رواية مملكة سفيد كاملة جميع الفصول بقلم رحمه نبيل

رواية مملكة سفيد كاملة جميع الفصول بقلم رحمه نبيل


رواية مملكة سفيد كاملة جميع الفصول هى رواية من تأليف المؤلفة المميزة رحمه نبيل رواية مملكة سفيد كاملة جميع الفصول صدرت لاول مرة على فيسبوك الشهير رواية مملكة سفيد كاملة جميع الفصول حققت نجاحا كبيرا في موقع فيسبوك وايضا زاد البحث عنها في محرك البحث جوجل لذلك سنعرض لكم رواية مملكة سفيد كاملة جميع الفصول
رواية مملكة سفيد بقلم رحمه نبيل

رواية مملكة سفيد كاملة جميع الفصول

إن كانَ لَيْلُكَ قد كساكَ بُحزنهِ
ما ذنبُ صُبحِكَ أن يراكَ حزينا؟!”.
صلوا على نبي الرحمة
_________________
تسير والحذر رفيقها، تشعر أنها تود لو تطير متجاوزة تلك المنطقة، لا ترغب أن تمر بها وتعرض آذانها العزيزة لصيحات النساء، وتهكمات الثرثارات منهن، الأمر وما فيه أنها ملت كل ذلك، والأصح أنها ملت الحياة في تلك المنطقة، ولولا كسرة الخبز الجافة التي تتناولها كل يوم في غرفتها الرطبة العفنة، لكانت رحلت عن المكان بأكمله، لكن ماذا تفعل وحياة التقشف تناديها وتغريها .
وقع بصرها فجأة على عربة فواكهة بها اطباق جاهزة من فواكهة متنوعة، ثمرة تقريبًا من كل نوع، وفوق الطبق كُتب ( ٢٠ جنيهًا بدلًا من ٢٥ ).
ها انظروا المزيد من الاغراءات كي لا ترحل عن المكان، بالله عليكم كيف تترك تلك المنطقة التي تبيع أربعة ثمرات فواكه بخصم خمسة جنيهات ؟! أين قد تحصل على مثل تلك الرفاهيات ؟!
خرجت تبارك واخيرًا من تلك المنطقة بعدما استطاعت تلاشي ألسنة سكانها اللاذعة، انحرفت في شوارع عدة تركض بين برك المياه الملوثة، غير مهتمة بحذائها، فهو وَسخ على أية حال ..
توقفت أمام بناية صغيرة من ثلاثة أدوار، تتنفس بصوت مرتفع تجفف عرق وجهها متحركة صوب الداخل، وقد ظهرت لافتة مهترئة تعلو مدخل البناية كُتب عليها ( مستشفى الأمل والحياة ) حيث يُقتل الأمل وتتلاشى الحياة .
ابتسمت تستقبل يوم جديد في عملها بكامل الطاقة والحيوية، تفتح ذراعيها بسعادة، وبدلًا أن تستقبل طاقتها الإيجابية، استقبلت طفل صغير يبكي بصوت مرتفع وصديقتها تقول :
” امسكي يا تبارك العيل الزنان ده لغاية ما أمه تخرج من الكشف، أنا مش فاهمة الناس اللي بتيجي يكشف ويجيب عيل معاه ويرميه لينا ”
نظرت تبارك بصدمة لذلك الصغير الذي يقبع بين أحضانها يبكي ويجذب حجابها، بينما هي تحاول أن تتلاشى يده قائلة بصدمة :
” طب وأنا مالي يا سميرة، خدي الولد ده أنا مش فاضية عندي مرور على العنابر ”
لكن سميرة كانت قد رحلت بالفعل، وتبارك نظرت للصغير الذي كان صوته قد أيقظ الاموات من قبورهم، زفرت تتحرك به صوب غرفة تبديل الثياب تاركة إياه على الأرض تختفي خلف ستار لتبدل ثيابها لثياب العمل، إذ كانت تبارك تعمل في هذه المشفى المتواضعة ” ممرضة ” .
خرجت تعدل من وضعية ثيابها، تحمل الصغير مجددًا تضع القلم في فمها وتمسك مدونة بين أصابع يدها الحرة تقول :
” همشي أنا بيك في المستشفى كده ؟؟ أمك بتولد ولا ايه ؟! كل ده كشف ؟؟”
ختمت حديثها تتحرك دخل بعض الممرات كي تمر على بعض العنابر تطمئن على المرضى والصغير ما يزال يبكي بين ذراعيها، وبدأت بعض الجمل الحانقة تخرج من فم جميع المسطحين على الأسرة ..
” يا ختي وهي ناقصة دوشة عشان تجينا بابنك؟!”
” كنتِ سبتيه مع أبوه يا بنتي بدل بهدلتك بيه دي ”
” ايه الزن على الصبح ده ما ترضعيه يا ختي ولا تشوفيه ماله؟ ”
زفرت تبارك تحاول أن تُصمت ذلك المزعج الصغير تعتذر منهم بهدوء شديد :
” مش ابني والله ولا اعرفه ولا أعرف أبوه، أنا متضررة زيي زيكم ويمكن اكتر منكم، حقكم عليا والله….. يا بني سيب ام الطرحة ”
زفرت تلقي المدونة ارضًا، ثم تحركت خارج المكان بأكمله تبحث عن سميرة كي تفرغ بها كامل سخطها على ما يحدث، لكن فجأة توقفت أقدامها بصدمة في منتصف الطريق حينما ابصرته يتهادى نحوها بطلته المبهرة، يسير متمخترًا كالطاووس يجذب نحوه أنظار جميع إناث البغبغاوات حوله، وهي لم تكن أفضل منهن إذ انجذبت له ولهيبته كما الفراشة لللهب .
ابتلعت ريقها تسير بهدوء وهي تضم الصغير لها، تدري جيدًا أنها لن تلفت يومًا أنظاره ولن يراها، وهذا للحق جيد لها، فهي فقط تحب مشاهدته من بعيد وتتأمل وسامته كما الجميع هنا، لكن ومن بين كل تلك الغمامات توقفت فجأة على صوته يقول بتعجب :
” تبارك أنتِ خلفتي ولا ايه ؟!”
توقفت تبارك بصدمة وقد اتسعت عيونها، لا تصدق أنه يعرفها ويعرف اسمها، وفي المرة الوحيدة التي يقرر بها ذلك المغرور أن يهبط عن عرشه ليتفقد الرعية ويمن عليها بحديث، تكون وهي حاملة بين ذراعيها صبي صغير باكي .
رفعت عيونها له وقالت بعدم فهم ولهفة :
” خلفت ايه ؟؟ لا لا ده مش ابني أنا اساسا مش متجوزة يا دكتور ”
رفع الطبيب حاجبه بعدم فهم :
” مش متجوزة ازاي ؟؟ هو مش أنتِ اتجوزتي من وأنتِ ١٥ سنة وكان فيه مشاكل مع جوزك عشان بيضربك وغضبانة ؟!”
كانت تبارك تتابع قصة حياتها المأساوية على لسان الطبيب الذي أُعجبت به، يصف معاناتها مع زوجها القذر الذي يريها الويل ألوانًا منذ تزوجت به وهي فتاة قاصر.
آهٍ فقط لو تمسك به تقسم أنها ستذيقه الجحيم، لكن للاسف الشديد هي لا تستطيع؛ لأنها ببساطة ليست متزوجة .
ابتسمت تبارك تقول بعدم فهم واستنكار :
” ايه ايه ؟؟ مين اللي قال لك كده ؟! أنا متجوزة وغضبانة ومخلفة ؟؟”
تراجع الطبيب للخلف بعدم فهم لنظراتها المخيفة تلك، ثم نظر خلفه صوب الممرضات اللواتي كن يحدقن نحوهما بفضول كبير يقول :
” سميرة وعبير اللي قالولي كده ”
رفعت تبارك عيونها فورًا تجاه سميرة وعبير، إذ انتفضتا في وقفتهما تبعدان عيونهما عنها برعب كبير، وتبارك تتوعد لهما، تنفست بصوت مرتفع تقول بلا اهتمام :
” لا يا دكتور أنا لا متجوزة ولا غضبانة ولا نيلة، والعيل الزنان ده ابن سميرة اساسا، بس عشان عبير مجابتش عيالها الاتنين انهاردة يلعبوا معاه عمال يعيط وانا قولتلها هاخده اسكته ”
أنهت حديثها تستأذن منه ترحل برأس مرفوعة تشعر بالغضب والحنق تاركة خلفها الطبيب يحدق في ظهرها بريبة كبيرة، متعجبًا تصرفاتها، ومنذ متى لم تكن تصرفات تبارك غريبة، تلك الفتاة التي تدور حولها علامات استفهام كثيرة منذ جاءت للعمل في المشفى .
اقتربت تبارك من سميرة تعطيها الصغير مبتسمة بهدوء :
” ابنك يا حبيبتي ابقي سكتيه بنفسك، جاتكم الهم والواحد مش بياخد من وراكم غير المصايب ”
تحركت بعدها تبارك صوب عملها ترغو وتزبد، تحاول تعديل وضعية حجابها بعدما افسدها ذلك الصغير، وافسد كذلك فرصتها مع ذلك المغرور الوسيم …
للجحيم جميعًا .
________________________
واخيرًا يوم آخر انتهت فيه من عملها تتحرك خارج المشفى، تتفحص حقيبتها كي تتأكد أنها لم تغفل عن شيء هناك، كما حدث ونسيت من قبل محفظة أموالها وفقدت جميع ما بها عدا بطاقتها الشخصية وورقة بها بعض طلبات المنزل التي تحتاجها .
ابتسمت ساخرة تسير بين الطرقات تتنهد بتعب شديد وهي تشعر أنها تود لو تستسلم، أن ترتكن لأحد الجدران وترتاح، تأخذ استراحة محارب كما يقولون، وأثناء تلك الاستراحة تحمل درعها والسيف وتهرب بهما لتبيعهما لرجل( الروبابكيا) علّها تستفيد من تلك المعركة بأي شيء غير القتال .
وعلى ذكر القتال رأت تبارك معركة يومية تلوح لها في الأفق، حينما أبصرت جارتها الودودة صاحبة اللسان السليط تقف أمام بنايتها تحمل بين أناملها بعض الإبر الطبية صارخة بصوت جهوري، وبيدها الأخرى تمسك صبي بعمر العشر سنوات يفوقها طولًا وهي تقول بحنق :
” ما تهمد يا زفت واستنى أما التمرجية تيجي ”
تمتمت تبارك بحنق شديد تعض شفتيها :
” تمرجية ؟؟ اخرتها بعد سنين دراسة وبهدلة في الخدمة ؟؟”
تنفست بصوت مرتفع تستدير لتعود وتغير طريقها، أو تختفي لساعات حتى تمل جارتها وترحل مع ذلك الغبي ابنها الذي تأتي به يوميًا لتعطه هي حقنته ..
ولم تكد تستدير حتى سمعت صيحة مرتفعة تقول بتهليل :
” اهي جات اهي، تبارك، تعالي الله يكرمك يا ختي ادي الواد ده الحقنة لاحسن مستنياكِ من بدري وميعاد الحقنة عدى ”
أغمضت تبارك عيونها بغيظ شديد، قبل أن تمحي غيظها وترسم بسمة واسعة تستدير ببطء تقول باعتذار خافت :
” معلش يا ام أنور اصل أنا مش معقمة ايدي وكنت بتعامل مع مرضى كتير وكده ممكن أأذي أنور، ممكن تاخديه الصيدلية اللي على اول الشارع فيها شاب يديله الحقنة عادي ”
وقبل أن تركض صوب منزلها اوقفتها ” أم انور” باعتراض :
” هو ايه أصله ده يا ختي، هو أنتِ هتعملي عملية ولا ايه، بقولك تعالي ادي الواد الحقنة خليني ارجع البيت الاكل على النار والحاج زمانه راجع من الجزارة ينكد عليا، شكل كده طلاقي على ايدك ”
اتسعت أعين تبارك من كل تلك الكلمات :
” كل ده عشان حقنة؟! حياتك كلها واقفة على حقنة ابنك ؟؟ وبعدين هو مش خف ولا هو كل ما يلاقي نفسه فاضي يجي ياخد حقنة ؟؟”
أخذت تبارك الإبرة تجهزها أثناء حديثها وأم أنور تتحدث بكلمات كثيرة كعادتها :
” طبعا ما أنتِ معندكيش عيال وراجل في رقبتك ومش عارفة المرار اللي الواحد شايفه، ألا صحيح يا بت يا تبارك هو مفيش حد كده ولا كده ؟؟ ”
نظرت تبارك حولها قبل أن تعود لها بنظرها :
” لا مفيش حد يا أم أنور”
” يابت ركزي أنا قصدي عريس ….خطيب ”
أجابت ببساطة شديدة وهي تخرج الهواء من الإبرة :
” لا مفيش ”
التوى ثغر السيدة وهي تمتص شفتيها، تفتح فمها على وشك نطق جملة تحفظها تبارك عن ظهر قلب؛ لذلك قالت تقاطعها :
” تعالى ادخلي جوا عشان اديله الحقنة ونخلص ”
وقبل أن تتحرك أمسكت بها أم أنور تقول بجدية :
” جوا ايه يا ختي ما تديها للواد خلينا نخلص هو يعني في حد ؟! اقلع يابني خليها تـ ”
وقبل أن تضع أم أنور كلامها حيز التنفيذ صرخت تبارك تمسك يدها بصدمة تنظر حولها بشحوب وصدمة من كلماتها :
” يقلع ايه ؟؟ أنتِ بتعملي ايه أنتِ ادخلي جوا يا ست، عايزة تفضحي ابنك في الشارع هو مفيش احساس ولا حياء خالص ؟!”
رمقتها السيدة بحنق وقبل أن تتحدث قال الصبي وقد بدأ يتململ في وقفته بحنق شديد :
” انا زهقت ياما وعايز ادخل الحمام، خلصوني بدل والله امشي ومش هاخد حقن ولا نيلة”
صفعته والدته تزجره :
” ما تستنى مسروع على ايه ؟؟ ما تخلصينا يا ختي أنتِ كمان ”
كانت تبارك تشعر بعدم الارتياح، تنظر حولها محاولة أن تجد أي شيء ينقذها من كل هذا، وحينما يأست، وضعت الإبرة بيد أم أنور تقول بجدية ورفض تام :
” أنا جهزت الحقنة اهي يا أم أنور، خدي ابنك وروحي بيه الصيدلية عشان أنا افتكرت فجأة اني نسيت حاجة مهمة، عن اذنك”
وبمجرد انتهاء كلماتها ركضت على الدرج بلهفة تتجاهل صيحات السيدة المستنكرة وصراخ الصبي أنه يود الرحيل، ومن ثم وصلة مرتفعة من السباب لحقت بها حتى دخلت لشقتها المتواضعة تغلق الباب خلفها تتنفس بصوت مرتفع تلقي الحقيبة على الأرض متحركة صوب المرحاض تغسل يديها :
” يارب توب علينا من الشغلانة دي ”
أنتهت ترفع عيونها صوب المرآة تحدق في وجهها وملامحها، بشرة سمراء بعض الشيء، مع ملامح صغيرة تبدأ بعيون بلون العسل الصافي تحدها رموش كثيفة وأنف صغير مع شفاة متوسطة الحجم، مدت يدها تنزع حجابها بشرود وهي تداعب خصلاتها التي كانت مقدمتها هائجة متقصفة مذكرة إياها بضيق حالها وعجزها عن شراء مستلزمات العناية بالشعر كما ترى الجميع يفعل، وكأنها تمتلك وقتًا حتى لتفعل …
زفرت بصوت مرتفع تطيل النظر بنفسها تملئ كفيها بالمياه، ثم بدأت تمسح على شعرها في محاولة يائسة لردع تلك الخصلات وإحباط تمردها، وحينما انتهت ابتسمت بسخرية :
” شكلي كده هحتاج اشتري علبة كريم عشان الشوية دول، وادي نص المرتب راح، بس ولا يهمني اهم حاجة التألق ”
صمتت ثم تحدثت بتهكم من ذاتها :
” بس لمين ؟؟ اخرتها ايه ؟؟ ومع مين ؟!”
كانت تتحدث لنفسها وهي تنظر للمرآة قبل أن تتشقق المرآة فجأة بشكل مرعب جعلها تطلق صرخة مرتعبة تعود للخلف، ابتلعت ريقها تقول :
” ايه اللي حصل ده ؟؟ ايه اللي حصل ؟؟؟”
تنفست تقترب من المرآة تتحسسها بريبة، لربما ذلك الشيء الذي يصيب الزجاج فيؤدي لحدوث هشاشة شديدة لجزئياته ويتحطم بسهولة، نعم هذا هو التفسير الوحيد لمـ
وفجأة توقفت أفكارها مطلقة صرخة عالية تندفع للخلف ساقطة ارضًا على ظهرها، تزحف برعب وهي ترى شعاع نور يخرج من المرآة …..
________________________
قلعة شامخة مرصعة بالعديد من الأحجار الكريمة، نُحتت داخل أحد الجبال العظيمة البيضاء، قلعة تنافس الجبال طولًا، يحيطها العديد من المروج الخضراء والشلالات التي تبدو كالسحاب لشدة بياض المياه بها، قلعة لو قضى الشعراء قرونًا لعجزوا عن كتابة بيت شعر واحد يوفيها حقها…
وداخل تلك القلعة ..
يسير هو بكل هيبة وقوة مرفوع الرأس، شامخ، لا ينظر لموضع قدمه بل يسير مدركًا أين تحط قدمه، وهل هناك ركن واحد يجهله داخل جدران تلك القلعة ؟؟ كيف وهو ملكها وصاحب كل حجر بها ؟!
يتحرك بسرعة وخطوات تهز الأرض أسفله، وخلفه يركض العديد من الرجال الذين لا يقلون عنه في الهيبة أو الجسد أو حتى وسامة الملامح التي عُىف بها رجال تلك المملكة.
يتحرك بين ممرات القلعة وملامحه لا تنذر بالخير، وبمجرد أن وصل لإحدى الغرف توقف يقول بصوت قوي ونبرة مخيفة :
” ابلغ الملكة أنني اطلب اذنًا بالدخول ”
هز أحد الحراس رأسه في طاعة عمياء يتحرك داخل مخضغ الملكة وغاب ثواني قبل أن يخرج يحرك رأسه ببطء :
” الملكة تخبرك أنها بانتظارك مولاي ”
تحرك الملك صوب الغرفة مندفعًا بعدما أشار لمستشاريه بالتوقف، يدخل كالعاصفة الهوجاء لا يرى أمامه، وبمجرد أن سمع صوت غلق الباب نظر بعين مشتعلة صوب والدته التي كانت تجلس على فراشها تحمل بين أناملها كتاب تطالعه بهدوء شديد …
” بني، لمن أدين بالشكر لأجل حضورك لمخضعي ؟؟”
ارتسمت بسمة قاسية أعلى فم الملك وقد شعر بالغضب يتملك منه :
” لأفكارك العظيمة مولاتي، تدينين بالشكر لأفكارك العظيمة التي لا يضاهيها افكار في الممالك الأربع ”
ارتسمت بسمة هادئة على فم الملكة تدرك أن ما فعلته وصل له لتقول برزانة وتعقل :
” سأعتبر هذا مدحًا بني ”
” رجاءً لا تجبريني على الضحك أمي، فأنا وأنتِ نعلم أن حديثي لم يكن مدحًا بأي شكل من الأشكال ”
صمت يقول بأعين مشتعلة :
” من ذا الذي منحك حق التدخل بأموري الخاصة مولاتي، من الذي أخبرك أنني احتاج افكارك العظيمة لتدبر أمور مملكتي؟!”
رفعت الملكة عيونها له ببطء، ثم قالت وكأن صرخاته لا تسوءها، أو أن نظراته السوداء لا تخيفها :
” وهل تسمي خوفي عليك تدخلًا أنا أصدر ما أراه يصب في مصلحتك ”
صرخ في وجهها بجنون وقد أفلت عقال صبره، يشعر بالغضب يُصب داخل أوردته، يسير بها مجرى الدماء :
” ولأجل هذا عمدتي للاعتراض على قراري، وتحدثتي أمام الجميع بأمرٍ يقضي بابتعاد قائد الجيوش عني ملقية إياه في غياهب الحرب، ماذا إن ناله سوء ؟؟ كيف سأتدبر أمري لحين أجد مخلصًا مثله ؟؟”
” وماذا تريد مني أن أفعل وأنا أراك تقحم نفسك في حروب لا قِبل لك بها؟؟ وإن لم يكن قائد جيوشك هو من يقود تلك الحرب فمن سيفعل بالله عليك ؟؟”
اشتعلت عيونه يقترب منها خطوات بطيئة دبت رعب داخل صدرها، تدرك جيدًا أن ولدها ليس من الحلم الذي يجعله يتغاضى عن أفعالها كثيرًا، لكن حتى وإن نفاها لاعمق بئر في المملكة فلن تتراجع عن حمايته .
صدر هسيس من فم الملك يقول :
” أمور جيشي وأمور مملكتي أنا من اتحكم بها، لا أنتِ ولا أحد آخر يفعل، سمعتي …مولاتي؟؟”
تنفست والدته بصوت مرتفع ليتحرك مبتعدًا عنه، لكن فجأة توقف مجددًا واستدار لها نصف استدار يضيف :
” وصحيح ليس فقط أمور جيشي، توقفي عن التدخل في كامل شئون حياتي، فلا ينقصك سوى إخبار جميع اميرات الممالك الأربع أنني من اليأس الذي يجعلني أعرض نفسي عليهن ارتجي منهن امرأة تناسبني ؟؟ بأي حق تفعلين بي ذلك ؟؟”
” بحق أنني والدتك، أنت حتى هذا اليوم لم تجد زوجتك التي تتغنى بها ”
تنفست بصوت مرتفع تقترب له تربت على وجنته بحنان شديد :
” اسمع بني أنا أعلم جيدًا أنك مستاء لأنك… لأنك وحتى هذا العمر لم تجد امرأتك المنشودة كما حدث لجميع رجال العائلة قبلك، لربما بالبحث تجدها، دعك من تلك الخرافات التي تقول أن زوجة الملك لابد أن يلقيها القدر على اعتابه، ويسوقها له بأي طريقة من الطرق، تزوج من أي أميرة تعجبك ودعك من تلك الترهات ”
ابعد الملك وجهه عن يد والدته يقول دون نقاش :
” نعم تلك التراهات التي ألقت بكِ بين أحضان والدي باكثر الطرق غرابة، زوجتي ستأتي لي يا أمي وحتى ذلك الحين احرصي على عدم الزج بنفسك داخل أموري الخاصة رجاءً، والآن اسمحي لي بالمغادرة ”
ختم حديثه يتحرك صوب الباب يطرقه بقوة وحينما فتح غادر تاركًا والدته تنظر في أثره بصدمة سرعان ما تحول لغضب شديد …
وهو خرج من الجناح الخاص بوالدته يقول بجدية :
” أحضروا لي العرّيف …”
__________________
صوت القرآن يصدح في المنزل بأكمله وهي تجلس أعلى الأريكة في بهوه، تمسك بين أصابعها حبات مسبحتها التي أهداها لها الحاج سالم صاحب البناية عقب عودته من الحج .
كانت تستغفر وتدعو ربها، تشعر بالخوف من كل شيء وكل همسة تصدر في المنزل تتسبب في انتفاضة جسدها بقوة، ما يزال مشهد انشقاق زجاج المرآة وخروج ضوء قوي منه يرعبها، تنتظر أن يحل الصباح بفارغ الصبر كي تركض للمشفى حيث الجميع، حيث لن يجدها ايًا كان من ينتوي لها سوء .
فجأة انتفض جسدها بقوة بسبب طرق الباب، نظرت صوبه ثم حركت عينيها لساعة الحائط تتبين الوقت لتجد أن الوقت بالكاد اقترب من آذان المغرب، اعتدلت في جلستها :
” لسه المغرب مأذنش ؟؟ ولا الليل ليل ؟؟ امال الرعب بدأ بدري ليه ؟؟”
تحركت من مقعدها وهي ما تزال تحمل بين أصابعها مسبحتها، اقتربت من الباب تقول بخفوت :
” أيوة مين ؟؟”
” أنا احمد يا تبارك ”
نظرت تبارك من أحد تشققات الباب تحاول التأكد أن ذلك هو احمد نفسه ابن الحاج سالم صاحب البناية :
” وأنا ايه يأكدلي أنك احمد ومش قرينه ؟؟ قول أمارة ”
أجاب احمد ببلاهة وغباء بعض الشيء :
” امارة”
استمعت تبارك لتلك الكلمة وضيقت عيونها بتفكير قبل أن تنفرج اساريرها وتتنفس الصعداء تحضر حجابها تضعه أعلى رأسها متأكدة أن ذلك الغباء لا يخرج سوى من أحمد بالفعل :
” أيوة هو أحمد فعلا ”
وعلى الفور فتحت تبارك الباب مطمئنة :
” أمان”
نظرت له تبارك بقامته الصغيرة، فقد كان طفل في السابعة من عمره، ذو ملامح بها لمحة من التشرد تشعر أنك تقف أمام أحد قطاع الطرق، لكن بهيئة طفل، تجاوزت تبارك كل ذلك تتساءل بجدية :
” خير ؟؟”
” ابويا بيقولك تعالى الحقي ستي لاحسن بتموت ”
حدقت به تبارك بعدم فهم تجذب باب منزلها تدفع الصغير صوب الدرج وهي تشعر بالبلاهة الشديدة :
” هي مش ستك دي سيبتها امبارح وهي ميتة وبعتوا جبتوا الكفن والمغسلة ؟!”
أجاب أحمد بجدية يضع كفيه داخل جيب بنطاله يهبط معها الدرج يتحدث بنبرة اشعرتها أنها تتحدث مع رجل ناضج :
” لا ما هو اصل لما أنتِ مشيتي هي صحيت تاني، حتى امي قالت عليكِ غبية ومبتفهميش وبتفوّلي على ستي ”
توقفت تبارك في سيرها وقد بدأت ملامحها تشتعل بشكل مرعب، بينما الصغير استرسل في الحديث دون أن يتوقف عن السير ولم ينتبه لتوقف تبارك، التي كانت تشعر برغبة عميقة تندفع داخلها أن تهبط وتوسع والدته ضربًا، بالله ماذا تفعل إن كانت والدتها صاحبة المائة وخمسة أعوام تموت يوميًا ثلاث مرات، بل وتنقطع أنفاسها وتتوقف ضربات قلبها ؟؟
دخلت تبارك المنزل الخاص بالحاج سلامة تستقبلها صرخات والدة احمد ونحيبها وولولتها وهي تضرب فخذيها جوار فراش والدتها :
” اه يا اما هتيسبيني لمين من بعد ياما، اه يا حبيبتي بُعدك على عيني يا ختي ”
نظرت لهم تبارك ومن ثم نظرت للسيدة العجوز، تقترب منها بأقدام متعجلة تفحصها دون كلمة، تفحص النبض والتنفس، ومن ثم رفعت عيونها للجميع الذين كانوا في انتظار كلمة منها، وهي ابتلعت ريقها تقول جملة لم تعلم أنها قد تنطقها يومًا أو يستسيغها عقلها، لكن تلك العجوز أربكت جميع ما تعلمته وأثبتت أن الإنسان يستطيع الحياة حتى بعد توقف ضربات قلبه وأنفاسه :
” أنا مش عارفة هي ماتت ولا لا، بس عامة هو مفيش نفس ولا نبض ”
هتفت أم أحمد بأعين دامعة :
” يعني ايه مش عارفة ماتت ولا ايه ؟؟ هو أنتِ مش دكتورة ؟؟”
” لا أنا ممرضة مش دكتورة، بعدين أنا ايش عرفني مش يمكن تكون بتعمل بروفة ولا بتجرب الموت، هي يعني أول مرة اجي اكشف عليها وملاقيش نبض ؟؟ ما هي كل يوم نبضها بيقف، مش عارفة بتشحن ولا بتعمل ايه ؟!”
نظر لها الجميع حولها بعدم فهم لتقول هي وقد شعرت أن كل ما تعلمته لا يفيدها الآن:
” بصوا هي تقريبا ماتت، البقاء لله ”
وبعد تلك الكلمات ارتفعت شهقات صادرة من جسد العجوز المسطح على الفراش، تجاهد لالتقاط أنفاسها وكأنها خرجت لتوها من اعماق البحار .
أشارت لها تبارك بانتصار وكأنها تثبت لنفسها أنها محقة :
” اهو شوفتوا، مستنية تسمع إعلان وفاتها عشان تفوق، دي بتدلع يا أم أحمد كل يوم توقف نبضاتها شوية عشان تعرف معزتها عندكم مش اكتر ”
نظرت بعدها لسالم تقول:
” عن أذنك يا حاج سالم، لو حصل وفقدت الاتصال بالعالم الخارجي تاني، سيبوها شوية وهي هتصحى لوحدها، حمدلله على سلامتك يا حاجة ”
ختمت حديثها تخرج من الشقة ملتوية الثغر، تشعر بالنقم على تلك الوظيفة التي لا ينالها منها سوى المصائب، تحركت صوب شقتها الصغيرة الدافئة المرعبة كي ترتاح قليلًا، قبل أن تنهض وتذهب للعمل في اليوم التالي …
دخلت الشقة تسير بحذر بين طرقاتها ووجيب قلبها يعلو تخوفًا مما يمكن أن يحدث، تحاول إقناع عقلها أن الأمر لربما كان صدفة أو مجرد تخيلات لا أكثر.
ألقت جسدها على الفراش تستقبل اغطيته المريحة بتعب شديد، تغلق عيونها في انتظار أن تسحبها أحلامها بعيدًا عن هذا العالم .
وكان لها ما تمنت إذ سقطت في نوم عميق تخلله العديد من الأحلام، كان أكثرهم وضوحًا حلم لها تقف فوق عرش تراقب أمامها مدينة بيضاء كبيرة تحيط بها شلالات وجبال بيضاء.
نظرت تبارك حولها بتعجب شديد ولم تكد تستوعب ما يحدث إذ شعرت فجأة بيد تضم خصرها وصوت رجولي دافئ يهمس لها في أذنها بنبرة اجشة وكلمات مريبة :
” دلم برات تنگ شده پرنسس ”
________________________
يعتلي عرشه بكل كبرياء في انتظار أن يأتيه عرّيف المملكة، والذي يعلم كل ما يدور حوله ويفقه بكل شيء، ليس لأنه ساحر _ معاذ الله_ بل لأن لقب عريف هو لقب يُمنح لكل شخص مثقف، مدرك لجميع العلوم، حكيم ذو رأي صائب ونظرة مستقبلية صحيحة، وتحت يد العريف يتدرب شخص تنبأ له الجميع بمستقبل باهر، ليحمل هو لقب العريف من بعده .
تحرك العريف داخل قاعة العرش والتي كانت واسعة ذات نوافذ تبلغ طول الجدار، مما يجعل الشمس تدخل للقاعة وتنعكس على جميع ارضياتها البيضاء اللامعة ..
كان يسير منحني الظهر جامد الملامح، ناقم على كل شيء _ كما هو المعتاد منه _ يزفر بحنق كلما رأى وجه انسان في طريقه، لطالما كان العريف في هذه الحقبة من أكثر الشخصيات النقمة المتذمرة من كل شيء، والذي لو كان بيده تمني شيئًا ويتحقق لتمنى زوال جميع البشر .
يقبع بومة سوداء اللون على كتفه، وقد كان ذلك هو الكائن الحي الوحيد الذي قد يتقبله العريف في هذه الحياة بعد كتبه العزيزة بالطبع .
توقف أمام العرش يرمق الملك بحنق مكبوت حاول دفنه خلف جبال احترام وهمية، يقول بصوت خافت أجش واعينه تلتمع خلف خصلاته الطويلة الرمادية التي تكاد تخفي نصف وجهه :
” مولاي، طلبت رؤيتي ؟؟”
رفع الملك عيونه للعريف يحدق به مطولًا قبل أن يقول :
” هل وصلت لشيء بخصوص ملكتي أيها العريف ؟؟”
تأفف العريف داخليًا، ثم دار بنظراته في المكان يحاول أن يمنح عقله فرصة إيجاد رد مناسب على ذلك الملك المدلل الذي يجذبه من بين كتبه فقط ليسأله إن وجد له زوجته، ليس وكأنه يعمل مأذونًا شرعيًا .
” مولاي اعذرني، لكن أنا بحثت كثيرًا عن حالة تشبه حالتك في تاريخ الأسرة الحاكمة ولم يواجهني شيء شبيه به، لطالما كان مقدرًا لملوك هذه الأسرة أن يجدوا انصافهم بسهولة أو أن يسوقهم القدر صوبهم، لكن امهلني بعض الوقت لعلي اجد ما يزيل تلك الحيرة عنك ”
نظر له الملك قليلًا، بينما العريف يبتسم له بهدوء وداخله يتأفف في انتظار لحظة صرفه من المكان بأكمله، والبومة على كتفه تصدر صوتًا مزعجًا وكأنها تشارك مالكها الرأى في الرحيل من ذلك المكان .
تحدث الملك بنبرة هادئة بعض الشيء وبتحذير مبطن :
“لكم من الوقت تعتقد أنني سأصبر ؟؟”
ابتسم العريف بسمة صغيرة هادئة ورزينة :
” لحين نجد ما تريده مولاي، فلا أظن أن قلة صبرك قد تُعجل من ظهور ملكتنا ”
ابتسم الملك بسمة جانبية، يدرك أن ذلك الشيخ يعلم جيدًا كيف يتحدث وبما يتحدث، ومتى يتحدث، لذا لن يصل معه لحل سوى أن يصمت ويقول بهدوء مشيحًا بيده :
” لك ما تريد، لكن في النهاية عد لي بخبر يقين”
هز العريف رأسه يستأذن الملك راحلًا مبتسمًا بسمة واسعة أن قد تخلص منه، يهرول صوب مكتبته قبل أن يغير الملك رأيه ويستدعيه مجددًا.
دخل المكتبة بملامح واجمة جذبت انتباه تلميذه النجيب الذي اعتدل يقول ببسمة :
” مرحبًا أيها العريف لن تصدق ما اكتشفته للتو و…”
تجاهله العريف يطيح بالبومة عن كتفه مغتاظًا، لتطلق البومة صوتًا منزعجًا تحاول التحليق بعيدًا عنهم حتى يتحسن مزاج العريف :
” لست مهتمًا بما اكتشفته يا ولد، دعني وشأني، لارى من أين سأحصل لذلك المدلل على عروس، هل أذهب واجوب أروقة سفيد مناديًا أن الملك يبحث عن الملكة المفقودة ؟؟”
نظر الشاب ليده التي تحمل خارطة النجوم يقول بصوت خافت :
” لقد علمت للتو أن موعد القمر الدموي قد اقترب وسيوافق منتصف هذا الشهر و…”
قبل أن يكمل كلماته تحرك له العريف بسرعة كبيرة يلقي بالكتاب الذي كان يحمله في الهواء ويصطدم في البومة التي كانت تحاول الفرار من المكان ضاربًا إياها في الجدار لتتساقط ارضًا بقوة ..
ابتسم العريف يمسك باكتاف الشاب متسائلًا بأعين تلتمع :
” ماذا قلت مرجان ؟؟ هل سمعتك للتو تذكر القمر الدموي منتصف الشهر ؟؟”
هز مرجان رأسه بتعجب لحماس العريف، ليس وكأنه لا يعلم معلومة كتلك، فهذا الرجل أمامه يحفظ جميع الكتب في هذه المكتبة عن ظهر قلب، والتي لم يكن عددها بالهين أبدًا .
ابتسم العريف بسمة غريبة وقد بدأت عيونه تلتمع بنظرة مريبة جعلت مرجان يعود للخلف :
” إن تأكدت مما يدور بعقلي منذ أيام يا مرجان وربطته بما قلت أنت لتوك ووصلت لما يدور بخلدي من شكوك، سنكون على أعتاب معجزة كبيرة يا فتى ….”
أنهى حديثه يتحرك بسرعة صوب أحد رفوف المكتبة يسقط الكتب دون اهتمام بحثًا عن كتاب بعينه، وقد كانت الكتب تتساقط واحدة تلو الأخرى على رأس البومة المسكينة التي تحاول النهوض وتفشل كل مرة ..
واخيرًا امسك العريف أحد الكتب يطالعه باهتمام هامسًا :
” أجمع لي جميع الخرائط في تلك المكتبة، فلدينا ساعات طويلة من البحث يا مرجان….”
_____________________
زفر بصوت مرتفع وقد ملّ إلحاح تلك الفتاة والتي قفزت له منذ الصباح تتحدث له بأمور غريبة لا يفهم منها شيئًا، وتبارك تصر أنه من يستطيع مساعدتها لمعرفة ما يحدث لها في الآونة الأخيرة .
” يا عم متولي يعني يهون عليك تبارك اللي دايما تيجي تنفض معاك المكتبة لما ضهرها يتكسر تكون محتاجة مساعدتك وتتجاهلها ؟!”
عدّل متولي من نظارته وهو ينظر لتلك الفتاة بحنق :
” هو أنا اعرفك اساسا ؟؟ أنا أول مرة اشوفك ”
اقتربت منه تبارك تراقبه أعلى الدرج الخشبي يقوم بترتيب أرفف الكتب وهو يطالعها بتهكم ورفض لوجودها في المكتبة الخاصة به في هذا الوقت الذي لا يخصصه لاستقبال القراء والمثقفين .
” ايه ؟؟ لحقت تنسى ؟؟ ده أنا الإجازة اللي فاتت طلع عيني في ركن القواميس اللي هناك دي، فاكر لما قولتلي أنك بتعرف تتكلم كل اللغات دي ؟؟”
هبط الرجل يدفع بها باستخدام كتاب بيده :
” لا مش فاكر، بعدين أنا مش حابب عطلة هنا، عايز اخلص ترتيب المكتبة قبل ما القراء يبدأوا يتوافدوا للمكتبة ”
تشنج وجه تبارك تركض خلفه بين ممرات المكتبة، تبحث بين الكتب عن ذلك الرجل ناكر الجميل :
” قراء مين اللي هيتوافدوا يا عم متولي ؟؟ ده آخر حد دخل المكتبة دي كان رجال المقاومة ايام الاحتلال الإنجليزي عشان يعملوا اجتماع مغلق بعيد عن عيون الانجليز، وعشان عارفين إن محدش بيعبر مكتبتك ويدخلها اساسا فكانت احسن مكان ليهم ”
نظر لها متولي ينظف نظارته كي يبعد عنها ذرات الغبار :
” أنتِ عرفتي منين المعلومة دي ؟؟ محدش يعرف كده غير أنا وأعضاء المقاومة الكرام فقط ”
” الله يرحمهم جميعًا محدش عايش فيهم غيرك، وأنت اللي قولتلي كده آخر مرة وانا بنضف المكتبة، ومش بس آخر مرة، ده أنا كل مرة أخطي فيها المكتبة لازم تقعدني وتحكيلي دور المكتبة في المقاومة الإنجليزية ”
جلس متولي على مقعده يتنفس بصوت مرتفع وقد بدأت ترتسم بسمة واسعة على فمه يقول ممتصًا شفتيه بحنين وتأثر :
” المقاومة ؟؟ وهو أنتم تعرفوا أي حاجة عن المقاومة ؟؟ ده أنا في مرة كنت قاعد في المكتبة مع ابويا وانا عيل صغير وفجأة لقيت عسكري انجليزي داخل عليا و…”
وقبل أن يكمل حكايتها مالت تبارك على مكتبه تقول بجدية :
” وقالك فين أقرب صيدلية عشان يعالج جرحه وأنت عشان وطني رفضت وطردته من المكتبة، ها فيه ايه تاني؟”
” أنتِ عرفتي منين ؟؟”
” ما أنتِ حكيت ليا برضو كل ده، يا عم متولي أنت بتحكي كده لأي حد يعتب المكتبة حتى لو كان تايه داخل يسألك على مكان ”
فرك متولي رأسه بجهل شديد وقال بجدية :
” والله يا بنتي ما فاكر إني حكيتلك من كتر ما أنا بحكي للناس، فبنسى أنا قولت لمين ومين لا ”
وكانت هذه حقيقة، فذلك الرجل بكامل قواه العقلية، لا يعاني زهايمر أو أي أمراض تصاحب عمره الكبير، كل مشاكله تتمثل أنه كثير الكلام مع أي شخص ولذلك يتناسى ماذا قال لكل واحدٍ منهم .
ابتسمت تبارك تجلس أمامه :
” ولا يهمك يا عم متولي أنا مستعدة اقعد اسمع في القصص بتاعتك ليومين قدام، اقولك أنا ممكن اخلص الشغل بتاعي الاسبوع الجاي كله وكل يوم اجي اسمعك ازاي ساهمت في تحرير مصر من الاحتلال ”
نظر لها متولي من خلف نظارته يحاول معرفة ما تريد مقابل تلك الخدمة الكبيرة التي ستقدمها له، فهو كرجل مسن لا يريد أموالًا أو صدقات من أحدهم أو غيره، هو فقط يحب الرفقة ويحب الحديث مع أي شخص، يحب ألا يشعر بوحدته بعدما أصبح وحيدًا في حياته تلك، هو وكتبه فقط .
” مقابل ايه ؟؟ عايزة ايه وبتزني عليه من الصبح ؟!”
” مش أنت بتقول أنك اتعلمت لغات كتير من قعدتك هنا ؟؟”
ابتسم لها متولي بسمة واسعة وقد حانت لحظته للفخر مجددًا :
” اكيد أنا بتكلم سبع لغات، اتعلمتهم كلهم في اقل من ٣٠ سنة و…”
وقبل أن يكمل سرد قصصه المثيرة قالت له تبارك بلهفة تبتلع ريقها :
” طب أنا فيه كام كلمة سمعتهم في يوم وعايزة …عايزة اعرف معناهم أو على الأقل لغة ايه دي ؟؟”
نظر لها متولي بعدم فهم لتقول تبارك بسرعة كبيرة ما تتذكر من الكلمات في حلمها، والتي على عكس كامل أحلامها كانت واضحة كأنها حقيقة .
” أنا مش فاكرة اوي الترتيب بس كان فيه كلمات زي دلم.. شدة … مش فاكرة بس هي لغة اول مرة اسمعها شبه الهندي ”
صمتت ثواني تحاول عصر رأسها ودون أن تشعر نطقت الجملة كما سمعتها بالضبط، وكأنها لغتها الأم، اخذت تكرر الجملة مرات عديدة وكأنها لا تصدق أنها تفعل .
و متولي يرهف السمع لها محاولًا معرفة ما تريد إيصاله له من خلال تلك الالغاز التي تنطق بها الفتاة، ونظراته تعلوها البلاهة ليقول بعدما انتهت من الحديث :
” أنتِ عايزة ايه بالظبط ؟؟”
” عايزة اعرف معنى الكلام ده او لغة ايه، ما تشوفهم مش انت قاموس متحرك ؟؟”
” لا لا معرفش اللغة دي، مش من السبعة بتوعي ”
تشنج وجه تبارك بغضب :
” يعني يا عم متولي درست سبع لغات وجيت على دي وعطلت، مكنتش عارف تزود سنة اجتهاد كمان ودرستها بدل قعدتك هنا ؟؟”
ضرب متولي مكتبه بعصبية شديدة :
” أنتِ بتزعقي ليه ؟؟ هي دي لغة اساسا، أنا أول مرة اسمع الكلمات دي، بعدين مش يمكن تكوني سمعتي غلط ؟!”
تراجعت تبارك للخلف تخفي وجهها خلف يديها بخوف من انفجار غضبه بها، وهو تنفس بصوت مرتفع، ثم امسك هاتفه يقول بجدية :
” أنا متأكد إن دي مش لغة اساسا، بس عامة اصبري نشوفها على جوجل ”
نظرت تبارك للهاتف الخاص به في صدمة كبيرة، فقد كان العم ايوب يمسك هاتف أحدث طراز، انحرفت نظراتها لهاتفها الصغير الذي يستقر في جيب ثيابها بتعب شديد، مرهق بعدما فتحته فقط لترى الوقت، هاتف قديم الطراز ذو ازرار مُحيت حروفها لكثرة استعماله .
أفاقت تبارك من تلك المقارنة السريعة وهي تجد هاتف متولي يوضع أمام فمها آمرًا إياها بتكرير الجملة علّه يتعرف عليها، وبالفعل فعلت تبارك ما يريد تردد نفس الكلمات التي ما تزال ترنّ في أذنها بصوت واضح أجش دافء ..
وانتظرت ثواني وهي ترى متولي يفحص الهاتف جيدًا ينتظر أن يظهر نتيجة ما نطقت وبعد ثواني قال وهو يرفع عيونه لها بتعجب :
” أنتِ عرفتي منين الكلمات دي ؟؟”
نظرت له بريبة شديدة :
” ليه هي معناها ايه ؟!”
رفع متولي الهاتف في وجهها لتتسع عيونها بدهشة وهي تتذكر النبرة التي نُطقت بها، تطابق النبرة مع المعنى ليرتجف جسدها لا تدري خوفًا أم تأثرًا ؟؟؟
__________________________
” وماذا من المفترض أن يعني هذا أيها العريف ؟؟”
اغلق العريف الكتاب بقوة مما تسبب بتناثر بعض ذرات الغبار التي كانت تستقر على حواف اوارقه متسببة في موجة سعال عنيفة لمرجان، حرك الاخير يده في الهواء كي يتنفس بشكل طبيعي يستمع لصوت العريف يقول :
” يا فتى ألم تسمع باساطير الأسرة الحاكمة ؟؟ تلك الأساطير التي تناقلتها اجيال عدة، ولا يعلم أحد أيهما حقيقة وأيهما تُرّاهات بلا قيمة ”
نظر له مرجان بجهل كبير :
” تقصد تلك الأساطير التي تقول أن الأسرة الحاكمة من نسل سحرة ؟؟”
ابتسم العريف ساخرًا :
” نعم، وتلك واحدة من التراهات، أي سحرة تقصد؟؟ استغفر الله، لو كانت تلك الأسطورة حقيقة لما وجدت أحد أفراد تلك الأسرة يعتلي العرش، لعُوقبوا جميعًا لارتكابهم ذنب كممارسة السحر ”
صمت ثم قال بجدية :
” أنظر يا مرجان بعض الاساطير تقول أن ملك سفيد الاول حلم برؤية شبه مؤكدة تقول أنه في زمنٍ ما، سيكون هناك ملك غير الملك، وملكة لا تمت للملكة بصلة، وكل ذلك تزامنًا مع منتصف شهر القمر الدموي، وهذا فقط منحصر على سلالته، وهذا الملك الحالي أحد أحفاد الملك الاول وتزامن أمر القمر مع فترة حكمه، وتأخر زواجه وعدم إضاءة الكرة الملكية، يعني أنه لربما يكون هو المعني من الرؤية ”
هز مرجان رأسه يفتح فمه باتساع شديد :
” نعم نعم …مهلًا أنا لا افهم، ما معنى ملك غير الملك وملكة لا تمت للملكة بصلة ؟؟”
” يعني أن هذا الزمان الذي نحياه سيكون الملك غير الملك الذي اعتدنا عليه، ولن تكون الملكة واحدة من الاميرات المتعارف عليهم، بل ستكون امرأة مختلفة، وتقول بعض الاساطير أنها لا تنتمي لعالمنا، بل لربما تنتمي للجانب الآخر من العالم ”
شهق مرجان بصدمة لا يصدق ما يقال يستنكر الأمر بالكامل :
” ماذا ؟؟ من الجانب الآخر، أتقصد أن ملكتنا ستكون من عالم المفسدين، هذا غير معقول ”
” بل معقول، فكر معي ما الذي عطل وصول الملكة حتى يومنا هذا ؟؟ لربما هي لا تدري عن حقيقتها شيئًا ولربما لا تعلم عن عالمنا شيئًا”
” إذن..ماذا نفعل حيال الأمر ؟!”
فكر العريف قليلًا يحاول تقدير الأمر في عقله، ثم قال بتفكير :
” لربما نكثف البحث بين أرفف المكتبة علنا نعثر على شيء، وحينما تتأكد فكرتي سأخبر بها الملك وانتهي منه ومن أمر زواجه الذي يسبب لي صداعًا بالرأس ”
________________________
تسير بين ممرات القصر وهي تستمتع لصوت مسؤولة الخدم اجمعين، تضع وجهها بالأرض تهز رأسها على كل كلمة تنطقها، لا تنبث ببنت شفة تقاطعها، كان وجهها مغطى بقطعة قماش تشبه النقاب ينحدر من أعلى رأسها، فلا يظهر من وجهها سوى أطراف ذقنها كما جميع الخدم في القصر..
تتحرك صوب المطبخ كي تتولى مهمتها بعدما تركت مملكتها وجاءت كي تستقر بهذه المملكة للعمل بقصر الملك .
فجأة انتفض جسدها تسمع صرير السيوف الذي يصدح في المكان بقوة، لتشعر بيدها تتحرك دون إرادة كي تركض وتحمل واحدًا وتمارس ما اعتادت يومًا ممارسته، لكنها توقفت تذكر نفسها أين هي وماذا تفعل، وما الذي اوصلها لهنا …
افيقي كهرمان أنتِ لستِ بمنزلك .
رفعت عيونها ترى فتاة تركض بقوة مصطدمة بها حتى كادت تسقطها ارضًا صارخة بحماس شديدة مثلها كباقي فتيات القصر :
” مبارزة بين الملك و قائد الرماة دانيار ”
تحركت كهرمان بكل فضول صوب نوافذ القصر تبحث لها عن ثقب ترى به تلك المنافسة التي جذبت أنظار جميع من بالقصر لدرجة أن يتركوا أعمالهم خصيصًا لأجل مشاهدتها .
وفورًا وقعت عيونها على رجلين عراة الجذع العلوي أحدهما يرتدي بنطال ابيض والآخر يرتدي اسود ذو نقوش من الذهب خمنت أنه الملك، فقد كان بسعر اسود وعيون خضراء تلتمع أسفل أشعة الشمس، والآخر كان بخصلات شعر سوداء طويلة بعض الشيء واعين زرقاء بشدة يحمل بين كفه سيفًا يرفعه في السماء، ثم يهبط به بقوة عنيفة على الملك الذي يصده، ثم يباغته هو بضربة اقوى من خاصته .
كان الملك يبارز دانيار بكل طاقته، لا أحد في هذه المملكة يستطع التغلب عليه، ولم يحدث أن خرج من ساحة المبارزة خاسرًا سوى مرة واحدة فقط، وهو لن يكررها .
ابتسم دانيار بسمة جانبية يحرك سيفه في الهواء حركات قوية، يسمع صوت الملك يقول ممازحًا :
” يبدو أن ذراعك تبرع في اشياء اخرى غير رمي السهام دانيار ”
ابتسم دانيار يقول باحترام شديد وهو يهجم على الملك :
” سيدهشك ما تستطيع تلك اليد فعله غير حمل السهام مولاي ”
وقبل أن يجيبه الملك بكلمة سمع الجميع صرخات نساء وصيحات قوية متداخلة جذبت الأنظار وجعلت الأجساد تتحفز وبقوة كبيرة .
ثواني حتى وجد الجميع امرأة تركض صارخة بشكل غريب :
” لقد تحررت الثيران من الحظيرة وافسدت كامل المزروعات في حدائق القصر يا مولاي وهي تتقدم صوب المكان بعدما تسببت في أذية بعض العمال ”
تشنج وجه الملك وهو ينظر لدانيار الذي ابتسم يقول بسخرية :
” اوه مشكلة كبيرة تحتاج لتدخل فوري، من سوء حظنا أن قائد الجيوش ليس هنا كي يقودنا للحرب ضد الثيران والأبقار، إذن ماذا تقترح مولاي، هل أطالب باصطفاف جيشي وقتل كل تلك الثيران ”
رمقه الملك بغضب لسخريته، يلقي بسيفه ارضًا متحركًا في المكان وحوله العديد من الحراس يصرخ بهم بلا اهتمام :
” انتم اذهبوا وساعدوا النساء في إبعاد تلك الثيران، هل ترونني متفرغًا لأجل مشاكل كهذه بالله عليكم ؟!”
أطلق دانيار ضحكات عالية على تذمرات الملك، وفي الحقيقة هو لديه كامل الحق، فأي ثيران تلك التي سيهتم لامرها وسط كل امور مملكته ؟؟
هز دانيار رأسه يتحرك صوب الخزانة الخشبية التي يحتفظون فيها بسيوف التدريب، وكذلك يعلقون عليها الثياب، وحينما كاد يرتدي ثيابه العلوية حاد بنظراته صوب شرفات القصر بلا اهتمام، لكن فجأة جذبت أنظاره فتاة غريبة الثياب والهيئة، اطال النظر بها في تعجب شديد، لتنتبه له الفتاة وتبتعد عن النافذة فورًا وهو ارتدى ثيابه يرى انصراف الخادمات وهي معهن .
وقبل أن يتحرك ليعلم من تلك سمع صوت الأبقار يعلو ويعلو بشكل مزعج وقد بدأوا يقتحمون جزء القصر، فالقلعة تتضمن القصر الخاص بالملك و جزء كبير خاص بمزارع القصر وحظائره، وجزء يتضمن اسطبل الخيل ومنطقة المبارزة والتدريبات، واخيرًا الجزء الذي يحوي مقر الأسلحة والجنود ..
انتفض دانيار على صوت صراخ الملك :
” دانيار تخلص من تلك الأبقار ”
اتسعت عيون دانيار بعدم فهم وتشنجت ملامحه بسخرية لاذعة، لا يفهم أي ثيران تلك التي قد يقتطع من يومه لحظات قليلة للتعامل معهم ؟؟
وقبل أن يعترض ولأول مرة على مرة على أوامر الملك سمع اصوات الابقار يعلو بقوة .
زفر واستدار يراقب الرماة يصطفون على جدران القلعة ليقول بغضب شديد وبصوت جهور :
” اصطفــــوا ”
اصطف الجميع بشكل منظف وبسرعة كبيرة ليكمل دانيار أوامره :
” جهزوا السهام …”
وبالفعل تحفز جميع الرجال لكلمة قائدهم، وقد ظنوا أن هناك هجوم على القلعة، لكن اتسعت أعينهم ببلاهة حينما سمعوا صوت دانيار يأمرهم :
” أي ثور يعبر حدود المزرعة صوبوا عليها ….”
علت الهمهمات بينهم والاستنكار ساد الجو، ودانيار لم يعلق فهو يعلم أنهم محقون، لكنه فقط ينفذ الأوامر، زفر يصرخ بهم ..
” انتباه، ونفذوا الأوامر، أي بقرة ترونها على وشك إيذاء فرد من سكان هذا القصر تخلصوا منها، فقط انتظروا لحين نرى نهاية هذه المهزلة ..”
نظر أمامه يرى عاملي القصر يحلقون على الأبقار والثيران الذين كانوا في حالة هرج مخيفة يدهسون من أمامهم دون تفرقة، وهو يراقب بأعين حريصة ينتظر أي فرصة للتدخل، يتمتم من بين أسنانه:
” سيخلد التاريخ أنني كنت أول قائد رماة تغلب على جيش من الأبقار الهائجة، مرحى يا دانيار، أين قائد الجيوش ليفتخر بك ؟؟؟”
___________________
يعتلي فرسه وهو يتحرك به بسرعة كبيرة وبين يديه يقبع سيف ضخم ذو قبضة سوداء ترتسم عليه علامة الفهد، يرتدي درعًا حديديًا يزن وحده العديد من الكيلوجرامات، يتحرك بسرعة مخيفة وخلفه جيش كبير يلحق به وفي أعينهم نظرات سوداء خاوية، وكأنهم ليسوا بشر، بل مجرد الآلات حرب، وهكذا علمهم هو ودربهم، هم في المعارك لا يشعرون ولا يرون ولا يشفقون على أي عدو إلا إذا استسلم …
توقف بحصانه على بداية المدينة التي احتلها بعض المنبوذين يعيثون فيها فسادًا وهي تحت حكم ملكه، تجرأوا ودخلوا ارضًا تخصه هو، أرض يحميها هو .
ارتسمت بسمة جانبية على فم سالار يرفع رأسه الذي كان مغطى بخوذة فضية اللون يرفع سيفه في الهواء يصيح بصوت جهوري وخلفه مئات الجنود :
” يا رجال أنتم هنا اليد العليا، وأصحاب الحق، تذكروا أننا ما كنا دعاة حرب ولا مسببي خراب، نحن ندافع عن حقوقنا فقط وعن الأبرياء، وقبل أن تدخلوا المدينة تذكروا قول رسول الله لا تقطعوا شجرة، ولا تقتلوا امرأة ولا صبيًا ولا وليدًا ولا شيخًا كبيرًا ولا مريضًا، لا تمثلوا بالجثث، ولا تسرفوا فى القتل، ولا تهدموا معبدًا ولا تخربوا بناءً عامرًا، حتى البعير والبقر لا تُذبح إلا للأكل”
هلل الجنود خلفه ليعلو برأسه أكثر وترتسم بسمة مرعبة أعلى فمه يصيح بصوتٍ مرتفع يقذف الرعب في قلوب أعداءه :
” الله اكبر …”
ردد الجيش خلفه كلماته وهو يدخلون المدينة يهللون ويكبرون، يقودهم هو بنظرات مرعبة، وملامح مخيفة ..
_____________________
تعود للمنزل بعدما أنهت جلستها مع العم متولي لا تفهم ما يقصد من تلك الكلمات، من ذلك الاحمق الذي يظل يردد لها تلك الكلمات داخل أحلامها، فجأة توقفت أقدامها برعب وقد شحب وجهها تشعر بقشعريرة تمر في جسدها وقد ضربتها فكرة مرعبة للتو .
” معقول يكون …يكون جني عاشق؟”
وعند تلك الفكرة تحركت تبارك بسرعة كبيرة صوب منزلها وجسدها بالكامل ينتفض، تشعر بالرعب أن تكون إحدى ضحايا هذا الأمر، يالله هي ما تزال تتذكر جارتها التي أصابها مس جني عاشق وعانت منه حتى كادت تنتحر لتتخلص من عذابها ..
أي جني عاشق هذا، لِمَ يصفونه بالعاشق، بالله إنه لمُعذب، يعذب من تكون ضحيته، يعذبها ويقتات على روحها حتى تذبل وتصبح بلا روح ..
تنفست تتحرك داخل منزلها تشغل التلفاز على محطة القرآن الكريم، ومن ثم بدأت تتحرك في المكان تفتح النوافذ ولا تعلم السبب، لكنها فقط لا تود أن تشعر بالوحدة، لربما الاصوات الصاخبة من الخارج تساعدها على الشعور بالأنس ..
تنفست تجلس على الأريكة وقد قررت فجأة أن تتوضأ وتصلي لله، لكن وقبل أن تتحرك سمعت صوت شيء قوي يسقط في منتصف البهو لتطلق صرخة مرتفعة مرتعبة تعود للخلف وهي تتنفس بصوت مرتفع، لكن وحينما تبينت هوية ذلك الشيء المخيف والذي لم يكن سوى كرة قدم أُلقيت من النافذة على منزلها، تجعدت ملامحها بغضب شديد تتحرك صوب النافذة حاملة الكرة بعصبية .
سمعت صوت في الاسفل يقول :
” ارمي الكورة يا أبلة تبارك ”
” أنا بس عايزة افهم ايه اللي طلع الزفتة دي لشقتي ؟؟ الجول في الصالة عندي ؟؟ منطقة الـ ١٨ بتعدي من تحت الكنبة ؟! ”
زفرت ثم صرخت بجنون :
” الزفتة دي لو جات هنا تاني أنا هطفحها ليكم نفر نفر سامعين ؟؟”
هز الصبية رؤوسهم فقط كي يجارون حديثها ويحصلون على كرتهم، وبالفعل ألقتها تبارك بغضب شديد حتى أصابت صبي واسقطته ارضًا، لكنها لم تهتم، هي للتو كادت تموت رعبًا، بالله ما هذه الحياة التي تعيشها، زفرت بحنق شديد تتحرك صوب المرحاض كي تتوضأ، وحينما وصلت ورأت شكل المرآة المحطمة وعادت لها الذكرى القريبة التي تعود فقط للامس شعرت بقشعريرة قوية تصيبها .
تنفست بصوت مرتفع تقترب من الحوض ترفع أكمام ثوبها البسيط كي تتوضأ، وحينما كادت تبدأ سمعت نفس الصوت يتردد داخل رأسها بشكل قوي جعلها تعود للخلف بقوة تنظر للمرآة بملامح شاحبة .
تستغفر ربها ثم أكملت وضوءها تهمس لنفسها :
” خلاص يا تبارك دي كانت صدفة، كل دي صدف وتهيؤات مش اكتر، مفيش حاجة حصلت، أنتِ مؤمنة ومحصنة نفسك بالاذكار ..”
أنهت الوضوء تخرج من المرحاض تستغفر ربها تردد بصوت هادئ :
” كله بأمر الله، قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ”
تنهدت براحة لحظية تحضر سجادة الصلاة ومصحفها لتؤدي بعض الركعات لله، وصوت القرآن يصدح في المكان .
وبعدما فرغت من صلاتها ارتكنت بظهرها للاريكة تقرأ بعض آيات القرآن، لكن دون أن تشعر غرقت في نوم عميق دون أي إرادة منها ..
رأت تبارك نفسها تجلس في غرفة واسعة يسودها اللون الاحمر والاسود بشكل قابض للصدر، تستدير في المكان بتعجب، قبل أن تسمع صوتًا يردد جوارها بنبرة هادئة ودودة :
” اونجا هستی پرنسس من ”
نظرت له تبارك بتعجب شديد تحاول رؤية ملامحه، لكن كل ما رأت منه هو جسد ضخم بعض الشيء، جسد رياضي قوي يرتدي بنطال اسود مطرز بشكل محترف وسترة علوية مطرزة بنفس التطريز، توقف أمامها وهي تنظر للأعلى تحاول الوصول لوجهه، لكن لم تستطع وكأن هناك غمامة تخفي ملامحه، ابتسم لها ذلك الرجل يميل ببطء صوبها هامسًا أمام وجهها بنبرة حنونة :
” همه جا دنبالت بودم ”
وتبارك فقط تحدق في جسده تحاول التحدث، تعجز عن الكلام تريد أن تخبره أنها لا تفهم ما يريد، لا تعلم ما يقصد، أين هي بالمناسبة ؟؟ هل هي في أحد افلام بوليوود ؟؟ من هذا الممثل ؟؟ هل هو سلمان خان ؟؟ استغفر الله هي توقفت عن مشاهدة تلك الأشياء منذ سنوات هل عادوا فقط ليراودونها عن نفسها ؟؟
فجأة تيبس جسدها حينما شعرت بقبلة تحط بكل حب فوق وجنتها لتتسع عيونها بصدمة تشعر برغبة عارمة على الصراخ، وهو همس لها :
” من به دنبال شما خواهم آمد، منتظر من باشید ”
واخيرًا استطاعت تبارك الحديث وتخلت عن دورها الصامت في هذا المكان الغريب الذي لا تعلم هل هو فيلم ام حلم أم كابوس، لكن مع هذا الرجل الوسيم لا تعتقد أنه كابوس لربما هو رؤية حلم به فتنة لها ..
” أنت مين، وبتقول ايه ؟؟”
ويبدو أن كلماتها التي خرجت منها وصلت له واضحة إذ ابتعد عنها يرمقها باستنكار وكأنها للتو ألقت له بكلمات غريبة، ليس وأنه هو منذ وطأ لذلك المكان الذي يشبه القبر يضمها ويقبلها كما لو كانت ابنة اخيه، ذلك الوقح، الحقير .
ولم تدري تبارك أن كل ما تفكر به ترجمه لسانها لتتسع أعين الرجل يقول بتعجب :
” ألا تعلمين من أنا ؟؟ أنا الملك …زوجك ”
في تلك اللحظة انتفض جسد تبارك عن الأريكة تتنفس بعنف شديد وقد كان جسدها متعرقًا بقوة شديدة :
” ما أنت بتتنيل بتتكلم عربي اهو، لازمتها ايه الفيلم الهندي ده ؟!”
نظرت حولها وانفاسها ما تزال سريعة، ذلك الحلم كان كالحقيقة، حقيقة رأتها بأم عينيها وشعرت بها، حتى أن أحضانها ما تزال دافئة بسبب عناقه ووجنتها، تحسست وجنتها، لتشعر فجأة بالرعب يتلبس قلبها :
” جن عاشق ؟؟ طلع جن عاشق، يا مرارك يا تبارك…..”
_________________________
” وجدناها يا مولاي …وجدناها يا مولاي ”
كانت تلك صرخات مرجان الذي يركض في ممرات القصر يبحث عن الملك وخلفه العريف يسير مبتسمًا متبخترًا وفوق كتفه ترتاح بومته العزيزة التي كانت تبتسم نفس بسماته وتمظرنفس نظراته، كما لو كانت طفل صغير يقلد حركات والده.
اقتحم مرجان قاعة العرش يردد وهو يرفع بين يده بعض الأوراق والمخطوطات يقاطع جميع من بالقاعة من مستشارين وكبار المملكة :
” لقد وجدناها يا مولاي، وجدنا الملكة”
انتفض الملك عن عرشه يولي كامل انتباهه للعريف متجاهلًا مرجان الذي توقف أمامه مبتسمًا يلوح بالمخطوطات في الهواء :
” هل ما يقوله ذلك الشاب صحيح أيها العريف ؟؟”
” اسمي مرجان ”
لكن الملك لم يهتم قائلًا :
” هل ما يقوله صحيح ؟؟ ”
هز العريف رأسه ينتزع الاوراق من بين انامل مرجان الذي صاح مستنكرًا من تهميش دوره في هذه اللحظة :
” مهلًا أنا …”
وقبل أن يكمل كلماته أشار له العريف أن يصمت، وكذلك البومة رفعت أصابع قدها تشير له بالصمت، وهو تذمر يتوعدها بعيونه ..
تقدم العريف من الملك يقول بجدية :
” نعم يا مولاي وجدنا الملكة …”
نظر له الملك بلهفة كبيرة ليكمل العريف :
” بعد مراجعة الخرائط والنظر في الكتب التي تحتل مكتبتي العظيمة مولاي اكتشفت …”
تنحنح مرجان يشير لنفسه مرتفع الرأس، ليلوي العريف فمه بحنق شديد :
” ومرجان أيضًا ساعدني قليلًا ”
ابتسم مرجان بفخر شديد يهز رأسه:
” نعم يا مولاي كان لي دورًا كبيرًا في …”
ودون أن يمنحه العريف فرصة للحديث، دفع بوجهه بعيدًا يقترب من الملك تحت أنظار مجلس المملكة يقول بكبرياء كعادته ينظر للجميع من علياه وكأنهم جميعهم أسفل أقدامه :
” كما قلت مولاي، استطعت أن اكتشف مكان الملكة، وربطت ما يحدث بما قيل لنا منذ عقود وقرون عن سلالة ملك سفيد الاول ”
” ماذا تعني أيها العريف ؟؟ أين هي ملكتي وما سبب تأخرها ؟!”
تنفس العريف بصوت مرتفع ثم قال :
” ملك إيفان، يؤسفني القول إن النبوءة التي تنبأ بها العديد من كبار الممالك قديمًا بشأن قدوم ملكة من ارض المفسدين، هي من نصيبك أنت ”
ابتسم وكأنه يتشفى بملامح الشحوب التي تخللت وجه إيفان يقول بجدية :
” مولاي أنت ببساطة لم تعثر على ملكتك ولم تضء كرة العرش باللون الازرق، لأن الملكة تقبع هناك، في ارض المفسدين ……”
________________
نعم ها هي الرحلة بدأت…
والرحلة ما هي إلا حرب، إما أن تنتصر أو تنتصر، لا خيار ثالث أمامك.
يتبع….
عانق أمانيكَ مهما ذُقت من تعبٍ
مَن ذا الذي نالَ ما يهوى بلا تعبِ؟”
صلوا على نبي الرحمة
_________________
تجلس منذ ساعات تنتظر عودته لا تدري ما تفعل، أو إن كان ما تفعل صحيحًا أم لا هي فقط تريد التخلص من ذلك الشعور المقيت داخلها والذي يهمس لها بصوت خبيث أنها قد مُست بجني سيحيل حياتها لجحيم.
ارتجف جسدها تحاول الخروج من تلك الأفكار السوداء تنظر حولها لذلك المنزل الفسيح المريح للنفس، حيث يسكن أحد رجال الحارة الصالحين، تتنفس بصوت مرتفع وهي تسمع صوت القرآن يعلو في المكان بأكمله، حتى وصل لها صوت أنثوي يقول :
” تشربي ايه يا بنتي ؟؟”
ابتلعت تبارك ريقها تنظر لها بأعين ضبابية تجيب بصوت ضعيف :
” أنا …أنا بس محتاجة كوباية مايه لو مش هتعبك معايا يا خالة ”
” لا ابدا يا حبيبتي مفيش تعب، استني هنا وانا هجيبلك كوباية المايه، والشيخ عبدالعزيز زمانه جاي، خلصوا الصلاة من شوية وتلاقيه خرج من المسجد وجاي ”
هزت تبارك رأسها مبتسمة تراقب رحيل تلك المرأة وهي تتذكر صوته وهمسه لها، ما تزال نبرته الدافئة تصدح داخل عقلها وهو يعصف بكلمات زلزلتها ( أنا الملك … زوجك)
أي زوج هذا، هل يحاول دفعها للجنون ؟؟
عند تلك الفكرة شعرت بغضب شديد يتلبسها ونظرت حولها، وكأنها تبحث عنه بين طرقات المنزل حتى تتخلص منه، تهمس له من بين أنفاسها بالويل :
” بس لما اشوفك يا بتاع (تنگ شده) أنت، قاعد تبرطم من غير دبلجة، وفي آخر دقيقة من الحلم ربنا فك عقدة لسانك ونطقت عربي”
صمتت تقول بتهكم شديد :
” ده كان ناقص ينزل تتر النهاية لأجل التشويق، ويقول انتظروني في الحلقة القادمة ”
زفرت بضيق تضع وجهها بين قبضتيها، تهمس بصوت خافت :
” أنا لو لمحته ههينه، بس ..”
فجأة انتفضت على صوت السيدة تعود لها بكوب ماء وهي تقول بفضول وقلق من شحوب وجهها :
” مالك يا تبارك يا بنتي ؟؟ وشك كده مخطوف من وقت ما دخلتي ”
نظرت لها تبارك تجاول أن تعتدل في جلستها وتبتسم، فخرجت بسمتها مرتجفة خائفة :
” أصل أنا كنت جاية للشيخ عبدالعزيز في موضوع مهم وخايفة يأكد ظني ”
اقتربت منها السيدة وقد استبد بها الفضول حتى كاد يحرق جميع احطاب صبرها، تهتف بنبرة متحمسة لا تلائم الموقف أو شحوب وجه تبارك، لكن تبارك لم تنتبه لذلك :
” ظن ايه ده يابنتي ؟! هو حصل ايه ؟؟”
نظرت لها تبارك تود الحديث، لكن قاطع كل ذلك صوت اقدام تخطو للمنزل وصوت رجولي يتنحنح وهو يقول بصوت مرتفع بعدما رأى حذاء غريب عن منزله :
” السلام عليكم ”
تحركت السيدة من مكانها والتي كانت شقيقة الشيخ الصغيرة، تركض صوب باب المنزل تستقبله بالبسمات قائلة :
” تبارك جوا يا شيخ مستنياك من بدري ”
نظر لها بتعجب لتوضح أكثر :
” تبارك الممرضة اللي في الشارع اللي ورانا يا عبدالعزيز ”
هز عبدالعزيز رأسه يشير لها أن تسبقه لتعلمها بمجيئه، وحينما أشارت له بالدخول، تقدم عبدالعزيز للداخل يتنحنح بصوت واضح :
” السلام عليكم يا بنتي ”
ابتسمت تبارك بسمة رقيقة وهي تستقيم ترحب به برأسها :
” عليكم السلام يا شيخ عبدالعزيز، بعتذر لو جيت في وقت مش مناسب، بس كنت محتاجة حضرتك في استشارة ”
هز عبدالعزيز رأسه يستقر على أحد المقاعد مشيرًا لها بالجلوس لتفعل وهي تنظر صوب شقيقته التي نظرت لها بفضول شديد، ليرمقها عبدالعزيز بحنق قائلًا :
” هاتي عصير لضيفتنا يا حسنية ”
نظرت له حسنية تقول :
” ايه ..اه اه يا خويا وماله، تشربي ايه يا حبيبتي ؟؟”
نفت تبارك لا تنتبه لنظراتها:
” لا ابدا متتعبيش نفسك ”
ابتسمت لها حسنية بسعادة وقد عفتها تبارك من التحرك وترك الحوار الشيق، لكن شقيقها والذي كان يعلم جيدًا ما ترنو إليه قال بتحذير :
” لا معلش قومي يا حسنية هاتي عصير للبنت شكلها تعبان”
زفرت حسنية بغضب مكبوت تتحرك صوب المطبخ الذي يقبع جوار البهو، تتمتم بكلمات غاضبة، وبمجرد أن رحلت تحدث عبدالعزيز ببسمة هادئة :
” قولي يا بنتي، لعله خير اللي جابك عندي ”
رفعت تبارك عيونها له برعب، ثم همست بصوت منخفض لا تدري كيف تخبره الأمر:
” هو أنا يا شيخ عبدالعزيز ازاي اعرف إن… إن فيه … إن فيه مس من جني عاشق ؟؟”
ضيق عبدالعزيز ما بين حاجبيه بتعجب :
” أنتِ حاسة إن فيه جني مرافق ليكِ ”
” أنا … أنا معرفش أنا …أنا بس بحلم احلام غريبة كأنها حقيقية، ومش فاهمة ايه اللي بيحصل فخايفة إن يكون ده حصل ”
اعتدل الشيخ في جلسته وتنفس بصوت مرتفع يتفهم تلك الهواجس التي قد تصيب النفس كين تعرضها لأمور غير مفهومة، فتبدأ النفس تتخذ من كل شيء إشارة لهلاكها دون أن تعي من الأساس معنى تلك الإشارات :
” اسمعي يا بنتي فيه فرق بين الاحلام العادية أو الاحلام اللي ناتجة عن وجود مس من جني والعياذ بالله، والأحلام لوحدها مش إشارة ابدا لوجود مس، دي واحدة من ضمن علامات كتير:
حرق أصابعه بين حبات مسبحته يراقب انتباه تبارك له ليسترسل في حديثه :
” علامات الجني العاشق واضحة ومعروفة وهي أنك تحسي بأنفاس حد جنبك وأنتِ نايمة، تحسي ببعض اللمسات على أجزاء من جسدك، أو كأن فيه يد تداعب شعرك، وكمان تحسي بحرارة شديدة في بعض اماكن الجسد، دي كلها علامات متعارف عليها، ده غير علامات تانية بس دي أهمهم، أنتِ بقى الاحلام اللي بتيجي ليكِ بتكون عبارة عن ايه ؟؟”
صمتت تبارك تدير الحديث داخل رأسها، تحاول معرفة إذا حدث لها كل ذلك أم لا، والإجابة كانت لا، هي فقط تحلم احلام تشبه الحقيقة، وجدت الشيخ يسبح على حبات مسبحته ينتظر ردها بصبر شديد، الشيخ عبدالعزيز كان من رجال حارتها المعروفين بورعههم ومساعدتهم في مثل تلك الحالات، ابتلعت ريقها تشعر بخجل شديد لوصف ما تراه في احلامها، رغم أنه لم يحدث شيء يدعو للخجل، لكن إن تخبره أنها تحلم برجل ذو ملامح ضبابية يتحدث لها بحب وحنان لهو أمر محرج .
لكنها رغم ذلك تحدثت بما رأته وشعرت به وقد بلغ منها الخجل مبلغه، ترفض رفع عيونها في وجه الشيخ عبدالعزيز والذي بمجرد انتهائها قال ببسمة صغيرة :
” بصي يا بنتي، اللي قولتيه ده مجرد احلام عادية، بعضها من الشيطان والبعض الآخر ربما لتأثرك في حياتك بشيء معين، أو ربما الرجل اللي بتحكي عنه مجرد رمز مش من الضرورة يكون رجل بمعناه الحقيقي، يعني احيانا رؤية رجل في الحلم بيرمز لشيء تاني”
صمت يتنفس يقول بهدوء :
” نصيحتي ليكِ أنك تستغفري ربك وتنامي على وضوء، والتزمي الاذكار دائما ولا تنسي وردك اليومي من القرآن الكريم، والله خير حافظ ”
هزت تبارك رأسها وهي تشعر ببعض الراحة تتسرب داخل صدرها، هذا الحديث قد أصابها براحة جعلتها تبتسم له مودعة إياه وهي تحاول أن تطمئن ذاتها، غافلة عن حسنية التي تركت أذنها لديهم قبل مغادرة المكان بأكمله …
غادرت تبارك المنزل وهي تقول بصوت مرتفع لنفسها :
” الحمدلله يا تبارك عدت على خير و…”
وقبل أن تكمل جملتها تذكرت فجأة أمرًا تهمس لذاتها :
” المفروض كنت احكيله على موضوع المرايا اللي انكسرت؟؟ ”
لكنها وبعد تفكير عادت وتجاهلت الأمر باعتبارها حادثة عادية قد تحدث للبعض .
تنهدت تتحرك صوب عملها كي تستكمله بعدما استأذنت دقائق لرؤية الشيخ قبل رحيله للعمل .
__________________
كان العريف ينظر برعب للسيف الموجه على رقبته وجسده المحشور في أحد أركان البهو، والجميع حول الملك مستنفرين حتى بومته العزيزة والتي كانت مستقرة على كتفه تراجعت للخلف بريبة تحدق في سيف إيفان بخوف وكأنه على رقبتها هي .
بينما مرجان تحرك صوب الخارج يتسحب كي لا يشعر به أحد، فبعد نطق العريف لما اكتشفوه سويًا، تجمعت شياطين إيفان حولهم ليصاب بالجنون هادرًا في وجه العريف :
” ما الذي تهزي به أيها العجوز، أي ملكة تلك التي سأحضرها من عالم المفسدين ؟؟”
نظر العريف للسيف الذي كان مستقر أعلى رقبته، ثم رفع إصبعه يشير صوب جسد مرجان الذي كان يستغل حالة الاستنفار للاختفاء:
” مرجان ..مرجان هو من اكتشف الأمر وليس أنا ”
في تلك اللحظة كان مرجان يتحرك وهو يردد داخله، يخطط لمستقبله القادم بعيدًا عن القصر والمملكة بأكملها :
” ربما أجلس مع أمي واصنع الفخار واتزوج بابنة جارتنا وانجب منها بعض الأطفال وارعى الأغنام واعيش حياتي في سلام بعيدًا عن هذا القصر الـ ”
وقبل أن ينهي قائمة أحلامه انتفض جسده وهو يرى جميع حراس الملك يقفون أمامه موجهين له السيوف وهو رفع يده مستسلمًا يهتف بارتجاف ولهفة :
” أنا فقط …فقط ظننت أنني اساعد يا مولاي، ظننت أنك ستسعد لمعرفتك مكان الملكة ”
صرخ ايفان بجنون ولا يصدق أين ألقاه نصيبه :
” توقف عن هذا الهراء، أي ملكة تلك ؟! ملكتي ليست من ذلك العالم ولن تكن ”
أبعد العريف السيف عنه ببطء بطرف إصبعه مبتسمًا بملاطفة :
” اسمع أيها المدلـ.. أيها الملك، صراخك بهذا الشكل لن يغير قدرك، تقبل الأمر أنت هو المنشود بتلك الرؤية القديمة، وملكتك تقبع هناك في عالم المفسدين تنتظرك ”
تنفس إيفان بصوت مرتفع وهو ينظر حوله لمستشاريه، يشعر بالجنون من تلك الفكرة، أبعد السيف عن رقبة العريف الذي ابتسم براحة شديدة، يراه يتحرك في المكان بأكمله وكأنه يفكر في أمر ما :
” الخروج والذهاب لإحضار الملكة يعني أن ألقي نفسي في التهلكة، خروجي لعالم هؤلاء المفسدين لهي مخاطرة كبيرة للمملكة ”
ابتسم العريف يقول بخبث ونبرة ذكية ماكرة يعلم أن إيفان لا يخشى ما سيقابله، بل يخشى ترك المملكة، لذا لعب بمهارة على تلك النقطة :
” ولا تنس يا مولاي أن خروجك وعودتك سيأخذ منك وقتًا غير معلوم، والمملكة هنا لا تستطيع البقاء دون الملك كل ذلك الوقت ”
نظر له إيفان يشعر بالحيرة الشديدة وهدير قوي يضرب صدره، عقله يرفض أن تكون ملكته الحبيبة التي انتظرها كل تلك السنين من هؤلاء المفسدين الذين نفروهم منذ مئات السنين ومازالت تأتيهم اخبار فسادهم وحروبهم، وقلبه يشتاقها حتى ولو كانت من الأعداء وليس مجرد شخص من عالم آخر، ريما هي تختلف، هي لا تشبههم بأي شكل ..
نظر لمستشاريه يحاول التفكير في أمرٍ ما ثم قال بهدوء ورزانة وغموص :
” ارسلوا لإحضار سالار وباقي القادة، وأنت أيها العريف لا تتحرك بعيدًا عن القصر فسوف نحتاجك أنت ومساعدك .”
