر فيها حتى لو بستفاد في داهية مقابل إن أحمي قلبي وديني وهنسحب..
وبعد قليل كان كُلًا من قدر ومرح يحضرون المحاضرة لكنهم تفاجئوا بإنسحاب الطبيب قيس وحلّ مكانه آخر..
تنهدت قدر براحة وقالت:-
- شوفتي الحمد لله جات من عند ربنا، ربنا رحيم أوي يا مرح.. 
ودا مجرد تعلق غصب عني وهقدر إن شاء الله أسيطر على مشاعري ومع مرور الأيام هنسى وكل حاجة هترجع لطبيعتها..
قالت مرح:-
- على الرغم من إن الكل زعلان من انسحاب الدكتور قيس أووي بس خير..
خرجت من شرودها على ولوج ياسين بصحبة مرح وهو يحمل الطعام، أقترب منها وقبل رأسها ثم قال:-
- الحمد لله على السلامة يا قدري الجميل، أنا فرحان أوي يا قدر .. تعرفي أنا اتعلمت منك درس مستحيل أنساه إللي حصل ده معجزة..
من ترك شيء لله عوضه الله بخيرٍ منه..
قررتي تسيبي الكورس ومش هامك أي حاجة لمجرد أنك حسيت بمشاعرك بتتحرك..
ما كان لها أن تُخفي عن شقيقها ياسين شيء فهو ليس مجرد شقيقها فحسب وإنما صديقها وتسرد له ما في قلبها دون تردد..
احتضنته قدر براحة وهي تتمسك به وتنهدت بإرتياح وقالت بنبرة رغم سكينتها لكنها حزينة منتطفئة:-
- الحمد لله يا ياسين .. الحمد لله أنك بقيت بعيد وربنا بعدك عن إللي حصل، لو كنت معانا كان حصلنا أيه، أنا كان جوايا أمل دايمًا وكل يوم أنك ترجع وتوصل ليا وتتصرف صح..
بابا وماما ورائد ورائف يا ياسين ورائد حصله أيه بعد ما ضربه بالرصاص .. هما فين وحصلهم أيه، أنا استغليت فترة وجودي في القصر الملعون ده إن اسمع أي حاجة عنهم أو أعرف هو وداهم فين بس موصلتش لحاجة..
كانت خطتك إنك تبعت مرح تشتغل في القصر وتوصل الأخبار معاها وتقولها على خطة إن أعمل نفسي دخلت في أزمة نفسية وهما ما صدقوا وعندهم سمعتهم أهم حاجة فكانت جريمة إن واحدة من القصر مجنونة وشايله اسمهم تفضل موجوده..
نفسهم المريضة صورت لهم كدا..
كانت خطة ناجحة علشان أخرج من القصر وجعفر يفرض على القذر عزيز يطلقني وهو بيبقى قدامه زي الفرخة المبلولة..
قال ياسين بوعيد وأعين تحمل الكثير من الكُره والغلّ:-
- هدفعهم التمن يا قدر .. وهوصل لأهلنا .. والله لأدفهم التمن غالي أووي..
رددت قدر بأعين شاردة:-
- الناس دي معندهاش رحمة يا ياسين ولا ضمير ولا إنسانية وميعرفوش ربنا، مش بيهمهم حاجة وبيرتكبوا كل الجرايم إللي تتخيلها ومش تتخيلها، حقيقي مجرمين يا ياسين، ربنا القادر عليهم وربنا ينتقم منهم يارب..
قامت مرح برصّ الطعام فوق الطاولة ووجدت طعام في البراد وكل ما يحتاجونه، يبدو أن قيس أحضر كل شيء..
اقتربت من ياسين الذي يحتضن قدر ثم قالت بحنان:-
- يلا يا حلوين أنا رصيت الأكل، أنتوا مش أكلتوا أي حاجة النهاردة..
ابتعدت قدر عن ياسين واقتربت من مرح تحتضنها وقالت بإمتنان:-
- شكرًا يا مرح شكرًا على كل حاجة عملتيها علشاني .. خاطرتي بحياتك ومش هامك حاجة ووقفتي جمب ياسين وأنقذتيني .. أثبتي حبك ليا ولياسين أثبتي أنك أخت وأكتر من أخت ليا، أنا حقيقي محظوظة إن ربنا رزقني بيكِ..
بادلتها مرح وقالت بدُعابة:-
- دا بسبب تمثيلك الفوق الممتاز يا قدر، لولا أنك قدرتي تمثلي بجدارة مكوناش عرفنا نخرج برا القصر..
تنهدت قدر بثقل فلم يكن هذا مجرد تمثيل وحسب بل إنها هدنة كانت بحاجة إليها، روحها مُمزقة، أردفت مرح وهي تسحبها نحو الطاولة وتُشير لياسين الواجم:-
- خلاص انتهينا، كابوس وانتهى والدور عليهم دلوقتي يدفعوا التمن يا قدر ونشوفهم مذلولين، عايزه أشوف روح قدر القديمة وقدر البلطجية بقاا، إن شاء الله ياسين هيوصل لبابا فتحي وماما حليمة ورائد ورائف وهيكونوا كويسين جدًا وتقدري تبلطجي عليهم من تاني..
ومضت القوة بأعينها الزبرجدية وقالت من بين أسنانها:-
- هيرجعوا.. أنا عندي ثقة ملهاش نهاية في عدل رب العالمين..
وجلسوا يتناولون الطعام في جو من الهدوء ثم انسحبت قدر تاركة ياسين بصحبة مرح وخرجت تسير نحو الشاطئ والماء الزبرجدي الذي اتحدّ مع لون أعينها فكانت لوحة في غاية الفتنة..
تطاير ثوبها الأبيض الذي انتقاه قيس لها وضمت جسدها وأخذت تتنفس بعمق ثم نمت إبتسامة خفيفة فوق فمها شاردة في تلك الدقائق التي أصبحت فيها زوجته، همست بداخلها بقلب مرتجف عشقًا:-
- شكرًا يارب، اللهم لك الحمد حمدًا يليق بجلال وجهك وعظيم سلطانك يارب، مكونتش أتوقع بعد السنين دي كلها أقابله في الوقت ده والوضع إللي كنت فيه والحالة دي .. ظهر في وسط الكركبة إللي كنت فيها ووسط الفوضى من غير حساب ولا إنذار .. بس في الوقت المناسب تمامًا يارب .. هي دي عطاياك إللي بتدهشنا بيها بتكون دايمًا في الوقت المناسب .. وواثقة إن في خير كتير أووي هيجي..
توسعت أعينها بصدمة حين شعرت بذراعيّن يلتفان من حولها بدفء ولم تحتاج أن تتسائل من هو ... لا أحد سواه .. قيس..
لثم خدها برفق مغمضًا عيناه وهو يستند برأسه على رأسها بينما همس لها بنبرة ينبجس منها العشق:-
- قدر .. قدري .. قدر قيس المغمور برحمة رب العالمين..
تنهد يكمل بسعادة:-
- وأخيرًا يا قدر .. أخيرًا، أنا مش مصدق نفسي..
أي هجوم غاشم هذا على مشاعرها، لم تصدق ما سمعته أذناه، لقد تذكر صوتها بعد كل هذه السنوات من مئات الأصوات وقتها .. لماذا!
هناك العديد من التساؤلات حوله وحول تصرفاته نحوها، وما دلالة هذا الحديث الذي تفوه به للتو؟!
تنفست بعمق وخرج صوتها الرقيق وهي تلتفت تنظر له لتقتحم عيناها عيناه والآن قد مُحقت كل الموانع ويستطيع الآن أن يبحر داخل زبرجد عيناها بكل حرية ودون أي أثم فقد أصبحت زوجته وحلاله..
- حَامي الحِمى .. ليه الكلام ده ومعناه أيه..
ابتسم قيس وقال بنبرة مبطنة بالعتاب:-
- أكيد نستيني ومش علمت معاكِ، هفكرك بيا، لو فاكره من سنتين الكورس إللي كنتِ بتاخديه.....
قاطعه مبتسمة بدهشة مما يحدث، هل كان يعلم بأمرها:-
- الطبيب قيس البنا..
ابتهج قلبه واهتزّ ثباته وأخذ الذي بين أضلعه ينبض بجنون، هي حقًا تتذكره!!
همس لها مُقبلًا جبينها يُخبرها بما يضجّ به قلبه شاعرًا أنه الآن يُحلق فوق السُحب:-
- عاشقك يا تركواز عاشقك من صوتك، من وقتها وقلبي اتعلق بيكِ ووقع في فخ الغرام وقتها بدأ جنون قيس بالعشق..
عاشق تركواز قبل ما أعرف قدر..
لم تصدق قدر ما تسمع وتوسعت أعينها وهي ترفع رأسها له وقلبها يسبح في فلك آخر ولم تشعر سوى أنها ألقت بنفسها بأحضانه تبكي فها هي شمس الأمل تشرق بدُهمة أيامها مرةً أخرى أفولها..
لو كان أحد أخبرها منذ عام حين اجتروا أسرتها وأجترها هذا المريض إلى سجنها بهذا القصر اللعين وعقد قرآنه عليها قصرًا لتحطيم كبرياءها وسلسلة التعذ'يب المختلفة الأصناف التي مرت بها بأنها سترى هذا اليوم كانت ستتهمه بالجنون حتمًا..
همست له بمشاعر ملتهبة:-
- وأنا بحبك يا حامي الحِمى .. تركواز عشقت الطبيب قيس .. وقدر عشقت حامي الحِمى قدرها قيس..
حملها قيس يدور لها وهو يضحك بسعادة يحتضنها بجنون بينما عالم من السعادة بإنتظارهم..
الكثير من الحرمان عاشه قيس سيُجبره مع قدره، والكثير من الذكريات السيئة حُفرت في عقل قدر مسببةً لها العديد من الهواجس سيعمل قيس جاهدًا على محو جميع الذكريات حتى أخر قطرة وتشيد مكانها أخرى مُزهرة...
جلست قدر على الرمال أمام البحر بجانب قيس يحتضنها وهو يروي لها الكثير عن حياته وقصة عشقه لها..
وأخذت قدر تسرد له تعلق قلبها به وقرارها بالإنسحاب والإبتعاد..
ومرّ الوقت وظلوا على هذا الحال حتى اعتادت قدر على قيس وكُسرت الكثير من الحواجز بينهم حتى غربت الشمس ومحق الليل نورها..
وقف قيس مستعدًا للرحيل وقال:-
- قدر في أمانتك بقى يا ياسين باشا أنا لازم أرجع المستشفى دلوقتي هخلص شغلي وشوية حاجات وهقدم استقالتي بإذن الله..
أردف ياسين:-
- خد بالك أنت من نفسك وأبعد عن طريق المجنون عزيز لازم تصرفنا معاه يكون بناء عن خطة وتفكير لأن الناس دي معدومة كل شيء يا قيس..
صاح قيس بغضب:-
- دا واحد جبان وبياخد قوته لما يشوف الناس خايفه منه وعامله ليه حساب .. دا كلب ولا يسوى يا ياسين..
تحدث ياسين بعقلانية:-
- علشان أنت متعرفش إجرامهم يا قيس ولا إجرام وشر جعفر البحيري، لازم تاخد حذرك..
حرك رأسه بإيجاب واتجه نحو قدر الساكنة، أمسك يدها وطبع قبلة بباطن كفها ثم قال بمزاح ورفق مبتسمًا:-
- أظن رقمي معاكِ في موبايلك السري، لو في أي حاجة كلميني اتفقنا يا تركواز...
حركت رأسها وابتسمت وهي تتذكر تلك الليلة بالمشفى عندنا أخرجت الهاتف السري الذي يقبع معها من أسفل الفراش وأتت مرح برقم قيس من المشفى وقامت قدر بالمهاتفته وإخباره بمقابلة شقيقها ياسين على مقربة من المشفى بالمكان المتفق عليه، وقتها صُدم قيس وظل ينظر للهاتف ببلاهة..
هتفت قدر بهدوء وهي تسير معه للخارج:-
- حاضر ...خد بالك من نفسك يا حامي الحِمى..
نظر لها بعشق وقال بتمني:-
- الود ودي أفضل جمبك كدا ومش أتحرك من جمبك بس مضطر يا عيون قيس..
ابتسمت له برِقة ورددت:-
- ترجع بالسلامة يا قيس .. وهترجع هتلاقيني مستنياك..
قبل قيس جبينها وهو لا يستيطع حقًا الإبتعاد عنها وبالاخير فصل نفسه عنها واستقل سيارته وخرج نحو المشفى تحت نظرات قدر المبتسمة بسعادة..
بعد قليل وصل قيس للمشفى، هبط من سيارته ودلف يسير نحو غرفة مكتبه، مرّ بجانبه الساعي الذي قال بودّ:-
- طلباتك أيه يا دكتور قيس .. تشرب أيه..
ابتسم له قيس وقال:-
- فنجان قهوة يا حاج حُسني علشان الواحد يفوق للي جاي..
حرك الرجل رأسه بطيبه وانصرف لتحضيرها بينما دلف قيس لغرفته وجلس خلف مكتبه وفوق فمه إبتسامة واسعة ثم أخذ يُقلّب في بعض الأوراق والملفات حتى مرّ القليل من الوقت ليدلف الساعي المتربد وجهه بالتوتر على غير عادته السابقة .. قلق لم يلحظه قيس..