صمت وهو يغمض عيونه يتمنى، فقط يتمنى إن كان حديث ذلك العجوز صحيحًا، أن تكون ملكته من الحكمة والهدوء ما يؤهلها لتترأس عرش ” سفيد “، وتستطيع أن تدير المملكة معه بكل حكمة وعدل…
_____________________________
” لا بقولكم ايه شغل العوق ده مش معايا، قولنا اللي عايز فول يقول واللي عايز طعمية يقول، لكن مش كل شوية واحد يقولي نص فول ونص طعمية مش تورتة عيد ميلادك هي وهتشكلوها، اخلصوا عندي شغل ”
زفرت وهي تدون في أحد المذكرات الصغيرة ما يقال لها من زملائها، فلسوء حظها كان اليوم يومها هي للذهاب وإحضار الفطور للجميع، وحينما انتهت وضعت القلم في طيب زيها الطبي تتحرك خارج غرفة الاستراحة :
” شوية همج مينفعش معاكم غير العين الـ …”
وقبل أن تكمل جملتها شعرت بجسدها يصطدم في جسد صلب بعض الشيء لتتراجع فورًا مرتعبة ولم تكد تفتح فمها لتعتذر حتى هالتها عيونه التي نظرت لها باهتمام فابتسمت تلقي الدفتر الذي دونت به كل شيء جانبًا تعدل من هيئتها :
” اهلا يا دكتور علي، ازي حضرتك ؟؟”
ابتسم لها عليّ بلطف يقول :
” أنا بخير الحمدلله، اخبارك أنتِ ايه يا تبارك ؟؟”
شعرت تبارك بقلبها يتراقص فرحًا من اهتمامه بها، تنظر ارضًا بخجل شديد، تحاول أن تجد كلمات تجيب بها على سؤاله البسيط العادي، رفعت وجهها مجددًا لتجيبه لكن قاطعها صوت من داخل الغرفة يقول بصياح :
” اوعك تنسي الجرجير والمخلل يا تبارك لاحسن والله المرة دي هتبقى بخناق، وبسرعة شوية مش ناقصين عطلة”
عضت تبارك شفتيها بغيظ شديد، ثم رفعت عيونها لعليّ الذي ابتسم لها يقول بهدوء شديد :
” طيب يا تبارك شكلك مشغولة، استأذن أنا ”
وقبل أن تعترض وتوقفه رحل بهدوء كما جاء بهدوء تاركًا إياها ترثي ذاتها، وحظها السييء الذي يلاحقها بلا هوادة، حتى أنها أضحت تظن أن هناك طيف خفي شديد الغيرة يلاحقها كي يبعد عنها كل الرجال، وكانت تلك فكرة في غاية الرومانسية للبعض، لكن ليس تبارك التي خرجت من المشفى تهمس وتتوعد بالويل :
” بس لو المح ابن الـخرابة اللي مبهدل حياتي، هديله علقة اسففه سنانه ومخليش دكتور يعرف يجمعه تاني ”
__________________________
يتحرك بين الممرات بخطوات مليئة بالهيبة وخلفه جميع مستشاريه وجنوده المخلصين، يتوجه صوب غرفة الاجتماعات التي ما فُتحت يومًا سوى لوجود كارثة، وهل هناك كارثة تنافس ما يمر بها الملك الآن ؟؟
دخل إيفان المكان الذي كان زاخرًا بجميع رجاله الأوفياء ووالدته التي كانت كمن فقدت عزيزًا، أو هُدم معبدها، لا تصدق ما وصل لاذنها، ابنها هي قُدرت له إحدى نساء المفسدين ؟؟
تحرك إيفان بين الجميع بملامح جامدة قدت من صخر، واعينه الخضراء تلتمع بنظرات خطيرة، نظر في جميع الوجوه يبحث عنه هو، الوحيد الذي يثق أنه سيساعده في الأمر :
” أين هو سالار ؟؟”
تحدث دانيار باحترام شديد :
” سيدي لقد أرسلنا له مبعوثًا ليخبره بضرورة الحضور ”
هز إيفان رأسه يستقر على مقعده الذي يتقدم جميع المقاعد يحرك عيونه بين كل من يثق بهم، العريف ومرجان، ودانيار ووالدته ومستشاره الملكي والطبيب الملكي مهيار، فقط تبقى قائد جيوشه ويكتمل جميع معاونيه ..
” اعتقد أن الجميع يعلم سبب وجوده هنا ”
هز الجميع رؤوسهم وقد علىٰ الصمت وكأن على رؤوسهم الطير، لا أحد حتى الآن يصدق ما وصل لهم من اخبار، الأمر أصبح في غاية التعقيد .
تنفس إيفان بصوت مرتفع يقول :
” لقد إتخذت قراري ..”
نظرت له والدته بفضول وداخلها هاجس يخبرها أن ما ستسمعه لن يسرها البتة، وقد كان إذ اعتدل في جلسته يقول بجدية كبيرة :
” أنا سأحضر ملكتي هنا ”
انتفض جسد الملكة بفزع من تلك الفكرة تصرخ باعتراض كعادتها التي تستفز كل ذرة من ذرات صبر إيفان، فهي تحب دائمًا حشر نفسها في شئون مملكته، لا تستوعب أنه الملك وتظن أنها تستطيع أن تملى عليه ما يفعل، وهو يومًا لم يعتمد على أحد في إدارة مملكته، وهو من يشهد له الجميع بالذكاء الحاد والعقلية الجبارة رغم عمره الصغير الذي تعدى الثلاثين بأيام قليلة .
وصوت والدته خرج مجددًا تعترض أمام الجميع دون وضع اعتبار أنه الملك :
” ماذا ؟؟ هل تمزح معي ؟؟ أي امرأة تلك التي ستحتفظ بها أسفل سقف غرفتك مولاي ؟؟ ما ادرانا أنها امرأة صالحة وليست كالجميع هناك و…”
ضرب إيفان الطاولة بشكل تسبب في استنفار أجساد الجميع واعتلاء نظرات التحفز وجوههم وصوته خرج هادئ قدر الإمكان احترامًا لمكانة والدته بين الجميع :
” مولاتي، أنتِ الآن تتحدثين عن ملكة سفيد المستقبلية، لذا رجاءً اظهري بعض الاحترام ”
” ملكة ؟؟ أي ملكة تلك ؟! هل أنت جاد في رغبتك بالبحث عنها ؟؟ ماذا سيحدث إن تزوجت واحدة من اميرات الممالك المجاورة ؟؟”
نظر لها إيفان ثواني قبل أن يحرك عيونه ويثبتها في نقطة فارغة أمامه :
” لن يحدث شيء أمي لأنها ببساطة ليست ملكتي، لقد إتخذت قراري وحُسم الأمر، سوف أحضر الملكة هنا ”
تنحنح دانيار وهو ينظر له بتحفز :
” لكن مولاي الخروج والذهاب لذلك الجانب من العالم، لن يكون سهلًا، وقد يستغرق الكثير من الوقت، ربما شهور لا أحد يدري ”
ابتسم إيفان يتراجع بظهره للخلف يقول ببسمة واسعة ماكرة :
” لقد فكرت في هذا أيضًا، أنا لن استطيع الذهاب وإحضار الملكة بنفسي، لذلك فكرت أن أرسل شخص أثق به يستطيع إنهاء تلك المهمة في أقل وقت ممكن ”
نظر الجميع له بفضول شديد، يحاولون معرفة من يقصده بكلماته تلك، وايفان ابتسم بخبث شديد وقد التمتت عيونه بقوة يسمع صوت الباب يُفتح خلفه والحارس ينادي بصوت جهوري :
” سيدي قائد الجيوش الأول، وصل يا مولاي ”
خطى سالار للداخل بخطوات قوية تكاد تسمع صداها يرن في الأجواء وتشعر بوقعها اسفلك..
وقد أرتجف جسد مرجان يختبأ خلف العريف من مظهر سالار الذي كان يتحرك داخل القاعة بدرعه وسيفه وسهامه التي لم ينزعها عن ظهره بعد، وقد عاد لتوه من معركة أخرى انتصر بها، ابتسم سالار بسمة جانبية وهو يتجاهل الجميع عدا دانيار الذي حياه برأسه تحية صغيرة ردها له دانيار باحترام شديد وقد وقف يستقبل قائده، لكن سالار أشار له بيده حتى يجلس مجددًا ..
وتحرك لمقعد الملك يقف أمامه بكامل هيبته، وملامحه الحادة بشعر بني يميل للأحمر ولحية نفس اللون، واعين خضراء، ابتسم يقول بهدوء وصوت قوي :
” أرسلت لي مولاي ؟؟”
نظر له إيفان ببسمة يجيبه بهدوء شديد :
” نعم سالار، اجلس رجاءً وأخبرني ما فعلت خلال رحلتك لتحرير المدن الغربية ؟!”
اتسعت بسمة سالار يجيب بهدوء شديد وملامح باردة بعض الشيء وبكلمات مقتضبة :
” يمكنك أن تسأل الأسرى في السجون سيدي، اعتقد أن الرواية من جانبهم ستكون أكثر إثارة من خاصتي، فأنا لا أملك سوى أننا ذهبنا وانتهينا منهم بفضل الله ”
أطلق إيفان ضحكات عالية يعلم جيدًا أن سالار لم يكن يومًا من محبي الحديث الطويل أو الكلمات الكثيرة، هو رجل أفعال، آلة حرب مخيفة لا يخرجها إلا في حالات نادرة .
اعتلت أعين إيفان نظرات غامضة جعلت سالار يميل برأسه متعجبًا، وهو يحرك نظراته بين الجميع يحاول استنتاج ما يحدث والذي تسبب في شحوب ملامح بعض المستشارين وتشفي العريف وغضب الملكة الأم..
وقد جاءه الرد على ما يفكر به سريعًا، مصحوبًا بنبرة غامضة من الملك :
” جيد سالار، احتاجك لمهمة أخرى يا صديقي ”
نظر له سالار بفضول كبير أخفاه بمهارة أسفل نظرات مهتمة مطيعة، وحوله الجميع ينظر بترقب لما سيقال :
” اريدك أن تذهب لإحضار الملكة سالار ”
” وهل وجدتموها ؟؟ ولِم تحتاج مساعدتي لاحضارها مولاي ؟؟ ”
اعتدل إيفان يضم قبضتيه على الطاولة التي تجمعهم كلهم يقول بنبرة آمرة لا تقبل أي نقاش وكأنه يوصل لسالار أنه الآن لا يتحدث له كصديق، بل كملك، وكلماته ليست طلبًا بل أمرًا واجب التنفيذ :
” هذا لأن الملكة تقبع هناك سالار، في جانب المفسدين، وأنت من ستذهب لتحضرها من اجلي وستأخذ معك مرشدي الجانب الآخر لمساعدتك …”
اتسعت أعين سالار بقوة وقد شعر الجميع حوله أن غضبه جعل هيئته تزدادت ضخامة ووجهه يزداد تحجرًا.
وهو فقط نظر حوله للجميع، ليشعر مرجان بالرعب الذي دفعه ليلقي بجسده أسفل الطاولة يختفي عن أعينه، فهو لا ينسى ثوارات سالار التي يقيمها على رأس العريف حين غضبه منه .
تنفس سالار بقوة يشعر برغبة عارمة لرفض مهمة للمرة الأولى، لكن وبالنظر لنظرات الملك شديدة التحذير من رفض أمر له، نهض من مقعده يضغط بقبضته على مقبض السيف يقول بهدوء شديد :
” يمكنك تجهيز عرش مولاتي منذ اليوم مولاي ”
ختم جملته يحني رأسه بطاعة، ثم تحرك خارج القاعة بأكملها بجسد مشتد كالوتر وملامح مرعبة، وخطوات قوية شعر الجميع أنها تكاد تحرك الطاولة والمقاعد من قوتها، توقف سالار أمام الباب الخاص بالقاعة يأمر بصوت جهوري :
” افتحوا الابواب ”
وفي ثواني كان الباب يُفتح بقوة لينطلق كالرصاصة خارج المكان بأكمله والشياطين تلحقه، نهض دانيار يعتذر من الملك، ثم ركض بسرعة كبيرة خلف سالار تاركًا إيفان ينظر أمامه بهدوء شديد وكأنه لم يفعل شيء يشير للعريف :
” تولى أمر إبلاغ سالار بكل ما يحتاجه في ذلك الجانب من العالم أيها العريف، وأخبر ذلك الجبان أسفل الطاولة أن يخرج ويذهب لاخبار مرشدي الجانب الآخر أن يتجهزوا للذهاب في رحلة رفقة القائد سالار، انتهى الاجتماع يا سادة ”
بهذه الكلمات ختم إيفان الجلسة يتحرك عن مقعده بقوة خارج المكان بأكمله، يسير بجسده الضخم نسبيًا وهو ينظر أمامه دون أن يهتم بأحد يتنفس بصوت مرتفع متحركًا صوب حجرته للانفراد بنفسه.
وكذلك فعلت الملكة والمستشارين يغادرون المكان وكلٌ يبكي على ليلاه، الجميع يفكر فيما سيحدث في الأيام القادمة، إذ يبدو أن المملكة ستشهد حدثًا سيغير مجرى تاريخها ..
وحينما عمّ الهدوء أخرج مرجان رأسه من أسفل طاولة الاجتماعات يهمس بريبة :
” هل رحل الجميع ؟؟”
نظر له العريف يضرب رأسه بحنق :
” أخرج أيها الجبان ”
وكذلك فعلت بومته التي ضربته بجناحها تطلق صوتًا مزعجًا وكأنها توبخه .
نهض العريف عن المقعد يشير لمرجان أن يلحقه :
” يبدو أن المملكة على وشك أن تُغير خارطتها يا فتى، القادم سيكون ممتعًا للغاية …”
_____________________________
تحركت صوب منزلها بعد يوم عمل مرهق، تبحث داخل حقيبتها عن بعض القروش فقط كي تشتري لنفسها شيئًا حلوًا لما بعد العشاء كمكافأة لها على تحملها العيش في هذه الحياة يومًا اضافيًا، لكن فجأة وأثناء بحثها عن أي أموال انتبهت لنظرات غريبة توجه لها من جميع سكان الحارة، وتقصد هنا بسكان الحارة ” النساء” …
نظرت تبارك خلفها تبحث عن ذلك التعيس الذي وقع ضحية لسان النساء هنا وأعينهم، لكن لصدمتها لم تجد ذلك التعيس لتدرك أنها هي نفسها التعيس ..
عادت بعيونها للنساء تشير صوب صدرها باصبعها تقول بصوت خافت :
” أنا ؟؟ بس أنا لسه معملتش حاجة”
ابتلعت ريقها تنفض عنها ذلك الشعور، بالطبع هي فقط تتخيل، فهي لم ترفض زوجًا ” لقطة” كما يخبرونها، أو تنبذ عملًا في إحدى عيادات الأطباء الحمقى هنا، أو حتى تتشاجر مع امرأة، لتكون محط أنظار النساء، هي تتوهم فقط .
لغت فورًا فكرة مكافأة نفسها تدرك أن أكبر مكافأة قد تقدمها لنفسها هي أن تنفرد بها داخل منزلها الدافئ بعيدًا عن كل ذلك، لذا قررت أن تتحرك صوب المنزل قبل أن تثقبها إحدى النظرات من النساء، وما كادت تعبر حدود البناية حتى سمعت صوتًا يهمس :
” اه والله وقال ايه واحد بيجيلها في الحلم ويكلمها كل يوم ”
اتسعت عيون تبارك فجأة تقف في مكانها تهمس داخلها :
” يارب مش اللي في بالي، يارب لا ”
نظرت صوب النساء لترى أم أنور تحدق بها متسائلة بوقاحة :
” فيه حاجة يا حبيبتي ؟؟ ”
” لا أنتم اللي فيه حاجة يا أم أنور ؟؟”
” لا يا حبيبتي وهيكون فيه ايه يعني ؟؟ ”
هزت تبارك رأسها ولم تكد تخطو للبناية، حتى توقفت على ضحكة عالية من إحدى فتيات الحارة التي سارعت بحجز مقعدها بين النساء مبكرًا، وكأنها تستعجل تحولها للسان متحرك لا غرض له سوى التحدث بأخبار من حوله .
توقفت تبارك ونظرت للفتاة بتحفز كبير تتساءل بأعين مشتعلة :
” فيه حاجة في وشي بتضحك ؟؟”
ابتسمت الفتاة تتجاهلها وهي تنظر من أعلى لاسفل بتقليل :
” كلك على بعض الصراحة، يا عيني من كتر الوحدة عقلك بدأ يطق منك ويخترع ليه ناس يحبوه ”
اقتربت منها تبارك بتحفز وقد بدأ جسدها بأكمله يهتز بغضب وشيك، هي لا تحب العراك وتتجنب المشاكل، لكنها لا تحب أن يتخذ أحدهم سخرية له :
” انتِ بتقولي ايه ؟؟ ما تتكلمي بوضوح وبلاش جو الفوازير ده يا حبيبتي، انطقي باللي عايزاه ”
” وأنا هعوز منك ايه يا ختي ؟؟ أنتِ اللي زيك هو اللي عايز شوية حنان وشفقة قبل ما يجن، الحارة كلها عارفة بالحوار بتاع احلامك وأنك عليكِ اللهم احفظنا جن زي اللي كان عند البت احلام ”
شعرت تبارك بدمائها تتصاعد بين شرايينها، الغضب تمكن منها حتى أصبحت لا تميز أمامها سوى اللون الاحمر، ودون كلمة تحركت راكضة صوب منزل الشيخ عبدالعزيز تشعر بالقهر، الغضب تمكن منها حتى شعرت بقرب انفجار بكائها، فهذه هي عادتها كلما أزداد غضبها ازداد معه فرص بكائها بشكل مزري، وصلت للمنزل تطرقه بعنف شديد وبمجرد أن ظهرت لها حسنية أطلقت عفاريتها في وجهها صارخة :
” هو أنتِ يا ست أنتِ لو كنتِ حفظتي سر اللي دخل بيتك وامنك على أسراره هيجرالك حاجة ؟؟ لازم لسانك ده يفضل يخوض في سيرة الناس ؟!”
اتسعت عيون حسنية بصدمة من كلماتها وهي تنظر حولها برعب :
” أنتِ بتقولي ايه يا بنتي أنا عملتلك حاجة ؟؟”
” بنتك ؟! يا ست يا أم لسان طويل، بكرة تتسحبي منه، والله العظيم لاوصل للشيخ عبدالعزيز كل كلمة نطقتيها في حقي وهوريكِ ازاي تتكلمي على الناس تاني، حسبي الله فيكِ وفي امثالك ”
وما كادت ترحل حتى سمعت صوت حسنية تركض خلفها تحاول إيقافها مرتعبة مما سيحدث لها على يد عبدالعزيز إن علم أنها أخرجت كلمة مما سمعت، لكن تبارك لم تتوقف في سيرها تركض صوب منزلها وبمجرد أن وصلت وجدت جميع النساء يجلسن أمامه ومعهم نفس الفتاة التي أخذت تطلق ضحكات بمجرد أن رأتها تقترب .
وتبارك حين أصبحت أمامها رفعت حقيبتها تضربها في وجه الفتاة بقوة اسقطتها بين أحضان والدتها وصوتهل يعصف بشكل مرعب :
” اياكِ تنطقي كلمة في حقي ؟؟”
نظرت لها الفتاة بخوف من نبرتها تلك، ابتلعت ريقها تحاول الحديث، لكن تبارك اصمتتها ترفع اصبعها في وجهها تقول بصوت خافت مرعب :
” كلمة واحدة في حقي برقبتك ”
ختمت حديثها تنظر للنساء بشر ليتبلعن ريقهن ويبتعدن عن عيونها وهي تحركت صوب منزلها تهنئ نفسها على تلك الخطوة التي ستجعلها مستهدفة من جميع نساء الحارة، لكنها ستجعلهم يتجنبونها، فكما يقول المثل ” اضرب المربوط يخاف السايب” وهي أوصلت رسالتها واضحة لنساء الحارة من خلال تلك الفتاة ..
دخلت المنزل تغلق الباب خلفها بقوة تتنفس بصوت مرتفع تلقي بالحقيبة على الأريكة، ثم جلست هي كذلك جوارها تحدق أمامها في الفراغ تدفن وجهها بين كفيها، تقول بحنق وغيظ :
” اه لو غاندي اللي كل شوية ينطلي في الحلم يقع تحت ايدي بس ….”
عادت برأسها للخلف على الأريكة تحاول أن ترتاح هامسة بخفوت قبل أن تسقط في نومة عميقة :
” أنا تعبت خلاص . ”
___________________
كان يجلس داخل مكتبته حيث مملكته التي يحكم، يعتلي عرشه والذي كان عبارة عن مقعد يتوسط العديد من أرفف الكتب الضخمة، يراقب ذلك العملاق الذي يعيث فسادًا في مملكته، فيحطم هذا ويدمر ذلك دون أن يعطي أي اهتمام لأحد.
زفر العريف يتحسس ريش البومة التي تعلو كتفه تحدق بسالار الذي يحطم ما يسقط امام عيونه بغضب.
ماله هو والنساء ؟! هو رجل حرب لا يفقه سوى في الأسلحة وما يخصها، وهذه امرأة كيف يعاملها ؟؟ هل يتعامل معاها كما يعامل السيف الخاص به أو درعه ؟؟
مال مرجان على العريف يهمس له :
” كل هذا وهو لا يعلم أنك أنت من اقترحت على الملك إرساله هو تحديدًا ”
نظر له العريف بشر مبعدًا وجهه عنه :
” وإياك أن يعلم وإلا اضعت مستقبلك مرجان، ألا تراه كالثور الهائج يكاد يحطم جدران القلعة فوق رؤوس قاطنيها ”
وحينما انتهى سالار من تفريغ غضبه تحرك صوبهم بخطوات رزينة هادئة تعاكس تمامًا ما كان يفعل منذ ثواني، يجلس على المقعد أمامه يتحدث بملاح في غاية الغضب :
” والآن أخبرني ما يحدث هنا وما عليّ فعله ؟؟”
ابتسم العريف يتنهد براحة مشيرًا صوب مرجان :
” مرجان سيذهب ليحضر لك مرشدي الجانب الآخر، وما عليك سوى حمل كرة العرش والتحرك بها للبحث عن الملكة، هي سترشدك إليها، وحينما تجدها أحضرها، واحرص أن تكون عودتك قبل منتصف الشهر الجاري ”
سخر منه سالار بكلمات حانقة :
” لِمَ ؟ هل ستتحول لمستذئب إن لم أفعل ؟!”
هز العريف كتفه يقول ببساطة :
” لا بل ستخفت قوى الكرة وسيصعب عليك إيجادها، هل كل شيء واضح ؟؟”
هز سالار رأسه، ليضيف العريف يلقي ببعض الكتب أمامه وعيونه باردة لا تهتم بشيء حوله، ولا حتى لقائد الجنود الذي يكاد يحيل المكان حولهم لرماد :
” هذا كتاب يصف لك بعضًا مما قد تقابل في الخارج، حيث الملكة، حينما تعبر حافة العالم ستسير حسب مخطوطة سأمنحها لك، وستصل لبلدة صغيرة أين ستجد أحد رجالنا في ذلك الجانب وهو سيساعدك للذهاب حيث تشير الكرة”
” وأين تشير الكرة ؟؟”
” لن نعلم إلا عندما تخرج من هنا، عامة هو سيخبرك أين ستذهب وكيف ستفعل، سيساعدك كما سبق وفعل مع مستكشفي مملكتنا سابقًا، يمكنك أن تثق به ”
رمقه سالار بنظرات شديدة مخيفة بعدما مال على مقعده وقد كان صوته أشبه بفحيح حية تستعد للالتفات حول ضحيتها وخنقها قبل أن تبتلعها :
” أنا لا أثق بأحد”
اقتحم دانيار في تلك اللحظة المكتبة يقول براحة شديدة لرؤية الجدران في مكانها المعهود :
” سيدي …”
أشار سالار عليه يكمل على حديثه السابق :
” عدا دانيار، وتميم والملك وتلك البومة التي تعلو كتفك فقط ”
أصدرت البومة صوتًا وكأنها تفهم ما يقول ليبتسم العريف بسخرية :
” اوه، هذا كان جارحًا ”
” لطالما كانت الحقيقة هكذا ”
ابتسم له العريف ينهض من مكانه يتحرك داخل المكتبة الخاصة به يتجاهل تمامًا وجوده، بينما مرجان والذي يلتزم الصمت منذ لمح وجود سالار قرر أنه حان وقت الهروب من وجهه والذهاب لإحضار المرشدين، لذلك ابتسم بسمة صغيرة وهو يستأذن راكضًا خارج المكتبة تاركًا دانيار يجلس أمام سالار..
” إذن هل ستفعلها سيدي ؟!”
” وهل ترك لي إيفان خيارًا ؟؟”
ابتلع دانيار ريقه ثم نظر حوله يميل قائلًا:
” هل تريد مني مرافقتك ؟؟”
رمقه سالار بحاجب مرفوع :
” ومن سيقود الجيش في غيابي دانيار ؟؟ ”
اجابه دانيار بكل بساطة ودون تفكير :
” تميم سيفعل ”
أطلق سالار صوتًا حانقًا مغتاظًا من اقتراح دانيار :
” تميم ؟! بالله عليك دانيار إن كنت تطمح لضياع تلك المملكة فلن تقترح هكذا اقتراح ”
وقبل أن يكمل كلماته سمع الجميع صوت انفجار قوي يأتي من داخل القصر ليزفر سالار بحنق يشير صوب الخارج :
” أنظر، نحن معه هنا في القصر ويكاد يحطمه أعلى رؤوسنا، ماذا إن تركنا له زمام الأمور ؟؟ أنت ستبقى هنا كي تحمي المملكة من أي معتدي خارجي، ومن تميم ايضًا”
ضحك دانيار بصوت صاخب، يرى أن قائده محق فتميم والذي كان المسؤول عن الأسلحة والمدافع وتطوير كل ذلك يعد كارثة متحركة، لا ينفك يفجر معمله مرتين كل اسبوع.
قال سالار :
” لا تقلق أنا استطيع حماية نفسي وحماية مملكة بمفردي ومعي سيفي العزيز ”
سمع صوت العريف يقول من داخل المكتبة :
” لا يمكنك أخذ السيف ”
عض سالار شفتيه بغيظ شديد :
” ذلك العجوز، يومًا ما سأتخلص منه وألقيه بيدي في الجانب الآخر من العالم، حيث المفسدين أمثاله ”
وصل له صوت العريف يقول بسخرية لاذعة :
” على الأقل لن أكون مضطرًا للتعامل مع ملك متسلط، وقائد جيش متجبر، ورامي سهام مزعج، وصانع أسلحة مختل، وبومة حمقاء ”
ختم جملته يضرب البومة بالكتاب لتطلق الأخيرة صوتًا محتدًا وهو تجاهل الأمر، يفكر أنه حقًا يتمنى الانعزال عن هذا العالم بمن فيه، هم مزعجون وبشدة، لا يطيق هؤلاء الأربعة الذين يمثلون تحالفًا، ويتمنى لو يختفون من تلك المملكة ويتركونه ينعم بحياة هادئة وسط كتبه الغالية .
تنهد سالار لا يدري ما يفعل، الأمر سيستلزم منه جهدًا وفيرًا كي يصل، وجهدًا أكبر كي يقنعها بالمجئ معه، حسنًا الجزء الاول ليس بالصعب، لكن أن يتعامل مع امرأة ويقنعها بشيء لهو المستحيل بعينه، لكن ومنذ متى يأس سالار وعجز أمام شيء ما ؟؟
والإجابة كانت أبدًا، إذن سيفعلها وينتهي منها كما يفعل دائمًا ويعود بأسرع وقتٍ ممكن، حيث مملكته الغالية وجيشه العزيز ..
سمع صوت انفجار آخر ليكمل داخل عقله، وليلقن تميم درسًا ..
________________________
كان يجلس في معمله امامه العديد من الأدوات والعديد من المواد التي يصنعها بنفسها أو يوصي عليها من العالم الخارجي، فنعم هم رغم انعزالهم التام عن الحياة في الخارج حيث المفسدين، إلا أنهم في بعض الأحيان يستعينون ببعض موادهم .
ابتسم يقوم بحشو كرة حديدية ببعض المواد المتفجرة، ثم امسكها بين يديه يحركها للأعلى والاسفل وهناك بسمة واسعة ترتسم على فمه، رفع يده في الهواء يبحث عن مكان يلقي به تلك الكرة ليجربها، ليقع الاختيار في النهاية على مدخل المعمل فهو المكان الوحيد الفارغ من أدواته الثمينة .
لوح بالكرة في الهواء ودون تفكير كان يلقي بها بقوة مخيفة تسببت في أحداث صوت عالي مدوي ودخان كثيف، وصاحب صوت الانفجار صوت صرخات أنثوية تصيح بهلع :
” النجدة …النجدة ”
فتح تميم عيونه ينتظر أن ينقشع الدخان حتى ظهر من بينه امرأة طويلة الجسد بعض الشيء، جميع ثيابها تدمرت ببقع حروق وهي تحمل بين يديها بعض أدوات التنظيف تسعل بقوة :
” رحمتك يا الله، ما هذا ؟ أشعر كما لو أن أحدهم القاني بقنبلة فلفل حار ”
نظر لها تميم ثواني قبل أن يقول بتفكير وهو ينظر للادوات خلفه :
” عجبًا لم تتسبب القنبلة في قتلها، ربما نسيت إضافة شيء ”
نظرت له الفتاة بأعين متسعة :
” ماذا ؟؟ هل أنت حزين لعدم موتي ؟؟”
” عدم موتك يعني فشلي في تلك القنبلة اليدوية، الأمر مخيب للامال”
ابتسمت الفتاة بصدمة كبيرة تترك أدوات التنظيف جانبًا وهي تتحرك صوبه تصرخ بجنون :
” أنت أيها المختل ما الذي تهزي به ؟؟ لقد كدت تفجر جسدي للتو، والآن أنت خائب الامل لأنك لم تر اشلائي تتناثر حولك ؟؟”
نظر لها تميم ثواني يحاول التفكير جيدًا في تلك الافتراضات التي تطرحها على عقله :
” لا، ارجوكِ آنستي لا تأخذين الأمر من هذا المنظور، انظري أنا أعمل على هذه القنبلة منذ اسبوع كامل، تخيلي أن نمتلك قنبلة يمكنها تدمير جيش بأكمله عن بعد ؟؟”
وما قال لم يحسن الوضع بالنسبة لها ولو لجزء صغير :
” أنت يا سيد حانق لأنك ألقيت عليّ قنبلة قادرة على تدمير جيش بأكمله ولم تؤتي ثمارها المرجوة ؟؟”
هز تميم رأسه بنعم، هو حقًا يشعر بخيبة الأمل، لكن فجأة تراجع للخلف على طاولة الادوات برعب وهو يرى الفتاة أمامه تتحول لوحش يزأر في وجهه :
” حسبي الله فيك وفي امثالك أيها الغبي، هل أرواح من بالقصر لعبة في يدك يا مدلل، اقسم أنني لو أصابني خدشٌ واحد لاشكونك عند الملك ولن اتركك إلا عندما ألقي عليك دزرينة قنابل بنفسي ”
أنهت حديثها تسحب الادوات صارخة بحنق :
” لن اخطو ذلك المكان العفن مجددًا، سامح الله من اقترح عليّ تنظيفه، لا ينقصني في حياتي البائسة سوى مختل حزين لأنه لم يستطع قتلي بنقبلته اليدوية ”
راقب تميم انسحابها من معمله ترغو وتزبد بغضب وهو لا يستطيع الشرح لها، يتحرك خلفها :
” انتظري أنا لا اقصد ما وصل لكِ، اقسم لم اقصد كل ذلك، فقط أنا حزين، قدّري حزني، حسنًا فقط أخبريني ما شعرتي به للعمل على التعديلات، هل كان الأمر مؤلمًا حينما اصطدمت بكِ ”
وصل له صوت الفتاة الذي صدح من الاعلى، إذ أن معمله يقبع أسفل القصر بسبب ما يحدث من انفجارات متتالية :
“أقسم أن أهبط أنا واريك كيف يكون الألم حينما يصطدم حذائي بوجهك ”
زفر تميم بحنق شديد، هو حتى لم يعلم اسمها او يرى من وجهها شيئًا ليراقبها ويرى تأثير الانفجار عليها، لربما فشل الآن لكن في المستقبل يسبب تشوهات أو ما شابه، أي شيء يشعره أنه لم يضع أيام وليالي لأجل قنبلة دخان وصوت فقط ..
” لِمَ كانت تلك الفتاة تصرخ للتو ؟؟”
لوح تميم بيده وهو يراقب دانيار وسالار يخطوان لمعمله :
” لا ادري اقسم، من المفترض أن اغضب أنا، لقد أصابتها قنبلتي الجديدة، ولم يصيبها سوى بعض اللون الأسود بسب بالدخان الكثيف، ورغم ذلك أصابت رأسي بصداع ”
توقف عن الحديث فجأة حينما انتبه لوجه سالار الجامد ليقول بريبة :
” ما به القائد ؟؟”
نظر دانيار له وقال بصوت منخفض :
” لقد أرسله الملك في مهمة للجانب الآخر من العالم ”
اتسعت أعين تميم بقوة ينظر لسالار الذي كان شاردًا، ودون مقدمات اتسعت بسمته يقترب من سالار يهمس له :
” إذن هل تحتاج بعضًا من أسلحتي معك ؟! ابتكرت للتو قنبلة بإمكانها تدمير جيشٍ بأكمله”
نظر له سالار يجيب ساخرًا وهناك بسمة ترتسم على وجهه :
” نعم، تلك القنبلة التي تصيب جيشًا كاملًا بالسعال ”
أطلق دانيار ضحكات عالية على ملامح تميم الذي تقهقر للخلف يدافع عن أسلحته :
” هي ما تزال بحاجة لبعض التطويرات، لكن صدقني في المستقبل سوف يقف الكون بأسره منبهرًا بما سأفعل ”
” وحتى نفعل هذا يا عزيزي، احتاج منك بعض الأسلحة صغيرة الحجم التي ستساعدني لتدبر أمري في ذلك العالم الغريب، أسلحة ليست بالظاهرة، فهمت تميم ؟؟”
نظر له تميم لحظات قبل أن يقول ببسمة :
” فهمت يا قائد …”
________________________
نظرت تبارك لوجه العم متولي والذي يجلسها أمامه منذ ساعات طويلة يتحدث بكلمات غامضة لا تفهم منها شيئًا، هو فقط أخبرها أنه وصل لشيء هام يخص أحلامها وحالتها ..
كانت تستمع له يضع أمامه ورقة كبيرة ويمسك بقلم بين أنامله يحركه بشكل عشوائي يقول بجدية كبيرة :
” ها فهمتي اللي بيحصل ؟!”
أشارت تبارك لنفسها بغباء شديد :
” يعني قصدك إني أنا عروسة النيل الجديدة واللي بحلم بيه ده نداء المفروض البيه قبل ما اللعنة بتاعة الفراعنة تصيب الحارة كلها ؟؟”
هز متولي رأسه مبتسمًا سعيدًا أن ما أراده وما اكتشفه بعد بحثٍ طويل عن أسباب تلك الأحلام التي تصيبها قد أتى ثماره وفهمت ما يريده .
” بالضبط، المفروض دلوقتي تلبي النداء قبل ما الحارة باللي فيها تولع”
” النداء اللي هلبيه ده، هلبيه بأني…”
تركت جملتها معلقة ليس لجهلها بباقيتها، فهو أعاد على مسامعها كل شيء مرات عديدة، لكنها فقط تود التأكد مرة أخرى أنها لم تخطأ السمع وهو سارع كي يكمل تلك الجملة لها :
” أنك ترمي نفسك في النيل ”
صمت ثم أضاف بعدما تذكر :
” من نزلة ابو العِلا اللي في التحرير كده، تتشيكي وتلبسي فستان ابيض بلياقة دهبي وحزام دهبي وتروحي ترمي نفسك ”
” والطرحة، دهبي برضو ولا على ذوقك ؟؟”
” لا دي براحتك يعني عادي ”
هزت تبارك رأسها تبدي اقتناعًا زائفًا، تتحرك من مقعدها للخلف ببطء شديد وحرص ومتولي يراقبها بعدم فهم، وهي تبتسم له بسمة صغيرة غبية :
” هروح اكوي الفستان وأجهز نفسي، واول ما أقرر إني ارمي نفسي هديك رنة، تمام ؟؟”
كان متولي يتابعها وهي تتحرك صوب باب المكتب الخاصة به، وبمجرد أن لمست أقدامها عتبات المكان حتى هرولت للخارج بسرعة وكأن الاشباح تطاردها، كانت تبارك تركض بأقصى ما تملك، تنظر خلفها برعب، وما اوقف هرولتها سوى جسد ضخم صلب اعترض طريقها .
توقفت برعب تعود للخلف وهي تتنفس بصوت مرتفع :
” أنا بعتذر مكنتش ….هو أنت ؟؟ هو مفيش حد في البلد دي بخبط فيه غيرك !!”
رمقها الطبيب الذي يعمل معها بتعجب، لكنه تجاوز ذلك التعجب متسائلًا حول ملامحها المرتعبة :
” هو فيه ايه ؟؟ حد بيجري وراكِ ولا ايه ؟؟”
نظر خلفها يبحث عن ذلك الذي يركض خلفها، لكنها سارعت للقول من بين انفاسها :
” لا …لا مفيش أنا …أنا بس كنت بعمل رياضة مسائية ”
نظر لها بشك، لكنه لم يعلق حول الأمر يبتسم لها ويمد يده ببعض الازهار التي أحضرها لأجلها :
” اتفضلي دي جبتها عشانك ”
نظرت تبارك للازهار بأعين متسعة وبعدم فهم :
” عشاني أنا ؟؟”
أومأ يؤكد لها صدق ما سمعته، يأكل المسافة بينهما ضاربًا بكل شيء عرض الحائط، لا يهتم بأي شيء يحيطه أو أنه يقف الآن وسط حارة ملغمة بأعين النساء وألسنة بحدة السيوف، يراقبون ما يحدث باهتمام شديد ينقصهم فقط بعض الأوراق وقلم لتسجيل ما يحدث والنقاش به في اليوم التالي .
” أيوة عشانك يا تبارك، أنا اساسا كنت جاي عشانك، كنت عايز اتكلم مع أهلك و اتقدم ليكِ عشان نتعرف على بعض بشكل مناسب ”
اتسعت أعين تبارك بقوة تشعر أن الأرض بدأت تدور أسفلها من تلك الكلمات، لكن فجأة ضرب جرس انذار داخل عقلها حينما انتبهت لكلمة ” اهلك” التي توسطت جملته بكل خبث تخرجها من تلك الحالة التي ألقاها بها الطبيب .
ابتلعت ريقها تنظر لوجهه تقول بتردد وكأنها تريد أن تبعده عنها :
” دكتور علي، الحقيقة أنا معنديش أهل ”
ضيق علي ما بين حاجبيه بعدم فهم، مبتسمًا بسمة صغيرة :
” يعني ايه معندكيش أهل؟؟ يتيمة قصدك ؟؟ أنا كمان والدي متوفي على فكرة بس مش بـ ”
قاطعته تبارك فجأة وهي تقول بجدية :
” لا معنديش أهل، مش عارفة إذا كانوا عايشين أو ميتين أنا كنت في ملجأ ”
بُهت وجه علي، يعود للخلف مبتلعًا ريقه وقد أصابته تلك المعلومة بصدمة، صدمة جعلته يفتح فمه رغبة في الحديث، لكنه اغلقه كـ سمكة خرجت من الماء تحاول التنفس بصعوبة .
وملامحه تلك كانت أكثر من كافية لتبارك التي ابتسمت تعيد له الورد مرة أخرى تقول بهدوء شديد :
” أنا عارفة إن الموضوع ممكن يكون صدمك، لكن كان لازم تعرف، عامة أنا بشكرك و ..”
صمتت تعض شفتيها تشعر بسخافة ما تقول، لا تجد رد تقوله، والأعين من حولها لا تساعد أبدًا على أن تبلور حديثها في جملة مفيدة؛ لذا قررت أن تبتسم وتودعه بكلمات مقتضبة، ثم تحركت صوب منزلها تستأذن منه تتجاهل أعين النساء والهمسات التي وصلت لها .
وعلي يقف مكانه يحاول معرفة ما حدث منذ ثواني، هو فقط، هو فقط تفاجئ، لم يستوعب ما قالته، نظر صوب المنزل يشعر أنها فهمت صمته بشكل خاطئ، هو لم يقصد أن يشعرها بالدونية أو ما شابه، تنفس يطلق سبة حانقة وهو يتحرك صوب سيارته وقد قرر أن يتحدث معها حينما يراها في المشفى وقد شعر بظهره يحترق بسبب النظرات التي يوجهها البعض له .
وتبارك وصلت لمنزلها ولم تحاول أن تضئ الانوار، تشعر أن الظلام الآن وضع جيد لما تشعر به، تنفست بصوت مرتفع تتحرك بتعب شديد صوب الأريكة تلقى نفسها عليها تتنفس بصوت مرتفع وعقلها يعود بها للخلف، حيث سنوات العذاب التي خاضتها لتصل لهذه اللحظة ..
” أنا مشبتعتش، يا دادة أنا مشبعتش ”
كانت تتحدث وهي تدور داخل قاعة الطعام بصحنها الفارغ بعدما أنهت جميع اللقيمات به، تتوسل الجميع في المكان أن يتوقفوا ويحضروا لها الطعام، لكن لا أحد يهتم .
ابتلعت ريقها تشعر بطعم مر في حلقها، ربما هو طعم ذلك الحساء غريب اللون، أو كسرة الخبز المتحجرة التي كادت تحطم أسنانها.
اقتربت من إحدى النساء اللواتي كن ينظفن المكان بعد رحيل من به صوب مخاضعهم :
” يا دادة أنا مشبعتش، أنا لسه جعانة، عايزة أكل”
نظرت لها السيدة والتي كان وجهها مسودًا حزينًا مغتمًا، لا تدري تبارك لكنها شعرت في تلك اللحظة أن المرأة على وشك الانفجار في البكاء، لكنها بدلًا من ذلك انفجرت صارخة في وجهها :
” وهو أنا يعني خدامة ابوكِ، روحي شوفي غيري يحطلك أكل، مش فاهمة انا مفيش غيري اللي كله عمال يطلب مني طلبات ”
ختمت جملتها تحمل الوعاء الصدأ الذي تعصر به قطعة القماشة التي تمسحها بها الأرضيات ترحل من أمام تبارك التي سقطت دموعها بحزن شديد، تنظر حولها تضم الصحن لصدرها وقد سقطت دموعها بوجع :
” بس أنا لسه جعانة، أنا ما اخدتش اكل كتير زيهم ”
أفاقت تبارك من ذكرياتها تتنهد بصوت مرتفع وهي تحدق في السقف فوقها :
” ولا أخدت حنان ولا اهتمام زيهم، ويا عالم هيجي دوري أخدهم ولا لا . ”
_______________________
يسير بين طرقات القصر بعدما انتهى للتو من جلسة حكم على بعض السارقين في المملكة والتي قضت أن تُقطع أيديهم جزاءً على فعلتهم، كانت ملامح إيفان شرسة قوية لا تتهاون ولا ينحني لريح، لا ينحني سوى لخالقه .
كان كما يصفه البعض قوي، ومتجبر كذلك الأمر، تنهد بتعب يخطو لممر جناحه، لكن فجأة توقف بسبب سماعه لصوت أنثوي يغني في الممرات، ضيق بين حاجبيه متعجبًا من تلك التي تغني داخل قصره وفي هذا الوقت .
تتبع الصوت متعجبًا تلك اللهجة الغريبة عن أبناء مملكته، لا يتذكر أنه وافق على عمل مغترب عن مملكته داخل قصره .
انتهى به المطاف أمام نافذة كبيرة تقع في نهاية ممر داخل القصر، نظر من النافذة ليرى فتاة أو امرأة لا يعلم تقف داخل حديقة القصر وهي تتحرك حركات غريبة وتغني بصوت قوي وتصفق بيديها في الهواء، وتلك الانشودة التي تغنيها، هو يعلمها جيدًا، نفسها انشودة النصر التي قام بعض القدماء بتألفيها بلغتهم الأم..
انشودة كانت تصدح قديمًا داخل قرى الممالك وقت الحرب لتوديع الجنود، ارتفع حاجبي إيفان، لا يستطيع تبين ملامح تلك المرأة بسبب الظلام وذلك الوشاح الذي تخفي به ملامحها، كانت تتحرك بقوة حركات مليئة بالشموخ وحولها يتطاير ثوبها الفضفاض .
ورغم أنه لم يكن من مشجعي الغناء داخل جدران قصره وخاصة من النساء، إلا أن تلك الانشودة وذلك الصوت وتلك الحركات منعوه عن إطلاق صيحة يوقفها، ابتسم بسمة صغيرة يتجاهلها مكملًا طريقة لجناحه يردد بصوت خافت :
” لدينا محاربة أسفل سقف القصر، مثير للاهتمام ”
ويبدو أن الأمر لم يكن مثيرًا لاهتمام إيفان والذي تجاهله بسرعة وعاد لجناحه، بل كان مثيرًا كذلك لذلك الذي يقف في جزء من الحديقة، يتناول بعض الفاكهة يراقب تلك الفتاة بأعين فضولية …
وحينما انتهت الفتاة من الغناء والتصفيق توقفت تتنفس بعنف شديد، ليعلو صوت تصفيق حاد في المكان جعلها تستدير بسرعة كبيرة مرتعبة للخلف ترى جسد رجولي يتحرك صوبها يقول ببرود شديد وبسمة واسعة :
” يا امرأة اعدتي لي ذكريات الحرب قديمًا”
تناول قضمة مما يحمل وهو يشير لها :
” من اين تعلمتي هذا ؟؟”
ولولا الظلام حوله لابصر دانيار اشتعال عيون الفتاة التي أخرجت خنجرًا من ثوبها بسرعة مهولة تهجم عليه بغية ضرب ظهره في الجدار خلفه ومحاصرته لتهديده، لكن ما حدث أنها وبمجرد أن هجمت عليه، شعرت كما لو أنها اصطدمت في جبل راسخ، جعلها تطلق تأوهًا وهي تعود للخلف مصدومة ؟؟ كيف لم يتراجع تحت وطأة دفعتها وجسدها ؟؟
ودانيار انتبه لحركتها تلك ليقول بإدراك :
” مهلًا هل يجب عليّ العودة للخلف ؟!”
نظرت له الفتاة بجهل ودون شعور هزت رأسها، هذا ما كان من المفترض أن يحدث، عليه أن يعود صوب ذلك العمود الخرساني بسبب دفعتها ..
ابتلع دانيار ما يأكل واعطاها باقي الثمرة يقول بجدية :
” حسنًا امسكي هذا لأجلي”
وفعلت الفتاة ببساطة، وهو بمجرد أن أمسكت منه الثمرة، حتى ألقى بجسده في قوة كبيرة على العمود خلفه وكأن دفعتها هي ما فعلت يقول بنبرة خائفة مصطنعة :
” ارجوكِ الرحمة، ماذا فعلت لكِ أنا ؟؟ أنا كنت اشجعكِ أقسم”
اتسعت أعين الفتاة لا تفقه شيئًا مما يحدث، هل هو مجنون ؟؟
ابتسم لها دانيار يميل برأسه قليلًا، وهو يرى الانزعاج يظهر على حركات جسدها، نعم هذا هو أثره المعروف على جميع من يتعامل معهم، الأنزعاج ..
وفي غمرة شرودها اندفع دانيار بعيدًا عن العمود الخرساني بقوة شديد يخرج خنجر مسنن يدفع جسدها بقوة مخيفة صوب العمود خلفها يقول بهسيس مرعب، وكأنه ليس من كان يمزح معها منذ ثواني :
” من أنتِ يا هذه ؟؟ تلك اللهجة التي كنتِ ترددنيها ليست تابعة لمملكتنا، من ارسلك هنا ولأي هدف ؟! ”
نظرت الفتاة لعيونه دون رد، ولولا أنه استمع لغنائها منذ لحظات، لاعتقدها بكماء، أطالت النظر لعيونه الزرقاء والتي كانت تلتمع أسفل اضواء المصابيح في المكان، تبتلع ريقها بصعوبة بسبب ضغطه لجسدها على العمود خلفها .
وهو شرد في عيونها السوداء المميزة التي تظهر من خلف لثامها، بها نظرات تجبر وقوة، وكأنها تتحداه أن يفعل ما يريد .
في تلك اللحظة وقبل أن تقول كلمة واحدة سمع الإثنان صوت أحد الجنود يقول بصوت مرتفع :
” من هنا ؟؟”
نظر دانيار خلفه صوب الجندي، لتستغل الفتاة ذلك دافعة إياه للخلف تركض بسرعة كبيرة بعيدًا عنه، سرعة أكبر من أن يستوعبها دانيار الذي اتسعت عيونه يقول بسخرية :
” تلك اللصة سرقت فاكهتي ورحلت ..”
بينما اللصة ركضت بين الممرات بسرعة كبيرة، تنحرف في ممر ثم الآخر حتى توقفت أمام الغرفة التي تتشاركها مع رفيقتها، تحركت للداخل ببطء شديد تزيح اللثام عن وجهها لتظهر ملامحها واضحة، نظرت لنفسها في مرآة جانبية، تتنفس بصوت مرتفع، وقبل أن تتنهد براحة سمعت صوتًا خلفها يقول :
” زمرد أين كنتِ ؟؟”
استدارت زمرة بسرعة كبيرة تبصر وجه رفيقتها التي اقتربت منها تقول بجدية :
” بحثت عنك في المكان بأكمله، أين رحلتي ؟؟ ”
تنفست زمرد تقول بصوت خافت :
” اششش اخفضي صوتك كهرمان وحاولي ألا تتحدثي كثيرًا، يبدو أن الجميع هنا يستطيعون تمييز لهجتنا عن خاصتهم ”
هزت لها كهرمان رأسها تتذكر صباح اليوم حينما كانت تسير مع رئيسة العاملات وابصرت مواجهة بين الملك وأحد الجنود لتتحدث معبرة عن انبهارها بالملك لتنظر لها فتاة بتعجب، الآن أدركت أن نظراتها كانت لأجل لهجتها .
” حسنًا حسنًا، لا تقلقي سوف أنتبه، وأنتِ توقفي عن الخروج بهذا الشكل، ماذا إن انتبه لكِ أحدهم ”
صمتت زمرد ولم تتحدث بكلمة وقد أبت أن تخبرها أنها فعلت وقد أنتبه لها أحدهم، وذلك الاحدهم كاد ينحر رأسها…
______________________
بعد عدة أيام …
زفر بحنق يتحرك بين طرقات تلك البلدة الغريبة، لا يفهم ما يحدث حوله، اصوات ضوضاء هي كل ما يستطيع التمييز..
نظر حوله يحاول تبين الطرقات، ثم تحرك بعيونه صوب كرة العرش يرى الخارطة بها تشير باتجاهات فيتبعها ومعه مرشدي هذا الجانب من العالم، رجلين أحدهما طويل القامة، والآخر قصير القامة، يسيران جوار سالار الذي قال حانقًا وبصوتٍ أجش قوي :
” بالله ما هذه الفوضى التي يعيش بها هؤلاء البشر ؟؟ ما كل هذه السيارات التي تملء الطرق، إن كان الجميع لديه سيارات من إذن يسير على قدميه ؟؟”
وقبل أن يكمل كلماته سمع صوت صيحات خلفه وصوت رجل حانق يصرخ :
” أنت يا أعمى ياللي واقف في نص الطريق هسفلتك والله، ايه مش شايف الإشارة يا متخلف ؟؟”
استدار سالار بسرعة كالرصاصة صوب المتحدث وقد اشتعلت عيونه بقوة يردد بريبة شديد :
” هل سبني ذلك الرجل للتو أم أنني اسئت الفهم ؟؟”
أجابه أحد مرشديه، قصير القامة منهم والذي كان يُسمى صامد، يقول بنبرة خفيضة وهو يخشى غضب القائد سالار :
” حسنًا سيدي، حسب معرفتي بهذا الجانب من العالم، فنعم أعتقد أنه سبّك للتو ”
امتلئ صدر سالار بالغضب الشديد يتحرك صوب ذلك الرجل واقدامه تضرب الأرض أسفله بشكل مخيف، يرتدي بنطال قماشي عادي وسترة من نفس النوع، أكثر ثياب عادية يمتلكها كي يندمج بينهم حسب أوامر العريف، لكن يبدو أن كل محاولاته تلك بائت بالفشل، توقف أمام السيارة ينظر للسائق يقول من تحت أنفاسه هادرًا :
” هل سمعتك تسبني للتو ؟؟”
نظر السائق حوله بعدم فهم :
” أنت بتتكلم كده ليه يا جدع أنت ؟! ما تكلمني زي ما بكلمك ؟؟”
قاطعته سيدة من الخلف، إذ كان ذلك السائق مالك لسيارة أجرة، يقل في الخلف سيدة مع اولادها الصغار، فتدخلت السيدة تتحدث ببسمة :
” ده شكله اجنبي يا اسطا مش شايف ملامحه ؟؟ الأجانب بيتعلموا فصحى مش لهجات”
كان سالار يستمع لكل ذلك، لكنه لم يهتم وهو يشير للسائق بتحذير وصوت جامد هادئ لا يريد أن يخيف أحد خاصة وأن ملامحه كانت تفي بذلك الغرض دون حديث :
” تعلم أن تحفظ لسانك ولا تسب غيرك أو تتجاوز حدودك مع أحد، فأنت لا تعلم مع من قد تتورط”
أطلق السائق صوتًا حانقًا من حنجرته، وهو يوقف محرك السيارة يهبط منها كي يقف أمام سالار والذي كان يفوقه طولًا بالكثير، لكن الرجل لم يهتم وهو ينظر في عيون سالار بتحدي :
” أنت بتقول ايه يا عسل ؟؟ هو أنت يعني عشان سايح هنخاف منك ؟؟”
أخرج الاطفال رؤوسهم من السيارة بحماس شديد وقد بدأ الطفل يقول بلهفة :
” ده ضخم زي ثور اللي الفيلم ”
استدار سالار صوب الصغير يرمقه بشر وقد استاء أن الصبي يشبهه بالثور، ولم يكد يتحدث كلمة واحدة وجد صوت بعض السيارات يعلو بسبب تعطيل الطريق .
زفر السائق يلوح بيديه في الهواء :
” طيب خلصنا، وأنت يا عم دي مش امريكا عشان تتمختر فيها بالشكل ده، أنت هنا في مصر ”
مال سالار برأسه وكأنه يفكر في كلماته :
” امريكا ؟؟ ما هذا الاسم ؟! هل هذه دولة مستحدثة ؟؟ ”
كان يتحدث بجهل، يفكر في ذلك الاسم الذي قاله الرجل، ففي جميع الكتب التي جمعها أسلافه لم يسبق وذُكرت دولة تسمى امريكا كما يقول ذلك الرجل، ويبدو أن الرجل التقط حيرته تلك فاشفق عليه ليقول :
” شكلك كده طينة ومش فاهم حاجة، بس يا خواجة أنت اقف على جنب شوف أي ظابط مرور واسئله عن المكان اللي حابب تروحه وهو هيساعدك، ربنا معاك ”
ختم حديثه يربت على ذراع سالار الذي نظر ليده نظرات جامدة، ثم نظر للرجل بهدوء وملامح منقبضة وقد رأى في عيونه نظرات طيبة وهدوء، لذلك لم يجادله كثيرًا وتحرك بعيدًا مع صامد وصمود …
فسالار كان من ذلك النوع، وحشًا في المعارك، مرعبًا في الحياة، لين القلب مع من يحب، ومن يرى منه لينًا.
يبحثون في تلك البلاد عن الملكة، يسألون البعض احيانًا ويستقلون السيارات أحيان أخرى وقد بدأ سالار يفقد هدوءه المستحدث ويشعر بالغضب الشديد يملئ صدره ..
مسح وجهه يتحرك صوب أحد المقاعد يستقر عليها وهو يدور بنظراته في المكان حوله تنقبض ملامحه لسماع موسيقى صاخبة احيانًا، وأخرى هادئة بكلمات سيئة بحق البعض تصف مفاتن الحبيبة كما يصفها المغني، والأخرى تتغزل في طريقتها، وكل هذا جعله يغمض عيونه مستغفرًا وقد انتفض جسده يتحرك بعيدًا عن تلك النقطة دون أن يبرر لصامد وصمود شيء …
واخذ يسير بها يبحث عن ركنٍ لا يصل له الشيطان بمعازفه، ولا تلحقه تلك الكلمات الفاسدة، ولا يدري من أطلق عليهم عالم المفسدين لكنه كان محقًا، بالله ما رأى يومًا مفسدين بقدرهم، ليس هنا في هذه البلاد فقط، على الأقل هنا يسيرون بثياب، لا ينسى تلك البلاد التي رأى الرزائل تُمارس على مرأى ومسمع من الجميع، بل ويتأملها البعض باستحسان ويصفونها عبثًا بالرومانسية .
مشاهد مقززة وحياة فاسدة، على الأقل هنا، يرى البعض بثياب ساترة والبعض الآخر يسير بمسبحة، مشاهد قد تعطيك بعض الأمل بجيلٍ صالح، ربما تفعل …..
فجأة توقفت اقدام سالار حينما تناهى لمسامعه صوتًا جعل قلبه يرتجف، ابتسم يسير خلف ذلك الصوت، وفي لحظة أصبح يهرول، يهرول خلف اصوات القرآن، وكأنه وجد نورًا في نهاية نفق مظلم، هناك صوت للحق يعلو وسط هدير الباطل .
توقفت أقدامه أمام محل صغير ملئ بالعديد من الأجهزة الغريبة له، لكنه لم يهتم يطأ ذلك المكان يتنفس براحة، بالله لم يصدق أن أمرًا كسماع القرآن والذي كان شيئًا معتادًا له، قد يمثل حاجة ملحة الآن.
” السلام عليكم يا عم ”
استدار رجل كبير في العمر قد بلغت التجاعيد جسده، لكن على الرغم من ذلك كان مبتسمًا بشوشًا يسر القلب ..
” عليكم السلام يا بني، اتفضل ”
ابتسم له سالار بسمة صادقة حنونة يتحرك صوبه يقول بهدوء :
” لقد سمعت صوت القرآن يصدر من محلك أثناء تحركي في الخارج واردت المجئ لارى من أين يأتي”
نظر له الرجل بعدم فهم لثواني لتطرأ في رأسه فكرة أنه لربما كان سائحًا بسبب هيئته ولهجته الغير معتادة بين أبناء شعبه :
” أنت فاهمني ؟!”
” نعم افهمك لا تقلق، افهم الكثير من حديثكم ”
ابتسم له الرجل يجذبه صوب أحد المقاعد وقد سعد قلبه لأجل حديث ذلك الرجل ذو الوجه المنير :
” ده المنشاوي، تعرفه ؟! هو قارئ مصري قديم، بس صوته وترتيله جميل اوي، أنت… أنت مسلم ؟؟”
ابتسم له سالار يشير برأسه صوب صامد وصمود أن يجلسا بعدما كانا ينتظران أوامره، ثم نظر للرجل يقول بصوت هادئ مريح للنفس :
” الحمدلله الذي هدانا يا عم، أنا مسلم ابًا عن جد ”
شعر الرجل بسعادة كبيرة يطلق من فمه دون شعور ( ماشاء الله ). ..
ربت سالار على كفه، ثم تساءل بفضول شديد :
” أخبرني يا عم، ما الذي يحدث هنا، فمن بين كل تلك المنكرات ما سمعت سوى صوتًا واحدًا للحق، ما بال الجميع في الخارج لا اسمع منهم ذِكرًا ”
ابتسم له العجوز يتحرك من المقعد صوب أحد الأجهزة في ركن محله يقول بهدوء شديد :
” تقدر تقول يا بني أن الباطل مغرياته أكثر من الحق، والسييء متزين اكتر من الجيد، هتلاقي كده وكده، هتلاقي برة اللي ماشي يتمتم مع الاغاني، واللي ماشي يردد اذكاره، اللي رايح لعمل خير واللي ماشي ناوي شر، مفيش زمن فيه شر خالص، الفكرة إن الباطل بجح وبيعلن عن نفسه، وصاحب الحق حييّ صامت ”
ابتسم سالار لحديث ذلك الرجل الذي أراح صدره وقد أعطاه املًا أن ملكتهم قد تكون من هؤلاء الذين نفروا الباطل، واتبعوا الحق .
فجأة تقدم منه الرجل ومد يده له بمشروب وقال ببسمة وهو يشير لصامد وصمود :
” خد اشرب يا بني، واقعد زي ما تحب هنا المكان مكانك ”
ابتسم له سالار يتقبل منه ذلك الكوب وقد تقدم صامد وصمود بلهفة لتجربة ذلك المشروب وجلسا جوار سالار الذي ارتشف منه بتلذذ يسمي الله :
” أخبرني يا عم، ما هذه الآلات الغريبة التي تقوم ببيعها ؟؟”
نظر الرجل حوله ثم قال ببسمة :
” دي انتيكات يا ابني، حاجات قديمة يعني، راديو وأجهزة تليفون قرص وكتب قديمة وغيرهم ”
ختم حديثه يتحرك صوب أحد الارفف يحضر شيئًا ما ثم عاد له يمد يده بساعة تبدو قديمة الطراز :
” خد دي تذكار من المحل عشان تبقى ترجع تاني ”
رفع سالار نظره للرجل الذي كان مبتسمًا، ليشعر بألفة غريبة جعلته يقول ببسمة :
” لا اعتقد أنني قد اعود يومًا يا عم ”
” متقولش كده، اللي جه مصر في يوم، مسيره يرجع ليها يا بني، هيجي اليوم وتحن وترجع ليها ”
هز سالار رأسه بتقبل منه تلك الساعة التي كانت غريبة عليه، لكنه لم يقل الكثير يدسها داخل طيب بنطاله :
” ربما …طالما أن تلك البلاد تمتلك من هم مثلك فربما اعود يا عم، ربما يومًا ما ”
ختم حديثه يدس يده في جيبه الآخر يخرج سرة من العملات الذهبية و وضعها على المكتب دون أن ينتبه له الرجل الذي كان يعطيه ظهره وهو يتحدث بخفوت :
” البلد دي يابني والله فيها ناس كتير طيبة وعلى نياتهم، ومن كلمة يبتسموا وكلمة تانية يزعلوا، شعب طيب والله ”
ربت سالار على كتفه :
” نعم يا حاج أنتم كذلك، والان استأذنك عليّ الرحيل للبحث عن ضالتي ”
” باذن الله تلاقي اللي بتدور عليه ”
غادر سالار ومن معه تاركًا الرجل يبتسم، لهم ثم عاد ليحمل اكواب الشاي الفارغة، لكن فجأة توقفت أنظاره حينما أبصر كيس قماشي غريب جعله يحدق فيه بريبة، امسك الكيس بعدم فهم ليشعر باهتزاز شيء فيه، فتحه بفضول ليبصر العديد من العملات الذهبية التي جعلت عيونه تتسع وينظر للباب بصدمة كبيرة فاغر الفاه …
______________________
وسالار ابتسم ييير في المكان براحة شديدة وقد ذهب عنه الضيق، وكأن سماعه لآيات القرآن أعطاه طاقة أمل كبيرة .
وهكذا قضى نهار آخر يدور وسط البلاد قبل أن يأخذه صامد وصمود صوب أحد الأماكن التي تسمى فنادق وبات ليلته هناك وهو يهمس لنفسه بتعب :
” أين سأجد تلك الملكة، اشتقت لحياتي وجيشي ”
________________
وعلى الجانب الآخر..
كانت تبارك تقف في نافذة أحد الممرات في المشفى، إذ كانت تلك الليلة قد حصلت على ساعات عمل إضافية في المساء اضطرتها للمبيت داخل جدران المشفى، ابتلعت ريقها وهي تتذكر أنه من بعد ذلك اليوم الذي تحدثت فيه لعلي لم تره، اختفى وقيل أنه سافر لاقاربه..
حاولت أن تتناسى كل ذلك وتشرد بالسماء علها تهدأ بعض الشيء، لكن فجأة سمعت صوتًا خلفها ينادي باسمها :
” تبارك يلا عشان فيه عمليات والدكتور طالبك معاه”
تحركت من مكانها تتنفس بصوت مرهق وهي تهمس :
” يارب يا معين، الفرج من عندك يا رب ”
_________________
صباح اليوم التالي وبعد سير طويل، ارتكن الثلاثة صوب أحد المقاعد التي تقبع في الطريق، صامد وصمود يرتاحان، بينما سالار يفحص الكرة وهو يهمس بصوت هادئ لا حياة فيه فلا تدري أساخطًا كان أم غاضبًا :
” أقسم أن خوض حرب لأيام طوال مع المنبوذين أكثر سهولة مما أفعل الآن، أين سأجد الملكة في هذه البلاد الضخمة؟! اشعر أنني ابحث عن إبرة في كومة قش”
فجأة وأثناء حديثه ذلك سمع صوت صمود يقول مقترحًا بصوت منخفض لصامد :
” لِمَ لا نعود للمملكة ونخبرهم أننا عجزنا عن إيجاد الملكة ؟!”
أجابه صامد بحنق :
” وهل تعتقد أن القائد سيعترف بالهزيمة في مهمة وكّلت له ؟؟ أنت تحلم ”
نظر صمود لصامد يميل عليه أكثر فقد كان يفوقه طولًا بشكل مبالغ به :
” إذن نعود وحدنا ونخبرهم أننا فقدنا أثره هنا، أو ربما نخدره ونسحبه بالقوة صوب المملكة ”
ابتسم صامد بسمة خبيثة وقد أعجبته تلك الأفكار، فهو مل حقًا كل ذلك، نظر حوله يهمس له بالمقابل :
” ونصبح نحن قائدي الجيوش بعدما يعزله الملك أو يعدمه لمخالفته الأوامر ”
اشتعلت أعين صمود بالحماس الشديد، وقد بدأ يبادل رفيقه البسمة الماكرة، لكن فجأة انتفض الاثنان على صوت سالار الذي قال ببسمة وهو ما يزال يحدق أمامه ببرود شديد :
” أو افضل، يمكنني قتلكما وإحضار الملكة والعودة للمملكة، وحينها لن احتاج لتقديم حجج مثلكم، فلن يتساءل أحد عنكما على أية حال ”
نظر له الأثنان بصدمة كبيرة وقد على سؤال ملامحهما والتقطه سالار بوضوح يجيب بسخرية :
” اصواتكما كانت عالية ”
ابتلع صامد ريقه يسارع بالقول :
” نحن لا نقصد ما فهمته يا قائد، نحن بالطبع لن نتخلى عنك أو عن ملكتنا، صحيح صمود ؟؟”
وضع صمود يده جهة قلبه يظهر له الاحترام والطاعة :
” نفديك بأرواحنا قائد سالار ”
نهض سالار عن مقعده يقول بملامح لا تخبرك ما يخفي خلفها :
” ارواحكما تلك سأستخرجها بيدي العارية حينما ننتهي من كل ذلك، الحقوا بي ”
تحرك وهم نظروا لاثره بريبة، ونظر الاثنان لبعضهما البعض، وقد قررا خفية أنهم لن يسمحوا لتلك المهمة بالانتهاء إن كانت حياتهما ستنتهي بنهايتها، أو هكذا رسم لهما عقلهما الصغير ..
بعد ساعات أخرى من التحرك هنا وهناك، خلف الكرة توقف الثلاثة واخيرًا أمام مبنى من ثلاثة أدوار في مكان مزدحم وفوق ذلك المبنى لافتة مهترئة الاحرف ( مستشفى الأمل والحياة ) .
أخفض سالار رأسه صوب الكرة لا يصدق أنه وجدها، أسبوعين يتنقل بين البلاد يصعد لالات غريبة غير مريحة تتحرك به، ومن ثم يسير طويلًا بين الطرقات، دون أن تغفل عيونه لحظات أو ينام .
واخيرًا أصدرت القلادة لونها المميز الذي يخبره أنه، وصل حيث تقبع الملكة، وقبل منتصف الشهر بيومٍ واحد
ابتسم سالار بانتصار وهو يرفع رأسه صوب المشفى قائلًا بصوتٍ مخيف :
” ها نحن ذا يا احمقان، استعدا لحصد ارواحكما….”

بداية الحرب شرارة …وبداية الحب نظرة .
وحبها كان حربًا لا خيار فيها سوى الانتصار .
يتبع….
خطى المشفى بخطواته القوية المعتادة منه، يسير بأعين جامدة وملامح لا روح بها تقريبًا، يتجاهل الجميع حوله، وخلفه يسير صامد ومعه صمود يتبلعان ريقهما برعب، يدعوان من اعماق قلبيهما أن تخيب مهمة سالار إن كانت رقابهما هي النتيجة لنجاحها .
وسالار يسير أمامهما لا يشعر بشيء حوله فقط يحدق بالكرة بين أصابعه يسير خلفها، يشعر بقرب اقترابه، ليس لأن الكرة تشير لذلك، بل لأن شيئًا داخل صدره يخبره بهذا، لطالما كان لديه هذا الحدس القوي في معاركه، يدرك الانتصار قبل حدوثه، يتوقع الهزيمة قبل وقوعها، في حالة إن هُزم من الأساس….
تحدث صامد وهو يحاول مجاراة خطوات سالار :
” إذن يا قائد هل ماتزال خطة حصاد أرواحنا قائمة ؟؟ ماذا إن غفرت لنا ذلتنا ؟؟”
رفع سالار عيونه ببطء عن الكرة يمنحه بسمة زادت رعبه وصوته خرج يقول ببساطة :
” ومتى غفرت لأحدهم صامد ؟؟”
” أنت رجلُ عدلٍ سيدي ”
صحح له سالار بهدوء :
” بل رجل حرب يا عزيزي ”
ختم كلماته يتحرك تاركًا إياه يرثي نفسه هو وصمود، بينما سالار ابتسم بسخرية عليهم، تعجبه تلك اللعبة، هذان الغبيان يعتقد أنه قد يخسر دنياه وآخرته لأجلهما، ويحمل وزر قتل نفس بريئة بغير ذنب لأجل التخلص من غبائهما ؟
كان يسمع اصواتًا عديدة في المكان بأكمله، يرى وجوه كثيرة لكن من بين كل تلك الأصوات لم ينتبه سوى لصوتٍ واحد، ومن بين كل الوجوه لم يرى سوى وجهها هي .
فتاة بملامح هادئة تبعث في القلب راحة، ملامح رقيقة، تسير بين ممرات المكان تحمل بين يديها بعض الأوراق ويبدو على وجهها الانشغال، لا تنتبه لأحد أو تهتم لأحد.
وعند تبارك كانت ترغو وتزبد وهي تشعر بشعور سييء داخل صدرها، تود الانعزال عن الجميع، فقط لترثي نفسها، لكن وجوده في الجوار لم يساعد على ذلك .
توقفت تلمح نظرات عليّ لها، إذ أطال النظر في وجهها ثواني قبل أن يتجاهلها ببساطة ويرحل وكأنه لم يرها.
يشعر بوجع كبير داخل صدره وقهر لا حصر له، كان يود المجئ والاعتذار لها، يخبرها أنه لا يهتم حقًا بما قالت، لكن كل ذلك كان قبل أن تعلم والدته بنيته في خطبة فتاة ” مجهولة النسب والهوية ” كما قالت ..
أُعجب بها عليّ وبصدق ولم يكن ليمنح أمر حقيقتها أي أهمية، فماذا يعني أنها ولدت بملجأ، الأمر ليس عجيبًا أليس كذلك ؟؟ لكن والدته كانت تحمل رأيًا منافيًا لكل هذا الهراء _ من وجهة نظرها _ ليس بعد هذا العمر يتزوج ابنها الذي عانت لأجله كي يصبح طبيبًا، من ممرضة لا أصل لها ولا عائلة معروفة، والله وحده يعلم ما تخفي خلف ماضيها الضبابي .
تنهد علي بتعب شديد، هو ما كان ليستمع لوالدته أو يرضخ لشيء لا يريده، لكن هي …هددته بنبذه والغضب عليه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهذه والدته، وضعف أمامها وأمام رجائها .
راقبت تبارك رحيله بملامح عادية هادئة، الأمر ليس محزنًا لها بقدر ما هو مؤلم لنفسها، مسحت دمعة صغيرة هبطت على وجنتيها تركض بسرعة لممر جانبي دون أن يراها أحد.
لكن سالار والذي كان يراقب كل ذلك بملامح جامدة وعيون ضيقة، تحرك خلفها دون أن يشعر متجاهلًا صوت صامد له :
” مهلًا سيدي أين تذهب، علينا إيجاد الملكة ”
جذبه صمود يكمم فمه بقوة :
” اششش اصمت يا أبله، هل تشتاق لنهايتك بهذه السرعة ؟؟ دعه ينسى ما جاء لأجله ”
نظر له صامد بعدم فهم، لكن صمود استمر ينظر لسالار الذي سار خلف تلك الفتاة بشكل مريب، فلأول مرة ينجذب قائد الجيوش والمتجبر المعروف بين الجميع لامرأة، لكن لا يهم إن كانت تلك المرأة ستؤخر عثوره على الملكة وموتهما فلا يهم …
و سالار لم يتوقف يسير بأقدام سريعة خلف تبارك التي دخلت لممر صغير تحشر جسدها في زاوية الممر تنفجر في بكاء عنيف، وهو يقف عند بداية الممر يراقبها بأعين مفكرة .
وهي تبكي ما حدث لها، فما لا يعلمه عليّ أن والدته العزيزة جاءتها قبل اسبوع وبعد عرضه الزواج بيومين تخبرها أن تبتعد عن ولدها، وتتوقف عن رمي حبالها عليه، فلا ينقصها أن ينشأ احفادها من امرأة لا نسب لها، ولا تعلم إن كانت قد جاءت للعالم بشكل شرعي أو لا..
تحمد ربها أن السيدة كانت من الرقي والمراعاة التي جعلتها تواجهها بتلك الكلمات السامة وحدهما .
هي لا تهتم لعلي ولا غيره، فهي ليست عاشقة له لتبكي فقدانه، هي تبكي حياتها وكأنها اليوم أُنبأت بحقيقة أن لا عائلة لها .
كان سالار يتابع كل ذلك يفرك لحيته لا يعلم سبب وقوفه هنا او تحديقه بها، ولا يدري أي شيء سوى أنه يرغب الآن في التحرك وصفعها، ثم يسحبها من ثيابها يهزها بقوة، ويصرخ في وجهها بصوت جهوري وقوة أن تنهض وتواجه أحزانها دون بكاء أن تكون رجلًا قويًا و لا تبكي كالنساء ….
مهلًا، هي امرأة بالفعل، أفق سالار هذه ليست أحد جنودك لتعنفها بهذا الشكل، ولا هي تهمك من الأساس، لذا ابتعد واذهب ابحث عن ملكتك وعد لبلادك وقرّع جنودك كما تشاء بعيدًا عن هذه الباكية التي لا تجد طريقة لمواجهة صعابها سوى بالبكاء.
عند تلك النقطة تجاهلها سالار يخرج من الممر بأكمله، لا ينتبه للكرة التي تنير بقوة، يعود حيث صامد وصمود لإيجاد ملـ
توقف في الممر يدور بانظاره في المكان بحثًا عن هذين الغبيين، لكن لا شيء، تبخرا دون أثر..
تحسس سالار خنجره الذي يخفيه، يضيق عيونه في نظرات مرعبة هامسًا بفحيح :
” سأتخلص منهما ، سأعود بالملكة ورأسيهما ”
ختم حديثه يتحرك في المكان بحثًا عنهما، بدلًا من أن يبحث عن الملكة، وهكذا أضاع صامد وصمود المزيد من الوقت ..
وعند تبارك وحينما توقفت وفرغت من البكاء تتحرك صوب المرحاض تغسل وجهها، تخفي أي آثار حزن، ومن ثم ابتسمت بسمة صغيرة تتنقل في الممرات حتى تعود لمرضاها الاعزاء، لكن فجأة توقفت على نداء صديقة لها والتي كانت تعمل في الاستقبال .
تحركت لها تبارك بتعجب وهي ترى شحوب وجهها :
” مالك يا زينة؟؟ وشك مصفر كده ليه ؟؟”
” بالله عليكِ يا تبارك لتيجي مكاني شوية، كلموني في البيت قالولي إن ابويا وقع من طوله وودوه على المستشفى اللي في شارعنا، وانا هموت من الخوف ومحدش بيرد ”
أكملت بدموع متوسلة :
” شوية بس اقفي مكاني وأنا والله هطمن وارجع، أنا عارفة أنها استراحتك بس …”
قاطعتها تبارك تلتف حول مكتب الاستقبال كي تأخذ مكانها :
” لا أنتِ روحي اطمني على والدك يا حبيبتي ولو عايزة خليكِ معاه، أنا هقول لحد يشييل باقي شغلي، كده كده مبقاش فيه شغل كتير ”
ابتسمت لها زينة بامتنان تعانقها بقوة وهي تهمس لها بحب :
” شكرا يا تبارك والله كنت عارفة أنك الوحيدة اللي مش هترفضي، ربنا يسعدك يارب ويرزقك باللي يسعدك ويريح بالك يارب ويستاهل طيبة قلبك وحنانك ده ”
شعرت تبارك بالسعادة عند سماعها لتلك الدعوات، دعوات كانت تتردد على مسامعها لسنوات طويلة خلال عملها مع الاطفال والعجائز وغيرهم، دعوات تنتظر أن يرزقها الله بتحقيقهم، هل يعقل أن يأتي ذلك اليوم ويأتي معه من يسعدها ويريحها بالفعل ؟؟
______________________
يسير بين ممرات القصر تحت نظرات البعض المعجبة بقوة القائد، والبعض كانت مرتابة خائفة، وتلك النظرات الخائفة لم تكن منحصرة فقط على تميم، والذي كان يمثل أحد أضلاع مثلث الرعب _ كما يصفه الجميع_ والذي يترأسه سالار، ويشاركهم به دانيار، فكما يقال سالار القوة والشراسة، ودانيار المهارة والدقة، بينما تميم الخبرة والمعرفة .
ابتسم تميم يلتقي في طريقه بدانيار والذي كانت خصلاته مبتلة، يخرج من جناحه يتحرك صوب غرفة الاجتماعات حيث طلب الملك جمعهم، ليمازحه بصوت منخفض كي لا يسمعه الجميع حوله :
” أوه انظروا لهذا الوسيم الذي يسير بين طرقات القصر بخصلات مبتلة بغرض بث الفتن بين قلوب العذارى ”
توقف تميم عن الحديث ببسمة جادة، ثم اقترب يهمس في أذن دانيار بجدية كبيرة :
” انتبه لنفسك يا فتى، فأنت لا تريد أن يتم اعدامك للتسبب في جذب نساء المملكة للخطيئة ”
حدق به دانيار ثواني قبل أن يبتسم له غامزًا :
” إذن ما رأيك أن يتم اعدامي للتسبب في قتل صانع الأسلحة هنا ؟؟”
نظر له تميم بجدية :
” لا، لا يعجبني الأمر ”
أطلق دانيار ضحكات خافتة يسير بين الممرات، حتى وصل مع تميم لباب قاعة الاجتماعات التي يعقد بها الملك اجتماعاته مع مستشاريه ورجال المملكة والجيش ..
فتح الحراس الباب لهما، ليدخلا في اللحظة التي كانت أوجه الجميع شاحبة، فرك تميم رقبته هامسًا :
” يبدو أن الملك ألقى قنبلته قبل وصولنا ”
نظر دانيار بدقة صوب الأوجه يحاول استشفاف ما يحدث :
” نعم ويبدو أن قنابل الملك مفعولها قوي، على عكس خاصتك ”
ختم حديثه يتحرك صوب مقعده لتنعقد ملامح تميم بقوة :
” هذا كان في غاية القسوة لو تعلم ”
تحرك هو الآخر صوب المقعد يستقر عليه بكل قوة وجدية، يلغي الجزء الهادئ والممازح جانبًا يستمع للأحاديث التي لا يفهم منها شيئًا، فقط خرج صوت العريف الذي كان يتحسس ريش بومته العزيزة :
” ما حدث يا مولاي لا يمكن أن يكون سببه المنبوذين فقط، فهؤلاء بعض المرتزقة لا يمتلكون ما يؤهلهم للهجوم على مملكة بحجم مملكة مشكى، بل ويتسببون في قتل جميع أفراد الأسرة الحاكمة واحتلال المملكة، أمر شبه مستحيل خاصة أننا جميعًا ندرك أن الملك ارسلان لم يكن بالملك الضعيف ”
نظر له إيفان بجدية كبيرة، فهذا هو بالتحديد ما يفكر به منذ وصله خبر سقوط مملكة مشكى بأيدي المنبوذين، تلك كارثة بجميع المقاييس، أن تسقط مملكة بحجم مشكى يعني أن المنبوذين سيزدادون تجبرًا وقد يوصلهم بطشهم للاقتراب من باقي الممالك الأربعة ومنهم مملكته .
اسودت عيونه بشراسة وهو يفكر في اليد التي قد تكون ساعدت هؤلاء الملاعين الكفار للهجوم على مملكة بحجم مشكى.
المنبوذون والذين كانوا ممن استولى الشيطان على أرواحهم ونبذتهم جميع الممالك، أو هربوا من عقوبات حاسمة، ليكونوا فيما بعض جماعات لا غرض لها في الحياة سوى تأسيس دولة لهم ومزاحمة باقي الممالك والتحكم بهم، وهم مجرد مرتزقة لا اصل لهم ولا هوية ..
تنهد دانيار وقد وعى ما يحدث، يعود بظهره للخلف يفكر في الأمر، بالطبع هو وصل له أمر سقوط مشكى، وقتل الأسرة الحاكمة، وهذا الأمر يعني حرب وشيكة ..
” مولاي اقترح أن نرسل جنود لتأمين حدودنا مع مشكى، فقط للتأكد أنهم لن يتجرأوا على التفكير بالدخول للبلاد”
نظر له إيفان ثواني، ثم هز رأسه باستحسان لهذه الفكرة :
” نعم هذا ما سيحدث دانيار، أبلغ الجنود بإرسال كتيبة كاملة وترابط على حدودنا مع مشكى حتى نعلم ما يجب فعله ”
صمت ثم نظر لهم يقول بجدية :
” ولا اريد لا أحد خارج هذا المكان أن يعلم بأن سالار خارج البلاد، فربما يشجعهم غياب قائد الجيوش على التجرأ علينا”
نظر مجددًا لدانيار :
” دانيار أنت المسؤول عن الجيش الآن، افعل ما تراه صحيحًا، وإذا رأيت أي شرذمة منهم تخلص منه دون تفكير”
أدار رأسه صوب تميم :
” وأنت تميم، أذهب لمصانع الأسلحة وتفقد الأمر اريد زيادة الإنتاج وتزويد الجيش بأكمله بالمزيد من الأسلحة، وتلك القنبلة التي كنت تعمل عليها، ماذا حدث لها ؟!”
وضع دانيار قبضته أعلى فمه يكبت ضحكته، ثم نظر بطرف عيونه صوب تميم الذي تململ في جلسته بهدوء يضم يديه على الطاولة أمامه بكل هدوء وجدية :
” ما تزال في مرحلة التجربة مولاي، قريبًا ستصلك اخبار تسرك ”
هز إيفان رأسه يقول بجدية ينظر للجميع :
” حسنًا، هذا حتى الآن، لنرى أين ستصل بنا هذه الأمور ”
بدأ الجميع يندفع صوب الخارج ومن ضمنهم تميم الذي سار بين ممرات المكان بملامح واجمة غاضبة وخلفه دانيار الذي نظر له ببسمة مستفزة، ثم سار بمحاذاته يقول بجدية :
” على رسلك يا رجل، لا تغضب بهذا الشكل، قريبًا ستنجح في تلك القنبلة ”
نظر له تميم بغضب وحنق شديد :
” هناك عنصر مفقود، شيء ينقص تجربتي للنجاح، لا ادري ما هو ”
زفر بغضب شديد، وأثناء ذلك انتبه لحركات إحدى العاملات في القصر اللي مرت تحمل بين أصابعها إناء من الخوص به العديد من الازهار، تسير في الممر وتحرك رأسها صعودًا وهبوطًا عليه كأنها تقيمه، ثم نفضت رأسها بازدراء وحقد ظهر واضحًا في حركات جسدها، بينما جميع ملامحها مختبئة خلف غطاء الوجه الذي تضعه جميع العاملات في القصر .