وضع فنجان القهوة وانصرف سريعًا دون أن ينبس ببنت شِفه..
كان قيس يشعر بالحماسة وكان يريد الإنتهاء من عمله سريعًا حتى يعود لقدر بأسرع ما يمكن..
حمل فنجان القهوة وأخذ يرتشفها بتلذذ حتى انتهى منها..
ومر القليل فقط من وضعه الكوب فارغًا حتى شعر بدوار يلف رأسه، أخذ يُحرك رأسه وأصبحت رؤيته ضبابية ليظل يعاود غلق وفتح أعينه لكن دون فائدة وأدرك ماهية ما حدث على الفور وأكد له ذلك حين اقتحم الغرفة رجال يبدو على وجههم الإجرام يتوسطهم هذا المريض المبتسم بإستفزار عزيز...
رمقه قيس بإشمئزاز وشراسة ليدلف لأذنه قبل أن يسقط في الظلام بينما وضع أحد الرجال غطاء أسود على رأسه..
وقال عزيز:-
- أكبر غلط عملته أنك اتحديت عزيز البحيري ووقفت قدامه واتجرأت تاخد حاجة تخصه يا دكتور المجانين..
لازم تدفع الحساب إللي عليك....
بينما بجهةٍ أخرى عند ياسين، ارتفع رنين هاتف باسم هذا الشخص الذي له الفضل بالكثير..
شخص حين الكشف عنه سيُحدث صدمة تصفر منها الأنامل والوجوه، ستكون ضربة قاضية للجميع..
أتى الصوت من الجهة الأخرى لاهثًا مسرعًا يقول بتلهف:-
 - ياسين في حاجة مهمة جدًا لازم تعرفها...
يُتبع..~
قالت بصوت مصبوغ بالحزن وقلب منفطر:-
- شوفت يا رضوان، فات سنين وهو حتى مش هان عليه يشوف أبوه وأمه ولو من بعيد..
زي ما يكون صدق يبعد عننا .. يعني إحنا مش وحشناه خالص كدا يا شيخ رضوان، مش بيفتكر أبوه وأمه خالص .. حسرة كبيرة في قلبي على تحجر قلب ابني..
تنهد الشيخ رضوان بثقل وأردف بينما يربت على ظهرها بحنان:-
- هو الخسران يا رحيمة، هو مكانش راضي بعيشتنا وبهدلنا وعيشنا في مشاكل كتير..
وهو ابن غير بار وغير صالح وأنا عملت إللي ربنا أمرني بيه وأحسنت تربيته بس مكانش فيه فايده .. عادي يا رحيمة ما ابن سيدنا نوح عليه السلام كان كافر وهو نبي..
حاولت معاه كتير وجاهدنا معاه يا رحيمة لكن هو تمرد ووصل الموضوع للمخدرات والتحر'ش ببنات الحارة وسرق بيوت الحارة ومسابش حاجة حرام وغلط ألا ما عملها وفقدنا السيطرة عليه، إللي زي ده مكانش ليه قعدة في بيتي وأنا عندي بنات وهو إللي ما صدق وطفش علشان يخلص من تحكماتي زي ما كان بيقول..
متزعليش يا رحيمة مسيره في يوم هيفوق حتى وإن كان اليوم ده بعد سنين طويلة، هيعرف قيمة كل حاجة كانت معاه وقيمة أبوه وأمه بس هيكون بعد فوات الأوان..
تنهد تنهيدة مطوله وهو يرفع أعينه للأعلى قائلًا:-
- الدنيا دي غريبة أوي يا رحيمة، ولد كان تحت إيده كل سُبل الراحة والصلاح وطلع فاسد..
وعندك قيس .. أبوه رماه وهو طفل واكتفى بالبيت إللي سابه قاعد فيه ومصاريف بيبعتها كل فين وفين ليه ونسى أنه طفل محتاج رعاية وتوجيه بس هو كان متأكد إن أهل الحارة مش هيسبوه ولغاية النهاردة محدش يعرف عنه حاجة، وربيت أنا قيس نفس التربية إللي ربيتها لطاهر بس ما شاء الله شوفي قيس ربنا يبارك فيه يارب ... بس بذرة قيس من البداية بذرة صالحة وربنا عوضنا بيه ونعم الولد الصالح..
قالت رحيمة بغصة مريرة كالأشواك عالقة في حلقها:-
- ربنا يبارك فيه يارب، أم قيس الله يرحمها كانت ونعم الجارة وست صالحه وزرعت جواه الطيبة والصلاح..
علشان خاطرها ربنا بارك في قيس وصفاته كلها منها .. ربنا يشهد أنا حبيته قد أيه وفعلًا ربنا عوض بيه..
وطاهر ابني ربنا يهديه أيًّا كان هو فين، أنا مش ببطل أدعيله بالهدى والصلاح..
                        **********
هيئته مستشيطة ويصيح بينما يجلس جعفر فوق مقعده متكئًا وينظر له بثبات:-
- أنا مش عارف أنت إزاي صابر على عزيز .. خلصنا منه بقاا هو السبب في إللي بيحصلك وإللي بيحصلنا ده..
كان يروح ذهابًا وإيابًا وأوداجه منتفخة فقال جعفر بثبات وهدوء مريب:-
- إهدى يا فهد .. هو ميقدرش يتحرك خطوة من غيري أنت ناسي إن رقبته في إيدي ولا أيه، هو مجرد لعبة وكارت محروق بإيدي وميستهلش العصبية دي كلها..
أنا أهم حاجة عندي أنت وفارس وإنكم تفضلوا نضاف وبعيد عن أي حاجة..
رفع فارس أنظاره نحو فهد وابتسم بشماته فهذا عزيز ليس المفضل لوالده كما يظنون، هتف فهد بهمس:-
- دا مجرم ويستاهل كل إللي يجراله..
ارتفع رنين هاتف جعفر فأجاب بوجه مكفهر:-
- نعم..
قال عزيز من الجهة الأخرى بشر وأنفاس لاهثة:-
- الحقير المسؤول عن كل المصايب دي بين إيديا أهو في المخازن القديمة بتاعتنا، وموضوع الشرطة والبضايع حطيت كبش فدا شال الليلة..
استقام جعفر بأعين مليئة بالشر وقال بتوعد:-
- أنا جاي...
وبمجرد أن أغلق الهاتف تسائل فهد بترقب مسرعًا:-
- في أيه .. أيه إللي حصل..
أجابه بتعجل قبل أن يرحل:-
- عزيز وصل للي مسؤول عن المصايب إللي بتحصل دي .. دكتور في مستشفى السبيل كان بيساعد البت إياها وبينتقم لها..
وخرج وأقدامه تدك الأرض دكًا متوعدًا بالويلات لعدوه الجديد هذا غير مدركًا ما ينتظره من صدمة ستبدد غضبه هذا وتخلق غضبًا جديدًا أشد نارية...
                     ************
استفاق من تلك الغفلة القصيرة يفتح أعينه ليقابله الظلام الدامس إلا من ضوء خافت يتخلل أنسجة قطعة القماش الموضوعه فوق رأسه بإحكام، تململ متحرك ليجد ذاته مُكبل من جميع الجهات .. ذراعيه مثبتة للخلف ومقيدة على هذا المقعد الجالس عليه وأقدامه ذات الوضع حتى سائر جسده يلتف عليه أحبال ثقيلة..
لم يتأثر ثبات قيس وبقى جامدًا ليقول باشمئزاز وهو يعلم أن هذا المريض عزيز يتواجد من حوله:-
- مش قولت مش راجل وجبان، إللي أنت عملته ميعملهوش ألا الجبان الضغيف وبس يا بتاع الفراخ، مش عندك الجُرأة تواجهني ومربطني..
لو راجل واجهني وجهًا لوجه بس أنت للأسف مش عندك ريحة الرجولة ولا تعرف عنها حاجة..
حديث قيس كان كالوقود على غضب عزيز والمِلح على جراحه ..وعُقدة نقصه الذي يسعى لإخفاءها واكتمالها بالتسلط وفرض سيطرته على الغير وأذيته وكان أعظم ضحاياه قدر...
انقض عزيز على وجه قيس القابع خلف قطعة القماش السوداء باللكمات القاسية المُحملة بالغضب وهو يصرخ بجنون وتغيّب:-
- أنا رااااجل غصب عن الكل .. أنا مش فاشل .. أنا نجحت وعملت اسم إللي بيسمعه بيترعب .. أنا عندي عيلة كبيرة ومبقيتش بتاع شوارع أنتوا فاهمين ... أنا مش متشرد أنتوا فاهمين..
نفّس عن غضبه بوجه قيس الذي لم يتأثر بجنونه إلا أن الكلمات التي باح بها أثارت تعجبه وتساؤله، فيبدو أن عزيز هذا خلفه أمرٌ ما...!!
وأكمل عزيز صياح وهو يرى ثبات قيس المستفز له وعدم تأثره حتى لم ينبث بتأوهٍ واحد:-
- قدر ليا .. بتاعتي أنا ومحدش يقدر ياخدها مني، ومحدش يقدر يمس عيلتي ويتلاعب بينا..
أنت مين علشان تقدر تتغلب على عزيز البحيري..
أنت ولا حاجة ولا حاجة .. سامعني..
ضحك قيس ثم وجم وجهه وهدر بصوت مُحتدًا بالغضب:-
- ولا تقدر تعمل أي حاجة، أما بالنسبة لكلامك المريض عن قدر وبتاعتي وملكي ونطقك لاسمها فأنا هدفعك تمنه غالي يا عزيز الكلب..
متقدرش تعمل أي حاجة يا بتاع الفراغ. 
اقترب منه عزيز بتمهل ثم انحنى أمام وجه قيس وهمس بنبرة حادة وهو يبتسم بشكل مريض ووميض الشر والجنون يطفو بأعينه:-
- حقك تقول كدا علشان متعرفنيش يا دكتور المجانين، تعرف أنا ممكن أعمل فيك أيه وبدون لحظة تردد واحدة...
هقتلك هنا وادفن جثتك في المكان المقطوع ده أو قطيع الكلاب بتوعي أولى بيك. 
ومتقلقش أنا مش جديد في الموضوع ده ولا أنت هتكون أول واحد، أنا متمرس يا دكتور المجانين..
ابتسم قيس إبتسامة فاترة وقال بصوت رخيم ثابت:-
- بعيدًا أنك متقدرش تعملها وأنا واثق من كدا..
أحب أقولك أنت متقدرش تمسّ شعره مني بأذى .. في قوة كبيرة وحماية عُظمى أنت متعرفش عنها حاجة .. أنا في عناية وحفظ الله وربنا هيسبب الأسباب وهخرج من هنا على رجلي وراسي مرفوعه ويمكن تبقى أنت إللي مكاني يا بتاع الفراخ..
كاد عزيز أن يُجيبه بسخرية لكن قاطعه دخول جعفر وحوله رجاله المنتشرين، هطل كسحابة سوداء على المكان والشراسة والشرّ تنبعث من طلته المرعبة للقلوب..
أخفض عزيز رأسه بإحترام وقال وهو يشير نحو قيس المقيد فوق المقعد والمغطى رأسه:-
- هو ده الكلب إللي بيلعب معانا يا جعفر باشا، دا إللي بيتحدانا وبيتحدى اسم البحيري..
بيقول محدش يقدر يعملي حاجة...
اقترب جعفر وهو ينظر لقيس نظرات قاسية جحيمية فأردف قيس بعدم إهتمام وبصوت رجولي خشن:-
- ومين هو جعفر دا كمان .. كلب من كلابك يا بتاع الفراخ .. ولا أنت إللي كلبه..
بس المهم أكيد نفس عينتك...شخص مريض وضعيف شبهك..
توسعت أعين عزيز بصدمة وأعين جميع الرجال وأخفضوا رؤسهم برعب، بينما جعفر فأسود وجهه وتشنجت ملامحه وظل يطحن أسنانه بشراسة بينما يسير ويزداد إقترابه من قيس وانتشرت دقائق من الصمت الثقيل وأيقن جميع من في المكان أن القتل فقط سيكون نهاية رحيمة لهذا الذي جنى على نفسه بالوقوع مع وجه من وجوه الشيطان..
موته سيكون بطُرق جعفر البحيري الذي القتل بها رحمة كثيرة عنها..
أصبح جعفر أمام قيس، ضيق أعينه لبُرهة ثم رفع كفه خلف رأس قيس وقبض على خصلاته يلويها بين أصابعه بقسوة حتى كاد أن يقتلعها ثم بيده الأخرى أخرج سلاحه وهو منحنى أمام قيس وبقسوة وشراسة ضرب وجه قيس ورأسه بقاعدة السلاح..
وغمغم وقد قطب ما بين حاجبيه:-
- إزاي .. يبقى عيب في حقى لو معرفتكش على جعفر البحيري وأخدت كرم الزيارة يا دكتور..
وبمجرد أن سمع قيس هذا الصوت حتى توسعت أعينه بشدة وسقط في بئر مظلمة تتخبطه أمواج الصدمة العاتية شاعرًا أنه بعالم أخر ولم يعد يشعر بما يدور من حوله، حتى أنه لم يشعر بفوهة سلاح جعفر التي غُرزت بكتفه بقسوة...
وقبل أن يضغط جعفر على الزناد حدث ما لم يكن متوقع، هذا الفعل الذي فعله سيظل يحمد ربه عليه مرات لا تعد ولا تحصى..