تشنج وجه تميم و لم يتعرف على الفتاة والتي كانت هي نفسها من كاد يفجر جسدها، ولكن لاخفاء جميع ملامحها، ولتأثير الدخان على الظاهر منها، لم يتعرف عليها .
ظلت الفتاة ترمقه بحنق ليتوقف في سيره يقول بحنق :
” ما بالها تلك الحمقاء وكأنني قتلت لها عزيزًا، أو هدمت معبدها فوق رأسها ”
نظر دانيار خلفه ليرى الفتاة قد استدارت بالفعل واكملت طريقها، ابتسم بسمة جانبية :
” يبدو أنك مكروه من النساء هنا، ربما تكون إحدى ضحاياك من الانفجارات المتتالية تميم ”
” لا أنا لم ا…”
توقف عن الحديث فجأة يفتح عيونه بانتباه :
” ربما تكون هي نفسها من ألقيت عليها القنبلة ؟!”
هز دانيار كتفه بعدم معرفة، ولم يكد يتحدث حتى تركه تميم وركض بسرعة صوب الممر الذي انحرفت له الفتاة تاركًا دانيار يراقب أثره، قبل أن يسير صوب مقر الجيوش ليبلغهم القرارات الجديدة ..
وتميم يركض خلف الفتاة يبحث عنها على أمل أن يعلم منها أي معلومة فينا يخص انفجاره الاخير، هل شعرت بوجع أو غيره، لربما يساعده ذلك في القادم، وأيضًا ليعتذر منها .
لكن بمجرد أن خطى الممر اندهش لرؤيته فارغًا، نظر حوله بتعجب شديد :
” ماذا، هل تلاشت الفتاة ؟؟ ”
وقبل أن يستدير لينظر حوله شعر بشيء عنيف يهبط فوق رأسه والعديد من الفواكه تتناثر حوله، وهو فقط لم يبدي أي ردة فعله، فقط اتسعت عيونه بصدمة وقد تحركت يده بسرعة صوب سيفه المستقر في ثيابه، لكن لم يكد يحركه من غمده حتى أبصر نفس الجسد الأنثوي يركض بسرعة في الممر وهو يراقبها بملامح مصدومة متسع الأعين، هل ضربته للتو بسلة الفواكه ؟
وقبل أن تختفي الفتاة من الممر استدارت له للمرة الأخيرة أثناء ركضها تنظر له بأعين مرتعبة، لكن وعن غير قصد ارتفع غطاء وجهها وظهرت ملامحها له، ومن ثم …اختفت .
____________________
كان الاثنان يحدقان بظهر سالار المشتد كالوتد برعب شديد، فبعدما ركضا بعيدًا عنه، بغية تعطيل العثور على الملكة لوقت اضافي، لأنهما في اعتقادهم أن سالار سينتهي منهما بالفعل بمجرد إيجادها، فمنذ متى لا ينفذ سالار كلمته، أو يفي بوعوده ؟!
هكذا كان تفكير الإخوة صامد وصمود، إثنان من أكثر الأشخاص بلاهة في هذا العالم والعوالم أجمع، الجميع يدرك حمقهما، لكنها رغم ذلك أكثر من يفقه في المملكة بأمور هذا الجانب من العالم .
كان سالار يسير بين الممرات بوجه صخري لا يوجد به شيء يدل أنه إنسان حي يشعر كالجميع، فقط ملامح جامد هادئة بشكل مثير للاستفزاز، وبين يديه تقبع الكرة يسير خلفها دون كلمة واحدة يوجهها لهما، هو فقط اكتفى بنظرات مرعبة ومن بعدها وصلت رسالته واضحة لهما .
فجأة توقف حينما رأى إضاءة الكرة تتضاعف أكثر وأكثر، تشير الخارطة أمامه، رفع عيونه ببطء ليجد طاولة طولية الشكل تقف عليها امرأة تخفض نصف جسدها للاسفل وكأنها تبحث عن شيء .
نظر لها سالار أكثر يقترب وعيونه تتحرك بينها وبين الكرة يتأكد أنها هي، ونور الكرة القوي أوضح جيدًا أنه …نجح، نجح ووجد الملكة بعد رحلة اسبوعين كالجحيم على قلبه .
ابتلع ريقه يطيل النظر بها لا يرى وجهها، لكنه فقط تمنى في أعماق أعماقه أن تكون سيدة قوية شجاعة وحكيمة تستطيع أن تشارك ملكهم الحكم بيد من نار و….
فجأة توقفت افكاره حينما أبصر وجهها، لتتسع أعينه، هي نفسها الفتاة التي كانت تبكي على الدرج منذ دقائق، نظر لها سالار ثواني بتهكم وملامح رافضة يحرك الكرة بين يديه غاضبًا :
” لابد أنكِ تمزحين معي، أي ملكة تلك ؟؟ هل ستحكم مملكتنا ملكة باكية ضعيفة ؟؟ ”
كان يحرك الكرة بشكل جنوني وهو يشعر أن هناك خطأ، استدار بسرعة يعطي ظهره للمكان الذي تقف به تبارك علها اخطأت الاتجاهات، لكن القلادة عادت وأشارت للخلف حيث تقف هي .
تأوه سالار يرفض الأمر :
” بالله عليكِ ما الذي تفعلينه، هل تعيين ما تشيرين إليه، لقد كانت تبكي منذ قليل كالطفلة الصغيرة، كيف ستحكم مملكة بحجم مملكتنا أيتها الكرة الغبية ”
كان يصرخ في وجه الكرة وكأنها تفهم ما يريد وستخشاه كالجميع وتغير فورًا قرارها، وقد كان كل ذلك على مرأى ومسمع من صامد وصمود اللذين امسكا بعضها البعض مبتعدان عنه قدر الإمكان بخوف من ملامحه المخيفة الغاضبة .
أخذت الكرة تضيء أكثر وهي تشير صوب تبارك وكأنها تخبره أن يستدير ويحضرها، وقد ازداد ضوءها جنونًا كأنها تصرخ به ( إنها خلفك هناك ) وهو تلقى الرسالة يصرخ بحنق وتهكم :
” نعم نعم، علمت أنها خلفي، علمت..لعنة الله على الكافرين”
استدار يتنفس بصوت مرتفع، ثم تحرك صوبها بخطوات رزينة قوية وخلفه يسير كلاً من صامد وصمود ..
بينما هي كانت تتوسط المقعد في الاستقبال، تتنظر أن تعود الموظفة المسؤولة عن الحجز وغيرهم، حتى تنصرف هي للاستراحة التي فقدت نصفها تقريبًا .
تنهدت بصوت مرتفع وقد ملت أفكارها التي تدور في رأسها منذ الصباح، هي حقًا تحتاج لشيء يشغلها عن الأمر، فكرت بالذهاب والحصول على مشروب أو طعام كي تستمر في العمل، بعد ليلة طويلة قضتها مع أحد الأطباء في غرفة العمليات، لكن وقبل أن تفعل توقفت بسبب شعورها بشيء يمنع عنها ضوء المصباح بالممر، وكأن هناك جبل قد نُقل أمامها.
رفعت عيونها ببطء شديد لترسو على جسد رجولي تبصر تقاسيمه لأول مرة، ما رأت يومًا رجلًا بجسدٍ منحوت كهذا الجسد أمامها، ولا تفاصيل كتفاصيل وجهه الذي يظهر بوضوح أنه لا ينتمي لدولتها، ربما روسي أو تركي، يراقبها من علياه بنظرات هادئة غاضبة و….محترمة ؟؟
مهلًا هل ينظر لها الآن بتقدير واحترام، أم أن حاجتها لذلك الأمر أضحت ملحة لدرجة أن تبصرها في عيون الآخرين ؟؟
تنحنحت وقد شعرت لثواني أنها أصبحت متحرشة حمقاء، وقد بدأت أعين ذلك الرجل تضيق بتحفز غريب كأنه يبحث بين وجهها عن خطأ أو ماشابه، اعتدلت في جلستها مبتسمة بهدوء :
” مساء الخير يا فندم اقدر اساعدك ازاي ؟؟”
وهو لأجل مكانتها وبغض النظر عن كامل اعتراضاته عليها، ابتلع ريقه يميل بنصفه العلوي قليلًا فقط، واضعًا كفه الأيمن أعلى منطقة صدره مرددًا باحترام كبير :
” جلالة الملكة، بحثنا عنكِ في كل مكان حتى كدنا نفقد الأمل في العثور عليكِ، والآن وحينما علمنا من الكرة أنكِ بهذا العالم، جئنا على وجه السرعة لأخذك لملكنا ”
رمقته تبارك ثواني، ثم نظرت حولها وكأنها تبحث عن تلك الملكة التي يوجه لها الحديث بالعربية دون العامية، لكن لم تبصر في الممر بأكمله أحد غيرها وهذا الرجل الوسيم، وهذين الرجلين…الغريبين اللذين يرافقانه ويرمقونها بنظرات الزائر لحيوان نادر داخل قفصه، نظرات تشعرك أنهما سيخرجان بعض السوداني ويلقونه لها ويصدرون اصواتًا لطيفة لها تدعوها لأكل ما القوه .
عادت بنظرها للرجل الذي حدثها منذ ثواني، تحاول أن تتمالك نفسها أمام ملامحه ونظراته، تغض البصر عنه، وتردد بعدم فهم، وقد شعرت أن قلة النوم، والأحلام المريبة قد تسببت لها في مشاكل عقلية، لتردف بنبرة خجلة :
” نعم ؟؟ معلش شكلي بسبب قلة النوم بقيت اسمع حاجات غريبة، حضرتك كشف ولا استشارة وجاي لعيادة ايه ؟؟”
أعتدل سالار في وقفته وقد ابتسم بسمة مجبرة يقول بهدوء واحترام كبير يحتمه عليه مكانتها وقسمه وولائه:
” لا، اشكرك أنا لا احتاج استشارة فلدى بالفعل من يمكنني استشارتهم وسوف اتخلص منهما بعدما ننتهي ”
كان يتحدث موجهًا إصبعه صوب الرجلين الغريبين معه، ومن ثم أكمل بهدوء وجدية كبيرة ظنًا أنها تدرك هويتها وما يتحدث عنه، نبرة جعلت تبارك تكاد تركض خوفًا مما يقول :
” أنا فقط جئت لأخذك حيث الملك ”
صمتت ثواني، قبل أن تبتسم باستيعاب:
” آه مش تقول كده، عيادة الأمراض النفسية آخر الممر على الشمال ”
نظر لها سالار يحاول تحليل كلماتها والتي لم تأخذ ثواني داخل عقله حتى يعلم ما تقصده، ابتسم بسمة مصدومة مما قالته.
فالبنسبة لرجل كسالار، قائد جيوش مملكة سفيد وأقوى قائد في الممالك الأربعة الذي خاض مائة وتسعة عشر حربٍ لم يخسر بهما واحدة حتى، أن تأتي فتاة تتهمه بالجنون لأنه يخبرها أن تأتي معه لتتسلم عرشها، كارثة لن يمررها لها .
ولم ينتبه سالار الذي يعميه غضبه أن ما يتحدث بشأنه هو أشبه بحكايات طفولية لفتاة كتبارك، أي ملكة تلك التي جاء يطالبها بها؟؟ ألا تكفيها أحلامها التي تشعرها أنها عادت عصورًا للخلف كلما سمعت ” ملك وملكة وغيرهم”؟؟
هو يظنها تعلم هويتها وتنتظره، وهي تعتقده مجنونًا أو مختلًا .
فجأة انتفضت تبارك للخلف برعب تطلق صرخة فزعة حينما وجدت ذلك الرجل يميل على منطقة الاستقبال وهو يتحدث ضاغطًا على أسنانه وبفصحى سلسة واضحة :
” اسمعي يا امرأة، إن كنتِ الملكة فأنا قائد الجيوش، فلا تظني أن رتبتك تلك ستمنحك حق اتهامي بالجنون، يمكنني نزع رأسك بكل بساطة دون أن يرف لي جفن، ولولا خوفي من أن أُلقى في جهنم لأجل حمقاء مثلك لكنت فعلتها ولو كلفني الأمر أن أُجرد من رتبتي وأُصنف خائنًا داخل مملكتي ”
صمت ثم أكمل يقول :
” أنا يومًا لم أفشل في مهمة وُكّلت لي، ولن أفعل الآن، أخبروني أن أحضر الملكة، وسأفعل حتى لو أحضرتها محملة على الأكتاف، أو قطع صغيرة سمعتي ؟؟”
كان هذا في قمة اللطف والرقي سالار، أحسنت، استمر على هذا المنوال وستتسبب لها في أزمة قلبية تودي لحتفها، وتعود بها جثة هامدة للملك .
صمت ثواني يشعر أنه تجاوز الحديث معها، حينما سمع صوت صمود خلفه يهمس له :
” سيدي هذه الملكة بعد كل شيء ويجب أن نظهر لها احترامًا ”
تنفس بعنف لا يصدق ما قاله هو يومًا لم يتحدث مع امرأة بهذا الشكل، حسنًا هو لم يتحدث مع امرأة يومًا على أية حال بعد والدته .
لا يحب عليه أن يتعامل معها هكذا، هي الملكة وهو عليه أن يحترمها ويطيعها .
تنفس بصوت مرتفع يحاول تحسين ما قال حينما أبصر خوفها منه يوبخ نفسه بصمت، ليبتسم بسمة حاول جعلها راقية هادئة :
” رجاءً مولاتي تعالي معي وأنا سأوضح لكِ كامل الأمور بهدوء شديد، فقط دعينا نتحدث بعيدًا عن هذا المكان ”
ابتلعت تبارك ريقها، تشعر بقلبها يخفق بقوة وكلماته قد أخذت تتردد داخل عقلها بقوة وجسدها يرتجف لا تدري رعبًا من ملامحه وأعينه المتوحشة أو من كلماته المخيفة، ودون تفكير ضغطت على زر استدعاء الأمن ……
____________________
استغلت انشغال كامل العاملات في تنظيف جناح الملك بكل دقة وحرص شديد، وهي تحركت ببطء شديد صوب هدفها المنشود منذ تطوعت لطاقم عمل جناح الملك .
ابتسمت تدلف المرحاض الخاص به تنظر حولها للمكان الذي كان فخمًا بشكل خاطف للانفاس، تنفست بسعادة تعض شفتيها، تمني نفسها باستحمام لطيف هنا وفي هذا المكان الواسع الذي يمتاز بالالوان البيضاء المبهجة، بعيدًا عن مرحاض العاملين الذي لا تستطيع حتى أن تستخدمه لثواني إلا ويسبب لها انقباضة صدر .
اتسعت بسمة كهرمان حينما سمعت صوت غلق باب الجناح الذي يعلن بوضوح رحيل العاملات، نظرت حولها تتنفس براحة شديدة قبل أن تزيل غطاء وجهها الذي يخفي وجه ابيض مع ملامح رقيقة واعين ضيقة بعض الشيء باللون البني، بدأت تخلع ثيابها ببطء وتتحرك صوب حوض الاستحمام تتلمس نعومته بسعادة .
نظرت صوب الزيوت العطرية المستخلصة من الأزهار خصيصًا لأجل الملك واتسعت بسمتها أكثر وأكثر..
وخارج المرحاض وبعد رحيل العاملات بدقائق طويلة، دخل هو جناحه بسرعة كبيرة يخلع عنه عباءته وكامل أسلحته ليظل فقط بثياب مكونة من بنطال وسترة قماشية بها بعض الأزرار المصنوعة من أخشاب نادر يظهر منه مقدمة صدره العضلي .
تحرك إيفان في المكان يود التجهز لاجتماع الممالك لمناقشة ما حدث مع مملكة مشكى، زفر وهو يجلس على الفراش يتحدث مع نفسه بصوت منخفض :
” سقط ارسلان رغم كل تجبره وقوته، سقطت مشكى رغم كل تحصنها، الأمر ليس هينًا، هناك خيانة داخل مشكى وخارجها”
أزاح خصلاته السوداء للخلف يتنفس بصوت مرتفع ينتزع عنه سترته ملقيًا إياها في سلة من القش موضوعة داخل حجرة صغيرة في جناحه .
خطى بهدوء شديد صوب المرحاض ولم يكد يفتح بابه، حتى تناهى لمسامعه اصواتًا قادمة من الداخل، ودون تفكير عاد بسرعة كبيرة صوب سيفه يحمله متحفزًا وقد رسم له عقله مشهدًا لمقتحم يود مغافلته واغتياله داخل حجرته الخاصة .
ابتسم بسمة قاسية أعلى فمه يتوعده بالويل، توقف أمام المرحاض يستعد لفتحه ونحر رأسه دون تفكير .
وفي الداخل كانت كهرمان قد انتهت من الاستحمام وقامت بارتداء ثيابها، وطبقات الفستان السفلى ولم يتبقى سوى الطبقة الخارجية وغطاء الوجه وحجابها، تتمتم بعض الكلمات المنخفضة وهي تحرك خصرها بهدوء شديد رغم ملامحها الهادئة الحزينة، استدرات لتحمل الطبقة الأخيرة من الثوب، لكن فجأة ودون سابق إنذار وجدت يد تسحبها بعنف شديد ويد توضع على رقبتها جاذبة إياها صوب جسد صلب وصوت يهتف بفحيح :
” مجرمة نظيفة ها ؟؟”
اتسعت أعين كهرمان تشعر بجسدها يرتجف بقوة، هذه هي النهاية، هربت من موت لتسقط في جحيم، تنفست بصوت مرتفع وهي تحاول الحديث، لكن ذراعه تلك لا تساعد .
وايفان لم يستوعب بعد أنهم أرسلوا فتاة لقتله، فتاة تقف في مرحاضه دون حجاب وباذرع عارية، و….تحمل رائحته الخاصة ؟!
ضيق عيونه يحاول الخروج من تلك الأفكار، يزيد من ضغط السيف على رقبتها حتى بدأ يجرحها، يحرك ذراعه القوية ويشددها على رقبتها أكثر :
” من ارسلك ؟؟ ”
وهي نست كيف تتحدث، وكأنها يومًا لم تنطق بكلمة، ابتلعت ريقها مرات ومرات تحاول أن ترطب حلقها الجاف وصوتها خرج مرتعبًا به غصة بكاء وانهيار وشيك :
” أنا… أنا لست …”
ضغط إيفان على أسنانه بقوة يهمس بشراسة :
” لستِ ماذا ؟”
” لست…لم يرسلني أحد اقسم لك، أنا فقط … أنا فقط أردت الاستحمام، اقسم أنني لم انوي اذيتك ”
أطلق إيفان ضحكات صاخبة مستهزئة :
” وكأنكِ تستطيعين فعلها إن نويتي الأمر ”
نفت كهرمان بسرعة كبيرة تردد من بين أنفاسها الفزعة وقد كادت تسقط ارضًا لشدة حاجتها إلى الهواء :
” فقط …مراحيض العاملين سيئة جدًا، لذلك ارتأيت أن استعير منك مرحاضك لدقائق، سأ…سأنظفه مجددًا اقسم لك، أنا لم انتوي سوءًا مولاي صدقتي، ولا احمل أسلحة حتى لتظن بي ذلك ”
نظر لها إيفان بشك يبعدها عنه فورًا وهي شعرت بجسدها يكاد يسقط في حوض الاستحمام، لكنها تمسكت من فورها بالجدار تسند جسدها، وقد سقط شعرها يخفي وجهها عن إيفان الذي نظر لها بجدية كبيرة، وقبل أن ينطق بكلمة رفعت كهرمان وجهها بسرعة كبيرة ليصمت هو حينما أبصر ملامحها ونسي لثواني ما يحدث وأنه الآن يقف في مرحاض حجرته مع امرأة دون حجاب أو لثام أو ثوب يستر ذراعها العاري .
ابتلعت كهرمان ريقها وهي تتراجع للخلف ببطء :
” أرجوك أنا لم أقصد، أنا فقط …”
مسحت قطرات المياه التي تتساقط على وجهها، أو كانت عرق لا تدري، تنفست بقوة تنظر حولها :
” سوف أعيد ترتيب كل شيء كما كان”
فجأة أبعد إيفان عيونه عنها يشير لها بسيفه غاضبًا من كل ما يحدث هنا :
” ارتدي ثيابك وللخارج ”
” أنا سأ…”
قاطعتها صرخة إيفان المرعبة :
” فقط استري جسدك واخرجي من هنا يا أمرأة ”
أنهى كلماته يتركها في مرحاضه ويخرج منه بسرعة كبيرة يتنفس بصوت مرتفع، وهي ظلت واقفة لا تستوعب ما قال، قبل أن تطلق فجأة صرخة عالية تدرك أنها كل ذلك الوقت كانت تقف أمامه بهذه الهيئة دون حجاب وغطاء الوجه وباذرع عارية، بدأت تسرع وترتدي كامل ثيابها، ثم خرجت بسرعة دون كلمة تحاول أن تخفي احمرار وجهها خلف غطاءه…
وبمجرد أن خرجت من المرحاض قالت وهي مخفضة الرأس:
” أنا آسفة و…”
قاطعتها كلمة إيفان الحادة الصارخة :
” للخارج .”
وهي انتفضت واختض جسدها من صرخته تركض صوب الباب تطرق عليه ببطء ليفتح لها الحراس متعجبين وجوده عاملة أثناء وجود الملك وقد رحل الجميع بالفعل منذ دقائق، وهي لم ترفع رأسها واسرعت الخطى في الممرات تشعر أنها ستسقط ارضًا بسبب توترها، وحينما تخطت ممر جناح الملك ركضت بسرعة كبيرة تبحث عن زمرد، تشعر بضربات قلبها تكاد تتوقف والرعب بلغ منها مبلغه تردد بخوف شديد :
” لقد رأى وجهي، رأى وجهي، ستقتلني زمرد لأجل هذا”
______________________
تسير صوب منزلها بعد يوم عمل شاق …مريب .
مسحت وجهها لا تصدق ما مرت به اليوم، أحد المجانين الوسيمين هجم على المشفى يطالبها بالذهاب معه حيث الملك مدعيًا أنها ملكة، بالله ما الذي يحدث في حياتها ؟؟ ألا تكفيها أحلامها الغريبة، لتتسرب الغرابة نحو يقظتها ؟
تنفست بصوت مرتفع تتذكر ما حدث حين جاء الأمن وهجموا على المشفى وهو ما يزال واقفًا يحدق في عيونها بنظرات غريبة جعلت جسدها يرتجف .
امسك رجل الأمن ذراع سالار يتحدث بلهجة حادة مهددًا :
” لو سمحت اتفضل معايا من غير مشاكل كتير ”
لكن سالار لم ينزع عيونه عنها، بل فقط ابتسم بسمة جانبية جعلتها تخشاه أكثر، ابتلعت ريقها تشير لرجل الأمن بيد مرتجفة :
” لو سمحت وصله لبرة و…”
وقبل أن يقترب منه الحارس أوقفه سالار بإشارة من يده، ثم تحركت عيونه حتى استقرت على وجه تبارك يقول بهدوء مرعب :
” اسمعي يا فتاة أنا جئت هنا لهدف ولن أغادر دونه، ولا وقت لدي لاتوسلك أو اتذلل لكِ، لذا أما أن تأتي معي أو اضطر لاستخدام القوة ”
كان الحارس في ذلك الوقت يجذبه للخارج محاولًا تحريكه، لكن أين هو بجسده الهزيل الذي لا يؤهله حتى لحماية نفسه من الانيميا فما بالك بمشفى، بسالار الذي تربى وترعرع بين السيوف وأرض المعارك وأصبح من اقوى رجال مملكته والممالك المجاور ويقود جيوشًا من مئات الآلاف بيدٍ من حديد .
لذلك لم يؤثر سحب الرجل له ولم يتحرك هو مقدار شعرة عن مكانه، بل فقط جذب ذراعه بقوة تسببت في إسقاط الحارس ارضًا، وبعدها استدار صوب تبارك يقول مقتربًا من مكانها :
” إذن متى نرحل مولاتي ؟؟”
وإن كان يهدف بتلك الكلمات لزيادة رعب تبارك فقد نجح وبدرجة عالية، إذ أطلقت تبارك صرخة عالية تجمع على إثرها من بالمشفى وهي تصرخ بهم أنه هددها للتو بالخطف، تصيح بين الجميع بجنون :
” عايز يخطفني ويهربني برة البلد، هيجندني لصالح روسيا”
اغلق سالار عيونه بقوة يشعر بأذنه ستنفجر تحت ضغط صرخاتها :
” أقسم أن طبول الحرب أكثر رقة من صرخاتك، هدئي من روعك رجاءً ولا تهلعي، ثم أي روسيا تلك التي سأجندك لصالحها؟؟ بالله عليكِ أنا لا اقبل بكِ عاملة لتنظيف سيوف في جيشي، فكيف بجندي ؟؟”
صمت ثم قال بجدية ساخرة :
” الموقف الوحيد الذي سأقبل فيه بتجنيدك هو أن أجندك لصالح العدو، فهذا سيزيد من فرص فوزنا ”
نظرت له برعب تقول مرتعبة تنظر حولها لبعض الممرضين الذين كانوا لا يستطيعون استيعاب ما يحدث ومن هذا ولِم يتحدث بهذه الطريقة وما الجنون الذي يهزي به :
” أنتم واقفين تتفرجوا ؟؟ مش سامعين المجنون ده بيقول ايه ؟؟ حد يخرجه برة ويبعده، ده …ده بيبصلي ازاي، بصوا بيبص ليا ازاي ؟؟”
كانت تشير له بخوف شديد، خوف تبارك من المجهول والغرابة، فهي فتاة في غاية المنطقية تعيش حياتها فقط لتحمي نفسها من الاذية، وتخشى كل مجهول يقترب منها، وهذا الرجل يجعلها ترتجف من حديثه وكلماته.
اقترب في تلك اللحظة علي، يندفع صوبها يمسك ذراعها يحاول تهدئتها وهي تشعر فقط بأنها في خطر، تتحرك بين يديه دون وعي .
” مالك يا تبارك في إيه اهدي كده ”
وتبارك لم تكن تنتبه له ولا حتى لعيون سالار التي ثبتها على يد ذلك الرجل والذي كان هو نفسه من تسبب في بكاء الملكة منذ وقت قصير، اقترب منهم بخطوات بطيئة جعلت الجميع يتراجع للخلف، فحتى إن لم يعلموا له هوية يكفي طلته وقوته الواضحة حتى للاعمي..
وفجأة شعر علي بضربة على ذراعه شلت جسده بأكمله ليتراجع للخلف ممسكًا بذراعه يعض شفتيه كاتمًا تأوهًا قويًا كاد يفلت منه، لكن الوجع تغلب عليه وأطلق صرخة رنت صداها في المكان بأكمله .
وسالار الذي لم يفعل شيء سوى أنه ضرب ذراعه ليبعدها عن يد تبارك، قال بكل هدوء :
” لا يمكنك لمس امرأة لا تحل لك، وبالتأكيد لا يمكنك أن تفعل ذلك مع ملكتنا، التزم حدودك وضع بينكما امتارًا ”
نظر له عليّ وهو يتلوى ارضًا صارخًا والجميع كان يراقب ما يحدث بأعين متسعة، وتبارك في تلك اللحظة شعرت برغبة عارمة في البكاء خوفًا، ودون تفكير أمسكت مزهرية تستقر على طاولة الاستقبال وضربته بها فوق رأسه بقوة شديد جعلت شهقات صامد وصمود تخرج بعنف كبير ..
اغمض سالار عيونه بقوة حينما شعر بالمزهرية تصطدم برأسه متهشمة لشظايا كثيرة، نفض خصلات شعره الحمراء ببرود شديد يتجاهل ذلك الوجع الطفيف الذي أصاب رأسه، ثم استدار لها يبتسم بسمة صغيرة مرعبة :
” حقًا هذا كل ما تملكين ؟؟ أنتِ حتمًا أكثر ملكة ضعيفة رأيتها في حياتي ”
في تلك اللحظة انتفض جسد سالار للخلف مرتعبًا من صرخات تبارك العالية التي شعرت بالخطر المحدق يحوم حولها، ولشده رعبها لم تشعر سوى بالظلام يحيط بها وتسقط ارضًا.
وبعد ساعات استيقظت لتدرك أنها في المشفى آمنة وكل ذلك كان حلمًا قبل أن تنفيه رفيقه لها، وتخبرها أن ما حدث حقيقي، لكن ذلك المجنون غادر بلا رجعة .
والآن ها هي تعود لمنزلها المريح بعد يوم شاق مرهق مع ذلك المجنون الذي …
وقبل أن تكمل أفكارها شعرت فجأة بشخص يجذب جسدها بقوة كبيرة صوب أحد الأماكن التي ميزتها سريعًا، لكنها حتى لم تتمكن من الصراخ إذ شعرت بجسدها يُلقى على مقعد داخل ذلك المكان والذي لم يكن سوى مكتبة متولي الذي كان يجلس على مكتبه يراقب ما يحدث بهدوء مخيف .
وامامها يقبع ذلك العملاق ذو الشعر الأحمر ومعه هذين الغريبين، يحدقون فيها بنظرات جعلتها تبتلع ريقها مرتعبة تقول بخوف وهي تحرك رأسها بسرعة كبيرة بأول ما جاء لرأسها كي تنقذ نفسها :
” أنا… أنا موافقة اتجند لجيش العدو ياباشا ”
نظر لها متولي مليًا وهو يرى ذلك العملاق يخيم عليها، نهض عن مكتبه ينضم لهما وهو ينظر لتبارك التي أخذت تهمس وتشير له أن يحررها منهما تقول بصوت خافت :
” الحقني يا عم متولي، ابوس ايدك خرجني من هنا ”
لكن متولي لم يهتم وهو ينظر لسالار يقول بجدية كبيرة ليس وكأنه لم ير سالار سوى منذ ساعة تقريبًا :
” ها يا قائد هتاخدها امتى وترجع للمملكة ؟؟”
اتسعت أعين تبارك بقوة تحدق فيه بشكل جنوني وقد اتسع فمها بشكل مضحك وكأنها تسأله جديته، هل جُنّ الرجل لكثرة جلوسه وحيدًا؟؟
ابتسم سالار وهو يجيب بكل هدوء وبنبرة هادئة :
” اليوم إن وافقت الملكة أيها العريف ”
ابتسم متولي بسمة واسعة كادت تقسم وجهه نصفين، فرح بذلك اللقب الذي تلقاه من ذلك الشاب والذي حقًا لا يعلم له هوية، هو فقط كان يدور في المكان بحثًا عن منزل تبارك وحينما سأله وعرف منه ما يريده منها، صدق حكايته دون أن يحصل منه على دليل واحد حتى، وقرر أن يساعده في اختطافها..
همس صمود في أذن سالار بتعجب واستنكار :
” ما بك قائد تنادي ذلك الرجل بالعريف ؟؟ أنت حتى لم تعلم إن كان يمتلك نفس علم ومعرفة العريف ام لا لتمنحه مثل ذلك اللقب الكبير ”
ابتسم سالار بسخرية :
” نعم، لكنه مزعج مثله ”
أفاق من حديثه الخافت مع صمود، ثم نظر لتبارك التي كانت ترمقهما بنظرات متسعة واعين مرتعبة تحاول فهم ما يحدث في ذلك المكان ..
مال سالار برأسه يواجهها ثم أطال النظر داخل عيونها بشكل جعلها تغرق في عيونه ذات اللون الغريبة، لكنها استفاقت على صوته يقول :
” سأخبرك كل شيء وستسمعين ما أود قوله وحينها سيكون الخيار لكِ، أما أن توافقي على المجئ معنا، أو نختطفك حسنًا ؟؟”
نظرت تبارك برعب لمتولي الذي كان يحدق بها مثلهم، وابتلعت ريقها كي تقنعهم أنها موافقة على ذلك الهراء ومن ثم حين تحين فرصتها تهرب من هذا المكان الملئ بالمجانين ..
وبخوف تام قالت :
” حاضر اللي تشوفوه ..”
ابتسم سالار بنصر، فخبرته في المعارك علمته جيدًا
( إن لم يرضخ عدوك للسلام، فلا مانع أن تريه ما سينتظره إن اختار الحرب وسيلة )
__________________
” لا رحمة ولا خنوع ولا لحظة تفكير واحدة، كل من ترونه من هؤلاء الجرذان تخلصوا منه، الحالة الوحيد المسموح لكم بالتفكير بها، هي حين تفكر في قتله بالسيف أم افراغ احشائه بيديك العارية، فهمتم ؟؟”
صاح الجنود عقب كلمات دانيار في صوت موحد جهوري قوي :
” نعم سيدي ”
ابتسم دانيار برضى وقد رفع رأسه عاليًا يشير للكتيبة التي جهزها لحماية حدود المملكة وتكثيف الرقابة عليها، أن تتحرك .
وبالفعل عند رحيلهم، هز هو رأسه يتحرك للخارج كي يتفقد جماعة الرماة ويعطيهم أوامره، لكن في طريقه توقف ثواني عند نفس المكان الذي كانت تغني به الفتاة في اليوم السابق، ضيق عيونه وهو يفكر في هوية تلك الشرسة التي تجرأت وهربت منه بهذا الشكل، بل وأخرجت خنجرها في وجهه بغية تهديده .
وأثناء تحركه في الممرات انتبه للعاملات اللواتي يسرن برؤوس منحنية ارضًا وبهدوء شديد بغطاء الوجه المعروف في المملكة، فكر في محاولة البحث عنها بينهن، لكن عن ماذا سيبحث ؟؟ هو لم ير منها سوى أعين سوداء مبهرة ساحرة فقط .
ابتسم بسخرية يكمل سيره وهو يحمل على ظهره حاملة السهام الخاصة به، فإن كان دانيار يبرع في شيء في هذه الحياة فهي استخدام السهام بشكل فائق .
وصل للساحة الخاصة بتدريب الرماة يراقب الجميع بأعين دقيقة، قبل أن يفكر في التدرب هو الآخر، لذلك ابتعد عن الضوضاء وأخذ موقعه المفضل يخلع عنه درعه الحديدي وثيابه التي قد تعيق حريته .
ومن ثم أمسك السهام ونظر للهدف الذي يتوسط أحد الأشجار بعيون ضيقة، وفي ثواني كان سيل من السهام يصيب الهدف بشكل متتالي دون ثواني تفصل بين السهم والآخر، فقد كانت يده تلقي السهم، ثم تتحرك بسرعة مخيفة تحضر الآخر وتلقي به .
وعلى بعد صغير منه كانت تقف هي تحمل ادوات التنظيف بعد عودتها من المبنى الخلفي وانتهاء التنظيف تحدق فيما يفعل بأعين مصدومة، هل آلة القتال تلك هي ما كانت على وشك طعنه بخنجرها المسكين البارحة !؟
ابتلعت زمرد ريقها لا تدري له هوية، لكن تلك المهارة العالية في رمي السهام تخبرها جيدًا أنه أحد أفراد رماة المملكة .
رمشت وهي تحاول التراجع بسرعة وقد شكرت ربها أن نجاها بمعجزة من بين يديه، فما تراه الآن يخبرها أي مصير كانت ستلقى إن اثبت أنها ليست من هذه المملكة وقد يقع عليها تهمة التحايل والخيانة .
لكن لم تكد تتحرك خطوة من موقعها حتى وجدت سهم يقطع طريقها غارزًا في الشجرة المجاورة لها أمام عيونها مباشرة، ابتلعت ريقها وهي تستدير صوبه ببطء، لكن فجأة أطلقت صرخة حينما وجدت جسده قريب منها للغاية ينتزع سهمه قائلًا ببسمة جانبية :
” مرحبًا أيتها الخائنة ..”
ابتلعت زمرد ريقها تبتعد للخلف مبعدة عيونها عنه :
” عفواً سيدي، أنا لا افهم ما تقصد، هلّا افسحت لي طريقًا للمرور رجاءً”
أطلق دانيار ضحكة مجلجلة وقد تعرف عليها من ثيابها وطولها وتلك القلادة التي ترتديها :
” حقًا؟؟ ماذا عن فاكهتي التي سرقتيها في الامس؟؟ ”
ارتفع وجه زمرد بسرعة كبيرة تقول :
“أنا لم اسرقها اقسم لك، أنا فقط حينما ركضت ا…”
فجأة ابتلعت باقي جملتها تشعر أنه اوقعها في فخه، ذلك المحتال جعلها تعترف بما انكرت منذ ثواني .
رفعت رأسها بقوة تحاول أن تظل ثابتة أمام عيونه :
” أنا لست خائنة، وتلك الثمرة التي تبكي وتنتحب عليها سأحضر لك ثمرتين بدلًا منها وهكذا نكون متعادلين ”
ختمت جملتها تتحرك بعيدًا عنه بسرعة لكنه مد يده التي تحمل السهم مانعًا إياها من العبور يتحدث بجدية :
” لا لسنا كذلك، من أنتِ وما الذي تفعلينه في القصر هنا؟! لهجتك تلك لا تمت للهجة مملكتنا بصلة حتى ”
نظرت زمرد للسهم الذي يحمل ومن ثم رفعت عيونها له تقول :
” أنا رحّالة جئت لكسب قوت يومي من العمل هنا، والذي بالمناسبة أنت تعطلني عن فعله ”
ولم تكد تتحرك حتى قال دانيار بخبث وهدوء شديد :
” حقًا أنتِ مسكينة فقيرة إذن، مسكينة فقيرة ترتدي سلسال ذهبي يستطيع أن يؤمن لها منزلًا فاخرًا داخل المملكة، لكنها كانت من الكفاح الذي يجعلها تأتي للعمل داخل قصر الملك تحديدًا”
اتسعت أعين زمرد ونظرت بسرعة كبيرة صوب تلك القلادة التي تتوسط جسدها، ولا تدري كيف ظهرت من الحجاب أو خرجت من الفستان الخاص بها، سارعت لاخفائها أسفل ثيابها، بينما دانيار قال بهدوء وتهديد :
” أنتِ لا تريدين أن أضرب ظهرك بالشجرة خلفك مرة أخرى متسببًا في كسور صعبة الشفاء لعمودك الفقري صحيح ؟؟”
اومأت له زمرة دون أن تشعر، لكن فجأة انتبهت لما يحدث و نظرت لدانيار بغضب شديد ظهر على حركات جسدها جعله يرفع يده قائلًا ببسمة ساخرة :
” لا تنظري لي بهذا الشكل، لست أنا الاحمق الذي نسي اخفاء كل الأدلة عن أنني سليلة أغنياء جئت للعمل خادمة في قصر الملك بشكل مثير للشك ”
زفرت زمرد تقول بحنق وغضب :
” هذا إرث عائلي من جدتي، لذلك لا يمكنني التصرف به، والآن أسمح لي يا سيد فلدي من الأعمال ما يجعلني انشغل بهم بعيدًا عن ثرثرتك الفارغة ”
ولم تكد تتحرك خطوة حتى وجدت سهم دانيار يصيب سطل الادوات بيدها لتطلق صرخة متراجعة للخلف، ثم رفعت عيونها لدانيار الذي ابتسم يقول بكل بساطة :
” اعلمي أيتها الخائنة أنني اضع عيوني عليكِ في كل خطوة هنا ”
نظرت زمرد للسطل الساقط ارضًا قبل أن تطلق سبة مرتفعة جعلت أعين دانيار تتسع بصدمة وهو يراها تجمع الادوات ثم منحته نظرة حادة، وأخذت نفس عميق كي تهدأ ومن ثم فتحت عيونها تنظر له تراه يراقب ما تفعل باهتمام، لكن وعلى حين غرة منه مالت زمرد تلتقط صخرة تلقيها عليه صارخة في وجهه :
” للجحيم أيها الفاسد، اقسم إن رأيتك أمامي تنظر لي، نزعت عينيك من محاجريهما ”
ختمت جملتها تركض بسرعة كبيرة صوب القصر وهي تشعر بالرعب لما فعلت، لكنها لم تملك سوى تلك الطريقة لإنقاذ كبريائها الذي يصرخ بها أن تثأر لاجله .
وهو فقط اغمض عيونه بقوة وقد اشتعل جسده غضبًا يراقبها تركض بعيدًا عنه :
” سنرى …”
____________________
تحركت نظرات تبارك على الجميع تعض شفتيها، واعينها متسعة بعدم فهم، هل ما سمعته صحيح، مملكة وهي الملكة والملك في انتظارها وذلك المتجبر أمامها قائد الجيوش الذي أرسله لأخذها إلى مملكة تقبع خلف حافة الموت وبين قمم جبال مرعبة ؟؟
ابتسمت لهم بسمة مقتنعة، صدقتهم، نعم صدقت كل ما قاله بل وجعلها تتأكد أن ما ستفعله الآن هو عين العقل، عادت بظهرها على المقعد توهمهم أنها تستريح وتفكر فيما قيل، فركت وجهها قليلًا :
” اه، أنا برضو قولت كده اول ما شوفتكم على فكرة، باين عليكم ”
نظر لها سالار بفضول شديد يتساءل بعيونه عن مقصدها، لكنها تجاهلته ونظرت صوب متولي الذي كان ينظر لها منتظرًا إشارة منها على الموافقة حتى يساعدها للمغادرة ويؤدي دوره كعريف هذا العالم _ كما أخبره سالار ساخرًا _.
ابتلعت ريقها وأخذت نفس عميق وكأنها على وشك الغطس في محيط سحيق وسط الشتاء القارس، وفي غمضة عين كانت تنتفض عن مقعدها منتصف المكتبة تركض خارج المكان باكمله تصرخ برعب وقلبها يكاد يتوقف مما يحدث .
” الحقوني …الحقوني مجانين عايزين يخطفوني وعم متولي بيساعدهم ”
اتسعت عين سالار من المفاجأة وصرخ بصوت جهوري :
” ماذا تشاهدون أيها الحمقى أمسكوا بالملكة ”
وفي ثواني ركض صامد وصمود خلفها ومعهم متولي يمسكون بها، وهي تتحرك بخطوات مهرولة صوب الباب الخاص بالمكتبة، خطت العتبات الداخلية ولم تكد تطأ الخطوة الأخيرة حتى وجدت جسدها يصطدم بالأرض أسفلها بقوة كبيرة، ووجها يُطبع على عتبات المكتبة، بعدما جذبها صمود بعنف شديد من قدمها .
صرخت تبارك باكية بخوف حقيقي تتمسك بباب المكتبة وجسدها يُسحب على درجات المكان، تصرخ في الجميع :
” الحقوني يا ناس، حد يلحقني، ابوس ايديكم الحقوني من المجانين دول، لا لا سيبني مش عايزة اروح في حتة ”
فتح سالار عيونه بصدمة مما يفعل صمود، يتحرك صوبه صارخًا وهو يخرج أحد خناجره يضعه على رقبته بشر :
” ما الذي فعلته للتو؟؟ هل تجرأت ولمست الملكة ؟؟”
نظر له صمود برعب، بينما تبارك والتي اعتدلت في جلستها بوجه باكي تحدق فيهم بأعين متسعة من الرعب تتراجع للخلف بسرعة كبيرة، تردد بصوت خافت :
” يعني مزعلك أنه لمسني، مش أنه مسح بوشي بلاط العتبة ؟؟ ”
نظر لها سالار بحدة جعلها تصمت، ثم أشار لها بالخنجر محذرًا :
” تحركي واجلسي على ذلك المقعد هناك ولا تخرجي صوتًا”
” أنت ملكش الحق تأمرني على فكرة أنا ممكن اااا….”
لكن انتفض جسدها بعنف أشد وطأة حين سماع صرخة جهورية مرعبة منه :
” الآن”
ركضت تبارك بسرعة كبيرة على المقعد الذي كانت تتوسطه منذ لحظات، تجلس عليه بكل هدوء تضم يديها لقدمها وتنظر أمامها كتلميذة هادئة مطيعة ..
وسالار نظر لصمود يهمس له :
” إن تجرأت ولمست الملكة، فستفتقد يدك الباقي من حياتك ”
أنهى حديثه يدس الخنجر داخل ثيابه متحركًا صوب تبارك التي بمجرد أن رأت تقدمه لها حتى اخذت تدفع جسدها بالمقعد للخلف والخلف والخلف، وهو يتقدم منها بكل هدوء وصبر لا يمتلكه بالفعل، وهي تتراجع أكثر وأكثر، حتى اصطدمت فجأة بأحد المكاتب التي تحوي ارفف كتب كثيرة، ابتسم سالار وهو يرى أنها لم تعد قادرة على الابتعاد .
توقف أمام المقعد الخاص بها ثم نظر لعيونها بشر جعل جسدها يرتعش وهي تسمع همسه :
” إلى أي حد قد تعتقدين قد يصل صبري ؟؟ ”
أغمضت تبارك عيونها بقوة كبيرة تشعر بجسدها يرتعش وقد ضربتها فكرة إصابتها في مقتل جعلتها ترفع عيونها له بسرعة كبيرة وتبادله النظرات بأخرى مصدومة وهو ابتسم ويكمل حديثه :
” رجل حرب عاش حياته بين الرجال لايملك صديق سوى سيفه، ولا خليله سوى فرسه، ولا عائلة سوى سهامه، لكم من الوقت تعتقدين أنه سيتحلى بالصبر على تصرفات امرأة مثلك ”
ابتلعت تبارك ريقها، تحاول التنفس بشكل جيد وهي تهبط بجسدها على المقعد شيئًا فشيء، لا تدري أينتظر منها إجابة، أم كان ذلك مجرد سؤال استنكاري لا يرنو من خلفه لشيء ؟؟
وحينما طال صمته أدركت أنه بالفعل ينتظر اجابه لذلك قالت بصوت خرج بصعوبة :
” أنا عايزة …عايزة اروح الحمام ”
نظر لها سالار بعدم فهم لثواني، وهي قالت تلعن في نفسها تلك العادة السيئة التي تصيبها كلما شعرت بالخوف :
” أنا عايزة اروح الحمام ”
ابتعد عنها سالار مستقيمًا في وقفته يقول باستنكار :
” حقًا يا امرأة؟؟”
” حقًا والله ”
مسح وجهه بتعب، الأمر ليس سهلًا، تمامًا كما توقع .
قال صامد مقترحًا :
” سيدي ما رأيك بالعودة وتركها هنا، لا أظن أنها تلائم بأي شكل من الأشكال مملكتنا ”
هزت تبارك رأسها بسرعة ولهفة كبيرة تعتدل في جلستها داخل المقعد، تشير صوب صامد :
” أيوة أيوة صح الراجل الصغير ده عنده حق، أنا فعلا مش هنفع والله يا باشا أنا …أنا والله مش عارفة احكم نفسي اني ابطل اكل حلويات، هحكم مملكة؟؟ أنت لو كنت بتجري على خرابها مش هتصر الاصرار ده عليا، والله حضرتك أنا أحقر من كده بكتير”
صمتت ترى نظراته الغامضة تحلق حولها، لينتعش امل صغير داخل صدرها، تقول رغم عدم اقتناعها بكل تلك القصة الخيالية عن مملكة وهمية هي ملكتها :
” طب …طب ده انا وانا في المدرسة كنت رائد الفصل و في الفترة اللي مسكت فيها الفصل اخدنا اكتر فصل سييء في المدرسة، والله ما بكدب، كنا فعلا اسوء فضل وأكثر فضل مشاغب وبيغيب براحته لاني مش باخد الغياب، وكمان مزيناش الفصل عشان مكنتش بقدر أخد منهم فلوس عشان بيضربوني ”
شعر سالار في هذه اللحظة بهول ما سقطت به مملكتهم، بالله كيف تكون تلك الفتاة الهشة الباكية التي لا تفقه حتى أقل أساليب الحياة الملكية أن تصبح ملكتهم وتشارك الملك في الحكم، هي حتى لا تمتلك أقل ما يجب أن تمتلكه الملكة وهي معرفة اصول المبارزة وأساليب التعامل مع العامة، وكيفية الحديث بشكل لائق هادئ حكيم ..
كل هذا هي تمتلك عكسه بالضبط .
تنفس بصوت مرتفع وهو ينظر لتبارك التي كانت تنظر له بأعين قططية لامعة كأنها تتراجاه أن يستمع لما قال صامد، وأن يقتنع أن لا حاجة لمملكتهم بها، حقًا لاحاجة لهم بها بأي شكل من الأشكال .
لكن كل ما صدر من سالار هو زفرة عنيفة يقول دون نقاش أو جدال :
” أحضروا الملكة، سوف نشد الرحال للمملكة …”
اتسعت أعين تبارك تلقي بجسدها على المقعد خلفها بصدمة كبيرة تحاول أن تتلقي تلك الصدمة وتفكر فيمن يستطيع إنقاذها من هؤلاء المجانين .
ابتلعت ريقها ترى اقتراب سالار لها، لتنحفض في مقعدها شيئًا فشيء حتى تبتعد أكبر قدر ممكن عنه، لكن من سوء حظها أن حركتها تسببت في اختلال المقعد لتسقط به ارضًا صارخة بصوت مرتفع ..
وسالار راقبها من الاعلى يفرك عيونه بتعب شديد :
” لكِ الله يا سفيد …”
______________________
” ماذا فعلتِ ؟؟ضربتي صانع الأسلحة؟ ”
انطلقت تلك الصرخة من إحدى النساء العاملات في المطبخ لتتسع عيون الفتاة جوارها وهي تنظر حولها بفزع كبير ترى الجميع ينظر لهما .
ابتلعت ريقها توبه رفيقتها :
” أنتِ أيتها الغبية ما بكِ، هيا ارفعي صوتك أكثر عسى أن يصل لذلك الاحمق ويأتي لجز عنقي ”
عضت صديقتها شفاهها باعتذار صامت، ثم همست بصوت منخفض وهي تنظر حولها بحرص لمعرفة إن كانت هناك أعين متلصصة بهم أم لا :
” لكن برلنت، أنتِ قد تُعاقبي على مثل تلك الأفعال، أنتِ لم تتجرأي على أحد الجنود العاديين، بل هذا صانع الأسلحة وأحد القادة الثلاثة الذين تشيب لهم الرؤوس رعبًا ”
لوحت برلنت بيديها في الهواء غير مهتمة بما تقول :
” أنا لم افعل سوى أنني فقط رددت له ما فعل معي، وإن لم يكن كافيًا، بالله عليكِ لقد ألقى فوق رأسي قنبلة، ماذا لو أنه صانع أسلحة بارع ونجحت تلك القنبلة وتناثرت اشلائي في المكان ؟!”
” هيييه هو بالفعل صانع أسلحة بارع، هو من طور جميع أسلحة المملكة وحده ”
نفخت برلنت بسخرية لاذعة، ثم أكملت العمل وهي تحمل بعض الأواني تقول بصوت خافت ونبرة حانقة بعض الشيء :
” هو فقط يستمر في إزعاج جميع من بالقصر بأصوات تلك الانفجارات، أعان الله القريبين منه، سوف اذهب لجمع باقي الثمار لأجل الغداء ”
خرجت برلنت من المكان، وعبرت من الممر صوب الخارج في الوقت الذي كانت فيه فتاتين تقفان في أحد الأركان وواحدة تصرخ في الأخرى بشكل جنوني، جعلها تقترب بغية مساعدة الأخرى لكنها توقفت حينما سمعت لهجة الفتاة التي تصرخ تقول :
” أنتِ ذات عقلٍ صلب، بالله عليكِ كهرمان كيف تجرأتي على مثل تلك الفعلة ؟؟ جناح الملك ؟؟ هل جننتي ؟؟ أخبرتك مئات المرات ألا تجذبي لكِ الإنتباه هنا، لتأتي وتستحمي داخل مرحاض الملك ؟؟”
صمتت ثم صرخت بعدم تصديق :
” مرحاض الملك كهرمان ؟؟”
شهقت برلنت بصوت مرتفع وهي تسمع لتلك الكلمات بصدمة كبيرة، وقد انتبهت لها زمرد التي استدارت لها بسرعة متسعة الأعين، فتحت فمها بصدمة تشعر بأنها سقطت في ورطة ..
عادت برلنت للخلف تحاول الهروب من نظرات زمرد المرعبة وهي تقول :
” أنا… أنا لم أقصد أن أسمع ما قلته و…”
وقبل أن تتكلم كلمة واحدة اندفع جسد برلنت للجدار بقوة مخيفة وهناك خنجر وضع على رقبتها، وعيون زمرد أمامها تطالعها بشر وهي تفكر أن الأمر سهل، وقد نفذت ما تريد دون جهد، ما بالها لم تحسن ذلك مع تلك الصخرة التي قابلتها ؟
تنفست بصوت مرتفع تهمس لبرلنت :
” إن تحدثتي بكلمة مما سمعتي للتو سوف انحر رأسك تلك ؟؟”
اتسعت عيون برلنت وهي تنظر الخنجر تبتلع ريقها قبل أن تقول بكل بساطة :
” حسنًا كان يمكنك طلب ذلك دون أن تفعلي كل هذا، فإن كان أمر استحمام صديقتك داخل مرحاض الملك مريب، فأن تحمل عاملة خنجرًا وتسير به بين ممرات القصر تهدد الجميع لهو أمر مريب أكثر ”
اقتربت كهرمان تحاول دفع زمرد للخلف :
” هيييه زمرد دعي الفتاة لا تخيفيها ”
ابتسمت برلنت تبعد الخنجر عن رقبتها تقول بجدية :
” نعم زمرد اسمعي حديث رفيقتك، فأنا لست من ذلك النوع الذي يرتجف عند رؤية خنجر ”
أبعدت زمرد الخنجر عن رقبتها ببطء وهي تتساءل، ما بال الجميع في هذا القصر لا يهابون خنجرها، تقسم أنها كانت تتسبب في ارتجاف الرجال من قبيلتها قديمًا .
نظرت لهما برلنت بفضول وبسمة واسعة فضولية :
” إذن مما تهربان أنتما ؟؟”
___________________
فتحت تبارك باب المنزل وهي تشعر يجسد سالار يمنع ضوء المصابيح خلفه من الوصول لها، كان من الكرم الذي جعله يسمح بالمجئ وإحضار ما تريد، وها هي تقف في غرفتها وهم يجلسون جميعهم في بهو المنزل .
جلست على الفراش تفكر هل حقًا ستفعل هذا الجنون ؟؟ ستذهب مع رجال غرباء خطيرين إلى مكان غير موجود سوى في خيالهم الخصب فقط ؟؟ يالله هذا انتحار .
مسحت وجهها، تشعر بعجز وحدتها، ماذا لو كانت تمتلك عائلة الآن؟! اشخاص يحبونها ولن يسمحوا برحيلها، ابتلعت ريقها تحدق في الغرفة حولها ولم تملك سوى أن تجاربهم وتتظاهر أنها ستذهب معهم وحينما تحين لها الفرصة تهرب منهم، ستأخذ كل ما تحتاجه لبدء حياة جديدة بعيدًا عن المكان، فقد علموا بالفعل أين تسكن بفضل العم متولي .
نعم هذا العجوز الخرف، ليت الإنجليز تخلصوا منه فقط وأحرقوا مكتبته، سامح الله ذلك العجوز الخرف .
بدأت تجمع جميع أوراقها الشخصية، وجميع الأموال التي جمعتها خلال حياتها والتي لم تكن بالكثيرة حقًا، لكنها قد تكفيها للأكل والمبيت بأحد الاماكن المتواضعة ليومين أو ثلاثة ..
وضعت بعض الثياب الجديدة وتركت تلك المهترئة، حملت مصحفها الخاص وبعض الكتب العزيزة على قلبها، ثم تحركت خارج الغرفة تراهم يجلسون بتحفز، عدا سالار الذي كان يقف مكتفًا ذراعيه يحدق في المكان حوله يشرود وحينما انتبه لها تحرك ينتزع الحقيبة منها يشير لها أن تتحرك أمامه، هي من جنت على نفسها، يقسم أنه جاء هنا وتعهد أن يعود بها راضية، لكن إن كانت تريد أن تسير الأمور بالطريقة الصعبة، إذًا لها ما تريد …
تنفست تبارك بارتجاف ترى الحقيبة بين يده، قالت بصوت منخفض وهي تحاول انتزاعها من بين أصابعه :
” لا معلش أنا .. أنا هشيلها ”
رفض سالار بصرامة يقول بهدوء مشيرًا للباب :
” من بعدك مولاتي ”
رمشت تبارك تشعر بالعجز، تسير للخارج أمامه، تسمع صوت غلقه للباب، ومن ثم صوت خطواتهم يسيرون خلفها على الدرج، ولم تكد تخطو درجة إضافية حتى سمعت صوت خلفها يقول :
” رايحة فين يا تبارك ومين دول يا منيلة ؟؟”
استدارت تبارك بسرعة تلمح وجه جارتها التي كانت دائمًا تمثل لها شوكة في خاصرتها، لكنها الآن في أشد الحاجة لها، ابتلعت ريقها تركض صوب الاعلى تدفع سالار جانبًا صارخة بصوت مرتعب :
” بلغي البوليس يا خالة الله يكرمك، دول …دول عايزين يخطفوني، بلغي البوليس بسرعة ….”
_______________________
ربما تأتيك فرص الحياة على هيئة مصائب، كي تنبذها بكل ثقة وتنفرها، فتبتسم الحياة بخبث وتخبرك ببراءة مزيفة ( ها أنظر، منحتك فرصة ذهبية وأنت رفضتها بملء إرادتك، فلا تأتي وتتذمر من الحياة، أنت هو الملام الوحيد )..
لكن ماذا لو كنتَ من الغباء ما يجعلك تقبل بتلك الفرصة التي تتخفى في ثوب كارثة ؟؟
وفي النهاية تذكر ( هي حرب إما أن تنتصر أو تنتصر، لا خيار ثالث أمامك)
يتبع….
خطى قاعة التجمع بخطواته المهيبة، واعينه جامدة لا يظهر شيء على وجهه، فقط ملامح منقبضة وقبضة مشتدة، وجسد منتصب يوضح لك كمّ الغضب الذي يملئ جسده في تلك اللحظة .
نهض جميع مستشاري الملك، ومعاونيه، باحترام شديد، في الوقت الذي عزف فيه بعض ملوك الممالك الأخرى عن ذلك..
فهم مثلهم مثل إيفان ملوك لممالك ليست بالهينة .
ابتسم إيفان لهم بسمة صغيرة يرتاح على مقعده في حين تبادل ملوك الممالك الأخرى نظرات غامضة، لكن إيفان والذي فهم ما يرمون إليه من تلك النظرات، قال بهدوء شديد :
” مرحبًا بكم في مملكتنا المتواضعة ”
ابتسم له آزار ( ملك مملكة آبى ) يجيب بسخرية مبطنة وكلمات غاضبة تظهر جيدًا ما يكنه داخل صدره :
” نعم متواضعة، ما بال تلك المتواضعة تحاول أن تتحكم في ممالكنا ملك إيفان ؟؟ ما شأنك وحدودي ؟؟”
رفع إيفان حاحب واحد يهز رأسه بهدوء، ثم قال دون أن يستدير صوب محدثه وبكل سلام نفسي وبسمة ناعسة بعض الشيء :
” هل وضعت جنود على حدود آبى دانيار ؟؟”
دار دانيار بنظراته داخل القاعة ثواني، ثم تركزت نظراته على آزار يقول بجدية وملامح قُدت من صخر :
” العفو مولاي، نحن لم نطأ رملة واحدة من رمال آبى، نحن فقط وضعنا الجنود في الجزء الخاص بنا من الحدود ”
حرك إيفان كتفه بهدوء شديد وقال ببساطة وعدم اهتمام بما يحدث حوله :
” جيد إذن، فنحن لا نطمح لبناء عداوات مع الجيران دانيار، تأكد ألا يمس الجنود حبة خردل داخل أراضي آبى ..”
صمت ثم قال بشبه ببسمة وصوت خافت شبه مسموع :
” إلا بأمرٍ مني ”
وعند نطقه لتلك الكلمة انتفض آزار ومعه ولي عهده يصرخ بصوت جهوري مرعب رجّ القاعة بأكملها وتسبب بتحفز أجساد جميع مستشاري الملك وجنوده :
” إيفان التزم حدودك واعلم مع من تتحدث ”
نهض إيفان يجابهه طولًا بل يتفوق عليه بالبنية الجسدية الشابة_ على عكس ملك آزار _ وقد نهض كذلك جميع جنوده يقول بصوت جهوري قذف الرعب في قلوب الآخرين :
” أنا التزم حدودي المعروفة ملك آزار ولم اتخطاها، هذه أرضي وأرض ابائي أفعل بها ما أشاء واضع جنودي حيثما أريد ولا يحق لك أو لأيًا كان التدخل في سياسات مملكتي ”
بُهت وجه آزار، وعلى التعجب وجه ولده الذي قال بتسائل مستنكر :
” ما الذي ترنو إليه ملك إيفان؟؟ نحن لسنا بأعداء ولسنا هنا لنتقاتل معك، بل فقط جئنا لنتناقش بشأن ما حدث لمشكى ”
اجاب إيفان بملامح سوداوية مخيفة وصوت يقطر ظلامًا، وهو ما يزال يحدق في وجه آزار :
” أسأل والدك يا عزيزي ما الذي يرنو إليه هو من خلف كلماته التي يلقيها في وجهه وتعديه عليّ داخل مملكتي، احضرتكم هنا لنعلم القادم، لا لنتقاتل ”
اشتدت جميع الأعين وتحركت صوب آزار الذي كان ينظر بأعين إيفان بشكل مرعب، وايفان لم تتحرك منه عضلة واحدة يستمتع بتلك الهمسات التي علت جوار أذنه.
وآزار أظهر شرًا واضحًا و وقد على الغضب ملامحه، هو جاء ليتناقش معهم في أمر مشكى، ما الذي فتح كل تلك الأمور والنقاشات التي تحدث ؟؟
ابتسم لهم إيفان جميعًا ثم قال بصوت مرتفع وكلمات صارمة لا مزاح بها وبلهجة شديدة التوعد وبكلمات مقصودة تخفي خلفها الكثير، فصمته لا يعني جهله لما يُحاك خلف ظهره :
” لا تعتقدوا يومًا أنني غر يمكنكم خداعه كما فعلتكم مع ملك مشكى فقط لصغر عمره، أنا صغير لكنني افوقكم جميعًا بالتفكير، واظن أن هذا توضح لكم العديد من المرات؛ لذلك إياكم أن يجرأ أحدكم على تجاوزي أو التقليل من شأني وإلا أعلنتها حربًا على الجميع ولن اهتم ….”
صمت ثم همس له بصوت مخيف :
” فأنا اشتقت لساحة المعركة، وتتوق قبضتي لحمل السيوف كأيام الخوالي، ولا أعتقد أن سالار سيمانع أن يقود الحرب بنفسه، أنت تعلم أنه يحب تجميع ارقام جديدة ويحصي انتصارات أكثر وقد تمثل له حربًا مع مملكتك اغراءً لا يقاوم خاصة بعد آخر حديث لك معه ملك آزار”
ابتسم آزار بسمة لا تبشر بالخير، ومتى كان الخير خيارًا في عصر ذلك الملك الذي حكم مملكته بقبضة من حديد، تجبر وقسى، لكنه في المقابل صنع مملكة تنحني لها أعتى الروؤس، ومقابل ذلك ما جنى يومًا شكرًا أو كلمة حسنة من شعبه الجاحد الناكر لجميع افضاله، فهو أول من وضع قانون الإعدام لمن يرفض تسليم نصف امواله سنويًا للبلاد، وكان يأخذ نصف محصول الفلاحين جميعهم للجنود، ويُلزم شعبه أن يعملوا ويكدوا ليلًا نهارًا فقط لأجل بناء الدولة ولأجل اسعاد رجاله وجنوده ايضًا.
يطالبهم بالتنازل، وهو يومًا لم يتنازل لاجلهم، لم يدفع فلسًا واحدًا من جيبه، ببساطة هو حوّل شعبًا حرًا لعبيد له ولجنوده .
بنى جيشًا قويًا، لشعبٍ سقيم…
اهتم بالجدار، وتناسى العمدان…
هز آزار رأسه يقول بهدوء وبسمة جانبية غريبة :
” لك ما تريد ملك إيفان، لنتحدث في أمور مشكى ”
ومع انتهاء كلماته جلس الجميع مجددًا، وعلى الهدوء قاعة الاجتماعات مجددًا، ليقطع ذلك الهدوء صوت ملك مملكة ” سبز ” الذي قال بصوت خافت هادئ :
” وصل لي ما حدث بمملكة مشكى بأكملها، وقتل جميع أفراد الأسرة الحاكمة وهذا يجعل مشكى في يد المنبوذين ”
صمت ثم نظر لايفان وقال :
” ما رأيك ملك إيفان ؟!”
ابتسم له إيفان بسمة غامضة يجلس بكل راحة ينظر له بود شديد، فقد كان ذلك الملك من اوائل حلفائه، بل وكان صديق لوالده منذ القديم ..
لكن وقبل أن يبادر بالرد سمع الجميع صوت الملك آزار يقول بهدوء شديد وبنبرة قوية لا يُستهان بها، بل وغاضبة أشد الغضب لضياع مملكة صديقه وحليفه الأول، فمملكة مشكى هي الأقرب له من بين الممالك :
” ماذا تعتقد أنت ؟! مملكة بحجم مشكى تسقط بكل سهولة من مجموعة حفاة عراة لا عدة لهم ولا عِداد، بل ويقتلون جميع من بها بكل سهولة، بالله عليكم من الواضح أن هناك من ساعدهم في ذلك ”
كان آزار يتحدث بغضب جحيمي وهو ينظر صوب إيفان، بينما إيفان نظر له متحديًا وبقوة لا يحيد بنظراته عنه :
” الصراحة من شيم الرجال ملك آزار، توقف عن التلميح وألقى ما بجعبتك ”
ضرب آزار الطاولة بقوة مخيفة حتى كاد الخشب المصنوعة منه يتحطم تحت قبضته :
” جميع من بالقاعة هنا يعلم بعداوتك مع مملكة مشكى وخلافاتك مع ملكها، حتى أنك توعدت له يومًا بالقتل والخراب ”
اعتدل ملك سبز في جلسته يرى أن الحديث سيأخذ منحنى آخر لن يعجب احدهم، وقد حدث ما اعتقده، إذ انتفض دانيار بقوة يصرخ بوجه آزار دون وضع اعتبار أنه ملك ..
” هل تتهم ملكنا بالتواطؤ مع هؤلاء الخنازير ملك آزار ؟؟ تتجرأ وتلقي هكذا تهمة في وجهه وفي عقر داره؟”
نهض آزار كي يجابه كل ذلك وداخل صدره احتراق من حقيقة أن مملكة صديقه سقطت وجميع أفراد عائلته كذلك :
” أنا أقول لكم ما يعلمه الجميع ”
وفي ثواني كانت العديد من السيوف تحيط بآزار الذي احمرت عيونه غضب يرى انتفاضة جسد ولده جواره والذي صرخ بجنون :
” هذا تعدي منكم على ملكنا، وهذه بمثابة حرب ملك إيفان ”
نظر إيفان بهدوء مثير للأعصاب جنوده يأمرهم بالتراجع، ثم قال بكل بساطة :
” لا بالطبع نحن لا نطمح للحرب أمير نزار، لكن يبدو أن الملك آزار يفعل، أن تتهمني في مملكتي بالتعاون مع أعداء الله فقط بسبب وجود خلافات بيني وبين مشكى لهو أمر مرفوض لي، أنا لم اجعلكم تتكبدون عناء المجئ هنا كي نتقاتل ونلقي بالاتهامات أعلى رؤوس بعضنا البعض، رجاءً اجلسوا كي نتحدث بهدوء ”
ختم حديثه يشير لجنوده بالتراجع كليًا، ثم حدج دانيار بتحذير والأخير انحنى بعض الشيء يجلس مجددًا، وحينما استقر الجميع تنهد ملك سبز يقول بهدوء وقد كان هو أكثر الملوك ميلًا للسلام، فما كانت دولته يومًا دولة قتالية، بل هي دولة زراعية من الدرجة الأولى :
” إذن نحن هنا للتحدث بأمور مشكى ومعرفة ما سنفعل، علينا إعادة المملكة والبحث عن فرد من أفراد العائلة المالكة كي نسلمه العرش، كل ذلك قبل أن تسوء الأمور أكثر وربما تفشل جميع النقاشات، و نضطر للحرب مباشرة.”
هز إيفان رأسه ببسمة واسعة مخيفة :
” نحن لا نضطر للحرب، بل نختار الحرب بكامل إرادتنا مولاي، فمثل هؤلاء الشراذم لا حديث لنا معهم، ولن تجمعنا بهم طاولة نقاش”
ابتسم له الملك يرى ملامحخ الهادئة والباردة بشكل يدعوك للفخر به وبتفكيره، ليمازحه بخفة :
” إذن اقترح أن تُسرع من عودة سالار، فلا أظن أنه سيحب تفويت حرب كتلك ”
اتسعت بسمة إيفان يقول :
” أنت تعلم مولاي أن لا أحد يستطيع التحكم بكامل قوات الجيش عدا سالار، لذلك بالطبع لن نتخذ خطوة دونه، فقط يعود ونرى بشأن مشكى ومن بها، الآن لندعو أن ينتهي من مهمته على خير، وأن يعود بملكتي قطعة واحدة دون إصابات صعبة العلاج ….”
__________________
تتحرك بشكل قوي بين يديه تحاول الإفلات والركض صوب الطابق الخاص بشقتها حيث تقف جارتها، تمد يديها بقوة في محاولة بائسة للامساك بسور الدرج ليساعدها في جذب نفسها وثيابها من بين أنامل ذلك الضخم، تقول ببكاء وخوف :
” بالله عليك لتسبني، أنا متنازلة والله، أنا أساسا مش هنفع، والله ما هنفعكم ابدا، أنتم لو ناويين تخربوا البلد بتاعتكم دي مش هتسلموها ليا ”
جذب سالار ثيابها صوبه زافرًا بقوة وقد ملّ كل ذلك :
” أنتِ يا امرأة عنيدة ومزعجة، ولولا أنكِ الملكة هنا لكنت تخلصت منكِ”
تحدثت المرأة التي تقف في الاعلى تستند على سور الدرج وهي تلوي ثغرها في كل الاتجاهات بشكل جعل سالار يحدق فيها بأعين متسعة منبهرًا بتلك القدرة العجيبة عندها، وشعر كما لو أنه يشهد اعجازً أمامه.
” يعني حوار حلمك برجالة مطلعش كلام، وطلع حقيقة مش حلم ؟؟ ”
رمقها سالار بعدم فهم، عن أي حلم تتحدث تلك المرأة، هل تحلم ملكتهم بالرجال ؟!
نظر صوب تبارك التي كانت ترتجف بغضب وعيونها تتقد غضبًا وهي تسمع حديث المرأة :
” مين ده يا منيلة وماسكك كده ليه؟ والله أنا طول عمري اقول عليكِ واحدة ملاوعة ومش مظبوطة ”
اتسعت عيون تبارك بصدمة من حديثها، وهي من كانت تستجير بها منذ ثواني، بالله كانت تستغيث بها، تطالبها بمساعدة وهي تدري أن تلك المرة إن وجدتها مقتولة على يد رجل، ستترك الجريمة والرجل وتلوي ثغرها مستنكرة أنها لم تجد سوى الرجل لتمت على يده، وهل انعدمت النساء ليعجزن عن قتلها ؟!
فجأة انفجرت في الصراخ وقد شعرت بالقهر والحسرة ترتفع في نفسها والعيظ يملئ صدرها :
” أقسم بالله أنك ست مش محترمة، يعني بستنجد بيكِ وشيفاه بيجرجرني من هدومي زي الدبيحة وتقولي عليا ملاوعة، الملاوعة دي تبقى امـ”
وقبل أن تكمل تبارك كلمتها صرخت بصوت مرتفع وهي ترى صمود قد وصل في ثواني عند السيدة ورفع عليها سكينًا ينظر للعملاق خلفها قائلًا :
” هل اتخلص منها سيدي ؟؟”
نظر لها سالار ثواني، ثم نظر لتبارك يتساءل :
” ما رأيك مولاتي، تريدين التخلص من صاحبة الفم المتموج تلك ؟؟”
لكن تبارك كانت ما تزال غارقة في صدمتها مما حدث، وفجأة، ابتسمت وهي تمسح دموعها بسرعة كبيرة كطفلة حازت حلواها المفضلة بعد ساعات من البكاء :
” هو أنا يعني لو قولتلك تقتلها هتقتلها عادي ؟!”
هز سالار رأسه بكل بساطة ونسي أنه ليس في مملكته لتسير قوانينه هنا على الجميع يقول :
” إن كانت سيئة أو مخطئة تستحق الموت فنعم سنفعل”
ابتلعت تبارك ريقها تبتسم وقد اعجبها الأمر كثيرًا :
” طب هو …هو أنا لو قولتلك تقتل حد عشاني، هتعمل كده ؟؟”
نظر لها بعدم فهم، لكنه أجاب ببساطة :
” من ؟”
اتسعت بسمة تبارك تتنفس بلهفة :
” كل اللي في الحارة، عايزة اخلص عليهم كلهم، واولهم الست دي وعم متولي ”
” هل هم مذنبون أو ارتكبوا إحدى الكبائر ؟؟
فكرت تبارك لثواني، هي حقا لا تعلم، لكنها تكرههم، تكرههم من اعماق اعماق قلبها :
” معرفش ”
” إذن لا يمكننا، حينما نتأكد يمكننا تنفيذ الحد عليهم، لكن دون شهادة حق أنهم اذنبوا فلا يمكننا، دعها صمود ولنرحل فلدينا رحلة عودة طويلة ”
ختم حديثه يتحرك على الدرج يسحب معه تبارك التي أشارت على السيدة التي سقطت ارضًا ترتجف من هول الموقف :
” طب والست أم بؤق متموج ؟! على الاقل عم متولي أنت فاكرة الراجل الخرفان بتاع المكتبة اللي لسه عايش في جلالة الماضي ده ”
لكن لم يستمع لها يدفعها للخارج وخلفه مرشديه، وهي فقط تسير بخيبة أمل كبيرة، هل سترحل هكذا بكل بساطة قبل أن ترى بعيونها هلاك ذلك المكان القذر بمن فيه ؟؟
فجأة توقف الأثنان بصدمة بسبب امرأة قاطعت طريقهم تقول ببسمة واسعة وهي تجذب خلفها طفل ضعيف البنية طويل القامة بملامح غير مهتمة :
” تبارك كويس إني لحقتك، تعالي ادي الواد انور الحقنة لاحسن المفروض كان ياخدها امبارح وملقتكيش قالوا أنك كنتِ مبيتة في المستشفى ”
نظرت لها تبارك بملامح حانقة كارهة لكل شيء واولهم ذلك العملاق الذي يحدق فيهم بعدم فهم وكأنه يتساءل عما يفعلونه، زفرت ولم تعلم بما تتحجج، فقاطعت أم أنور كل ذلك تمد يدها بالابرة تدسها بين يديها، ثم جذبت ابنها توقفه بينهما وهي تقول :
” يا ختي خلصينا هي كيميا ”
وبمجرد انتهاء كلمتها مدت يدها لتسحب ثياب ابنها كي تنتهي من الأمر وترحل، لكن فجأة أطلق سالار صرخة جهورية يجذب تبارك خلفه يضع كفه أعلى عيونها قائلًا بصدمة مما يحدث أمامه :
” يــــالـلــه يا مــــغــــيــــث …”
______________________
كانت تتحرك بين حدائق القلعة براحة شديدة، ليس وكأنها لم تنتهي بعد من عملها في الداخل، بل وأن رئيسة العمال تبحث عنها لإتمام ما وكّل لها، لكن هي هكذا تعشق الحرية، وتحبها أكثر إن كانت في وسط معمعة العمل، لكم هي محبة لتلك النشوة الداخلية وهي ترى الجميع يعمل وهي تهرب منهم ..
ابتسمت تتذكر ما حدث معها منذ ساعات حينما كادت تلك الفتاة الغريبة المسماه زمرد أن تجز عنقها، حمدًا لله أنها كانت من التعقل كفاية لتهرب منها.
فجأة وخلال شرودها أبصرت من بعيد أحد الفرسان يعتلي خيله ويركض به بسرعة كبيرة بين المروج وكأنه يمتلك الكون بأسره، يمارس الحرية مثلها، لكن حريته كانت أكثر متعة من خاصتها…
التمعت عيون برلنت وهي تنظر حولها بأعين حذرة، ثم وفي حركات متمردة، خلعت غطاء الرأس، ثم شرعت تخلع عنها تلك الطبقات الإضافية من الملابس والتي كانت خاصة بزي العاملات، وتركض بفستان رقيق بسيط جدًا مكون من طبقتين، صوب ذلك الخيّال الذي جعلها تبتسم بانبهار لفروسيته الواضحة، تركض بين المروج وحينما أصبحت في محيطه نظرت حولها بفضول شديد وقد قررت أن تراقبه علها تتعلم ما يفعل ويومًا ما تأتيها الفرصة لتعتلي فرسًا مثله .
فجأة التمعت عيونها بقوة وهي تصعد الشجرة المجاورة لها بسرعة كبيرة متمرسة، إذ كانت متمرسة في ذلك منذ طفولتها حين مساعدتها لوالدها في الحصاد .
وحينما استقرت فوق الشجرة ابتسمت تراقب بأعين منبهرة ذلك الفارس الذي كان يقود الفرس بمهارة منقطة النظير، عيونها فضولية وهي تراقب جسده القوي :
” لا عجب أنه بمثل هذا التمرس ”
وعند ذلك الفارس.
كان العرق يتصبب على جبين تميم بقوة كبيرة يسرع من ركض فرسه أكثر وأكثر، يجبره على الوقوف على قوائمه الخلفية متحكمًا فيه بكل مهارة .
لكن فجأة وهو بذلك الوضع لمحت عيونه الرمادية التي تتوسط وجه قمحي اللون، جسد صغير يختبأ بين الأشجار على مقربة منه، ضيق عيونه بتعجب كبير وفي ثواني غير طريق الفرس بسرعة كبيرة متحركًا صوب ذلك الجسد بسرعة مرعبة .
سرعة جعلت جسد برلنت يختض وينتفض بسرعة صارخة من ذلك المشهد وكأنه على وشك اختراق الشجرة وجسدها بحصانه، لكن ما لم تحسب له حسابًا هو أن اختضاض جسدها تسبب في ابتعادها عن فروع الشجرة وتهاوي جسدها بقوة..
أطلقت برلنت صرخات عالية مرتعبة تغمض عيونها، تستعد للاصطدام والذي كانت تدرك أنه لن يكون سهلًا، لكن ثواني مرت …ولا شيء ؟
ما الذي حدث ؟! هل أنقذها ذلك الفارس المقدام الشجاع ؟! هل تتحقق أحلامها الآن وحازت فارسًا شجاعًا وسيمًا ؟؟
فتحت عيونها بخجل شديد وقد بدأ وجهها يتورد شيئًا فشيء تهمس وهي تشعر باشتداد ثيابها من الخلف وقد خرج صوتها هامسًا خجلًا تحاول الإفلات من قبضته:
” خفف قبضتك أيها الفارس فثيابي رقيقة قد تتمزق بين أناملك ”
رفع تميم حاجبه وهناك بسمة جانبية ارتسمت على وجهه، حك طرف أنفه في حركة معتادة منه، يراقب تلك الواهمة التي منعت الشجرة سقوطها، حينما علقت ثيابها في أحد فروعها لتظل معلقة كالخروف عند سلخه ..
” حسنًا أيتها القردة، يمكنني تخفيف القبضة لأجل ثيابك العزيزة ”
ضيقت برلنت ما بين حاجبيها تشعر بأن صوته مألوف، مألوف للغاية على آذانها، ذلك الصوت الذي لم تسمعه سوى مرتين، وفي كلتا المرتين لم يكن لخير .
فتحت عيونها ببطء لتتحطم أحلامها على صخرة الواقع حينما ابصرته، ذلك المخبول الذي ألقاها بقنبلة في لقائهم الاول ..
وقبل أن تبادر بقول كلمة واحدة كان تميم قد أخرج سيفه وفي ثواني معدودة قطع الجزء العالق بالفرع مسقطًا إياها بقوة مرعبة جعلت صدى صرخاتها يرن في المروج حولها ..
وهو فقط ابتسم بلطف يقول :
” لا داعي للشكر ”
تنفست برلنت بوجع وهي تمسك ظهرها تطلق تأوهات ولعنات وسبات ومن ثم رفعت وجهها لتميم الذي كان يراقبها بكل هدوء تصرخ في وجهه بجنون :
” أنت….. أنت أيها المخبول، ما الذي فعلته ؟! لقد مزقت ثيابي، كيف …كيف سأعود الآن ؟؟”
نظر لها ثواني ثم هز كتفه بجهل :
” لا ادري بشأن ذلك حقًا، أنا فقط ساعدتك وهنا ينتهي دوري ”
وقبل أن يتحرك أوقفته بسرعة وبانفاس لاهثة :
” لا لا مهلًا انتظر أيها الـ ..”
نظر لها تميم شذرًا لتصحح ما كادت تقذفه في وجهه:
” أيها القائد، انتظر ارجوك، أنا فقط لقد ..”
أشارت على الطريق الذي جاءت منه تقول برجاء وتوسل :
” هناك بجانب ذلك المبنى الصغير تركت ثياب العمل العلوية، هلّا تكرمت واحضرتها لي كيف اخفي القطع في ثيابي ”
” ولِم من المفترض أن أفعل هذا ؟!”
” هذا لأنك فارس شهم وذو مروءة وضميرك لن يسمح لك بترك فتاة شابة مثلي تسير بثياب ممزقة داخل جدران مليئة بالرجال ”
نظر لها تميم ثواني وهو يضيق عيونه، ثم تحرك بخيله في بساطة شديدة يحرك كتفه :
” بلى سأفعل ”
وبالفعل ابتعد عنها تاركًا إياها تنظر في أثره بأعين متسعة وقد شعرت بالصدمة من تصرفاته، يا الله من أين ينحدر امثال ذلك الحقير القذر عديم المروءة والرجولة؟؟ لِم يوقعها حظها طوال الوقت مع امثال ذلك الرجل ؟؟
_ لا سامحك الله أيها الاحمق الفاشل، ويسمونك صانع أسلحة، بل انت صانعٌ للخيبة والـ …”
وقبل أن تكمل كلمتها وجدت فجأة ثياب العمل تسقط فوق رأسها بقوة وصوت من بعيد يهتف بنبرة عالية وقد قذف لها الثياب من مكانه:
” لنعتبر هذا تعويض صغير عما نالك من قنبلتي يا قردة، واحرصي ألا اقابلك مجددًا ”
ختم تميم كلماته ببسمة يتحرك بفرسه تاركًا إياها تزفر بصوت مرتفع تضم الثياب لصدرها وقد شعرت بشعلة غضب كبيرة تتلبسها :
” أيا ليت تتقاطع طرقنا، فاقطعك بأسناني يا فاشل ”
_________________________
حسنًا هي لا تبتأس، حقًا لا تفعل، فلأول مرة منذ لمحت وجه ذلك الاصهب العملاق يعجبها شيئًا فعله، أن ترى أم أنور ترتجف رعبًا بعدما وبخها لفعلتها، بل وتمسك يد ابنها وتهرول صوب منزلها وكأن الشياطين تركض في أثرها، لهو مشهد مستعدة لمشاهدته يوميًا دون كلل أو ملل.
ورؤية نساء الحارة اللواتي تحدثن في الأمس عنها بالسوء يرتجفن خيفة رفع عيونهن في وجهها، لهي متعة خالصة تستطيع تذوقها دون شبع .
شريرة ؟؟ نعم بل في غاية الشر حينما يتعلق الأمر بأهالي حارتها..
شاهدت المنقطة التي عاشت بها سنوات طويلة وهي تلوح لها من بعيد، وداخلها مشاعر عدة، لا تدري سعادة أنها تخلصت من منطقة كانت تسبب لها خنقة وتعب نفسي، أم حزنًا لترك ما خزنته من ذكريات في منزلها الدافئ الصغير، أم هو خوف من مستقبل مجهول غريب مع أشخاص في غاية الغرابة، أم ندم أنها لم تصرخ وتخبر الجميع أنها خُطفت ؟؟
حسنًا ربما تفكر في إجابة لكل هذا حينما تستيقظ من تلك الغفوة التي تُلح على عقلها برفع رايات الاستسلام لها، ومن هي لتعاند أو تقاوم، ولِم تقاوم من الاساس وهي تود الهرب من كل ذلك بالنوم ؟
تنفست بصوت مرتفع تشعر بالسيارة تتهادى فوق الارض الغير متساوية، ولا تدري من أين احضروها حتى أو كيف تدبروا أموال لاجلها، هي فقط تستمتع بهذه الغفوة قبل أن تستيقظ لتواجه العالم، والآن نامي تبارك وغدًا تواجهين العالم بكل قوتك .
كان سالار يراقبها بأعين غامضة تعلوها سحابة من السواد يخفي خلفها كل ما يفكر فيه وما يريده، يشعر نحوها بالتشتت، فهو يومًا لم يكن بالهين اللين، ولو كانت امرأة أخرى كان أخرج سلاحه وانتهى منها ومن كل ما تفعله من كوارث، لكنها وللاسف الشديد ملكة لمملكته .
تنهد يريح ظهره للخلف يراقب ذلك الرجل الذي أرسله حليفهم في هذا الجانب كي يتحركوا للعودة، العودة التي لن تكون سهلة أبدًا خاصة بوجود امرأة ضعيفة كالملكة .
نظر صمود صوب صامد يهمس له بصوت مكتوم وعيونه ما تزال تحلق حول سالار وتبارك :
” إذن هل تعتقد أن تلك الفتاة ستصبح حقًا ملكة علينا ؟؟ أنها ضعيفة و…غبية ؟؟”
ابتسم صامد بسخرية لاذعة ثم نظر هو الآخر صوب تبارك يقول بحنق :
” يا عزيزي حينما تنضج ستكتشف أن الاغبياء فقط هم من يتقلدون مناصب داخل مملكتنا، أما الاذكياء أمثالنا مهدور حقهم ”
” نعم أنت محق صامد، أشعر بالظلم، لطالما تجاهلونا ولم يفكروا بنا إلا حينما يودون القيام بمثل تلك الرحلات المملة، لو أن هناك ذرة عدل في هذه المملكة لأصبحت اليوم قائد الجيوش ”
تحدث سالار بصوت منخفض وهو ما يزال يستند برأسه على المسند خلفه ونبرته خرجت هادئة مرعبة تحمل وعيدًا بالهلاك لهما بعدما استنزفا كامل فرصهم معه :
” نعم يا صمود، أنت محق، نحن مملكة قامت على الغباء والظلم، لأنه لو كان هناك ذرة عدل واحدة لكنتما الآن تتحاسبان في قبركما، لكن ماذا نقول وقد تفشى الظلم بيننا لدرجة أننا نترك بعض الاغبياء مثلكم احياء يرزقون”
ابتسم له صمود بسمة غبية يعتدل في جلسته :
” لا لا يا سيدي العفو، أنا فقط كنت افكر بصوت عالٍ”
ابتسم له سالار ببرود شديد وملامح جامدة تبث قشعريرة داخل صدورهم :
” حسنًا، احرص إذن على إخفاء اصوات افكارك الحمقاء تلك، وإلا حرصت أنا على إخماد صوتك من هذه الحياة كليًا ”
وبهذه الكلمات صمت الجميع ولم يعلو سوى صوت الأنفاس في السيارة التي يقودها أحد رجال معاونهم، وسالار ما يزال يجلس يحدق بالطريق في الخارج يتعجب مقدرة هؤلاء البشر على تعريض بيئتهم لمثل ذلك التلوث مستخدمين تلك القطعة الصفيح في التنقل، وهو من تسائل عن ثقل الهواء منذ وطأ تلك الأرض، لا ينسى صدمته حين ابتلعته تلك العلبة الصفيح الضخمة وتحركت به، الأمر أشبه يحصان لكن امتطاء الحصان افضل بكثير …
تنهد بصوت يمسح وجهه مفكرًا في القادم، بالله ما الذي أوقع نفسه به ؟؟ أما كان بقادرٍ على قول لا فقط وتجنب كل تلك المشقة ؟؟
نظر بطرف عيونه صوب تبارك يقول بحنق :
” وأنتِ تنامين براحة وكأننا في رحلة، ومنذ دقائق كدتي تقسمين رأسي من صراخك وبكائك ..”
وقبل أن يضيف كلمة لجملته السابقة، شعر بتوقف قلبه للحظات، لحظات قليلة اختبر جسده ولأول مرة كيف يكون شعور أن تمسه امرأة ولو كانت لمسة عابرة غير محسوسة، ابتلع ريقه مبعدًا عيونه عن الطريق، ثم استدار ببطء شديد صوب رأس تبارك التي استقرت أعلى كتفه، بلل شفتيه يفكر في طريقه لابعادها دون أن تستيقظ كي لا تصرع رأسه بالصراخ والعويل والنحيب بعدما واخيرًا توقفت عن كل ذلك.
واخيرًا هداه عقله أن يخرج خنجرًا من ثيابها، ويضعه بالجزء الخلفي على رأسها دافعًا إياها به ببطء شديد، لكن تبارك وكأنها استشعرت أن أحدهم يحاول تخريب راحتها فضربت يده بقوة دون شعور تعود مجددًا لذلك المكان المريح الذي تنام به .
وسالار ضم كفه الذي ضربته منذ ثواني له يرمش بقوة وصدمة شديدة، ابتلع ريقه وقد زاد إصراره على إبعاد تلك الرأس عنه وكأنها جرثومة أو ميكروب يخشى أن يتسربوا لمسامه ويتسببوا بكارثة في جهازه المناعي .
مجددًا وضع الخنجر على رأسها يدفع رأسها ببطء شديد وحذر، لكن فجأة فتحت تبارك عيونها بقوة لتبصر أول شيء أمامها هو خنجر موجه لرأسها، نظرت لسالار وهو نظر لها بصدمة وقد علم أنها الآن ستستغل ذلك وتصرخ مجددًا ..
ابتلع ريقه ولم يكد يتحدث بكلمة يبرر بها ذلك الوضع قبل أن تفكر هي في أنه يود التخلص منها وتقطيعها لبيعها أعضاء كما تردد، وهذا ما يجعله يفكر من يا ترى سيشترى أعضاء انسان ؟! وماذا سيفعل بها ؟؟ هل يتناولون لحوم البشر هنا ؟؟
نظرت تبارك للخنجر ثواني إضافية قبل أن تقول بصوت ناعس غير واعي لما يحدث :
” وصلنا ؟!”
نفى برأسه في هدوء شديد لتتنهد هي براحة وتعود للنوم، دافنة رأسها في ذراعه، ضاممة إياها لصدرها في براحة شديدة وهو عيونه اتسعت أكثر وشعر بقرب انفجاره مما يمارسه على نفسه من ضغط كي لا يبعدها للخلف بحدة، ويضرب رأسها في علبة الصفيح المتحركة، لكن وحينما بدأت تضم ذراعه أكثر، أطلق سالار صرخة معترضة جاذبًا ذراعه لصدره هادرًا بصوت مستنكر حانق :
” ما بكِ يا امرأة ستبتلعين ذراعي ”
استفاقت تبارك بصعوبة وهي تنظر له بعدم فهم، وهو انكمش في ركن السيارة بعيدًا عنها يحدجها بنظرات نارية :
” أنتِ ألا تخجلين من نفسك ؟! اعتدلي في جلستك وتأدبي، وتعلمي أن تتعاملي كملكة لا كفتاة حمقاء ”
نظرت تبارك حولها بأعين منغلقة، ومن ثم نظرت له وقالت وهي تحاول أن تفهم ما يريد :
” هو احنا عدينا على استراحة ؟! عايزة ادخل الحمام ”
_____________________
” نعم، أنت تعلم ما عليك فعله دانيار، نسق مع جيش مملكة سنز، ومن ثم انتظر عودة سالار لنبدأ الغارة نحو مملكة مشكى ”
ختم إيفان حديثه وهو يسير في طرقات القصر وجواره يسير دانيار يهز رأسه بتفهم شديد عالمًا كل ما سيفعل، وحينما انتهى من الحديث لمح دخول تميم من باب القصر ليستأذن من الملك ويرحل …
وايفان اكمل طريقه بكل هدوء يتنفس بصوت مرتفع محاولًا أن يفكر في القادم، الأمور تسوء، والمنبوذون يزدادون بطشًا، والخوف كل الخوف أن يتمكنوا من مملكة اخرى، حينها لن يكون الأمر في صالحهم أبدًا .
توقف مستندًا على سور القصر وعيونه شردت بعيدًا لا يرى أي شيء ولا يعطي انتباهه لشيء سوى افكاره الداخلية، لكن فجأة لفت انتباهه حركة غريبة في الجزء الخلفي من القصر، بعيدًا بعض الشيء حيث مزارع القلعة رأى جسدًا يتسحب ببطء بعيدًا عن العمال ..
ثم جلس على أحد الصخور بهدوء شديد ليس وكأنه يمتلك عملًا، ابتسم إيفان بسخرية :
” يبدو أن هناك من تهرب من عمله ”
وعند ذلك الجسد كانت كهرمان تنظر كل ثانية والأخرى خلفها بخوف أن تراها إحدى العاملات وتشي بها لدى الرئيسة وتجبرها على ذلك العمل المقزز .
نفضت ثياب العمل تتذمر بصوت مرتفع وبلهجتها دون حذر :
” لا سامحهم الله، لقد كادوا يلوثونني لاضطر بعدها للبحث عن مرحاض نظيف بعيدًا عن تلك المراحيض الضيقة ”
تنفست بصوت عالٍ وهي تستند على شيء خشبي خلفها تردد بينها وبين نفسها :
” سأبقى هنا لحين يتم الانتهاء من العمل في الحظيرة ومن بعدها اعود لمخدعي لاحصل على طعامي ”
ابتسمت لتلك الفكرة، تحاول تخيل ما تفعله زمرد في تلك اللحظة، تلك الفتاة لا تهدأ، كالشعلة طوال الوقت تبحث عن كومة قش لتُحدث حريقًا كبيرًا ..
وعلى بُعد صغير كان يقف إيفان الذي هبط ليبدأ مبارزته مع أحد الجنود، خلع كل ما يحمل من دروع على صدره وذراعه، ثم حرك رقبته بهدوء يتحرك ليمسك سيفه وعيونه ما تزال مع تلك الفتاة التي كانت ما تزال تجلس على الصخرة بشكل غريب، ما بالها تلك المرأة ؟؟ هل هي مريضة أو ما شابه ؟؟
نادى لأحد الجنود المحيطين به كي يرسله لها ليرى إن كانت مصابة أو شيء من هذا القبيل، لكن ما كاد يفعل حتى أبصر جسد الفتاة يسقط للخلف فجأة وقد تسبب جسدها في فتح باب الحظيرة حيث يحتفظون بقطيعٍ من الثيران .
” أوه لا ليس مجددًا”
وفي ثواني صرخ إيفان بصوت جهوري للجنود المحيطين به خوفًا أن يخرج الثيران ويتسببون بأذىة أحد داخل جدران القلعة :
” أذهبوا واغلقوا باب الحظيرة قبل خروج الثيران ”
وعند كهرمان كانت تجلس بهدوء شديد تدندن بعض النغمات الحزينة التي تذكرها بوالدتها، تتكأ بكل قوتها للخلف دون معرفة أنها تستند على باب وليس جدار خشبي كما تظن، وفجأة شعرت بجسدها يهوى بقوة على الأرضية .
تأوهت بصوت مرتفع وقد ارتفعت قدمها في الهواء وزُرعت رأسها في الأرض كنبات البصل، تأففت وهي تحاول الاعتدال وقد سقط غطاء وجهها، ولم تكد تجلس حتى سمعت صراخ بصوت جهوري .
اعتدلت بعدم فهم لتبصر بصدمة واعين متسعة مجموعة من العمال والجنود يركضون صوبها بسرعة مخيفة وكأنهم يهرولون صوب عدو في حرب ما.
نهضت كهرمان بعدم فهم تحاول ترتيب ثيابها وهي تتراجع للخلف بريبة :
” ماذا ؟؟ أنا فقط كنت التقط بعض الأنفاس وسأعود للعمل مجددًا، اقسم لكم ”
لكن استمرار ركض الجنود صوبها تسبب في تراجعها للخلف صوب الجدار الخشبي تصرخ بفزع وخوف، لكن ما لم تحسب له حساب أن ما خلفها لم يكن جدار خشبي أبدًا ..
شعرت بهواء قوي يضرب ظهرها، استدارت بتعجب لتُصدم بمنظر جعلها ترتعب أكثر من مشهد ركض الجنود والعمال صوبها، تراجعت بظهرها بسرعة كبيرة للخلف وهي ترى تحفز بعض الثيران للركض صوبها، ابتلعت ريقها ودون أن تمنح عقلها فرصة التفكير كانت تركض بسرعة كبيرة خارج الحظيرة وصرخاتها تكاد توقظ الموتى من القبور .
وعلى بعد صغير يقف إيفان بكامل هيبته يراقب الجنود يحاصرون الثيران بكل شجاعة معيدين إياهم للحظيرة واغلقوها، وتلك الحمقاء تركض في المكان صارخة بشكل جنون جعله يزداد اشتعالًا متوعدًا لها بعقاب رادع، فهو سبق وحذر أي امرأة من تخطى حدود تلك الحظيرة .
بكت كهرمان وهي تركض وتنظر خلفها، دون أن تعي أنها تجاوزت منطقة الرجال ودخلت لساحة القتال، وفجأة شعرت بجسدها يصطدم في جسد آخر بقوة لتسقط معه ارضًا لشدة اندفاعها.
وايفان قد اتسعت عيونه بصاعقة لا يصدق أن هناك امرأة تقبع الآن بين أحضانه .
هي نفسها تلك التي كانت في مرحاضه .
تمسكت به كهرمان تتوسله برعب :
” ارجوك ساعدني ”
مدّ إيفان يده يقول بصوت خافت جعل جسدها يرتجف برعب أكبر من ذلك الذي شعرت به حينما أبصرت الثيران :
” إن لم تنهضي من فوقي في هذه اللحظة، صدقيني لا يمكن لأحد أن يساعدك مما سأفعل بكِ ”
وسريعًا انتفض جسد كهرمان للخلف تسقط على ظهرها مصطدمة في جدار جانبي يتم تعليق الثياب تراقب الجسد الساقط أمامها والذي لصدمتها كان الملك.
همسات برعب وهي تحاول ابتلاع ريقها مما ألقت به نفسها :
” أوه لا، ليس هذا يا الله …”
_________________________
خرجت من المرحاض لتصطدم بوجود سالار يقف أمامها دون أن يضع في اعتباره أنه يقطع الطريق على أي امرأة تفكر في اللجوء للمرحاض، هكذا بجسده العملاق يمنعها حتى من التنفس بعيدًا عن عينيه، قلبت تبارك عيونها وهي تشير له أنها تود المرور، وبالفعل سمح لها يشير صوب السيارة الخاصة بهما التي تقف أمام تلك الاستراحة، لكنها فجأة توقفت تقول باعتراض :
” لحظة أنا …أنا جعانة وعايزة اشتري حاجة اكلها، خليك هنا وانا هشتري وأخرج على طول ماشي ؟؟”
ختمت حديثها تركض بسرعة كبيرة صوب المحل الذي يتوسط الاستراحة، تمني نفسها بطريقة عبقرية للهروب منهم، لكن صوت فتح الباب خلفها وذلك الضل الذي يشرف عليها من أعلى اخبراها جيدًا أنها لم تخمن..
زفرت تتقدم للمحل تلتقط بعض الأطعمة التي قد تعينها على الطريق، وخلفها سالار الذي كان يحدق في كل ما تحمل بأعين متعجبة يحاول استكشاف كل ما تشتريه :
” ما هذه الأكياس الملونة ؟؟”
” دي ؟؟ دي اكل عادي وتسالي وكده يعني ”
” وهل تضعون الطعام هنا في اكياس ملونة؟! بالله عليكم أي اهتمام ورعاية صحية هذه ؟؟ ”
نظرت له بعدم فهم ثم حدقت مجددًا في الطعام وقالت ببساطة :
” عادي ده بلاستيك صحي على فكرة ”
” ومن أخبرك بهذا ؟؟ ”
نظرت له ببلاهة لثواني وحينما عجزت عن الرد قررت أن تتحرك صوب الرجل لتحاسب على ما اشترته، لكن مجددًا تلك الشوكة التي تقف في حلقها لحقت بها وتوقف جوارها يقول :
” لا يجوز أن تدفعي من أموالك الخاصة، هذا مرفوض، أنا سأفعل ”
وبمجرد انتهاء حديثه أخرج من جيب بنطاله كيس قماشي كالسرة يضع به العديد من العملات الذهبية، ومن ثم أشار صوب الاشياء التي ابتاعتها تبارك يقول بجدية :
” بكم قطعة ذهبية تقدر تلك المفاسد يا رجل ؟!”
نظر له البائع ببلاهة وفم مفتوح، وقد شعر لثواني أنه سُحب لأحد افلام صدر الاسلام، نظر صوب تبارك يقول متسائلًا :
” هو عايز ايه لا مؤاخذة ؟؟”
جذب سالار رأسه له يقول بحدة :
” حدثني كرجل ولا تمدن عينيك للنساء، أخبرتك كم تريد مقابل تلك الأشياء الفاسدة ؟؟”
” الله الله الله، مالك كده يا استاذ استهدي بالله، فاسدة ايه لا مؤاخذة بص على الصلاحية بتاعتها، هتلاقيها لسه باقي أيام، ايه يا ابلة ما تشوفي الاستاذ اللي بيكلمني بقرف ده ”
نظرت تبارك صوب سالار بلوم، لكن الأخير لم يلتفت لها، بل فقط اطال التحديق بعيون ذلك الرجل وقال بصوت بارد كالصقيع ومرعب ومجمد للاوصال وهو يخرج عملة ذهبية من السرة بيده ضاربًا بها فوق المكتب أمامه:
” خذ أموالك وتوقف عن الحديث والثرثرة كي لا يطولك مني ما لا يسرك ”
ابتلع الرجل ريقه وهو يأخذ ما قدمه وجسده يرتجف، لكن بمجرد أن وقعت عيونه على القطعة المعدنية قال دون شعور :
” ايه ده يا روح امك ؟! جايب حتة حديد وبتدفع بيها ”
شهقت تبارك بصوت مرتفع ونظرت لسالار الذي لم يبدي أي ردة فعل وهو يقول بجدية :
” هذه عملية ذهبية ”
حدقت به تبارك دون فهم :
” أنت بتكلمه بهدوء كده ليه وهو هانك ”
” ماذا ؟! سبني للتو ؟؟ متى فعل ذلك ؟!”
” قالك يا روح امك ”
تغضنت ملامح سالار بتفكير وعدم فهم، ثم نظر صوب البائع الذي انعزل عنهما، يستكشف تلك القطعة الذهبية كي يتأكد من صدق حديثه، ليتجاهله سالار ويعود بنظره صوب تبارك يقول ببساطة :
” وماذا في ذلك ؟؟ أنا أحب امي وقد كنت روحها بالفعل، كانت دائمًا تخبرني أنني روحها وكل حياتها، لذلك ما الضير أن يخبرني أنني روح والدتي ؟؟ ”
اتسعت أعين تبارك بعدم فهم، ثم ابتسمت وهي لا تصدق ذلك الرجل، هل هو حقًا من عالم منعزل لهذا الحد ؟!
” روح امك دي هنا شتيمة ”
” حقًا ؟! ولِم تتخذونها سبة ؟؟”
قالت بعصبية كبيرة وهي لا تريده أن يكون بهذا الهدوء، هي غاضبة لأجله وهو بهذا البرود :
” عشان …عشان …معرفش ليه، بس هو نيته كان يشتمك ويهينك ”
نظر سالار صوب الرجل الذي كان ما يزال مشغولًا فيما يحمل :
” لا اعتقد ذلك، أنا لا افترض سوء النية بأحد، لذلك دعينا نرحل لنكمل رحلتنا ”
ختم حديثه يشير لها بالرحيل، وتحركوا تحت أعين الرجل التي كانت تلتمع بجشع كبير وقد وقعت عيونه على السرة التي تصدر رنينًا بسبب كثرة العملات داخلها ..
ابتسم بسمة مخيفة وهو يمني نفسه بثراء سريع …
خرجا الأثنان صوب السيارة وأشار سالار للسائق أن يتحرك، لكن وقبل أن يفعل سمع الجميع صوت البائع يصرخ بهم :
” لحظة يا استاذ نسيت حاجة”
توقف السائق عما كان يفعل ولم يتحرك بالسيارة قيد انملة، ينظر للبائع الذي ركض صوبهم يميل على السيارة الخاصة بهم، تحديدًا جهة سالار يقول ببسمة :
” نسيتوا حاجة جوا ..”
نظر له سالار بأعين ضبابية هادئة:
” لا، يبدو أنك مخطئ يا سيد نحن لم ننس شيئًا ”
وقبل أن يشير للسائق بالتحرك أصر عليه البائع بالحديث وهو يمد جسده أكثر داخل السيارة مستغلًا أن الطريق فارغ في ذلك الوقت ولأنه طريق سفر لا تعبر له العديد من السيارات سوى في أوقات معينة :
” لا صدقني نسيت ”
وفجأة أخرج سكين يصوبه على رقبة سالار ببسمة مقيتة والجشع يقطر من عيونه حتى انكمشت ملامح سالار باشمئزاز وهو يسمعه يردد :
” نسيت دي….”
__________________
اقتربت ببطء شديد من مخازن الأسلحة وكل ثانية تنظر خلفها بتوتر شديد مخافة أن يمسك بها أحدهم تحاول سرقة سلاح، وقتها تعلم يقينًا أنهم لن يكفيهم إعدامها بتهمة الخيانة بعد أن تثبت .
كان جسدها يرتجف بقوة وهي تحاول أن تتماسك بعض الشيء تذكر نفسها، أنها ما تفعل ذلك سوى لأنها تحتاج لشيء تحمي به نفسها وكهرمان بدل ذلك الخنجر الصدأ، الأمر مجرد وقت حتى يحدق بهما الخطر بهما من كل جانب، وبمجرد أن كادت تصل للغرفة التي يحتفظ بها الجنود بالأسلحة توقفت فجأة بفزع وهي ترى أحد الجنود هناك، كيف ذلك هي تأكدت أنهم جميعًا في استراحة الطعام، بللت شفتيها وهي تنظر له تلعن حظها في نفسها وقد فشلت الخطة، الآن عليها الرحيل ومحاولة الأمر لاحقًا ..
استدارت كي تغادر المكان، لكن ما كادت تفعل إلا وشعرت بيد تكمم فمها بقوة وشخصٍ ما يسحبها بعيدًا عن الحارس وهي تتحرك بعنف كبير بين يديه وقد بدأ وجيب قلبها يعلو والادرينالين يزداد ضخه داخل اوردتها، بحثت بين طبقات ثيابها عن خنجرها لكن فجأة خمدت حركة جسدها وهي تسمع صوتًا يردد :
” لا تصدري أي صوت، إن كنتِ ترغبين في الحياة ”
صمتت زمرد وهدأت حركة جسدها تسير خلف ذلك الرجل الذي سحبها للخارج من باب غريب، وثواني قليلة حتى وجدت جسدها يُدفع بقوة كبيرة صوب أحد الجدران وقبل أن تستوعب شعرت بنصل حاد يستقر على رقبتها وصوت يهمس :
” والآن ستخبرينني كل شيء، غنائك ذلك اليوم في الحديقة وبتلك اللهجة، حملك لخنجر بين طرقات القصر، واقتحامك محزن أسلحة القصر لسرقة ما به ”
رفعت زمرد وجهها صوب دانيار الذي كان ينظر له بأعينه في شر كبير ووجهه يلتمع بنية خبيثة، لكنها ببساطة ابتسمت تتأكد أن لثامها لم يتحرك تهمس له بصوت خطير وهي تخفض السيف الخاص به، ثم أخذت تقترب منه قائلة بصوت خفيض :
” هل تحاول اخباري أنك تهتم لأمن مملكتك ؟؟ إن كنت تفعل ما كنت لاظل حية حتى هذه اللحظة يا سيد ”
ابتسم دانيار بسمة مظلمة يعض شفتيه، ثم دس خنجره داخل غمده يهز رأسه وهناك نظرات سوداوية داخل عيونه :
” يمكنك القول أن مطاردة الفأر واللعب معه، افضل من وضع مصيدة له والتخلص منه بكل بساطة ”
” وهل تعتقد أن ذلك الفأر احمق ليدخل مصيدتك ؟؟”
” إن أردت أنا سيفعل ”
أمسكت زمرد سيفه وهي تقول :
” أخبرني الحقيقة، ما الذي ترنو إليه من وراء مراقبتك لي، فلا تقنعني أن رؤيتك لي هنا هي محض صدفة لا أكثر”
اطال دانيار النظر لعيونها ثم همس ببساطة :
” ومن أنتِ يا امرأة لاختلق صدفًا كي أراكِ ؟؟”
صدمة أصابت أوصال زمرد لرده القاسي، الذي جعلها تصمت ثواني لكنها تداركت الأمر سريعًا، تهز رأسها بهدوء تقول :
” إذن ما الذي يجعلك تدور خلفي ؟؟”
” ما تحملينه من اسرار، لا تعتقدي أنني احمي حياتك لاجل عيونك السوداء تلك، بربك أنا حتى لا اعلم من أنتِ، لكنني فقط احتفظ بكِ لأن جثتك مقطوعة الرأس لن تجيب اسألتي، صحيح ؟!”
ماهر وفذ ومتحدث جيد، هذا كل ما استطاعت زمرد معرفته خلال مقابلاتها القصيرة مع ذلك الرجل، هذا كله وهي تتحدث مع جندي عادي، بالله كيف سيكون الوقوف أمام الملك أو القائد الذين سمعت عن بطشهم وجبروتهم، و لن تدرك أنها الآن في حضرة دانيار …قائد الرماة أجمعين.
ابتلعت ريقها تقول بجدية :
” أنا فقد اود ما احمي به نفسي، أنا لا اهاجم بل ادافع فقط ”
” ممن ؟؟ تحمين نفسك ممن ؟؟”
نظرت له ثواني ثم قالت :
” من المنبوذين …لقد كنت أعيش في مدينة الشمال التي احتلها المنبوذين قبل تحرير القائد سالار لها، وقد قتلوا جميع أفراد أسرتي وأنا قتلت واحدًا منهم وهربت مع شقيقتي وجئت كي احتمي بقصر الملك ”
تنهدت بصوت مرتفع بعدما انتهت من قص ما تريده وهو نظر لها ثواني، ثم هز رأسه ببساطة يقول :
” لا اعتقد أنكِ بحاجة لحماية نفسك أسفل اسوار القصر، فأنتِ هنا في حماية الملك والجنود، كما جميع المملكة بالضبط، ما كان الملك سيسمح لأحد أن يتعدى على حكمه، وأنا آسف لفقدك، لكن لا انصحك بمحاولة اقتحام المكان وابتعدي عن تلك التصرفات المريبة كي لا تقعي تحت يد من لا يرحم ؟؟”
قالت دون تفكير :
” سالار تقصد ؟؟”
” القائد سالار، حينما تذكرينه احترميه، ونعم هو أو الملك لن يرحموكِ إن علموا ما كنتِ تفكرين في فعله، فالملك لا يسامح المخطأ تمامًا كما سيفعل مع شقيقتك، أوليستِ هي نفسها تلك كهرمان ؟؟”
وحينما ذكر دانيار كهرمان التي علم عنها من خلال مراقبتها، ركضت صوبه زمرد بوجه شاحب وجسد مرتجف تهتف بعدم فهم وصدمة :
” ماذا ؟؟ ما بها كهرمان، ماذا فعلت ؟؟”
___________________
كانت تقف أمامه وهي تشعر بنظراته تكاد تخترقها، لكنها لم تسمح لنفسها أن تنظر ارضًا أو تنحني لأحد، تتبع نصائح زمرد واخيرًا، لكن للاسف في الوقت الخطأ .
تقدمت داخل القاعة حيث يجلس إيفان يحدق بها وجواره يجلس بعض المستشارين :
” أنا فقط اريد معرفة ما هو جرمي ؟! بالله عليكم لا تخبروني أن كل تلك المحاكمة فقط لأنني سقطت على الملك ”
اتسعت عين إيفان ينظر لها بشر وتحذير جعلها تبتلع باقي كلماتها، وقد تحركت الأنظار صوب إيفان الذي تجاهلهم وهو ينظر لها بحنق، يتحدث بصوت هادئ مخيف :
” بالطبع نحن لا نعقد محاكمة لأجل أسبابك التي ترينها تافهة، لكن أنتِ متهمة بالتخريب، بل كدتي تتسبب في أذية الكثيرين لاهمالك الشديد وتحرير الثيران من الحظيرة ”
اتسعت عين كهرمان وقد عادت للخلف بعدما استوعبت ما يقصد، نظرت حولها لتجد جميع الأنظار موجهه لها وهي تقف بينهم لا تعلم ما تفعل، فكرت بالبكاء والنحيب الآن، لكنها فجأة تذكرت أنها ليست بالمنزل وهذا ليس شقيقها ليسارع ويراضيها .
” حسنًا أنا آسفة، اقسم أنني لن اهرب من العمل مرة أخرى واذهب للجلوس عند حظيرة الثيران ”
فتح إيفان عيونه لا يصدق تلك الغبية التي تبحث عن تهم تلقيها على عاتقها، أحضرها لأجل معاقبتها على الاهمال، لتعترف أنها اسقطته، وأنها تهربت من العمل وكل هذا دون أن يحدثها أحد بكلمة واحدة، أمثال هذه الفتاة هم نعمة إن كانوا من الأعداء .
هو في العادة لا يقسو في عقاب النساء إن كان الجُرم بسيطًا، لكن من أمامه تشعره برغبة عارمة في الحكم عليها بالقتل لغبائها .
تنفس إيفان بصوت مرتفع ثم قال بهدوء شديد وملامح جامدة لا تفارقه عادة :
” حسنًا يا آنسة، عقابًا على اهمالك وتهربك من عملك، فأنتِ مكلفة ولمدة عشر أيام بحصد الثمار مع النساء ومن ثم التحرك صوب الحظيرة لجمع البيض وتنظيفها ”
اتسعت أعين كهرمان بصدمة :
” ماذا ؟؟ لكن أنا، أنا فقط اعمل داخل القصر و…”
قاطعها صوت مرتفع جهوري غاضب :
” هل تتجرئين وتعترضين على أوامر الملك ؟!”
ارتعش جسد كهرمان تنفي برأسها في سرعة كبيرة ثم اخفضت رأسها بعض الشيء تبتلع مرارة الذل ببطء شديد دون كلمة :
” العفو مولاي، أوامرك ”
نظر لها إيفان ثواني وهو يرى انكسارها واضحًا، رغم أنه لم يبالغ في عقابها كما يفعل في مثل تلك الأمور الصغيرة، لكنه لم يهتم، بل قال بهدوء وبرود شديد :
” يمكنك الرحيل ومن الغد تنفذين ما أُمرتِ به ”
هزت رأسها ببطء، ثم تحركت للخارج بخطوات هادئة راقية، وبمجرد أن خطت خارج القاعة حتى ركضت بسرعة باكية، في الوقت الذي لمحت ركض زمرد من الطريق المعاكس، وما كادت زمرد تتوقف للاستفسار عما حدث حتى ارتطم جسدها في أحد أعمدة الرخام البيضاء التي تحد الممر بفعل دفعة كهرمان .
اتسعت عيونها تراقب ركض كهرمان بعيدًا باكية وهي تنظر حولها بعدم فهم :
” ما الذي يحدث هنا ؟؟؟”
_________________
” نسيت دي ..”
وعقب تلك الجملة التي توقع الرجل أن يحدث بها هلعًا أو على الأقل توترًا داخل السيارة، لم يسمع أحدهم صوتًا سوى صرخات فقط، صرخات صدرت من ذلك البائع .
إذ نظر له سالار ثواني معدودة قبل أن يمسك يده التي كان يمدها داخل السيارة ودون تفكير كان يجذب جسده بقوة مخيفة للداخل متسببًا في انتفاضة جسد تبارك جواره وهي ترى رأس البائع قد أصبحت متدلية جوار قدمها .
ودون أن يتحدث أحدهم بكلمة كانت يد سالار تعرف طريقها صوب السكين تنزعه بكل احترافية، ثم جذب رأس البائع صوبه ومازال جسده معلقً على النافذة وقد اصبحت السكين مصوبه لصدره وهو يتحدث بهسيس :
” أخبرتك أنا لم أنس شيئًا، فهمت ؟؟”
كان الرجل في حالة ذهول يشعر أنه سقط كالبهيمة في الفخ، فهو حتى لم يستوعب كيف ومتى أصبح نصف جسده داخل السيارة والسكين موجه له هو، ابتلع ريقه يحاول أن يتحرر، لكن سالار ضغط على رأسه وهو يقربه منه أكثر وقد أوشكت رأس البائع على الانفجار من شدة الضغط :
” ألا تستطيع الرضا بما في يديك يا هذا ؟؟ محاولتك لأخذ ما ليس لك لن تعود على حياتك بالنفع ولو أضحيت ثريًا، فهمت ؟؟”
هز الرجل رأسه سريعًا وهو يحاول الإفلات منه :
” فهمت، فهمت يا باشا ”
ابتسم له سالار بسمة لم تكن بالسعيدة أو الفخورة، لكنها كانت مخيفة مسببة لارتعاش جسد البائع، وشيئًا فشيء حرر جسده ملقيًا إياه للخارج ومن ثم ألقى سكينه عليه وقال بصوت هادئ :
” هيا تحركوا ”
وتحركت السيارة بالفعل تحت نظرات الصدمة من تبارك، لا تكاد تصدق ما حدث منذ ثواني، الأمر تم بسرعة كبيرة حتى أنه لم يعطيها فرصة الصراخ أو الفزع، فجأة استدار رأس سالار لها لتطلق صرخة كتمتها بكفها وهي تبعد عيونها عنه .
تهمس لنفسها :
” طلع مجرم محترف، ههرب منه ازاي ده ؟؟”
سمعت صوته الذي خرج هادئًا :
” لا تقلقي، فلن يطولك سوءًا مني، هذا لأنكِ لن تنجحي في الهرب على أية حال، لذلك ما رأيك أن ترضخي للأمر الواقع وتسلمي لحقيقة أنكِ ملكة مملكة سفيد، وأنني لن افلتكِ حتى يتسلمك مني الملك ”
ابتلعت ريقها تبعد عيونها عنه، كي لا يرى نظرات عدم التصديق تلوح في نظراتها، هي ما تزال غير مصدقة لروايته رغم كل الأدلة التي تشير لعكس ذلك .
وبعد ساعة تقريبًا وحينما بدأ جسد تبارك يسترخى ويتحرر من خوفه الذي نمى بسبب ذلك الموقف، بدأت هي تخرج الطعام الذي احضرته وتتناوله بتلذذ وجوع كبير، وجوارها سالار ينظر أمامه بهدوء شديد دون أي حركة منه، لكن فجأة شعر بشيء يوضع على قدمه…
أنزل عيونه ليجد عبوة بلاستيكية ملونة وصوت تبارك تقول ببساطة من بين مضغاتها :
” كله هيعجبك طعمه اوي ”
نظر لها بأعين جامدة هادئة، ثم أمسك تلك العبوة يحركها بين يديه وهو يقول دون أن ينظر لها وبكل صرامة :
” لا يجوز لكِ التحدث أثناء الأكل، هذا يخالف آداب الطعام ”
نظرت له بصدمة لا تصدق أنه كان من الوقاحة التي تجعله يتجاهل بادرتها اللطيفة وتضحيتها العظيمة حينما أعطته بعض طعامها الذي اشترته بأمواله هو، ويعلق على طريقتها في الأكل.
وقبل أن يكمل سالار تفحص تلك العبوة الغريبة بين أنامله ومعرفة مما تتكون أو كيف تستخدم، وجدها تُنتزع من بين أنامله بقوة وصوت تبارك يصدر حانقًا متهكمًا :
” هات ده، أنا استاهل الضرب اني عبرتك ”
نظرت أمامها صوب صامد وصمود وهي تقول :
” خدوا كلوا أنتم ”
نظر لها الاثنان بلهفة كبيرة وكادوا ينقضون على ما تقدم، لولا رؤيتهم لنظرات سالار التي تسبب في سحب لهفتهم واعتلاء نظرات الجمود ملامحهم وهما يقولان بصوتٍ واحد :
” العفو مولاي، يلا يجوز لنا مشاركتك الطعام ”
نظرت تبارك بسرعة كبيرة صوب سالار الذي تجاهل نظراتها ونظر من النافذة وقال بنبرة مسترخية وصوت جليدي :
” تناولي طعامك بهدوء وتوقفي عن الحديث الكثير، وتعلمي كيف تتصرفين كملكة لدولة بحجم سفيد ”
تمتمت تبارك وهي تملئ فمها بالكثير من الطعام دون حساب :
” أبوك لابو سفيد، جاتكم القرف شعب ثقيل ”
فجأة انتفض جسدها حينما سمعت تعليق سالار :
” وايضًا حاولي التحكم في تمتماتك ودعي افكار الداخلية تظل مجرد أفكار دون ترجمة ”
” اتنفس عادي ”
” نعم لا بأس، لكن تعلمي أن تتنفسي كملكة ”
تشنج وجه تبارك من كلماته التي لم تعبر حدود أذنها، بل تجاهلتها كليًا تنتبه للطريق وهي ما تزال تتمتم بغضب شديد، لا تريد أن تتجادل معه مجددًا وقد ملت حقًا كيف يتحكم بها ويعد عليها أنفاسها، متى تنتهي تلك الرحلة وتتخلص منه، حتى لو ألقى بها في فوهة بركان فلن تبتأس طالما أنه ليس معها .
دقائق قليلة وتوقفت السيارة في ميناء متطرف غريب وهبط الجميع واولهم سالار الذي نظر حوله يتأكد من أمان المكان، حتى وقعت عيونه على السفينة التي ستأخذهم لوجهتهم والتي احضرتهم منذ البداية، ضيق عيونه مفكرًا في القادم ومصير المملكة من بعد وصول الملكة .
وقف أمامه صمود يعبر عن القلق الذي لا يود هو الاعتراف به :
” مولاي هل أنت متأكد من تلك الخطوة ؟!”
لم يبعد سالار عيونه عن البحر امامه :
” أي خطوة تلك صمود ؟! هذا أمر وليس خطوة يمكن تخطيها ”
تدخل صامد بجدية في الحوار وهو ينظر لتبارك التي كانت تجلس داخل السيارة تخرج رأسها منها بشكل مثير للريبة :
” لكن سيدي اعتقد أن الملك لو علم ما هو على وشك إسقاط نفسه به، لمنعك إتمام المهمة ”
نظر له سالار يجيب بهدوء شديد :
” وهو لم يمنعني بعد، لذلك المهمة ستتم كما خُطط لها، ثم أنتم تتحدثون وكأننا احضرنا كارثة للمملكة، الأمر ليس بهذه الخطورة، هي فقط تحتاج لتعلم بعض الاشياء و…”
وقبل أن يكمل جملته سمع الجميع صوت شيء يصطدم بقوة في الأرض والذي لم يكن سوى تبارك التي تعرقلت أثناء هبوطها في فستانها، لكنها نهضت بسرعة كبيرة تقول ببسمة هادئة ترفع ابهامها لهم :
” أنا كويسة متقلقوش ”
ولم تكد تخطو خطوة أخرى غير منتبهة لفستانها حتى عادت وسقطت وهذه المرة بشكل أقوى لدرجة أن تأوهاتها قد علت في المكان وقد غُرز وجهها في الأرض أسفلها تهمس بتعب :
” اعتقد أن الرمل هنا بيزحلق ”
أبعد سالار عيونه عنها يقول وهو يفكر في تلك الورطة التي ألقى الملك نفسه بها :
” نعم، الأمر ليس بهذه الخطورة، بل أكثر خطورة من هذا، رحمتك يا الله ”
نهضت تبارك من الأرض تنفض ثيابها تحاول تلاشي الاحراج الذي تعرضت له للتو، وقد تمنت لو تنشق الأرض وتبتلعها، الأمر كان مخجلًا بشكل يفوق قدرتها على التحمل، مرحى تبارك ها أنتِ اثبتي لهم كم أنتِ حمقاء .
تود لو تبكي خجلًا، والله هي ليست بذلك الحمق، فقط الطبيعة والقوانين جميعها يعاندونها ليس إلا.
تنهدت بصوت مرتفع تمسك أطراف فستانها باصباعها وهي تتحرك بحذر شديد كي لا تزيد الوقعتين ثالثة، تتحرك صوب الجميع قبل أن تتوقف وتقول بصوت جاد :
” دلوقتي المفروض ناخدها عوم ولا ايه ؟!”
رفع حاجبه وهي أكملت بعفوية شديدة :
” أنا مش بعرف اعوم، ولا بعرف اعمل أي حاجة في الحياة دي غير اني بمشي وباكل وبنام، فأرجو لغاية ما نخلص من كل ده محدش يطالبني بحاجة خارج القايمة دي، لأني مش هعمل حاجة زيادة، مبقاش جاية على حباب عيني وعاصرة على نفسي لمونة وتتعبوني، مش شغل عصابات ده ”
ختمت حديثها ترفع رأسها بكل إباء، ثم تحركت بعيدًا عنهم جميعًا تعلن انتهاء الحوار بالنسبة لها، وسالار ابتسم يقول ساخرًا مما يحدث له بعد كل تلك السنوات التي قضاها في قذف الرعب داخل قلوب اعدائه لتأتي فتاة لم تتجاوز حدود كتفه وترفع رأسها في وجهه دون خوف وتأمره بما تريد :
” أوامرك مولاتي، أوامرك …”
بينما تبارك وحينما ابتعدت عنه تنفست بتوتر، بالله هي ترتعب من نظراته التي لا تظهر ما يريد أو يحمل، تشعر بالرعب مما يخفي خلف ملامحه الجامدة، ذلك الرجل لغز كبير وهي ليست بالفضولية أو العبقرية لتحله، ولا تريد من الأساس حله، بل فقط تريد التخلص منه ..
هي فتاة عاشت لتتجنب المشاكل، وتتجنب أي شيء قد يؤذيها .
تنفست تنظر للبحر أمامها غافلة عن عيون سالار التي تكاد تحرق ظهرها، وهو يردد لنفسه :
” لدينا رحلة طويلة في تحويل تلك الفتاة لملكة تستحق الجلوس على عرش البلاد، رحلة ستنتهي إما بقتلي أو قتلها، والحمدلله أنني بعيد عن القصر كي لا يكون الخيار الثاني ”
__________________
” أقسم أن نهايتنا على يديكِ كهرمان، ما بال عقلك يا امرأة ألا تفكرين في عواقب فعلتك ؟؟”
انكمشت كهرمان على نفسها بقوة تحاول أن تهدأ ارتعاشة جسدها، لكن صراخ زمرد لم يساعد أبدًا على ذلك، بل ارتفع أكثر محضرًا لها ذكريات هجوم قريب، هجوم انتهى ببركة من دماء كامل أفراد اسرتها، دفنت وجهها بين قدميها تبكي بصوت مرتفع :
” لم اقصد، لم اقصد، اقسم أنني لم اقصد التسبب في مشاكل، بل هي تلاحقني من طريق لآخر، أنا آسفة زمرد”
كانت تتحدث من بين شهقاتها لتشفق عليها زمرد وهي تتحرك صوبها ببطء وجلست جوارها على الفراش تضم جسدها المنكمش داخل أحضانها :
” لا بأس، لا بأس عزيزتي، أنا فقط شعرت بالخوف لذلك صرخت بكِ ”
نظرت لها كهرمان وهمست بتعب ووجع شديد :
” أنا لا أستطيع العيش بهذه الطريقة زمرد، اقسم أنني أشعر بالعجز كلما رأيت ما يجب التعامل معه طوال اليوم بعدما كنت مدللة أخي ووالدتي، الأمر صعب علي ”
أغمضت زمرد عيونها تدرك أنها تعني كل كلمة مما نطقت به، هي ليست مدللة، بل هي فقط فتاة عاشت في رغد أخيها قبل أن تأتيها الطامة الكبرى وتسحبها من دفء أخيها لبرودة الوحدة، من كنف منزلها، لغياهب القصر ..
” لا بأس أنا سوف اساعدك، لا بأس سنتخطى كل هذا، ويومًا ما، يومًا ما يا كهرمان سنعود، سنعوم كما كنا ”
____________________
يجلس أعلى السفينة وهو يتنفس بصوت مرتفع يحاول الهدوء والتفكير في الخطوة القادمة، فبعد وصولهم لوجهتهم سيتعين عليهم خوض مغامرة حتى يصلوا لمملكتهم، هو في الحقيقة ليس مستاءً لذلك، هو معتاد على خوض ما هو اصعب من تلك العوائق .
لكن هي ليست كأي عائق قابله ….
حرّك عيونه صوب جسد تبارك التي كانت تقف على بداية السفينة وتفتح ذراعيها للهواء وتتحرك بشكل غريب عليه، وكأنها تراقص الرياح .
وعند تبارك كانت بالفعل تتراقص مع الرياح وهي تتمتم بكلمات منخفضة دون وعي وقد انسجمت مع تلك الحالة حولها وبكل شاعرية اختارت النسخة المصرية من تلك الأغنية المعروفة، لجهلها بكلمات الاجنبية، لكن لا يهم هي فقط تحقق حلمًا سخيفًا كان يراودها قديمًا :
” لا خلاص مش منظر …مستنظر يا سلوى، قلبي صدى وجنزر يا هووو”
ومن بين انسجامها سمعت صوتًا جوارها يهتف بهدوء :
” من هذه سلوى ؟؟ والدتك ؟!”
انتفضت تبارك من مكانها حتى كادت تسقط في البحر أسفلها لولا أنها تمسكت بالحديد تحت يدها برعب شديد، وقد ارتفع صوت تنفسها لتشعر برغبة في الصراخ، رفعت رأسها له تقول من بين أسنانها :
” لا امك ”
استند سالار على الحديد أسفل يده يشرد في المكان أمامه متنهدًا بحنين شديد وبكل صدق وجدية قال :
” لا والدتي لا تُسمى سلوى، بل كانت تُسمى عائشة ”
كان يتحدث غافلًا عن تشنج ملامحها، إذ كانت جديته في تلك اللحظة تمثل لها صدمة، هل تحدث بكل بساطة للتو بعدما تواقحت عليه، بل وأخذ يناقشها بهدوء دون نظراته المخيفة تلك !؟
بالله هي لم ولن تفهم ذلك الرجل يومًا .
” إذن أنتِ لم تعلمي يومًا عن حياتنا أو عالمنا أو مصيرك ؟! ولم تصدقي قبلًا بمثل تلك الأشياء ؟؟”
نظرت له ثواني قبل أن تقول ببساطة شديدة :
” ولسه مش مصدقة ومقتنعة أنك شوية مجانين وخاطفني أو اني بحلم حلم من الاحلام المريبة اللي كنت بشوفها وشوية وهصحى ”
” أي احلام تلك، السيدة في منزلك أيضًا تحدثت عن احلام برجال ؟؟”
نظرت له بطرف عيونها وقالت دون تفكير :
” احلام بوليوودية ”
” ماذا ؟!”
زفرت بحنق ولا تدري سبب حديثها عن تلك الأشياء الخاصة بها مع شخص لا تعلم عنه شيئًا، بل ويخيفها كذلك :
” احلام عن شخص غريب بيكلمني بلغة غريبة وبيقول حاجات مريبة كده و ….”
وقبل أن تكمل جملتها شعرت تبارك بحركة قوية في السفينة جعلتها تهتز بشكل مخيف، وقبل حتى أن يعطي عقلها إشارة لها لتصرخ وتعبر عما اعتراها من رعب جراء تلك الاضطرابات القوية في السفينة، لكن اهتزاز السفينة منع ذلك، إذ انقلبت شيئًا فشيء حتى وجدت تبارك جسدها ينجرف صوب الحافة والتي كان سالار يمسك بها وهو ينظر لها محاولًا أن يساعدها للتشبث بأي شيء حتى يمر ذلك الاضطراب المؤقت .
لكن ما حدث هو أن جسد تبارك وبسبب ارتفاع جانب السفينة انزلقت للجانب الآخر واصطدمت في جسد سالار الذي اتسعت عيونه وقبل أن يعترض سمع صرخة تبارك في أذنه :
” حسبي الله ونعم الو….”
وباقي الكلمة اكملتها في طريقها للبحر وهي تسقط، لكن لم تكن وحدها، بل كان معها سالار الذي جذبها له بسرعة هائلة، وفي غمضة عين كانت بين يديه، حينما سقطا سويًا……
__________________
جميع المشاكل تعشق الدفئ، لذلك حينما تفكر في الاستكانة والمبيت، لن تجد أفضل من أحضانك للاستقرار بها ……
وفي النهاية كل ذلك ما هو إلا حرب، إما أن تنتصر أو تنتصر، لا خيار ثالث أمامك.
يتبع….
متنساش ان الرواية موجودة كاملة في قناة التلجرام والواتساب
اصوات الأمواج المتلاطمة، وهدير المياه وصرخات مكتومة …
كان هذا فقط ما يصل لمن على متن السفينة بعد أتزانها وبصعوبة شديد، حالة من الرعب تلبست الجميع بسبب غياب أجساد القائد والملكة أسفل المياه بعد سقوطهما .
مسح صامد عرق بدأ يظهر على جبينه برعب شديد مما يرى، كان البحر قد ابتلعهما بالكامل وبكل غدر، منذ ثواني فقط كان يبتسم لهما ويظهر لهما صفاءه، لكن اتضح الآن أن تلك لم تكن بسمة عادية، بل كان بكل بساطة يكشر لهما عن أنيابه وفي ثواني تعكر صفاءه ..
وأسفل المياه كان سالار يكتم أنفاسه بمهارة عالية، فهو لم يكن جاهلًا بالسباحة أو ما شابه، فلا تدري متى ترميك اقدارك لمعركة مع البحار .
كان يبحث بعيونه عنها في كل مكان وقلبه يكاد يتوقف من الرعب، لأول مرة يخشى شيئًا، ضياع الملكة يعني خسارته لكل تاريخه المحفوف بالانتصارات، أن يخسر مهمة لهو عارٌ غير مستعد أن يزين دفتر ملئ بالمكاسب .
وفجأة ابصرها تحرك يديها وقدميها على بعد كبير منه وبكل حماقة، وكأنها تعاند البحر ليزداد هو عنادًا وتشبثًا بها .
سبح جهتها بمهارة عالية وبسرعة فائقة، حتى التقط جسدها بسرعة كبيرة يخرج بها لسطح المياه مطلقًا شهقة عالية هاتفًا من بين أنفاسه :
” يا الله يا مغيث …”
وقبل أن يتبع جملته بأخرى شعر بها تضربه بيديها وقدميها وتتحرك بعنف شديد وكأنها ما تزال محتجزه أسفل المياه، وهو يحاول أن يتحكم بحركة جسدها كي لا يسحبها الموج مجددًا :
” لقد نجونا، تنفسي مولاتي، أنتِ بخير تنفسي جيدًا”
وفجأة تلقى صفعة على وجهه دون أن ترى هي أين تحط يدها، فقط ما تزال تشعر أنها أسفل المياه، وهو يصرخ بها أن تتوقف :
” بالله عليكِ توقفي قبل أن يشتد غضبي واريكِ مني ما لا يسرك و…”
ومجددًا هبطت صفعة أخرى على وجهه ليصرخ بجنون :
” لعنة الله على الكافرين، اقسم أنني …”
ولم يكد يتم جملته إذ تمادت بعدما بدأت تصعد فوق جسده وتنزل رأسه أسفل المياه مستعملة إياها كطوق نجاه صارخة :
” مش بعرف اعوم ….مش بعرف اعوم ”
كانت تتحدث وهي تُغرق رأس سالار الذي كان يحاول الخروج من المياه دون أن يؤذيها، وهي ما تزال تضغط على رأسه وتصرخ بجنون باكية برعب.
تشعر أنها ستموت الآن إن افلتته كل كوابيسها تجمعت أمام عيونها لتغطي على ذلك المشهد أمامها وتعرض لها مشاهد أخرى لخيالاتها التي كانت تراودها يوميًا، كانت تعيش يوميًا في كوابيس أن تموت وحدها ولا يشعر بها أحد حتى تتعفن، والآن ستموت ويتركونها ليذوب جسدها في المياه:
” حد يخرجني من هنا، مش بعرف اعوم، مش بعرف اعوم، مش بعرف اعوم ”
وعلى السفينة ركض أحد أفراد الطاقم يحضر طوق نجاه وصمود يصرخ وهو يشاهد ما يحدث :
” يا ويلي هل تحاول قتل قائد الجيوش ؟؟”
أجابه صامد وهو يرى ما تفعل :
” أقسم أن الملك لن يكفيه أن يجز رأسها أو ينفيها إن فعلت ..”
وفجأة اتسعت أعين الجميع حينما انتفض جسد سالار بقوة من أسفل المياه بعدما يأس أن تتوقف هي عن دفعه للاسفل، ليتراجع جسد تبارك للخلف بسرعة كبيرة ساقطة في المياه مرة أخرى وهي تصرخ أن ينقذوها، وقبل أن تعود للدوامة السابقة، شعرت بمن يسحبها من ثيابها للخلف جاذبًا إياها للأعلى، فتحت عيونها بصعوبة لتبصر وجه سالار الذي كان يحدق فيها بشر، ومن ثم جرها خلفه من ثيابها وكأنه امسك لصًا يحاول سرقة حذاءه من أمام المسجد ..
يجرها في المياه سابحًا، وهي كانت تشعر أنها شربت نصف المحيط حتى طريقها لطوق النجاة، ولا تدري كيف لكنها فجأة شعر باليابسة أسفلها وهناك عدد كبير يجتمع حولها مانعين عنها الشمس …
نظرت لهم، لا تشعر بشيء، فقط دوار ورغبة بالقيء الشديد، سمعت صوتًا يتحدث بلهفة :
” أنتِ بخير مولاتي ؟؟”
رفعت عيونها لذلك القصير الذي يرافق سالار ولا تتذكر له اسمًا، وقالت بصعوبة من بين أنفاسها :
” بخير ايه ؟؟ ده مسح بوشي البحر كله ”
دفع سالار الجميع عنها بعدما صعد هو للسفينة يسير صوبها بكل هدوء، ثم جلس القرفصاء يراها تحاول الاعتدال في جلستها، ليجذبها من ثيابها بعنف تسبب في اهتزاز جسدها بقوة وصوته يصدح في جدية كبيرة :
” أنتِ بخير ؟؟”
” لا أنا مبلولة ”
رفعت عيونها له، ونظرت بتشوش شديد، ثم مدت يدها تبحث عن شيء صلب كي تستند عليه، تحاول التحدث بكلمات ما وهو يضيق عيونه محاولًا فهم ما تريده، لكن فجأة اغمض عيونه بقوة كبيرة وهو يشعر بها و قد اغرقته بقيئها …
عض سالار شفتيه وهو يسمع صوتها ما تزال تفرغ ما في معدتها عليه والجميع يشاهد بأعين متسعة، وهو داخله يشعر برغبة عميقة أن يحملها ويلقي بها للبحر ليأخذ منها ثأره :
” لعنة الله على الكافرين ….”
______________________
” مجموعة كالمنبوذين يقتحمون مملكة بحجم مشكى، لهو أمر مثير للشك والريبة ”
ابتسم إيفان يستمع لكلمات تميم التي ألقاها بمجرد جلوسه، مال برأسه قليلًا محاولًا التفكير في الأمر، بالطبع هو لم يقتنع ولو للحظة بكل تلك الروايات التي وصفت تلك الغارة الشنيعة والمذابح البشعة بحق الأسرة الحاكمة لمشكى، الأمر وما فيه أن ذلك السبب الذي يختفي بخبث خلف كل ما حدث يحتاج فقط للصبر .
قال دانيار بهدوء شديد يوافق تميم الحديث :
” بالطبع يا تميم، فمن أين لهم بالأسلحة لذلك، وهم جماعة مرتزقة لا مصانع لهم ليصنعوا كل تلك الأسلحة، ولن تنفعهم العداد بلا عدة، إلا إذا اغاروا على قافلة أسلحة ”
نظر له إيفان ومازالت بسمته لم تنمحي عن وجهه، يستمع لكل كلمة ويحللها في عقله بهدوء وصمت، ذكي هو وماكر وهادئ ..
” هذا أكثر الاحتمالات منطقية دانيار، فلا يعقل أنهم بنوا مصانع بلا إمكانيات تؤهلهم لذلك، بل وصنعوا عدد أسلحة يؤهلهم لاحتلال مملكة كاملة ذات جيشٍ وسيادة ”
وكانت تلك كلمات تميم، الذي صمت يفكر ومن ثم أضاف :
” كما أن وحسب شهادة البعض ممن كانوا على حدود مشكى ذلك اليوم، فالاسلحة التي استعملوها كانت جيدة الصنع، تمامًا كتلك التي ….”
قاطعه إيفان بكل هدوء :
” نصنعها نحن، يستخدمون أسلحة تشبه خاصتنا، أو …ربما هي ذاتها ”
نظر له الاثنان بتعجب ليبتسم ويقول بهدوء شديد :
” الأسلحة التي كانت مع المنبوذين ذلك اليوم حين الغارة على مشكى هي نفسها اسلحتنا يا تميم ووجودها بين اكفتهم يعني شيئًا من عدة احتمالات، انهم اغاروا على قافلة لنا، وهم ما كان لهم من جرأة ليفعلوا ذلك، أو أنهم اغاروا على قافلة لمملكة تشتري منا اسلحة، ونحن لم نسمع بشيء كهذا، أو الاحتمال الاخير …”
صمت ينظر لهم نظرات غامضة جعلت أعين كلاهما تتسع بقوة والاجساد تتصلب بتحفز شديد.
ابتسم إيفان وقد أدرك أن مقصده وصل لهما؛ لذلك أشار ببساطة أن يتحركا قائلًا وهو ينهي الأمر :
” سنكمل النقاش في هذا حين عودة سالار يا رجال ونكتمل لنفكر سويًا، يمكنكم المغادرة ”
حياه الاثنان وخرجا من جناح الملك والذي استقبلهما فيه خصيصًا لأجل الحصول على خصوصية وهدوء بعيدًا عن الجميع .
وبمجرد خروج دانيار وتميم، حتى ابتسم إيفان وهو يضم كفيه ويشرد أمامه بأعين قد علتها نظرات تفكير عميقة، يتنفس بصوت مرتفع وقد قرر أن يستحم كي يهدأ ويفكر بشكل أفضل، لكن ما كاد يتحرك من فراشه إلا وسمع صوت الحراس يهتفون أن الملكة الأم تطلب إذن الدخول وهو قد أعطاهم الاذن، لتتحرك والدته داخل جناحه برأس مرفوع تقول ببسمة واسعة :
” صباحك ملئ بالخير والتوفيق مولاي ”
” صباح الخير لكِ أيضًا مولاتي …”
ابتسمت له الملكة وهي تقترب منه تقول بجدية وسعادة غريبة بعض الشيء عليها :
” جئتك لمعرفة إذا ما كنت تمتلك أي مخططات معينة لأجل الاحتفال الوطني مولاي ”
نظر لها إيفان ثواني وكأنه لا يفهم ما تقصد أو يستوعب، وفجأة أدرك ما تريد وقد نسي أمر ذلك الاحتفال تمامًا :
” آه نعم، بشأن هذا، فالأمور متروكة لكِ أمي كالعادة ”
تحدث وهو يتحرك في جناحه بهدوء شديد، لكن فجأة توقف على كلماتها حين قالت بخبث :
” إذن بني، هل تريد مني دعوة بعض الاميرات للحفل لربما تغير رأيك و..”
” أمي ”
قاطعها بصرامة ومن ثم قال منهيًا ذلك الحوار :
” هذا الأمر اخرجيه من رأسكِ رجاءً ”
” بني أرجوك اسمعني، لربما تجدك مبتغاك في أي امرأة غير تلك الـ ”
” ليست تلك امي، بل الملكة، أنا لم اخاطر بأمهر مقاتلي المملكة وقائد الجيوش الاعلى لأجل أن أبحث عن امرأة أخرى، لذا رجاءً انتهينا ”
هزت والدته رأسها وقد التمعت عيونها بالاصرار على تنفيذ ما تريد، تهز راسها ببسمة صغيرة :
” كما تريد مولاي، اسمح لي بالمغادرة ”
هز رأسه وهو يراها تتحرك صوب الباب وتخرج منه، ليذهب وينتهي مما كان يريد .
وبعد ساعة وحينما خرج وارتدى ثيابه قرر الذهاب للتدريب كعادته، لكن وقبل أن يتحرك، أبصر مشهدًا جعله يسرع وهو يشير للجنود ألا يتبعوه …
خرج يتبع تلك الفتاة التي تسير بحرص شديد وتتلفت بشكل يخبر الجميع أن ينتبهوا لها فهي على وشك القيام بشيء سييء .
ابتسم إيفان بسخرية شديد وهو يراها تتعمق صوب ممر لا يوجد به أحد تقريبًا، تناسى منصبه وكل شيء يتبعها لمعرفة ما تريد ونا تنوي ظنًا أنها جاسوسة أو متسللة، ولم يدري أنها نفسها مقتحمة مرحاضه وصاحبة كارثة الثيران .
وحينما توقفت أمام أحد الأبواب ابتسمت بسمة واسعة تضم المنشفة وبعض الثياب لها تمني نفسها بحمام ساخن منعش فاخر في جناح قائد الجيوش والذي كان خارج البلاد في هذا الوقت .
فجأة سمعت صوت خلفها يهتف بكل برود :
” لا انصحك بفعلها …”
صرخت كهرمان برعب شديد تستدير بسرعة خارقة وهي تضرب من خلفها بما تحمل، ثم التصقت في ركن الممر، وايفان وضع يده أعلى وجهه بغضب لتتسع أعين كهرمان مرددة بارتجاف :
” مولااااي ؟؟؟ أنا… أنا..”
” أنتِ ماذا أيتها الكارثة ؟! كدتي تتسببين في إصابتي بالعمى، ما الذي تفعلينه هنا امام جناح قائد الجيوش ؟؟ ”
نظر للثياب التي القتها على وجهه ليشحب وجهها هي .
حدقت به كهرمان وهي تدرك أن تلك المرة قد وضعت بالفعل نهاية لحكايتها البائسة، إن علم الملك أنها جاءت لتستحم في جناح قائد الجيوش مستغلة عدم وجود جنود على بابه، سينحر رأسها..
لكن هي ليست بالغبية لتعترف بما كادت تفعل، هي ستراوغه بكل ذكاء، وبالفعل نطقت بما سيجعلها تنجو من العقاب :
” أنا جئت كي انظف جناح قائد الجيوش، واطمأن أن كل شيء به صالح للاستخدام بعد غلقه لفترة طويلة ”
لو أنكِ قلتِ الحقيقة لكان افضل من هذا الهراء الذي اخرجتيه من فمكِ للتو كهرمان، أقسم أن لا غباء ينافس خاصتك، هذه المرة لن يكفي زمرد أن تعلق جسدك على باب السكن لتطعلك عبرة لكل غبي أسفل سقف تلك القلعة .
ابتسم إيفان بسمة جانبية أظهرت لها جيدًا أنه لم يقتنع، حسنًا هذا جيد نوعًا ما، فلو كان اقتنع بالهراء الخاص به لشكت في قواه العقلية ولتأكدت أنه لا يصلح ملكًا من الأساس .
تنحنحت وهي تقول بصوت خافت بعض الشيء :
” حسنًا بما أنك هنا مولاي، فسوف ارحل الآن واعود وقت آخر للتنظيف ”
تحركت ببطء لحمل ثيابها التي القته بها منذ ثواني، وقد كانت تتلاشى النظر له، وهو فقط يراقبها بسخرية لاذعة وحينما رأى أنها انتهت وتحركت بكل بساطة بعيدًا عنه أوقفها يقول :
” القائد لا يمتلك مرحاضًا واسعًا فخمًا كما تتخيلين، بل هو يمتلك واحدًا صغيرًا لا يستخدمه اغلب الوقت ”
نظرت له بصدمة ليكمل ببسمة وقد عرفها من ثيابها التي تحملها وصوتها المرتجف :
” هو في العادة يقضي أوقاته خارج القصر ولا يستعمل جناحه أو مرحاضه سوى مرات قليلة”
علت نظرات الخيبة أعين كهرمان وقد شعرت بالحنق يعلوها، ليقترب منها إيفان يضيف :
” هو يستحم معظم الأوقات في البحيرات وأسفل الشلالات، إن كنتِ تفكرين الآن في الأمر ”
اشتعل وجه كهرمان بقوة وهي تتراجع بعيدًا عنه :
” ماذا ؟! لا لا أنا … أنت يا مولاي قد فهمت الأمور بشكل خاطئ صدقني، من جاء على ذكر الاستحمام الآن بالله عليكِ، أنا فقط كنت اريد تنظيف المكان ”
نظر ليدها :
” بثياب نظيفة وسائل استحمام ومعطر جسد ومنشفة ؟! لا اظن ذلك ”
تنهدت كهرمان تهتف من بين أسنانها :
” لا أحب التعامل مع الاذكياء حقًا، الأمر مرهق ”
أطلق إيفان ضحكات مرتفعة وهو يقول بجدية :
” صدقيني نفس الأمر معي، لا أحب التعامل مع الحمقى، يكون التعامل معهم مرهقًا كذلك كما يحدث لي معكِ الآن”
هزت رأسها وهي تضم الثياب لها تخفي اسفلهم اشيائها الخاصة بالاستحمام :
” نعم اصدقك فأنا….مهلًا هل وصفتني بالحمقاء للتو ؟؟”
تنهد يتجاهلها متحركًا بعيدًا عنها وقد أخذت أكثر مما تستحق بالفعل :
” نعم فعلت.”
راقبت كهرمان رحيله لتشعر فجأة بالغضب يملء صدرها والحنق يعميها :
” هذا كان قاسيًا حقًا ”
سارت خلفه بغيظ شديد وفي رأسها تود أن تستوقفه للشجار معه، لكن فجأة ابصرته يخرج سيفه من الغمد وهو يتحرك للدرج الخلفي الذي يؤدي للساحة الخلفية حيث رأته لأول مرة وهو يبارز قائد الرماة .
ووصل لها صوته يقول بهدوء لأحد الجنود :
” اخبر أحدهم أن يأتي لمبارزتي …”
ابتسمت بسمة جانبية تميل برأسها وقد شعرت بالحماس لمتابعة مبارزة أخرى، لكن هذه المرة أرادت أن تكون عن قرب أكثر…
__________________________________
” ومن ثم تركتها ورحلت، أعني أنا فعلت الصواب، فمثل تلك الفتيات ذوات الألسنة الحادة لا يجب أن تتناقش معهن بالمرة، أفضل حل هو أن تتجاهلهن، حسنًا إن أردت رأيي فالنساء جميعهن يجب تجاهلن ”
ختم تميم كلماته وهو يركز كل حواسه في المواد التي يملكها أمامه لصنع قنبلة جديدة غير تلك التي خربت سابقًا، ومازال عقله يعرض عليه لقاءه مع تلك الفتاة قصيرة القامة طويلة اللسان .
بينما كان دانيار يجلس جواره يصفر بلا اهتمام لأي شيء، يحمل بعض السهام ويقوم بتلميعها، وتميم يكمل حديثه بكل جدية :
” لا لا يا دانيار، أنا لم أخطئ فيما فعلت، بل ما فعلته كان عين العقل ”
صمت ثم أكمل وكأن دانيار يحاوره بالفعل :
” صحيح هذا ما فكرت به كذلك، ثم أنا لا قبل لي بالتعامل مع النساء بحنان ولين مثلك ”
بدأ دانيار يختبر شفرات السهام واحدة تلو الأخرى، وتميم يكمل عمله بكل دقة وحرص شديد لئلا ينفجر بهم المعمل مجددًا :
” نعم أنت محق دانيار، يجب أن نتجنب النساء كي لا نتسبب لأنفسنا بصداع ”
ابتسم دانيار بسمة سعيدة حينما أتم التأكد من جميع سهامه العزيز، ومن ثم بدأ ينظف حاملة السهام نفسها بكل هدوء وتميم يكمل عمله وكذلك حديثه :
” وأنت أخبرني ما الجديد في حياتك ؟! هل فعلت ما طلب منك الملك ؟!”
ترك فجأة تميم ما بيده منتبهًا له :
” لا تقل أنك نسيت يا رجل ”
نظر له دانيار بطرف عينيه ليبتسم الآخر :
” نعم هذا ما ظننته أيضًا، آه يا صديقي الحياة ليست بهذه السهولة التي كنا نعتقدها حينما كنا صغارًا، أتتذكر تلك الأيام دانيار حينما كنا نركض في السهول ونلعب في البحيرات دون أن نحمل همًا ”
صمت يتنهد بصوت مرتفع :
” نعم كانت بالفعل ايام جميلة ”
فرك دانيار خصلات شعره، ثم تمطأ وتميم يكمل حواره الشيق بينه وبين دانيار الخيالي الذي يصنعه كي لا يصاب بالجنون من تصرفات المزعج الحقيقي .
وفجأة انتفض تميم عن مقعده يقول بأعين متسعة :
” لقد نجحت، لقد نجحت، تغير لون المسحوق دانيار، انظر لقد نجحت في صنع بارود متطور غير ذلك التقليدي يا رجل ”
نظر له دانيار بفضول شديد ليبتسم له تميم :
” نعم يا غبي الأمر رائع، بارودي العزيز سيحدث ثورة في عالم الأسلحة ”
نهض دانيار يتحرك صوب طاولة الأدوات الخاصة بتميم يقول وهو يشير صوب المادة التي بدأت ذراتها تهتز على الطاولة :
” مهلًا، هل تحركت تلك المواد للتو ؟!”
نظر له تميم بعدم فهم :
” ماذا ؟!”
لكن دانيار دفع رأسه وانظاره بسرعة صوب الطاولة وهو يصرخ مشيرًا لتلك المادة الصلبة التي كانت تنجذب بشكل غريب صوب النار :
” يا غبي انظر، باردوك العزيز يركض صوب النيران كالمشتاق للحبيب ”
اتسعت عين تميم وهو يحدق بذرات البارود التي تجذبها النيران كالمغناطيس، ليقول وهو يشعر أن القادم ليس جيدًا أبدًا :
” أوه لا ”
صرخت دانيار بجنون :
” ماذا تعني بأوه لا ؟؟ ما الذي فعلته يا أحمق؟!”
تراجع تميم للخلف شيئًا فشيء، ثم قال بريبة وبقلق :
” إذن يا صديقي يستحسن أن تركض الآن، فالقادم لن يعجبك، أو يعجبني أو يعجب أحد داخل جدران ذلك القصر ”
وبمجرد أن ختم كلماته هرول تميم للخارج صارخًا بصوت مرتفع :
” حريق على وشك النشوب داخل المعمل ”
كل ذلك ومازال دانيار لم يستوعب بعد ما يحدث ويقف أمام الطاولة يراقب هرولة ذرات الباورد صوب الشعلة التي يستعملها تميم عادة لتسخين المواد، ثواني حتى عاد له تميم يسحبه خارج المعمل صارخًا :
” أيها الغبي اركض سوف تصبح قطع محترقة بعد ثواني ..”
هرول الإثنان للخارج برعب شديد في الوقت الذي على صوت انفجار في المكان هز اركان القصر بأكمله ..
في ذلك الوقت كانت برلنت تسير صوب الطابق السفلي لإحضار بعض المؤن اللازمة لتحضير طعام الجنود، تتلو بعض الأغاني القديمة التقليدية للنساء وهي تسير باستمتاع وهدوء، لكن فجأة شعرت بالأرض تهتز أسفلها، ضيقت ما بين حاجبيها بتعجب تقضم قطعة تفاح داخل فمها ثم أخذت تلوكها بتفكير وهي تحدق بذرات الرمال التي تهتز ارضًا :
” ما الذي يحدث هنا؟! هل هناك زلزال أو ما شابه ؟؟”
رفعت عيونها ببطء وجهل، لتشعر أن الهزة ازدادت وبمجرد أن نظرت أمامهما اتسعت عيونها بقوة وهي ترى رجال كثيرين يركضون صوبها وأحدهم يصرخ بجنون :
” اخلوا الممـــر ..اخــلوا الممــــر ”
شهقت برلنت وهي تتراجع للخلف تضع التفاحة في فمها، ثم ألقت الإناء من يدها تسمك طرف ثوبها كي تركض، لكن فجأة شعرت بمن يجذب ثيابها بيد قوية ويركض بها صارخًا :
” ابتعدوا بسرعة ”
و برلنت كانت تركض دون وعي، وهناك تفاحة في فمها تمنع صرخاتها وعيونها متسعة بشكل مثير للضحك، وتميم يركض معها دون أن يعلم هويتها أو يدري من بجذب، هو فقط أخذ كل من قابله في طريقه….
نزعت برلنت التفاحة من فمها وهي تصرخ بنبرة توشك على البكاء :
” أسرع، يا ويلي اسرع سنموت، كله بسبب ذلك المختل الذي لن يتوقف إلا عندما يقتل له دزرينة رجال ونساء ”
نظر لها تميم ليقول بغيظ شديد :
” هذه أنتِ يا طويلة اللسان، لو علمتك من البداية لتركتك علّ القنبلة هذه المرة لا تخيب آمالي وتحولك لاشلاء .”
اشتد جنون برلنت لتنحني فجأة على ذراعه وتنقض عليه بالعض الذي جعله يطلق صرخات ولعنات وسباب ارتفع في الممرات، حتى أنه فجأة تعرقل وسقط ارضًا بسبب حركاتها، ليغفل عن الدرجات أسفل قدمه ويسقط عليها مع برلنت والعديد من الأشخاص بقوة والجميع أعلى الدرج يراقبون بأعين متسعة ما يحدث ….
__________________________
كانت الصغيرة تجلس في أحد الأركان باكية بصوت مرتفع، وقد ازداد ارتفاعًا بمرور الوقت ليأتي على أثره تلك المرأة المتجبرة المرعبة وهي تصرخ في جميع الأطفال حولها أن يبتعدوا جانبًا، ثم حدقت بالصغيرة الباكية وهي تنغزها بيدها :
” مالك يا بت أنتِ على المسا نازلة عياط كده ليه ؟؟”
رفعت الصغيرة الباكية وجهها وهي تقول من بين شهقاتها بصعوبة شديدة :
” تبار…تبارك ضربتني ”
ومن ثم انفجرت مجددًا في البكاء لتستدير السيدة تحدق في الجميع بشر كبير وقد شعرت داخلها بغضب قادر على إحراق مدينة بسكانها، تلك الملعونة تبارك والتي تتسبب لها بالعديد من المشاكل في العمل، تكرهها وتكره اليوم الذي خطت به ذلك الملجأ، منذ جاءت وهي متمردة مجادلة، لا تخشاهم وهذا أكثر ما يثير حنقها .
” فين الزفتة تبارك …فين طين البرك اللي مش هتسكت غير لما اقطم رقبتها ؟؟”
كانت تتساءل وهي تبحث عنها بين الجميع وقد نوت لها الليلة على جحيم لن تنساه، ستقومها ولو كان بالاجبار، ستجعلها تخضع لها ولو كان بالقوة .
ابتعدت جميع الفتيات عن المربية في تلك اللحظة وقد بدأت ملامح الرعب ترتسم على وجوههن، رافضين الحديث بكلمة، لكن الصغيرة الباكية نهضت بسرعة كبيرة تقول بحنق طفولي لا تعلم له عواقب :
” مستخبية تحت السرير اللي هناك ده يا أبلة سميحة ”
نظرت سميحة في المكان بأعين غاضبة، ثم تحركت صوب الفراش ومالت بجسدها الممتلئ لتجد تبارك تجلس في الركن ملتصقة بالجدار وكأنها تود لو تصبح رسمة عليه لا روح فيها، تضم دميتها الغبية الممزقة والمتسخة لصدرها وهي ترتجف، وحينما لمحت أعين سميحة تلتمع بالتهديد في الظلام قالت بصوت مرتعش :
” هي …هي اللي شتمتني وقالت إن… إن ماما مش كويسة يا أبلة ”
حجج كثيرة لم تكن سميحة مهتمة بسماعها أو التفكير بها حتى وهي تميل بجسدها أكثر تجذب لها جسد تبارك بقوة غير مهتمة بالارضية الباردة التي التصق بها وجه الصغيرة وهي تصرخ برعب .
بل فقط جذبتها للخارج، ثم سحبتها من خصلات شعرها تهز جسدها وتخضه بقوة صارخة :
” هو أنا مبقاش ورايا غيرك ؟! مبقاش فيه غير تبارك هي اللي عاملة مصايب ؟! ايه اسيب شغلي واشتغلك يا روح امك ؟!”
بكت تبارك برعب وهي تشعر بقلبها يكاد يتوقف :
” والله ما عملت حاجة يا أبلة والله هما اللي بيضايقوني وبيضربوني، أنا آسفة والله، خلاص يا ابله سميحة بالله عليكِ خلاص ”
تحولت الصغيرة من مرحلة الدفاع للانكار، واخيرًا وصلت للتوسل، ترتجي منها رحمة بطفلة صغيرة يتيمة لا تملك من الحياة ما يؤهلها للدفاع عن نفسها أمام تلك الطاغية التي سحبتها خارج العنبر بأكمله وهي تحاول سحب نفسها منها باكية برعب صارخة :
” والله ما عملت حاجة يا أبلة سميحة، بالله عليكي آخر مرة والله آخر مرة ”
لكن أي كلمات وأي رجاء يلقى صداه عند امرأة قد انتزعت قلبها ووضعت محله صخرة مصمتة لا رحمة بها، كانت تلك المرأة ممن قال الله عنهم في كتابه العزيز ” ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ”
كانت قاسية للدرجة التي تجعلها تهبط فوق جسد الصغيرة تبارك بسوط دون الاهتمام لصرخاتها التي هزت أرجاء الملجأ بأكمله وحركت قلوب الاموات في قبورهم ..
كل ذلك كانت تراه تبارك أثناء حلمها وهي تتحرك برعب وترتجف على الفراش باكية تهمس كلمات غير مفهومة له، هو فقط جاء كي يطمئن عليها بعد تبديل ثيابه، ليسمع صوت تأوهات من الخارج جعله يندفع للداخل، ليرى جسدها يهتز بهذه الطريقة المرعبة ويختض وينتفض كما لو كانت تحارب في أحلامها، لكن حروبها كانت أكثر شراسة من تلك الحروب التي يخوضها هو، كانت تحارب كوابيسها، وما اسوء من محاربة ما لا تستطيع التحكم به أو لمسه .
مال سالار قليلًا فقط ليصل صوته لها أثناء نومها وبدأ يقرأ بعض آيات القرآن بالقرب من أذنها بصوت خاشع أجش، صوت وصل لها في أحلامها بلسمًا، ليتبدل الكابوس بحلم جميل لفارسها البوليوودي الذي كانت تراه سابقًا وهو يضمها ويهمس لها كلمات مطمئنة بصوته الاجش، يهمس لها بآيات من القرآن ويربت على ظهرها بحنان لتبتسم تبارك واخيرًا تاركة لنفسها فرصة التنفس براحة داخل أحضانه .
ابتسم سالار حينما رأى جسدها قد بدأ يتراخى شيئًا فشيء ليعود بظهره على المقعد وهو يتنفس بصوت منخفض :
” ترى ما الذي تضطرين لمحاربته في احلامك مولاتي ؟؟”
____________________
أي جنون ذلك الذي ألقى بكِ لمثل ذلك كهرمان ؟! كيف فكرتي في مثل تلك الفكرة الغبية لتثبتي له أنكِ لستِ حمقاء كما يظن، وتنتقمي منه، وكيف ستفعلين وأنتِ من الأساس ترتدين ثياب جندي ولثام جندي ؟!
تنهدت بصوت مرتفع تتقدم صوب ساحة التدريب حيث كان يقف الملك وهو يحرك السيف الخاص به في الهواء بمهارة شديدة وتمكن كبير وملامح مرعبة جعلت اقدام كهرمان ترتعش رعبًا .