لو لم يحدث ذلك لم يكن ليكفيه عمره ولا عشرات أضعافه ندمًا....
                  *****************
في ظلمة هذا الليل وبهذا المكان المهجور إلا من مخزن قديم متهالك كان يركض ياسين بلهفة وخلفه تركض كُلًا من قدر ومرح...
وكلمات هذا الشخص الذي له الفضل بالكثير والكثير وقد أرسله الله له ولعائلته طوق نجاة..
"ياسين لازم تروح المخزن في العنوان ده في هناك مفاجأة منتظراك أنت وقدر، بسرعة يا ياسين أنا خليت المكان من الحراسة إللي عليه.."
اقتحم ياسين المكان يضرب باب المخزن المتهالك بقدمه وبجسده وقلبه يخفق بشدة حتى كُسر الباب وهجم ياسين للداخل يبحث بجنون ومن خلفه قدر...
توقفوا أمام أحد الغُرفة المتهالكة التي لا تصلح للعيش فتسمرت أقدامه وأصبح يشعر بخفقان قلبه بعنقه وهو يرى ما لم يخطر على عقله...
تجمدت أوصال قدر وتوسعت أعينها التي تجمدت دموعها بها وجفّ حلقها...
وبالكاد طاوعتها الكلمات وخرجت من بين ثنايا الحناجر تهمس ببكاء بدون تصديق وأعينها تجرى فوقهم متسلسلين مقيدين:-
- بابا ... ماما .. رائد .. رائف..!!!!
ولم يصحوا من صدمتهم إلا عندما اقتحم المكان أخر شخص متوقع، بل درب من دروب المستحيل إذا حسبته ضمن القائمة، حتى عندما وقعت أعين قدر فوقه شهقت برعب وجحظت أعينها ثم بحركة دفاعية وقفت أمام الباب الذي به عائلتها بحماية....
ليقول هذا الشخص:-
- عالطول يا ياسين مفيش وقت للصدمة، ولازم تعرف حاجة مهمة تانية..
                 *****************
وما فعله جعفر أنه رفع الغطاء بعنف عن وجه قيس وهو يهتف:-
- خلينا الأول نتعرف على الجريء ده والمرحووو....
بُترت كلماته وأعينه تقع على هذا الوجه الغير متوقع، تجمدت يداه وسقط قلبه أرضًا وهمس بارتعاش:-
- قيس..!!!
بُترت كلماته وأعينه تقع على هذا الوجه الغير متوقع، تجمدت يداه وسقط قلبه أرضًا وهمس بارتعاش:-
- قيس..!!!
رفع قيس رأسه لأعلى لينظر لهذا الوجه الذي غاب عنه سنوات ... هذا الوجه الذي خذله الآن للمرة الثانية .. ألم تكفيك الأولى يا أبي!!
ألم يُكتب لقلبي سوى الحسرات والنكبات!!
لم تكتفي بأن تحسرتُ على رحيلك المرة الأولى والآن أتحسر لفقدي لك للأبد....
كان قيس ينظر لتلك الهيئة التي يجهلها، الهيئة التي يرى عليها ماجد البنا للمرة الأولى في صورة جعفر البحيري، أين أبي، إلى أين ذهب؟!
كيف تحول أبي ماجد البنا الرجل العادي الذي يخشى أذية الحيوانات بالشوارع إلى جعفر البحيري الذي يكمن حله الوحيد في إزهاق الأرواح والقتـ.ـل!!
نظرات قيس التي كان يملئها الجهل والتعجب ونظرات أخرى تمزق أنياط القلوب..
مهلًا عليه استيعاب تلك الحقائق على مهل...
عزيز الحقير يكن ولده أي أنه شقيقه.!!
لكن كيف!!
عزيز أكبر عمرًا منه!!
وتلك العائلة التي يعلوها السواد والجرائم الموشومة بها تعود إليه!
الرعب المتعلق باسمه وكافة أنواع الإجرام هو المسؤول عنها!!!
هل هذا حقًا أبي الذي أنتمي إليه..
مهلًا .. أين هو أبي من الأساس، لقد محق هويته الحقيقية يا سادة، لقد حرمني من أبسط حقٍ لي وهو الإنتماء والهوية..
أبي سلب مني هويتي وأهداها لأخر..!!
فيما أن جعفر احتشدت الصدمة بأعينه وعلى جسده وأعينه تتأمل بجنون وجه قيس الملطخ بالدما'ء الذي تسبب في نزيفها..
قيس البقعة البيضاء الوحيدة بأيامه وحياته، البقعة البيضاء الذي لم يرد أن تتغبش بالسواد أبدًا...
هل من كان ينتوي قتـ.ـله منذ قليل يكن قيس...
هل من غرز سلاحه بكتفه الآن يكن ولده قيس..
هل تلك الجروح التي برأسه ووجهه والدما'ء المتساقطة من فمه وأنفه يكن هو سببها، هل هي ناتج يده..!!
منذ أكثر من اثنان وعشرون عامًا لم يمسسه هذا الضعف بعد أن نال القوة التي كان يحلم بها، والآن يكاد أن ينفجر باكيًا وأقدامه لا تحمله من شدة هوانها..
كان عزيز يقف يوزع أنظراه بينهم بعدم فهم، حتى توسعت أعينه بصدمه وقد أدرك ما يحدث الآن ... لم يكن يعلم أنه نفسه قيس البنا ولد ماجد البنا حقًا..
ابتلع قيس غصة مريرة وهتف بصوت جاهد لثباته:-
- أيه يا جعفر باشا مصدوم ليه كدا..
لتكون مصدوم أنك شوفتني .. تكون أمرت بقتلي قبل كدا علشان تتخلص من كل حاجة تتعلق بماضيك ورجالتك قصروا في التنفيذ..
وأكمل وهو يرمق عزيز:-
- لازم تعاقب بتاع الفراخ على الغلط ده...
بس شهادة حق لازم أقولها .. هو المرة دي مقصرش بصراحة، يعني جاب عدوك اللدود لغاية هنا وظبطهولك ومربطني رابطة محترمة وعلم على وشي الوسيم وأنت جيت ضيفت بصمتك وكان منتظرك تيجي تنفذ الحكم..
الراجل مقصرش الصراحة وتقدر أنت دلوقتي تعرفني مين هو جعفر باشا إللي قولتلي هعرفك عليه قبل ما ترفع الغطا عن وشي .. دفعني التمن يا باشا وربيني..
يلا يا باشا فين كرم الزيارة إللي كنت بتقول عليه..
انكب جعفر بأيدي مسرعة مرتعشة يُبعد الأحبال الثقيلة من فوق جسد قيس، يحلّ وثاق أقدامه ويديه بتلهف حقيقي ثم أخذ يمسح الدما"ء من فوق وجهه وهو يقول بلهفة وفزع:-
- أنت كويس .. قيس في حاجة وجعاك..
أخذ قيس يضحك بهسترية حتى دمعت عيناه وقال ولذع الألآم بقلبه:-
- أنت سبتني بقاا علشان كدا .. علشان تبقى كدا..
دا المجد إللي حققته يا جعفر باشا هو ده..
دا كان يستاهل أنك تسيبني .. دا كان أهم مني..
تنهد جعفر بعد أن رأه يقف على أقدامه وتماسك نفسه وهو يقول بنبرة لينة لم يتحدث بها مع أحد قط:-
- وأنت مكونتش محتاجني يا قيس .. ما أنت أعتمدت على نفسك أهو وبقيت إنسان ناجح مش محتاج أي حاجة واتربيت من غيري لواحدك والأهم من ده أنت معتمد على نفسك مطلعتش على كتف غيرك..
كان يقصد بجملته الأخيرة عزيز .. يقصد إهانته لما تسبب به لكن ثار قيس وهو يضرب المقعد بقدمه بقوة جعلت يتطاير وصاح وتلك الأيام والذكريات تدور برأسه، جأر بأوداج منتفخة:-
- كنت محتاج ...أنا كنت طفل وأنا معتمدتش على نفسي ولا ربيت نفسي بنفسي..
دا حتى لو كنت مهتم بأخباري كنت عرفت مين رباني ...مين أهتم بيا ومين السبب في إللي أنا فيه بعد ربنا ... لولاهم كنت انتهيت...
لولا أبويا الشيخ رضوان وأمي رحيمة، هما إللي كانوا مسؤولين على كل حاجة تخصني..
الشيخ رضوان قام بدور الأب والست رحيمة قامت بدور الأم..
فضلهم عليا بعد رب العالمين، لو كنت اهتميت بيا شوية كنت عرفت مين رباني يا جعفر باشا..
معلومة حقًا لم يكن يعلمها جعفر وصدمة لم تكن بالحسبان، لم تكن الصدمة من نصيب جعفر وحسب بل كان النصيب الأكبر لهذا الذي تزلزلت الأرض من تحت أقدامه وسرت إرتعاشة عنيفة ببدنه ...  عزيز الذي تهدم عالمه فوق رأسه وعقله يستعب حديث قيس بصعوبة..
هل كان قيس بديله، هل كان عوض عنه..!!
ردد جعفر بصدمة وعدم فهم:-
- إزاي يعني رضوان هو إللي رباك ... قصدك رضوان قاصد شيخ المسجد .. وابو طاهر...!!
كان أكثر من ينتظر الإجابة عن هذا السؤال هو عزيز الذي يعلم ما سوف تكون فمن غيرهم رضوان ورحيمة لكن فقط يوهم عقله أن هناك مجرد خطأ...
أتت إجابة قيس يزأر بخشونة:-
- أيوا هو .. رضوان قاصد .. رضوان إللي أحسن تربيتي وفضل في ضهري لغاية ما وصلت وبقيت شخص صالح نافع وناجح ولسه في ضهري مسبنيش ... أبو طاهر إللي أنا قالب الدنيا عليه لغاية ما الاقيه ووصله لهم .. علشان أرجعهم لبعض ودا يكون حاجة بسيطة مقابل إللي عملوه معايا ... مع إني مهما عملت مستحيل أكفي فضلهم..
التفت جعفر حيث عزيز الذي يقف بهيئة مشتعلة وزاد الموقف حِدة غضب جعفر الذي يرى إنتماء قيس الشديد لرضوان وأسرته، فأخذ يجأر بشراسة:-
- رضوان قاصد ملهوش فضل عليا ولا عليك...
أنا كمان لميت الصايع ابنهم من الشوارع وربيته وعملت منه بنى آدم وهو ولا حاجة وكفاية إن خليته يشيل اسم انضف من اسم رضوان قاصد وأشرف منه ومكانش يحلم بيه عمره كله وطلع ووصل على ضهر غيره، وفي الأخر الحقير كان هيتسبب في قتل ابني الوحيد وإيده القذرة اتجرأت واتمدت عليه..
تعجب قيس من هذا الحديث ونظر لوالده بعدم فهم.. 
بينما نمت الشراسة على وجه عزيز .. شراسة خارجية فقط .. بينما داخله فكان مُهشم .. للمرة الأولى يشعر بمعنى الانكسار..
لقد اتضح أن عالمه كان مُزيف .. مجرد ضباب..
تماسك .. حتى أنه تماسك وجعفر الذي سعى نحوه يهجم عليه يُكيل له العديد من اللكمات والإهانات الجارحة وهو يصيح:-
- أنا عملتك وأنا هنهيك يا حقير .. أنت ولا حاجة يا حقير ولا حاجة .. دي كانت خطتك صح..
كنت عارف أنه قيس ابني واتقصدت تعمل كدا علشان أقتل ابني بإيدي يا قذر..
جه الوقت تعرف مين هو جعفر البحيري، جه الوقت إللي هتدوق فيه جحيمي يا عديم الفايدة والنفع..
لم تتحرك شعره بعزيز الذي ظل ثابتًا وومضات من الماضي تطوف بعقله فقط..
ما جرى واحد .. فقط حكاية معكوسة...
طاهر ... وقيس. 
لقد نشأ قيس على يد رضوان فأصبح طبيبًا خلوقًا بعد أن كادت بذرته الطيبة تضمر..
وتربى طاهر باسم عزيز على يد ماجد باسم جعفر فعزّز بذرة الفساد والشر التي كانت بداخله وجعل منه مُجرمًا مريضًا..
بالطبع لم تكن معادلة عادلة..!
كان قيس ينظر لما يحدث بعدم إستيعاب وعقله يعمل على تحليل ما يحدث..
نفض جعفر عزيز من يده بإشمئزاز وسعى نحو قيس يسحبه لأحضانه وهو يقول:-
- أنت ابني ومحدش ليه فضل عليك ولا عليا..
أنت ابني وأنا أبوك دي الحقيقة وبس..
في نفس الحين اقتحموا جميعهم المكان كان على رأسهم هذا الذي أشهر السلاح وهو يقول بصوت جهوري حاد:-
- وأنت مين يا نصاب يا حرامي .. أنت مين أصلًا يا جعفر..
التفت جعفر ينظر خلفه لتتسع أعينه بصدمة ناطقًا بصعوبة:-
- فهد..
كان فهد يقف بصلابة ويرفع سلاحه بوجهه بينما يقف خلفه ياسين ورائد ورائف وقدر التي توسعت أعينها بصدمة حين رأت قيس بأحضان ذاك المجرم جعفر..
اندهش قيس لما يحدث ولوجود قدر فسارع يهرع نحوها بحنان هامسًا:-
- قدر .. تركواز.