ابتلعت ريقها وهي تستدير رغبة في الهرب وإرسال أحد الجنود غيرها، لكن استوقفها صوت إيفان الذي قال متأففًا :
” وهل سأنتظر اليوم بطوله ؟؟”
استدارت كهرمان ببطء تنظر له ولجسده الذي كان يلتمع بسبب ذرات العرق عليه، ابتلعت ريقها وقد بدأت قبضتها ترتعتش، هي لن تنجو من ذلك، لطالما وصفتها زمرد بالتهور، لكن ما ما تفعله الآن اسوء من التهور بمراحل، هذا ببساطة انتحار .
كيف تعتقد تلك الغبية أن تدريبات شقيقها لها سابقًا قد تؤهلها لمجاراة ملك سفيد في قتال بالسيوف ؟!
تأفف إيفان بصوت مرتفع وهو يرى ذلك الجندي يتقدم بتردد صوب الساحة، لذلك تحرك صوبه بخطوات واثقة ودون مقدمات رفع سيفه في الهواء ليباغته بضربة قوية تصدى لها الجندي بمهارة جعلت بسمة واسعة ترتسم على فم إيفان يقول بهمس :
” ارني ما لديك يا فتى ”
وفي ثواني رفعت كهرمان سيفها وعادت للخلف بحركات ماهرة، ثم ركضت بسرعة كبيرة قافزة في الهواء وهي تحرك سيفها بمهارة لا بأس بها تهجم على إيفان الذي تصدى لضربتها بمهارة منقطعة النظير، وقد أعجبه الأمر واعجبه روح التحدي الواضحة في ذلك الجندي، فالجميع حينما يتبارز معهم يتعاملون معه بحرص شديد، لكن هذا كان جريئًا قويًا لا يهمه شيء، أو أنه الآن يقاتل الملك .
ابتسمت كهرمان وقد بدأت تستعيد كل ما تعلمته واكتسبت ثقة مع أول ضربة تصدت لها، تهجم عليه تارة وتدافع تارة، تتدحرج في الأرض وتقفز وقد بدأ القتال بينهما يشتد بقوة لا مثيل لها .
ورشاقة كهرمان كانت تؤهلها للتحرك بحرية كبيرة
لا تشبه أبدًا حركات رجل، وهذا ما جعل أعين إيفان تضيق يشك وهو يراقب كل حركة من ذلك الجندي بشكل جيد، وفي ثواني هجم بشراسة عليه متسببًا بجرح في ذراعه جعل صرخة كهرمان تخرج دون وعي .
لتتسع أعين إيفان بقوة وقد بدأ جسده ينتصب بتحفز يقترب منها بسرعة كبيرة صارخًا :
” امرأة في ساحة القتال ؟؟”
ابتلعت كهرمان ريقها وهي تدرك أن ساعتها قد حانت، يا الله ستموت هذه المرة، وحينما أوشك إيفان على الوصول لها رفعت في وجهه السيف تحذره بعيونها أن يتقدم وهو يحاول معرفة أين رأى تلك العيون ..
قالت كهرمان بصوت خافت بعض الشيء وقد حاولت تغيير نبرتها قدر المستطاع :
” للخلف ولا تفكر في الاقتراب ”
ارتسمت بسمة على وجه إيفان من تهديدها، لكنها أبدًا لم تكن بالسعيدة أو حتى الساخرة، بل كانت بسمة غاضبة مخيفة، جعلت كهرمان تعود للخلف وهي ما تزال ترفع السيف في وجهه محذرة، لكن إيفان رفع سيفه مجددًا يقول بشر :
” تريدنه قتال ؟؟ فليكن سيدتي ؟؟”
ختم كلماته بأنحائه صغيرة، ثم هجم عليها بشراسة مرعبة جعلتها تميل بنصف جسدها وهي تصد ضربته، تعتدل بسرعة كبيرة تصد ضرباته واحدة تلو الأخرى ببسالة وجسارة، إن كانت ستموت أو تُعاقب فليحدث ذلك بشرف كما علمها شقيقها ..
كانت كهرمان تبارزه بكل مهارة تعلمتها وتتحرك في الساحة وهو اندمج في القتال معها ونسى أنه الآن يواجه امرأة، بل بدأ يستمتع بذلك النزال والقتال، يرفع سيفه ويضرب بقوة وكأنه في معركة حقيقية ..
بدأت كهرمان تصاب بالتعب لترتسم بسمة على فم إيفان وهو يرفع سيفه ضاربًا يدها ضربة قوية مسقطًا سيفها ارضًا :
” ماذا ؟! أصابك التعب منذ الآن؟؟”
نظرت له بشر ليقول بصوت منخفض وهو يضع السيف أمام رقبتها وعيونها:
” لا تنظري لي هكذا آنستي فأنا لا أخشى عيون القطط خاصتك تلك، لا ادري كيف ظننتي أنني سأُخدع بكِ، منذ متى وامتلك جنودي جسد مرن وصغير الحجم كخاصتك ؟؟ ”
صمت ثم نظر ليدها التي كانت تمسكها بوجع :
” ومنذ متى كانت ترتجف أيديهم عند القتال ؟! ينقصك الكثير لتصبحي مبارزة بارعة يا امرأة، والآن اكشفي عن وجهك واخبريني من أنتِ وماذا تفعلين بثياب جنودي ؟؟”
ابتلعت كهرمان ريقها تعود للخلف ببطء شديد وقد بدأ وجيب قلبها يعلو أكثر وأكثر حتى شعرت بقرب توقفه من الرعب …
اشتعلت النظرات بين الإثنان ليتوه إيفان في عيونها وتلك القوة داخلهما جذبته كما الفراشة للنيران.
فجأة قطع كل ذلك صوت خلفه يقول :
” سيدي العريف يحتاجك بأمر هام ”
نظر لها إيفان ثواني قبل أن ينظر إلى سيفه مبتسمًا يقول بجدية :
” أخبره أنني قادم ..”
تحرك الجندي لتستغل كهرمان ذلك وهي تدفع إيفان للخلف بسرعة كبيرة وتركض خارج ساحة المبارزة وهي تشعر بقلبها يكاد يتوقف من الرعب وايفان لم يتحرك من مكانه مبتسمًا على ما تفعل، تحسب أنها خدعته وهو من أرخى دفاعاته، تعجبه تلك اللعبة، الذئب والنعجة .
ألقى السيف ارضًا ثم نظر لاثرها يقول بهدوء :
” جيدة كامرأة…سيئة كمحارب ”
_____________________
يقف على مقدمة السفينة وهو يمارس بعض التمارين مخافة أن تضعف قدرته البدنية لابتعاده هذه الأيام عن تمارينه المعتادة، فهو يومًا واحدًا لم يتخلف عن تأدية تمارينه أو المبارزة، إلا في حالة الحرب وقتها يطبق عمليًا ما تمرن عليه، والآن مرت اسابيع لم يحمل بها سيفًا أو يقاتل ..
كان يقف أمام صمود يقاتله بالأيدي بكل مهارة وصمود ذلك التعيس الذي جعله حظه النحس يستيقظ مبكرًا ويقع أمام سالار حتى يعرض عليه الأخير تمرينًا خفيفًا .
وها هو قد كُسر له ضلعين وأُصيبت عينه اليمنى بكدمات وأصبحت ذراعه رخوة لكثرة الضربات التي تلقتها، وكل ذلك خلال ( التمرين الخفيف )، حمدًا لله أنه لم يقترح قتالًا شرسًا، لكان الآن أصبح بطول صامد بعدما يكسر له القائد سالار عظامه ويطويه …
خرجت صرخات من صمود بعدما قبض سالار على ذراعه بحركة متمرسة يجذبه له وهو يقول بصوت خافت :
” ما بك صمود ؟؟ هل تحاول أن تتهاون معي ؟! قاتل يا رجل ولا تخشى ”
نظر له صمود يبتلع ريقه بألم:
” ليتني امتلك رفاهية التهاون يا قائد، أنا أريد أن أصل لمرحلة التهاون تلك، لكنني مازلت أحاول أن اقاتل، اعطني فرصة لرفع إصبعي ”
تركه سالار فجأة، ثم عاد هو للخلف يحرك رقبته بهدوء مبتسمًا بسمة صغيرة هادئة :
” حسنًا لك ذلك، سأمنحك فرصة الهجوم عليّ، أريدك أن تغافلني بحركة غير متوقعة، لتتخيل أنك في معركة ضدي صمود، هيا ”
تمتم صمود بتأوه مكتوم :
” أتخيل ماذا يا قائد؟! التخيل نفسه مفزع، أنت مرعب في معاركك ”
منحه سالار هزة بسيطة من كتفه :
” فقط تخيل، ولا تخف فلن اعقابك إن اصبتني بشيء، هذا متوقع في القتال ”
ردد صمود بتمني :
” أقسم أنني لا امانع إصابتك يا قائد، لكنني لن استطيع، الحالة الوحيد التي يمكنني إصابتك بها هي عندك تخديرك بالكامل ”
أعاد سالار خصلاته الصهباء الكثيفة للخلف يشير له بالاقتراب، وصمود ابتلع ريقه يردد بينه وبين نفسه بنبرة أوشكت على البكاء :
” ليتني مت عطشًا وما استيقظت مبكرًا للشرب ”
” هيا صمود لن انتظر اليوم بطوله ”
” ما بك تتعجل موتي يا قائد، رجاءً اعطني فرصتي لرثاء نفسي واستعادة ذكرياتي قبل الرحيل ”
تنفس بصوت مرتفع مغلقًا عينيه يستدعي كل قوته المخزنة داخل جسده، وقوته الباطنية التي حتى لم يستكشفها يومًا، يقوي روحه قبل جسده، واخيرًا فتح عيونه ببطء يستشعر اصوات الرياح الخفيفة حوله وقد أصبحت جميع حواسه في كامل قوتها وتركيزها، نظر لسالار من أسفل رموشه، يطقطق رقبته، ويفرقع أصابعه، ويحرك لسانه على باطن خده، ثم ابتسم بسمة جانبية يتراجع للخلف خطوة، ومن ثم انطلق بقوة مرعبة وخطوات سريعة كالبرق صوب جسد سالار الذي كان في انتظار ضربته..
وبمجرد أن أصبح على بُعد خطوة من سالار رفع يده صارخًا صرخة حماس سرعان ما خفتت حينما تلقى لكمة واحدة من سالار اسقطته ارضًا واسقطت معه كامل تجهيزاته .
وتزامنًا مع صوت اصطدام جسد صمود بالأرض ارتفعت صرخة من فم تبارك التي كانت تراقب القتال منذ بدايته والتي تراجعت للخلف حينما رأت ما حدث قائلة بصدمة :
” يا منجي من المهالك يارب ”
رفع سالار رأسه له بتعجب وهي ابتلعت ريقها وما تزال تنظر لصمود الذي هبط ارضًا ولم يصعد حتى الآن، وحينما رفعت رأسها لسالار قال بهدوء شديد وكأنه يخبرها تحية الصباح :
” تريدين قتالي ؟؟”
نظرت تبارك حولها بسرعة كبيرة على أمل أن يكون هناك من يحدثها خلفها، لكن اكتشفت أنها هي الفتاة الوحيدة هنا وعلى السفينة، أشارت على نفسها بصدمة :
” أنا ؟؟ اعاركك أنت ؟؟”
اومأ سالار بجدية :
” نعم، تستطيعين ؟؟ جميع الملكات يستطيعون القتال بمهارة معينة، هناك من يستطيع القتال بالسيوف أو السهام وغيرها من الأسلحة ومنهم من يبرع في استخدام اليد في القتال، ما الذي تبرعين أنتِ فيه ؟!”
” بعرف ادي حقن ”
تشنجت ملامح سالار بعدم فهم، بينما تبارك استرسلت بسرعة تقول بلهفة :
” أنا احسن واحدة في المستشفى كلها تدي حقن، والله كان المرضى يطلبوني بالاسم، اصل انا ايدي خفيفة محدش بيحس بيها ”
ارتفع حاجب سالار لا يفهم ما الذي تقصده، يتمنى ألا يكون ما وصل لعقله منذ قليل صحيح، لا يجوز، أن تكون ملكتهم عديمة الخبرة في القتال لهو عار على المملكة بأكملها، أن تحظى بملكة ضعيفة لا تستطيع حتى القتال والدفاع عن النفس، فمن المعروف في جميع الممالك أنه ومنذ صغر الاميرات يتم تعليمهن مهارات القتال بمختلف أنواعها …
” لا تستطيعن استخدام أي سلاح ؟!”
صمتت ولم تتحدث بكلمة واحدة، بينما هو شعر بصدمة كبيرة، يا الله أي ملكة تلك التي لا تمتلك من المهارات ما يؤهلها حتى للجلوس على العرش لثواني معدودة ؟
تحرك سالار صوبها بعناد، يخرج من ثيابه خنجرًا خاص به، يضعه بين يديها قائلًا :
” لا يمكن أن تكوني معدومة الخبرة القتالية، بالطبع هناك قدرات كامنة داخلك وعليكِ اكتشافها، هيا هاجميني ”
نظرت تبارك للخنجر ثواني، ثم رفعت عيونها له تقول ببسمة غير مصدقة :
” اهاجمك ؟؟ زي المرحوم اللي لسه مرمي في الأرض ده ؟؟”
كانت تتحدث وهي تشير صوب صمود والذي يبدو أنه لا ينتوي النهوض ابدا وكأنه استحسن فكرة إدعاء الموت كي لا يكمل سالار القتال معه …
ابتسم سالار يهز رأسه، وهي تراجعت للخلف رافضة أن تتسطح جوار صمود ارضًا بعدما ينتهي منها، لكن سالار لم يسمح لها صارخًا في وجهها بشراسة كما لو كان يأمر أحد جنوده :
” أخبرتك أن تهجمي عليّ…. الآن ”
وفي ثواني دون أن تعي حتى كيف رفعت السكين وحركت يدها ناحيتها بقوة ليتجنبها بكل سهولة ينظر لطريقة امساكها السكين بشر :
” ما هذا ؟! هل تقطعين بعض الخضروات ؟! احملي سلاحك بشكل صحيح ”
” سلاح إيه يا مجنون يا ابن المجانين أنت، حد قالك أنك معاك خبيرة قتال ؟؟ ده اخطر حاجة مسكتها كانت مشرط الجراحة عشان اناوله للدكتور وبعدها علقولي محاليل من الخضة ”
كان سالار يستمع لها دون اهتمام بكل ذلك الهراء، كل ما يهمه هو أن يجبرها على استخدام قوتها الكامنة داخلها :
” إذن أنتِ لن تهجمي عليّ ؟؟”
تحدثت بسخرية وهي تلوح بيديها في الهواء ثم أشارت صوب صمود :
” كان عمود النور المرمي في الأرض ده قدر، أنت صاحي على الصبح عايز تتكيف على قفانا ولا ا..”
وقبل أن تكمل كلمتها أخرج سالار خنجر آخر يخفيه في ثيابه حتى يريها كيف تحمله، لكن وحينما أظهره لها أطلقت تبارك صرخة جنونية متراجعة للخلف ظنًا أنه سيتخلص منها، ترفع الخنجر في وجهه :
” حاضر ههاجمك، والله هقطعك واعملك كل اللي عايزه، بس ..بس ارجع ورا شوية، اديني بس فرصتي وانا هعملك شرايح دلوقتي ”
ورغم تعجبه من كلماتها إلا أنه نفذ لها ما تريد وتراجع بعض الشيء ليمنحها فرصة الاستعداد، وبالفعل بمجرد أن فعل تنفست تبارك بصوت مرتفع، ثم رفعت يدها وألقت الخنجر عليه بقوة كما لو كانت ترميه بصخرة، ثم ركضت صارخة بعيدًا عنه صوب غرفتها التي خرجت منها وهو ما يزال يراقبها بصدمة مما فعلت :
” يا الله الصبر ياالله، سيموت إيفان بحسرته حينما يرى ما خرج بعد بعد سنوات تعففه وصبره ”
_______________________
” أقسم بالذي خلقني لو اقتربت مني خطوة واحدة لاصرخن في طرقات القصر واخبرهم أنك تحاول التحرش بي، ولن يهدأ لي بال حتى أراك تُجلد أمامي أيها المختل”
اتسعت عين تميم بصدمة ولا يصدق ما وصل له حاله، فتاة من عامة الشعب تهدده هو، هو من تهتز له أجساد رجال يفوقنها الحجم اضعافًا مضاعفة، هو صانع الأسلحة الأشهر في الممالك وافضل فارس بين الجميع تقف أمامه تلك الـ شيء الذي لا يجد له مسمى ويهدده بالجلد ؟!
حاول تميم الفكاك من بين ذراعي دانيار صارخًا بجنون :
” أي تحرش هذا أيتها الحولاء ؟! بالله هل تصنفين نفسك امرأة لتقفي وتتبجحي باتهامك لي بالتحرش ؟؟ ”
نظر له دانيار بشر هامسًا :
” ما بك تميم ؟! منذ متى ونعامل النساء بهذه الطريقة ؟؟”
صرخ تميم بجنون بعدما أفلت من يده :
” ومنذ متى ونحن نصنف مثل هذه الطفيليات نساء يا اخي، بالله عليك انظر إليها، بعدما انقذتها من انفجار آخر كاد يتسبب في تحويل جسدها لقطع لحم بحجم الرمال، تنهض وتصفعني ؟؟ تصفعني أنا ؟؟”
تنفست برلنت تحاول أن تتماسك رغم ارتجافة يدها، فهي تقسم بالله ما علمت كيف تجرأت ورفعت يدها وصفعته لجذبه لها، بل وصرخت في وجهه متهمة إياه بالتحرش .
” هذا جزاؤك لأنك لمستني و…”
” بالله وتالله ووالله كنت سأهرول لحجرتي بمجرد تركك لغسل يدي بالمطهرات، فلا تتصرفين بهذا الشكل وكأنني كنت مستمعتًا لجذب بقرة تزن طنًا والركض بها بين طرقات القصر ”
نفخ بحنق يهمس من أسفل أنفاسه :
” يا الله على عقول النساء، عسى أن يعطيكن الله على قدر عقولكن ”
ختم جملته يتحرك بعيدًا عن الجميع وهو يتمتم بغيظ وصوت تمتماته يصل للجميع، وبرلنت ما تزال تقف ارضًا تحاول أن تلملم بقايا كرامتها التي دهسها تميم أسفل أقدامه قبل الرحيل..
بينما دانيار وضع يده أعلى فمه يكتم ضحكة كادت تفلت منه، يقول بصوت هادئ بعض الشيء يظهر به بوادر ضحك :
” اتمنى أن تعذري رفيقي آنسة، فهو كالثور لا يرى أمامه حين الغضب، لكنه في الحقيقة امممم ثور لطيف، والآن اعذريني وآسف على ما تعرضتي له، ارجو ألا يصل للملك ما حدث ”
تحرك دانيار بسرعة وبخطوات واسعة بعيدًا عنها قبل أن تنفلت ضحكاته أمام برلنت والتي كانت ما تزال متسعة الأعين فاغرة الفاه، تحاول استيعاب ما قيل لها منذ ثواني ..
وفجأة انتفضت على صوت ضحكات صاخبة جوارها، جعلتها تستدير بتحفز وأعين تقدح شرارًا، لتجد أن مصدر الضحكات لم يكن سوى زمرد التي شاهدت ورأت كل ما حدث، وقد كانت أحد الناجين من الانفجار .
تنفست زمرد بصعوبة من بين ضحكاتها :
” حسنًا، في الحقيقة كان هذا أكثر من قاسٍ ”
تنفست برلنت بصوت مرتفع وقد بدأت تعلو نظرة مرعبة عيونها قبل أن تندفع بعيدًا عن زمرد بشكل جعل الأخيرة تقول وهي تهز كتفها بهدوء :
” رجال هذا القصر، لا يعلمون عن احترام النساء شيئًا”
تحركت زمرد لتنتهي من جولتها في القصر حتى ينتهي وقت العمل ويحين وقت الطعام، لتركض وتتظاهر بالاعياء والمرض جراء عمل اليوم ..
وبعد ساعة من الدوران حول حديقة القصر الداخلية حيث تعمل النساء عادة ويُمنع دخول الرجال لهذا الجزء بسببهن، كانت زمرد تجلس أسفل إحدى الأشجار وهي تتناول بعض الفاكهة التي قطفتها بنفسها ..
لكن وبعد مرور ساعات شعرت بالملل الشديد لتفكر في فعل شيء مختلف، نهضت بسرعة تنفض ثيابها، ثم تحركت صوب الباب الخلفي للقصر وهي تفكر في الخروج والعودة قبل المغيب، سوف تأخذ جولة في سوق المملكة، لكن قبلًا عليها تبديل ثياب العمل تلك وارتداء ثيابها القديمة، ستعيش اليوم كما كانت تفعل قديمًا وبكل حرية بعيدًا عن أسوار السوق الخانقة…
وفي سوق المملكة كان يسير هو بثياب عادية يحاول الاندماج بين عامة الشعب لشراء ما يحتاج بنفسه دون وجود أي حراس أو خيله أو أسلحته، يضع قلنسوة من القماش كالتجار مخفيًا ملامحه، يبتسم لهذا وذاك …
وفجأة سمع صوت ضرب الدف يصدح في المكان والجميع يتحرك صوب أحد الأزقة التي تجاور السوق، قادته قدمه بسرعة ليتفقد ما يحدث ..
وبمجرد أن وصل وجد امرأة تقف في منتصف الزقاق دون لثام والذي عادة ما ترتديه النساء، لكن البعض قد يخلعنه، وتلك المرأة أمامه لم تكتفي بخلع لثامها، بل كانت ترتدي ثياب غير مسموح بها للنساء، بنطال قماشي واسع وسترة علوية واسعة من اللون الاسود وتضع حجاب اسود تعلوه قبعة من نفس اللون أعلى رأسها، تحمل بين يديها خنجران تدور بهما في المكان وهي تقول بصوت صاخب ساخر :
” ماذا ؟! ألا يوجد بكم رجلٌ يمكنه هزيمتي ؟؟ عارٌ عليكم أجمعين…”
ابتسمت بسمة واسعة، ثم انحنت بعض الشيء وهي تؤدي لهم تحية ساخرة :
” إذن الميدالية لي والجائزة لي، حظ أوفر ”
ختمت حديثها تلقي الخنجرين ارضًا بعدما انتهت من منافسة الرجال وفازت هي بشكل غير متوقع بالجائزة المعروضة، بدأت تجمع القطع الذهبية بكل استمتاع، لكن قبل أن تنتهي من وضع القطعة الأخيرة داخل السلة وجدت خنجر يصيب السلة جوار كفها بانشات قليلة، ابتلعت ريقها بصدمة تستدير ببطء لتلمح جسد رجل يخفي وجهه خلف قلنسوته والذي قال ببسمة ظهرت في عيونه :
” بل العار هو أن تعلني فوزك بحرب لم تكتمل سيدتي ”
نظرت له الفتاة تحاول تبين ملامحه وصوته المكتوم خلف لثامه يذكرها بصوت مألوف، لكن الجسد لم تتبينه بسبب كبر حجم ثيابه .
ابتسمت زمرد بسمة جانبية تترك القطع الذهبية، ثم انتزعت الخنجر الذي ألقاه هو بالسلة، وهي تشير للهدف الذي يتم التنافس على التصويب عليه، دققت النظر به ثم صوبت عليه بتحديد وبشكل مهاري جعل الجميع يشهق بانبهار وهي ابتسمت تمد له أحد الخناجر :
” دورك يا سيد ..”
انتزع منها الخنجر ونظر للهدف ثواني معدودة، ثم عاد ونظر لها ودون أن يعيد النظر للهدف رمى الخنجر ليصيب منتصف الدائرة بالضبط في نفس النقطة التي صوبت هي خنجرها صوبها، وقبل أن تستوعب زمرد ما حدث كان هو يلقي خنجرين آخرين بنفس الشكل وهناك نظرة تحدي ملئت عيونه …
اسودت ملامح زمرد وهي تسمع صوت الرجل يقول :
” هل من منافس آخر ؟؟ لا ؟؟ إذن المنافسة محسومة ”
وبهذه الكلمات ختم حديثه يتحرك لحمل سلة القطع الذهبية، ثم تحرك خارج الزقاق بكل هدوء، يمر برجل مسكين تظهر عليه امارات الفقر، فوضع له كل القطع الذهبية :
” عد لمنزلك يا عم واطعم صغارك ..”
سار بعيدًا عنه وهو يخرج ورقة من جيبه ليرى ما ينقصه، لكن فجأة سمع صوتًا خلفه يقول :
” أنت…توقف يا سيد ماذا تظن نفسك فاعلًا؟؟”
استدار دانيار ببطء يراقب اقترابها منه، وحينما أصبحت أمامه انتزعت القبعة الخاصة بها تهتف بأعين مشتعلة :
” هل تظن نفسك بارعًا وتتحداني أمام الجميع ؟؟”
” أنا لا أظن ذلك آنستي، أنا كذلك بالفعل ”
كانت يتحدث وهو يتأمل ملامحها باندهاش حاول أن يخفيه، ملامحها مختلفة كليًا عليه، ملامح شرسة حاد وأعين كحيلة قاسية وفم يقذف سهام أشد حدة من سهامه المسنونة بعناية، تلوح بيديها في الهواء ثم رفع اصبعها تقول بتحدٍ :
” غدًا في نفس الموعد ونفس الزقاق، سأريك كيف تكون الهزيمة على حق ”
نظر دانيار لاصبعها باستهزاء، ثم قال بكل هدوء :
” عفواً آنستي، لكنني لستُ متفرغًا لهرائك الخاص، ولستُ مضطرًا لإثبات أنكِ خاسرة، اعتقد أنك تعلمين نفسك جيدًا وانكِ ناضجة بالقدر الكافي الذي يؤهلك لمعرفة ذلك دون أن يثبته أحد لكِ ”
ختم جملته يتركها بكل بساطة يسير بعيدًا عنها تاركة إياها تراقب ظهره ورحيله بصدمة كبيرة، تشعر بالخسارة تأكلها من الداخل، الشيء الذي كانت تتميز به بين المحيطين بها جاء ذلك الغبي وهزهمها به ….
________________
تتحرك في أركان السفينة بحذر شديد، تتلفت حولها كل ثانية والأخرى كما لو كانت على وشك افتعال سرقة أحد البنوك، واخيرًا وصلت صوب الكابينة الخاصة بتناول الطعام أحضرت لها بعض الغذاء، ثم أخذته في صحن صغير وركضت صوب إحدى الطاولات واختبئت أسفلها وهي تتنفس الصعداء وتنظر حولها أثناء تناول لما بيدها، لكن فجأة وقعت عيونها على صامد وصمود يشاركنها مخبئها حاملين اطباق الطعام ويتناولون بنهم…
ابتسم لها صامد حينما انتبه لها يشير بيده قائلًا من بين مضغاته :
” مرحبًا ”
انطلقت صرخات مرتفعة من فم تبارك التي تراجعت للخلف برعب شديد، بينما انتفض صامد بسرعة يحاول أن يصمتها :
” اهدأي رجاءً قبل أن يصل صوتك للقائد، وحينها لن يرحم ايًا منا ”
نظرت لهم تبارك بتعجب:
” أنتم كمان مستخبيين منه ؟!”
اومأ صمود يقول بصوت منخفض :
” لقد جن القائد، من الصباح يتحين أي فرصة لقتال أي شخص تقع عليه عيونه، وقد كاد يقتلني في التدريب الأخير ”
اخفضت تبارك صوتها تهمس بقلق :
” هو …هو على طول كده يعني ؟؟ هما طالقينه كده على الناس ؟! مفيش حاجة حكماه يعني ؟؟”
تناول صامد بعض طعامه باستمتاع شديد وما يزال الثلاثة جالسين أسفل الطاولة يتناولون ما بأيديهم :
” حسنًا نحن لا نعلم الكثير، فبحكم وظيفتنا في المملكة لا تتقاطع طرقنا مع القائد كثيرًا ”
تمتم صمود براحة :
” حمدًا لله على ذلك ”
اكمل صامد وهو يبتلع ما بفمه :
” لكنني سمعت أن القائد لا يحتك بأحد سوى جنوده ورفاقه، وحينما لا تكون هناك حروب، فإنه يقضي وقت فراغه في التدرب على جنوده وتعليمهم كيفية القتال الصحيح، و…”
صمت ثم اقترب منها يهمس بجدية :
” سمعت أنه وحينما يرون سالار يتحرك صوب ساحة القتال، يفر الجميع مرتعبين منه ”
كانت تبارك تتناول الطعام بكل اندماج مع حكايات سالار التي كان صمود وصامد يقصونها عليها، وهي تتابع يحماس وشغف كبيرين تتسع عيونها تزامنًا مع اشتعال الأحداث، وصمود يصف لها انجازات سالار وأفعاله :
” وذات مرة دخلت مملكتنا في حربٍ مع المنبوذين، وسمعت البعض يقول أنه وفي منتصف الحرب رأوا القائد سالار يتحول لوحش ثلثه اسد والثلث الثاني فهد، والثلث الاخير كان تنينًا ”
شهقت تبارك بدهشة شديدة وهي تبتلع ما بفمها، تحاول أن تتخيل ذلك الوحش الأسطوري الذي يتحدث عنه الاثنان، وصامد لم يتوقف عند ذلك الحد :
” نعم نعم أنا أتذكر تلك الحرب جيدًا، لقد أخرج نيرانًا من فمه، هو فقط توقف في منتصف ساحة الحرب فاردًا ذراعيه باتساع، ثم نفخ صدره وقال بصوت جهوري (قولوا وداعًا يا حمقى) ومن بعد تلك الكلمات لم يبصر أحد سوى جحيمًا مستعرًا خرج من فمه ”
ارتعش جسد تبارك تتخيل ذلك المشهد المهيب، لكن فجأة ومن وسط ذلك الحوار الشيق استمع الثلاثة صوت هادئ خلفهم، استداروا ببطء شديد ليجدوا سالار يجلس ارضًا بكل هدوء يضم قدميه لجسده، مبتسمًا بشكل مرعب، ومن ثم قال لهم بنبرة باردة كالصقيع :
” قولوا وداعًا يا حمقى …”
وبعد تلك الكلمات ارتفعت صرخات صامد وصمود اللذين انتفضا من خلف الطاولة ملقيين ما بأيديهما راكضين في المكان وصوت صرخاتهما يرن في الأجواء الهادئة .
بينما تبارك والتي لم تكد تهرب زحفت للخلف وهي تصرخ بصوت مرتفع صرخات متواصلة وقد كادت عيناها تخرج من محجرها، تعود للخلف وهي تلقي بكل شيء عليه :
” ارحمني، ارجوك ارحمني …”
وضع سالار يده على أذنه بانزعاج :
” بل أنا من ارجوكِ أن ترحميني وتتوقفي عن الصراخ، يا الله يا مغيث أكاد أفقد السمع ”
لكن تبارك كانت تبكي برعب وهي تزحف بسرعة من أسفل الطاولة لتخرج، ولم تكد تفعل إلا وشعرت بيد سالار تجذب ثيابها للاسفل مجددًا يردد بجدية :
” توقفي هنا واستمعي لي، أنتِ بالطبع لا تصدقين هـ ”
وضعت تبارك يدها أمام وجهها بسرعة كبيرة وهي ترتجف برعب وتردد من بين أسنانها التي تصطك بخوف :
” ارجوك متولعش فيا، أنا موافقة، هاجي معاك والله ”
” أنتِ حمقاء ؟؟”
لكن تبارك والتي كانت قد بنت في عقلها قصة كاملة عن مملكة خوارق ومصاصي دماء ومستذئبين ووحوش امثال سالار، لم تكن لتستمع لحديثه الذي يحاول إيصاله لها…
وحينما يأس سالار من أفعالها جذب ثيابها بعنف شديد جاعلًا إياها على بعد مناسب منه مرددًا من بين أسنانه ضاغطًا على كل احرفه كي يحشر كلماته في رأسها:
” أنا لست وحشًا ولا تنينًا ولا انفث نيرنًا من فمي كما أخبرك الاخوان الاحمقان، واضح ؟؟”
هزت رأسها بسرعة وبخوف :
” اللي تشوفه…. اللي تشوفه أنا معاك فيه ”
نفث بغضب قائلًا من بين أسنانه :
” أنا في هذه اللحظة لا أرى سوى ذرات الغباء تتحرك في المكان حولي ”
” صح، أنت عندك حق ”
كانت تتحدث وكأنها تهادن طفل صغير مخافة أن ينفجر في البكاء ويؤرق ليلتها، لكن الفرق أن من أمامها ليس طفلًا وأن انفجاره لن يكون بكاءً .
” أنتِ حتمًا اسوء واغبى ملكة ستحصل عليها سفيد يومًا”
” وماله يا باشا، اللي تشوفه ولو تحب اروح اعتذر منها بنفسي أنا مستعدة ”
” من هي ؟؟”
” سفيد ”
ترك سالار ثيابها يخرج من أسفل الطاولة بعدما آلمه ظهره من الانحناء يصرخ رافعًا يديه للسماء :
” يالله يا ولي الصابرين ”
راقبته تبارك وهو يخرج من المكان، بينما هي تحاول التنفس براحة شديدة بعدما تخلصت من أسر قبضته تردد :
” يا رب وأنا كنت ناقصة شغل الخوارق ده ووحوش وتحول وملكة و MBC2؟؟ والله انا أخري تسالي احلى عالم على MBC3 وكنت بمل في نصها وبجيب طيور الجنة ”
مسحت وجهها وهي تقول :
” خلاص هو الموضوع اتحسم، اول ما نوصل اقرب يابسة هسيبهم وأهرب على اول مركز شرطة اطلب منهم مساعدة، مستحيل اكمل مع شوية المجانين دول باقي حياتي ”
_________________
” ايه ده ؟؟ ”
اقترب سالار من الخلف وهو يحدق فيما تنظر له، غابة واسعة لا بداية ولا نهاية لها، أو هذا ما يظهر لهم، وأصوات مرعبة تخرج منها وكأنها تدعوك لخوض مغامرة رعب ستنتهي بموتك أنت وكامل طاقمك ..
ابتسم سالار يردد بهدوء :
” خلف هذه الغابة تقبع نهاية العالم ”
نظرت له تبارك بجهل:
” القيامة هتقوم؟؟”
” ماذا ؟؟ لا …اقصد المكان يسمى بحافة العالم أو نهاية العالم، وهذه هي بوابتنا لدخول المملكة ”
ابتلعت تبارك ريقها بقلق تشير صوب الغابة التي يخرج منها اصوات صريخ وحيوانات ليلة وهناك العديد من الطيور السوداء تحلق فوقها بشكل مثير للاختناق :
” يعني احنا هندخل هنا ؟! في الغابة دي ؟؟”
” نعم هذا صحيح ..”
اومأت تبارك بتفهم وهدوء شديد، هي لم تعد تتعجب ما يطلبونه منها، حقًا لم تعد تفعل :
” كلام جميل، كلام لطيف، لكن للاسف الشديد أنا ما اخدتش اجرتي عشان اشترك في فيلم الرعب ده، وانا سبق وجيت معاكم الرحلة على أساس أنها خيال علمي، بس محدش جاب سيرة الرعب، وعشان كده انا بنسحب من الفيلم ده وتقدروا تجيبوا أي زميلة مهنة تكمل الدور، اشوفكم في شاشات العرض، بالتوفيق يا شباب ”
وبمجرد انتهاء كلماتها تركت سالار وصامد وصمود خلفها دون اهتمام بهم، وسارت تحمل حقيبتها أعلى ظهرها وهي تردد بحنق وسخرية لاذعة :
” نهاية العالم …اللهي اشوف نهايتكم واحد واحد يا بعده”
زفرت بتعب وهي تنظر حولها لتلك الغابات المنتشرة والأشجار الشاهقة تردد بعجز وهي تخرج هاتفها عديم الفائدة تبحث عن شبكة اتصال، لكن بالطبع فشلت مساعيها، وضعت يدها أمام رأسها كي تخفي أشعة الشمس عن عيونها، تبحث في الإرجاء عما قد يفيدها مرددة بتأفف :
” اركب منين أنا لصفط اللبن دلوقتي ؟؟”
وكانت الإجابة هي ارتفاع اصوات الحيوانات في الغابة خلفها لتشعر تبارك بالرعب يتلبس جسدها، ابتلعت ريقها تستدير بخوف للخلف :
” يا قائد …يا قــــائــد ”
_________________________
أن تعيش طوال حياتك بحذرة مخافة أن تأتيك كارثة تؤرق مضجعك لهو أمر جيد، لكنك لم تدري أن كل الكوارث التي تجنبتها سابقًا بحذرك، تجمعت تنتظر لحظة طيشك لتغرقك كما السيل حين انهيار سد حذرك …
يتبع….
هناك بعض النقاط التي تسرع البعض منها في الحكم عليها واهمها، أن البعض يظن ” تبارك ” غبية لأجل تصرفاتها المرتابة، لكن اعزائي ببساطة تبارك شخص منطقي لأبعد الحدود، تخيلوا أن تستيقظوا لتجدوا رجلًا يخبركم نفس ما قاله سالار لها، واضطررتم لخوض مغامرة ابعد ما تكون عن حياتكم العادية، بالطبع ستجهلون كل شيء يمر عليكم مثلها، وتخطئون وترتابون وتخافون من كل شيء مجهول، فهذه المرة الأولى لها التي تتعامل مع مثل هذه الأشياء، وهي فتاة وحيدة منغلقة بالطبع يجب أن تكون ردات فعلها كما رأيتم، فأنا وضعت نقاط كثير في شخصية تبارك واهمها ( خوف تبارك الدائم من الموت والحرص على حياتها باعتبارها وحيدة لا سند لها، ومنطقيتها بعيدًا عن الخيال ) فهي لن تركض وتلبي النداء وهي سعيدة دون رفض، وفجأة تجد نفسها ماهرة في التأقلم على كل ذلك، هذا غير منطقي…وقريبا تنكشف باقي نقاط شخصيتها التي ستذهلكم .
ثانيا شخصية كهرمان، البعض وصفها بالغباء وصدقوني كهرمان عقليًا ابعد ما يكون عن الغباء، هي شخصية ماهرة ذكية وحكيمة لأبعد حد وظهر ذلك في موقف عدة، عيبها الوحيد هو التسرع والتهور والحكم بعاطفة .
البعض منذ الآن يعترض ويقول ( لا اريد سالار لتبارك / لا اريد إيفان لتبارك / لا اريد فلان لفلانة ) اعزائي ظننت أننا تخطينا هذه الأمور سابقًا، فللأسف ما قررته في هذه الرواية هو ما سيحدث بغض النظر عن أي اعتراضات، حبكة الرواية قوية، وكل ما شهدتموه اصنفه أنا مجرد بداية لا أكثر، تمهيد لملاحم قوية واحداث شديدة، فقط اصبروا ومهما كانت النتيجة تأكدوا أنه هو الصحيح ونحن جربنا هذا سابقًا .
واخيرًا ليس هناك بطلٌ محدد الأربعة ابطال بنفس المقدار ونفس الحجم، فلا يأتي أحدهم ويظن أن دور إيفان دور مساعد، دعوني اخيب ظنكم واخبركم أن إيفان داهية وملك كبير كما سالار متجبر وقائد جيوش عظيم، ودانيار قائد رماة ماهر، وتميم صانع أسلحة خبير، وقريبا ينضم لنا مهيار الطبيب الملكي ….
والآن نصيحة من رحرح، استمتعوا بالاحداث وتأكدوا أن ما يحدث الآن هي قشرة بسيطة تخفي خلفها الكثير والكثير فلا تتسرعوا بالحكم، هذه الرواية كما وعدتكم ستخطف انفاسكم .
والآن قراءة ممتعة .
صلوا على نبي الرحمة
______________________
تأففه يعلو كل ثانية خمس مرات أو أكثر، لا يطيق وجودهم داخل مكتبته العزيزة، أو بالأحرى هو لا يطيق وجود أي كائن حي داخل مكتبته..
” أشعر أن العريف لا يحب وجودنا داخل مكانه الحبيب ”
أردف تميم بهدوء شديد وهو يحمل بين يديه ورقة وقلم يحاول أن يتذكر جميع مكونات البارود ليعيد نفس التجربة بشكل أفضل، بينما جواره يجلس دانيار الذي عاد لتوه من الخارج.
ابتسم العريف يتحسس بومته الخاصة ثم قال :
” نعم صدقت، أنا لا أحب وجودكم داخل مكتبتي، أو في محيطي الخاص، بل …أنا لا احبكم بتاتًا ”
ابتسم دانيار يجيب بهدوء شديد وهو يضجع على مقعده بكل استرخاء فقد أصبحت مكتبة القصر والتي يعتبرها العريف ملكية خاصة، هي مكان تجمعهم لحين الانتهاء من ترميم معمل تميم :
” وكذلك نحن لا نحبك، لكن هل وجدتنا نشكو ذلك ؟؟ لا صحيح ؟؟ إذن اسمعنا صوت هدوئك .”
ارتفعت أصوات من البومة التي تعلو كتف العريف وكأنها تعترض تمامًا على كلمات دانيار، ليبتسم لها دانيار حاملًا السهام الخاصة به يوجه سهمًا صوبها قائلًا :
” صوت اضافي واجعل منكِ طبقًا لعشائي يا ثرثارة ”
وكأن البومة قد فهمت ما يريد إذ تراجعت مرة أخرى بخنوع على كتف العريف تصمت، بينما العريف قال :
” بالله ما الذي يجبرني على تحمل وجودكم هنا ؟! ألا يكفيني مرجان بكل حماقاته وضوضائه ؟؟”
رفع مرجان والذي كان يجلس ارضًا بين العديد من الكتب رأسه قائلًا بعدم فهم :
” وماذا فعلت الآن يا عريف ؟؟”
تجاهله العريف يكمل :
‘ارجو أن يتم الانتهاء من المعمل قبل عودة سالار فلن أتحمل أن يأتي هو الآخر لمكتبتي العزيزة، فتملئ أصواته الصاخبة جدرانها الحساسة ”
قال تميم بجدية بعدما رفع رأسه عن الاوراق أمامه :
” صحيح على ذكر سالار، ألا تعلم متى سيعود ؟! مرت اسابيع منذ غادر لذلك العالم المخيف”
تمتم العريف بصوت منخفض وهو يتحرك صوب أرفف بعض الكتب :
” عسى ألا يفعل، لقد سئمت منكم حقًا ومن قائدكم ذلك، صرت أترقب الحروب بفارغ الصبر فهي ما يبعدكم عني ”
وعلى ذكر الحرب شرد دانيار يقول بصوت خافت :
” إذن أيها العريف من برأيك قد يساعد المنبوذين لدخول مشكى ؟؟ أنت لمحت أن الأمر لم يكن محض صدفة، هل تعلم شيئًا لا نعلمه ؟!”
نظر له العريف بطرف عينه، ثم عاد ينتبه لما يفعل، لا تعنيه إجابة في الوقت الحالي، بينما دانيار تأكد من شكوكه، ذلك العجوز المخيف والذي يعلم أكثر مما يظهر، يخفي عنهم سرًا قد يغير مجرى الحكاية بأكملها..
وبعد صمت لدقائق قال العريف بنبرة غامضة أبعد ما تكون عن نبرته الحانقة والمتهكمة والكارهه، يقول بصوت أجش خافت وهو يحمل كتاب ويسير صوبهم بتؤدة :
” أحيانًا لكي تسير مركبك المحطمة، عليك بأخذ شراع غيرك، ولتفعل ذلك تحتاج لمساعدة ممن يحترفون الأخذ والسرقة …”
صمت ثواني ثم قال بخبث :
” كالقراصنة مثلًا ”
وها هو ذلك العجوز يعود لالغازه التي تخفي خلفها حقائق مخيفة، حقائق يستغرقون ربما أشهر طويلة لحلها، فقط لأن العريف يحب لعب دور مقدم الفوازير، ويهوى فقرة السحر والالغاز .
كان تميم ينظر له ببلاهة وفم مفتوح يحاول أن يفهم ما يقصد العريف، وفي النهاية قال وهو ينفخ بغيظ :
” أنت أيها العجوز الخرف، لو أنك قلت كلماتك دون الغازك الغبية تلك ستصيبك لعنة؟! هل هناك من يهددك لعدم كشف الحقيقة ؟؟”
شاركه دانيار الغيظ والغضب لتلك اللعبة التي يخوضها معهم العريف :
” كانت نصف مشاكل المملكة لتنتهي في وقتها، لو أنك أخبرتنا بما تعلم دون لعب دور الغامض الذي لا يليق بك، صدقني أنت بهيئتك المخيفة تلك أبعد ما يكون عن الخبث والغموض، هيئتك تصلح لتكون مشعوذ ”
ابتسم العريف بسمة جانبية يقترب من دانيار فجأة بشكل جعل الاخير يتراجع بنصف جسده العلوي بصدمة، لكن العريف ابتسم بسمة جانبية يقول :
” وأين التشويق يا فتى؟؟ أين الغموض ؟؟ لولا الغموض لأصبحت جميع القصص بلا لون، ولاضحت جميع الحكايات بسيطة لدرجة الممل”
صمت ثم ابتسم بسمة مخيفة يهمس بصوت كالفحيح :
” تمامًا كقصتك دانيار، لو أنك أدركت من البداية أن لا مفر لك من الوقوع في قبضة القراصنة، وأن ما يحوم حولك هو ما تنفر منه، لانتهت قصتك قبل بدئها، لنبذت قدرك المحتوم، لكنه القدر يا فتى، كُتب عليك وانتهى ”
ابتعد عن دانيار الذي كان وجهه لا يُفسر وفي رأسه تدور كلمات العريف والذي يدرك جيدًا أنه يعني كل كلمة يقصدها، ذلك الرجل ليس ساحرًا أو مشعوذًا لكنه كان من هؤلاء الأشخاص الذي يرون رؤى وتتحقق بمشيئة الله ..
نظر العريف بطرف عينه لتميم الذي تراجع بمقعده للخلف ونظر له بريبة كبيرة، يضيق عيونه :
” إياك، سمعت إياك وقول كلمة أيها العجوز، فأنت لم يسبق لك وبشرتني بخبر مفرح، طوال الوقت تنبأني بمصائب ”
ابتسم له العريف يقول :
” لا تقلق مصيبتك أهون من مصيبة رفيقك، أو ربما لا تكون، من يدري ”
همس له تميم بقلق :
” الله يريحني منك يا عجوز يا جالب المصائب ”
استقام العريف ثم تحرك بعيدًا عنهم وهو يردد بصوت مرتفع يرفع يده في الهواء وضحكات عالية ترن في المكان :
” كله مقدر …كله مقدر وسيحدث رغم انوفكم أجمعين”
أخرج دانيار سهمًا يضعه داخل القوس وهو ينظر لظهر العريف بشر وقد شعر برغبة عارمة في قتله يهمس بغل وغضب :
” سأقتله لهذا الحقير النحس ”
لكن تميم قفز عليه يجذب يده بعيدًا عن العريف يحاول منعه من قتله، ودانيار ينظر له بغضب وكلماته ما تزال ترن في أذنه..
لكن العريف لم يكن يهتم لشيء وهو يردد بلا توقف يختفي داخل المكتبة ومن بين ضحكاته :
” لا شيء أكيد، ولا شيء حتمي، لكن الأكيد والحتمي هو أن مصير مملكتنا على وشك أن يتغير كليًا، ومستقبل سفيد على اعتاب التحول وكل ذلك سيكون على يده هو، هو فقط من سيفعل، سيفعل ويغيرها ويغير خارطة هذا العالم …….”
___________________
قاعة كبيرة تتميز باللون الاسود، العديد من المقاعد ترتص على جانبي القاعة وفي المنتصف ممر كبير فارغ إلا من سجاد ثمين باللون الاحمر …
وفي المقدمة يقبع عرش ضخم مرصع بكل الاحجار الكريمة ذات اللون الاسود، وعليه يجلس رجل بجسد ضخم وملامح شرسة ونصف وجه مشوه بالكامل، وأيدي مليئة بالجروح والتشققات وكأنها تخبرك عن مدى الكفاح الذي خاضه ذلك الرجل ليصل لعرشه، لكن أحيانًا تخدعك الادلة وتضللك الحقائق، فتلك الجروح ليست نتيجة كفاحه، بل نتيجة بطشه وجبروته، تلك الخدوش والتشوهات شاهد عيان على كل الفساد الذي عاثه ذلك الرجل خلال سنوات عمره السبع والثلاثين …
ارتسمت بسمة على وجهه المقيت والمقزز وهو يراقب تمايل إحدى نساءه الكثيرات امامه وأمام أعوانه، تتمايل على موسيقى صاخبة بكل فجور وكأن لا غد ولا موت .
تحرك خصرها الواضح من ثوبها المكشوف يمينًا ويسارًا، فقط كي تنال شرف إعجاب ذلك الطاغية ” بافل” والذي نصب نفسه قائدًا ورئيسًا للمنبوذين، منصبًا أخذه وراثة من والده بعد مقتله على يد إحدى زوجاته الكثيرات ..
وحينما انتهت رقصة تلك الفتاة مالت تحيي جميع الرجال في القاعة، ثم نظرت لبافل تنتظر منه إشارة رضى واحدة، لكنه فقط ابتسم يشير لها أن تتحرك بعيدًا.
علت الخيبة وجهها وشعرت بالحسرة وهي تتحرك خارج قاعة القصر، بالطبع ليس قصر بافل أو رجاله، فهم كانوا ومازالوا جماعة من الخنازير البرية لا مسكن لهم سوى الوحل ولا طعام لهم سوى القمامة، لكن تدور الحياة ويحصل هؤلاء الخنازير على مسكن لهم لا حق لهم به، ولا علاقة لهم فيه …
هم فقط ذهبوا وجلسوا داخل ذلك المسكن ثم اشهروا أسلحتهم بكل تبجح في وجه قاطينه، فقد كان ذلك القصر الشاهق هو نفسه قصر مشكى الذي نهبه بافل مع جماعته بعدما هدر دماء جميع العائلة الملكية وفرض سيطرته على المكان بالقوة .
” إذن سيدي ما الخطوة القادمة ؟؟”
سؤال جيد كان ينتظره بافل، ما الخطوة القادمة يا ترى، وبأي مملكة يبدأ ؟؟ سفيد أم سنز أم آبى ؟؟
ابتسم بسمة جانبية يقول بصوت هادئ مرعب :
” الخطوة القادمة هي الاستمتاع بلحظات النصر، الاستمتاع قبل العودة لساحة المعركة مرة أخرى، لا بد أن خبر سقوط مشكى وصل لجميع الممالك، وهم الآن يفكرون في طريقة لرجوع المملكة مرة أخرى ”
نظر الرجال لبعضهم البعض قبل أن يتساءل أحدهم :
” إذن هل نبدأ بتجهيز الجيوش ؟؟”
” بل ابدأ بتجهيز الاحتفالات يا عزيزي، نحن سنقيم احتفالًا في مملكتي لتنصيب نفسي قائدًا وملكًا عليها ”
لم يفهم أحد ما يفكر به بافل، ولن يفعلوا، لكنهم يثقون بعقله وبأنه سيقودهم للنصر يومًا ما .
لذلك صمتوا وبدأوا يفكرون بطموح كبير أن القادم سيكون لهم، وأن القدر سيكون حليفهم …
________________________
تسير وهي تتمسك بأحزمة حقيبتها تنفخ بسخرية شديدة مما يحدث في حياتها العجيبة المريبة تلك، يظنها ستخاف تلك الأمور الغريبة حولها وتخشى ذلك الظلام الدامس، وتلك الغابة المخيفة، وترتعد لسماعها تلك الأصوات المرعبة ؟! وتركض له تستغيث به منهم ؟؟
نفخت بسخرية لاذعة على تلك الأفكار الغبية وهي تنظر لظهر سالار وتردد بتسائل :
” هو احنا قدامنا قد ايه ونوصل ؟؟”
أمسكت حقيبة ظهرها بقوة وهي تركض خلف سالار الذي كانت خطواته سريعة وواسعة، وخاصة باقدامه الطويلة تلك…
هي الآن تسير مع الثلاثة بين الادغال كما في الأفلام الأجنبية، تتحرك بحذر مخافة أن يلتف ثعبان على قدمها دون شعورها، أو أن يهبط صقر أعلى رأسها، أو أن يهجم عليها أحد الحيوانات المفترسة من خلف الأشجار، هي تعلم كل الالاعيب تلك .
نظر لها سالار ثواني قبل أن يعود للنظر أمامه قائلًا بجدية :
” لقد تخطيتها في طريق الذهاب في يوم وبضعة ساعات، لكن معكِ لا أدري ربما اسابيع أو شهور، إن كنا محظوظين سنصل قبل أن أبلغ الاربعين من عمري ”
” هانت يعني، أنت كام يوم وتتم الاربعين ؟؟”
نظر لها يجيب ببسمة صغيرة ساخرة مستفزة :
” ليس كثيرًا، ربما سبع سنوات تقريبًا ”
نظرت تبارك لظهره وهي تحسب بكل جدية ما ستستغرقه الرحلة، وتوقفت فجأة متسعة الأعين:
” سـ..سبع سنوات ؟؟ ليه بنلف طريق رأس الرجاء الصالح ولا ايه؟؟ ده لو هنلفه زحف مش هياخد مننا سبع سنوات ؟؟”
كانت تتحدث وهي تركض خلفه بسرعة كبيرة تتمسك بحقيبتها، وفي الامام يسير صامد وصمود بحذر لتبين ما قد يعيق رحلتهما..
وسالار يسير وهو ينظر حوله بأعين حادة، يتجاهل كلماتها وثرثرتها، هو ليس من ذلك النوع الذي يتحدث كثيرًا وإذا تحدث لا يطيل الحديث، وإذا فعل واطال فسيندم ذلك الذي اضطره للخروج عن صمته، ليس معنى ذلك أنه شخص انطوائي لا يحب التحدث، هو يحب التحدث كثيرًا لكن باستخدام سيفه ويده ..
سالار يضمر عكس ما يخفي، داخله شخص مبتسم، حنون و عفوي، لكن ذلك الشخص لا يظهر سوى في سهراته القليلة مع رفاقه وجيشه، قليلًا …
ابتسمت تبارك وهي تركض بصعوبة بين تلك الأغصان والاعشاب، لا تدري أي جنون جعل حالها ينتهي بها لمثل تلك المغامرة، هي حتى لا تصدق بوجود تلك المملكة التي يتحدث، لكنها تسايره، فقط تفعل بمبدأ ( وماذا حملت لكِ حياتك المملة تبارك لتتمسكي بها بهذا الشكل ؟؟ ما الضير في خوض مغامرة قد تنتهي بموتك ؟؟)
” صحيح يا قائد هو أنا أول ما اوصل المملكة هبقى ملكة على طول ؟؟ يعني هتعملوا مراسم وابقى الملكة بتاعتكم ”
أزاح سالار الاغصان يتحدث بكلمات قليلة :
” ربما ”
” يعني هلبس تاج ولبس حرير ودهب ”
” نعم ”
صمتت ثم قالت بخجل من نطق تلك الكلمات :
” وهتجوز ملك ؟؟”
” صحيح ”
ابتسمت تبارك لتلك الأفكار الغبية، هي تتزوج ملك وتصبح ملكة وتعيش حياة مليئة بالرفاهية بعدما تجرعت الفقر كاسات دون أي رحمة ؟؟ الأمر جنوني بقدر جنون تلك المغامرة، ستتظاهر أنها تصدق كل ذلك وتفرح.
” وأنت على كده شغال ايه؟ مساعد الملك ؟!”
لم يجب سالار عليها وهو يدفع بقدمه أحد الأغصان بقوة كاسرًا إياها، ثم انتزعه من الشجرة يتجاهل صوت ثرثرة تبارك خلفه والتي ركضت تحاول اللحاق به وهو ما يزال يحمل ذلك الغصن بين يديه :
” يعني حاجة كده زي البودي جارد ؟؟ اصلك ماشاء الله عندك جتة، أنت بتروح جيم ؟؟ ”
وفجأة وأثناء حديثها لم تنتبه تبارك لبعض الفروع الملتحمة أسفل قدمها لتتعرقل بقوة وتسقط ارضًا، ثم شعرت فجأة بجسدها يُسحب للأعلى بسرعة مهولة تصرخ بجنون ورعب :
” يا قـــــائـــد …”
استدار سالار بسرعة يبحث عنها لكنه لم يبصر سوى فراغ فقط، وفجأة شعر بشيء يسقط فوق رأسه، ولم يكن ذلك الشيء إلا حقيبة تبارك التي كانت معلقة كالخروف وقت سلخه في أحد الافخاخ التي يصنعها بعض الصيادين البرية، أو المختلين..
ابتسمت تبارك وهي ما تزال معلقة من قدمها رأسًا على عقب :
” شوية مساعدة …ارجوك ”
” أوه نسيت أخبارك أن هذه الغابة تحتوي افخاخ، هذا خطأي ”
” لا ولا يهمك أنا عرفت اهو بنفسي، نزلني الله يكرمك ”
مسح سالار وجهه بغيظ شديد وهو يتمتم ببعض الكلمات الغير واضحة، يتبع الفخ يعيونه حتى وصل لمربطه، وبقوة شديدة انتزع الحبل من حول الشجرة لينفك وينفك معه الفخ وتسقط تبارك بقوة ارضًا وتعلو صرخاتها للمرة الثانية وقد بدأت تأوهاتها تزداد، تشعر بعظامها وقد تحطمت بالكامل، مال سالار قليلًا يستند على ركبته متحدثًا بملامح جامدة وبصوت أجش:
” أنتِ بخير ؟؟”
كان وجه تبارك ما يزال مدفونًا في الأرض أسفلها، لكن رغم ذلك رفعت ابهامها تقول بصوت مكتوم وهي تبصق الوحل من فمها :
” زي الفل …”
تنهد سالار بصوت مرتفع يمد لها الفرع كي تمسكه، ليرفعها عن بركة الوحل، ثم ساعدها لتقف متجاهلًا الوحل الذي يمنع عنها الرؤية بسبب اغماضها لعيونها، إذ رفعت يديها تحاول تحسس الطريق أمامها وهو يقول ناظرًا حوله :
” بما أن لا شيء حدث، لنكمل الطريق قبل حلول الظلام ”
وبعد هذه الكلمات ساد صمت طويل جعل تبارك تتعجب، فهي تنتظر هنا أن يمد لها زجاجة مياه أو قطعة قماشية تمسح وجهها، مدت يدها أمامها تقول :
” يا قائد …يا قائد، مين هنا ؟؟ حد هنا ؟؟ أنا… أنا مش شايفة ”
انحنت ارضًا تتحسس المكان بحثًا عن الحقيبة الخاصة بها، وبمجرد أن لمستها شعرت بمن يجذبها بقوة منها وصوت سالار يردد بحسرة :
” الآن فقط اتمنى أن أصل لمملكتي قبل الشيخوخة، حلمي أن أخوض حربًا أخيرة قبل التقاعد ”
كانت تبارك تضم الحقيبة لصدرها وهي تسير خلفه مغمضة العين، تعتمد على جذبه لها من الحقيبة وكأنها فأر صغير، لكنها حقًا لا تستاء، فهي ومنذ ابتعدت عنهم في بداية الغابة وكادت تصبح طعامًا للحيوانات، أخذت قرار أن تخوض تلك المغامرة وتستمتع بها، وها هي تفعل.
هل هناك اجمل من السقوط في الوحل والسير مجروره مع ثلاثة رجال لا تعلم عنهم شيئًا في غابة مخيفة ؟!
يالها من متعة !
____________________
انتهى من تفقد الجيش يعود لجناحه للحصول على بعض الراحة، جذب لثام وجهه يخفي خلفه نصف ملامحه، ليس لشيء سوى للحصول على بعض الدفء بعدما كادت أنفه تتجمد من برودة الجو في مثل تلك اللحظات .
كانت ثيابه سوداء اللون كلثامه وخلفه يرفف معطف من الجلد الذي يُصنع خصيصًا لأبناء الطبقة النبيلة والتي لا ينتمي لها ولو بمقدار شعرة، فهو ابن لمزارع بسيط، لكن بفضل الله ومساعدة سالار أصبح ما هو عليه اليوم، القائد دانيار والرامي الأول في جيش مملكة سفيد، مكانة لم يحلم يومًا أن يحتلها .
ابتسم وهو يبعد خصلاته السوداء عن عيونه، لكن فجأة تجمدت عيونه حينما أبصر من بعيد جسد يركض في الظلام، جسد يبدو كالاشباح يتحرك بخفة مثيرة للاعجاب، لكن الوضع لن يكن مناسبًا ليبدي إعجابه بشخص ربما يكون متسلل.
تحرك دانيار بسرعة كبيرة خلف ذلك الجسد، لكن بخفة تمنحه فرصة التلصص دون أن يشعر به أحد، وجد الجسد يسير صوب الجزء الخلفي من القصر، حيث مساكن الجنود ..
اشتعلت عيونه وركض خلفه وهو يخرج سهم من حاملة السهام بسرعة ويتجهز لأي قتال محتمل …
وخلف القصر، وعلى مقربة من مساكن الجنود، كانت زمرد تقف في ظلام الليل ترفع سيفها الذي هربته بكل ذكاء معها للقصر، تحركه في الهواء بقوة مرعبة، تقفز وتقاتل اشباحًا، وهذه كانت عادتها اليومية كي لا تضعف أو تنسى ما تعلمته سابقًا..
كل يوم مساءً وفي نفس المكان تأتي لتتمرن وتقوي نفسها تحسبًا لأي شيء، لكن فجأة ارتعدت أوصالها لسماع صوت خطوات يقترب من مكان تدربها المعتاد، ركضت بسرعة واختبئت خلف إحدى الأشجار لتجد اجساد متشحة بالسواد تقترب من المكان حيث كانت تتدرب وصوت أحدهم يقول بنبرة ولهجة تعلمها تمام العلم :
” أنتهي من إحراق ذلك المبنى بمن فيه وتخلص من الجنود وحينها تسهل مهمة الاقتحام ”
اتسعت أعين زمرد بقوة وهي تهمس بخفوت :
” آهٍ من هؤلاء الخنازير، ألن يتوقفو عما يفعلون ؟؟”
تحركت بخفة من خلف الأشجار وهي تتلتحف بالليل وتندمج بسوداه مبتسمة بسمة واسعة وقد وجدت خصمًا حقيقيًا لها اليوم…
رفعت السيف وهي تسير ببطء تقترب من أحد الرجال الذي كان يراقب الطريق للآخرين حتى ينتهون من إحراق مساكن الجنود، ودون أن يشعر بأحد كانت زمرد تكتم فمه بقوة وهي تضع السيف على رقبته هامسة :
” مرحبًا بالخنزير الصغير، مالكم تركتم الوحل واصبحتم تلعبون بمصائر البشر ؟؟”
اتسعت عين الرجل بقوة وشعر بتصلب جسده من ذلك الصوت، أضحى قلبه ينبض بجنون وهو يهمهم أسفل يد زمرد يحاول التحدث، لكنها لم تمنحه ما يريد إذ سحبت السيف بقوة تقطع له رقبته تاركة إياه يسقط ارضًا وهي راقبته ببسمة تقول بكل شر :
” سلامي لابا بافل، وأخبره أنني قريبًا سأرسل له ابنه الحبيب ”
ختمت حديثها تخطو أعلى جثته تتحرك صوب مبنى الجنود، لكن في طريقها أبصرت جسدًا يقترب من المبنى كبيرة يشهر سهمًا أمامه وهو يشير لها بشر :
” سيفك ارضًا، ويدك لفوق …”
ابتلعت زمرد ريقها برعب من تهديد ذلك الجندي لها، والذي تعلمه جيدًا وتجهل اسمه، لا تدري إلا أنه أحد رماة الجيش وفقط ..
ابتسمت بتوتر تقول :
” هييه ما بك، أنا لا انتوي لكم شرًا اقسم، جئت في سلام ”
نظر لها دانيار بشر يقترب منها، لكن فجأة أبصر سيفها المضجر في الدماء والجثة الملقية ارضًا، عاد بنظره لها لتكمل ببسمة صغيرة :
” حسنًا هذا ..امممم….لنتفق أنه كان يعوق رحلة السلام الخاصة بي ”
في تلك اللحظة ارتفعت أصوات داخل سكن الجنود لتتحفز جميع حواس دانيار، وتنظر زمرد له وتضيف :
” أوه ونعم هناك رفاق له، دخلوا لهذا المبنى بغية إحراقه بمن فيه من الجنود، اعتقد أنهم لا يحبونكم ”
ابتسم دانيار بسمة انعكست في عيونه وهو يقول بصوت خافت وقد تعرف عليها بالطبع من صوتها وعيونها، تلك الكارثة التي لا تنفك تسقط في طريقه بطرق غريبة :
” إذن تحملين السيوف كالرجال، وتتسللين كاللصوص، هل تستطيعين التصرف كالنساء لمرة واحدة ؟؟”
نظرت له بعدم فهم ليبتسم بسمة سرعان ما تلاشت وهو يسحب منها سيفها بقوة آمرًا إياها دون أي تردد وبأعين مرعبة وصراخ :
” اسمعيني صراخكِ يا امرأة.”
وهكذا فعلت زمرد التي ركضت بسرعة مهولة صوب القصر وهي تصرخ كأي امرأة طبيعية وبصوت زلزل الجدران وايقظ النائمين _ تمامًا كما أمر دانيار _ تتحرك بين الممرات تصرخ بجنون تتظاهر بالرعب والهلع :
” النجـــدة …هنــاك متمردين داخل القصر…هناك هجوم على القصر جهة الغرب…استيقظوا …هناك من يحاول إحراق القصر جهة مساكن الجنود ”
وقبل أن تكمل زمرد صراخ أطلقت شهقة عالية وهي تلتصق في الجدار خلفها تتفادى ذلك الهجوم المرعب من الرجال الذين اندفعوا بجنون صوب الخارج، يتقدمهم الملك الذي حمل سيفه وركض بثياب نومه، وكأنه كان ينتظر اشارتها يصرخ في الجنود :
” الجميع صوب الجهة الغربية وليبق عشرة رجال هنا لحماية النساء، احملوا اسلحتكم جميعًا، لا تتركوا منهم سوى من يستسلم ”
وقف في النافذة يصرخ بصوت جهوري وهو يلمح الجنود الساهرين يركضون صوب الجهة الغربية، ويرى الرماة قد وقفوا بحالة استنفار، ثم تحرك هو بسرعة كبيرة يحرك السيف بين أصابعه ..
في تلك اللحظة رأت زمرد اندفاع جسد تميم للخارج بشكل مرعب وهو يركض كالقذيفة يتحرك صوب الجهة الغربية وبين يديه يحمل سيف وسلسلة حديدية لا تدري سبب حمله لها، لكن هي فعلت ما أُمرت والآن ستتحرك لتراقب ما يحدث وتستمتع برؤية هؤلاء الخنازير يُبادون على بكرة أبيهم …
كان دانيار قد هجم بالفعل على مساكن الجنود ليجد أنهم سبقوه واستيقظوا من نومهم وانتفضوا لتشتعل الحرب بينهم وبين هؤلاء المتمردين _ إن كانوا كذلك من الأساس_ ابتسم يراقب الجنود وصحوتهم السريعة يهمس بينه وبين نفسه وهو يرفع سيفه :
” كان القائد ليفتخر بتلاميذه وبشدة ”
في تلك اللحظة سمع دانيار صوت أبواق الانذار تنطلق ليبتسم وقد علم أن تلك الخائنة الشرسة قد أبلغتهم رسالته، رفع سيفها الذي انتزعه منها وهو ينطلق به للقتال، لكن بعد لحظات شعر بالملل من المحاربة بهذه الطريقة .
وضع السيف داخل حاملة السهام الخاصة به، وسحب ثلاث سهام دفعة واحدة وضعهم في القوس ثم نظر لهم يبتسم مرددًا بصوت مرعب :
” نعم هذه هي المتعة ”
وفي ثواني ترك السهام الثلاثة لتستقر في ثلاث أجساد أمامه، ويطلق هو صفيرًا مبتسمًا :
” نعم ها أنا استطعت واخيرًا اتقان الأمر، المرة القادمة سأجرب أربعة سهام ”
سمع صوتًا خلفه يقول بلهاث بسبب ركضه :
” رقم قياسي جديد ها ؟؟”
ابتسم دانيار وهو يحدق بوجع تميم الذي اعتدل في وقفته، ثم حرك السلسلة في الهواء بشكل مرعب وصوت دانيار يهمس له :
” نعم يا عزيزي، أرني كيف ستتخطاه ”
نظر له تميم غامزًا :
” راقب وسترى ….”
وقبل أن يتحرك أحدهم وجودا إيفان يندفع بشكل مرعب يجز الرؤوس دون أن يرى أحدهم وهو يصرخ في جنوده، ليبتسم الإثنان وينطلقا للقتال .
______________________
كانت ساحة مملكة مشكى تشبه حانة للرقص والفواحش، الساحة التي لم تشهد تجمعًا كهذا التجمع سوى وقت الصلاة أو الاحتفالات بالاعياد أو غيرها ..
ها هي تستقبل أفواج من السكارى والراقصات اللواتي يتمايلن بأجسادهن في منتصف الساحة في محاولة يائسة لجذب انتباه بافل والحصول على امتيازات مرافقته ..
لكن الأخير كان يجلس على أحد المقاعد يراقب بأعين ضبابية شاردة ما يحدث، لحظات ونظر جواره ليرى أحد الرجال يقترب منه هامسًا :
” ذهب الرجال لمملكة سفيد كما طلبت سيدي، ساعات ونسمع عن قتل جنود إيفان ”
ابتسم بافل وهو يشرد بعيونه أمامه، ثم صرف بيده ذلك الرجل، يستند على سيفه :
” وكأن مملكة بحجم سفيد ستنخدع بهؤلاء الحمقى الذين ارسلتهم، هم فقط كانوا مجرد هدية صغيرة للملك الصغير، هدية ليستمتع بها مع جنوده ويعلم أن لي مئات الطرق للوصول له في عقر داره وايضًا ليعلم أن الحرب قد بدأت”
رفع بافل عيونه صوب الفتاة التي كانت تتمايل بحركات راقصة قوية عكس حركات الأخريات التي كانت تتسم بالدلال ..
ابتسم وهو يشرد بها وقد ذكرته قوتها وملامحها الحادة تلك بملامح أخرى، ملامح أكثر فتاة شرسة رآها في حياته، تحسس نصف وجهه المشوه وهو يهمس ببسنة مخيفة سرعان ما تحولت لنظرات سوداء :
” حتى إن عدتي لرحم والدتك الفاسقة سأجدك وحينها ستتمنين لو أنكِ لم تخرجي منه يومًا، ستتمنين لو أن والدتك فقدتك قبل ولادتك، ستتمنين لو أنكِ قُتلتي مع والدتك ذلك اليوم….ستندمين يا سافلة، ستفعيلن وهذا وعدي ”
_____________________
يجلس داخل القاعة الخاص به وحوله العديد من جنوده ومستشاريه وما يزال بثوب نومه الذي كان مؤلف من بنطال وسترة قماشية ذات خامة سميكة تناسب الشتاء .
يجلس أعلى عرشه وعلى يمينه يقف تميم الذي كان جسده ملئ بالدماء، ويساره يقف دانيار الذي كان يحمل سهمًا يقطر دمًا ..
وعلى جانبي القاعة يصطف رجال المملكة ومستشاريه وكذلك العريف ومرجان، وفي منتصف القاعة يجلس من نجى من المتمردين مقنعي رؤوسهم متهدلين الاكتاف وقد أصابهم ما أصابهم من الجروح .
” إذن أردتم حرق جنودي أحياءً؟؟ ”
لم يجيبه أحدهم ليبتسم إيفان ويقول بصوت هادئ :
” صدقوني أنا أبحث عن حجج للعفو عنكم ”
رفع رجلٌ منهم رأسه وهمس بصوت كاره من بين أنفاسه وقد نجح بافل في زرع الحقد داخل نفوس أتباعه تجاه كافة الممالك :
” ومن قال أننا نأمل عفواً منك يا سليل القذرين ؟؟ ”
وبقوله لتلك الكلمات تلقى الرجل ضربة قوية على رأسه من أحد جنود الملك الذين يحيطون بهم، ضربة جعلت رأسه تلتصق ارضًا ويطلق تأوه مرتفعًا جعل رفاقه يرتعدون بخوف وجبن شديد…
همس الرجل الساقط ارضًا :
” غدًا لن نحرق فقط سكن جنودك، بل مملكتك بأكملها قبل أن تصبح لنا ويحكمها سيدي بافل، ستصبح لنا كما أصبحت مشكى، جميع تلك الممالك التي نبذتنا ستصبح تحت أمرتنا وتكون موطنًا لنا ”
ابتسم العريف بسمة جانبية وهو يستمع لتلك الكلمات ومرجان جواره يراقب كل ذلك بنظرات كاره ..
ارتفع صوت تميم يقول بقوة :
” ومنذ متى كان لكم موطنًا؟؟ تالله ما عهدنا لكم من وطنٍ، وقائدك الذي جعلك تحفظ تلك الشعارات، سيكون غدًا مكانك، أسفل أقدامنا ”
أطلق الرجل ضحكات مجلجلة هزت القاعة من قوتها، وقد جعلت جميع الأجساد تستنفر وتتحفز لأي حركة منه، لكنه فقط اعتدل بنصف جسده يهمس بسخرية كبيرة وتشفي اكبر:
” ومن سيفعل ذلك ؟! الممالك التي تتصارع لأجل مصالحها، ام تلك المملكة التي تصارع الحياة لتحيا ؟؟ أم مملكتكم ستتكفل بالقتال وحدها ؟؟ تصفوننا بالشرذمة والخنازير وأنتم كالاغصان المتناثرة كسركم أسهل من فرقعة إصبع ”
اشتعلت أعين إيفان بشكل مخيف، ولم يتحدث أحد بكلمة واحدة، الجميع التزم الصمت بعد تلك الكلمات في انتظار كلمات إيفان الذي نطق بهدوء شديد :
” خذوهم للسجن حتى أصدر حكمًا ”
وبالفعل تحرك الجنود يسحبون أجسادهم تحت نظرات الجميع التي تحلق حول إيفان، يدركون أن صمت إيفان على ما قاله ذلك الرجل أكثر خطورة من حديثه الذي كان سيجيب به .
نظر إيفان للجميع يقول بهدوء يسبق العاصفة :
” غدًا يتجمع الجميع، وارسلوا لملوك آبى وسنز لاجتماع طارئ، انتهت الليلة وليعد كلٌ لمسكنه ”
وبهذه الكلمات أنهى إيفان تجمعهم لينفضوا من حوله صوب مخادعهم، وكذلك تميم الذي اقترب من دانيار يسير معه صوب الحجرات الخاصة بهم يستمع لكلام دانيار :
” إذن ما الذي سيحدث لاحقًا ؟؟”
شرد تميم أمامه يقول بجدية كبيرة :
” لا أعلم، لكن أيًا ما سيحدث، لن يكون جيدًا ..”
__________________
تسير خلفه بصمت وهي تراه يزيح الأغصان والأوراق الخضراء من أمامهم باستخدام عصاه، ابتلعت ريقها تحاول أن تتمالك نفسها وألا تنهي جميع ما أحضرت من طعام كي لا تتضور جوعًا، لكنها لم تتحمل، إذ انزلت حقيبة ظهرها وأخرجت منها كيس بلاستيكي صغير ملئ برقائق البطاطس المقلية، ثم وضعت الكيس داخل فمها تحمل حقيبتها مرة أخرى، وبمجرد أن استقامت اتسعت عيونه بصدمة حينما وجدت الجميع غاب عن نظرها ..
نظرت الكيس من فمها تقول بصدمة :
” سابوني ومشيوا عادي ؟؟ محدش استغيبني ولا بص وراه حتى ؟؟ ”
صرخت برعب وهي تضم التسالي الخاصة بها لصدرها تهرول وهي تنادي كالعادة بلقبه إذ كانت تجهل كيفية نطق اسمه :
” يا قائد …يا قائد، أنتم نسيتوني، كل ده وملكة اومال أو كنت جارية كنت اتعاملت ازاي ؟؟”
توقف سالار وهو ينظر خلفه بصدمة بعدما فقد أثرها ولم يشعر بها، تنهد بصوت مرتفع يفرك خصلات شعره الكثيف وهو يشير لصامد :
” اذهب وابحث عن تلك الكارثة …”
وقبل أن يتحرك صامد خطوة واحدة وجدوها تخرج من خلف الأشجار وهي تتناول بعض الاشياء الفاسدة وتبتسم لهم بسمة واسعة :
” متقلقوش يا جماعة أنا بخير، أنا ميتخافش عليا، متقلقوش ”
رمش سالار قبل أن يقول بهدوء :
” لم نفعل ”
توقفت تبارك عن تناول رقائق البطاطس وهي تنظر لصمود بعدم فهم :
” يعني ايه ؟! ”
ابتسم لها صمود بسمة صغيرة يشير لها أن تتحرك أمامهم هذه المرة :
” من بعدك مولاتي ”
هزت تبارك رأسها تسير بهدوء شديد أمامهم، وهي تتنهد بتعب شديد تخرج زجاجتها تشرب منها في الوقت الذي تسير خلف سالار تتحدث مع صامد وصمود بكل جدية :
” يعني هو مش بودي جارد للملك وبيمشي معاه في كل مكان ؟!”
” لا مولاتي هو قائد الجيوش، ما تتحدثين عنهم هم جنود وحراس الملك وليس القائد، هو لا يحمي شخصًا بعينه بل يحمي وطننا ”
هزت تبارك رأسها تنظر بانبهار شديد صوب سالار، ثم قالت ببسمة :
” ربنا يديله الصحة يارب، تلاقيه بيتعب في شغله، على كده مرتباتهم حلوة في الجيش ده ؟؟”
نظر لها صامد بعدم فهم لتبتلع ما بفمها :
” هو يعني شغله ايه ؟! بيشرف عليهم بس ولا بيشتغل بايده ؟!”
ابتسم صمود يميل عليها هامسًا :
” القائد يحارب بنفسه في الحروب، يمكنك القول أنه يصبح مرعبًا داخل ساحة الحرب .”
نظرت تبارك لظهر سالار الذي كان يتجاهل كل ما يفعلونه، ويترفع عن الحديث معهم أو الرد او إجابة اسئلتها الفضولية .
” قال يعني هو مش مرعب برة ساحة الحرب ”
وفجأة توقف سالار بشكل جعل صمود يرتطم بظهره وهي تصطدم بظهر صمود مطلقة تأوه مرتفع، لكن لم يهتم بها أحد إذ قال سالار وهو ينظر للمكان حوله :
” وصلنا حافة الغابة الشرقية ..”
وبعد هذه الكلمات تحرك صامد وصمود بسرعة صوب شجرة عملاقة بشكل آلي، ثم أخذوا يحفرون الأرض تحت نظرات تبارك الفضولية، وبعد دقائق استخرجوا سيوف وخناجر وسهام جعلت عيونها تتسع، كانت تراقب ما يحدث بانبهار، وسالار يحمل سيفه وسهامه مبتسمًا أخيرًا وكأنه التقى بحبيبة غائبة منذ سنوات عجاف ..
تنفس براحة وهو يقول :
” وصولنا هذه النقطة يعني أننا كدنا ننتهي من الغابة ”
اتسعت بسمة تبارك :
” باقي كام ساعة كده ونخرج ؟!”
” عشر ساعات تقريبًا ”
شهقت تبارك بصدمة ولم يمنحها أحدهم فرصة لتعرب عن صدمتها إذ تحركوا مجددًا وهي تسير خلفهم وقد بدأ التعب ينال منها، لا تدري حقًا كم من الوقت استغرقت رحلتهم منذ بدأوا في تلك الغابة، ربما ساعات طويلة، كل ما تدركه أنها الآن في حاجة ماسة للنوم والشرب و…المرحاض .
سارت خلفهم تبارك ومازالت نظراتها تدور على سالار بانبهار شديد، ليس لملامحه الغريبة الوسيمة والصهباء والمميزة، فهي سبق واعربت عن انبهارها على تلك الملامح قبل أن تغض البصر مستغفرة، هي فقط …منبهرة بشكل كبير بهيبته وذلك السيف يقبع بيده والأسهم المعلقة على ظهره، يشبه …يشبه هؤلاء الفرسان الذين كانت تراهم في افلام الحروب القديمة .
استغفرت ربها من كل ذلك تحاول غض الطرف عن أي انجذاب له، تدرك الآن أنه لهذا السبب حرّم الله الاختلاط، فالنفس الإمارة بالسوء لن تمنعك عن التأمل وأخذ نظرة ستتحول لنظرات وإعجاب، ربنا هي حديثة العهد بالتقرب من الله، إذ انقطعت عن أي شيء سييء منذ سنتين، لكنها ما تزال تحارب لأجل الوصول لنجاتها قرب ربها، وهذا لم يكن بالهين وسط عالم ملئ بالمفاسد .
فجأة استدار سالار للخلف بسرعة كبيرة جعلت تبارك تبعد عيونها عنه، وهي تحمل زجاجة المياه الخاصة بها ترتشف منها ما يسد عطشها ويخفف وطأة الموقف بأكمله .
وسالار ضيق عيونه، ثم مال برأسه قليلًا يقول :
” ربما تحتاجين للاقتصاد في استخدام المياه، فلن نجد مصدرًا له في هذا المكان ”
أغلقت الزجاجة وهي تقول باحراج :
” أنا …أنا ..عايز تشرب ؟؟”
نظر لها ثواني ثم عاد للسير بهدوء :
” لا اشكرك يمكنني تحمل الجوع والعطش لأيام، لا بأس ”
” أيام ؟؟”
هكذا تحدثت تبارك بصدمة وهي تزيد من سرعتها تلحق به وقد ألقى لها سالار كلمة تغذي بها فضولها، هي بالفعل علمت من قبل أن هناك من يستطيعون العيش لأيام بدون طعام، لكن ماء هذا صعب.
” أيام ازاي ؟؟ مش بتشرب لأيام ؟؟”
ابتسم سالار بسمة جانبية صغيرة تكاد ترى، ثم أجاب بنبرة غامضة مقتضبة وهو ينظر لها :
” لا تدرين اين قد تقرع طبول الحرب”
” يعني ايه ؟؟”
” يعني أنه ربما تدعوكِ الحرب لخوضها داخل صحراء قاحلة وتستمر لأيام، ربما تخوضين حربًا في منتصف المحيط، وربما في فوهة بركان، لا يهم أين ستكون الحرب المهم أن تنتصري بها ”
كانت تبارك تزداد فضولًا وانبهارًا بسالار وحكاياته :
” وأنت بتنتصر في حروبك ؟!”