 لكنها ولصدمته احتمت خلف ظهر ياسين تنظر له بإرتعاب هاتفة وهي تعود للخلف بتوجس:-
- أنت ابنه .. أنت تبقى منهم!!
يُتبع..~
مَاجَ قلب قيس واقترب من قدر وأردف بعتاب:-
- قدر .. دا أنا .. أنا قيس .. أنا مكونتش أعرف والله يا قدر، أنا كنت لواحدي الفترة دي كلها..
معقول خايفة مني أنا يا قدر..
التفت إليها ياسين بوجهه الصلب وقال برفق:-
- أكيد في وجه آخر للحكاية .. خلينا نسمع من قيس ونفهم يا قدر..
زأر جعفر بسخط حين رأى تعلق قيس بقدر:-
- أنت خايف ليه كدا .. دي عيلة ولا تسوى وملهاش لازمة..
وقبل أن يثور قيس سبقه ياسين الذي نفذ صبره، نعم لقد كان صابرًا لعام بأكمله ورفع كفه وهبط بصفعة قاسية على وجه جعفر جعلت أعين الجميع تتسع...
ارتفع صوته يصيح بغلّ وكره وقد ثار جعفر وجاء يرد له الصفعة لكن قيده الرجال:-
- لسانك يا حقير علشان مقطعهوش أنت إللي حقير وعديم القيمة .. دا إحنا لسه في بداية الحساب وحسابك طويل، يا كلب لازم تدفع تمن إللي عملته في أهلي...
أبويا وأمي ورائد ورائف وحياتنا إللي سرقتها مننا وقدر ... قدر يا كلاب يا إللي متعرفوش حاجة عن الرحمة إللي وريتوها أشد أنواع العذاب..
قبل ما أسلمكم للعدالة لازم أخد حق أختي .. محدش هيفلت من تحت إيدي النهاردة..
اقتربت قدر من جعفر بعدما سيطر رجال ياسين وفهد على الشرذمة القليلة من رجال جعفر، وقفت أمامه تنظر له بأعين مليئة بالكُره ثم هتفت من بين أسنانها بقوة والذكريات تتوافد بعقلها:-
- أنت رأس الحية .. كله بسببك، كنت مبسوط وأنت شايف ضعفي علشان وقفت قدامك وقدام الكلب بتاعك...
كنت بتقف تتفرج عليه وهو بيرمي مايه النا"ر عليا .. وهو بيكسر في عضمي وبيتفنن في تعذيبي وإذلالي.. 
فاكره كويس لما وقفت قدامي وأنا مفيش حته فيا سليمة وقولتلي أنتِ بس مجرد لعبة بنتسلى بيها نكسر بيها الملل إللي إحنا فيه...
علشان بس وقفت في وشكم وقولنا مش خارجين من بيتنا...
فاكره أنا كل موقف يا جعفر مش ناسيه ولا حاجة يا متجبر يا قاسي يا عديم الرحمة..
فاكرة لما خلتوني أنام في الضلمة أيام..
فاكرة تحريضك لكلبك عليا..
فاكرة تكسير صوابعي..
فاكرة عذابي بالمايه لغاية ما أقطع النفس..
فاكرة حجابي إللي ولعتوا فيهم وجرك ليا من شعري أنت وعزيز الكلب...
دا بس لمجرد شوفتك لنظرة الكبرياء والقوة في عيني إللي منطفيتش أبدًا....
ياااا جعفر يا بحيري كل كبير في إللي أكبر منه...
كل متجبر في إللي أكثر منه تجبر..
فيه إللي مش بينسى حق عباده أبدًا ومش بيرضى بالظلم...
الظلم إللي شوفته في المستشفى ونوياكم على إللي هتعملوه فيا جواها...
ربنا ... ربنا إللي كانت رحمته بيا محوطاني، كنت واثقة إن مش هيخذلني أبدًا..
أنا مش عايزه انتقم بإيدي ولا أخويا ينتقم ليا...
أنا عايزه إنتقام رب العالمين..
أنا عايزه ربنا إللي ياخد حقي .. عايزه عدله هو..
أنت لسه ما شوفتش حاجة يا جعفر...
وتحركت للخلف ثم أشارت نحو قيس وقالت:-
- مش ده ابنك .. دا المفروض ابنك الوحيد هو وبنتك المجرمة منى البحيري إللي أخدت الشر والإجرام منك..
بيقول إن ميعرفش حاجة .. خليني أسمعه إنجازات أبوه العظيم معايا ومع عيلتي...
وأخذت قدر تسرد ما حدث من البداية وكيف تدمرت حياتهم مرورًا بتعذيبها داخل القصر واستخدامهم أساليب مختلفة لإذلالها وكسرها بنفوسهم المريضة...
لم تترك أي شيء حتى الخطة التي قاموا بها مع ياسين ومرح ... كان كل هذا على أسماع قيس الذي تمنى أن لو كان ترابا...
ليت أباه في هذا اليوم كان قد مات، لم يكن ليحزن أبدًا، لكن الآن كيف سيستمر في العيش مع تلك الندبة السوداء التي لطخت ذكرياته بل حولتها جميعًا لسوداء قاتمة..
شعور بالخزي والإنكسار والخجل حتى أنه لم يقوى على رفع رأسه ووضع أعينه داخل أعين قدر..
شعر بألم يُفتت قلبه وقبضة قوية تقبض على روحه لكل هذا الألم الذي لاقته قدر وأسرتها ولا سبيل في محو هذا ولا التكفير عنه..
كان يعلم أن والده على قيد الحياة وذهب للبحث عن المجد وجعل اسمه لامعًا..
لكنه لم يكن يعلم تواجده بمثل هذه الطُرق ووصوله لهذا الحد، لم يكن يعلم أنه حتى تبرأ من اسمه ونزع ذاته من جلده..!!
يقسم أنه لم يكن يعلم..
هو كان بوادٍ أخر .. كان يخوض معارك أخرى، كان يجابه كثير من الحرمان والفقد الذي حمد الله عليه الآن..
حمد الله أنه لم يُترك في ظلّ والد كهذا ..
لكن ماذا لو علم قيس ببقية الحكاية والطرف الأخر منها..!!
نعم ... "قدر الله ألّا يموت الشخص إلا مرة، فما حال من سقط بعين من يُحب؟!
إنه يموت ألف مرة حتى وإن ظلّ يتنفس.'"
(الخاطرة بين علامات التنصيص ".." بقلم جميلة الجميلات -آلاء محمد- كتبتها خصيصًا في تحليلها للفصل)
كان يلعب دور المستمع في هذه المواجهة .. عزيز..
هادئ .. صامت .. أعينه ثابتة على نقطةٍ ما في الفراغ..
في الحقيقة هذا فقط من الخارج بينما من الداخل كان هناك معارك طاحنة دائرة..
تلقفته الأحداث وفاجئته الحقيقة التي كانت أمامه دائمًا لكنه كان أكْمه عنها قصدًا....
في تلك المعادلة هو لا شيء...
خرج خالي الوفاض .. دون اسم .. دون نجاح .. دون أي شيء .. فقط شيء واحد .. أن خسر طاهر رضوان للأبد وما أسوء أن يفقد الشخص نفسه..
كان خانع لهذا الشيطان جعفر باخغ نفسه...
أين مواعيده للإلتقاء بوعوده .. يا عزيز لقد اتضح أن مواعيد عرقوب له مثلًا وما مواعيده إلا الأباطيل...!!
أكانت محبته زائفة من البداية أم أنه من خُيل له فقط .. كان مجرد لُعبة بين أصابعه!!
المضحك في النهاية أن يكون شرير الحكاية هو المُغفل..!!
ابتسم فهد بانتصار واقترب من جعفر مشيرًا بسلاحه نحو رأسه وأردف بشراسة وبغض:-
- جات نهايتك إللي سعيت لها عمري كله يا نصاب يا مجرم ... لو تعرف انتظرت اللحظة دي قد أيه واضطريت أمثل كتير أووي يا جعفر..
وكمان طلع عندك ابن ومخبيه عن الكل ومخلينا إحنا في وش المدفع، يا ترى في نفس وساختك ولا أيه .. ما هو نفس الدم بردوه!!
الليلة كشف الحقيقة والأسرار وتصفية الحساب معاك أنت والشيطان التاني عزيز ... ولا أيه يا ياسين...
قالها وهو ينظر لياسين الذي حرك رأسه وأعينه تتوهج بالنيران ولم يكن إلا أنه هجم على عزيز يبرحه ضربًا...
لكمات متتالية مُكللة بالغلّ والإنتقام وهو يتذكر أسرته وشقيقته قدر...
قبض بقسوة شديدة على خصلات عزيز الذي لم يقاوم ولم يبدي أي ردة فعل، وصاح ياسين ولهيب حرقته لم يسكن:-
- كنت بتجر أختي من شعرها يا حقير .. واحدة واحدة هخلصها منك يا كلب..
وأخذ يجره من شعره بقسوة حتى خرجت بعض الخصلات في يده .. تركه وهو يُكيل لها الصفعات متذكرًا الصور لقدر التي كانت تصله خلسة فكان وجهها موشوم بعلامات الصفعات المطبوعة على خديها..
نزف فم عزيز بغزاره ولم ينزف سكونه بردة فعل سوى صمت عجيب تلبسه على غير عادته، صرخ ياسين بغيظ من حالته:-
- دافع عن نفسك يا جبان .. ولا أنت شاطر تظهر رجولتك على الحريم وبس .. عامل زي الفراخ دلوقتي يا حقير..
قذفه ياسين بقسوة فوق الأرضية ثم انحنى يجره مرةً أخرى وهو يصدمه بالحائط بقسوة صائحًا:-
- الأرواح عندك رخيصة يا كلب ... من غير ذرة تردد رصا'صتك دخلت صدر أخويا وكان ممكن يروح فيها..
غُمر وجه عزيز بالكدمات والجروج ورغم هذا لم يصدر عنه تأوهًا واحدًا أو أي أنين فتفاقم غضب ياسين الذي انحنى أخذًا بكف عزيز القوي وبقوة شديدة ثنى أصابعه في الجهة المعاكسة لتصدر صوت طرقعات العظام بالأرجاء وهنا أومضت تلك الذكرى التي لا تُنسى بعقل عزيز وكيف جثى فوق قدر وثنى أصابعها بذات الطريقة مُكمكمًا فمهما مانعها حتى حق الصراخ والتعبير عن ألمها..
اتجهت أنظاره وهو أسفل يد ياسين في أول ردة فعل له نحو قدر التي كانت تنظر له بحدة وجسدها مشدود والكثير والكثير من الذكريات السيئة تحاوطها...
استقام ياسين ووقف قبالة جعفر يقول بتحدي:-
- أنا إللي حر'قت مخازنكم .. وأنا إللي حر'قت بنتك المجرمة بما'يه النار..
أنا كنت ورا خرابكم .. وبمساعدة مين...
بمساعدة فهد جعفر البحيري...
سار فهد حتى اقترب من عزيز النازف والمفترش الأرض رغم هوانه إلا أنه كان صُلب وجهه مغلف بالغموض وعدم التفسير..
جلس على عقبيه بجانبه ثم ابتسم ناظرًا لعزيز بشماته وقال موجهًا حديثه لجعفر:-
- مش ده الصايع ابن الشارع إللي عملت منه شيطان ولعبة تحركها لأغراضك وأهدافك وكان كبش الفدا زي ما كنت بتقولنا دايمًا...
هو فعلًا ابن شوارع وملهوش أي قيمة ويستاهل يبقى كبش فدا لكل قذراتك...
وانهال على عزيز باللكمات وأخذ يصيح بغلّ:-
- بس مكانش يستاهل أبدًا يشيل اسم البحيري، مينفعش عيل صايع أبوه اتبرى منه وهو هج من أهله يشيل اسم البحيري..
كان اسمه أيه يوم ما دخلته علينا أنا وفارس..
تصنع فهد التذكر وقال:-
- ااه .. طاهر .. طاهر رضوان قاصد..
أيوا أيوا متتصدمش كدا .. أنا كنت واقف ورا الباب وسمعتك وأنت بتقوله من هنا ورايح معدش فيه طاهر رضوان قاصد .. أنت عزيز جعفر البحيري وبس..
عند سماع هذا تخشب جسد قيس صدمةً وتوسعت أعينه لإدراك تلك الحقائق ... عزيز نفسه طاهر ولد الشيخ رضوان الذي قام بالاعتناء به ... ومن زين له طريق الغواية والمجون كان مَن؟!!!
والده....!!!
هل هكذا يكون جزاء والده رضوان...
كيف سيواجه الشيخ رضوان وزوجته بتلك الحقيقة المُره..!!
انصبت أنظاره المصدومة على عزيز الذي يستقبل ضربات فهد الذي يحمل بداخله أطنان من الحقد والكره على عزيز. 
وما جعل الجميع يقفون متخشبين حين ركض قيس بلهفة واضحة تجاه عزيز وأبعد فهد بضراوة لاكمه بشدة ثم جثى نحو عزيز قائلًا بسعادة وهو يسانده:-
- طاهر .. طاهر .. أنت طاهر..
صُدمت قدر من ردة فعل قيس العجيبة غير صدمتها لتلك الحقائق .. خفق قلبها بجنون وهي ترى تلك اللهفة الواضحة على وجهه..