توقف سالار ونظر لها ببسمة صغيرة يقول بثقة كبيرة وفخر أكبر بذاته وما حققه وهو بالكاد بلغ الثالثة والثلاثين من عمره :
” لم أخسر حربًا في سنوات عمري الثالثة والثلاثين”
” ولا واحدة ؟؟”
” ولا واحدة”
نظرت لعيونه بقوة ثم همست دون وعي تفكر في عقلية ذلك الرجل الذي يستطيع خوض حروبًا ضارية في ظروف قاتلة دون خسارة واحدة حتى :
” ولو حصل وخسرت في يوم حرب، هيحصل ايه ؟؟ يعني ممكن تعيدوا الحرب تاني ولا كده خلاص ؟؟”
حدق بها سالار ثواني قبل أن يطلق ضحكات صاخبة جعلت أعين تبارك تتسع فهذه هي المرة الأولى التي تراه يضحك بهذه الطريقة، هو فقط كان يمن عليها ببسمات محسوبة جامدة أو ساخرة ..
” حسنًا، لا يوجد شيء يُسمى إعادة حرب، هي ليست باللعبة، لكن إن حدث وخسرت حربًا …”
نظر لعيونها بجدية وقال :
” سأقف بكل شجاعة أمام عدوي وانظر لعيونه و أحييه على مهاراته العالية التي حطمت عزيمتي، سأمنحه سيفي والذي هو شرفي وكبريائي وأخبره أنه كان الأول الذي هزمني، ثم انهض واحارب مرة أخرى، أنا رجل واواجه خسارتي بكل جسارة ولا يضيرني هزيمة مفردة، فبعده نصر بأمر الله سبحانه وتعالى ”
وحين انتهاءه من جملته تلك نزع عيونه عن تبارك التي خرج من فمها أكثر سؤال مريب غريب قد يفكر به شخص بعد كلماته الحماسية تلك :
” هو أنت مسلم ؟؟؟”
انقبضت ملامح سالار يردد بعدم فهم :
” ماذا ؟؟”
” أنت… أنت مسلم ؟؟ أنا… أنا معرفش أنت ايه؟؟ أنا مش قصدي حاجة والله، أنا بس …يعني طريقة كلامك و…”
صمتت لا تعلم كيف خرجت بذلك السؤال له، كان غبيًا، منذ متى كانت تتدخل في تلك الأمور ويقودها فضولها لتلك النقطة مع شخص تكاد لا تعلم عنه الكثير .
” نحن جميعًا مسلمين، تجمعنا راية الله أكبر ودستورنا القرآن…”
نظرت له ببسمة واسعة، ليكمل هو طريقه بهدوء :
” هيا، تحدثنا كثيرًا، لنكمل الطريق كي لا نتأخر على الوصول …”
ابتسمت تبارك وسارت خلفه بسرعة تضم حقيبتها لها، تقول بصوت مرتفع :
” على فكرة أنت شبه الناس اللي في فيلم وااسلماه ..”
وسالار كعادته لم يعلق أو يهتم بما تقوله هي، بل سار بهدوء شديد وهي لحقت به دون كلمة واحدة وبهدوء تحاول ألا تضل عنهم أو تتسبب في مشاكل، وهكذا كانت هي في العادة، تبارك الفتاة الهادئة الرقيقة والذكية، كانت طوال الوقت تتجنب المشاكل، إلا أن استدعت الحاجة لتدخل غضبها، لكنها وبشهادة الجميع هادئة لطيفة ورقيقة وذكية وتستطيع استخدام الإبر الطبية وقياس الضغط والسكر وسحب عينات الدم، والمشاركة في بعض العمليات الجراحية البسيطة…..
أوليست تلك الصفات كافية لتصبح ملكة؟؟
أو هذا ما تتمناه هي ….
__________________
يعتلي صهوة فرسه وهو يركض به بين جدران قلعته وعيونه بحر سواد لا بداية له، ولا نهاية متوقعة منه، قلبه مراجل تغلي، ما حدث مساء الأمس تحت سماء مملكته ليس اقتحام مقصود بقدر ما هو تهديد واضح .
على سالار أن يعود في أسرع وقت، فهو أكثر من يفهمه ويستطيع استشارته وأخذ منه نصيحة، فسالار فيما يخص الحروب، تفوق حكمته الجميع حوله، وتفكيره يتخطى تفكير الكل باشواط، رجل يتخذ ” خالد بن الوليد” قدوة له ويقرأ في كتب الحروب القديمة، لا بد وأن يمتلك عقلية حربية جبارة، حمدًا لله أن سالار بصفه وليس عدوًا له .
وإيفان اعتاد ألا يتخذ خطوة في أمور مملكته إلا بعدما يستشير أهل الخبرة بتلك الأمور ” وشاورهم في الأمر “، مملكته لم تقم عليه وعلى عقله فقط، بل قامت على الشورى والحكمة وسواعد رجالها
توقف خيل إيفان جوار أحد الأشجار على أطراف القلعة، قرب المزرعة تحديدًا، حيث يتنعم هناك بالمزروعات والطبيعية الجميلة.
هبط وهو ينزع سيفه يلقيه ارضًا يتحرر من كل ما يقيده، يتحرر من السلطة ومن كل شيء، يود أن يعيش تلك اللحظات كإيفان الشاب المحب للحياة بعيدًا عن كونه الملك .
جلس أسفل الشجرة يستظل بها من حرارة شمس الظهيرة، يتنهد بصوت مرتفع وهو يمسح رأسه حتى فسدت خصلات شعره السوداء :
” يالله رحمتك بعبادك ”
كان يحمل فوق أكتافه هموم شعب بأكمله وخوف من القادم، قوة المنبوذين تزداد شراسة ولا أحد يعلم ما يضمرونه أو ما يخفونه خلف قلوبهم السوداء .
فجأة رفع إيفان رأسه بانتباه شديد وهو يسمع صوت الحان يعلمها جيدًا فهي نفسها الحان الدف الذي يستخدمه عادة ( العم سفيان ) حارس الحظائر، فذلك العجوز يهوى العزف وطرق الطبول، لكن العجيب هو أن الصوت لم يكن صوت الدف فقط، بل كان هناك ترنيمات واناشيد فلكورية قديمة، ترنيمات واناشيد لم يسمعها قبلًا، كلمات غريبة وبصوت رقيق ..
نهض من مكانه ينتزع درعه يلقيه ارضًا وفي خاطره أنها ربما تكون نفسها الفتاة التي سمعها تنشد اغاني الحرب في إحدى الليالي، لكن ذلك الصوت الذي يغني في تلك اللحظة كان رقيقًا هادئًا، بينما الآخر كان قويًا كالرعد وكأنه صوت مقاتل في حرب..
توقفت أقدام إيفان على مقربة من حظيرة القلعة ليبصر بعيونه فتاة غريبة لا يعلم لها هوية، والغريب أنها كانت في تلك اللحظة تردد ترانيم وتدور وتحرك يديها بكل دلال .
ابتسم بسخرية يهمس من بين أنفاسه وعيونه لا تغادر تلك الفراشة الملونة بين حدائق قصره :
” مابال نساء القصر هذه الأيام ؟؟ أصبحن يتراقصن كلما حانت لهن فرصة لذلك ”
نظر للفتاة يقترب خطوات أكثر وهو يراها تدور في مكانها بسرعة كبيرة، ثم تنخفض وهي تحرك يدها وكتفها بشكل ذكره برقصة سيدة في زفاف قديم رآه بالصدفة .
ابتسم دون وعي وهو يضحك على حركاتها ولا يدري ما حدث، لكنه ولثواني نسي كل ما يجري داخل المملكة، ونسي اجتماع الممالك الذي سيتم بعد ساعات قليلة .
وعند كهرمان منذ دقائق ..
كانت تنظف الحظيرة كما أمرها الملك معاقبًا إياها، وقد شعرت بالقهر يكتنفها، بعدما كانت تتنعم في حياتها، وتعيش الرفاهية الوانًا أصبحت الآن خادمة لبعض المواشي .
هبطت دموعها بقهر شديد وهي تهمس أثناء تنظيف الأرضية:
” حسبي الله فيمن كان سبب ما يحدث لي، عسى أن يريني الله فيهم انتقامًا شديدًا، لعنة الله عليهم هؤلاء القذرين ”
انتهت من تنظيف المكان تستقيم وهي تجفف دموعها، ثم ابتسمت بسمة صغيرة تشجع بها نفسها :
” لكن رغم كل شيء أنتِ فتاة شجاعة وقوية كهرمان، احسنتِ، ها هي حياتك تسير بشكل جيد كلما ابتسمتِ لها، لا شيء يقهرك ”
أخذت تصفق لنفسها بسعادة كبيرة، سرعان ما تلاشت حينما وجدت إحدى الأبقار تتغوط ارضًا بعدما نظفت هي المكان منذ ثواني، شحب وجهها واتسعت نظراتها لتلقي ادوات التنظيف ارضًا تصرخ بجنون :
” ما بالك أيتها الغبية ؟؟ للتو نظفت المكان ؟! ألم يحلو لكِ التغوط إلا حينما نظفت اسفلك؟؟ ”
وبانتهاء كلماتها وجدت المزيد والمزيد من المواشي تلوث المكان مرة أخرى، وهي تراقب ما يحدث لتلقي ادوات التنظيف صارخة :
” لن انظف المكان مرة أخرى، هيا افعلوا ما تريدون، أقسم لن انظف شبرًا واحدًا بهذه الحظيرة القذرة ولو تحول المكان بأكمله لكتلة كبيرة من العفن، سمعتم ؟؟”
أصدرت بقرة صوتًا وكأنها تعترض على حديث كهرمان التي رفعت كتفيها :
” هذا ما لدي يا آنسة، ولا اريد اعتراضًا عليه ”
أمسكت طرف فستانها كأميرة نبيلة، ثم انحنت قليلًا تقول ببسمة صغيرة ونظرات رقيقة كما لو كانت ترحب بأمير :
” والآن آنساتي، اعذروني عليّ الرحيل لازيل عني رائحتكن القذرة، وداعًا ”
اعتدلت في وقفتها واستدارت لترحل، لكن فجأة شعرت بشيء زلق أسفل قدمها، شيء تسبب في سقوطها بقوة على وجهها لتتلوث كامل ثيابها بالوحل ويعلو صوت الأبقار في المكان، وهي نهضت بسرعة تنظر صوب الابقار بشر :
” كفاكن شماتة يا نساء، أنا لا اهتم لدي العديد من الثياب النظيفة، بينما أنتن مضطرين للعيش بهذا الجلد العفن ”
ارتفعت أصوات الأبقار لتصرخ كهرمان في المقابل وهي تمسك ثيابها :
” نعم عفن، ولا عزاء لكُنّ…حمقاوات ”
نفخت بعدم اكتراث وهي تخرج وتغلق الحظير خلفها، ثم نفضت كفيها سويًا مبتسمة رغم كل ما حدث في الداخل وهي تتنفس بصوت مرتفع :
” ما اجمل الهواء دون رائحة الابقار !”
نظرت لثيابها تتحرك صوب جدول مياه تنظفه وهي تتمتم بحنق شديد وغضب :
” لا بأس كهرمان، غدًا تبتسم لكِ الحياة عزيزتي، ابتسمي لها الآن لترد لكِ بسمتك بالمثل ”
وفجأة توقفت كهرمان عما تفعل حينما سمعت عزف على الدف عزف تعلمه جيدًا، عزف كذلك الذي كانت تجيده والدتها، ابتسمت دون وعي وهي تنهض وتركض صوب صوت العزف، وحينما وصلت له توقفت ترى من بعيد رجل عجوز يجلس أمام بحيرة صغيرة يحمل بين يديه دف ويطرق عليه بقوة .
ابتسمت دون شعور ثم رفعت يديها في الهواء تحركهما بتناغم مع الموسيقى، وأغلقت عيونها دون شعور وصوت ترنيمات والدتها يصلها بوضوح فتحت فمها تغني كما كانت تفعل والدتها وتحرك جسدها بحركات في غاية الرقة والدلال، فقط رغبة منها لعيش لحظات من الماضي، تنسلخ عن واقع أليم بماضي مشرق .
تحرك يديها وكتفها وخصرها وتميل تارة وتدور تارة، كل ذلك وهي ترى نفسها في قاعة الموسيقى الخاصة بوالدتها وهي تقف أمامها وتتمايل بدلال وتشاركها الغناء …
ابتسمت كهرمان بسمة واسعة من بين دموعها وهي تغني نفس الكلمات بصوت تهدج شيئًا فشيء وقد ارتفعت وتيرة الغناء وأخذت تدور بقوة في المكان وهي ترى أمامها والدتها تصفق لها وتزيد من حماسة كلماتها والتي كانت تتردد في الواقع على لسان كهرمان، سقطت دموع كهرمان أكثر ترفع طرفي فستانها تدور في المكان وصوت والدتها يهمس لها :
” عزيزتي المدللة لكم أنتِ راقصة بارعة، ترقصين كالفراشات أعلى الزهور في فصل الربيع، محظوظٌ ذلك الرجل الذي سيحظى بفراشة رقيقة مثلك ..”
” أمي أنا لستُ بهذه الرقة، أنا شرسة أيضًا لذلك احذروا مني جميعًا ”
أطلقت والدتها ضحكات صاخبة تضم كهرمان لصدرها :
” نعم نعم أنتِ في غاية الشراسة، هذا ما نقوله نحن أمام شقيقك الاحمق الذي لا يستطيع الاقتناع بأنكِ فتاة ولستِ صبي ليعلمك القتال ”
” لكن القتال ليس بالشيء السييء امي، لربما يومًا ما احتاجه ”
” اتمنى ألا يأتي ذلك اليوم اميرتي الصغيرة ”
سقطت دموع كهرمان وهي تقول بحسرة ووجع تتوقف عن الرقص :
” جاء ذلك اليوم أمي، جاء ورحل آخذًا إياكم جميعًا …”
تعجب إيفان الذي كان يراقب من بعيد ازدياد حدة الغناء والحركات وبكاء تلك الفتاة، رفع حاجبه لا يفهم ما يحدث، في اللحظة التي رفعت كهرمان عيونها تجففها، لكن فجأة صُدمت حينما رأت أمامها شابًا يراقبها من بعيد. .
انتفضت للخلف صارخة تتحسس غطاء الوجه الخاص بها تتأكد أنه موضوع، وهي ما تزال تعود للخلف .
وايفان اتسعت عيونه يراها تقترب من إحدى البحيرات الصناعية التي حفروها لأجل الحيوانات، رفع يده يقول بصوت مرتفع :
” انتبهي …خلفك ..”
لكن كهرمان لم تسمع ولم تنتبه لشيء وهي تسقط بكامل جسدها داخل تلك البحيرة بقوة تسببت في تناثر المياه حولها .
وايفان اتسعت عيونه بصدمة كبيرة، لكن فجأة انفجر في ضحكات مرتفعة وهو يراها تعافر لتخرج وكلما تمسكت بالحافة انزلقت وسقطت ..
زادت ضحكاته أكثر وهو يسمع سباتها له وصرخاتها به :
” أنت أيها المنحرف عديم المروءة، بدلًا من مد يد المساعدة تضحك ؟؟ ”
أطلقت صوتًا حانقًا غاضبًا، بينما إيفان لم يتوقف عن الضحك مدركًا أنها لم تعلم بعد هويته، ربما لثيابه العادية أو ملامحه غير الواضحة بسبب المسافة بينهما ..
ورغم ذلك رفع يديه في الهواء وهو يقول بصوت مرتفع وسخرية لاذعة نفس كلمات الأغنية التي كانت ترددها :
” كالنيران المشتعلة أنا ها ؟؟”
ضربت كهرمان المياه بقوة صارخة خجلة من سماعه لها :
” أيها الحقير، اقسم أنني شأشكوك للملك فقط انتظر ”
ابتسم إيفان يعيد خصلات شعره للخلف متجاهلًا إياها بكل برود :
” نعم نعم، افعلي، اذهبي للملك واخبريه أن هناك منحرفًا كان يراقبك تغنين ومن ثم تكبر عن مساعدتك، وفي المقابل أنا سأخبره أنكِ اذيتي اذني بالإستماع لصوتك، واضررتي عيني برؤيتك ترقصين بهذا الشكل الغريب، ولنرى لمن سيستمع الملك ”
صرخت كهرمان بغيظ وغضب:
” سأفعل وسترى، أقسم أن اشكوك واتأكد أن تنال عقابك من الملك فهذا المتجبر لا يترك أحدًا يفلت من عقابه، انظر إلي عاقبني بالعمل في الحظيرة لأجل اسباب تافهة، انتظر لترى ما سيفعل بك ”
توقفت أقدام إيفان عن التحرك وهو ينظر أمامه بصدمة يدرك الآن هويتها لتلك الفتاة :
” متجبر ؟؟”
نظر لها ليراها تحاول الخروج بصعوبة :
” أنا متجبر ؟؟ تهاونت معها وتخبرني أنني متجبر ؟؟ بالله إن النساء لا يعجبهن شيئًا ولو احضرت لهن قطعة من السماء سيتذمرن أنك وصلت للسماء ولم تحضرها بأكملها ”
نفخ باستهزاء يرتدي درعه ويحمل أسلحته، ثم وضع لثام وجهه يتحرك بفرسه بعيدًا عنها وهي تنظر لاثره بصدمة مرددة :
” يا الله لقد رحل …رحل دون أن يساعدني ؟؟”
___________________
ساعة متبقية على بدء اجتماع الملك مع باقي ملوك الممالك المجاورة، الأمر الذي يستدعي منه طاقة كبيرة ليركز على كل ما سيصدر من الجميع، الأوضاع في الممالك أصبحت على شفا جرف من الانهيار، ممالك دامت لقرون ستُمحى بسبب بعض المنبوذين، منبوذين تهاونوا معهم واستهانوا بهم حتى اضحوا كالصخرة التي تعوق مجرى المياه.
دخل تميم مكتبة القصر حيث العريف على أمل أن يجد دانيار هناك، سار بين أرفف الكتب يتتبع الصوت الذي يأتي من داخل المكتبة والذي كان للعريف المتأفف دائمًا .
” يا فتاة أخبرتك أنني لا أحب أن يعبث أحدهم بأشيائي ”
ومن ثم صمت عم المكان جعل تميم يسرع من خطواته صوب العريف ليعلم أي فتاة تلك التي أثارت غضبه، لكن بالتفكير في الأمر فأي إنسان يقترب من العريف يثير غضبه ..
صوت اصطدام العديد من الكتب بالارضية الخشبية كان واضحًا في المكان، إذ توقفت أقدام تميم عن التقدم وهو يسمع صوت شهقات العريف العالية يصرخ بجنون :
” أيتها الفتاة الغبية، ما الذي فعلتيه بمكتبتي ؟؟”
مالت الفتاة ارضًا تلتقط الكتب بسرعة :
” ما بك يا عم عريف لقد سقطت مني الكتب سهوًا رجاءً لا تبالغ بردة فعلك ”
” أيتها الصغيرة الغبية، أي عم عريف هذا ؟! أخبرتك مئات المرات أن اسمي ليس عريف، هذا لقبي وليس اسم لتسبقيه بعم، ثم أنا لست عمك، ولن اكون عمًا لفتاة بمثل حمقك ”
التوى ثغر الفتاة بتشنج تضع الكتب في الارفف مكانها :
” وأنا أخبرتك أنني لا أستطيع التقليل من احترامك ومناداتك بالعريف دون لقب، لقد ربتني والدتي على احترام كبار السن ”
انتفض جسد العريق بقوة يصرخ :
” أنتِ يا فتاة من هؤلاء كبار السن ؟! هل ترينني عجوز امامك ؟؟”
نظرت له الفتاة بتعجب من صراخه :
” ما بك ..الجميع يراك هكذا والجميع ينادونك بالعجوز، لِم غضبت مني بهذا الشكل ؟! ”
تنهد العريف وهو يعلم أنه لن يصل مع تلك الفتاة _ التي تقفز له في المكتبة كل نهاية اسبوع _ لشيء، فهي هكذا منذ جاءت للعمل بالقصر وهي تعيش في عالمها العجيب المريب حيث هي وفارسها الذي تقص عليه حكاياته ..
” إذن يا عم ألم أخبرك بآخر اخبار فارسي ؟!”
” لا لم تخبريني، ولا اريد السماع ”
” حسنًا هذا لئيم، ذكرني ألا اشاركك حكاياتي مع فارسي الشهم مجددًا، والآن أين أرفف الروايات لأخذ واحدة وارحل من هذا المكان الذي لا يرحب بي ”
زفر العريف بصوت مرتفع وبغيظ مشتعل :
” يا الله يا معين على هؤلاء الحمقى، أي روايات تلك ؟؟ مكتبتي لا تحتوي أي روايات رومانسية لتساعدك على نسج حكايات غبية وتضعين بها فارسك الشهم ونفسك، هذه مكتبة علمية تضم كافة المجالات في هذا العالم ”
نظرت له الفتاة قليلًا ثم تساءلت بخيبة أمل:
” إذن لا روايات رومانسية ؟؟”
” لا، لا روايات رومانسية وهذا ما أحاول قوله منذ سنوات حينما جئتِ للعمل هنا ”
قالت ببساطة شديدة :
” إذن هذا يعني أن مكتبتك غير مكتملة وينقصها الكثير من الأمور كالروايات الرومانسية، ما رأيك أن تكتب البعض”
اجاب العريف وهو يرتشف بعض المياه ليهدأ :
” لا استطيع ”
” ياا.. كتبت كل هذه الكتب وتعجز عن كتابة بعض الروايات الرومانسية ؟؟ هل حياتك بائسة لهذا الحد ؟!”
اتسعت أعين العريف وهو يرفع نظراته لها بتشنج، وقد علت نظراته البلاهة الشديد، هل تعتقد تلك الغبية أنه هو من كتب كل تلك الكتب ؟؟ حقًا ؟؟
” يا ابنتي من ذلك الأحمق الذي أخبرك أنني من كتب كل تلك الكتب ؟؟ كم تعتقدين عمري لأكتب كتب يتجاوز عددها المليون كتاب ؟؟”
” لا ادري ربما المائة ؟؟”
وفجأة انفجر العريف في وجهها مما جعلها تركض بسرعة من أمام وجهه تحتمي في أحد الارفف، وكل ذلك تحت نظرات تميم الذي أطلق ضحكات صاخبة رنّ صداها في المكان بأكمله، ليتوقف العريف عما يفعل وهو ينظر له بحنق، بينما الفتاة توقفت تنظر له بصدمة هامسة :
” المختل ؟؟”
لكن تميم كان غارقًا في الضحكات على تلك المعتوهة وحديثها وعقلها الصغير وردودها المريبة على العريف، حسنًا للمرة الأولى يجد مبررًا لتأفف العريف وحنقه من شخص ما .
” ماذا ؟؟ هل يضحكك ما ترى يا سيد ؟؟”
نظر تميم أمامه صوب برلنت يتنحنح بجدية دون معرفته بهويتها ثم قال :
” في الحقيقة نعم، هو يضحكني وبشدة ”
ختم حديثه ثم أكمل ضحكه بصوت مرتفع لا يصدق ما تعيش به تلك الفتاة :
” أي فارس هذا يا ابنتي ؟؟ ثم كيف توقعتي أن تجدي تلك الروايات التي تبحثين عنها في مكتبة المملكة ؟؟”
شعرت برلنت بالخجل الشديد وقد احمر وجهها بقوة من خلف غطائها أن يطلع شخص لئيم كذلك الرجل على جزء خاص من داخلك كعشقها للروايات الخاصة بالمشاعر، وحلمها بفارس الاحلام الشهم، لهو أمر في غاية الاحراج ، عضت شفتيها وهي تحاول الحديث :
” هو … الأمر هو أنني فقط اقرأ تلك الأشياء فقط لتمضية وقت لا أكثر، لكنني في الحقيقة لا اهتم بهم، أنا أنا … أنا أقرأ كتب أخرى في مجالات عدة، حتى أنني قرأت تقريبًا مئات الكتب من هنا والتي اخذتها من العريف ”
تحدث العريف وهو يعيد ترتيب كتبه :
” كاذبة ”
نظرت له برلنت بغيظ شديد ثم قالت :
” لست كذلك، أنا جئت واخذت العديد من الكتب بنفسي وسلمني إياها مرجان، صحيح مرجان ؟؟”
رفع مرجان رأسه عن الكتاب الذي يقرأه ولا يدري ما يحدث حوله، لكنه قال على أية حال :
” ها ؟؟ نعم نعم صحيح ”
ابتسمت برلنت باتساع ترفع رأسها عاليًا بتكبر :
” لست وحدك الخبير في صناعة الأسلحة يا سيد، فأنا ايضًا أعمل على تطوير سلاح خطير ”
اندهش تميم من كلماتها يبتسم بعدم تصديق :
” اوه حقًا ؟؟ وما هذا السلاح يا ترى ؟؟”
” العقل، سلاح العقل يا سيد هو أخطر من جميع اسلحتك الفاشلة وقنابلك ذات الرائحة القذرة، أنا أعمل على تطوير سلاح عقلي عن طريق قراءة …”
” الروايات الرومانسية ؟؟”
هكذا قاطعها تميم ببسمة واسعة مستفزة ليشتد غضب برلنت وهي ترفع اصبعها في وجهها :
” تلك الروايات التي تسخر منها يا سيد لا قِبل لك ولا لامثالك على فهمها، وفهم ما بها من مشاعر، فأمثالك عديمي المشاعر لا يمكن أن يتفهموا ما بها، امثالك لا وظيفة لهم سوى السخرية من أمثالي المثقفين، امثالك يرتعبون من المرأة القارئة، فنحن كالأفاعي السامة ”
ارتسمت ملامح الدهشة والإعجاب على وجه تميم الذي استطاع وبكل مهارة افتعال أكثر ردة فعل مندهشة قد يراها أحدهم وهو يقول :
” يا ويلي من الأفاعي السامة التي ستقهرني بقوة الصداقة وضربات الحب ”
شعرت برلنت بغضبها يشتعل أكثر وأكثر، ورغم ذلك اكتفت فقط ببسمة انعكست داخل عيونها :
” هذه ردود الجاهلين امثالك يا سيد، أنت لا علم لك سوى بالأسلحة والبارود، لكنك جاهل بكل ما يخص المشاعر والكلمات العذبة اللبقة، لو أنك فقط قرأت كتاب واحد لاكتسبت اكوامًا من اللباقة، لكنك للاسف الشديد جاهل، والآن اعذرني، فوقتي الثمين لا يسمح لي بالوقوف معك واعطائك محاضرة عن اللباقة واسماعك المزيد من الكلمات التي ستقف أمامها عاجزًا عن الرد ”
ختمت حديثها ترمقه بتحدي، ثم ركضت خارج المكتبة قبل أن يصمتها بكلمة لن تستطيع الرد عليها بشيء، وهو ظل واقفًا أمام العريف يبتسم بعدم تصديق لما حدث، تلك الفتاة تصفه بالجاهل الذي لا يعلم شيئًا سوى الأسلحة ؟؟ حسنًا هو كذلك لكنه لا يحب أن يصفه أحد بذلك .
فجأة انتفض على صوت العريف وهو يردد بتهكم :
” تلك الصغيرة لا استطيع التخلص منها، كل نهاية اسبوع تقفز لي وتفسد يومي …”
فجأة سمع الجميع صوت أحد الجنود يقول بصوت جهوري :
” حضرة العريف، الملك يستدعيكِ لأجل اجتماع الممالك بشكل عاجل ”
نهض العريف وقد طارت بومته لتستقر على كتفه وكأنها علمت أنهم على وشك الرحيل، والعريف يشير لمرجان أن يلحق به وهو يقول بغيظ :
” متى يترك هؤلاء القوم العريف ليعيش بسلام بعيدًا عن مشاكلهم الغبية التي لا تعنيني ؟؟ آه يا الله عسى أن تحترق البلاد بمن فيها واتخلص منكم ”
اتسعت أعين تميم بصدمة من كلمات العريف وهو يسير خلفه صوب قاعة الاجتماع :
” عجبًا ذلك الرجل يكره الجميع حقًا، لم يكن مبالغة حين قالوا أنه يكره البشر أجمعين ”
_____________________
حسنًا هي انسان، انسان طبيعي لديه احتياجات كثيرة، ليست كتلك الآلات التي تتحرك أمامها وقد غضت الطرف عن حاجاتها البيولوجية، ياالله هم لم يشتكوا عطشًا أو جوعًا أو حتى راحة .
يوم مر وهي تسير في تلك الغابة لا تنال من الراحة سوى لمامًا، خمس دقائق ثم يسحبونها خلفهم لإكمال الرحلة وصوت سالار يصدح في الخلفية حانقًا من أخذها اربع ثواني إضافية فوق الخمس دقائق..
” يكفي راحة، لن نقضي كامل النهار بالراحة ”
وها هي الآن تسير خلفهم وقد بدأت تشعر أنها تحمل فوق ظهرها عمارة سكنية بسكانها، وليس مجرد حقيبة صغيرة بها اشياء في غاية الصغر، وكل ذلك بسبب إرهاق جسدها .
ابتلعت ريقها تحتاج وبشدة للذهاب للمرحاض، قاومت أن تخبرهم بذلك متجنبة حرج شديد، فهي اوقفتهم مرات عديدة لتفعل وتكاد تنصهر من الخجل، تشعر بأنها تعاني للتأقلم على كل هذا، لكن كل هذا دون إرادتها، نظرت حولها بدقة كأنها كانت تتنتظر بكل غباء أن تجد مرحاض عام داخل الغابة، لربما أحب بعض آكلي اللحوم أو الوحوش المفترسة قضاء حاجتهم .
نظرت لظهر سالار الذي كان ينظر للسماء تارة وللاشجار تارة ولا تعلم إن كان يتأمل الطبيعة أم يحاول معرفة أين هم، لكنها لم تعد قادرة على التحمل .
فتحت فمها بنية الحديث، لكن قاطعها صوت صامد الذي قال بجدية :
” تبقى ساعة تقريبًا ونخرج من الغابة، وبذلك نكون شبه وصلنا للحافة التي يليها المملكة سيدي ”
هز سالار رأسه وهو يتحرك خلفه يقول بجدية :
” حسنًا إن اسرعنا سنصل في اقل من ساعة، هيا لا داعي للتراخي الآن، كدنا نصل يا رجال ”
مدت تبارك يدها تحاول أن توقفه، يالله هي ستموت إن لم تقضي حاجتها الآن، هي تعاني من تلك المشكلة بسبب ظروفها الصحية، ابتلعت ريقها ونظرت لهم لتفكر بالذهاب خلف أحد الأشجار دون أن تضع نفسها في موقف محرج معهم، ثم تعود وتلحق بهم مجددًا بكل بساطة …
وهكذا توقفت تبارك واختبئت خلف أحد الأشجار، بينما اكمل سالار طريقه بكل سلاسة، غير مدرك أنه لا يسير مع جنود يمكنهم الاعتماد على أنفسهم إن ضلوا الطريق، أو أنه يتعامل مع رجال أشداء يستطيعون تدبر أنفسهم، بل هو في الحقيقة يتعامل مع فتاة جاهلة لكل ما يحدث معهم .
بعد دقائق قليلة خرجت تبارك للطريق الذي يتحركون به مجددًا وركضت به بسرعة تبحث عنهم تدرك أنها ستجدهم فهم يسيرون على طريق مستقيم لا يحيدون عنه، لكن الصادم أنها لم تفعل …
توقفت تنظر حولها بعدم فهم :
” هما …هما راحوا فين ؟؟ أنا…أنا غبت كتير ؟؟”
ابتلعت ريقها برعب وهي تستدير حولها تكمل السير في نفس الطريق تتذكر كلمات صامد أنهم اوشكوا على الوصول، هل يعقل أنهم ينتظرونها في نهاية الغابة ؟؟
فجأة لا تدري كيف اصبحت الغابة مظلمة ومخيفة وأضحت الاصوات عالية، وكأنها كانت تستأنس بوجود سالار والأخوين معها، حين غيابهم بدأت مخاوفها تطوف على سطح مشاعرها لتصيبها بالرعب ..
بدأ جسد تبارك يرتجف بقوة وقد شعرت بقرب سقوطها ارضًا تكمل سيرًا وهي تنادي بخوف :
” يا قائد ..صامد …صمود ”
نزلت دموعها بخوف تسير في الطريق وقد أضحت الأصوات التي كانت تتجاهلها أكثر حدة، أو ربما استفرد بها الخوف لتشعر بذلك ..
ازداد ارتجاف قلبها وسالت دموعها أكثر وأصبحت رجفاتها اقوى وهي تهتف بصوت أبح من البكاء :
” يا قائد …ياقائد ”
علت شهقاتها أكثر وأكثر وقد أصبحت جميع طرق الغابة متشابهة ولم تعد تميز أي طريق سلكت وأيهم هو الرئيسي وأيهم الفرعي، أخذت تدور حول نفسها باكية بخوف وهي تهمس :
” ياقائد ..”
فجأة شعرت بصوت خطوات خلفها جعل جسدها يتصنم برعب وهي تضم حقيبتها لصدرها وترتجف وقد أصبح تنفسها اقوى واقوى، لحظات حتى سمعت صوت يهمس بغضب وخوف شديد :
” بالله عليكِ أين ذهبتي أنتِ ؟؟؟”
في تلك اللحظة أنهار تماسك تبارك الوهمي وهي تستدير بلهفة وخوف شديد صوب سالار تنفجر في بكاء عنيف جعل سالار يُصدم، لكن صدمته الأكبر كانت حين لمسته، مجددًا تجاوزت مساحته الشخصية وضمت ذراعه تخفي نفسها خلفه باكية .
اتسعت أعين سالار وشعر بجسده يتصنم كالصخرة و……….
________________________
ربما ظننت أنها مجرد صدف، لكنها يا عزيزي اسباب تقودك صوب نهايتك المحتومة، كل تلك لا يعقل أن تكون مجرد صدف عابرة، بل إشارات تخبرك بمصيرك …..
يتبع….
بالنسبة لرجلٍ لم يعلم من النساء غير والدته، وعاش حياته بين رجال أشداء لا يرى من النساء إلا لمامًا، بضع نساء يلمحهن حينما يحرر قرية أو ينقذ رهائن، نساء لم يهتم حتى ولو بدافع الفضول أن يتطلع على ملامحهن، فقط عاش حياته سعيدًا بعيدًا عن كامل تعقيدات النساء والمشكلات التي ترافقهن، لم تمس يده امرأة قط عدا والدته العزيزة، والآن وبعد كل تلك السنوات، وبعد ثلاثة وثلاثين عامًا من العزوف عن لمس امرأة، فعل المحظور، هو لم يلمسها فحسب، بل عانقها….أو بالأحرى هي من عانقته .
انتفض جسد سالار بقوة بين ذراعيّ تبارك التي كانت تبكي على ذراعه برعب وهي تردد كلمات غير مفهومة من بين شهقاتها، وهو المسكين يشعر بيديه تكافح لدفعها بقوة وتحطيم عظامها لتجرأها وتخطي منطقته الخاصة، ابتلع ريقه يغمض عيونه بقوة وجسده يرتجف هامسًا داخله حتى يهدأ :
” هذه ملكتك …هذه ملكتك وهي خائفة، هذه ملكتك، لا تتصرف بعنف قد يؤذيها، تريث …تريث سالار ..تريث بالله عليك ”
لكن كل تلك الكلمات تبخرت وتلاشت في الهواء حينما شعر بكف تبارك يقبض على سترته من الخلف بقوة من بين شهقات غير مفهومة، ليكون ردة الفعل منها هو دفعة قوية للخلف اسقطتها ارضًا بشكل جعل أعينها تتسع ألمًا، و سالار هتف بشكل جنوني :
” لا تتعدي حدودك معي، ولا تقتربي بهذا الشكل مجددًا لأي سبب كان من أي رجل، سمعتي ؟؟”
نظرت له تبارك برعب كبير تحاول أن تتحدث وتبرر ما تريد قوله وعيونها قد التمعت بدموع كثيفة :
” أنا كنت بس خا…..”
لكن سالار لم يهتم لأي سبب تنطق به صارخًا بصوت تسبب في طيران الغربان والعصافير التي تسكن الاشجار :
” سمــعـــتــي ؟؟”
هزت رأسها بسرعة كبيرة وعيونها متسعة مليئة بالدموع تراقبه والخوف قد احتل جسدها في تلك اللحظة، تخافه أكثر من خوفها بأن تضل وسط الغابة والحيوانات الشرسة وحدها .
راقبها سالار وهو يدري داخله أنه بالغ، بالغ في التعامل معها باعتبارها أمرأة، حسنًا على من يكذب هو يعاملها كأحد جنوده، وهذا ما يملك في الحقيقة .
أنزل إصبعه وهو ينظر لها بشفقة ورغبة عارمة بالاعتذار تلح عليه، لكن هي لم تمنحه فرصة، لم تمنحه ثانية واحدة ليفكر في كلمات اعتذار مناسبة إذ فجأة ودون مقدمات انفجرت في البكاء والصراخ وهي تنهض من الارض تصرخ في وجهه .
وكأنها وافقت أوامره منذ ثواني دون وعي، والآن فجأة استفاقت منها، صرخت رغم دموعها وشهقاتها :
” لا مسمعتش، مسمعتش، هتعمل ايه يعني ؟؟ هتقتلني بالسيف اللي في ايدك ده ؟؟ مش بخاف، ولا هخاف منك، ولو فاكر أن زعيقك وصوتك ده هيخوفني تبقى غلطان ”
وقفت تتنفس بصوت مرتفع أمام أعين سالار الذي كان من الواضح أنه يعجبه ما يرى في تلك اللحظة، يعجبه أن تنتفض ملكتهم وتتوقف عن الضعف وتصرخ في وجه ما يخفيها، حتى لو كان هو المقصود ..
رفعت تبارك وجهها بعنفوان له تردد من بين دموعها :
” أنا…. أنا الملكة هنا، وأنت مجرد بودي جارد للملك واوامري تمشي عليك …المفروض يعني، وأنت مجبر غصب عن عينك تسمع كلـ …..ااااه ”
كانت تصرخ أمامه بقوة ودون خوف رغم دموعها التي تهبط دون إرادتها، لكن وحينما كانت في غمرة قوتها ووسط فقاعة الشجاعة الخاصة بها وجدت حد سيفه يفرقع تلك الفقاعة وهو يرفعه في وجهها تحديدًا على بعد سنتيمتر واحد فقط من رقبتها وصوته خرج بهدوء شديد من خلف بسمة صغيرة مخيفة :
” وأنا قائد الجنود الذي يمكنه قتلك هنا ودفنك بارضك دون أن أبذل قطرة عرق واحدة ”
ارتجف جسد تبارك بقوة تود لو تبتلع ريقها، لكن ابتلاع ريقها في هذه اللحظة قد يتسبب في تحريك رقبتها وبالتالي يصيبها السيف، شعرت بالغضب يتلبسها من ذلك المتجبر الذي لا يخشى شيء ولا حتى تهديداتها .
” مش هتعرف تعمل حاجة، الملك مش هيسمح ليك تقتلني ”
ابتسم لها سالار بسمة جانبية :
” ومن يا ترى سيخبر الملك بما سأفعل ؟؟”
شعرت تبارك بالعرق يسير أعلى جبينها والخوف يملئ جسدها بقوة، بالله ما رأت يومًا من هو بمثل قسوة وتحجر ذلك الرجل، فجأة وقعت عيونها على صامد وصمود اللذين كانا يشاهدان ما يحدث بأعين متسعة ورعب كبير أخذته هي أنه رعب على ملكتهم :
” صامد وصمود هيروحوا ويقولوا للملك كل حاجة لو قربت مني ”
اتسعت أعين سالار بقوة لتلك الفكرة يدعي التفكير :
” أوه أنتِ محقة، يا الله ما العمل الآن ؟؟”
ابتسمت تبارك براحة، سرعان ما تبخرت حينما سمعته يقول يكل بساطة محركًا كتفه:
” لا بأس سأتخلص منهما كذلك، لكن لا تقلقي مولاتي فلن يتم دفنهما بنفس قبرك، سأحفر واحدًا لهما، لأنني لن أقبل أن تُدفن ملكتنا مع رجلين غريبين عنها، هذا مرفوض البتة ”
” شهم …”
ابتسم لها سالار يستمع لصيحات صامد وصمود خلفه وكلماتهما المتداخلة برعب ..
” سيدي نحن لن نتحدث بكلمة واحدة ”
” نعم سيدي، فنحن لا شأن لنا بها إن أردت التخلص منها ”
” هيا سنساعدك في حفر قبر لها ”
نظرت لهما تبارك بشر وشعرت بالغضب يعتريها، لكن فجأة انتزع سالار سيفه عن رقبتها يستدير بسرعة كبيرة صوب الاثنين وهو يوجهه لهما قائلًا بصوت جهوري :
” تعينان شخصًا يود قتل ملكتكما دون الدفاع عنها ؟؟ ياله من عارٍ مخذي”
عادت تبارك للخلف بريبة من ذلك الرجل وهي تهمس داخلها، أنه أنت من أردت قتلي إن لم تكن تتذكر، لكن رؤيتها لنظرات الشر تنطلق من أعين سالار جعلتها تبتلع تعليقها وهي تراه يوبخ الاثنين بصوت مرعب جعلها هي ترتجف في مكانها ..
” هذه ملكتكما، وإن رأيتموني أرفع عليها سيفًا ترفعون عشرة في وجهي، سمعتم ؟؟”
هز الإثنان رأسيهما بقوة وقد كانا جسديهما يرتجفان، ليرمقهم سالار بشر وهو يقول :
” لتشكرا الله أنكما لستما من رجال جيشي وتحت أمرتي، وإلا كنت أحلت حياتكما لجحيم ”
ختم حديثه يعيد السيف لغمده، ثم استدار صوب تبارك يقول بجدية ونبرة عملية بحتة :
” وأنتِ …”
سارعت تبارك تقول بصوت مرتجف تبعد عيونها عن صامد وصمود بسرعة :
” أنا آسفة والله كلام في لحظة انفعال مش اكتر …”
للعجب ابتسم سالار بسمة صغيرة يهمس بكلمات غير مسموعة لها، ثم أشار للجميع أن يلحقوه ليكملوا رحلتهم، سارت تبارك وخلفها صامد وصمود و صوت تذمرهما وحنقهما يصلاها بشكل واضح، لا بأس يستحقان ما حدث لهما، هذا فقط كي يفكروا مرات قبل محاولة التستر على جريمة قتلها، شكرت تبارك سالار في رأسها وهي تردد بصوت هامس ممتن :
” راجل جدع وشهم والله …”
ولم تنتبه تبارك أن ذلك الرجل الجدع والشهم هو نفسه من كان سيتسبب في الجريمة التي كان سيتستر عليها صامد وصمود .
وبعد ساعة ونصف من السير، توقف سالار فجأة ليتوقف الجميع بقوة وتنظر لهم تبارك بدهشة، تسمع صوت صامد يقول بجدية وبسمة واسعة :
” ها نحن يا قائد وصلنا للحافة ….”
__________________
يتحرك بقوة بين ممرات القصر وخلفه الكثير والكثير من الجنود بملامح واجمة، ما حدث ليلة أمس لم يكن سوى بداية، بداية فتح بوابة الجحيم على جميع الممالك، يبدو أن فترة الانتظار والتريث قد انتهت بالكامل .
فُتح الباب وخطى لغرفة الاجتماعات بقوة ومعطفه يتحرك خلفه، وبمجرد أن وصل أبصر الجميع ينتظر؛ مستشاريه وقادة جيشه _ عدا سالار_ والعريف، والملك آزار وولي عهده والملك (بارق ) ملك سبز .
نظر لهم إيفان نظرات هادئة يحييهم بعيونه، ثم جلس بهدوء يتنهد بصوت مرتفع يقول بجدية كبيرة :
” اشكركم لتلبية دعوتي، لكن الأمر في غاية الخطورة ”
انتبه له الجميع، وقد بدأ إيفان يحرك نظراته بينهم وكأنه يبحث عن شيء ضائع بينهم، وبعد صمت قصير استمر ثواني أدلى بما يضمر داخله :
” البارحة تعرضت سفيد وتحديدًا قصري لمحاولة هجوم فاشلة ”
نظر له الجميع باهتمام وهو اكمل دون أن يهتم بأي ردة فعل في تلك اللحظة، هو فقط يود وضع حد لما يحدث داخل الممالك الأمر تطور وأصبح خطر المنبوذين مرعبًا ..
هؤلاء المنبوذون…مجموعة من المرتزقة المنبوذين يسكنون الجبال احيانًا، والسهول أحيان أخرى، ولا هواية لهم سوى قطع طرق القوافل ونهبها وقتل التجار بين الممالك، وقد خاض سالار حملات تطهير لهم، لكنهم يتكاثرون كالذباب وبشكل مهول، ومن افضل منهم ليتكاثر؟!
فهم بالإضافة لنهب القوافل، كانوا بارعين في خطف النساء والزواج بهم بالاجبار للحفاظ على سلالاتهم العفنة …
” لم يكن هجومًا مدبرًا أو خطرًا أو حتى مؤثر، فكان يكفيهم جنديين فقط ليتخلصوا من هؤلاء المنبوذين لكن …”
صمت بسبب تدخل بارق في الحديث، لا يفهم سبب دعوتهم لهنا إن كان جنود الملك قد احبطوا عمليتهم :
” إذن ما الضرورة من جمعنا إن افشل جنودك بالفعل محاولة الهجوم على المملكة ملك إيفان”
نظر له إيفان قبل أن يقول بشر :
” الضرورة هي أن ذلك الملعون بافل أرسلهم فقط ليعلمني جيدًا أنه يستطيع دخول مملكتي وقتما شاء دون أن يتكبد أي عناء، يريد إخباري أن احتلاله لعرشي مسألة وقت وتكتمل، والأمر لا يقتصر على مملكتي فقط ملك آزار، بل سيمتد ليشمل جميع ممالككم ”
حدجه آزار بنظرات واثقة قبل أن يعتدل في مقعده يقول بصوت هادئ وهو يمد كفيه أمامه يعقدهما ببعضها البعض وفي صوته نبرة كبرياء وغرور لا حدود لهما، يثق بجيشه الذي هو اقوى ما لديه :
” لن يطأ أي حقير منهم أرض مملكتي، فلا أسمح لأيًا كان أن يفعل، انتبه لحدودك وجنودك ملك إيفان فيبدو أن منظومتك الدفاعية تعاني خللًا كبيرًا خاصة في غياب قائدهم ”
عاد إيفان للخلف يستند بهدوء على مقعده وهو يقول بصوت بادر كالصقيع وجميع الأعين حولهم قد تأهبت لبدء قتال :
” كنت لاخجل من نفسي ومن جنودي ملك آزار، لو أن هؤلاء المنبوذين لم يأتوا عن طريق الحدود المشتركة بيننا وبين مملكتك بأوراق خاصة بشعبك فقط وبتصاريح تم ختمها بختم تجارك ”
ابتسم دانيار بسمة سوداء وهو ينظر بأعين آزار ومن معه وقد تحركت يده على القوس الخاص به والذي يقبع أعلى كتفه، وجوراه تميم يستند على الطاولة بيد، وبالاخرى أخرج سيفه من غمده أسفل الطاولة، وقد بدأت حالة الاستنفار تعلو في المكان والنظرات تتحرك بين الجميع ليروا أيهم سيبدأ المعركة اولًا .
وصوت آزار يصدح رافضًا لتلك الفكرة داخل المجلس وتحت أعين جميع القياديين مستنكرًا لما سمع، لا يمكن أن يكون ذلك حقيقة ابدًا:
” مهلًا، هل تتهمني بمعاونة هؤلاء المنبوذين ملك إيفان !!”
صمت إيفان ثم أجاب بهدوء كبير وكلمات ذات معنى :
” أنا لستُ كالبعض ألقي اتهامات دون أدلة أو بلا علامات على تلك الاتهامات مولاي، لذلك إجابتي لا، معاذ الله أن القيك بالباطل دون دليل ”
كان في حديثه تلميح واضح للاجتماع الأخير الذي اتهمه خلاله بالتواطؤ مع المنبوذين، والآن وأمام الجميع يضعه إيفان في نفس الموقف، لكن مع استخدام حكمة تفوق حكمة وتفكير الملك آزار الذي ينحصر عقله وذكاؤه في القتال والحروب فقط .
عاد آزار بظهره على المقعد مصدومًا :
” ربما أنت مخطأ، فلا أحد من هؤلاء الرجال قد يأتيك عبر مملكتي، أنا حدودي آمنة تمامًا .”
مال إيفان على الطاولة ينظر للجميع بنظرات غامضة، ثم تشدق بصوت هادئ بعض الشيء :
” يبدو أنك يا مولاي أمنت حدودك بشكل أقوى من تأمينك لداخل المملكة ”
” ماذا تعني ؟!”
ابتسم إيفان يقول دون مواراة أو التفاف حول المواضيع :
” يعني أن هناك خائن في مملكتك وهذا الخائن لا يمتلك مكانة صغيرة، بل يمتلك مقامًا رفيع يؤهله لتأمين عدد ثلاثين رجل من رجال بافل وإدخالهم لبلادي عبر تصاريح خاصة مختومة بختم تجارك ملك آزار…”
صمت يراقب ملامح آزار المصدومة، ثم قال إيفان بصوت غاضب مرتفع يضرب الطاولة معلنًا الحرب على كل من يقترب من مملكته :
” هناك متآمر في مملكتك ملك آزار وهذا المتآمر كاد يتسبب في كوارث للجميع هنا، وأنا أطالب بهذا الخائن ليمثل أمام عدالة مملكتي فمن تأذى كان أنا والخسائر كانت لدي، والآن اطالبك بإحضار ذلك الخائن بنفسك، قبل أن أعطي نفسي حق إحضاره من بين اسوار مملكتك بشكل لن يعجبك أو يعجبه ….”
________________
” هذا يعني أن سيفك معه ؟! ياللمصيبة ..”
هكذا هتفت كهرمان بصدمة وهي تسير مع زمرد نحو الغرف لتنظيفها، قبل أن تتجه هي لترى عملها في الحظيرة مع الابقار والماشية.
جالت زمرد بنظراتها حولهم قلقة أن يستمع لهم أحد، ثم قالت بصوت منخفض :
” اخفضي صوتك كهرمان، بالله عليكِ ستتسببين في كارثة لي، أشعر أنكِ لن ترتاحي إلا عندما أُعاقب واشاركك اعمال الحظيرة ”
ابتسمت كهرمان تحرك كتفها بدلال :
” ربما افعل، لكن صديقتي أنتِ تعلمين أن هذا الرجل قد يرى الاسم المحفور على السيف ويكتشف حقيقته ”
نظرت زمرد أمامها بأعين مفكرة، تتحدث بصوت خفيض لا تدري أتطمئن نفسها، ام كهرمان :
” لن يفهم اللغة التي حُفرت بها تلك الكلمات، أو هذا ما اتمناه ”
تنهدت بصوت مرتفع وقد شعرت بالحنق الشديد :
” لا ادري ما بال ذلك الرجل بي، كلما ذهبت لمكان رأيته يقفز أمام عيوني، بدأت اصدق أنه أحد المهووسين ”
ابتسمت كهرمان بخبث شديد تقترب منها ضاربة إياها بكتفها مع غمزة صغيرة :
” لربما هو بالفعل أحد المعجبين بكِ حبيبتي، فمن يرى تلك الأعين الجميلة ويظل صامدًا ها ؟؟”
ارتسمت بسمة ساخرة على فم زمرد تقول بحنق :
” نعم معجب وبشدة، حتى أنه كاد يقتلني في كل مرة قابلته بها تقريبًا ”
أطلقت كهرمان ضحكات صاخبة قبل أن تتوقف فجأة وتطرح ما يدور بخلدها :
” إذن هل هو وسيم ؟؟”
وبهذه الكلمات تسببت كهرمان دون أن تشعر في تدافع العديد والعديد من الصور داخل عقل زمرد، صور لذلك الجندي مجهول الاسم والهوية، وسيم الملامح قوي البنية، رجل لو كانت مجرد فتاة عادية لا تحمل من الأسرار ما قد ينهي حياتها لكانت سقطت صريعة له دون أن تهتم بأي اعتبارات، بل كانت ستجبره على حبها رغم أنفه، ولو تحت تهديد سيفها .
فأنت لا تجد كل يوم رجلًا بمثل بهاء ذلك الجندي وقوة شخصيته، لكن التمنى لن يقدم شيء، وحياتها لن تنفعها بشيء إن ألقت بقلبها في غياهب الحب دون اهتمام، لن ينفعها الندم إن أحبت من قد ينبذبها، لكن إن كانت كهرمان تنتظر أن تجيب سؤالها، فالاجابة هي نعم ونعم ونعم ونعم وألف نعم، هو الوسامة بحد ذاتها ..
” لا ليس وسيمًا البتة، ثم اتركينا من ذلك الجندي واخبريني ”
نظرت لها تحاول تغيير الحديث متسائلة بخبث :
” مابالك وذلك المنحرف الوقح الذي ظهر أمامك عند الجدول القريب من الحظيرة ؟؟”
اشتعلت فورًا ملامح كهرمان وشعرت بالغضب يتلبس كل خلية حية داخل جسدها، تتذكر ذلك الرجل الذي لا تعلم ملامحه بدقة بسبب بعد المكان بينهما، بالإضافة للشمس التي كانت تحجب عن ناظريها الرؤية بشكل جيد، كان يضحك ويسخر منها وأخذ تهديدها باستهانة ..
” ذلك الوقح أقسم أن اجعله يندم أشد الندم، سأذهب للملك واشتكيه، لا بد أنه أحد العاملين بالمزارع القريبة من الحظيرة، لقد رأيت ثيابه وأستطيع أن اصفها له، لقد تطاول على امرأة وظل واقفًا يراقبني بكل وقاحة وهذا ينافي قوانين الملك هنا، لذلك سأريه بنفسي ….”
_____________________
” نهاية العالم ؟؟”
كلمات نطق بها صامد واصفًا ذلك المكان الـ…عجيب أمامهم، نعم عجيب وهذا الوصف الوحيد الذي استطاع عقلها تدبيره بهذه السرعة، لا شيء يظهر أمامها، فقط حافة جبل عملاق أو نهاية اليابسة وامامها سحب كثيفة تخفي ما يقبع أسفلها..
” هو احنا فين بالضبط ؟!”
نظر لها سالار ثواني ثم قال :
” نهاية العالم، حافة يقبع عندها نهاية اليابسة، ومن بعد تلك الحافة تبدأ حدود الممالك الأربعة ”
” أيوة يعني فين ؟! احنا فين دلوقتي؟! دولة ايه دي على الخريطة ؟! اللي اعرفه إن حافة العالم دي في السعودية مش كده ؟؟”
” السعودية ؟! ”
” شبه الجزيرة العربية تعرفها، فيها جبل اسمه نهاية العالم ”
مال سالار برأسه قليلًا، ثم هز كتفه يقول بهدوء وصوت قوي النبرة كعادته، وهو يخرج سيفه وينظر للاسفل دون ذرة خوف واحدة :
” نعم بالطبع أعرفها، لكن هذه ليست حافة العالم التي تقبع هناك إن كان هذا ما تقصدينه، هذه نهاية اليابسة في قارة أخرى ولا ادري مسميات الدول الحديثة، لكننا لسنا في شبه الجزيرة العربية”
ختم حديثه ثم أشار بإصبعه لصامد وصمود وهو يخبرهم :
” هيا اسبقانا ..”
هز الإثنان رؤوسهما يتحركان صوب الحافة التي يخفي السحب ما يقبع اسفلها، إذ تجعلك تشعر كما لو أنك في السماء السابعة تحلق فوق السحاب .
اقتربت تبارك خطوات بريبة وهي ترى صامد وصمود يقفان على الحافة بالتحديد :
” يسبقونا لفين و…”
وفجأة انطلقت صرخة رنّ صداها في المكان بأكمله وهي ترى أجساد صامد وصمود تسقط عن الحافة بقوة مرعبة، جعلتها تعود صارخة للخلف وهي تضع كلتا يديها على فمها، كانت تشعر أن قلبها سيتوقف وهي تنظر للحافة بخوف كبيرة .
ثواني حتى ارتفع صوت صرخاتها وهي تشير للحافة مرتجفة :
” دول …دول وقعوا، دول وقعوا ”
” لا لم يفعلوا، هم فقط سبقونا للبلاد، فهذه هي طريق العودة ”
نظرت له تبارك ثواني وكأن رأس إضافية نبتت له، أو أن هناك قرون ظهرت أعلى رأسه، لا تفهم أي كلمة من تلك الحملة التي نطقها، ابتلعت ريقها تقول :
” العودة للي خلقهم اكيد …”
” لا بل العودة للبلاد ”
وفجأة وبعد تلك الكلمات اتسعت أعين تبارك تصرخ دون مقدمات وجسدها يرتجف من فكرة مجنونة خطرت لها، لكنها بالطبع لن تنافس جنون ما يحدث معها :
” أنتم… أنتم أرواح ؟؟ ”
تشنج وجه سالار وهو يتحرك صوبها :
” ماذا ؟؟”
” أنتم اكيد من العالم التاني اللي هو بتاع العفاريت والأرواح عشان كده عايزين تقتلوني وانتقل لعالمكم ”
زفر سالار وقد مل حقًا تصرفات تلك الفتاة :
” اسمعي ”
هنا ووصل صبر تبارك الحافة وهي تصرخ بجنون :
” لا أسمع أنت، أنا مش هتحرك خطوة هنا وهرجع …هرجع لوحدي، أنا لا يمكن اقرب من الحافة دي ولا اعمل العبط اللي بتقول عليه ده ابدا ”
كانت دموعها تشق طريقها أعلى خدها بقوة وهي تهتف برعب وتحرك يدها أمامها تتجاهل ارتجاف جسدها، استدارت بسرعة وهي تنظر من الطريق الذي جاءوا منه وتحركت له، لكن قبل أن تصل، شعرت بأحدهم يمسكها من حقيبتها وصوت سالار يصدح بجدية وغضب :
” أنتِ ستأتين معي، بإرادتك أو دونها ”
وهذه كانت آخر كلماته قبل أن يسحبها معه للحافة والتي بمجرد أن ابصرتها تبارك تقترب حتى أصابتها حالة هستيرية من الخوف صارخة وجسدها ينتفض تشعر بروحها تُسحب منها :
” لا لا لا لا، ارجوك، ارجوك لا، سيبني ارجع البيت، ابوس ايدك، مش عايزة أنا … أنا… أنا…”
كانت تتحدث وهي تشعر أن أنفاسها تكاد تتلاشى من صدرها، هذا مرعب وبشدة أن تقترب بقدمها من تلك الحافة، وتقفز منها لهو أمر جنوني ومغامرة لم تفكر بها يومًا، يالله هي عندما كانت ترى القفز الحر بالمظلات، كانت تشعر أن قلبها سقط في قدمها من مجرد التخيل، والآن هي ستفعل الأمر نفسه، لكن الفرق هو أنها لا ترتدي مظلة قد تساعدها .
” سيب ايدي، أنا مش عايزة اروح في حتة، سيبني ”
لكن سالار رفض تركها يردد بجدية :
” لا تخافي، لا شيء لتخافي منه ”
نظرت له لحظات قبل أن تصرخ في وجهه :
” هو أنت ساحبني اجرب مرجيحة جديدة ؟؟ دي …دي حافة عالية وعايزني أنط منها يا مجنون، أنا مش عايزة اروح معاك لمملكتك دي أنا متنازلة عن منصبي ”
” أنتِ ستكونين الملكة هناك، كيف تتخلين عن هكذا لقب ”
سقطت تبارك ارضًا تحاول سحب حقيبتها من بين أنامله باكية بقوة ورعب شديد :
” مش عايزة .. مش عايزة اكون ملكة أنا عايزة اعيش طول عمري ذليلة كده، مش عايزة أي حاجة، ابوس ايدك سيبني ”
شعر سالار بمشاعر شفقة وحزن لرؤية انهيارها ورعبها هذا، لكنه مجبر على سحبها صوب مملكتهم دون وجود أي اختيارات أخرى .
لذلك أخذ نفس عميق وقال بصوت جامد وأمر نافذ وكأنه يتحدث لأحد رجال جيشه :
” هيا توقفي عن كونك مثيرة للشفقة، ألم تملي كونك ضعيفة ؟؟ ”
رفعت تبارك عيونها له، تحدق في وجهه من بين دموعها تشعر برغبة عارمة في الأنقضاض عليه وتقطيع وجهه باظافرها، وحديث سالار لم يساعد البتة في تحسين أفكارها وتخفيف حدتها، إذ مال قليلًا يردد من بين أسنانه يرفض رؤيتها ضعيفة أو خانعة :
” أنتِ ستنهضين الآن وتأتين معي برأس مرفوع أمام الجميع، لن أسمح لكِ أن تكوني مجرد فتاة مثيرة للشفقة، لن أسمح لكِ أن تضيعي تاريخ مملكتي فقط لأن الله جعلك ملكة عليها، فهمتي ؟؟”
شعرت تبارك بالغضب يتلبسها ودون مقدمات نهضت بقوة تدفعه بكل قوتها صارخة في وجهه بجنون، وسالار لم يتحرك قيد أنملة يراها تصرخ في وجهه وتثور عليه، ثم مالت واحضرت صخرة والقتها بكل قوتها في وجهه وهي تصرخ بجنون :
” أنا مش ضعيفة ولا مثيرة للشفقة، ولا عايزة اكون ملكة لمملكتك، أنا إنسانة طبيعية عايزة اعيش حياتي زي أي بنت، مش عايزة مغامرات، مش عايزة تنطيط وحياة أنا رفضاها، أنا مش من النوع ده، أنا بس عايزة اعيش في سلام لوحدي، سيبوني لوحدي، ســامع ؟؟”
امسك سالار بسرعة الحجر قبل أن يصيب وجهه، ثم ابتسم لها يقول باستحسان لانتفاضتها تلك، هناك أمل داخلها يستدير ليحدق بالحافة :
” هذا جيد، أرى أن داخلك طاقة مكبوتة، سأكون سعيدًا باستخراجها، في النهاية أنتِ لستِ سيئة لهذه الدرجة ”
أصاب بروده تبارك في مقتل وجعلها تشعر بالقهر، هي لم تحركه خطوة واحدة ولم تصبه بخدش واحد، ابتلعت غصتها وقد قررت أن تنتقم لكرامتها، لذلك ودون تفكير ركضت صوب ظهره وقفزت أعلاه بغية جذب جسده وإسقاطه ارضًا، لكن بمجرد أن تسلقت جسده وجذبت رأسه :
” هقتلك …بكرهك ”
ارتسمت بسمة مثيرة للرعب على فم سالار ومن حسن حظ تبارك أنها لم ترها حينما كانت منشغلة بمحاولة جذب رأسه وإسقاطه ارضًا .
همس سالار بفحيح وهو يمد يده ليمسك جسدها ويثبته على ظهره، ثم قال بفحيح :
” هذا يسهل عملي أكثر”
وقبل أن تستفسر منه تبارك عن مقصده شاهدت بأعين متسعة الحافة تقترب منهم، بعدما امسكها سالار بقوة وركض صوب الحافة بكل قوته وهو يبتسم بسمة واسعة، ولم تشعر تبارك سوى بجسدها يطوف في الهواء وهو محمول أعلى ظهر سالار، مدت أظافرها تثبتها في وجهه تصرخ بقوة مغمضة عيونها دافنة رأسها في كتفه :
” أشهد أن لا إله إلا الله…. أشهد أن لا إله إلا الله”
وفجأة شعرت باصطدام قوي يصيب جسدها لتتعالى صرخاتها وتنفصل عن ظهر سالار، ويرن صدى صرخاتها في المكان بأكمله، قبل أن تنكتم تلك الصرخات فجأة …..
___________________________
خرج من القاعة يسير مبتسمًا بسمة لا معنى لها، وعلى عكس عادته لم يتبعه أحد جنوده، بل كانت شياطينه هي من تسير خلفه، ترك لهم الاجتماع وخرج بعدما ألقى تهديده في وجه آزار، أخبره صراحة أن الخائن داخل مملكته يخصه …
ترك الجميع وخرج دون أن يعبأ بأي شيء، ما يزال غضبه مشتعلًا كالجحيم، يشير لحرسه ألا يتبعوه، لا يريد الحديث مع أحد أو رؤية شخص في هذه اللحظة، نظرات آزار له تخبره جيدًا أن القادم لن يكون جيدًا لا عليه ولا على مملكته .
ابتسم بسمة جانبية يتوعد للجميع، لطالما استهان به جميع حكام الممالك لصغر عمره، يرون أن سفيد أكبر منه، وهو سيريهم أنه خُلق ليكون ملك سفيد وأن سفيد لن تكون سوى له .
وصل لممر قاعة العرش حيث أخبر الجميع أن يلحقوا به بعد تأمين خروج الملوك ورجالهم من مملكته، لكن وقبل أن يطأ قاعة العرش سمع صوتًا يهتف بلقبه .
” مولاي …”
توقف إيفان ينظر خلفه ببطء شديد ليبصر إحدى الخادمات تحاول الاقتراب منه، لكن الحراس يمنعونها من ذلك، تنهد بتعب، هو ليس متفرغًا لسماع مشاكل العاملات في هذا الوقت، ورغم ذلك أشار بيده للحراس أن يدعوها .
وبالفعل تركوها لتركض له الفتاة وهي تقول بلهفة شديدة :
” مولاي جئت لأنني أثق بحكمك وعدلك ”
توقف أمام إيفان ليتعرف عليها إيفان في ثوان من صوتها وطريقة سيرها المختلفة عن الجميع وكذلك الوقفة، وقفتها تشعرك أنك تتحدث مع أميرة راقية وليست مجرد فتاة تعمل داخل قصره .
هي نفسها فتاة الحظيرة.
” مولاي أنا… أنا جئت اشكوك ظلمًا تعرضت له أسفل سقف قصرك ”
اشتدت أعين إيفان وقد انتصب جسده، هو في هذه اللحظة غاضب بما فيه الكفاية، لا يحتاج سوى شرارة صغيرة فقط كي يحترق وينفجر في الجميع .
نظر إيفان حوله، ثم تحرك صوب القاعة يقول بهدوء :
” تعالي .”
دخل القاعة وهي سارت خلفه ترى العديد من الحرس على جانبي القاعة الواسعة، تشعر برهبة المكان والتي اكتسبها من صاحبه الذي يعتلي عرشه بكل قوة .
رفعت رأسها تنظر لايفان الذي قال بكل هدوء :
” تفضلي واخبريني ما تعرضتي له وما حدث بالتفصيل ”
نظرت له كهرمان بتردد تحاول ألا تنظر له مباشرة احترامًا له، ورأفة بنفسها وقلبها الذي يخفق بقوة لرؤيته بهذه الهيئة أعلى عرشه .
” هو مولاي … أنا… أنا هي نفسها من …من عاقبتها منذ أيام بتنظيف الحظيرة، وأثناء تنظيفها تعرضت للعديد من المصاعب بسبب الأبقار و…هناك هناك شاب وقح اعتقد أنه يعمل مزارعًا، كان طويل القامة ذو جسد ضخم بعض الشيء مولاي، أخذ يتواقح عليّ و….”
توقفت تشعر أن كلماتها غير مرتبة، كان عليها الاستماع لزمرد وتجاهل ما حدث، لكنها لم تتحمل أن تتعرض لمثل تلك المعاملة من مزارع حقير وهي من اعتادت الدلال والحماية المبالغ بها من جميع أفراد عائلتها، ولديها مبادئ أنها إن تنازلت مرة ستتناول أخرى.
” هو كان يزعجني و…ينظر لي بشكل سييء مولاي ”
نظر إيفان لكهرمان من أعلى عرشه وقد ارتسمت بسمة غير مصدقة على فمه، واتسعت عيونه بصدمة من حديثها :
” حقًا ؟؟”
” نعم مولاي ”
عض إيفان شفتيه بقوة يشعر برغبة عارمة في الضحك، لقد جاءت لتشتكيه لنفسه، فعلتها جديًا وجاءت تشتكيه، هي لم تكن تمزح؟؟ لم تكن تبالغ حين قالت إنها ستشتكيه للملك، وأي وقاحة تلك التي تقصدها هذه الفتاة ؟! هو تواقح عليها ؟؟
” هناك هجوم حدث البارحة على القصر وكاد سكن الجنود يحترق بأكمله، والمملكة على اعتاب حربٍ ضارية، والأوضاع غير مستقرة، وأنتِ تريدين أن أترك كل ذلك والنظر في مشاكلك مع الأبقار وذلك الشاب الوقح ؟!”
وبعدما كان وجهها منخفض ارضًا باحترام، رفعته بكل قوة وشجاعة تحدق في عيون إيفان التي ضاقت بقوة وهو يطيل النظر لتلك الفتاة، تذكره بجسد قريب من نفس طولها، يتذكره جيدًا، وكيف لا يفعل وهو ظل ليلة طويلة يتخيلها ويفكر في صاحبته التي تجرأت على مبارزته دون خوف متنكرة بزي جندي له، هل يعقل أنها هي نفسها أم الأمر مجرد تشابه في الهيئة؟؟ لكن صوتها ليس هو؟؟
أفاق إيفان على صوتها تقول بكل قوة :
” هذا واجبك كملك، أن تحقق العدالة لشعبك رغم كل شيء ”
ارتسمت بسمة جانبية على فم إيفان يقول :
” نعم معكِ حق آنسة….”
” كهرمان ..كهرمان مولاي ”
اتسعت بسمته يقول بجدية :
” حسنًا آنسة كهرمان، سأحرص بنفسي على معاقبة ذلك الشاب الوقح الذي تجرأ ورفع نظراته لكِ، لكنني للأسف لا استطيع التفاهم مع الأبقار وإيجاد حل معها ”
رفرفت كهرمان بعيونها من خلف غطاء الوجه، وهي تشعر بالخجل من بسمته الجانبية التي لا تدري أساخرة كانت أم مجرد بسمة عادية ؟؟
ابتلعت ريقها وقد شعرت بنظراته تطيل لها، لتقول بصوت خرج بصعوبة بسبب ذلك الموقف :
” لا بأس…لا بأس مولاي .. أنا… أنا سأصل لحل مع ..مع الأبقار، يكفيني أن تعاقب ذلك الوقح ”
رفع إيفان حاجبه وقد ظهرت أسنانه في بسمة غريبة :
” سأفعل آنسة كهرمان، لكِ وعدي بمعاقبة ذلك الوقح وبنفسي …”
____________________
” سيد بافل، ما الخطوة التي ستخطوها قريبًا ”
ابتسم بافل يستريح بظهره على المقعد خلفه، وعيونه تشتعل في الظلام المحيط، فيها هي واحدة من الممالك المشرقة يعمها الظلام والظلم .
رفع بافل يده يحك ذقنه بهدوء :
” ما رأيك أنت ؟؟”
ابتلع الرجل ريقه لا يدري هل يسأله رأيه حقًا، ام ذلك مجرد سؤال لا معنى له وهو يتحدث مع نفسه كالعادة، وبعد صمت طويل تحدث بافل واخيرًا رافعًا عنه مشقة التفكير في خطوته القادمة وإن كان سيجيب سؤاله أو لا .
” سفيد، أنا أريد سفيد، تلك المملكة بمن فيها اريدها لي، وحين تسقط سفيد سيسقط الباقي، آبى وسبز ”
” سيدي عفوًا، لكن لا آبى ولا سبز بهذه السهولة التي تتحدث بها، هم أيضًا يمتلكون قوى جبارة وخاصة تلك آبى، بينما سبز ملكها داهية لا تفوته شاردة ”
نظر له بافل يحدق فيه طويلًا قبل أن يتجاهله دون رد واضح، ينظر أمامه وفي عقله تدور فكرة واحدة، هو سيقتحم سفيد ويسقطها ومن ثم يحين دور باقي الممالك، فسفيد هي القلب النابض للمالك الأربعة وبتوقفها عن النبض، تموت باقي الممالك …
” من عاد من الهجوم الأخير، أخبرك بشيء قد يفيدنا ؟؟”
” سيدي هو لم يقل سوى كلمات غير مفهومة وهو الآن ما يزال يتعالج، لا أحد يدري ما حدث هناك، هو فقط يردد أن الجحيم انفتح في وجوههم حتى أنهم فقدوا البعض منهم داخل القصر وهربوا ”
ضيق بافل ما بين حاجبيه يهتف بنبرة مخيفة :
” سالار ؟؟”
” لا، لا أعتقد فهو لم يذكر وجود سالار، قال أنه رأى رجل آخر يقود الجنود، لو كان سالار لذكره فمن لا يعلم سالار منا ”
ارتسمت بسمة مرعبة على فم بافل يردد بسخرية :
” نعم من لا يعرف سالار منا ؟؟ فمن غيره يقود حملات تطهير علينا، ومن غيره يقود جيوشه دون لإبادة شعبي ؟؟ ”
في تلك اللحظة اقتحم المكان أحد رجال بافل وهو يقول بصوت مرتفع وانفاس لاهثة ورعب جلي على وجهه :
” سيدي …الشعب …لقد …ثار على الرجال …”
ابتلع ريقه يحاول أن يبلل حلقه الجاف :
” احدث أحد الرجال ثورة في سوق المدينة وهناك حشد كبير من شعب مشكى يتجه صوبنا سيدي والغضب يقودهم وقد تسلحوا بكل ما وجدوه في طريقهم من سكاكين وخناجر وغيرها والبعض يحمل حجارة يلقون بها على القصر وقد أصابوا العديد من الرجال ”
انتفض جسد بافل بقوة وقد انتفض قلبه بالتزامن مع انتفاضة جسده وهو يركض بسرعة مهولة صوب إحدى نوافذ القصر يصرخ بجنون :
” من ذلك الشجاع الاحمق الذي اشعل شعلة الثورة وايقظ الضمائر الميتة داخل صدور هؤلاء الضعفاء ؟؟”
توقف في النافذة ينظر أمامه ليرى حشد مرعب من الشعب يتحرك صوب القصر ورجاله يقفون برعب متسعي الأعين وكأن أيديهم قد شُلت، بل الادهى أن أجسادهم كانت ترتجف، رؤية هذا الشعب الأعزل يتحرك نحوهم بهذه الثقة دون خوف من الأسلحة جعلت أحد الرجال يصرخ بصوت جهوري :
” تحصنوا فلربما كانت معهم قنابل ”
وبالفعل ارتعشت قلوب رجال بافل اجمعين يركضون داخل القلعة يحتمون بها من شعب اعزل لا يحمل سلاحًا سوى الايمان والثقة، ثقتهم واندفاعهم بهذا الشكل جعلتهم يشكّون بحيازتهم لقنابل .
توقف الحشد أمام باب القلعة وصرخ أحد الشباب وهو يحمل حجارة بين كفيه :
” لعنة الله عليكم أجمعين، خارج مملكتنا يا حثالة، لعنة الله عليكم ”
وبمجرد انتهاء جملته رفع يده عاليًا وألقى الصخرة لتصيب أحد رجال بافل وقد علت الصيحات بين الجميع، لتشتعل أعين بافل بقوة ويرتجف جسده غضبًا وتشتد قبضته على إطار النافذة أمامه يقول ببسمة مرعبة وقد اشعل ما حدث شياطينه:
” تخلصوا منهم جميعًا، اريد أن تفترش أرض مشكى بجثثهم، واحضروا لي ذلك القذر الذي يقودهم، فأنا من سيتولى أمره، لا اريد منزلًا في مشكى إلا وبه قتيل أو إثنين”
_______________________
شهقة عالية رنّ صداها في المكان بأكمله بعدما جذب سالار جسد تبارك بعنف من أسفل البحيرة، فاسفل الحافة تقبع بحيرة وهي التي خففت من سقوطهم ..
تحرك سالار خارج البحيرة وهو كالعادة يسحب تبارك خلفه من حقيبتها، وهي تحرك يديها وقدميها بقوة داخل المياه وكأنها تغرق تصرخ بصعوبة بسبب المياه التي تصطدم في وجهها، وسالار لا يهتم وهو يجذبها خلفه دون حتى أن ينظر ويرى ما يحدث لها :
” براحة، براحة كده هتخلص عليا قبل ما نوصل للشط”
وبعد دقائق من السباحة لكليهما، أو السباحة لسالار وتحريك الأيدي _ كالهرة الغارقة _ لتبارك، وصل الاثنان صوب الشاطئ ليستقبلهما صامد وصمود بالاغطية تاني يحتفظون بها في مكانٍ ما هنا .
خرج سالار من المياه بثياب ملتصقة بجسده العضلي يحمل غطاء من صمود ثم وضعه على كتفه، وحمل الآخر والقاه دون أن يستدير على تبارك حتى لا يرى ثيابها وقد التصقت بجسدها بفعل المياه.
أما عن تبارك فهي للتو لمست اليابسة لتسجد لله شاكرة فهي للتو انتهت من الطيران والسباحة، والآن تود لو تسير على قدميها وتلعب دورها كإنسان..
تنهدت براحة وهي منحنية ارضًا، ثم رفعت رأسها ببطء تقول بأنفاس لاهثة رافعة إبهامها :
” أنا زي الفـل، الحمدلله عدت على خيـ ”
وقبل أن تكمل كلمتها سقط غطاء على وجهها بقوة لتغمض عيونها بغضب تهمس بحنق وشعور عارم بالسخط يملئها :
” كل ده ومعاملة ملوك، امال لو جواري هتجلدوني مع كل شهيق وزفير ”
سحبت الغطاء بعيدًا عن وجهها تسمع صوت سالار يصدح وهو يعطيها ظهره هو وصامد وصمود :
” هيا ضعي الغطاء على جسدك وتحركي معنا، ومن هذه اللحظة حري بكِ التحدث بالفصحى، فنحن لا نعتمد العامية لهجة داخل حدود مملكتنا ”
نظرت تبارك للغطاء ثواني، ثم رفعت نظرها له تقول بصوت هادئ مستنكر ساخر بعض الشيء :
” لماذا يا بُني ؟؟ العامية جميلة و خفيفة الدم ”
استدار سالار لها يراها قد وضعت الغطاء حولها وهي ترتجف، ثم تنهد بصوت مرتفع يشرح لها الأمر برمته :
” العربية هي اللغة الأولى في البلاد بالفصحى ولا يُسمح باللهجات هناك، فنحن ندرك جيدًا أن وحدة الأمة من وحدة اللغة في المقام الأول، قد تختلف بعض الممالك في اللهجات، لكن الملك يمنع ذلك في مملكتنا، لذلك حاولي التحدث بالفصحى مع الجميع ”
هزت تبارك رأسها متفهمة، تحدث نفسها باستنكار أن ما بكِ تبارك ؟؟ للتو طرتِ كالبطريق الذي نسي أنه طائر لا يستطيع الطيران، وسبحتي ككلب صغير لم يتعلم بعد كيفية السباحة، وعشتي يوم كامل في الغابة كالحيوانات البرية، وتسيرين خلف ثلاث اشخاص غريبي الأطوار من بينهم واحد متجبر وسيم اصهب، واثنان كالزجاجة والكوب .
الآن تعترضين على استخدام الفصحى ؟!
” وماله وماله، اللي تشوفه يا قائد ”
ابتسم سالار باستحسان لأنها لم تجادله :
” إذن عليكِ اعتيادها منذ الآن”
” حسنًا يا سيدي لا مشكلة لدي، فأنا كنت من أشد محبي اسبونج بوب ”
” من ؟؟”
ابتسمت تقول بفخر :
” معلمي للفصحى، تعلمت الفصحى منه ومن بسيط ”
هز سالار رأسه دون اهتمام :
” حسنًا لا بأس، والآن كفانا راحة ولنتحرك ”
وبالفعل وضع حديثه حيز التنفيذ إذ تحرك من فوره بعدما انتهى من كلماته، يسير وأمامه صامد وصمود وتبارك تسير خلفهم تقول بتمتمة بينها وبين نفسها :
” تلاقي الشنطة بتاعتي باظت من المايه”
فجأة توقف سالار فجأة في سيره واستدار صوب تبارك وجذبها من الغطاء كي تسبقه في المشي بعدما تذكر ما تفعله هي وحركاتها المفاجئة لهم :
” اسبقيني ”
نظرت تبارك لمسكته بحنق :
“حاول تعاملني بأسلوب احسن من كده، مش معاملة ملكات دي ”
رفع سالار حاجبها يدفعها أمامه بظهر سيفه وكأنه يقود اسيرًا وليس يحرس ملكته ليعيدها سالمة صوب المملكة ..
سار الجميع بين الجبال وقد كانت وجهتهم هي البركان الذي كان يخفي خلفه بوابة المملكة لهم، ابتسم يشعر بنسائم الوطن تقترب، يشعر بالراحة لقرب عودته إلى بلاده …
مر شهر تقريبا او أقل منذ خطى خارج سفيد، وها هو على اعتاب العودة لجيشه وجنوده ..
” سفيد ..ها نحن ذا ”
_____________________
كان التصميم يملئ عيونها وهي تبحث عنه بين ساحات التمرين وفي جناحه وفي كل مكان سبق وقابلته فيه صدفة، أو عندما كان يراقبها، فقط لتستعيد منه سيفها الغالي والعزيز، فهي لن تتركه له، ولن تظل عزلاء وهو آخر سلاح تملكه بعد الهرب …
أين هو عندما تحتاج له ؟! كل ثانية كان يقفز أمام وجهه، والآن اختفى وتبخر.
تنفست زمرد بصوت مرتفع وهي تدور بنظراتها حولها، وحينما خابت آمالها رجعت صوب القصر حيث الجميع يتناول طعامه في الاستراحة وهي استغلتها لتستعيد سيفها .
وقبل أن تطأ القصر سمعت صوتًا يردد خلفها كلمات خافتة، صوت لشخص وكأنه يتأوه، توقفت تحاول أن تستمتع بشكل أفضل، وقد بدأت اصوات التأوه تعلو أكثر وأكثر.
دارت زمرد بعيونها حولها تحاول معرفة مكان تلك الأصوات، لكن اصوات التوجع ازدادت وما هي إلا لحظات حينما سمعت صوتًا يقول بنبرة مرهقة :
” ليساعدني أحدكم ..لعنة الله عليهم أجمعين، هل هناك أحد في الجوار ؟؟”
تحركت زمرد بريبة صوب الصوت تبتلع ريقها وهي تردد داخل نفسها بشك :
” بالله أين الأسلحة حينما يحتاج لها المرء”
سارت ودارت حول أحد المبنى والذي تجهل وظيفته لتتفاجئ بجسد ملقى ارضًا وهناك بكرة دماء يسبح بها .
اتسعت عيونها بصدمة وهي تتعرف على صاحب ذلك الجسد، تحركت بسرعة صوبه تهمس برعب كبير :
” أنت… أنت هو … ألست صانع الأسلحة ؟؟”
رفع تميم عيونه بسرعة صوب ذلك الصوت يقول بلهفة :
” نعم نعم أنا هو، ساعديني بسرعة قبل أن ينتبه أحدهم لوجودي هنا ”
نظرت له زمرد بعدم فهم وريبة، عادت الخطوات التي سبق وتقدمتها منه وقد على الشك ملامحها :
” أحدهم ؟؟ من تقصد وما الذي يحدث هنا ؟؟”
نظر لها تميم يشعر بالمكان يدور حوله، نزف الكثير من الدماء، عض شفتيه بوجع يحاول التماسك مشيرًا لقدمه حيث كان هناك خنجرًا به :
” انزعيه، انزعي ذلك الخنجر من قدمي ”
كان يتحدث وهو يشير لها أن تخلصه من ذاك الوجع، نصل حاد مغروز داخل قدمك يقطع اجزاء من جسدك دون أن يسمح لك بالتنفس بسبب الوجع، أمر كالجحيم ..
” هييه أنت ما الذي أتى بك هنا، ومن ذا الذي فعل بك هذا ؟؟ أنا أشعر أنك تخفي الكثير ”
ابتسم تميم بسمة باردة ثم أجابها دون إهتمام لأي شيء :
” اقسم إن لم تنزعي ذلك الخنجر وتهرعي صوب مكتبة العريف لتحضري دانيار دون أن يشعر بكِ أحدهم وخاصة ذلك العجوز النحس، لاتخذنكن فأرًا لجميع قنابلي القادمة”
نظرت له زمرد بحاجب مرفوع وقد شعرت بحنق من كلماته التي لم تنل إعجابها، ورغم ذلك ابتسمت له تقول بهدوء وطاعة مصطنعة وهي تتمسك بالخنجر :
” أوامرك سيدي القائد .”
وبختامها لتلك الكلمات انتزعت زمرد الخنجر بقوة جعلت صرخة تميم تصدح في المكان قبل أن يكتمها عاضًا على شفتيه، وهي تراقبه ببسمة صغيرة، ثم نهضت تلقي الخنجر جواره تقول ساخرة :
” تستطيع التحمل حتى اعود لك بذلك دانيار أم احملك أعلى اكتافي واركض بك حيث الطبيب !!”
رمقها تميم بنظرات حمراء مخيفة هامسًا من تحت أنفاسه وقد كان العرق يغطي وجهه بأكمله :
” سأقتلك بيدي هاتين أيتها الـ ”
” لا لا سيدي القائد أنت الآن تتجاوز حدودك معي وهذا لن يكون جيدًا لأجل جرحك الذي يكاد يبرد ”
ضرب تميم الأرض بقوة صارخًا بصوت جهوري حتى أن عروقه نفرت لتصيب زمرد بالرعب :
” اذهبي واحضري دانيار يا امرأة وإلا اريتكِ مني ما لا يسرك ”
انتفضت زمرد للخلف، ثم هزت رأسها ببطء وسرعان ما استدارت تركض مهرولة صوب القصر وتحديدًا مكتبة العريف، يا الله ذلك الرجل تحول بسرعة لشخص مثير للرعب بحق ..
بحثت بعيونها عن تلك المكتبة التي تحدث معها، إذ طوال فترة إقامتها في القصر والتي تصل تقريبا لثلاث اسابيع لم تقابل يومًا المكتبة أو تقترب من الجزء الخاص بها في القصر ، والذي كان منعزلًا.
توقفت أمام باب المكتبة كما ارشدتها واحدة من الفتيات، تنفست بصوت مرتفع، ثم دفعت الباب الخاص بها تقول بصوت مرتفع تسبب للعريف بزبحة صدرية :
” أين ذلك المدعو دانيار ؟؟”
نظر لها مرجان والذي كان يحمل عدة كتب :
” القائد دانيار تقصدين ؟؟ يا فتاة هذا قائد الرماة في الجيش عليكِ بإظهار بعض الاحترام و…”
قاطعته زمرد بغضب دون اهتمام :
” للجحيم وما حاجتي لمعرفة تاريخه، أين ذلك المدعو دانيار ؟؟”
فجأة انتفض جسدها تستمع لنبرة هادئة ساخرة تأتي من أحد المقاعد الجانبية والتي كان يجلس عليها دانيار يحرك سيفها بني أنامله :
” يبدو أنه ليس سيفك فقط هو الحاد، فلسانك ينافسه حدة يا امرأة…”
استدارت زمرد صوب ذلك الصوت لتتسع عيونها بعدم تصديق، ترى الجندي المزعج يجلس وهو يحمل سيفها.
الجندي ؟؟ هو ليس بجندي أو رامي ؟؟ هي طوال هذه الفترة كانت تتحدى وتتواقح على قائد الرماة بجيش الملك ؟؟
” أنت؟؟ أنت هو دانيار ؟؟”
رفع دانيار حاجبه يقف عن مقعده متحركًا صوبها :
” القائد دانيار بالنسبة لكِ آنستي…”
ابتلعت ريقها وهي تراه يشرف عليها بطوله الفارع، لكنها فقط نظرت له وقالت بنبرة غير واعية وبصوت خافت :
” أنه ذلك الـ…صانع الأسلحة، هو ملقى هناك على وشك الموت ”
اتسعت عيون دانيار بقوة يهتف بعدم فهم :
” من تقصدين ؟! تميم ؟!”
” لا ادري، هو نفسه صانع الأسلحة الذي يكاد يسقط جدران القصر فوق رؤوس قاطنيه، هو يكاد يموت بجوار أحد المباني وارسلني لاحضارك كي تودعه ؟؟”
أطلق دانيار صرخة جنونية هزت أرجاء المكتبة وتسببت في جنون العريف بالمقابل أكثر وأكثر:
” مــــــاذا ؟؟”
_________________________
قبل ذلك بساعات كان تميم يعتلي فرسه كعادته في الصباح، ومن ثم حينما ينتهي يعود لمعمله الحبيب _الذي ما يزال تحت الانشاء _ ويقوم بعمل تجاربه على الأسلحة الجديدة .
لكن وأثناء جولته حول القلعة وفي الأماكن المحددة لهم بعيدًا عن مناطق عمل النساء، انتبه لحركات غريبة بين الأشجار، خيالات اركض بين الأشجار بشكل مريب، بالطبع هؤلاء ليسوا بمزارعين …
هبط تميم أسفل أحد الأشجار وترك فرسه كي لا ينتبه عليه أحدهم، ثم تحرك بخطى هادئة صوب ذلك الخيال الذي يركض، بدأ يركض هو الآخر خلفه حتى وصل صوب إحدى بوابات القلعة ليرى ذلك الجسد المتشح بالاسود يراقب البوابة ..
رفع حاجبه وقد تأكد أنه أحد المنبوذين الذين هاجموا القصر البارحة، ربما هرب وسط القتال واختبأ ليتحين فرصة الهرب .
اعتدل تميم في وقفته واقترب أكثر منه وقبل أن يتحدث بكلمة كي يجذب انتباهه ويهدده بسيفه شعر بسكين يشق خصره وآخر يستقر في ساقه ..
وفورًا أطلق تميم صرخة مكتومة يستدير ليرى ثلاثة آخرين من المتمردين، تمالك نفسه وتحمل ليقف دون أن يظهر أي شيء ورفع سيفه لتبدأ معركة حامية بينهم جميعًا استطاع تميم أن يسقط منهم اثنين ويهرب اثنين تاركين إياه يعاني مع اصابتيه، وهو لم ينس أن يرد لهم الضربة بعشرة .
نظر للجثث الملقية ارضًا يفكر أنه سيذهب ويرسل أحدهم لأخذهم، تحرك ببطء خلف أحد المباني كي يجلس هناك ونزع الخنجر من خصره كاتمًا تأوه، ثم أخذ يفكر في طريقة للعودة دون أن ينتبه له أحدهم ….
وهكذا وجد تلك الخادمة الوقحة والتي يقسم أن يريها الويل بمجرد أن يقف على قدميه، تنفس بصعوبة وهو يستند على المبنى جواره يحاول الرؤية من بين جفونه التي تكاد تنغلق بالكامل، لكن ثواني هي حتى سمع صوت أنثوي يطلق صرخة مرتفعة، ثم اقتربت منه صاحبة الصوت تهمس بنبرة مرتجفة:
” يالله دعوت أن ينتقم الله لي منك، لكن ليس لدرجة الموت ”
تنفس بصعوبة يحاول فتح عيونه ليرى فتاة تجلس أمامه وهي تبكي خوفًا وتتمتم بكلمات عن دعوات دعت بها عليه، تنهد تميم بصوت منخفض :
” سأقتل نساء هذا القصر كلهن ..”
ومن بعد تلك الكلمات سقطت رأسه التي كان يستند على على الجدار على كتف برلنت، لتسقط الأخيرة ارضًا بأعين متسعة وقد شعرت بدماء تميم تسيل أسفلها لتطلق صرخة مرتعبة …
____________________
توقفت فجأة وهي تشير بيدها لهم كي يتوقفوا، تحاول التقاط انفاسها بصعوبة شديدة، تستند على ركبتيها وهي تفتح فمها كي تتيح الفرصة لصدرها أن يأخذ حاجته من الهواء حولها، ووجهها متعرق بالكامل، وجسدها يأن بتعب شديد .
وبعد دقائق استغرقها جسد تبارك في الارتياح رفعت رأسها لهم تشير بيدها قائلة بأنفاس لاهثة :
” اصبروا بس أخد نفسي …”
وبالفعل أخذت نفس عميق ترفع نظرها لهم، لتجد الثلاثة ينظرون صوبها بملامح باردة دون أي ذرة ارهاق قد تعكر صلابة وجوههم، ودون ذرة عرق واحدة .
شعرت تبارك فجأة أنها هي فقط من كانت تركض وتعافر وهم … كأنهم لن يخطوا خطوة واحدة .
نظر لها سالار ثواني قبل أن يقول :
” التقطتي انفاسك ؟!”
” اصبر تبقى نفس أخير ”
جذب سالار الغطاء الذي ما تزال تضمه لها قائلًا بجدية :
” التقطيه في الوطن، فنحن قد وصلنا بالفعل ”
نظرت له تبارك دون أن تفهم تحاول سحب الغطاء من يده، وحينما نجحت رمته بنظرات حانقة غاضبة، ثم عدلت من وضعيته بهدوء تقول بحنق :
” حمدالله على السلامة يا خويا، ويا ترى هتعامل في الوطن ده زي البني ادمين، ولا كلهم نفس عينتك كده و…”
وفجأة صمتت بصدمة حينما أبصرت من فوق فوهة البركان الذي صعدوا إليه قصر يلوح لها من بعيد يبدو عليه الفخامة، بل وينطق بالثراء بذلك اللون الابيض وتلك الاحجار التي تلتمع بقوة أسفل الشمس .
ازدرت ريقها تحاول أن تستعوب ذلك المشهد أمامها :
” احنا فين ؟؟ دي الجنة ؟!”
ابتسم سالار يقول بفخر مستنشقًا رائحة الوطن بكل سعادة ولكم يود لو يهبط ويتمرغ في رمالها بحب شديد :
” هذه سفيد، موطننا ومملكتك جلالتك ….”
_______________________
ها نحن عدنا للوطن، حيث بداية كل حكاية …
وتذكر أنها حرب إما أن تنتصر أو تنتصر، لا خيار ثالث أمامك.
يتبع…
______________________
كانت ضربات قلبه تتسابق، وانفاسه تكافح للخروج من صدره، يشعر بجسده قد تصنم بمجرد سماعه لكلمات تلك الفتاة، صديقه وشقيقه هو يحتضر وارسلها لتأخذه إليه حتى يودعه ؟!
كانت صرخته التي أطلقها منذ ثواني خارجة من اعماق روحه السحيقة، صرخة جعلت المكان حوله يهتز ومرجان يرتجف رعبًا يتمسك بالكتب خوفًا أن تسقط من قوة النبرة .
بينما العريف خرج من داخل المكتبة يصرخ بجنون مساوي لجنون دانيار :
” من ذاك الذي يصرخ بين جدران مكتبتي ؟؟ هذه مكتبة يا اغبياء، مكتبة حيث لا مكان للحديث أو الصراخ، اخرجوا من هنا، اخرجوا جميعكم من هنا قبل أن أحرقها بكم ”
كان يصرخ وهو يشير للباب، لكن دانيار لم يهتم وهو يندفع صوب زمرد التي أطلقت صرخة عالية تتراجع للخلف مرتعبة من ملامحه، شاهقة بصوت مرتفع ليقول العريف بتحذير :
“كم مرة عليّ القول لا للصراخ داخل مكتبتي ؟؟”
أصبح دانيار على بعد خطوة واحدة من زمرد يهمس لها من بين أسنانه بصوت مرعب :
” إن كانت هذه إحدى الاعيبك اقسم سأ…”
” وهل تراني حمقاء كي اضيع وقتي وآتي حيث مكتبة هذا العجوز الذي يصرخ بنا ألا نصرخ، واقف أمامك لأجل لا شيء ؟؟ وكأنني اتحين الفرص لرؤيتك؟؟ أنت تحلم يا رجل ”
ختمت حديثها تنفخ بسخرية لاذعة جعلت أعين دانيار تشتد، يشير لها كي تسبقه ورعبه ازداد على تميم :
” اسبقيني وارشديني حيث هو .”
شعرت زمرد بالغصب من طريقته في الحديث معها وكأنها تعمل لديه، لذلك توقفت مكانها تأبى الحراك خطوة واحدة، تهمس من بين أسنانها بشر :
” أنا لا أعمل لديك يا سيد سأخبرك مكانه وأنت أذهب و…”
توقفت عن الحديث حينما وجدت سيفها الخائن يتوسط رقبتها، بعدما أجبرها على رفع رأسها كي لا يصيبها أذى، وصوت دانيار الذي أصبح بالقرب منها يهسهس بغضب :
” إن لم تتحركي أمامي في هذه اللحظة وارشدتيني حيث تميم، سأجعل سيفك العزيز يختتم رحلته القتالية برأسك قبل أن احرقه بنفسي ”
نظرت له زمرد بتحدي وأعين مشتعلة، لا يعجبها أن يهددها، لا يعجبها ابدًا، هي زمرد المتجبرة الداهية _ كما يسميها البعض وتفتخر هي _ يأتي ذلك الوسيم ويهددها ؟؟ حسنًا صبرًا .
” لا لا، لِم هذا الشر يا سيد، أنا فقط امزح، هيا سأخبرك أين هو صديقك عسى أن تحترقا سويًا ”
ولم تنتظر لتسمع رده إذ تحركت تسبقه بسرعة وهو خلفها يشعر بالغضب منها والرعب على تميم .
_______________
ساقطة ارضًا وهو فوقها بعدما أصبح شبه فاقد للوعي، لا يشعر بشيء حوله، يتنفس بصعوبة شديد، ثم فجأة توقفت أنفاسه لشدة الوجع الذي أصاب خصره .
ابتلعت برلنت ريقها تحاول أن تبعده وقد شعرت بارتجافة عنيفة في جسدها الذي لم يلمسه رجل سابقًا :
” أنت يا سيد .. أنهض هذا ليس صحيحًا، استغفر الله هذا ليس صحيحًا، ستموت وتحملني ذنوب لمسك لي، تحرك رجاءً وزنك ثقيل ”
لكن تميم والذي كان لا يشعر بجسده بعدما فقد دماء كثيرة وهو ما يزال متسطحًا على جسد برلنت التي رفعت رأسها تنظر له بفضول :
” هل مِت ؟؟”
وعندما لم يصل لها إجابة منه، سقطت دموعها برعب شديد وقد بدأت شهقاتها ترتفع أكثر وأكثر حتى ملئت المكان حولها وجسدها يرتجف أسفله تنادي بصوت مرتفع :
” ساعدونا …رجاءً ساعدونا، الرجل مات، يا الله لقد مات، رجاءً ليساعدني أحدكم، يا سيد ارجوك انهض عني ”
نظرت له برلنت ثواني تتأمل وجهه قبل أن تنفجر في بكاء عنيف وهي تتذكر ما كانت تفعل له :
” أنا آسفة، سيدي أنا آسفة لأنني دعوت أن أتخلص منك، لم أكن أقصد أن تموت حقًا، اقسم أنني لم اقصد ”
توقفت ثم نظرت له وقالت بصوت منخفض من بين شهقاتها :
” أنت من كنت لئيمًا معي ووقح وحقير، لكنني اسامحك، اقسم أنني اسامحك لترقد روحك في سلام فقط ”
فجأة انتفض جسد برلنت على شعورها بهواء ساخن على رقبتها وقد اخترق حجابها ليصيب بشرة رقبتها، ارتجف جسدها بقوة وهي تسمع همس خفيض وصوت رخيم يخرج من الجثة التي تعلوها :
” أنا من لن ادعك تعيشين بسلام حينما أصبح بخير، سأريكِ كيف تتفننين في سبي والدعاء عليّ ”
اتسعت أعين برلنت بقوة وهي تنظر صوب تميم الذي كان يحدق فيها من بين جفونه شبه المغلقة بشر، اطالت النظر به وقد شحب وجهها بعنف، ليبتسم تميم بسمة جانبية يقول بصوت منخفض بغرض اخافتها:
” بوو ..”
فجأة أطلقت برلنت صرخات هزت المكان حولها لشدة الرعب الذي أصابها في تلك اللحظة، ودون مقدمات انتفضت من أسفله تلقي جسده بعيدًا عنها لا تهتم بمقدار إصابته أو أي شيء آخر .
وتميم الذي اصطدم جسده بالأرض أسفله بقوة كبيرة أطلق تأوهًا قويًا، وهو يتوعد لها بوجع :
“أيتها الغبية، سأريكِ … سأطعمك قنابلي المرة القادمة ”
زحفت برلنت للخلف بسرعة كبيرة وهي ترتجف باكية :
” أرجوك ارحمني أنا مجرد عاملة هنا، ارجوك أنا أنام وحدي في غرفتي المظلمة ليلًا ”
نظر لها تميم وهو يضغط على جرحه بغضب صارخًا مستنكرًا تلك الجملة الغير مناسبة البتة للحديث :
” وما شأني بنومك وحدك ليلًا، هل احضر فراشي آتي لمشاركتك الغرفة؟؟”
” لا أنا …أنا فقط … أنت بعدما تموت ستـ ستخرج روحك لأنك مقتول، هكذا كانت تخبرني امي .. أنا فقط ارجوك يمكن لروحك الطواف في أماكن افضل من غرفتي، القصر ملئ بالغرف الجميلة، ما حاجة روحك لغرفة صغيرة ضيقة كخاصتي ؟؟”
نظر لها تميم بعدم فهم وقد علم في تلك اللحظة أنها تظنه سيرهق روحه بعد الموت ويطاردها، حقًا ؟؟
” تالله وبالله ووالله لو أنني شبح ولي انتقامٌ معكِ، سأسامحك، ليس لأن قلبي الرحيم، بل لكرهي أن اسكن جسدًا بمثل غبائي ”
نظرت له برلنت بصدمة من كلماته واستنكار شديد تلبسها، وكم شعرت بالندم لخوفها منذ ثواني أن يموت .
فتحت فمها ولم تكد تتحدث حتى سمعت صوتًا رجوليًا يصرخ بقوة :
” تميــــــم …”
________________________
كانت تقف أمام قلعة عملاقة لا تستطيع رقبتها أن تعلو أكثر لترى قمتها، شعرت بقلبها يرتجف، الأمر حقيقة، هو ليس بمجنون، حسنًا هي لم تكن أبدًا أن تتوقع نهاية هذه الرحلة بهذا الشكل، شكت وشكت أنه مجرد مخبول يتحدث بكلمات غير حقيقية ..
تتساءلون لماذا تبعته إذن ؟؟ حسنًا هو شبه خطفها وهددها وهي لم تمتلك خيارًا سوى المجئ معه بعدما فشلت مساعيها للهرب، وحينما أصبحت في منتصف الغابة خافت العودة وقررت أن تكمل تلك الرحلة المجنونة، والآن ها هي تقف أمام قلعة عملاقة تكاد تمنع أشعة الشمس .
” هذه قلعة سفيد مولاتي .”
نظرت له بدهشة تتساءل بصوت مصدوم :
” ازاي هندخلها ؟؟”
نظر لها بهدوء شديد ونبرته خرجت مريبة وكأنه يهددها :
” حدثيني بالفصحى رجاءً”
هزت رأسها بتردد، ثم نظرت مجددًا للقلعة لتكتشف وجود عدد كبير من الرجال فوقها يحملون سهام، ومدافع عديدة، يا الله هؤلاء الرجال مازالوا على عهدهم القديم ..
لحظات هي حتى انتفض جسد تبارك تتطلق صرخة مرتعبة وهي تنبطح ارضًا تضع يديها فوق رأسها حينما تفاجئت بصوت سالار الجهوري والمخيف الذي هتف بنبرة آمرة صاخبة :
” افتحــــــوا الأبـــــواب ”
نظرت له تبارك وهي مازالت منبطحة ارضًا تحمي نفسها برعب منه، وقد كاد قلبها يتوقف للتو من مفاجئته لها، مرت ثواني وسمعت صوت أحد الجنود يصيح بصوت مرتفع :
_” افتحوا الابواب للقائد ..”
رأت تبارك بأعين متسعة ابواب القلعة تُفتح وتظهر من خلقها مروج خضراء بديعة تحتوي العديدة من المباني بيضاء اللون، والكثير والكثير من الرجال الذين يحملون سيوف في كل ركن من أركان القلعة .
أشار سالار لها كي تتقدمه :
” من بعدك مولاتي .”
ماهذا الشعور الجيد الذي تشعر به في هذه اللحظة ؟؟ نعم إنه الزهو، هي مولاته والملكة، ملكة هذه القلعة ؟؟ بل هذه البلاد الشاسعة والتي منذ خطت إليها مع سالار _ بعدما تركا صامد وصمود على الحدود_ ذُهلت وشعرت بالاعجاب الشديد، مزارع كثيرة ومنازل مبهرة ومعمار خاطف للانفاس، يبدو أن الأيام القادمة تحمل لها الكثير.
وها هي بوابة القلعة تُفتح لها على مصرعيها وكأنها ترحب بها في مستقبل مجهول لا تدري جيد هو أم سييء؟!
سارت ترفع رأسها عاليًا بفخر لا تعلم له سبب، هو فقط يملئ صدرها، تسير مختالة في الممر الصخري الذي يتوسط الحدائق الخضراء وعلى جانبي الممر العديد من الجنود يستندون على سيوفهم، تأملتهم تبارك بانبهار كبير مبتسمة..
وفجأة انتفض جسدها مبتعدة عن الممر برعب بسبب صوت سالار الذي خرج جهوري بنفس الشكل السابق يأمر الجنود بحدة ودون رحمة :
” أظهروا بعض الاحترام والترحيب بملكتكم يا رجال”
وفي ثواني رفع الرجال السيوف عاليًا بشكل جعل تبارك تتراجع خلف ظهر سالار تحتمي به وهي تراهم يحركون السيوف بشكل منظم يصيحون بصوت عالٍ وفي نبرة واحدة دون شذوذ :
” أنرتي البلاد مولاتي ..”
ابتسم سالار باستحسان وهو ينظر لتبارك خلف ظهره وملامحه كانت جامدة مخيفة وحادة بشكل جعلها ترتجف، يشير لها أن تتحرك أمامه:
” من بعدك مولاتي ..”
ولم تعلم تبارك هل كانت نبرته ساخرة أم لا، لكنها على أية حال رفعت رأسها عاليًا تسير بكل كبرياء في الممر الصخري وهو خلفها يبتسم بسمة جانبية ساخرة ..
” ها قد جاءت كارثتك يا سفيد ”
_____________________
يتوسط عرشه وحوله جميع مستشاريه عدا تميم ودانيار، الجميع كان حاضرًا يشهد على تسليم ذلك الخائن من مملكة آبى والذي أحضره الملك آزار بنفسه ليمثل أمام عدالة سفيد .
رفع إيفان رأسه عاليًا ينظر لذلك الرجل الذي يرتجف أمامه نظرات غامضة ثم قال :
” إذن أنت من خنت ولاء ملكك وسمحت لهؤلاء الرجال بالدخول لمملكتي بختمه الخاص بالتجار ؟؟”
رفع الرجل رأسه وهو يرتجف بقوة، نظر صوب آزار الذي بادله النظرات بأخرى مرعبة، يحذره أن يحيد عن قول الحق وعن الاعتراف بكل ما حدث، آزار ليس بالملك الاحمق الذي يطمح لبناء عداوة شخصية مع مملكة بحجم سفيد لأجل رجل كهذا، لذلك إن كان تسليمه سيخفف غضب إيفان فللجحيم هو وعائلته اجمعين..
” أنا يا مولاي … أنا لم أعلم أنهم…”
صمت يبتلع ريقه برعب شديد :
” سامحني يا مولاي أتوسل إليك أن تعفو عني، سأعمل خادمًا لك المتبقي من عمري، اقسم أنني لن افعل ما فعلت مجددًا ..”
كان الرجل يبكي ويتوسله من بين شهقاته، ابتسم له إيفان بقسوة دون أن تهتز له شعره واحدة، هو فيما يخص مملكته لا قلب له ولا يرحم، من أخطأ يُعاقب .
” أخبرني كيف أخذت ختم الملك الخاص وادخلتهم به ؟؟ اوراق هؤلاء الرجال خُتمت بختم التجار صحيح ؟؟ كيف فعلت ذلك ؟!”
رفع الرجل عيونه باكيًا مرتجفًا يتوسل منه رحمته يعلم أنه لن ينالها، فمن نال سابقًا رحمة من آل سفيد، فكبيرهم ومؤسس سفيد كان رجل متجبر، صخرة تسير على الأرض لا يرحم من يخطأ في حقه، بل يدهسهم أسفل أقدامه دون شفقة، لقد كان ملك سفيد الاول عبارة عن قصة رعب يتم ارهاب الاطفال بها، ستأكل أم نحضر لك كبير سفيد ؟؟ ذلك الرجل ذو العين الصناعية بعدما فقد خاصته في أحد الحروب .
على الاقل إيفان كان به بعض الرحمة والعدل وهو سيستغل كل ذرة رحمة لديه ليعفو عنه :
” مولاي أنا… أنا المسؤول عن اوراق التجار وحركة التجارة بين مملكتنا ومملكتك، وامتلك الختم الخاص بمرور التجار، وأنا من ختمت لهم عليه بنفسي ليسمح جنودك لهم بالعبور”
نظر له إيفان ثواني، ثم قال بغموض :
” إذن أنت من سمحت لهم بالمرور عبر حدود مملكتي بتصريح التجارة ؟؟ ”
” نعم مولاي هذا صحيح، ارجو رحمتك مولاي ..”
ختم كلماته، ليكرر إيفان ناس جملته السابقة :
” تعني أنك من ختمت على تصاريح الخروج بختم التجار ؟؟”
نظر له الرجل ثواني بريبة، ثم نظر لآزار الذي احتدت نظراته وهو يحدق بإيفان يشعر بالغضب يملئ صدره بسببه، تنفس بصوت مرتفع يأمر الرجل أن يثبت حديث إيفان عليه .
ليهز الرجل رأسه للمرة الثانية :
” نعم مولاي أنا من ختمت لهم بختم التجار قبل دخول مملكتك مباشرة .”
اتسعت بسمة إيفان ينظر للرجال جواره، ثم نظر للرجل يقول بنبرة غامضة مرعبة :
” لكن الختم على تصاريح هؤلاء الرجال لم يكن ختم تجار يا عزيزي ”
اتسعت أعين جميع من بالقاعة وشحب وجه الرجل الذي ارتجف جسده فورًا ونظر لآزار الذي اهتز صدره لثواني، واتسعت بسمة إيفان الخبيثة وهو يقول :
” هؤلاء الرجال دخلوا مملكتي عبر مملكتك ملك آزار بتصريح زيارة وليس تصريح تجارة ”
انتفض آزار بقوة ينظر صوب إيفان قائلًا بصوت مرتفع :
” لكن أنت من قال أنه كان تصريح تجارة ملك إيفان، هل تتلاعب بي أم ماذا ؟؟”
رمش إيفان ببراءة شديدة يهز رأسه، ثم قال ببساطة شديدة :
” لقد أخطأت ملك آزار، وأنت لم تصحح لي خطأي، بل سارعت لتحضر رجلًا بريئًا يؤكده لي ”
اشتعل صدر آزار ينهض عن مقعد الذي يقع يمين عرش إيفان وهو يصرخ بجنون في وجهه وقد احتدت أعينه وعلت نبرته :
” ما الذي ترنو إليه من خلف العابك تلك ملك إيفان ؟!”
” أنا لا أرنو لشيء سوى أمان مملكتي والذي هددته مملكتك ملك آزار، ومن يتجرأ ويهدد مملكتي بقشة، سأمحيه بالسيوف ”
انتفض رجال آزار في غمضة عين يرفعون سيوفهم بقوة في وجهه إيفان وجنوده بتهديد واضح، وكأنهم كانوا يتحينون فرصة القتال، واشتعلت الأجواء داخل القاعة وقد بدت كما لو كانت الحرب ..
صرخ آزار وقد وصل غضبه للقمة :
” إن كنت تطمح لحربٍ معي إيفان فلا تبحث عن حجج واهية تبرر بها أسبابك، جميعنا نعلم أنك تبغي توسيع رقعة مملكتك، تمامًا كأجدادك الجشعين وستفعل ذلك على حساب مملكتي، ولن استبعد أن تستعين بهؤلاء المنبوذين الملاعين ليساعدوك كما ساعدوك في إسقاط مشكى سابقًا”
ختم حديثه وهو يخرج سيفه بقوة ودون مقدمات كان يضعه أمام وجهه إيفان في إعلان صريح للحرب :
” إن كنت تريدها حربًا فلك ذلك ..”
” نحن لسنا دعاة حرب ملك آزار، لكن إن دعت الحاجة فنحن أهلٌ لها، والآن إن لم ترد أن تخرج من سفيد محملًا بجثث رجالك جميعهم وتمتلئ مقابر مملكتك بجثث جنودك فأنزل سيفك ”
ولم يكن ذلك الصوت صوت إيفان أو حد رجاله، بل كان صوت من ترتعش له ابدان جميع الرجال، الرجل الذين لا يبصرونه سوى في أرض المعركة..
كان سالار يقف خلف آزار دون أن يحرك يده يأمره بكل قوة أن ينزل سيفه، وحينما أبصر ارتجاف جسد آزار _ غضبًا بالطبع _ اتسعت بسمته وهو يحرك نظراته صوب جنود مملكة آبى يصرخ في وجوههم بصوت جهوري :
” إن لم ترغبوا في رؤيتي أدق ابواب مملكتكم في الغد مع جيشي، فأنزلوا سيوفكم جميعًا”
سالار لم يكن من الحمق الذي يجعله يجهل عاقبة تهديد أحد الملوك والتي قد تؤدي لإعدامه، لكن ساعة الحروب تسقط كامل القوانين والعقوبات، وهو يتجاهل كل ذلك حين المساس ببلاده أو ملكها، وطالما أن آزار تناسى عقوبة تهديد ملك، فهو كذلك .
نظر الرجال بريبة صوب آزار في انتظار أمر منه لخفض اسلحتهم، وآزار كان فقط ينظر بأعين إيفان الذي ابتسم بسمة واسعة يرفع رأسه عاليًا بكل غرور، يزيح سيف آزار بعيدًا عنه بسهولة ..
قبض آزار على سيفه وقد شعر بالجحيم، الجحيم يبتلعه في تلك اللحظة، أن يتواقح عليه رجل بين جنوده لهو الجحيم بحد ذاته .
وحينما وجد سالار منه اعتراضًا على كلماته نزع سيفه من غمده في ثواني معدودة، ثم وضعه بتهديد واضع على رقبة آزار يهمس بفحيح :
” رقبتك مقابل كلمة، قل لهم أن يخفضوا أسلحتهم ”
نظر له آزار بسخرية، يعلم سالار جيدًا أن آزار ليس بالرجل الهين، هو لا يخاف منه وهو يعلم ذلك، لكنه لن يتوانى عن قتل كل من يعترض طريقه ويهدد ملكه ومملكته.
في تلك اللحظة التي أشهر بها الجميع سيوفهم وآخرهم سالار، انطلقت صرخة أنثوية لا تناسب بأي شكلٍ من الأشكال هذا المشهد، صرخة جذبت أنظار الجميع خاصة إيفان الذي تصلب جسده بقوة يراقب ذلك الجسد الصغير الذي يختفي خلف الرجال بأعين حريصة .
نظر آزار بهدوء صوب رجاله يأمرهم باخفاض أسلحتهم، في نفس اللحظة التي وضع بها سالار السيف داخل غمده، ليشعر فجأة بقبضة على كم ثيابه، وفجأة تذكر تبارك .
استدار ببطء مستنكرًا ما تفعل :
” حقًا ؟؟”
كان يحدق بها، ليجدها تتمسك بكم ثيابه تحتمي خلفه من الجميع، ورغم ذلك عيونها تدور في المكان بانبهار شديد، رغم رعبها وجسدها الذي يرتجف، إلا أنها لا تنكر أن كل ذلك مبهر حقًا
أطال إيفان النظر صوب سالار، يحدق في الجسد الصغير النسائي الذي يختبئ خلفه، لكنه في تلك اللحظة لم يهتم سوى لابعادها عن كل ذلك، وفورًا أشار بعيونه لجنوده نحوها بأمر صامت أن يحملوها خارج القاعة.
تحرك الجنود صوب تبارك يتحدث لها أحدهم بهدوء أن تخرج معهم، لكن تبارك وحينما رأتهم يقتربون منها ارتجفت تزيد من قوة تمسكها بسالار تقترب منه أكثر هامسة بخوف :
” لا ..لا …يا قائد، يا قائد ”
نظر لها سالار يتنفس بصوت مرتفع، ثم نظر للجنود وكاد يصرفهم كي لا يخيفونها، لكن بنظرة من إيفان اغمض عيونه، ثم همس لها بصوت منخفض وبشكل لا يظهر للجميع قربه منها :
” مولاتي اذهبي مع الجنود سيأخذونك لجناحك كي ترتاحي قليلًا حتى تنتهي تلك الجلسة ”
تمسكت به في خوف شديد، هي لا تعرف في هذا المكان سواه، وحتى إن كانت تتشاجر معه وتختلف منه كثيرًا وتكره صراخه، لكنها تثق به :
” لا أنا خايفة، خليني هنا وأنا والله مش هصرخ تاني ..”
” ماذا ؟؟ مولاتي رجاءً اذهبي مع الجنود، وفضلًا توقفي عن التحدث بهذه اللهجة، هذا غير مسموح هنا ”
نظرت له بخوف ثم رأت الجنود ينتظرونها، لذلك افلتت كم ثيابه ببطء وتحركت مع الجنود بهدوء وبريبة .
لكن وقبل أن تخرج من القاعة بشكل كامل استدارت للمرة الأخيرة ونظرت لسالار الذي كان يقف بكل جسارة بين الرجال ببنيته القوية، ومن ثم تحركت بعيونها ونظرت صوب الملك لأول مرة منذ جاءت لتُصدم به يحدق فيه وجهها بأعين ضيقة، شهقت تتحرك بسرعة خارج المكان مع الجنود، بينما إيفان عاد بنظراته لما يحدث وابتسم بسمة جانبية وقال :
” والآن ملك آزار ما رأيك أن نتحدث بكل هدوء ودون صراخ ؟؟”
_________________________
نظرت برلنت بلهفة صوب الرجل الذي ركض صوبهم بسرعة كبيرة، وفجأة أشرق وجه تميم يهمس بتعب شديد قبل أن يسقط في غيمة سوداء تبتلعه :
” دانيار …”
ركض له دانيار بلهفة وخوف شديد يتلقف جسده بين أحضانه بحنان شديد يضمه له يهمس له بهدوء :
” اخي ما بك ؟؟ من ذلك الذي ستفقده والدته وفعل بك هذا ؟!”
نظر تميم لوجهه ببسمة صغيرة يحاول الحديث، لكن الوجع قاتله في تلك اللحظة، اقترب من كتف دانيار يستند عليه حتى يصل لكتفه يهمس له بصوت منخفض يأبى أن يظهر ألمه أمام أحدٍ، لا يظهر ضعفه ولو كان تنازعه روحه للخروج من جسده :
” خذني بعيدًا عن هنا دانيار، أشعر بالوهن الشديد يا أخي، فقط خذني لمهيار ولا تجعل أحدهم يراني بهذه الحالة ”
نظر له دانيار برعب وهو يرى أجفانه تكاد تنغلق يهتف باسمه في رعب شديد ليسمع جواره صوت مرتعب يتساءل بارتجاف :
” هل رحل ؟؟”
استدار دانيار كالرصاصة صوب صاحبة الصوت ودون أن تستوعب برلنت كيف ومتى ولماذا وجدت سيف يوجه صوب رقبتها وصوته خرج مرسلًا موجات هلع لقلبها :
” من أنتِ وماذا تفعلين هنا وما علاقتك بإصابته ؟؟”
نظرت برلنت للسيف الذي كان يوجهه على رقبتها وشعرت برغبة عارمة في البكاء، تنفست تحاول أن تجد كلمات في عقلها للدفاع عن نفسها، لكن فجأة وجدت جسد يقف أمامها يستلم هو حد السيف بدلًا منها :
” أنت أيها الرجل، مالك ترفع سيفك في وجه كل من تحدث بكلمة جوار أذنك ؟؟ تحلى ببعض المروءة ولا ترفع سيفك في وجه أمرأة ”
نهض دانيار يقف مقابلًا لها يشرف عليها من الاعلى، ثم مال بعض الشيء يهمس لها بفحيح :
” أنا في حياتي لم أرفع سيفي بوجه امرأة، ولن أفعل.”
ختم حديثه يرفع جسد تميم أعلى كتفه بقوة ثم رمى برلنت بنظرات مشتعلة :
” إن علمت أن لكِ علاقة بما حدث له من بعيد حتى سأحضرك واريكِ الويل ولو عدتي لرحم والدتك ”
تحرك بسرعة يركض في القلعة بسرعة كبيرة وأعلى كتفه يقبع جسد تميم، يستغل عدم وجود الكثير من الأشخاص في هذه البقعة من القصر ويتخذ طرقًا مختصرة للوصول إلى مشفى القصر :
” تحمل يا أخي…”
نظرت زمرد لاثره بعدم فهم تهتف بجدة وهي تلوح بيدها في الهواء بحنق :
” يقول أنه في حياته لم يرفع سيفًا على امرأة، الكاذب رفعه عليّ اليوم مرتـ …. أوه”
كانت برلنت تراقب بصدمة أثر دانيار:
” نعم، أوه ”
صمتت زمرد فجأة وقد على الذهول وجهها تفهم ما يرمي إليه من خلف حديثه وقد اتسعت عيونها وابتسمت بعدم تصديق وقد جمدت من الصدمة في أرضها، تهمس من بين أسنانها:
” ذلك الـ …”
__________________
اقتحم عيادة القصر بقوة وهو يصرخ بصوت مرتفع :
” مهيار …مهيار ساعدني ”
انتفض شاب في نهاية العقد الثالث من عمره يتميز بالملامح الهادئة والمشرقة، ينظر صوب باب غرفته، لتتسع عيونه بصدمة يركض صوب دانيار يشير لها على الفراش الموضوع في أحد أركان الغرفة :
” يا الله ما به تميم ؟؟”
” لا اعلم من ذلك القذر الذي تجرأ ولمسه، لكن صبرًا اقسم أنني سأعلم منه واريه كيف يكون جحيم الأرض ”
بدأ مهيار يساعد تميم في التسطح براحة، ثم ركض يبحث عن أدواته وهو يتنفس بصوت مرتفع :
” يا ويلي دانيار الجروح ملتهبة ”
” ماذا تعني ؟؟ عالجه وإلا جعلتك تتسطح جواره ”
نظر له مهيار بحدة ولم يهتم بالرد عليه وبدأ بالعمل وتقطيع ثيابه، ومحاولة استدراك ما يحدث، ودانيار يقف فوق رأسه يراقبه بحدة مما جعل مهيار يرفع رأسه له صارخًا :
” بالله عليك تحرك يمينًا أو يسارًا أن تعيق حركتي بهذا الشكل، يا الله أي كوارث هي تلك التي تسقط على رأسي”
ابتسم دانيار بشكل مستفز يشير صوب تميم :
” عالج تميم الأن في هذه اللحظة أريده أن ينهض ويخرج معي من غرفتك العفنة مهيار ”
هز مهيار رأسه ثم رفع يده عاليًا يحركها في الهواء وهو يحمل مشرطه يردد بشكل جدي بالكامل مغمضًا عينه، يقول بنبرة عالية :
” لتُشفى جروح تميم في الحال ..”
أنهى حديثه يفتح عيونه ينظر صوب تميم الذي ما يزال مسطحًا بجروحه، رفع مهيار المشرط صوب عيونه وهو يحركه بسأم :
” ياااه ما بها عصاي السحرية لا تعمل؟!”
رفع رأسه صوب دانيار ينظر له ببسمة مستفزة وصدمة مصطنعة :
” يبدو أنها تعطلت ”
ابتسم دانيار لعمله أنه يسخر منه، سرعان ما جذبه من ثيابه نحوه بشر يهسهس من بين أسنانه وهو يكاد يبتلع مهيار بالمعنى الحرفي :
” هل تحاول السخرية مني ؟؟”
” نعم هذا بالفعل ما احاول فعله، فأنت لا تتوقع مني أن أفعل ما تطلبه مني ”
” بلى اتوقع، كيف إذن درست الطب أيها الطبيب الفاشل ؟؟”
اشتعلت أعين مهيار يهمس في المقابل بشر :
” أنا طبيب ولست ساحر ..”
” إذن عالج صديقي الآن”
” سأفعل إن تركت ثيابي ”
تدخل صوت بينهما وهو يردد بوهن شديد أثناء تسطحه على على الفراش :
” عذرًا لكما، إن انتهيتما من ذلك الشجار الذي تجريانه في هذه اللحظة، رجاءً أنقذوني قبل أن أسلم روحي لخالقها”
نظر الاثنان في نفس الوقت صوب الفراش قبل أن يترك دانيار ثياب مهيار، يرفع سيف زمرد عليه وقد فاده هذا السيف اليوم كثيرًا :
” هيا أيها الفاشل عالج ذلك الرجل والآن..”
رفع مهيار مشرط في وجه دانيار يقول بصوت متوعد :
” في انتظار ذلك اليوم الذي ستتسطح به أمامي وتكون تحت رحمتي ”
ابتسم له دانيار يقول بعناد :
” وقتها سأكون جثة، فأنا طالما هناك أنفاس بصدري لن أسمح لك بلمسي ”
امسك تميم مفرش السرير يضغط عليه بقوة صارخًا يتعب شديد ووجع كبير غير مصدقًا أنه الآن ينازع الموت في حين أنهما يجريان جدالًا :
” ياالله اقبض روحي وخلصني من كل ذلك .”
صرخ دانيار بجنون في مهيار :
” تحرك وخلص الرجل من وجعه مهيار قبل أن انتهي منك …”
___________
كانت ما تزال الساحة مشتعلة وقد بدأ آزار يزداد جنونًا مما حدث معه، نظر في أرجاء القاعة يأمر حنوده بالتحفز، ثم قال بجدية :
” إذن ملك إيفان إن كنت تعتقد الآن أنني سأجثو أسفل أقدامك أتوسل رحمتك، فأنت لا تعرفني جيدًا، إن أردت حربًا فالغد موعدنا ..”
قال إيفان بكل ذرة هدوء وتعقل يمتلكها :
” لا لا ملك آزار، أي حرب تلك استغفر الله، أنا فقط أخبرك أن التهديد والأسلحة لا تنفع في حوار معي ومع جنود، لذلك أن تأتي ومعك نصف جيشك ليس بالشيء الجيد، فإما أن تأتيني غدًا وحدك مع مستشاري مملكتك كرجل لا يهاب شيئًا، أو تأتي محتميًا خلف جيشك، مملكتي واسعة تستوعب كامل الجيش ”
هكذا كانت الأمور طوال الوقت، لا يُذكر أن هناك مواجهة انتهت بين آزار وإيفان على خير، ولو أن إيفان ترك تعقله القليل في جميع لقائاته مع آزار، لكانت الآن سفيد في حروب لا تنتهي مع آبى .
تنهد آزار بصوت مرتفع يطيل النظر في أعين إيفان بشكل حاد، قبل أن يهز رأسه ببساطة :
” لك هذا ”
وبهذه الكلمات ختم آزار حديثه وتحرك خارج القاعة دون كلمة واحدة وخلفه جميع جنوده الذين لحقوا به بسرعة وطاعة، والرجل الذي كان ما يزال جاثيًا ارضًا يرتجي منه رحمة، استغل كل ما حدث وركض بسرعة كبيرة خلف آزار.
كل ذلك وأعين إيفان مشتعلة، ينظر أمامه دون ردة فعل، ودون أي مقدمات ارتسمت بسمة جانبية على فمه، ينظر صوب سالار الذي كانت نفس البسمة تعلو وجهه لكن بشكل أكثر شراسة، بادل سالار الملك النظرات وكأنه يخبره أنه يدري جيدًا ما يريد وهو سيتولى الأمر.
هبط إيفان عن مقعده يتحرك صوب سالار يفتح له ذراعيه بترحاب شديد وامتنان كبير :
” مرحبًا بعودتك للوطن يا عزيزي، حامي حمى سفيد عاد واخيرًا”
ابتسم له سالار يبادله العناق هامسًا :
” يبدو أنك اشتقت لخسارة في ساحة النزال مولاي ”
أطلق إيفان ضحكات عالية يبتعد عن سالار، ذلك الرجل لا ينسى ابدًا، كان هو الوحيد الذي هزمه داخل الساحة، لذلك استحق وعن جدارة لقب ” وحش سفيد ” الجميع يراه وحشًا لا شعور لديه، وآه لو يعلمون أن ذلك الوحش هو أكثرهم لينًا ..
” إذن أتمنى أن تكون رحلتك في الجانب الآخر مثمرة يا صديقي .”
” آه يا مولاي لو أخبرك حجم الثمار التي جنيتها في تلك الرحلة لبكيت عليّ شفقة ”
رمقه إيفان بعدم فهم، لكن سالار ابتسم بتشفي واضح يربت على كتفه يقول كلمات مقتضبة قبل أن يتحرك من أمامه تاركًا إياه لا يفهم شيئًا :
” الله خير حافظ مولاي، لك الله جلالتك ”
” هييه ماذا تعني ؟؟”
أبتسم سالار بسمة جانبية يتحرك خارج المكان يقول ملوحًا بيديه في الهواء وهو يستدير ينظر له بغموض :
” سأدعك تكتشف بنفسك، والآن أسمح لي مولاي أن اتفقد جيشي العزيز، ثم سأرتاح قليلًا قبل أن أعود العمل مجددًا”
توقف فجأة يقول :
” وصحيح اتمنى مولاي إن احتجت لمن يتولى مهمة كالمهمة الأخيرة لي، أن تنسى امتلاكك لجندي يُدعى سالار، ربما تلجأ لدانيار أو تميم، وداعًا ”
وعلى ذكر دانيار وتميم، أين هما هذان الشابان، تاركين الملك يواجه آزار ويحضر اجتماعًا كهذا وحده .
نظر سالار حوله، ثم تحرك كي يبحث عنهما في معمل تميم ..
بينما إيفان كان يقف في القاعة وهو يلاحق سالار بنظراته في محاولة يائسة منه لمعرفة ما حدث ..
” يالله هل هي سيئة لهذه الدرجة ؟؟”
تحرك بسرعة خارج القاعة ومعطفه يرفرف خلفه بقوة، يتحرك داخل الممرات بسرعة وفي عينه نظرات تصميم لرؤيتها والتحدث معها حتى يعلم ما يقصد سالار، لكن أثناء تحركه من قاعة الاجتماعات الداخلية، توقف ثواني ودون أن يشعر أمام منطقة الحظائر ينظر لها بفضول وكأنه يبحث عنها بعيونه ليرى ما تفعل، لكن فجأة تنهد بعدم اهتمام يكمل طريقه صوب الحجرات الملكية الخاصة به وبرجاله المقربين ..
ابتسم يقترب وهو يمني نفسه بحديث طويل يفهم من خلال الملكة و..
فجأة توقف مرتعبًا حينما سمع صوت تحطم قوي مخيف وكأن هناك جبلًا من الزجاج أنهار لتوه، تحرك بأقدام حريصة سرعان ما هرول بفزع حينما سمع صوت يهتف بقوة :
” الصوت قادم من حجرة الملكة ……”
__________________
يتحرك بقوة بين طرقات القصر، وبخطوات تنهب الأرض أسفله كقرع الخيل في السباق، لم يصدق حينما أخبره أحد جنوده أنه لمح القائد دانيار يركض حاملًا القائد تميم والذي كانت الدماء تسيل منه بغزارة .
ما الذي يحدث هنا ؟؟ ترك المملكة لأسابيع ليعود ويجد كل تلك الفوضى ؟؟
اشتعلت أعين سالار بقوة وهو يتنفس بصوت مرتفع يتوعد للجميع بنيل عقابهم، الواحد تلو الآخر سينال قصاصه منهم، صبرًا .
وصل لمشفى القلعة يتحرك صوب العيادة، ثم اقتحمها دون مقدمات يفتح فمه للتعبير عن قلقه تجاه ما حدث لتميم والذي لا يعلم إن كان في هذه اللحظة ينازع الموت أم….يحاول الابعاد بين دانيار ومهيار ؟؟؟
اتسعت أعين سالار بعدم فهم وهو يرى في منتصف الغرفة قتال شرس بين دانيار قائد الرماة ومهيار الطبيب الخاص بالجنود و…شقيق دانيار الأصغر .
والمعني بالمجئ هنا لأجله يقف بينهما يحاول أن يبعدهم عن بعضهم البعض بوهن شديد وهو ينزف ..
” بالله عليكم ما الذي يحدث هنا ؟!”
تدخل سالار بينهما يحاول ابعادهما عن بعضها البعض، لكن ما نال طاعة منهما، بل كل ما جناه لكمة لا يدري مِن قبضة مَن ؟! لكمة جعلت أعين سالار تشتعل بغضب اسود وهو يرفع قبضته ويهبط بها على وجه دانيار، ثم أخرى على وجه مهيار واخيرًا تحدث بصوت قوي آمر :
” توقفوا عن تلك الأفعال الأن وحالًا ”
وكأنه ألقى بينهما قنبلة، إذ ابتعد الاثنان بسرعة منتفضين للخلف على صوت يعلمونه تمام العلم، اتسعت أعين الاثنين بصدمة وحلقت نظراتهم بصدمة على وجه سالار الذي تشدق بنبرة مرعبة :
” ما الذي يحدث هنا ؟!”
وقف دانيار باستقامة يضع يده على صدره باحترام شديد :
” قائد …لقد عدت، أنرت سفيد سيدي ”
ابتسم سالار بسخرية وهو ينظر لمهيار الذي ابتلع ريقه يقول بتوتر :
” مرحبًا بعودتك يا قائد ”
تجاهلهما سالار وهو يتحرك صوب تميم ليبتعد الاثنان من طريقه بسرعة مفسحين له مجال المرور، وهو توقف أمام تميم الذي حاول التغلب على آلامه يهتف من بين أسنانه:
” مرحبًا بك يا قائد ”
” استرح ..”
وفورًا تراخى جسد تميم يلقي بنفسه على الفراش، ثم استدار سالار ينظر لهما ولم يهمس سوى بكلمات معدودة :
” مهيار عالجه والآن.. وأنت دانيار للخارج ”
اعترض دانيار بقوة يشير صوب تميم :
” لكن يا قائد هو ..”
” قلت للخارج دانيار ”
زفر دانيار يخرج من الغرفة بحنق شديد ومهيار يبتسم بتشفي قبل أن يركض تحت نظرات سالار ليعالج تميم ويلملم له جروحه .
وسالار فقط يضم ذراعيه لصدره يراقب ما يحدث بانتباه شديد، حتى استقام مهيار بعد نصف ساعة تقريبًا يقول بهدوء :
” حسنًا أعطيته بعض السوائل المسكنة والمخدرة كي لا يشعر بوجع بسبب التهابات جروحه، سيظل تحت متابعتي لأيام ومن بعدها سيصبح بخير حال ”
هز سالار رأسه يتابع خروج مهيار، ثم اقترب من تميم يربت على خصلاته بحنان شديد :
” ارتح قليلًا يا صديقي، لك إذني بالاستراحة حتى تشفى”
خرج من الغرفة يغلق الباب بهدوء متنفسًا براحة بعدما اطمئن على حالة تميم، لكن ما إن استدار وجد دانيار يحشر مهيار في الزاوية وهو يضغط على رقبته بقوة، بينما مهيار يضع مشرطه على خصر دانيار .
رفع سالار حاجبه ليجدهم انتفضوا برعب وكلٌ منهم يخفي ما يحمل مبتسمًا بسمة عادية، حتى أن دانيار مال يقبل خصلات شعر شقيقه ثم ربت عليها مبتسمًا بسمة غبية أمام أعين سالار :
” شقيقي الحبيب يا من تبقى لي في هذه الحياة ”
ابتسم له مهيار يتقبل كلماته ببسمة مصطنعة :
” ادامك الله لي يا دانيار، أنت في مكانة والدي رحمة الله عليه بعد موته ”
ابتسم الاثنان يتعانقان أمام سالار الذي ابتسم بسمة ساخرة، ثم قال بصوت هادئ لكن مرعب :
” انتهيتما من ذلك المشهد العائلي ؟؟”
نظر له الاثنان بانتباه ليقول سالار ببساطة قبل التحرك خارج المشفى :
” خمس ساعات من التدريب الإضافية لكلٍ منكما ”
شهق مهيار واتسعت عيونه بصدمة، تدريب ؟؟ أي تدريب ؟؟ هو طبيب، كاد يفتح فمه للحديث، لكن سالار والذي كان يسير بعيدًا عنهما قال :
” كلمة واحدة واجلعهم عشر ساعات ..”
ختم حديثه يخرج بالكامل من المشفى، ثم سار كي يعود لمخدعه حتى يرتاح ويستحم بعد أيام من الإرهاق الشديد، وفي طريقه كان يلمح أجساد الجنود تشتد كالوتد حين مروره بهم، نظر لهم بهدوء يحييهم برأسه..
تحرك صوب حجرته والذي يقع في ممر كبار القصر، لكن وقبل أن يخطو للممر الفرعي الذي ينحدر من الممر الرئيسي والذي يحتوي جناحه الخاص، سمع صوتًا يصرخ ويقول :
” أنها الملكة ..”
توقفت اقدام سالار فجأة وهو ينظر خلفه بملامح باردة بعض الشيء يغير طريقه هامسًا :
” يالله نجنا من تلك الكارثة …”
__________________
قبل ذلك بنصف ساعة تقريبًا .
كانت تقف في منتصف الجناح الذي وضعها به هؤلاء الجنود ذوي الأجساد الصخمة، فكرت بجدية هل هؤلاء من يعملون مع القائد ؟؟ يا الله يتعامل كل يوم مع هؤلاء المرعبين ؟! حسنًا هو أيضًا مرعب قليلًا، أو ربما كثيرًا .
تنهدت تمرر عيونها في المكان وقد شعرت فجأة برغبة عارمة في القفز والركض بين جدران ذلك المكان الذي كان كما لو أنه خرج من قصص الاميرات والملوك القديمة، جناح فخم بجدران بيضاء واثاث في قمة الفخامة، وهناك بعض الجدران مطلية بالذهب وكذا الاثاث .
تنفست تبارك بصوت مرتفع تحاول أن تستوعب ما هي محاطة به، بالله هي في أكثر أحلامها جموحًا لم تتخيل أنها قد تشاهد هكذا مشهد عن قرب وليس تعيش به، وتكون الملكة….لحظة فقط، لحظة، هي الملكة ؟! دقائق بل ساعات لتستوعب ما يحدث حولها، هي الملكة على كل ذلك ؟؟ حقًا ؟!
فجأة شعرت بالادرينالين يرتفع ويتدافع داخل أوردتها لكامل اجزاء جسدها، حماس وسعادة وخوف، خوف من حمل مثل هذه المسؤولية الكبيرة، ابتلعت ريقها تتحرك حتى توقفت أمام مرآة مستقرة في أحد أركان الغرفة، إن كان يمكن وصف هذا القصر بغرفة.
” دول شكلهم اغنية اوي، أنا ايه اللي رميت نفسي فيه ده ؟!”
تنفست تحاول أن تهدأ نفسها، قبل أن تنجذب عيونها صوب طاولة زجاجية كبيرة موضوعة جوار نافذة بحجم الجدار وعليها مزهرية زجاجية شفافة مليئة بزهور بديعة المظهر .
ابتسمت تبارك دون شعور تقترب منها بسرعة وقد شعرت بضربات قلبها تتراقص سعادة، هي من عشاق الزهور بكافة الوانها وانواعها .
جلست ارضًا أمام الطاولة مباشرة تراقبها بأعين مندهشة، كيف تلتمع بهذا الشكل، تبدو جميلة بشكل لا يصدقه عقل، ابتلعت ريقها تتحسس الطاولة وملمسها الغريب :
” نوعه ايه الازاز ده ؟!”
أخذت تدور بعيونها حول الطاولة تدقق النظر بتفاصيله، ثم نهضت بهدوء تتحرك بعيدًا عن الطاولة وما كادت تستدير حتى أبصرت خيال شيء يتحرك خلفها بطرف عيونها لتننفض صارخة برعب ومن سوء حظها اندفعت للخلف لتسقط الطاولة، ارتجفت تحاول أن تمسك بها قبل أن تمس الأرض لكن كل ما استطاعت إنقاذه كان المزهرية الزجاجية .
اتسعت عيونها ونظرت سريعًا خلفها بخوف لترى أن ما تحرك ورأته لم يكن سوى ظل الستائر، ابتلعت ريقها تشعر بالرعب وهي تتساءل عن ثمن تلك الطاولة التي حطمتها..
فجأة سمعت صرخة عالية في الخارج بصوت جهوري :
” ما الذي تنتظرونه أيها الحمقى حطموا ذلك الباب قبل أن تتضرر الملكة .”
وما هي إلا ثواني قليلة حتى أصبحت تبارك محاصرة داخل الغرفة يحيطها الكثير من الجنود والملك الذي يقف أمامها يرمقها بملامح متعجبة وهي فقط تحتضن المزهرية :
” أنا بس..اقصد هو فقط لقد اصطدمت بالخطأ في تلك الطاولة هناك و…”
توقفت عن الحديث حينما رأت عين ذلك الملك تزداد حدة، ابتلعت ريقها تمد يدها له بالمزهرية :
” اتفضل أنا لحقت دي، و… أقصد من الأفضل أن تصنعوا الطاولات من الخشب، هذا افضل من الزجاج ”
نظر إيفان للمزهرية بين أنامله يهمس :
” هي مصنوعة من الكريستال وليس الزجاج ”
اتسعت أعين تبارك تستشعر فداحة ما فعلت، نعم لا تعلم اسعار ذلك الكريستال أو أي شيء عنه، لكنها تشعر أنها كبدتهم العديد من الخسائر .
نظرت ارضًا بخجل :
” أنا آسفة لم أقصد أن أفعل ذلك هو …”
كانت متوترة بشكل مبالغ به بسبب نظرات إيفان لها، نظرت حوله لمظهر الجنود الذين يحيطون الغرفة وكأنهم يخشون هروبها .
شعرت برغبة عارمة في البكاء خوفًا وتوترًا، يالله هي عاشت حياتها تخشى التعامل مع الناس وتتجنب شرورهم إلا القليل منهم، والآن هي في غرفة فاخرة تقف في وسط ما لا يقل عن خمسة عشر رجل مسلح وملك دولة كبيرة .
فجأة ومن وسط كل هذا أبصرت منقذها والوحيد الذي تعرف في هذا المكان، لذا بدون مقدمات ركضت بسرعة صوب سالار الذي دخل الجناح يتساءل عما حدث .
كل ذلك كان تحت أعين الجنود التي اتسعت بصدمة لاحتماء الملكة من الملك خلف ظهر قائد الجيوش الاعلى .
وسالار انتفض جسده بقوة وصدمة مما حصل، نظر لها يراها تتمسك بثيابه وهي تهمس :
” ساعدني يا قائد، قولهم اني هعوضهم والله ”
لكن هو كان لا يستوعب ما يحدث، هي تحتمي به من الملك ؟! ما هذا الذي يراه ويسمعه الآن ؟!
وفي نفس الوقت كان دانيار والذي لحق بسالار حتى يتحدث معه يراقب ما يحدث ليبتسم بصدمة واسعة يراقب بتسلية ذلك المشهد المريب والتاريخي، الملكة تحتمي من زوجها المستقبلي في القائد سالار، تخاف الملك ولا تخاف سالار ؟؟
الأمر أشبه أن تخشى ذئبًا، فتركض لتحتمي منه داخل عرين الاسد .
أطلق دانيار ضحكات مكتومة وهو يرى نظرات سالار صوب تبارك، وللعجب هي لم تبتعد وترتعب منها، حسنًا عليه الاعتراف أنها حقًا شجاعة .
ولم يدري دانيار أن الرعب كان كلمة بسيطة على ما تشعر به تبارك في هذه اللحظة بعد نظرات سالار لها، لكن الرعب من شيء تعلمه افضل من خوفها المجهول من ذلك الرجل الذي لا تعلم عنه شيء .
كان كل ذلك يحدث على مرأى ومسمع من إيفان الذي ارتسمت بسمة ساخرة على شفتيه يقول بهدوء شديد :
” عجبًا، يبدو أن ملكتي العزيزة تألفك كثيرًا قائد سالار، عكس ما توقعت تمامًا ”
رفع سالار رأسه لايفان يقول بهدوء شديد مبتعدًا من أمام تبارك :
” لا مولاي، الأمر كله أنها لا تعلم أحد هنا سواي، لذلك ارجو أن تغفر لها حتى تستأنس الجميع ”
هزت تبارك رأسها وكأنها تعلن موافقتها حديثه، فهي فعلًا إن وجدت بديلًا أقل رعبًا من سالار بالطبع ستذهب له .
هز إيفان رأسه، ثم ضيق عيونه يقول بجدية وهو يحدق بتبارك :
” اليوم بعد الغداء ملكة ….”
صمت ثم قال بهدوء وهو يقترب منها خطوات مدروسة حتى توقف أمامها يميل قليلًا هامسًا بصوت هادئ مريح :
” لم تخبريني اسمك. ”
همست تبارك بصوت منخفض :
” تبارك ”
” جميل، اليوم مساءً القاكِ ملكة تبارك، بعد الغداء أريد الجلوس معكِ، إن سمحتي لي بالطبع ”
اتسعت أعين تبارك بصدمة، ثم استدارت فجأة صوب سالار الذي كان يراقب كل ذلك بجمود وملامح مرعبة، وهي ترمقه بتعجب وكأنها تخبره ( انظر هناك رجال طبيعيين في بلادك ؟؟ ما الذي تنتظره تحرك وقم بإبادته ) .
ياالله شتان بين ذلك الهادئ ذو الملامح الوسيمة، وذلك المتحجر ذو الملامح الأوسم، وهذا ينقلنا للسؤال التالي، ما بال رجال هذه المملكة جميعهم بهذا الجمال ؟! هل هناك شيء معين لذلك ؟؟ مادة معينة في المياه لتحسين السلالات ؟؟ استغفر الله هي ستقضي حياتها داخل جدران تلك القلعة مخفضة لعيونها كي لا تُفتن بالرجال .
كانت ملامح تبارك تتغير تباعًا لتفكيرها ولم تنتبه أن هناك من ينتظر منها ردًا، حتى سمعت صوتًا خلفها يقول بنبرة تحذيرية :
” مولاتي، جلالة الملك ينتظر ردك ”
انتفضت تبارك على صوت سالار تهز رأسها بسرعة موافقة دون أن تفكر حتى، ليبتسم لها إيفان ببساطة ثم قال :
” جيد إذن، هناك من سيأتي لتنظيف كل تلك الفوضى، لذلك ارتاحي قليلًا حتى نتحدث، استأذنك”
وبمجرد أن تحرك جمدت بسمته وعادت ملامحه للجدية، يتحرك خارج الجناح وسالار يراقب رحيله، ثم نظر صوب تبارك بنظرات غامضة ومن بعدها لحق بالملك يشير بعيونه للجنود جميعهم، فانفضوا بسرعة كبيرة ..
ولم يتبق غير تبارك في منتصف الغرفة تبتسم ببلاهة :
” طلع محترم ..الملك طلع هادي ومحترم وابن ناس .”
في ذلك الوقت كان إيفان يتحرك صوب جناحه يشير لسالار أن يتبعه بعدما ينتهي من استراحته للبحث فيما حدث خلال غيابه.
لكن وأثناء ذلك لمح بعيونه العاملات يتحركن صوب جناح ملكته لتنظيفه، وواحدة فقط هي من غافلتهم وانحرفت في ممر جانبي تهرب من العمل، ابتسم بسخرية يردد :
” يبدو أن مشرفة العاملات لا تهتم بالقدر الكافي بهن، مالي أرى عاملة تتهرب من عملها كلما استدرت في هذا القصر ”
هز رأسه بحنق ينظر للخارج يسير صوب جناحه وبمجرد دخوله لا يدري ما الذي جعله يتذكر تلك الفتاة التي كانت تنافسه ذلك اليوم في حلبة القتال، ولِم راوده شعور أنه يريد لقاءً آخر معها، ونزال آخر، ترى من هي وماذا تفعل في هذه اللحظة ؟؟
تنفس يجلس على فراشه يتجاهل كل ذلك، ما شأنه بها وبما تفعل ؟؟ عليه الآن أن يفكر في مملكته وشؤنها، وملكته وامورها .
________________
أي جناح ذلك الذي سيجبرونها على تنظيفه؟! هي للتو انتهت من تنظيف الحظائر رفقة صديقاتها الأبقار، والآن كإنسانة حرة يحق لها استراحة حتى ….نهاية اليوم .
لذلك تركت كهرمان ادوات التنظيف جانبًا، نظرت حولها بريبة أن يكون هناك من يراقبها، ثم أطلقت لساقيها العنان تركض بعيدًا عن المبنى بأكمله، تتنفس براحة، بالله تشتاق لحياتها، تشتاق لدلال كانت تحيا به، تشتاق لكنف شقيقها الذي كان يحافظ عليها كما لو كانت درة مكنونة ..
عادت ذاكرتها للماضي وهي ترى الحقول الخضراء أمامها، تتذكر حقول مشابهة لها، مروج واسعة كانت تركض بها مع شقيقها..
صدى ضحكاتها يرن في الإرجاء وصرخات العزيز أرسلان تتبعها وقد بدى عليه للحظات غضب شديد تعلم جيدًا كي ستمحيه .
” كهرمان توقفي في الحال، منعتك من الركض بهذا الشكل في الأرجاء، توقفي كهرمان ”
توقفت اقدام كهرمان فجأة حينما لاحظت نبرة غاضبة وبشدة وجادة في حديث شقيقها، رفعت عيونها له لتراه يحدق بها بنظرات مرعبة، شقيقها والذي كان في نظر الجميع مرعب، لم يكن يومًا كذلك في عيونها، لكن الآن وفي هذه اللحظات كان كذلك .
ابتلعت ريقها تحاول الحديث :
” ارسلان أنا فقط لم ..لم أقصد أن أفعل معه ذلك، هو من حاول أن يتقرب مني بشكل مستفز لذلك …”
ارتفع حاجب ارسلان بقوة يقترب منها خطوات سريعة ممسكًا ذراعها وقد اشتعلت عيونه :
” التقرب لكِ ؟؟ ما الذي فعله ذلك القذر ؟؟ هل لمسك ؟؟”
” لا لا أخي لا تقلق، أنا بالطبع لن أسمح له بذلك، هو فقط …حسنًا كان يلقي نكات سخيفة ومن الواضح أنه يصطنع لطفًا، لم اتحمله لثواني، كيف بالله عليك تتطالبني بالزواج منه، غيّره فلا طاقة لي بهذا النوع من الرجال ”
تنفس ارسلان بعنف شديد يجذب رأسها له بمزاح وقد كان عازمًا على رفض ذلك الشاب على أية حال فهو ليس مستعدًا بعد ليتنازل عن شقيقته، في الوقت الحالي على الأقل :
” وأي نوع من الرجال تفضل الآنسة كهرمان ”
ابتسمت كهرمان تهتف بحب شديد :
” نوعك أخي العزيز ”
وفي ثواني تلاشت الصرامة المصطنعة وعلت نظرات حنان وجه ارسلان وهو يبتسم لها بحب، ثم مال لها كالعادة يعطيها ظهره :
” هيا إذن سأعطيك دلالًا أكثر، كي تقل فرص أي شاب يقترب لسرقتك مني، هيا اصعدي لنعود للقصر”
ابتسمت كهرمان تصعد فوق ظهره بعدما ركضت مرتعبة منه حافية القدمين لاخافتها العريس الذي تقدم لخطبتها، ابتسم أرسلان يتحرك بها وهو يحملها فوق ظهره بحنان :
” يومًا ما عزيزتي، يومًا ما سيأتي من هو أفضل مني، يعاملك كأميرة مدللة، بحنان ورقة متناهية، فلا يليق بكِ سوى الرقة، ولا تستحقين سوى السعادة والحنان اميرتي الجميلة ”
مالت كهرمان تضم رقبته بحب وهي تقبل خده :
” وإن لم يأتي أرسلان، فلا بأس أنا اكتفي بك عالمًا أخي”
” سيأتي عزيزتي، سيأتي من يستحق الأميرة كهرمان، أميرة مملكة مشكى بأكملها ”
خرجت كهرمان من ذكرياتها وهي تنظر أمامها صوب الحدائق بأعين دامعة وجسد يرتجف من الحزن، أين كانت وأين اصبحت؟! من أميرة مدللة في قصر شقيقها، لخادمة وضيعة في قصر من يحمل لشقيقها كراهية ..
هروبها لسفيد كان بطلب من أخيها، فهذه هي المملكة الوحيدة التي ستكون آمنة بها، الوحيدة التي تثق أنها يومًا لن تنحني لعاصفة، لكن معرفتها بالعداوة الأخيرة بين شقيقها والملك ارعبها، ارعبها أن تكشف هويتها كي لا ينالها ضرر، أو اسوء يسلمها بعض الخونة للمنبوذين الذي إن علموا أنها ما تزال حية لاقاموا حروبًا لأجل قتلها .
” آه يا ارسلان لو ترى ما وصل بي الحال إليه، لاقمت حروبًا، آهٍ على شبابك يا أخي، لعنة الله عليهم جميعًا، لعنة الله عليهم جميعًا، رحمك الله عزيزي ”
انهارت كهرمان بقوة ساقطة ارضًا وهي تبكي بصوت مرتفع بحسرة شديدة، تتذكر آخر كلماته وصدى صرخاته يصدح في أذنها، صوته الجهوري يصرخ بها وهو يحارب :
” غادري كهرمان، غادري لسفيد، غادري المملكة بأكملها، لا تدعي حقيرًا منهم يمسك حبيبتي، لا تدعي كافرًا منهم يمسك بكِ كهرمان، غادري وسأعود لاخذك، سأعود لاجلك حبيبتي، اذهبي لسالار هو سيساعدك ”
لكنه لم يعد ولن يفعل، فهي وقبل مغادرة البلاد بالكامل وصلت لها فاجعة قتل جميع أفراد عائلتها وعلى رأسهم شقيقها وسقوط مشكى بين أيادي المنبوذين ..
ارتجف قلبها وهي تحاول التنفس :
” كل شيء سيكون بخير كهرمان، أنتِ قوية، يومًا ما ستعود مشكى، يومًا ما ستعود بلادي …”
أخذت نفسًا عميقًا وهي تنهض تنفض ثيابها، وقد قررت خطوتها القادمة، ستفعل كما أخبرها شقيقها، ستلجأ للوحيد الذي سيساعدها في هذه المملكة، الوحيد الذي أخبرها شقيقها أن تلجأ له ليساعدها …القائد سالار .
________________________
خرجت من الجناح الخاص تود التحرك في القصر لتشاهده، حسنًا هي تشعر بالملل، حياة الملوك مملة وبشدة، ولم تدري تبارك أنها فقط في استراحة قصيرة قبل أن تبدأ حياتها الحقيقية في هذا المكان .
فتحت الباب الخاص بجناحها لينتفض الجنود من أمام الباب غير متوقعين لفتحها الباب فهم هنا من يفتحون ويغلقون الباب خلف من يريد .
ابتسمت تبارك ظنًا أنها اخافتهم، رفعت كفيها تحركهم بشكل مطمئن :
” اهدأوا هذه أنا، أنا فقط سأذهب لاتمشى قليلًا، تحتاجون لشيء أحضره معي لأجلكم ؟؟ مياه عصير او طعام ؟؟”
هل تتعامل معهم كما لو كانت والدتهم الآن ؟؟
وعندما لم يصل رد لتبارك تركتهم بكل بساطة وتحركت بعيدًا عنهم وهم ما تزال البلاهة تعلو وجوههم في محاولة واهية لفهم ما حدث منذ ثواني، الملكة غادرت غرفتها تسألهم إن كانوا يحتاجون لشيء تحضره معها لأجلهم، ثم تركتهم ورحلت بكل بساطة .
وحينما استوعب الحراس ما حدث صرخ أكبرهم في اثنين منهما :
” ما الذي تحدقون به، ألحقوا بالملكة ولا تنزعوا عيونكم عنها وإلا قطع القائد رؤوسنا ”
نعم هددهم سالار قبل الرحيل ألا ينزعوا عيونهم عنها، وهذا لأجل سلامة الملكة، حسنًا هذا ما فهموه هم، أن القائد يخشى أن يصيب الملكة شيئًا، بينما هو كان يفعل ذلك ليس خوفًا عليها، بل خوفًا منها .
سارت تبارك تنظر حولها تلوح لهذا وتبتسم لذلك، والجميع ينظر ينظر لها بأفواه مفتوحة صدمة، ليس لحركاتها الودودة بشكل مبالغ به، بل لطريقة سيرها وكلماتها الغريبة التي تلقيها .
وتبارك كانت فقط تنظر حولها ولم ينقصها إلا أن تشير لهم وتقول ( مرحبًا أنا الملكة هنا ) ..
خرجت من القصر من أحد الأبواب والتي لا تعلم إلى أين يؤدي، لكنها لم تهتم وهي تنتقل من مكان للآخر، حتى وجدت نفسها وفجأة في منطقة واسعة يحيط بها الكثير والكثير من الرجال عراة الجذع يحملون سهام ويصرخون في وجوه بعضهم البعض بعنف، ابتلعت ريقها تشعر أنها ضلت الطريق ..
عادت خطوات للخلف وهي ترى أن الجميع قد بدأ ينتبه لوجودها وبدأت الرؤوس تستدير لها والأعين تتسع بصدمة، ابتلعت ريقها تحاول التحدث تبعد عيونها عن أجسادهم بخجل كبير وقد بدأت ترتجف من الموقف المخيف بالنسبة لها :
” أنا فقط …فقط كنت أبحث عن …”
فجأة توقفت عن محاولة إيجاد تبريرات لما فعلت حينما انتفض جسدها، واجساد الجميع بسبب صرخة مرتفعة صدرت من الخلف :
” اعطوني سببًا واحدًا لتوقفكم عن التدريب ؟؟ ماذا هل أصاب اجسادكم الضعف لدرجة انكم لا تتحملون خمس سبع تمرين متواصل ؟؟”
تمتت تبارك بسخرية مما سمعت :
” والله عيب عليكم . ”
فجأة توقف دانيار عن الحديث وهو يسمع ذلك الصوت، استدار ببطء ليرى الملكة تقف وسط رجاله وهي تحدق بصدمة فيهم، وعندما انتبهت له تبارك رفعت يدها تقول ببسمة صغيرة :
” أنا كنت ..كنت فقط اطمأن أن كل شيء يسير على ما يرام هنا، احسنتم يا رجال ”
نظر لها دانيار بعدم فهم :
” ماذا ؟؟ ما الذي تفعلينه في ساحة التدريب هنا ؟؟ هل يعلم الملك بهذا ؟؟”
ابتسمت له تتراجع بقلق من نظراته الحادة تتساءل في داخلها عن رجال هذه المملكة، ما بالهم يتعاملون معها بهذه الطريقة كما لو أنها جارية هنا، لم ترى أحدهم ينحني لها ويلوح باحترام كما ترى عادة :
” لا أنا فقط ضللت الطريق، والملك لا يعلم بذلك، لذا أرجو ألا تكون من هذا النوع الذي يشبه العصافير وتخبره ”
” أي عصافير وأخبره ماذا ؟؟ ما الذي تفعلينه هنا وسط كل هؤلاء الرجال ؟؟ ”
وتبارك التي لم ترفع عيونها للرجال منذ دخلت بل فقط كانت تحدث في دانيار قالت بخجل :
” أنا فقط ضللت الطريق، سأعود من حيث جئت، آسفة”
وبالفعل استدارت بسرعة تركض بعيدًا عن المكان وقد كاد قلبها يخرج من الرعب، الموقف صعب عليها، تركض في الحديقة تحاول الخروج من تلك البقعة التي ينبت بها رجال عراة الجذع .
تنفست بصوت مرتفع تشعر بالخجل والغضب من نفسها، يالله ما الذي تفعله الآن ؟؟ تنفست كي تهدأ في اللحظة التي رأت بها ثلاثة رجال يقتربون منها محنيين الرأس باحترام، ها واخيرًا هناك من يعاملها كملكة.
” مولاتي رجاءً رافقينا، سنأخذك حيث تريدين بعيدًا عن الجزء الخاص بالجنود، فممنوع على النساء أن يطأن هذا الجزء من القصر ”
أحمّر وجه تبارك بقوة تشعر بالعار مما فعلت، عليها ألا تتصرف دون أن تعلم ما تفعل :
” أيوة ما أنا عرفت .”
نظروا لها بجهل لتهز فقط رأسها وتتحرك معهم، وفي طريقها للخروج من جزء الجنود توقفت فجأة لسماعها صوت صرخات رجولية حادة تخرج من أحد الجوانب في المكان .
نظرت للجنود بعدم فهم :
” ما الذي يحدث في هذا الجزء ؟! هل هناك غرف تعذيب ؟؟”
” لا مولاتي بل ذلك الجزء تابعٌ أيضًا لساحات التدريب، وهذه ساحة قتال والآن مولاي يبارز القائد سالار ”
اتسعت عيون تبارك بصدمة وهي تقول بعدم فهم :
” بيقتلوا بعض ؟؟”
” لا مولاتي، بل هو قتال ودي، تدريب فقط ”
ابتلعت ريقها تسمع الصرخات الحادة :
” تدريب ماذا ؟؟ أنه يقتله ”
ابتسم لها الجندي باحترام يقودها خارج المنطقة بأكملها قبل أن يعلم الملك أو حتى الملك سالار الذي يكره وجود النساء في هذه البقعة :
” لا مولاتي هم يتدربون، لكنهم عنيفون بعض الشيء في قتالهم ”
هزت رأسها تتحرك بعيدًا عن تلك الأصوات التي جعلت جسدها يقشعر رعبًا، هذا وتدريب فقط، بالله ما الذي يحدث في الحروب الحقيقية ؟؟
تنفست براحة حينما وجدت نفسها أخيرًا في حدائق غناء مليئة بأشجار الثمار وهناك العديد من النساء المنتشرين في المكان يقطفون الزهور والثمار .
” ده بقى كوكب زمردة ؟؟ ”
نظر له الجندي بجهل، لكنها لم تهتم بتوضيح مقصدها بهذه الكلمات، ابتسمت تتحرك بين الفتيات تراقب ما يفعلون بانبهار شديد، ليس وكأنها لم تر يومًا مزارعين يحصدون الفواكهه، لكن هؤلاء مزارعون في بلاد غريبة يحصدون الفواكهه .
بينما الجنود توقفوا على حدود المزارع كي لا يخطوا منطقة النساء..
” نحن سننتظرك هنا مولاتي، غير مسموح للرجال بدخول منطقة النساء ”
هزت تبارك رأسها تتحرك للداخل تتأمل المكان ببسمة، فجأة توقفت تبارك لسماعها صوت شجار عنيف يأتي من أحد الجوانب، نظرت لترى هناك فتاة تقف بين مجموعة من الفتيات، وتقبع فوق فتاة تكاد تقتلها ضربًا .
اتسعت عيون تبارك بصدمة تركض صوب ذلك الشجار وهي تتدخل بينهن بسرعة كبيرة مرددة :
” ما الذي يحدث هنا؟؟ أنتِ توقفي عن ضرب الفتاة، ابتعدي عنها ”
ارتفع وجه الفتاة بقوة والتي لم تكن سوى زمرد وهي تنظر لتبارك بشر هامسة من بين أسنانها بنبرة مرعبة :
” إن لم تبتعدي سأتركها وأمسك بكِ أنتِ، انصرفي من وجهي”
شحب وجهها من كلمات تلك الفتاة الوقحة، تهمس داخل نفسها بحنق :
” تقريبا عامة الشعب ليهم احترام عن الملكة هنا، دلوقتي عرفت ليه القائد كان مُصر يجيبني رغم اني معرفش حاجة، اكيد عشان اكون مرمطون هنا، المرمطون مش محتاج مؤهلات ”
تجاهلت تبارك ما يحدث حينما رأت سيدة كبيرة في العمر تفصل بين الفتيات موبخة إياهن بقوة شديدة متوعدة لهن بعقاب رادع، نفخت تبارك وقد شعرت بأن فقاعة انبهارها بالمكان قد تلاشت، وقررت الخروج والذهاب لغرفتها وعد حبات اللؤلؤ في الاثاث هناك، هذا سيكون أكثر متعة من كل ذلك .
لكن وقبل أن تخطي خارج المكان لاحظت بعيونها شاب يقف في أحد أركان المخازن الخاصة بالحصاد، ضيقت عيونها متسائلة :
” هو ده مش كوكب زمردة برضو ؟! الجدع ده سائب كوكب الاكشن والمغامرات وبيعمل ايه هنا ؟؟”
تحركت صوبه بفضول شديد تحاول معرفة ما يفعل، لكنها فجأة توقفت خشية أن يكون أحد رجال العمل، أو أن تتأذى، حسنًا هي ليست بالغباء الذي يجعلها تقترب من رجل في جسد ثور كهذا وتسأله ما الذي يفعله هنا، هي ستذهب وتخبر الحراس بوجود رجل في الداخل لربما يكون لغرضٍ ما، وإن لم يكن، هم سيتصرفون معه وليس هي ..