في حين كان يتفهم جعفر الواجم الوجه الأمر وتجاهله قائلًا ببرود لفهد:-
- أطلع يا فهد وبلاش تلعب بعداد عمرك؛ لأنك مش هتقدر على حاجة .. خليك ابن مطيع..
استند فهد على الحائط خلفه بلامبالة ينظر نحو قيس الذي يساند عزيز المدعو بطاهر وقال بنبرة نارية تحمل بطياتها الكثير:-
- مش قولت ابنك بيجري في دمه نفس دمك القذر ... المهم عهدك خلاص خلص يا جعفر أو نقول يا ماجد.. 
وأنا عمري ما كنت ابنك لا أنا ولا فارس ولا هنكون .. الورق إللي فيه الحقيقة وبيثبتها بقى في إيد الشرطة وناس كبيرة أووي وحقيقتك خلاص اتفضحت يا نصاب...
اضطريت أمثل إن أنا ابنك ودا كان كل يوم بيد'بحني يا ماجد .. وجه وقت تتحساب على إللي عملته زمان..
يُتبع...~
- أنتَ بتعمل أيه؟!!!!
كان هذا سؤال قدر الزاخر بالإستنكار والخيبة وهي تنظر للهفة البادية عليه ولِما يفعله قيس بدهشة شديدة..
بينما أسند قيس طاهر بلهفة وهو ينظر لوجه الذي أصبح لوحة من الكدمات النازفة، أردف قيس بلهفة:-
- أنتَ طاهر .. أنتَ ابن الشيخ رضوان .. يعني المفروض أخويا .. يعني أنت ... طب إزاي عزيز..!
هنا خرج صوت فهد الجهوري يقول:-
- زي ما ماجد البنا بقى جعفر البحيري .. كمان طاهر رضوان بقى عزيز البحيري..
اسم أبويا وعيلتي إللي أطهر منهم أحتلوه..
النصاب إللي اسمه ماجد البنا قدر يسيطر على أمي واستغل إن أبويا مات محروق ومتشوه وسيطر على أمي وانتحل شخصيته وإن جعفر البحيري نجى بأعجوبة ورجع من الموت بشكل جديد..
أمي وثقت فيك ودي غلطتها الوحيدة إللي اتعاقبت عليها أنا وفارس وكمان إنها حرمت ابن ملهوش أي ذنب من أبوه..
بس بصراحة دي كانت حسنة محسوبة لها؛ لأن الأحسن والأفضل للابن ده وهو قيس إن يبعد عن أب زي ده .. يعني ربنا نجاه بس إحنا ابتلينا..
ماجد كان زي الكلب الصعران وجعان علشان يدوق طعم الشهرة .. الشهرة إللي أخدها من اسم أبويا الله يرحمه .. يعني طلع على كتف غيره ومعملش ألا إن هو شوه اسم أبويا ودمره وبقى معروف عند الكل إن جعفر البحيري مجرم وبقى اسمه يعمل رعب للكل .. وكل إللي كانوا يتعاملوا معاه وعارفين اسم جعفر البحيري اتصدموا من شخصيته الجديدة..
وبقى يزيد في تجبره وجرايمه علشان يداري على أكبر جريمة عملها في حياته والحقيقة وهي انتحال شخصية أبويا..
سيطر علينا وخلانا تحت طوعه وأنا في البداية صدقت التمثلية دي بس أنتوا غفلتوا إن ابن جعفر البحيري الحقيقي وإللي هو واحد بس وورثت عنه الذكاء الحاد، كنت براقب كل حاجة وأنا ساكت. 
استوليت على أملاكنا وسرقتها بالنصب وبدأت تنفش ريشك على أمي وتخلف بوعودك الباطلة واتفاقك، ولما أمي أدركت الموضوع وبدأ الندم يستولى عليها قررت تنهي كل حاجة بس ساعتها خلاص .. هي جابت محروم كل حاجات في وسط مجتمع مليان بكل حاجة، واحد كان عنده سبق الإجرام .. الإجرام كان بيجري في دمه بس كان منتظر فرصة وجاتله على طبق من دهب.. واتفنن وطلع طاقته إللي كانت متخبيه وموهبته..
أمي لما قررت تتراجع عن كل حاجة كان خلاص فات الأوان وقتلها بدم بارد..
كنت شاهد أنا على كل حاجة، شاهد على تعذيبك لها بعدم رحمة .. لما كنت تقنعنا إنها سافرت وأنت كنت واخدها تحت في مخزن القصر وبتعذب فيها بجميع الأساليب وفي الأخر رميتها في مستشفى المجانين وجننتها بالتعذيب إللي كنت بتوصي بيه عليها والأدوية المُميتة لغاية ما ماتت بحسرتها لمجرد إنها أدركت وقالت لازم ترجع ووقفت قصادك.
نفس القصة إللي كنت ناوي تكررها مع قدر بأوامر منك للنسخة التانية منك .. عزيز ولا نقول طاهر..
لا بصراحة أظن اسم طاهر مش يناسبه دلوقتي خالص يا قيس وبصراحة هو مأخدش أي نصيب من اسمه مش عارف ليه..
طبعًا ماتت أمي وسابت أصغر ضحية ليك بنتها وبنتك إللي طلعت نسخة منك في إجرامك وقلبها الأسود..
مُنى إللي المفروض أختك من الأب يا قيس وأختي من الأم..
لما شوفت ده كله وكنت لسه صغير بس كنت مدرك لكل حاجة ولما بردوه كبرت فهمت أكتر، ساعتها عرفت إن لو اعترضت على أي حاجة وعليك واتحداتك هيكون مصيرنا أنا وفارس نفس مصير أمنا فقولت لازم اللعب معاك يبقى بطريقة مختلفة..
وطبعًا ماجد باشا لما بدأت أقدامه تثبت خلاص لقيناه مدخل علينا عزيز وفرضه علينا كلنا والأكتر من كدا أنه بقى واحد مننا وشايل نفس اسمنا وأخونا الكبير كمان..
مش هنكر في الجزئية دي إن طاهر كان صيده سهلة لماجد وقذراته، كان ضحية بس بنكهة مختلفة تمامًا..
عمومًا كل إللي كانوا ملطخين بالأثام كانوا هما الضحية الظالمة..
في الأول أمي إللي غلطت كتير لما دخلت لعبة زي دي من الأول مع واحد ساومته على ابنه وقالتله شرط إن أديك الاسم وأدخلك العالم ده أنك تسيب بلدك وأهلك وابنك وتنسى ماضيك تمامًا ولا يربطك بيهم أي حاجة، وأخذت الجزاء من جنس العمل  
وبعدين طاهر ... إللي اتمرد على أبوه وأمه الناس الغلابة الطيبين وكان عنده إصرار غير عادي على إنه يخرج من العالم إللي كان فيه وإللي حس نفس جه غلطة فيه وكان منتظر إيد تتمد ليه تاخده لعالم الفجور وقد كان..
وعقابه النسخة إللي بقى عليها دلوقتي..
طول الفترة دي وهو لعبة ماجد وكلبه بيحركه زي ما هو عايز والأسوء من كدا يا طاهر إنك كنت مجرد كبش فدا وأداة ينفذ بيها إللي هو عايزه وأهدافه وفي أي لحظة مستعد يضحي بيك، لغى عقلك وشخصيتك وبقى يتحكم فيك ويسمم أفكارك أكتر ما كانت متسممه .. كان كل يوم بيغمسك جوا الضلمة واحدة واحدة..
غير حالة الإستضعاف والإذلال إللي كنت بتبقى فيها قدام جعفر البحيري وأنت مفكر إن هو ولي نعمتك وبيحبك وأبوك وليه أفضال عليك مش بتخلص، وإن هو عطاك الأمان والعيلة والحب وكل حاجة وكنت سعيد ومهما هو عمل مش بتعترض لأنك مش عايز ترجع فاشل تاني، أنت كنت خايف تخسر الاسم والعيلة والانتماء بعد ما كنت بتاع شوارع بعد ما أهلك اتخلوا عنك لما اتخليت عنهم، كنت عايز ترجع لهم بعد زمن تقولهم شوفوا طاهر بقاا أيه، شوفوا طاهر بقى فين ومش وقف عليكم ولا على وجودكم..
ودلوقتي هترجع لهم بس ياريتك زي ما سبتهم بل أسوء بمراحل.. هترجع بس خلاص بعد فوات الأوان وأنت مُحمل بأثام كتير أووي وخذلان وخيبة وصدمة وإيدك فاضيه..
كنت بشفق عليك وأنا عارف نوايا جعفر من ناحيتك، كان بيعاملنا ملوك وبيستخدمنا كل مرة إن يذلك ويكسر نفسك ويحقر منك علشان تفضل تحت إيده..
عمل منك مسخ ومجرم وشخص معدوم الضمير، لدرجة إنه أخرس ضميرك وزرع جواك شيطان يمشى ورا كلامه زي الأعمى وخلى عندك نفس تكبره وغروره .. كان بيحرضك على قدر وأنت زي الأعمى وراه ولما كان بيشوفك بدأت تحن ولا تشفق عليها كان بيقلب عليك الدنيا ويبدأ يوسوس ليك .. كنت شايفك وحاسس بيك بين نارين .. شفقان عليها لأنك بدأت تميل لها وفي نفس الوقت وصايا جعفر إللي كان مش بينزل من على ودنك..
كان يتحدث فهد بانفعال ونفاذ صبر بعد تلك السنوات التي حياها صامتًا مكممًا رغمًا عنه، كان الشاهد الصامت في القصة منذ البداية..
بينما هذا الذي أصبح الغرق في الدرك الأسفل من الصدمة نصيبه، الذي أخذ يتخبط بين أمواج الحقائق وتلك الصدمات تسقط على رأسه دون رحمة..
لم يستوعب قيس ما قيل بينما يقف بجانب عزيز الذي أصبح عالمه خالٍ فجأة..
رفع قيس أنظاره نحو والده ذا الوجه الجامد والذي لم يؤثر به شيء مما سمع..
مرحى حقًا فوالده مجرم من الطراز الرفيع..
لا .. لا ليست صدمة فحسب بالنسبة لقيس بل كانت لحظات إستيعاب بشكلٍ جيد..
إستيعاب عطايا الله ورحمته به التي كان يظنها حرمان ويبكي قهرًا عليها..
إذًا كل أقدار الله لنا خيرًا مليئة بالخير والرحمة وإن ظننها شرًا مستطيرا..
بينما كان يعيش الباقي من طفولته في ظل الحرمان لكن كان طاهرًا نقيًا لم تمسسه الأثام... بينما أخرون تم غمسهم بوحل لا سبيل للخروج منه..
إذًا أخذ الله عطاء بشكلٍ أخر...
فيجب الرضا بأي حال من الأحوال..
أمّا قدر فقد بدأت تستوعب شيئًا فشيء ما يحدث، تلك الخيوط المترابطة بعضها ببعض متشابكة منبعها خيطٌ واحد، توزع أنظارها بين الجميع فالجميع لديه حديث ذو شجون..
مَن الجاني ومَن الضحية، من الجلاد ومَن الفريسة.؟!
أصبحت الأمور مختلطة بعضها ببعض..
أَمِن الممكن أن يكون الجاني ذاته الضحية وأن الفريسة أصبحت الجلاد!!
قيس الذي بداخله شلالًا يعج ويثور ويضطرب ويمور .. شلالًا من الحزن والألم والحسرة ولا يعلم كيف الآن يكون الخلاص..!!
رمق قيس طاهر وأردف بحيرة:-
- أنا مش عارف أعتبرك أيه .. أنت طاهر ولا الشيطان عزيز .. إزاي بقيت كدا .. إزاي هان عليك الشيخ رضوان أبوك وأمك..
أشفق عليك ولا أكمل عليك وأكسر عضمك..
طب وإللي عمله معايا الشيخ رضوان وأمي رحيمة.. إزاي هواجههم.. إزاي هقولهم دا ابنكم النسخة الجديدة منه إللي أسوء مليون مرة من نسخته القديمة..
كنت وحيدة تايه طفل مش عارف يعمل أيه ولا يتصرف إزاي .. كان ممكن أبقى أسوء منك ومن إللي أسوء منك مليون مرة..
كان ممكن أضيع والحياة حوالينا مليانه بأسباب ملهاش أول من أخر للضياع وبالذات لطفل لسه في بداية حياته وتكوينه..
بس رحمة ربنا إن بعتلي الناس دي في الوقت المناسب وكان الشيخ رضوان ليا الأب إللي مخلفنيش وكذلك أمي رحيمة..
رغم إللي عملته يا طاهر بس دورنا عليك وكان قلب أمك محروق ومبطلتش دعاء ليك بالهدى..
ذنبهم أيه علشان يتحطوا في موقف زي ده..!!
وتصاعد صوته يعلو ويعلو وهو يتحرك ليقف أمام والده يصيح بصوت هادر وأعصابه قد تفلتت من معقلها وأوداجه منتفخة يوشك أن يُصاب بذبحة صدرية، هيئته والإنكسار الذي يعلوه تمزق القلوب :-
- ليه عملت كدا ... ليه .. ليه قولي ليه أذيت الكل بالطريقة دي .. طب مفتكرتنيش خالص .. مفتكرتش إن ممكن يحصلي زي ما حصل لولاد الناس دول ... بس أنا ربنا حماني مش علشان خاطرك ... علشان أمي .. أمي وبس..
الناس إللي ربت ابنك بطريقة أنت مستحيل كنت تعرف تربيني بيها هخلي ابنهم يقابلهم إزاي دلوقتي .. اقولهم أيه .. دي نتيجة المعروف إللي عملتوه معايا .. أبويا هو السبب الرئيسي إن ابنكم يوصل للمرحلة دي .. أقولهم دا رد المعروف..
طب أبويا رضوان وأمي رحيمة هيحصلهم أيه، أب وأم متلهفين لابنهم وتفكير الشيخ رضوان كله أمل وثقة بالله إن ممكن الأيام والوقت علموا ابنهم وغيروه للأفضل..
أنت كسرتني .. كسرتني مرتين وموت في عيني ألف مرة..
كسرتني لما اتخليت عني زمان وسيبتني وراك من غير ذرة تردد بس بحمد ربنا على الكسرة دي..
وكسرتني لما عرفت إن أنا واقف قدام مجرم متعدد الأغراض ... مجرم مسابش حاجة ألا ما عملها..
أنا الكسرة إللي جوايا مستحيل تتصلح يا ماجد، وحسرتي الكبيرة إن أنا شايل اسمك..
ابتلعت قدر ريقها بصعوبة فيبدو أنها ليست الوحيدة التي تمتلك قصة مؤلمة وجراح تسكن قلبها .. قيس كالوردة التي نبتت وسط الخراب..
فهمت ما يدور وسكن لهيب قلبها لكن تمزق قلبها لأجل حامي الحِمى خاصتها..
في حين تقدم فهد بجانب قيس وأردف بصوت يغمره الألم:-
- لا يا دكتور قيس أنت شايل اسم راجل لسه على حاله محدش يعرفه .. اسم ماجد البنا مش هو إللي اتشوه، اسم أبويا إللي مات من سنين ... نسب ليه ولصق في اسمه جرايم ملهاش أول من أخر وهو في رحمة رب العالمين..
أخفض قيس رأسه وأحناه للمرة الأولى بخذلان وهتف:-
- مش هعرف أرفع راسي تاني ولا أحط عيني في عين حد..
بصراحة مش عارف أقولك أيه يا فهد ولا أرجعلك حقك إزاي وعارف إن مهما أعمل مش هيكفر ولا هيرجع إللي حصل زمان...
لا أنت ولا ياسين وأسرته ولا الشيخ رضوان وأهل بيته..
ورفع أنظاره الغائمة بالإنكسار يضعها بأعين قدر المشوبة بالدموع وهمس وهو يتذكر عذابها وما لاقته:-
- ولا أنتِ يا تركواز..
وغامت أعينه بأعينها التي تخبره أنه لا بأس، ليس لك من هذا الأمر شيء، لا يحق لك الخجل والإنكسار .. أنت بقعة الضوء الوحيدة في وسط تلك الدُهمة البهماء .. فلا تحزن لن تترك يدي يدك أبدًا..
في حين أخبرتها أعين قيس العاشقة..
ذُقت الحب بعد قحل بئيس، وحين زارني طيفك سيدتي وكنتِ لي قدرُ قيس رحيم آنستُ به، فظننتُ الصيّب قد حطّ على قحطي لكن لم أنتبه أنه يجترّ سيلٌ جارف وقد جاءني الموج الأشد من كل مكان..
فما ظنك مولاتي، ماذا أنا فاعلٌ الآن.؟!!
وفي ظل دقائق كانت أفراد الشرطة تحاوط المكان والتفّت الأصفاد بأيدي جعفر الذي كان وجهه جامد يسقط منه شرّ جحيمي وصاح بوعيد لفهد:-
- هدفعك التمن غالي يا ابن رضوى .. هدفعك التمن غالي أووي..
نمت إبتسامة ساخرة فوق فم فهد وأردف:-
- عهدك انتهى يا ماجد .. خلاص انتهى كل حاجة، بقيت ولا حاجة..
بينما كان يقف قيس بثبات يُدير وجهه للجهة الأخرى ليصرخ ماجد قبل أن يسحبوه للخارج:-
- أنا أبوك يا قيس .. سامعني أبوك وليا حق عليك، ولو ومليون واحد رباك هتفضل ابني ودمي بيجري جوا عروقك ..مش هتعرف تخلعني من جواك يا قيس .. مستحيل..
أغمض قيس أعينه بشدة وتنفس بعمق، فتح أعينه ليجدهم يتجهون نحو طاهر الساكن بشكل غريب، فوقف أمام جسد طاهر يحيل بينهم ثم أردف يوجه حديثه لياسين وفهد:-
- كام ساعة .. محتاج كام ساعة وأنا بنفسي هسلمه لكم .. دا طلبي يا ياسين ورجاء يا فهد، مسؤول مني أسلمه لكم بس سيبوه معايا كام ساعة، في حاجة مهمة لازم اعملها..
تبادل فهد النظرات مع ياسين الذي حرك رأسه بإيجاب وثقة، فالتفت قيس لطاهر الذي رمقه بإمتنان شديد وحنين يغزو أوصاله..
قال قيس:-
- يلا يا طاهر..
سار طاهر بجانب قيس خارجًا حتى وقف أمام قدر المتعلق أعينها بقيس بجنون..
وخرج صوت طاهر مصبوغ بأشد قصائد الندم:-
- أنا آسف .. آسف يا قدر .. وعارف مش بالسهولة دي وإللي زي المسامحة ليه مش متاحة، علشان كدا مش هتجرأ وأقول سامحيني..
وخرج يتبعه قيس الذي توقف فور أن سمع قدر تقول من خلفه بصوت عاشق:-
- هستناك يا حامي الحِمى .. هستناك في بيتك وفي مكانا .. متتأخرش على تركواز يا قيسي..
ابتسم بحزن وقلبه يمور بعشق وخرج بصحبة طاهر متجهين حيث أخر مقر للحكاية.....
                   **************
في هذا المنزل المتوسط الذي يقبع على الشاطئ كان يتواجد قدر وأسرتها يلتفون ويتحدثون فيما حدث من قبل ويسرد كل شخص الحكاية من ناحيته..
كانت قدر الشارد عقلها مع قيسها تستقر بأحضان والديها وأشقاءها بأمان قد حُرمت منه هذا العام العُجاف..
وفي الأخير انتهى هذا الكابوس المزعج وانقشعت الظُلمة من فوق سماء أيامهم...
دلف ياسين مسرعًا يلهث ووجهه مكفهر فاعتدل الجميع يتسائلون بعجب وأولهم قدر التي وقفت أمام شقيقها تتسائل بقلق:-
- في أيه يا ياسين .. أيه حالتك دي، في حاجة حصلت..!!
مسح على شعره بعنف وقال بنبرة شديدة:-
- قيس ... قيس مختفي ومحدش يعرف عنه حاجة!!
يُتبع..~الخاتمة..
- لازم أروح مشوار الأول قبل ما أجي معاك يا قيس.
التفت له قيس الواجم الملامح واستفهم بتعجب:-
- فين!
ركب سيارته وأشار لقيس بالركوب وقال بوجه تعيس:-
- مشوار بسيط بس هيفرق معايا، هتعرف لما نوصل..
ركب قيس بهدوء بجانبه بينما عقله بوادٍ أخر، ولم يكن طاهر يختلف عن فقد عاد للسكون والصمت وتنبثق من أعينه نظرة خامدة لا توحي بحياة..
بعد مرور القليل وصل طاهر وبصحبته قيس لبلده متوسطة الحال وقام بإجراء بعض المهاتفات ليتوقف أمام مجموعة كبيرة من المخازن...
التزم قيس الصمت وبقى يشاهد فقط ليتفاجئ باقتراب مجموعة كبيرة من آلات الهدم..
وقف قيس بالقرب من طاهر والآن أصبح يفهم ما يحدث، أردف طاهر وأعينه تتأمل المكان والذكريات تطوف بعقله وكأنه حدث بالأمس:-
- دي حقوق لازم ترجع الأول لأصحابها يا قيس، قبل سنة كان هنا بيت قدر وعيلتها وبيوت ناس كتير أنا جيت وخرجتهم منها بالإجبار وقضيت على كل أحلامهم وحياتهم...
المخازن دي هتتهد والأرض ترجع لأصحابها من تاني والفلوس إللي في حسابي هتغطي مصاريف بناء بيوت الناس دي تاني..
عارف إن كدا مش تكفير عن غلطي وكل آثامي بس ده على الأقل هيريح ضميري شوية..
وبالفعل اتجهت آلات الهدم وأخذت المخازن التي بُنيت غصبًا وإكراهًا وشُيدت على دمار حياة آخرين تنهار وتسقط..
تنهد قيس ... نعم يعلم أن طاهر مجرم ومغمور بالأثام ... لكن يبقى أفضل من والده وأنقى منه، لم يُطمس على قلبه ولم تُغشى أعينه على الأخير..
إن عاد إلى الله سيستقبله بحفاوة ويستطيع أن يكتب بداية جديدة لحياة أطهر ونهاية لتلك الحكاية السيئة..
خرج صوت قيس الممزق:-
- أنت ربنا بيحبك وقدرلك الرجوع تاني يا طاهر، كل حاجة انكشفت قبل ما كان ماجد البنا يورطك في مصايب أكبر مكونتش هتقدر تخرج منها أبدًا..
واضح إن كان مرتبلك توريطات كبيرة. 
تقدر تكتب حكاية جديدة يا طاهر، ترجع حقوق العباد إللي ظلمتهم وتطلب منهم الغفران وتقف على باب ربنا وتتوب وترجعله..
تقدر تكون إنسان كويس وناجح وفاعل للخير يا طاهر وافتكر دايمًا الحسنة هتمسح السيئة، كتر من أفعال الخير وعوض عن أغلاطك وذنبك وافتكر دايمًا إن ربنا غفور رحيم رغم إن إللي أنت عملته ميعرفش للرحمة طريق..
اتعلمت منك درس مستحيل أنساه يا طاهر، وبسببك عرفت قيمة نِعم في حياتي مكونتش واخد بالي منها..
القلب اللين نعمة ... خليتنا اتمسك من هنا ورايح في حياتي إن أشكر ربنا على نعمة لين القلب، وإن أدعي دايمًا إن ربنا لا يطمس على قلبي، وإن ربنا لا يجعلني من القاسية قلوبهم ولا أكون غليظ القلب..
وإن ربنا لا يغشي على قلبي ولا يطمس بصيرتي، ويخلي دايمًا عندي رعب من المعصية وإن مستهينش بالمعصية والذنب...
أقسى عقاب يا طاهر إن ربنا يسيبك لنفسك ويسلطها عليك ... حقيقي رعب..
قدرت النعم إللي كنت فيها وأنا مش حاسس بيها..
تبان عند البعض حاجة بسيطة بس عدم وجودها دمار وضياع...
أنا مش عارف أقولك أيه يا طاهر ولا أحكم عليك؛ لأن أنا مين علشان أحكم على عبد من عباد الله..
أنا كمان عندي ذنوب ومفيش عبد خالي من الذنب وبدعي ربنا بالغفران..
ربنا أرحم بيك من أي حد ومش بيرد عبد ليه ندمان وتايب من على بابه، إللي بينك وبين ربنا مينفعش حد يتدخل فيه أبدًا...
لم يكن من طاهر إلا أن سجل هذا الحديث بذهنه جيدًا والتزم الصمت..
وبعد بعض الوقت كان طاهر يتجه إلى أخر مكان ظن أنه سيعود له يومًا ما..
 مكان كان يسعى ويفعل ما فعله لأجل أن يُصبح ذا شأن ويثبت لهم عكس ما ظنوا..
مكان غدر هو به ولم يعلم أن لا أحد في هذا العالم يُحبه أكثر ممنْ في هذا المكان...
زين له الشيطان وزينت له نفسه الأمارة بالسوء الغواية وظن أنه لن يكون بحاجة إليهم يومًا ما تناسى البر والإحسان .. وتلك المبادئ والقيم التي جاهد رضوان جهادًا شديدًا لوضعها بداخله لكن بالمقابل كان هو يلفظها من داخله بإيباء شديد..
رحل عنهم خالي الوفاض وهو لا شيء وحلُم بتلك اللحظة التي يعود بها أمامهم شامخ الرأس لكن الآن سيقف أمامهم بنسخة أسوء من ذي قبل..
فهل يا تُرى سيقبله الشيخ رضوان في منزله، هل سيستقبل هذا الآثِم في منزله الطاهر ويلوثه كما كان يخبره قديمًا. 
وأخيرًا أتت اللحظة المرتقبة، عاد طاهر ووقف أمام المنزل .. عاد للوطن مرةً أخرى..
وقف ينظر للمنزل الذي لم تُغيره الأزمان، باقٍ على حالته من السكون والطمأنينه التي تُصيب قلبه حين الوقوف أمامه..
هل هذا ذات المنزل الذي كلما رأيته قديمًا اغتم قلبي لتلك القيود التي كان يستنها رضوان كما كان ينعتها هو..!
نعم الصلاة الذي كان يأمره والده بها ويحثه عليها كان يسميها قيود..
حفظ القرآن الذي كان يدفعه والده عليه كان له قيد..
حتى تلك الصدقات الذي كان يشجعه والده ويعطيها له ليوصلها إلى المساكين كان يعتبرها إهدارًا للأموال ولم يكن ليوصلها للفقراء ويذهب بها وينفقها في اللهو والدخان..
لم يُعنفه رضوان قط بل كان دائم معاملته ونصحه بالحسنى وإخباره عن الجنة وفضل الصدقات..
الآن يا إلهي!! لماذا هذا الأمان الذي عبئ قلبي ودواخلي فور أن وقفت أمام باب دارك يا أبي، هذا الشوق والحنين يا أمي لم أكن أُدرك أنه موجود، أو أني كنت أقتله وأوأده حين أشعر به ينبت بداخلي..
في ذات الحين بالمنزل المجاور من الجهة الأخرى لمنزل الشيخ رضوان تقف بالشرفة تروي الزرع والورد بإبتسامة مشرقة لم تخفي لمحات الحزن من فوق وجهها..
التفتت تروي الزروع التي بالجهة الأخرى لكنها تخشبت فور أن وقعت أعينها على هذا الغائب عن عينها وحياتها الحاضر دائمًا بقلبها..
عاد .. لقد عاد القاسي..
نعم تتعرف عليه، فهي ذاتها الملامح التي ازدادت وسامة .. لم يتغير شيء سوى هذا الشيب الذي أخذ يُزاحم خصلاته الفحمية..
لكن... لماذا؟!!
لماذا مبكرًا قد اقتحم رأسك الشيب عزيزي طاهر..
تسارع نبض قلب ضحى التي بقت تنتظر أعوام على أمل عودة طاهر..
بإخلاص لحب مراهقة بل تعلق طفلة رفضت الزواج وعكفت على الترقب والانتظار على أمل اللقاء..
لكن عزيزتي ضحى أخشى أن يكون طاهر مِمَن لا يستحقون الإنتظار..!
همست بشوق وأعينها المتلهفة تأكل ملامحه:-
- طاهر..
كان طاهر مازال يتأمل المنزل من أعلى لأسفل لتقع أعينه على التي تقف خلف زرعها، نعم هي أيضًا ممن تركهم خلف ظهره دون أن يلتفت..
عشق المراهقة خاصته .. ضحى الذي بذل لأجل محوها الكثير والكثير، لكن يبدو أنها موشومة بروحه..
نعم هو اكتسب قسوة القلب لأجل أن ينسى الماضي وأشخاص الماضي، لأجل ألا يؤثر به شيء..
لكن الآن لا يجوز .. الحنين مُحرم عليه الآن..
أبعد أنظاره مُجبرًا فآلان عهد التكفير عن ذنوبه وليس الحنين. 
لم يكن طاهر وحده من تدور بداخله حروب طاحنة، بل قيس الذي يُفكر في ردود أفعال الشيخ رضوان وزوجته عند علمهم بالحكاية..
لابد من تلك المواجهة وإن كانت نهايتها خسارته لأبويه للمرة الثانية..
سار برفقة طاهر للداخل ووقف هو أمامه ثم طرق الباب بهدوء وبداخله عواصف تموج..
فتحت رحيمة الباب لتُهديه إبتسامة حانية:-
- قيس .. اتفضل يا حبيب أمك، عاش من شافك يا واد ولا علشان اتجوزت بقاا مش كفاية أنا عديتها..
استدارت للداخل وهي تُحدثه بينما كان الشيخ رضوان جالسًا يتلو في كتاب الله وفور أن رأى قيس الذي يقف على عتبة باب المنزل حتى أغلق المصحف مبتسمًا وهو يقول:-
- ادخل يا قيس واقف ليه كدا..
تنحى قيس حتى تجلى لهم طاهر....
سنوات ضائعة ... ملامح متغيرة ... ونظرات مختلفة..
لكن هو طاهر .. يحمل ملامح طاهر ذاتها .. وهذا أب وهذه أم يكتويان بنار الشوق والحنين والحنان والتلهف لولدهم حتى وإن كانت الأثام تغرقه. 
سقط ما بيد رحيمة واستقام الشيخ رضوان ينظر بأعين متسعة تدور بجنون حول هذه الملامح، شاعرًا بأن أقدامه عاجزة عن حمله..
أمّا طاهر فكان يقف أمامهم مطأطأ الرأس فقد عتى هو عُتوًا كبيرا وذهب عمره هبائًا منثورا..
لا يقوى على رفع رأسه بهم، لا يستيطع أن تنغمس أعينه داخل أعينهم..
هل يا تُرى يحق له طلب الغفران منهم؟!
إلى الآن لا يدرك طاهر أنهم أب وأم، مهما أخطأ أبناءهم لا ينزعجون لا يبغضون، تبقى أحضانها فاغرة دائمًا..
انفجرت رحيمة ببكاء عنيف وصرخت بتلهف وهي تهرع نحوه تجذبه لأحضانها بحنان:-
- طاهر ... طاهر ابني .. طاهر يا حبيب أمك..
كنت عارفة والله يا ابني .. كنت عارفة إنك هترجع .. ألف حمد وشكر ليك يارب .. طاهر خلاص رجع .. ابني رجعلي يا ناس..
وهنا أطلق طاهر العنان لكل شيء بداخله وكل شيء مكبوت..
رفع ذراعيه يحاوط والدته وهو يغمض أعينه لهذه المشاعر والأمان التي غزته، أشياء لم يعلم قيمتها إلا حين فقدها..
يزرع نفسه داخل أحضانها بشدة ينعم بالسكون أخيرًا ... فالدار أمان الآن..
لم تكتفي رحيمة ولكنها ابتعدت عنه مرغمة تنظر لملامح وجهه وتتحسسه بحنان فقال طاهر بأعين مليئة بالدموع:-
- وحشتيني يا أمي .. وحشتيني.
لم تصدق أذنيها فيما سمعت .. هل يقول أمي..
كان قلبها متسلحًا باليقين أن تلك الكلمة ستدلف أذنيها يومًا ما...
نظر طاهر نحو والده المتخشب بأرضه لم يُحرك ساكنًا فعلم أنه لن يكون له نصيب من الغفران بقلب الشيخ رضوان..
إلا أنه لم يرضخ بل هرع نحو والده وانحنى يجثو أرضًا عند أقدامه يقبل قدميه وسقطت الدموع فوق أقدامه وهو يقول باكيًا:-
- سامحني يا شيخ رضوان ... سامح طاهر يا أبويا.. سامحني .. لفيت لفتي ورجعت ليك زي ما قولتلي .. مصيري ومرجعي لهنا يا شيخ رضوان..
كان عندك حق في كل كلمة يا أبويا كان عندك حق ومن يوم ما خرجت من هنا مدوقتش طعم الأمان إللي معرفتش قيمته ألا ما بعدت عنه..
وارتفع يُقبل يديّ والده الذي جذبه لأحضانه بسعادة وقال:-
- الحمد لله على سلامتك يا طاهر .. الحمد لله .. الحمد لله على كل شيء يا ابني..
الحمد لله إن رب العالمين نور بصيرتك يا طاهر..
أنا أبوك والأب بيسامح يا ابني ومش بيزعل من ابنه..
ورب العاملين بيسامح .. أنت غلطت في حق رب العباد ولازم تطلب السماح والمغفرة منه...
وانشغل الشيخ رضوان ورحيمة بطاهر وبقى قيس يقف بأحد الزوايا ينتظر بترقب اللحظة الحاسمة، لا يعلم كيف سيرفع رأسه أمامهم..
وجاء السؤال المرتقب، تسائل رضوان بتعجب وهو ينظر لقيس:-
- وأنت عرفت طاهر منين يا قيس ورجعته إزاي .. يعني اتقابلت فيه إزاي يا ابني..
أوشك طاهر على إختلاق كذبه لكن سبقه قيس قائلًا:-
- لا يا طاهر .. الكذب من هيفيد في حاجة، الحقيقة مسيرها في يوم تتعرف، فابدأ وقول الحكاية من أولها علشان أرتاح..
رمقه طاهر برفض واعتراض تحت تعجب الشيخ رضوان وزوجته لكن أصرّ قيس:-
- لا يا طاهر .. قول الحقيقة.. والأحسن تحكي أنت أفضل..
ابتلع طاهر ريقه لما هو قادم عليه وشرع يسرد الحكاية منذ البداية تحت غليان قلب رحيمة فهي بالأخير أم تآكل قلبها لتلاعب هذا الحقير بمشاعر ولدها واستغلاله بأبشع الطرق، سرد لها أفعاله وجرائمه وما فعله بقدر وعائلتها..
وكشف الحقيقة وحكايته مع قيس...
حتى وصل لخط النهاية..
كان قيس يشعر بأبشع مشاعر مر بها طيلة حياته، الخجل .. الخذلان .. العجز. 
يدرك الآن ما يدور بداخلهم جيدًا وما الخواطر التي تُلقى بعقولهم..
وإلى هذا الحد لم يستطع قيس التحمل وخرج مسرعًا بقلب يقطر ألمًا..
الآن خسر كل شيء .. الجميع .. الجميع تركه ونبذه وبقى مذموم.  
قال طاهر بصدق:-
- قيس ملهوش أي ذنب .. بالعكس هو دافع عني وأخد بإيدي لهنا .. هو كمان ضحية عاش من غير أب وأم واتصدم صدمة عمره في أبوه..
الصدمة إللي أخدها مش سهلة أبدًا يا شيخ رضوان، قيس شخص حساس ومش بيقبل الأذية لحد وشايل إللي عملتوه معاه فوق راسه وفي عينه..
وصمت طاهر ثم أكمل مبتلعًا ريقه بتوتر:-
- أنا رجعت لكم بس لازم ادفع تمن إللي عملته وحقوق العباد يا شيخ رضوان، هرجع تاني بس هرجع طاهر إللي يليق بيكم .. لازم أدفن عزيز علشان طاهر يرجع..
محتاج دعواتكم يا أمي أنتِ وأبويا ورضاكم علشان أكفر عن أغلاطي...
أنا لازم أبدأ من الصفر وادفن الماضي تمامًا..
بكت رحيمة بشدة بينما نظر له والده بسعادة بالغة وقال بهدوء:-
- هننتظرك يا طاهر ودعواتنا معاك .. راضين عنك يا طاهر وأنا واثق إنك هتلاقي الطريق .. واثق فيك يا طاهر..
وقضى طاهر الوقت برفقة والديه وشقيقاته حتى أتى وقت الرحيل فخرج بعد الكثير من الأحضان..
وقف أمام المنزل وهو يرى تلك التي تقف في الشرفة بأعين حزينة وقد قصت له والدته موقفها بعد رحيله والتي فهمتها والدته دون أن تخبرها ضحى...
سار حتى وقف أسفل الشرفة وأردف دون أن ينظر لها:-
- انتظريني يا ضحى .. هرجعلك .. بس هرجع طاهر إللي يستحقك يا ضحى.. استنيتي يا بسكوته..
ورحل متجهًا نحو مركز الشرطة بشموخ ورأس مرفوع لتنمو إبتسامة تلك التي أشرق وجهها وهمست بسعادة:-
- دعيت كتير أووي يا طاهر .. هستناك زي ما استنيتك السنين دي كلها ومتنساش إن باب التوبة والمغفرة دايمًا مفتوح وإن الله يبسط يده بالنهار ليتوب مُسيء الليل ويبسط يده بالليل ليتوب مُسيء النهار..
هدعيلك دايمًا يا طاهر..
                         ********
وصل طاهر لمركز الشرطة ليقابله ياسين وبصحبته فهد..
وقف طاهر برأس مرفوع أمام فهد وهتف:-
- إللي حصل لأبوك جعفر البحيري الحقيقي على إيد ماجد البنا إللي لعب دور أبوك جعفر بعد موته  .. أنا مليش ذنب فيه يا فهد..
ومدّ له يده بمفتاح سيارته وقال:-
- دا مفتاح عربيتي وكدا مفيش أي حاجة بقت ملكي من أملاكك أنت وفارس...
مع إن الشركات والشغل أنا إللي قومته كنت بشتغل دون رحمة ليلي ونهاري وأنت شاهد ومش هتنكر، إللي وصلتله شركات البحيري بفضلي بس أنا مش عايز أي حاجة من الماضي أنا قفلت على الصفحة دي للأبد..
بس إللي طالبه منك بحسابي إللي في البنك ترجع تبني بيوت الناس مكان المخازن إللي اتهدت وترجعهم لأصحابهم وأولهم بيت قدر وعيلتها...
المخازن اتهدت والعمال شغالين عليك أنت تباشر الشغل بس..
ووجه أنظاره لياسين قائلًا:-
- قيس محتاجكم يا ياسين مش تسيبوه، بيته جمب بيتي روحله وخليك جمبه..
بالنسبة للي عملته في عيلتك وفي قدر يا ياسين أنا بسلم نفسي أهو وهاخد عقابي..
وأتمنى في يوم تقدروا تسامحوني علشان ربنا يسامحني، مع إني مقدر وعارف إن صعب..
وبشكركم لأن ربنا جعلكم سبب في إن الغشاوة إللي عيني وقلبي تتزال..
                     ***********
وصل ياسين لمنزل قيس وظلّ يطرق الباب بإلحاح لكن لا فائدة ... لا إجابة..
خرج الشيخ رضوان من منزله على صوت الطرقات وقال لياسين:-
- أهلًا يا ابني .. أنت عايز قيس..
حرك ياسين رأسه بإيجاب وقال:-
- أيوا ... إزيك يا عمي..
دقق الشيخ رضوان بوجه ياسين فقال متذكرًا:-
- أنت ياسين .. أخو قدر إللي اتجوزها قيس
فهم ياسين من يكون، وأنه والد طاهر والرجل الذي قام بالإهتمام بقيس، فقال ياسين بإحترام:-
- أهلًا بيك يا عمي .. أيوا أنا ياسين..
أردف الشيخ رضوان بإلحاح:-
- طب تعال اتفضل يا ابني ميصحش تفضل واقف كدا..
- الله يبارك فيك يا عمي ... أنا كنت عايز قيس بس مش موجود تقريبًا..
ردد رضوان بحزن:-
- هو مش موجود يا ياسين .. لما خبطت كتير ومردش دخلت ملقيتش حد جوا، ومش عارف هو فين ومش عارفين نوصله..
أنا عارف وحاسس بإللي هو فيه، وعايز أكون جنبه واقوله أبوك مستحيل يتخلى عنك يا قيس وياخدك بذنب أنت ملكش يد فيه..
أفهمه إن أنا معاه وفي ضهره ومش هسيبه أبدًا وغلاوته في قلبي نفس غلاوة طاهر، دا ابني إللي ربيته..
شعر ياسين بالكثير من الإمتنان لهذا الرجل الصالح حقًا وقال:-
- حقيقي ربنا يجازيك خير يا شيخ رضوان على موقفك ده ومحبتك لقيس... 
حقيقي الأشخاص إللي زيك بقوا قليلين جدًا..
ربنا يكثر من أمثالك يارب..
- دا ابني يا ياسين وإللي يوجعه يوجعني، المهم يرجع وأوصله..
تسائل ياسين فقد مرت ساعات طويلة على إختفاء قيس وقد استبد القلق به:-
- طب مش عندك فكرة يكون قيس فين..
فكر رضوان قليلًا ثم قال بحيرة:-
- والله يا ابني مش عارف .. بس هو مش ليه ألا هنا .. والعشة إللي على البحر بس أنتوا متواجدين فيها .. تقريبًا مش ليه أي أماكن تانية..
وبقى يُفكر لكنه قال بحيرة:-
- ملهوش أي مكان تاني يا ابني .. أنا محتار ومش عارف راح فين وقلقان عليه جامد أوي..
التهب قلب ياسين بالقلق لكنه قال بثبات يطمئن الشيخ رضوان:-
- إن شاء الله خير يا عمي رضوان، قيس عاقل وشخص متزن وعلاقته بربنا قوية مش هيحصله حاجة، هيبقى بخير إن شاء الله هو بس أكيد حب يقعد مع نفسه شوية..
أنا هدور عليه وبإذن الله لما أوصله هخليه يكلمك يطمنك..
قال رضوان بقلب مكلوم:-
- ماشي يا ابني وأنا هنتظركم، ربنا يهون عليه ويبعد عنه الهم والحزن ويعوضه خير يارب..
انصرف ياسين وقاد سيارته حتى وصل لهذا المنزل المتواجد على الشاطئ والذي يوجد به قدر شقيقته واسرتهم...
دلف ياسين مسرعًا يلهث ووجهه مكفهر فاعتدل الجميع يتسائلون بعجب وأولهم قدر التي وقفت أمام شقيقها تتسائل بقلق:-
- في أيه يا ياسين .. أيه حالتك دي، في حاجة حصلت..!!
مسح على شعره بعنف وقال بنبرة شديدة:-
- قيس ... قيس مختفي ومحدش يعرف عنه حاجة!!
تخشب جسد قدر وأخذ قلبها ينبض بجنون لتتسائل بتيهة وعدم فهم:-
- يعني أيه اختفى .. قصدك أخد عزيز وهربه ولا أيه .. يعني هو مرجعوش..
نفى ياسين وأخذ يسرد لها ما حدث، وما فعله طاهر لأجل منزلهم ومواجهته مع والديه وانسحاب قيس..
أخذ قلب قدر يتخبط في شُعب القلق وشرد عقلها وهي تشعر بما يشعر به قيس الآن والألم الذي يمكث بقلبه..
ما ذنبه وما خطأه!!
هو لم يأثم..
هتف والد قدر بحزن:-
- لا حول ولا قوة إلا بالله .. وأيه ذنبه علشان يعيش المواقف دي .. ربنا يفرج كربه يارب، شاب صالح ومكافح ويعرف ربنا بجد وعنده ضمير ربنا يبارك فيه يارب .. مش هنسى إللي عمله أبدًا ووقفته جمب قدر.. 
وأخذت حليمة تلهث بالدعاء له بينما كان كلًا من رائف ورائد يتبادلان النظرات الخبيثة ورغم ما مروا به لكن شغبهم لم يهدأ..
اقتربوا من قدر الشاردة وهتف رائد بمكر:- 
- ألا بقولك يا رائف ... شكل الصنارة غمزت وقدر أخونا الحمش واقع في الغرام .. بس دي أخر حاجة كنت أتوقعها في الحياة .. مش راكبة على بعضها خالص ياض يا رائف..
أيده رائف بمكره قائلًا:-
- عندك حق يا رائد .. الله يرحم لما كان صوتها بيجيب أخر البلد علشان كيس الشيبسي إللي بالطماطم والمولتو..
والله وشوفنا قدر متجوزه وعندها جوز خايفه عليه..
رمقتهم قدر بغضب من سخريتهم فليس هذا الوقت المناسب لمزاحهم..
كان عقلها شارد في الحديث الذي دار بينها وبين حامي الحمى خاصتها وهم على الشاطىء وفجأة أضاء عقلها بشيء ما..
صرخت تقول لياسين:-
- ياسين تعال معايا بسرعة .. وصلني للمكان ده..
وخرجت مسرعة ليهرع ياسين خلفها وتسائل بعجب:-
- أيه هو أنتِ تعرفي مكان قيس يا قدر..
قالت قدر بلهفة:-
- إن شاء الله هيكون موجود في المكان ده، هو قالي إن بيحب الأماكن القريبة من السما بتهدى أعصابه وبتخليه يروق .. وقالي على مكان بيروحه وبيحب يكون فيه لواحده..
وبيسافر علشان يروح يقضي فيه وقت، المقطم يا ياسين ... لازم نسافر دلوقتي..
أنا عارفة هو حب يبعد عن الكل..
بعد رحيلهم نظر كلًا من والد قدر ووالدتها لبعضهم البعض مبتسمين، لتقول والدتها:-
- يا أبو ياسين تبان إن الحكاية من الأول شر، بس هي مليانه خير كتير أووي..
ردد مؤكدًا:-
- ربُ الخير لا يأتي إلا بالخير .. إحنا راضين يا أم ياسين وبنشهده على كدا...
هنرجع بيتنا ونبدأ من جديد وولادنا حولينا وكمان كسبنا ابن تاني وجوده نادر اليومين دول الدكتور قيس..
                   ^^^^^^^^^^^^^^^
بعد ما يقارب الثلاث ساعات كانت سيارت ياسين وصلت للمكان المنشود..
بحثوا كثيرًا في الأرجاء لكن لا أثر لقيس...
المنطقة واسعة لكن لم تيأس قدر في البحث عنه بلهفة حتى وصلت لمكان معزول به أضواء خافته وسط سواد الليل .. دارت أعينها في أرجاء المكان بلهفة وقلبها يبتهل برجاء..
وقعت أعينها عليه منزوِ يجلس أرضًا مستند على شجرة ويحني رأسه لأسفل.. 
تمزق قلبها وشعرت أن ثمة خنجر بارد غُرز به، توسعت أعينها وغشاها الدمع بينما قلبها يجأر خلف ضلوعها بألم على تلك الحالة التي رأته عليها..
قال ياسين بتفهم:-
- أنا هنتظرك في العربية يا قدر..
أطلقت العنان لأقدامها وهرعت نحوه بلهفة وبمجرد أن أصبحت بجانبه حتى جثت أرضًا واستكانت إلى جواره ساحبه رأسه لصدرها بحنان تربت على رأسه وظهره ودموعها تغرق وجهها، وهمست له بحنان وعشق:-
- أنا هنا يا حامي الحِمي ... قيسي حبيبي قدر معاك، بقى كدا يا قيس بحسب أنا أول حد هتلجأ لها .. تبعد عني بالطريقة دي..
أنا حاسه بيك يا حامي الحمى حاسه بقلبك، بس احمد ربنا ... لُطف الله عز وجل الخفي محاوطنا، والله كله قدر خير..
كل واحد أخد الجزاء إللي يستحقه، فهد رجع ليه هو وأخوه حقوقهم هما اتظلموا يا قيس وسمعة أبوهم إللي اتشوهت صعبة .. كان لازم الحقيقة تظهر وحق امهم يرجع لهم..
الشيخ رضوان والست رحيمة منتظرينك وقلقانين عليك ... الشيخ رضوان راجل حكيم ومتصل بالله وأنت ملكش أي ذنب علشان يزعل منك وابنه بدأ بداية جديدة وبداية صح..
وإحنا راضين يا قيس وكل حاجة انتهت والأهم إن أهلي رجعوا..
تعرف رغم الوجع والعذاب إللي شوفته مع عزيز بس أنا كنت فاهمه إللي هو فيه، كان في شيطان بيوسوسله ومش مديه فرصة حتى يفكر ومن غير زعل كان جعفر كان مسيطر عليه سيطرة تامة ومستعبده..
كنت عارفة إن في حاجات كتير بيعملها مش محض إرادته زي ما يكون شيطان مسيطر عليه ومخليه مريض ... زي ما يكون عايز يثبت حاجة لحد..
رغم أنه كان شيطان معايا وبيتعمد يعمل الحاجات إللي بتوجعني بس في حاجات تانية بتُحسب ليه..
إنسانيته متعدمتش على الأخر ومقتلش أهلي رغم إنه كان موصل لجعفر البحيري إن قتلهم، دي عندي بالدنيا كلها...
رغم إن كنت متاحة ليه ويقدر يعمل فيا أي حاجة وفي طرق كتيرة أوي يقدر يذلني بيها ويكسرني لكنه معملهاش ... يعني مقربش مني أبدًا رغم إنه كان موصل لجعفر إن هو اعتدى عليا وكسرني..
كان في حاجات منه بتخليني أتعجب منه...
هو غلط واتجبر وأجرم في حقي وحق أهلي وأنا مقدرش أبدًا أنسى أو أسامح بسهولة إللي حصل..
بس يكفي إنه رجع لطريق رب العالمين، أيوا فرحانة إن واحد من إللي ضلوا طريقهم رجع ندمان يطرق باب الرحمن ويمكن في يوم أقدر أسامحه..
يا قيس أنا اتعلمت وآمنت إن الخير مش موجود ألا في الشر .. وإن الشر مش وحش ولا حاجة زي ما إحنا مفكرين لأنه هو إللي بيوصلنا للخير..
إللي حصلي علمني كتير أوي يا قيس والسنة دي غيرت في فكري كتير وحسستني بقدر نِعم كانت مغرقاني وأنا مش حاسه بقيمتها، زرعت جوايا الأمل واليقين بالله والثقة إللي مهما أشوف بيحصل حوليا مستحيل أتهز لأن عارفه إن لازم ورا الضلمة النور وبعد العسر يسر..
دي معادلة مفروغ منها يا قيس..
صدقني دا كله خير، وإللي إحنا فيه وهيمر يا قيس، لو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع يا قيس وأنا اتعلمت منك اليقين والثقة بالله، لما كنت بتقعد قدامي وتقولي .. أنك معاك قوة كبيرة ومستحيل تنهزم وإن مفيش حد يقدر يإذيك وربنا معاك..
وفعلًا أنت مش اتأذيت يا قيس .. لأن دا إللي ربنا كتبه..
دا اختبار من ربنا ليك واوعى تخفق فيه..
وافتكر إن أنا معاك ومش هسيبك أبدًا، وإن كل إللي حصل قدر خير..
نعم ... قدر خير .. قدر أوصله لقدره...
اختبارات وقدر أوصله لقدر قيس ... لم يكن كل هذا سوى ........ <<قدر قيس>>
رفع ذراعيه يغرزها بأحضانه وقد هون حديثها على قلبه وخفف عنه فيكفيه تواجدها وظهورها بحياته فلولا ما حدث ما كان ليلتقي قيس بقدره..
إنها قصة قدر كله رحمة ولُطف..
وبالأخير كانت النهاية عادلة ونال الكل جزاءه على ما قدمت يداه..
هبطت دموع قيس على صدرها لتحتويه بحنان ومودة وهي تقبل أعلى رأسه ليُدرك هنا أنه بصدد بدء حياة جديدة مغمورة بالعوض....
حتمًا يأتي العوض حتى وإن تأخر، فلعلّ الله أرادها أن تأتي متأخرة لتكون أعظم وأكرم وأجمل..
همس قيس بعشق:-
- بحبك يا تركواز ... عاشقك يا قدر قيس..
ابتسمت بسعادة وقلبها ينبض بجنون وبادلته همسه قائلة:-
- وأنا عشقاك يا طبيب ... يا حامي الحمى..
وتحت السما المليانه بالنجوم .. أنا والطبيب بس..
تبدأ حكايتي ومشواري أنا والطبيب ... أيوا تبدأ لأن النهاية ما هي إلا بداية جديدة..
همس قيس وهو يقبل رأسها:-
تمت بحمدلله

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-