هكذا هي عقلانية بشكل مبالغ به، حينما تشعر بقرب كارثة أو شيء سييء تتصرف بكل حذر وذكاء، ربما هي غريزة البقاء التي نمت داخل صدرها طوال أعوام طويلة عاشتهم وحدها بلا حامي ..
تحركت صوب الخارج بخطوات واسعة كي تخبر الحراس بوجود رجل في الداخل وتتساءل إن كان ذلك مسموح أو لا .
لكن وقبل أن تفعل ذلك شاهدت بصدمة ذلك الرجل يسحب أمام عيونها فتاة يكمم فمها بقوة يجرها بالقوة صوب أحد المباني .
وفورًا تلاشت غريزة البقاء واندفعت طاقة غضب كبيرة لصدرها وهي تركض بسرعة جنونية صوب ذلك الرجل تصرخ بصوت مرتفع ووسط الجميع :
” أنت…توقـــــف ”
رفع الرجل عيونه بصدمة صوب صاحبة الصوت مصدوم أن أحدهم انتبه له، وحينما رأى امرأة تقترب منه صارخة، أخرج وبسرعة كبيرة حنجرًا يلوح به محذرًا :
” قفي مكانك وإلا نحرتها أمام عيونك ..”
اتسعت أعين تبارك وشعرت بصدرها يعلو وجيبه، تراجعت بريية تنظر حولها على أمل أن يكون أحد قد سمع صرختها، لكنها كانت قد ابتعدت عن المزارع وأصبحت قرب المخازن ..
حسنًا هل يمكن إعادة المشهد وتكمل خطة إحضار الحراس قبل أن تفور داخلها روح ” المرأة الخارقة ” وتتغابى ؟؟
لا، صحيح ؟!
إذن الخطة الثالثة والبديلة ” ألقي نفسك في الكارثة ولتدعو الله لتنجو من عواقبها ”
ووفقًا لتلك الخطة والتي لا تلجأ لها تبارك إلا في المصائب الخطرة، فهي الآن وفي هذه اللحظة على وشك ارتكاب فعل غبي ستندم عليه اسبوع، أو ربما اثنين ……
_____________________
الشجاعة أمر جيد، لكن احيانًا وحدها لا تكفي، وإلا ما أخبرونا أن الكثرة تغلب الشجاعة، والآن القوة البدنية ستغلب الشجاعة كذلك، حسنًا يبدو أن الشجاعة لن تنتصر في حربٍ يومًا، إلا حينما تكون في قتال مع الغباء حينها قد تنتصر الشجاعة ……
يتبع…
كان القتال مستمرًا بينهما، صوت اصطدام السيوف والانفاس العالية هو ما يمكن سماعه، وبسمات سالار وحركاته الرشيقة هي ما يمكن رؤيته في وسط كل تلك المعمعة، وربما يتفوق سالار على إيفان قليلًا، ليس لأنه اقوى منه، بل لأن سالار لم يدع سيفه من يده يومًا سوى في تلك المهمة.
بينما إيفان، والذي يحتم عليه عمله كملك يدير البلاد ويحكم بين شعبها، لا يحمل سيفه سوى لمامًا حينما يقرر أن يتدرب، ولا يخوض حروبًا سوى في الحالات الخطرة وبشدة وهذه الحالات لم تحدث منذ سنوات طويلة في حربهم الأخيرة مع المنبوذين، وحينها يكون الملك هو القائد الاول للجيوش ثم يأتي القائظ الفعلي في المرتبة الثانية بعده..
” يبدو أنك يا مولاي تحتاج لتدريبٍ مكثفٍ ”
ختم سالار حديثه يدفع بسيفه في قوة غاشمة صوب إيفان والذي تصدى له، لكن لقوة الضربة مال جسده للخلف وهو ما يزال يقاوم ويحاول دفع سالار عنه يتنفس بصوت مرتفع :
” ومن يا ترى سيكون معلمي سالار ؟؟ أنت ؟!”
ابتسم سالار بسمة جانبية يبتعد عنه مانحًا إياه فرصة كي يلتقط أنفاسه، وما كاد إيفان يفعل حتى دار سالار بجسده مباغتًا إياه بعنف :
” لا أظن ذلك، ربما في الوقت الحالي نكتفي بدنيار مدربًا لك، وحينما نرى تحسنًا في مستواك، يمكنني أنا أن أكمل معك ”
أطلق إيفان ضحكات صاخبة، يدرك جيدًا أي لعبة يلعبها سالار معه، هكذا هو سالار يحب، بل يعشق استفزازه ..
” آه إن هذا لكرم كبير منك قائد سالار، حقًا لا يسعني شكرك في هذه اللحظة ”
ابتسم له سالار، ثم في ثواني تلاشت بسمته يهجم عليه مستغلًا انشغاله في حالة السخرية الخاصة به، وقد أسقط إيفان دفاعه، ليسقط سالار سيفه ارضًا تحت صدمة إيفان مرددًا بصوت هادئ :
” عدوك لن ينتظرك حتى تنتهي من سخريتك، والافضل ألا تسخر منه قولًا، بل يمكنك أن تسخر منه فعلًا ”
صمت يبتسم بسمة جانبية :
” نعم، تمامًا كما فعلت معك مولاي ”
كان إيفان يحاول أن يستوعب ما حدث منذ ثواني، هل أسقط سالار سيفه للتو؟! هناك من غلبه للمرة الثانية في نزال ؟؟ نفسه الشخص الذي هزمه المرة الأولى ..
تنهد بصوت مرتفع، حسنًا هو يعترف أن لا أحد يستطيع أن يتغلب على سالار، ليس لأنه مقاتل شرس، بل لأن خبرته في القتال والحروب تخطت شراسته، فمهما كنت قويًا، لن تهزم رجلًا نشأ على ذكرى حروب الرسول وقصص معارك خالد ابن الوليد، وعاش سنوات في ارض المعركة .
سالار رجل كرس حياته بالكامل للدفاع عن الوطن ولرد كل الحقوق، لذا هو شاكر أن سالار في صفه وليس في صف عدوه .
لكن إيفان ليس بالخصم السهل ولن يستسلم بهذه السهولة، لذلك مال سريعًا في غفلة من سالار يحمل سيفه ثم عاد للقتال معه وحركات يده كانت سريعة بشكل جعل سالار يبتسم بسمة واسعة مستمتعة، واخيرًا خصم قوي بعد أيام من القتال مع صامد وصمود _ إن سمى ذلك قتالًا _
وبعد ساعة تقريبًا من كل ذلك وحينما لم يصل الإثنان لفائز ألقوا السيوف ارضًا مكتفين بتعادل مؤقتًا .
ليميل إيفان قليلًا وكأنه يرحب يملك يقول بصوت خافت :
” كان قتالًا رائعًا سالار، ذكرني أن نكررها ”
” حينما ترتقي لمستوى القتال معي، ربما نفعلها مجددًا ”
حدق به إيفان بسخرية شديدة وهو يجفف عرق وجهه، يفكر في كيف تحملته الملكة أثناء تلك الرحلة حقًا، فضول شديد اعتراه لمعرفة كيف مرت تلك الرحلة عليهما .
ارتشف سالار بعض رشفات من المياه يرى نظرات الملك له، والتي كانت تبدو غامضة غريبة مما جعله يسخر بمزاح :
” لو أنك امرأة مولاي لكنت قدرت نظراتك حقًا أو لحظة …لم أكن سأفعل، لكن نظراتك لي تلك لا أستسيغها، لذا رجاءً انزع عيونك عني ”
ارتسمت بسمة مخيفة على وجه ايفان الذي كان يفكر في شيء سيثير جنون سالار، وقبل أن يتحدث سمع صوت أحد الجنود يخترق الساحة :
” سيدي هنا معركة في منطقة النساء ”
نظر له إيفان بعدم فهم :
” معركة ؟؟ أليست المشرفة هناك ؟؟ دعها تفصل بين الفتيات ومن ثم ارسلهن لـ ..”
وقبل أن يكمل جملته قاطعه الجندي قائلًا بخوف :
” بل يا مولاي معركة بين أحد الرجال والملكة وفتاة أخرى”
وعند سماع تلك الجملة بصق سالار المياه ارضًا يهمس بعدم فهم :
” الملكة ؟! أي ملكة تلك ؟؟ من أخرجها من جناحها بالله عليكم ؟!”
لكن إيفان لم يتوقف ليطرح كل تلك الاسئلة فهو لن ينتظر حتى يعلم ما يحدث، ركض بسرعة كبيرة وسالار ينظر لاثره بصدمة، قبل أن يلحق به حاملًا سيفه وهو يفكر فيمن تجرأ وتعدي على حرمه نسائهم …
_____________________
كانت تواجهه وهي تحاول أن تخيفه بعدما قررت أن تتبع الخطة البديلة في خطط حياتها، وفي ثواني وقبل أن يستوعب ذلك الرجل شيئًا مالت تبارك ارضًا تحمل حجرًا تلقيه بعنف شديد على قدمه ليطلق الرجل تأوهًا عاليًا هاتفًا بكلمات غير مفهومة لها، لكن هي لم تتكبد عناء محاولة فهمها، وهي تحمل حجرًا آخر اضخم من الاول تنقض به تزيح الفتاة من بين يديه، ثم هبطت به فوق رأسه صارخة :
” لا يحق لك لمسها بهذه الطريقة .”
أطلق الرجل صرخات صاخبة أثارت الرعب في صدر تبارك التي تراجعت للخلف تستوعب ما فعلت، لتقرر الآن أن الوقت قد حان لتهرب، لكن وقبل أن تفعل جذب الرجل حجابها بقوة صارخًا :
” أيتها القذرة سأريكِ كيف تتجرأين وتفعلين ما فعلتي للتو”
وبعد هذه الكلمات شدد قبضته على حجاب تبارك ليخرج في يده، ثم أمسك خصلات شعرها بقوة يصفعها صادمًا رأسها في جدار المبنى الخشبي جوارهم، وصوت صرخات تبارك قد بدأ يعلو ويعلو، والفتاة التي نجت من يد ذلك المعتدي ركضت لتحضر الحرس ..
نظر لها الرجل يبتسم بسمة مقززة وهو يتأمل ملامح تبارك :
” سوف أريكِ الجحيم يا حقيرة ”
بصقت تبارك في وجهه تهتف باشمئزاز :
” رؤيتي للجحيم افضل من رؤيتي لوجهك عن قرب يا حقير”
اشتعلت أعين الرجل بشدة وشعر بجسدة يرتجف غضبًا وهو يرفع يده عاليًا، ولم يكد يهبط بها على وجهها للمرة الثانية حتى اتسعت عيونه بقوة وأطلق شهقة متوجعة .
نظرت له تبارك بعدم فهم، تشعر به يخفف قبضته على شعرها، ابتعدت بسرعة لترى فتاة تقف خلفه وهي تحمل خنجرًا وقد قامت بغرزه في ظهره دون أن يرجف لها جفن، ثم مالت على الرجل وهمست له بكلمات لم تصل لتبارك..
ولم تكن تلك الفتاة سوى كهرمان التي كان جسدها يرتجف، يرتجف غضبًا ورعبًا، ترى الوشم الذي يعلو رقبة ذلك الحقير القاتل، نعم هو واحد منهم، هو أحد المنبوذين الذين قتلوا عائلتها، ودمروا وطنها وحياتها .
ارتجفت يد كهرمان بقوة وهي تسحب الخنجر، ثم مجددًا غرزته وهي تصرخ :
” أوصل سلامي للقذرين امثالك، اقسم أن أجعل جميع ذريتك يلحقون بك ”
سقط الرجل ارضًا بقوة لترتعد تبارك وتعود للخلف مطلقة صرخة مرتعبة، يا الله هي شهدت مقتل رجل للتو، لقد طعنته، كانت أعين تبارك متسعة فزعًا وهي تراقب جثة الرجل ارضًا ..
وكهرمان التي لم تكتفي بعد أخذت تطعن به وهي تصرخ بقهر بكلمات غير مفهومة لتبارك التي شهقت وهي تضع يديها أعلى فمها، ترى الفتاة تنقض عليه بالطعنات وهي تصرخ باكية .
” هذه لأجل امي وأخي، لعنة الله عليكم جميعًا، لعنة الله عليكم يا كافرين، لتتعفنوا في الجحيم، لعنة الله عليكم ”
كانت تصرخ منهارة وتبارك ترتجف، ولم تشعر بشيء سوى بمن يجذبها للخلف، ومن ثم اندفع صوب الفتاة يصرخ فيها :
” كهرمان توقفي، توقفي ما الذي تفعلينه، توقفي لقد مات، لقد قتلتيه توقفي ”
ارتجفت كهرمان بقوة وهي ترفع عيونها لزمرد التي كانت مصدومة أن تتلوث يد الأميرة الناعمة والتي نشأت على حمل الاكواب الخزفية والورود، بالدماء وأي دماء ..دماء رجال بافل.
انتزعت زمرد الخنجر من يد كهرمان تتعجب حصولها عليه، في الوقت الذي وصل به حراس الملك يصرخون بهم أن يبتعدوا عن الرجل .
أبعدت زمرد كهرمان خلفها، ثم حملت هي الخنجر وجسدها يرتجف بقوة مما سيحدث، هذه جريمة قتل، ربما معرفتهم أنه من رجال بافل سيخفف العقوبة، نعم ستخبرهم، لن تدع مكروهًا يصيب كهرمان .
في تلك اللحظة كانت تبارك تحاول أن تستوعب ما يحدث، نهضت من مكانها تمسح دموعها بصعوبة ثم اقتربت من جثة الرجل تقاوم رغبتها في القيء في الوقت الذي سمعت به صوت جهوري يهتف :
” لا أحد يقترب الملكة بلا حجاب، عودوا جميعًا للخلف ..”
ارتعش جسد تبارك في تلك اللحظة تستوعب ما يحدث، تحسست شعرها بسرعة كبيرة وهي تشهق مرتعبة، تبحث بعيونها عن الحجاب حتى سمعت صوت زمرد تقول :
” أنه هناك بجوار الجدار ”
ركضت صوبه تخفي شعرها وهي ترتجف، وفكرة أنه شاهد شعرها تصيب جسدها برجفة، رجفة قوية، القائد رأى شعرها ..
كان سالار يركض خلف الملك، لكن زادت حدة ركضه وسرعته أكثر حينما سمع صرخات الملكة تعلو، اشتد غضبه والتهبت أنفاسه ينتزع سيفه مقتحمًا منطقة النساء يتحرك صوب تلك الصرخات ليبصر فتاة تطعن رجلًا بغضب شديد.
كاد يصرخ بها أن تتوقف، لكن صدمته لرؤية تبارك بلا حجاب وخصلاتها مسترسلة خلف ظهرها جعل كلماته تتوقف في حلقه بصدمة، تنفس بعنف وما كاد يبعد عيونه عنها صارخًا بها أن تغطي شعرها، حتى أبصر بطرف عيونه ركض الجنود والملك نحوهم ليصيح بغضب يعطي تبارك ظهره :
” لا أحد يقترب الملكة بلا حجاب، عودوا جميعًا للخلف ..”
توقف الجميع بمن فيهم الملك الذي اتسعت عيونه بصدمة لكلمات سالار، بينما سالار تلاشى النظر لهم جميعًا ولم يتحدث بكلمة حتى سمع صوتًا خافتًا يتحدث خلفه :
” أنا… أنا لبست الطرحة يا قائد ”
استدار سالار ببطء شديد وكأنه لا يثق في كلماتها، قبل أن يتنهد ويتأكد من الأمر، استدار مجددًا يشير للحراس بأمر :
” خذوا جثة ذلك الرجل بعيدًا، واحضروا الفتاتين والملكة، بكل هدوء صوب القاعة ليتولى الملك الحكم في شأنهم ”
ختم كلماته يترك الجميع متحركًا بعيدًا عنهم دون كلمة إضافية، بينما تبارك تحسست حجابها بخجل شديد وقد شعرت برغبة عارمة في البكاء على تفكيرها الغبي في هذه اللحظة، لكنها لم تستطع منع نفسها من الشعور بالخزي لأنها لم تمشط شعرها منذ ايام وقد كانت خصلاتها هائجة ومتشابكة بشكل …سييء، وهو رآها هكذا، هل هناك موقف آخر سييء لم يرها به القائد ؟؟
لا ينقصها سوى أن يراها نائمة يسيل لعابها حتى يكتمل البوم الصور المخزية في عقله لها ..
_____________________
لا تدري ما الذي جاء بها لهذا المكان، هي ممنوع عليها أن تخطو لمكان خارج صلاحيات عملها، وبالتأكيد مشفى الجنود ليست من ضمن تلك الصلاحيات، لكنها مرتعبة، منذ التهديد الاخير للقائد دانيار والذي أوضح به جيدًا أنه سيتخلص منها إن أثبت أن لها يدًا في إصابة رفيقه وهي مرتعبة، ونعم هي ليس لها يد، لكن ذلك المختل صانع الأسلحة هددها وبشكل مباشر قبل اغماءه أنه سيريها الويل ..
ابتلعت ريقها تتوقف في منتصف المشفى تنظر يمينًا ويسارًا بحثًا عن غرفته، لكن لا تدري أيهما كانت، لذلك فكرت في التراجع والاختفاء عن الأعين فترة و…
توقفت فجأة وهي تسمع صوت مقابض الابواب تتحرك مما جعلها تركض لتختبئ تراقب دانيار يخرج من إحدى الغرفة وهو يتحدث مع الطبيب بجدية كبيرة :
” حسنًا مهيار انتبه له وأنا في المساء سآتي لزيارته مجددًا، والآن سأرحل لاتحدث مع القائد بشأن عقابي ”
أمسك مهيار يد دانيار يردد :
” وأنا كذلك يا دانيار أخبره أن لا قِبل لي بمثل تلك الأمور يا أخي”
هز دانيار رأسه متنهدًا بحنق، قبل أن يربت على خصلات مهيار كما لو كان طفلًا وليس شابًا في الثامنة والعشرين :
” رغم علمي أن حديثي لن يغير ايًا من قراراته، لكن لا ضير في المحاولة ”
وهكذا تفرق الأثنان وابتسمت برلنت بسعادة كبيرة إذ أُتيحت لها فرصة الدخول وتوسل ذلك المختل ليتناسى ما قالته في غمرة رعبها .
دخلت الحجرة تاركة الباب مفتوح خلفها، فهي خالفت القوانين بالمجئ للمشفى، ولا تود أن تزيد من طينتهًا بلًا بالاختلاء برجل داخل حجرة مغلقة ولو كان ذلك الرجل طريح الفراش .
اقتربت منه بريبة وهي تنظر للخلف كل ثانية، ثم تكمل تقدم صوب الفراش بحرص، واخيرًا حينما أصبحت جواره مالت تجلس على ركبتها مبتعدة بشكل مناسب عن الفراش وهي تراه ساقطًا في غيبوبته، المسكين الحقير لا بد أنه يعاني من الوجع .
” سيدي مرحبًا جيتك للإعتذار، هذه أنا، أقصد، حسنًا ربما لا تعلم لي اسمًا، لكنني هي نفسها الفتاة التي ألقيت عليها قنبلة سابقًا واسقطتها عن الدرج بعدما حدت تفجرها للمرة الثانية، واسقطتها عن فرع الشجرة بكل حقارة، ثم هددتها و…”
صمتت برلنت فجأة وكأنها للتو استوعبت كل ما فعله معها، كل مرة قابلها يكون على وشك قتلها، وهي لأنها سبته فقط أثناء خروج روحه يهددها ويرعبها؟؟ ذلك الحقير .
فجأة تراجعت برلنت عن كل ما جاءت لأجله بعدما شعرت بنيران تشتعل داخل صدرها حينما أدركت كل ما فعله معها :
” أيها الحقير تهددني بالهلاك وأنت لم ترني يومًا، إلا وانتهى يومي بالخراب ؟؟ لقد كدت تقتلني في كل مرة قابلتني به، يالله للتو أدركت الأمر ”
نظرت له بتشفي كبير وهو متسطح بملامح شاحبة أعلى الفراش، لتبتسم بكره شديد وهي تقف تراقبه من الاعلى :
” ما تعانيه في تلك اللحظة هو عقاب الله لك، لتذهب إلى الجحيم لن اعتذر لك، وهذا المدعو دانيار اقسم أنني سأشتكيه للملك بسبب تهــ….”
” هل خرقتي القوانين وغامرتي بحياتك فقط لتؤرقي منامي وراحتي يا امرأة ؟؟”
أطلقت برلنت صرخة مرتفعة تتراجع خطوات للخلف، وقد بدأ جسدها يرتجف برعب شديد، وهو تنفس بحنق ينتفض عن فراشه ليس وكأنه منذ ساعات كان ينازع الموت، تحرك عن فراشه وهبط منه يراها تنظر له بأعين متسعة …
ابتسم يقول :
” والآن ما الذي كنت تهزين به وقت تسطحي على الفراش؟!”
” أنا… أنا سيدي … أنا فقط جئت كي …اعتذر ..نعم جئتك اعتذر عما بدر مني منذ ساعات أثناء احتضارك ”
رفع تميم حاجبه بسخرية وهي ابتسمت له، وحينما رأته يقترب منها خطوات مثيرة للرعب أطلقت صرخة مرتفعة جعلت أعين تميم تتسع :
” أيتها الغبية توقفي عن الصراخ سيظن الجميع بنا سوءًا وسنحاكم سويًا ”
بكت برلنت برعب تشير له أن يبتعد :
” ارجوك ارحمني أنا لست سوى فتاة يتيمة مسكينة جئت هنا للعمل لأجل ايجاد منزل يأويني، لقد عشت ليالي دون أن أتمكن من تناول كسرة خبز عفنة حتى، كنت التحف بالسماء وانام على الرمال، اكلت الحشائش و…”
كانت برلنت تسهب في سرد معاناتها عبر السنين السابقة، تبكي بحزن وقد بدأ جسدها يرتجف بقوة وهو يراقبها بملامح بلهاء لا يفهم ما تفعل تلك الغبية، ومن بين كل تلك الحوادث المأساوية أشار لها تميم يقول بعدم فهم :
” يا فتاة أوليس والدك بائع اقمشة ؟؟ ووالدتك ربة منزل ؟؟ ومنزلك يقبع في المقاطعة الشمالية ؟؟ ”
اتسعت أعين برلنت بقوة وقد ثقب تميم لتوه فقاعة البؤس التي كانت تدفع نفسها داخلها، تنظر له بصدمة. هامسة من بين دموعها بصوت مذهول :
” كيف علمت ؟؟”
” كيف علمت ماذا أيتها الحمقاء ؟؟ جميع من بالقصر يعلم الأمر فأنتِ نفسها من تشاجرتي مع فتاة منذ شهر تقريبًا وجئتِ تشتكين للملك وتقصين عليه حكايتك ”
مسحت برلنت دموعها وقد فشلت خطة الاستعطاف التي تتبعها في مواقف عدة، ثم نهضت تنفض ثيابها ومن بعدها نظرت له ببسمة صغيرة تقول بريبة وقلق :
” إذن أنت لن تكون وقحًا وتنتقم مني حينما تصبح بخير ؟؟”
رفع تميم حاجبه مبتسمًا بسخرية، وهي ابتسمت أكثر تنتظر منه إشارة أنه لن يمسها بسوء، وهو فقط أشار صوب الباب يقول بملامح جامدة :
” اخرجي من هنا ”
” هل هذا يعني أنك سترحمني لأجل عائلتي المسكينة على الأقل؟؟ ”
نظر لها بغضب وحنق شديد :
” إن لم تخرجي سأتناسى كل شيء يمنعني من الأمر واتخلص منكِ”
اتسعت بسمة برلنت أكثر وقد شعرت أنه لن يؤذيها، لذلك ركضت صوب الباب تقول بصوت مرتفع :
” حسنًا وأبعد عني ذلك الرجل المسمى بدانـ …”
ولم تكمل جملتها حتى وجدت جسد ضخم يمنعها عن الخروج من الغرفة، رفعت عيونها بصدمة لتجد أمامها الطبيب مهيار والذي أخذ يحرك نظراته بينهما، ثم ضيق حاجبيه يقول :
” امرأة بين جدران مشفايّ ؟؟”
_____________________
الأمر جاد وبشكل خطير تدرك ذلك، الملك على عرشه والفتاتين برؤوس منكوسة أمامه والجنود يحيطون بهما، والمستشارين يحدون الملك من الجانبين، حسنًا ستكون سخيفة إن قالت إن هذا المشهد اعجبها، ليس وكأنها سعيدة بالمأزق الذي سقطت به الفتيات، لكن …حسنًا هي قديمًا كانت دائمة النقد على المشاهد التافهة التي لا يتم الترتيب لها بشكل جيد، وهذا المشهد أمامها كامل متكامل، ربما لأنه ليس مشهدًا بل حقيقة …
فجأة شعرت بجسدها ينتفض حين سماع صوت الملك يتحدث بنبرة لغت في عقلها ذلك الراقي الهادئ الذي كان يتحدث معها سابقًا :
” اريد معرفة كل ما حدث داخل المزارع و…”
سارعت تبارك تبرر ما حدث بسرعة كبيرة رافضة أن يُظلم أحد وهي شهدت بعيونها ما جرى، وعند تذكرها للأمر لا إراديًا ارتجف جسدها من مشهد قتل الرجل :
“سيدي القاضـ…الملك، رجاءً لا تظلم أحدًا منهما، اللوم لا يقع على عاتقهما بل ذلك الحقير كان هو السبب فيما حدث، لقد حاول أن يتهجم على فتاة أمام مرأى ومسمع من الجميع ولم يكتفي …هي يكتفي ولا يكتف ؟؟ مجزومة صح ؟؟”
كانت تتحدث بجدية تدرك أنهم يعلمون أكثر منها في تلك الأمور إن كانت تلك لغتهم الرسمية، لكن نظرات الريبة والصدمة حولها والأعين المتسعة التي تحيط بها جعلتها تدور في مكانها وهي تفكر فيما فعلت :
” ايه مش مجزومة ؟؟ ”
كان إيفان يحدق بها في ذهول كبير، كيف تقاطع حديثه بهذه البساطة، ممنوع منعًا باتًا أن يتجرأ أحدهم ويقاطع حديث الملك دون أن يأمره هو بالحديث .
ابتلعت تبارك ريقها تحاول التفكير فيما قالت، هل أخطأت في قول شيء ليرمقها الجميع بهذا الشكل .
فجأة لمحت بطرف عيونها سالار يتقدم للمكان بكل هيبة وقوة لتنتفض وهي تهم بالركض له لتحتمي به، لكن وكأنه شعر بذلك إذ نظر لها نظرة جمدتها يأمرها بعيونها أن تلتزم مكانها جوار الملك، وهو توقف في منتصف القاعة أمام كهرمان وزمرد يقول :
” هل تسمح لي بالحديث مولاي ؟؟”
نظرت له تبارك باستنكار لما يقول، هل هم في فصل دراسي ليستأذن بالحديث، وما كادت تخبره أن يتحدث مباشرة، حتى قاطعها صوت إيفان يقول :
” لك حرية الحديث قائد سالار ”
هز سالار رأسه يقول بصوت هادئ وهو ينظر للجميع قبل أن يرى وجهها الشاحب لا يفهم ما فعلت تلك الكارثة :
” مولاي لقد اكتشفها أن ذلك الرجل الذي تم قتله بواسطة العاملة هو أحد المنبوذين وقد تسلل لمملكتنا خيفة في ذلك اليوم الذي هجموا به وهرب منهم وظل طوال ذلك الوقت هنا و…”
ومجددًا قاطعت تبارك حديثه مستنكرة لما يقول، وقد مثل جهلها بما يدور حولها كارثة ستدفع بها للهاوية :
” أرى أنه ليس من الجيد وصفه بالمنبوذ، هو الآن بين يدي الله حتى ولو أذنب، فلا يجوز لك أن تصفه بهذه الصفة العنصرية و…”
توقفت عن الحديث حينما أبصرت أعين سالار التي اسودت بشكل مرعب، لتنكمش على نفسها تسمع صوت الهادر يقول :
” ذلك الرجل كافر، مغتصب وقاتل، لا اعتقد أن امثال هذا الحقير تجوز عليهم الرحمة مولاتي ”
حسنًا هذا مفاجئ لها، بُهتت وهي تشعر أنها تلقت لتوها صفعة، هي ظنته أحد الرجال الذين راودتهم أنفسهم على ارتكاب معصية، هزت رأسها تهمس بصوت منخفض :
” أوه، هذا يفسر الكثير إذن، لعنة الله عليه ”
ابتسم سالار بسمة جانبية ساخرة، ثم نظر لايفان بنظرات أقرب للتشفي والشفقة، وإيفان المسكين نظر له نظرة المغلوب على أمره يحاول أن يضع لها حجج في رأسه كي يتغاضى عن أفعالها .
” حسنًا بالاستناد إلى حديث القائد سالار وما حدث من قِبل ذلك القذر، فلن تتحمل ايًا منكما عقابًا جراء ما حدث، بل سيتم منحكما مكافأة مالية لإغاثة رفيقة لكما، وكذلك سيتم إسقاط عقاب فتاة الحظيرة عنها ”
اتسعت عيون كهرمان التي كانت تنظر ارضًا تحاول أن تهدأ بعد ما حدث معها، لكن فجأة رفعت رأسها بصدمة تستنكر ما سمعت :
” فتاة الحظيرة ؟؟ هل تمزح معي ؟؟”
اتسعت عين إيفان بقوة وهو ينظر لها بشر بينما هي صُدمت حين سمعت صوت شهقات في المكان لتدرك أن صوتها كان أعلى مما تخيلت .
ابتلعت ريقها تهمس بصوت خافت :
” أقصد أنني شاكرة لك ولكرمك مولاي ”
ابتسمت زمرد بسمة صغيرة، ثم نظرت ارضًا تقول :
” اسمح لنا بالمغادرة مولاي ”
تنحنح إيفان يحاول تمرير ما سمع منذ ثواني، يبدو أن اليوم ليس يوم حظه مع النساء، أشار لهما بكفه أن يرحلا، ثم نظر لسالار وقال بصوت غامض :
” تعلم ما ستفعله قائد سالار ”
هز سالار رأسه بهدوء شديد، ثم غادر دون كلمة أو نظرة واحدة حتى صوب تبارك والتي كانت تلوح له بيدها في محاولة بائسة لجذب انتباهه، تريد فقط أن تخبره بشيء و…
فجأة انتبهت لنظرات الملك المستنكرة لها، وهي ابتسمت بهدوء :
” أنا.. أنا آسفة على ما حدث، لم أكن أعلم ما يدور ومن هم المنبوذون ”
تنهد إيفان بصوت مرتفع ثم قال :
” ملكة تبارك ”
ورغم تعجبها لتلك الكلمة، وصعوبة ابتلاعها لها، إلا أنها اومأت له تنتظر أن يتحدث، ليبتسم هو قائلًا:
” رجاءً تحركي مع الجنود صوب مخدعك، وخذي قسطًا من الراحة حتى موعد الطعام ومن ثم نتحدث، حسنًا ؟!”
هزت رأسها بلا اهتمام :
” وماله، انا اصلا تعبانة ”
” ماذا ؟!”
نظرت له تتذكر كلمات سالار بشأن العامية :
” أقول لا بأس أنا أشعر بالتعب الشديد حقًا و…”
الآن نفذت جميع كلماتها الفصحى، حسنًا لا بأس ستهز رأسها وينتهي الأمر، وهكذا بدأت تهز رأسها له وإيفان شعر بالريبة الشديدة وهو يعود برأسه لخلف ثم ابتسم بعدم فهم لما تفعل :
” حسنًا … امممم ..سيرشدك الجنود لمخدعك ”
وخجلت هي أن تسأل معنى كلمة ( مخدعك ) لكنها خمنت أنها غرفة، لِم لا يقول غرفتك فقط، هل يود التفاخر أمامها بلغته الفصحى ؟؟ لا وألف لا، هي من جيل شباب المستقبل ومن أبناء سبيستون، ستريه كيف تكون الفصحى، لكن حينما تستيقظ لاحقًا، الآن ستذهب لترتاح حتى تستعد للمعركة .
” طيب ”
وبهذه الكلمة تحركت عن مقعدها ترفع رأسها للأعلى تتحرك خارج القاعة دون أن تأبه بأحد حولها، أو تهتم لنظرات من يحيطها، فقط ابتسامة ثقة، ومشية مليئة بالرجولة هي كل ما صدر منها ..
تنهد الملك براحة متنفسًا الصعداء هامسًا :
” الآن فقط أدركت سبب بسمة سالار المتشفية ”
بينما تبارك خرجت من القاعة تشعر بالاختناق الشديد، لقد ملت حياة الملوك والقيود، ملتها قبل حتى أن تبدأها .
تنهدت بصوت مرتفع وهي تلمح رجل ذو شعر اسود وبشرة بيضاء وأعين ملونة يتحرك في الساحة يحمل حاوية سهام خلف ظهره لتتنهد بحنق :
” مش ده قليل الادب اللي زعق ليا الصبح ؟؟ اكيد واحد من رجالة سالار، لازم يعرف أنه قلل من احترامي”
انتبه دانيار والذي كان يتحرك صوب جناح سالار بعدما أرسل له جندي كي يحضره، لها وفجأة توقف حينما رأى الملكة تتحرك أمامه وهي ترمقه بنظرات غير مفهومة جعلته يتحدث بهدوء :
” هل يمكنني مساعدتك مولاتي ؟؟”
رمقته تبارك من أعلى لاسفل بعداء واضح وقبل أن تتحدث سمعت صوت سالار يقول بصوت جهوري :
” دانيار دعك منها وتعال بسرعة ”
راقبت تبارك المدعو دانيار يتركها ويتحرك صوب سالار الذي رمقها بشر قبل أن يختفي داخل المبنى الخاص بالغرف، وهي ما تزال تقف بذهول مما يفعل :
” ده أنا لو قاتلة ليه قتيل مش هيتعامل معايا معاملة العبيد دي، أنا مش فاهمة ملكة ايه دي اللي جايبني عشان اكونها؟؟ ده انا لو هشتغل جارية هنا اكرملي، على الأقل هقبض في الآخر، إنما أنا بتهزق من الرايح واللي جاي ببلاش ”
سارت صوب حجرتها بغضب وخطوات قوية وودت لو تركض بين الطرقات، والحنق يملئ صدرها بقوة وقد شعرت بالنقم من ذلك القائد والآخر دينار أو لا تتذكر ما اسمه، وكذا الملك الذي لا يساعد في اعطائها هيبة مستحقة لكونها الملكة هنا رغم احترامه وتقديره لها…
لعنة الله على مملكة لا تحترم ملكتها، تقسم أنها لو تعرف فقط طريق العودة لكانت عادت .
_____________________
” إذن ماذا ستفعلين ؟! ”
خلعت زمرد ثيابها المزعجة التي تقيدها في الحركة تحتفظ بسروال ضيق وثياب علوية قصيرة بعض الشيء، تتنفس براحة شديد :
” سأذهب لذلك الغبي قائد الرماة وأخبره أن يعيد لي سيفي، فبعد اهدارك لخنجري العزيز على ذلك القذر لم يعد لنا من أسلحة ندافع بها عن أنفسنا ”
نظرت لها كهرمان باعتذار شديد، لكن زمرد ابتسمت وهي تخبرها أنه لا بأس بما فعلت .
بينما برلنت والتي أصرت على أن تنتقل للمبيت في غرفتهم خوفًا أن ينتقم منها ذلك المختل تقول :
” ذلك المدعو دانيار، يا لطيف كم هو مرعب وحقير ”
” نعم برلنت هو حقير، جميع جنود الملك كذلك، وايضًا الملك نفسه حقير ”
كانت هذه جملة زمرد وهي تحرر خصلات شعرها بغضب شديد، بينما هزت كهرمان رأسها تؤيد ما قالته زمرد :
” صحيح الملك حقير، لكنني سمعت أن القائد سالار أفضل منه، دائمًا ما كان اخي يخبرني عنه وعن مروئته وقوته ”
وفورًا ارتسمت بسمة على فم برلنت تقول :
” القائد سالار ؟؟ يا فتاة هو رجل احلام أي امرأة، هو والملك، أنهما رائعان ”
رفعت زمرد حاجبها بسخرية، ثم ألقت نفسها على الفراش تنظر لبرلنت بشك :
” ما الذي حدث لكِ اليوم برلنت بعدما ذهبتي للمشفى ؟؟”
ابتلعت برلنت ريقها تتذكر امساك الطبيب بها في حجرة صانع الأسلحة لتقول بصوت خافت :
” لقد كادت كارثة تسقط أسفل رأسي لولا مساعدة القائد تميم، لا أصدق أنه فعلها لكنه ساعدني على أية حال، حسنًا هو مدين لي بالكثير لقد اخبر الطبيب أنني من وجدته وانتقذته وهو اسقط قلادته وأنا ذهبت لاعيدها ”
صمتت بعدما انتهت من حديثها، لكن بالنسبة لزمرد لم ينتهي الأمر عند تلك النقطة، فاحمرار وجه برلنت يوحي أن ما حدث أكثر من ذلك، لكنها لم تجادلها أو تتدخل أكثر، يكفيها ما تمر به هي .
تحركت صوب النافذة كي تستنشق بعض الهواء النقي وهي تفكر في القادم، ما الذي ستفعله لاحقًا، هل ستستمر حياتها بهذا الشكل الروتيني الممل ؟؟ تحيا وتموت فقط لتعمل كخادمة وتتركهم احياء يتنعمون في رغد الحياة ؟؟
لا والف لا، تقسم أنها ستريهم من الويل ما يشيب الرأس.
ومن بين أفكارها انتبهت زمرد لاجساد ترتدي الأسود بالكامل تتحرك في الظلام بحركات رشيقة، أحدهم يحمل سهامًا والآخر يسبقه بسيوف عدة، والثالث يسحب خلفه سلاسل حديدية
مالت برقبتها تحاول معرفة ما يحدث، لتجد أن هناك ثلاثة رجال صعدوا على الخيل وتحركوا خارج القلعة بسرعة كبيرة .
” ترى ما الذي يحدث هنا ؟”
_________________
هناك حيث تلك الأجساد التي اتخذت الليل ستارًا لهم واتشحوا بالسواد كي يندمجوا به .
ارتجف جسد تميم بقوة وهو يتحسس جرحه الذي ما يزال حيًا، وعيونه تحلق حول سالار بغيظ شديد، غيظ مكبوت من الصعب التعبير عنه، أو يمكن القول من المستحيل التعبير عنه .
لا يتذكر سوى أنه كأي مريض يعاني آلامًا، كان يتسطح على فراشه يفكر في تلك الفتاة التي اقتحمت غرفته، والتي ركضت تختبئ خلفه وتتحامى به من مهيار تهمس له بجزع :
” انتهى امري ”
نظر لها بعدم فهم، ثم نظر أمامه لمهيار الذي كانت عيونه تتعجب وجود امرأة في مشفى الجنود حيث لا يمكن لامرأة أن تتواجد، لكن فجأة شعر بيد تميم ترفع رأسه مبعدة إياها عن تلك الصغيرة خلفه :
” هي جاءت لرؤيتي كي تعيد لي قلادتي مهيار، فهي من وجدت جسدي غارقًا في دمائي وابصرت قلادتي ملقاه جواري، فجاءت لتعيدها ”
ورغم أن مهيار لم يقتنع، كان تميم غير مهتم البتة وهو ينظر لبرلنت خلف ظهره بجدية :
” اخرجي من هنا ولا تخطي هذه المشفى مجددًا لأي سببٍ كان ”
هزت رأسها تركض كالقذيفة ولا تصدق انها نجت، كانت ضربات صدرها تكاد تتوقف من رعبها ..
بينما تميم تابعها بعيون غامضة، ثم صرف مهيار بطريقته وتسطح على فراشه لينال قسطًا من الراحة، لكن وبعد ساعة وحينما بدأ النوم يداعب جفونه، اقتحم سالار غرفته وصفع النوم مبعدًا إياه عنه، وسحب جسده عن الفراش يهتف دون النظر له :
” هيا سنذهب لنأخذ بثأرك ”
وتميم المسكين لم يكن يعي ما يحدث، سوى أن جسده سُحب خارج الغرفة وخرج من المشفى بأكملها، ليجد دانيار ينتظرهم أمام بوابتها يلقي في وجهه ثياب القتال :
” هيا يا فتى ارتدي ثيابك كي لا نتأخر ”
نظر لهما تميم يحاول أن يعلم ما يحدث هنا، لينتبه أخيرًا لثياب سالار القتالية والتي تتألف من بنطال قماشي اسودي وسترة من نفس اللون، ودرع اسود كذلك الذي كان يستخدمه في الغارات الليلة كي لا يعكس الإضاءة كالذهبي ويفضحهم .
وعلى خصره حزام يحوي سيفين.
والعزيز دانيار كعادته يرتدي لثامه وثيابه البنية وعلى كتفه حامل سهام وبين يديه قوسه، وفي اليد الأخرى يحمل سلسلته الحديدية .
ابتسم دانيار يلقي بالسلسة صوب تميم يقول ببسمة :
” هاك سلاحك، القائد سيأتي معنا ليشرف بنفسه على أخذك لثأرك ”
نظر تميم لثيابه ولسلاحه بين ذراعيه :
” الآن؟؟ في هذا الوقت وأنا بهذه الحالة ؟!”
اقترب منه سالار يهتف من بين أسنانه وبالقرب من وجه تميم وبصوت كالفحيح :
” الثأر يفضل أكله ساخنًا، وقبل أن يبرد جرحك، فهمت ؟؟”
هز تميم رأسه بسرعة يردد :
” فهمت ..فهمت يا قائد، سأتناوله مشتعلًا”
وها هو الآن فوق صهوة حصانه يسير مع سالار ودانيار لتناول وجبة ثأره ساخنة كما يقول سالار والذي جُنّ حنونه حين علم باقتحام المنبوذون لمملكة هو بها، أخذ يصرخ حينما علم أنهم يريدون إرسال رسالة لهم ليردد ببسمة مرعبة :
” حسنًا وأنا أيضًا سأرسل لهم رسالة، أنا كذلك لدي أصابع لكتابة الرسائل، ولكن رسالتي ستكون بدمائهم ”
ساعات مرت قبل أن تتوقف الأحصنة على حدود المملكة المشتركة مع مشكى، أشار لهما سالار بالهدوء، ثم بعيونه قام بعمل إشارة لدانيار الذي ابتسم وهو يهبط عن خيله يتحرك بخفة خلف بعض الأشجار وحينما توقف امسك القوس ووضع به أربعة سهام يراقب المنبوذين على الحدود ..
وابتسم بسمة جانبية قبل أن يطلق سهامه بقوة جعلتها تخترق الأجساد مسقطة إياها ارضًا دون حتى أن يستوعب أحدهم طريقة موته .
اتسعت أعين باقي الرجال وقبل أن يطلق أحدهم كلمة واحدة لتحذير الباقيين، كانت سلسال تميم الحديدية تلتف حول رؤوسهم بقوة مرعبة وهو يجذب طرفيها حتى خنقهم جميعًا ..
ظل سالار فوق حصانه يفحص الرجال المسطحين ارضًا، ثم تحرك داخل حدود مشكى، يقول بصوت خافت :
” تناولوا وجبتكم اعزائي، ريثما اكتب لبافل رسالة شكر عن زيارة رجاله الأخيرة ”
ختم كلماته وهو يتحرك بكل هدوء داخل المملكة وقد أنزل قلنسوة رأسه يخفي ملامحه، يبصر بطرف عيونه خيالات تميم ودانيار ..
زاد سالار من سرعة حصانه يقوده صوب قصر ملك مشكى السابق والذي كان رفيقه، لا يدري ما الذي حدث ولم يستوعب حتى الآن صدمته حين اكتشف ما حدث له..
اغمض عيونه بغضب شديد وحسرة ووجع أكبر يتذكر أرسلان العزيز والذي كان صديقًا لهم جميعًا قبل خلافه الاخير مع إيفان والذي أدى لنشوب حرب باردة بين المملكتين .
وجع نخر صدر سالار وبقوة وهو يسمع صوت أرسلان حوله وكأن جدران مملكته أبت إلا أن تحتفظ بصدى صوت ملكها العادل .
” ربما يومًا ما يا صديقي أوافق على منحك جوهرتي الغالية وازوجك شقيقتي الحبيبة”
نظر سالار صوب أرسلان ببسمة جانبية حانقة:
” لا يا عزيزي فلتحتفظ بجوهرتك هنا، فما لي والجواهر أنا، لا قِبل لي بالتعامل مع النساء، فما بالك لو كن كشقيقتك ؟! أنا إن أردت امرأة، اريدها قوية شرسة ولا تخشى سوى الله”
أطلق أرسلان ضحكات مرتفعة :
” إذن علينا أن نبحث لك عن فتاة حرب وليس زوجة، ثم أنا امازحك، فأنا لن اترك شقيقتي تتزوج وتبتعد عني ”
صمت ثوان ثم قال بجدية :
” سأنتظر ذلك اليوم الذي سيأتي فيه فارسًا شجاعًا يلقي سيفه أسفل أقدامي، ثم يركع طالبًا ودّ غاليتي، وفي النهاية ارفضه ”
خرج سالار من ذكريات حينما أصبح على مشارف قلعة مشكى، المكان الذي كان يفتح له أبوابه حينما يقترب منه بأمر من أرسلان :
” رحمة الله عليك وعلى جميع أفراد عائلتك يا صديقي، سأقتص لك، اقسم أنني سأقتص لك منهم اجمعين، عشت رجلًا ومت بطلًا يا صديقي، رحلت شهيدًا فهنيئًا لك الجنة”
ختم حديثه وقلبه يرتجف تأثرًا، ليس من السهل أن يتأثر رجلٍ كسالار بالموت خاصة وهو يرى الجثث في حياته أكثر من رؤيته للأحياء، لكن أرسلان لم يكن رفيق يوم أو حتى عام، أرسلان كان صديقه منذ ثلاثين عامًا، فترة كاملة ليبكي رحيله، لكن لا وألف لا، والله لن تهبط دمعة واحدة عليه حتى يقتص له ويجد جثته التي أخفاها هؤلاء الملاعين ويدفنه وحينها يمكنه أن ينهار باكيًا على قبر صديقه ويرثيه .
تحرك سالار صوب الجزء الخلفي من القلعة، حيث تحيطه أشجار كثيفة، ابتسم يسحب أحد أفرع الشجرة جانبًا ليظهر أمامه بوابة خفية تُستخدم في حالات الطوارئ..
فتح البوابة ودخل للقلعة بكل سهولة ويسر وللعجب لم يعترض أحد طريقه، همس بسخرية لاذعة :
” آهٍ من خنازير أمنوا مكر الأسود .”
تحرك صوب المبنى الرئيسي في القصر وأعينه تلتمع بالشر وهناك بسمة مخيفة ترتسم جانب شفتيه :
” بافل أيها الحبيب، أنا قادم …”
سحب سيفيه يتحرك للداخل وحوله هالة سوداء مرعب، كان كما الموت يسير على قدمين .
توقف أمام بوابة القصر ليجد رجلين أمامه فتعجب من وجود حراس وهو الذي لم يبصر حارسًا واحدًا في طريقه :
” أوه، ما الذي تفعلانه هنا يا رجال، هل أغلقوا البوابة عليكم في الخارج ؟!”
انتفض الرجلان بسرعة كبير وتحركت أيديهم صوب السيوف الخاصة بهم ولم يكد أحدهم يسحب سيفه حتى كانت سيوف سالار تخترق أجسادهم يقول بهدوء :
” تأخرتم في الإجابة …”
سحب سيوفه يمسح دمهم القذر باشمئزاز في ثيابهم، ثم دار حول القصر ليجد ثغرة يدخل منها، وفي هذه اللحظة شكر أرسلان داخله والذي استأمنه يومًا على ثغرات بلاده .
دخل القصر واخيرًا يسير بين ممرات الغرف بكل هدوء وهو يصفر كعادته صفارة تنبأ بالموت، صفارة لا تصدر من فم سالار سوى وقت حضور شياطينه، صغير لقبه البعض في المعارك بـ ( صفير الموت ).
كانت صفارته تصدح بين جدران القصر ليسمعها رجل من رجال بافل ويرتعش جسده بقوة يختأ خلف جدار كالفأر الهارب من قط شرس، يالله هو لا يصدق أنه نجى منه في آخر حرب بينهم، بعدما قتل سالار شقيقه وكاد يقتله هو، لكنه نجى بأعجوبة .
كان صوت انفاس الرجل المرتعبة يصدح في المكان وهو ينظر للممر الرئيسي يبحث عن سالار وقد توقف صوت صفيره، تنفس الصعداء أخيرًا، لكن فجأة سمع صوتًا جوار أذنه يهمس بفحيح :
” مرحبًا …”
اتسعت اعينه ولم يكد يصرخ أو يستدير حتى، يشعر بسيف يمر على رقبته ليسقط ارضًا على ركبته وقد انبثقت الدماء منه كالنافورة، وسالار دفع جسده بقوة، ثم أكمل تحركه داخل جدران القصر وكل من يقابل من الرجال يتخلص منه، الأمر في غاية السهولة، ليس لأن سالار قاتل محترف، بل لأنهم هم من لا يفقهون شيئًا في الأسلحة سوى أنها معدن، لذلك كانوا يخسرون حروبهم بمنتهى السهولة، مشربة ماء .
تحرك حتى توقف أمام بوابة كبيرة، حجرة أرسلان القديمة، ابتسم بسمة جانبية ينظر للحراس على الباب يقول بهدوء :
” إن تركتموني أدخل سأرحمكم ”
نظر الحراس لبعضهم البعض برعب ورغم جهلهم لهوية المتحدث، والذي لم يسبق لهم أن تواجهوا معه في معركة، إلا أن هيئته وصوته وأسلحته التي تقطر دماءً رسمت له صورة مرعبة في هذه اللحظة .
رفع الرجال أسلحتهم في وجه سالار :
” تراجع للخلف واترك اسلحتك ارضًا ”
نظر لهم سالار من خلف قلنسوته، ثم نفذ لهم ما يريدون تاركًا أسلحته ارضًا، يرفع يده في الهواء وهم تقدموا صوبه متخليين عن حذرهم مهددين إياه بعيونهم، وسالار الذي يرفع يديه في الهواء في ثواني استخلص خنجرين من داخل حافظة الخناجر التي يتركها في اكمامه، ليخترق في الثانية التالية أجساد الحراس .
سقط الاثنان ارضًا وسالار حمل سيوفه وتحرك بهدوء صوب غرفة بافل فتح البوابة بكل بساطة ودخل ليراه ينام قرير العين على فراش رفيقه، ينام هانئ البال بعدما قتله بكل دم بارد وأقام مذابح بحق شعبه وجنوده .
اقترب سالار خطوات يهمس بفحيح وصوت منخفض :
” لا، لا تخف لن اقتلك بهذه السهولة، ولن اهاجمك اعزلًا هانئًا، ستكون ميتتك اسوء مئات المرات من ميتة والدك القذر ..”
صمت ثم نظر صوب الرجال الملقيين في الخارج، يبتسم بخبث :
” أنا فقط جئت أرسل لك ردًا على رسالتك التي أرسلتها لنا…”
_____________________
ماذا يفعل ذلك الذي يشعر بالجوع داخل جدران ذلك القصر الواسع ؟؟ تقسم أنها إن فكرت حتى في البحث عن المطبخ فستموت جوعًا قبل أن تجده في تلك المتاهة.
” ليه مثلا ميعملوش تلاجات في الأركان كده زي كولدير الصدقة، بحيث لو حد جاع يلاقي اكل ؟؟”
ختمت تبارك كلماتها وهي تسير بين الممرات، فهي منذ حادثة الصباح وقد سقطت في نوم عميق لم تستيقظ منه سوى منذ دقائق قليلة :
” اكيد طبعا أكلوا كلهم ومحدش فكر يصحيني عشان يسألني لو جعانة أو حاجة ”
هتفت من بين أنفاسها بغضب شديد وهي تحارب ذلك الثوب الطويل الثقيل الذي اضطرت لارتدائه بعدما صادروا ثيابها وهي نائمة :
” معقولة كل مخرجين الافلام معرفوش يجسدوا حقيقة معاملة الملكات في العصور القديمة، وقعدوا يعرضوا لينا مشاهد خادعة للناس وهي بتحترمها وتقدرها، وانا هنا ناقصني بس انضرب بالجزمة عشان تكتمل المهزلة ”
توقفت عند مفترق طرق في القصر وضيقت عيونها تنظر يمينًا ويسارًا تفكر أي الطرق تسلك، وفي النهاية اخذت نفس عميق وقررت أن تستخدم عقلها وحدسها وفورًا رفعت إصبعها تقول :
” حادي بادي كرنب زبادي ..”
وبالتزامن مع نطقها لتلك الكلمات سمعت صوتًا هادئًا يصدر من الخلف :
” اليسار يؤدي لمساكن العاملات، واليمين لباقي القصر والمخرج، أين تريدين الذهاب أنتِ ؟!”
انتفض جسد تبارك تنظر خلفها صوب صاحب الصوت والذي لم يكن سوى إيفان والذي عاد لتوه من جولة سريعة على حصانه قبل خلوده للنوم .
ابتلعت تبارك ريقها تشعر بالتوتر الشديد من وجوده في محيطها ولا تدرك السبب، ربما لما حدث في الصباح ورؤيتها لوجهه الآخر، أم لأنه الوحيد الذي يعاملها كملكة هنا ؟؟
” أنا.. أنا فقط كنت ..في الحقيقة شعرت بالملل وخرجت لاستنشاق بعض الهواء مولاي ”
ختمت جملتها تنظر ارضًا بهدوء ورقي كما فعلت تلك الفتاة صباحًا في المحكمة، لا ريب أن تقلدها قليلًا كي تتماشى مع الأمور حولها .
ابتسمت إيفان لها يقول بهدوء شديد :
” إذن لن تمانعي مرافقتي لكِ في جولة قصيرة داخل القصر ؟؟”
ودت لو تصرخ وتقول أن مخزون الطعام داخل معدتها لا يكفي لخطوتين، ومن بعدها ستفقد كل ذرة طاقة داخل جسدها، لكنها رغم ذلك ابتسمت تهز رأسها:
” بالطبع لا أمانع مولاي ”
وبحركة غبية ظنتها هي راقية أشارت له بيدها مبتسمة :
” من بعدك مولاي ”
نظر لها إيفان بتشنج وقد اتسعت عيونه وهو يراها تميل بنصف جسدها تدعوه هو أن يسبقها، أليس من المفترض له أن يفعل هو ذلك ؟؟
وتبارك التي استوعبت فجأة ما فعلت قالت :
” أنت اللي بعدي صحيح ؟؟”
نظر لها بحاجبين معقودين بعدم فهم، وهي ضمت قبضتها أمام فمها تقول بصوت منخفض :
” كنت امزح، هيا اتبعني ”
سارت تسبقه بسرعة وهو يراها تسير نفس تلك المشية الغريبة ليقلب عيونه تابعًا إياها بسرعة يدعو داخله أن يلهمه الله الصبر .
جلس الاثنان في حديقة القصر الخلفية على طاولة أسفل القمر لتشرد تبارك في هذه الحياة، يا الله هي لا تصدق أنها الآن في موعد غرامي مع ملك، ملك وهي ملكته ؟؟
أفاقت فجأة على صوت الملك يقول :
” إذن ملكة تبارك هل يمكنك أن تحكي لي عن حياتك ؟؟ ومهاراتك وكل ما تعلمينه من هذه الحياة ”
نظرت له تبارك ثواني تتعجب سؤاله :
” هكذا وبدون مقدمات ؟؟ أنت حتى لم تمنحني فرصة التعرف عليك كي امنحك ثقتي واخبرك كل شيء بخصوص حياتي ”
اتسعت عيون الملك من حديثها، هل تظنه جاء ليرافقها ؟؟ تلك الفتاة أمامه لا تستوعب أنه وخلال أيام سيتم زواجهما وتنصيبها بشكل رسمي كملكة ؟؟
وقبل أن يخبرها بكل ذلك تنهدت تبارك وهي تعود بظهرها على المقعد :
” لكن ولأنك سألت، وكما يظهر عليك أنك شخص جيد، سأخبرك، بدأ الأمر حينما ولدتني أمي في ليلة ممطرة …”
وهكذا وجد إيفان نفسه مجبرًا للجلوس وسماع قصتها بأكملها منذ كانت رضيعة، ومشاكلها مع الإبر الطبية، وأم أنور جارتها ونساء المنطقة التي كانت تقطن بها .
وبالطبع تلاشت تبارك الجزء المظلم من طفولتها وحياتها، فلا هي تحب تذكره ولا تهوى الحديث عنه .
كان يسمعها وهو يبتسم دون شعور وهي تحرك يديها تصف له كل شيء ليضحك إيفان دون شعور منه عليها
وبعد ساعات طويلة أخذت تبارك نفس عميق تختم قصتها :
” وبهذا الشكل وجدت نفسي اقف أمام ابواب القلعة مع القائد بعدما ودعنا صامد وصمود ”
ابتسم لها إيفان يتابع حركات يدها الغريبة، يقول بتسائل :
” قصة مشوقة حقًا، لكن أعتقد أن هناك شيء فاتك، أنتِ لم تذكري لي شيئًا بخصوص مهاراتك القتالية ؟!”
” أي مهارات قتالية تلك ؟! أنا ولدت في حارة وليس في ساحة حرب، أنا فتاة سلم يا سيدي ”
رفع إيفان حاجبه بعدم فهم :
” ونحن لسنا دعاة حرب مولاتي، لكن رغم ذلك نحن نستطيع القتال ونعلم من فنون القتال ما يعجز العقل عن تصوره، وبصفتك ملكة فأنتِ مكلفة أن تتعلمي فنون القتال المختلفة، وهذا ضروري ”
نظرت له تبارك بملامح حانقة رافضة، لكن رغم ذلك تنهدت بصوت مرتفع تود أن تخبره أن هذا ما تعلم وإن لم يعجبه فليعيدها إلى منزلها، لكن ما صدر من إيفان هو أنه تنهد فقط يقول وقد توقع الأمر مسبقًا
” حسنًا لا بأس أنا سأتدبر أمر كل ذلك وفي اسرع وقت قبل التتويج، والآن دعينا نعود للغرفة كي لا يصيبك برد بسبب الطقس هنا ”
تحركت معه تبارك تتمتم داخلها بتعب وإرهاق شديد وهي لم تتناول طعام حقيقي منذ بداية رحلتها التي اعتمدت خلالها على القليل فقط من الطعام المعلب كالتسالي ورقائق البطاطس .
وصلت تبارك لجناحها، ثم شكرته تدخل له، وهو تحرك صوب جناحه، وبمجرد أن أبتعد عن غرفة تبارك حتى فتحت الأخيرة الباب مبتسمة تتحرك للخارج بهدوء …
____________
بينما إيفان لم يذهب صوب جناحه بل تحرك جهة ساحة التدريب فقط كي يشغل تفكيره عن كل ما يؤرق عقله، وينتظر عودة سالار ودانيار وتميم .
حمل سيفه ينظر له ثم ابتسم فجأة بسخرية حينما تذكر كلمات سالار له، هل حقًا تضائلت قدراته القتالية أم أنه فقط يزعجه ؟؟
حرك إيفان السيف في الفراغ ببطء يستمتع بصوت اصطدامه بالهواء حوله وكأنه يقاتله، رفعه في الهواء يحركه بقوة يتخيل عدوًا وهميًا أمامه، لكن فجأة سمع صوت خطوات خلفه، هناك من يقترب منه، وفي ثواني قليلة استدار إيفان بسرعة يرفع سيفه موجهًا إياه على المتسلل لتشتد حدة عيونه وهو يرى نفس العيون التي جابهته تلك المرة دون اهتمام لكونه الملك، ابتسم إيفان بسمة واسعة غريبة :
” انظري لتدابير القدر، منذ لحظات فقط كنت أبحث عن عدو يبارزني ”
ابتسمت له كهرمان من خلف لثامها، ثم رفعت سيفها تضعه على سيفه الذي رفعه في وجهها تبعده، ومن بعدها مالت بشكل خفيف له تقول بصوت حاولت تغييره كما حدث المرة السابقة كي لا يتعرف عليها :
” لي الشرف أن تتخذني عدوًا مولاي ..”
وبهذه الكلمات أعلنت كهرمان بدء حرب أخرى بعدما ابصرته يسير صوب الساحة منذ دقائق لتشعل رغبة عميقة في اذيته داخلها، فارتدت ثياب الجنود التي احتفظت بها منذ آخر مرة وركضت له ..
آه تلك الفتاة ايًا كانت هويتها، تدفع داخل صدره متعة لا حدود لها، رفع سيفه يلوح به في قوة كبيرة، ثم أشار بأصبعه لها :
” أرني ما لديكِ يا امرأة..”
___________________________
وصل سالار حيث تميم ودانيار ليجد أن الاثنين قد أحدثا فوضى كبيرة في طرقات المملكة بعدما تخلصوا من نصف رجال بافل المنتشرين في المملكة .
ابتسم وهو يرى تميم يلف السلسلة المعدنية الخاصة به حول رقبة أحد الرجال، ليقول بهدوء :
” هذا هو تميم ؟؟”
ابتسم له تميم ورغم وجع خصره إلا أنه زاد من اشتداد الحلقات المعدنية حول رقبته يهمس له بفحيح :
” نعم هو ذلك القذر قائد ”
” إذن خذ قصاصك ولا تزد عنه ”
ترك تميم الرجل ليسقط ارضًا يلتقط أنفاسه بصعوبة وهو يحاول أن يزحف بعيدًا عنهم، بينما دانيار يستند على أحد الجدران يراقب ما يحدث باستمتاع شديد .
أخرج سالار خنجرين من ثيابه يمدهم صوب تميم :
” هيا عزيزي خذ قصاصك منه وعرفه كيف يتجرأ ويلمس أحد رجالي ”
وبمجرد انتهاء كلمات سالار انطلق خنجر يشق طريقه صوب قدم الرجل لترتفع صرخاته الموجوعة ويرن صداها في هذا الليل الهادئ، حتى أن أحد سكان المدينة فتح باب منزله برعب ينظر حوله ليبصر ذلك المشهد أمامه وتتسع عيونه .
استدار له سالار نصف استدارت يقول ببسمة صغيرة :
” مرحبًا يا عم، نعتذر على ازعاجك في هذا المساء، رجاءً عدم للنوم ولن نزعجك ”
ارتجف الرجل وكاد يصرخ رعبًا لكن حينما أبصر ثياب الرجال المتراميين ارضًا وتعرف عليهم، رفع عيونه بسرعة صوب سالار يهمس بصدمة :
” من أنتم ؟؟ أنتم لستم رجال بافل ؟!”
قال دانيار بهدوء وهو يتحرك صوب الرجل يشير له بدخول المنزل :
” بل نحن رجال سفيد يا عم، والآن عد للداخل رجاءً فلن تحب ما ستراه ”
سقطت دموع الرجل وهو ينظر للرجال، ثم تحرك خارج المنزل بسرعة يقف أمام سالار يقول بصوت خافت، صوت موجوع، صوت من فقد حيلته، اللهفة غطت على صوته حتى جعلت نبرته غير واضحة بشكل كامل :
” أنتم رجال مملكة سفيد ؟! جئتم لمساعدتنا ؟؟ رجاءً ساعدونا، لقد …لقد أحدثوا منذ يومين مذبحة ذهب ضحيتها نصف شباب المملكة و…..”
صمت يبكي بعجز شديد، أن يطالب بالمساعدة، وإن تتملكه قلة الحيلة لهو عارٌ أبت نفسه أن تحمله، لكنه أوشك على فقدان الأمل، لا يدري متى وكيف حدث كل ذلك، في يوم وليلة انقلبت الأحوال بهم، ليعيش الشعب اسوء اختبار قد يحياه انسان يومًا :
” لقد اعتدوا على نسائنا بعدما كبلونا، وقتلوا العديد من الرجال، كل هذا لأننا ثرنا، نحن لم ننيأس والله، لكن ذلك الطاغية لم يدع لنا سلاحًا ندافع به عن أنفسنا ومنازلنا سوى الايمان، لقد ابادوا العديد من رجال العاصمة وأخذوا الكثير من الأطفال دون أن نعلم غرضهم أو مصيرهم ”
اتسعت أعين سالار بقوة مما سمع وقد بدأ جسده يشتد وملامح وجهه لا تبشر بالخير، حدق دانيار لوجه سالار بصدمة مما سمع، هم لم يصل لهم ايًا مما حدث، فلا أحد يخرج من المملكة ولا رجل يدخلها .
ابتلع سالار ريقه يتماسك قدر المسطاع، مذكرًت نفسه بأهوال كثيرة رآها سابقًا، ثم مال يقبل رأس الرجل يربت عليه :
” لا تقلق يا عم موعدهم قريب، صدقني سيأتي يومٌ يشهد به رجال مشكى نهاية هذه الطاغية، وسنشفي صدروكم اجمعين، حينها سأخذك بنفسي لتقتص منهم بيديك، وهذا وعدي، وسالار لا يخلف وعده ”
شهق الرجل يردد بصدمة وهو يحدق في وجه سالار بأعين دامعة، يتذكر هذا الاسم، يعرفه جيدًا ليس لشيء سوى لقربه من ملكهم قديمًا :
” سالار … أنت القائد سالار صديق الملك أرسلان ؟؟”
هز سالار رأسه، وحتى البسمة كانت صعبة عليه في تلك اللحظة، بافل بدأ رحلته في التطهير العرقي لشعب كامل، من جانب يقتل رجالهم، ومن ناحية أخرى يعتدي على نسائهم ليزرع بذور شعبه الفاسدين داخل رحمهم ويزيد من أعدادهم، ويختطف أطفالهم لسبب لا يعلمه إلا الله، هو يحاول بناء مملكة له على اطلال مشكى وانقاض شعب مشكى .
” صبرًا يا عم …صبرًا، إن نصر الله لقريب ”
____________________
تتحرك في الساحة وتدور حوله وكأنها تبحث لها عن ثغرة تهجم منها، وهو متوقف في منتصف الساحة مبتسمًا يراقب ظلالها التي تتراقص ارضًا بفعل المشاعل خلفها .
كان يدقق النظر في عيونها الساحرة يشعر بأنها مألوفة له، مألوفة كما لو أنه عاش عمره بأكمله يراها أمامه طوال الوقت.
وقبل أن يخرج إيفان من شروده بعيونها وجد سيفها يستغل حالته تلك بكل خبث ويباغته من الاعلى، ليميل بظهره في سرعة كبيرة للخلف وهو يتصدى لسيفها بسيفه .
ثم نظر لها يراها تشرف عليه وهناك انعاكس لبسمة في عيونها، اعتدل بسرعة كبيرة متسببًا في عودتها للخلف وهو يحرك سيفه بين يديه بكل مهارة :
” لا بأس بكِ سيدتي”
سمع صوتها يصدح في المكان باعتراض وحنق شديد :
” بل مستواي أفضل من أن يوصف بـ ( لا بأس ) مولاي، أنت فقط من لا تحب الاعتراف بذلك ”
أطلق إيفان ضحكات صاخبة قبل أن يتوقف فجأة وفي ثواني كان يباغتها بسرعة كبيرة حتى أنها كادت تسقط ارضًا لولا توازنها في الثانية الأخيرة .
نظر إيفان لحالتها بسخرية لاذعة :
” لا سيدتي مازلت عند رأيي، حتى أن وصف ( لا بأس) لهو كرم مني لا أكثر”
عند هذه الكلمات اشتد غضب كهرمان لتنتفض راكضة صوبه وهي ترفع السيف ليستلم هو سيفها وتبدأ معركة بينهما، معركة يستمتع هو بها ولا يدري السبب، وتفرغ هي فيها كامل حقدها وغضبها من ذلك الملك الحقير الذي تسبب في مشاكل لشقيقها قديمًا بسبب اتهامه زورًا بتهمة شنيعة ولم يضع اعتبارًا لصداقتهم .
كان إيفان يتخذ دورًا دفاعيًا فقط دون أن يحاول الهجوم وهو يراقب حركاتها التي توحي بمقدار غضبها الشديد، ليبدأ إيفان بالشك، هذا الغضب والحنق الذي يلتمع داخل عيونها لا يمكن أن يكون طبيعيًا، حسنًا وجودها في هذا الوقت تحديدًا لمبارزته ليس طبيعيًا .
” على رسلك سيدتي فالغضب لا يليق بالنساء الرقيقات ”
استفزها إيفان بتلك الكلمات وهي ما تزال توجه له ضربات قاسية، لكن ايًا منها لم تفي بالغرض، فتعليمها المبارزة كان مجرد تعليم من باب الواجب لأنها أميرة ويومًا ما ستصبح ملكة، لكن هذا الشخص أمامها فهو محارب قبل أن يكون ملك، لذا شتان بينهما …
وحينما تعبت كهرمان من كل ذلك توقفت كي تلتقط أنفاسها وبعدها تعود للقتال .
لكن إيفان قال ببساطة :
” انتهيتي ؟؟ الآن دوري ”
وقبل أن تستوعب ما يقصد كان يهجم عليها بكامل قوته لتسارع هي في الدفاع وهي تشعر بالرعب من تحوله، كان يقاتلها وكأنه في حرب حقًا ..
وفجأة وفي غمرة انشاغلها بالدفاع لم تنتبه لذلك الحجر خلفها لتتعثر به ساقطة ارضًا بقوة تطلق صرخات مرتفعة، لكن إيفان لم يهتم وهو يسقط سيفها ارضًا مبتسمًا :
” عليكِ التفكير مئات المرات قبل تحديكِ لرجل، وآلالاف المرات إن كان هذا الرجل أنا يا صغيرة ”
تنفست كهرمان بصوت قوي وهي تنظر لعيونه بنظرات جعلته يبتسم وهو يميل جالسًا القرفصاء :
” أخبرتك أن عيون القطط تلك لا تؤثر بي مقدار شعرة واحدة ”
مد يده صوب لثامها ينتوي كشف هويتها تلك المرة ومعرفة من تلك التي تنظر له بكل ذلك الغضب والكره، لكن قبل أن يفعل كانت يد كهرمان تلقي في وجهه حفنة من الرمال ليتراجع للخلف صارخًا بغضب، وهي نهضت تمسك السيف، ثم نظرت له ثواني تهتف بصوت مرتفع :
” لنا لقاء آخر مولاي ”
وهكذا ركضت وهي تطلق ضحكات، فهي اليوم انتصرت لسماعها صوت صرخات الملك، حتى لو لم تكن تلك الصرخات جراء قتالها بل بسبب خدعتها فلا بأس .
نظرت للخلف لتراه ما يزال يقف في منتصف الساحة يراقب رحيلها دون أن يتحرك أو يحاول اللحاق بها .
ابتسم إيفان بسخرية، فمن هي ليركض خلفها، يومًا ما ستقع في يديه وحينما سيريها كيف تتجرأ وتفعل به ما فعلت .
” لنا لقاء يا صاحبة الأعين القططية..”
_____________________
وصل الجميع بعد ساعات للقصر ليذهب كلٌ لحجرته، أشار سالار لتميم صوب المشفى يقول بجدية :
” اذهب أنت للمشفى تميم، فأنت ما تزال جريحًا ”
أطلق تميم صوتًا حانقًا من حنجرته يتحرك صوب حجرته ساخرًا :
” الآن تذكرت أنني جريح ؟؟ أوتعلم، سأذهب لغرفتي ولا اريد لأحد أن يقترب منها حتى أقرر أنا الخروج ”
وبالفعل تحرك لكن صوت سالار تبعه بكل هدوء :
” طالما أنك عدت لغرفتك، إذن أنت أصبحت بخير، غدًا تكون في ساحة التدريب ”
نظر بعدها لدانيار متجاهلًا صيحات تميم المعترضة والمستنكرة :
” وأنت كذلك دانيار أذهب للراحة، فغدًا أمامنا يومًا طويلًا”
” ماذا عنك يا قائد ؟!”
تحرك سالار في اتجاه معاكس لجناحه يقول :
” أنا سأذهب للعريف، احتاجه في أمر هام..”
وهكذا رحل بساطة وهو يمسح وجهه يأبى الراحة قبل أن يضع في رأسه على الأقل حدًا لما حدث بسكان مشكى، وهذا الحد لن يحدث سوى عندما يـ…
فجأة توقف في منتصف الممر بعدم فهم، حينما أبصر جسدًا منكمشًا في ركن من أركان الممر ..
تحرك ببطء صوب ذلك الجسد والذي كان جسد امرأة مما يتضح أمامه من هيئتها وثوبها، ضيق عيونه يحاول معرفة من تلك وماذا تفعل هنا .
اقترب بريبة شديدة يلحظ غياب الحراس في هذا الممر الذي يؤدي لمكتبة العريف .
جلس القرفصاء أمامها ينظر لها جيدًا، ثم نادى بصوت منخفض مخافة أن تستيقظ فزعة، لكنها لم تتحرك، وهو بالطبع لن يلمسها، لذلك اختار اسلم الحلول وهي أن أخرج خنجرًا واستعمل جزءه الخلفي ينغز به كتفها :
” أنتِ يا امرأة ما الذي تفعلينه هنا في هذا الـ …”
وفجأة سقطت رأس تلك المرأة عليه كالجثة، واستقرت أعلى قدمه لتتسع أعين سالار وهو يتنفس بصوت مرتفع مرددًا :
” يا الله يا رحيم …”
نظر للاسفل يحاول أبعادها مستخدمًا الخنجر الخاص به، فقد بدأ يدفع رأسها عن قدمه باستخدام الخنجر :
” هييه هل أنتِ حية ؟؟ ”
وصوت انفاسها اخبره أنها كذلك، لذلك رفع الخنجر بكل غضب وود لو غرزه في ظهرها، لكنه استغفر ربه، يحاول الحديث، لكنها لم تسمع له، لذلك رفع يده في الهواء ثم ودون مقدمات ضرب رأسها بالخنجر لتسقط ارضًا بقوة وتعلو صرخات نسائية في الممر .
وهو لم يهتم بها، بل كان جُل ما يفكر به أن هذه المرة الثانية التي تتجرأ امرأة على لمسه غير والدته، الاولى كانت الملكة والثانية كانت وللعجب…….. الملكة ؟؟؟؟؟؟؟؟
________________
ربما هي بداية، وربما كان هدوءً، لكنه بالتأكيد كان هدوء ما قبل العاصفة …
دمتم سالمين
رحمة نبيل
يتبع…
وضعت لثامها تخفي وجهها قدر الإمكان، ترغب في ممارسة عادتها الليلة وتتدرب، فلا تعلم متى تصرخ الحرب باسمها لدعوتها نحو الساحة، ومتى تحين العودة للقصاص، لكن …
هي لا تمتلك سلاحًا كي تتدرب به، فسيفها الوحيد والذي فازت به بعد معركة طاحنة وعن جدارة، أخذه ذلك المسمى دانيار والآن عليها استعادته ولو كلفها الأمر حياتها، هذا السيف لن تتخلى عنه لأحد، فهو حقها هي، أخذته من فم الأسد ولن تلقي به بين مخالب ثعلب كذلك الرامي.
تحركت بخفة كبيرة وهي تتنقل بين ممرات القصر دون أن ينتبه لها أحد، تبتسم بسمة واسعة ترى جميع الحراس منتشرين في كافة أركان القلعة :
” يبدو أن الأمر هنا أصعب مما توقعت ”
أخذت زمرد حذرها، ثم بدأت تتنقل بين الممرات بشكل خفي تعلم وجهتها جيدًا …حجرة القائد دانيار .
وفي حجرة دانيار ..
كان الاخير يتحرك بنزع ثيابه ليأخذ حمامًا دافئًا بعد معركة طويلة في مملكة مشكى، نظر لثيابه التي تلوثت بالدماء بملامح حانقة :
” هذا لن يزول بسهولة، سترة أخرى ذهبت ضحية المتعة ”
خلع سترته يلقيها ارضًا بإهمال شديد، ثم سار صوب المرحاض الخاص به يغلق بابه في الوقت الذي ظهر خيال اسود أعلى نافذة الجناح بعدما اتخذت زمرد اسهل الطرق للدخول متلاشية الحراس أمام الجناح .
ابتسمت باتساع تسمع صوت المياه الجارية داخل المرحاض، قفزت داخل الغرفة بخفة شديد، ثم ركضت تتحرك في كل مكان باحثة عن سيفها، بدأت بخزانة الثياب الخاصة به .
تبحث بسرعة وهي تنظر خلفها كل ثانية والأخرى، تبتلع ريقها بريبة شديد خشية أن يخرج أثناء بحثها .
وحينما فشلت في إيجاده داخل الخزانة، ركضت بسرعة تبحث في كل مكان، أسفل الارائك وفي حافظة الأحذية الخاصة به، حتى شعرت باليأس من إيجاده، رغبة عارمة بالصراخ أصابتها، يالله ليس سيفها العزيز، ليس ذلك السيف، هل …هل يمنكها العودة لحجرتها وغدًا تطالبه به بكل ود وبالطرق السلمية العادية ؟! أم أنه سيكون من الغلظة ليرفض؟!
وبحسبة سريعة ومرور سريع على تصرفات دانيار معها، رجح عقلها الخيار الثاني، هو لن يعيد لها شيئًا، خاصة وأن القوانين تمنع حمل الأسلحة الحادة للعاملين من غير الجنود .
زفرت تحاول ايجاد حل، حتى شعرت باليأس لتقرر الخروج بسرعة قبل خروجه هو من المرحاض .
لكن بالإستماع لصوت تحريك مقبض الباب شعرت بقلبها يكاد يتوقف، ودون حتى أن تستوعب ما يفعل جسدها كانت تلقي نفسها ارضًا تتدحرج لاسفل الفراش بسرعة كبيرة تكتم نفسها .
خرج دانيار من المحرض يلف منشفة حول خصره يتعجب تلك البرودة التي ملئت حجرته، لمح النافذة المفتوحة ليضيق ما بين حاجبيه بتعجب، تحرك صوبها كي يغلقها لكن فجأة توقفت يده عما يفعل ثواني وتحركت عيونه في المكان، ثم أغلق النافذة ببساطة شديدة …
تحرك دانيار حول الفراش يميل بنصف جسده العلوي كي يلتقط سترته الملوثة ليلقيها في سلة الملابس، بينما أنفاس زمرد كادت تتوقف، حاولت أن تعود بجسدها للخلف كي لا يلمح خيالها أسفل الفراش .
و دانيار التقط السترة بهدوء شديد يبتسم بسمة صغيرة، ثم تحرك يلقيها في السلة الخاصة بها، وقف أمام الخزانة يخلع المنشفة، يرتدي بنطال قماشي، ثم سترة أخرى منزلية مريحة، وما كاد يبتعد حتى أبصر المنشفة ارضًا ليميل يلتقطها بهدوء، وزمرد تكاد تسقط في اغماءه من شدة رعبها وضربات قلبها مع كل مرة يميل ارضًا ..
” يالله رحمتك ”
وبمجرد أن التقط دانيار المنشفة تنفست الصعداء، لكن لسوء حظها سقطت من يده بالخطأ مجددًا، ليميل مرة أخرى وتكتم أنفاسها برعب :
” أيها الحقير، قلبي سيتوقف رعبًا، ألن ينتهي هذا ؟؟”
ألقى دانيار المنشفة في سلة الثياب، وبعدها تحرك صوب المرآة التي تتوسط الجدار يمسك عبوة من الدهان الخاص بالجروح ..
وبدأ يمرر إصبعه على جروحه التي أُصيب بها خلال المعركة، لكن سقطت العلبة منه لتتدحرج بسرعة كبيرة صوب الفراش … أو هو من أسقطها عمدًا .
ابتسم دانيار بخبث شديد يتحرك صوب الفراش متظاهرًا بالبراءة في افعاله، يميل بنصف جسده يبحث عن العلبة والتي كانت بالتحديد جوار جسد زمرد، وزمرد في تلك اللحظة كانت ترتجف من الرعب .
مدت أصابعها الطويلة تدفع العلبة بخفة صوب يد دانيار كي لا يضطر للنظر أسفل الفراش، وحينما امسكها تنفست الصعداء وهو ابتسم يقول بهدوء معتدلًا :
” شكرًا لكِ ”
ابتسمت زمرد براحة تلقي رأسها ارضًا كي تتنفس واخيرًا براحة :
” العفو ”
لكن ما كادت تستوعب ما حدث، وقد اتسعت عيونها بشدة، حتى سمعت صوتًا جوارها يهمس بصوت خافت :
” مرحبًا ”
انطلقت صرخة مرتفعة من فم زمرد التي انتفض جسدها برعب وصدمة لتصطدم رأسها في الفراش، ولم تعطي لنفسها حتى حق التألم لتلك الضربة، إذ بدأت تزحف للخلف وهي ترى جسد دانيار يشاركها أسفل الفراش وعيونه تلتمع بسواد مخيف .
حاولت أن تتنفس، لكن رؤيته بذلك الشكل وتلك الهيئة جعلتها تسارع للخروج من أسفل الفراش، ودون أن تتوقف لحظة تحركت صوب النافذة راكضة، مدت يدها تفتحها، لكن شعرت بسيف يوضع على ظهرها وصوت دانيار يردد :
” يبدو أنكِ لن تتوقفي حتى تسيل دمائك على سيفك العزيز ”
تنفست بصوت مرتفع وهي تغمض عيونها بقوة، ثم استدارت صوبه ببطء ترفع يديها في الهواء، وفي ثواني كانت يدها تمتد لتختطف السيف من يد دانيار، لكن دانيار لم يكن بالابله، إذ تدارك سريعًا ما تريد فابتعد عنها بسرعة كبيرة ليتهاوى جسد زمرد ارضًا وتعلو صرخاتها في المكان بأكمله، تنفست بعنف وهي ساقطة ارضًا والسيف على ظهرها وصوت دانيار يقول :
” كلمة أخيرة ؟؟؟”
__________________________
هل كُتب عليه أن يكون هو مرمى جسد تلك المرأة في كل مرة تسقط ؟؟ تنفس سالار بصوت مرتفع يحاول أن يرى إن كانت بخير باكثر الطرق لطفًا، مذكرًا نفسه أنها وللأسف الشديد الملكة هنا، مهلًا للمرة الكم يذكر نفسه بهذا الشيء ؟!
كانت تلك الأفكار تدور داخل رأس سالار بقوة وكأنها تتنافس على من يتسيد تفكير، بينما تبارك تضع رأسها على الأرض تتألم من السقطة، بل وبدأت تخرج اصوات حانقة وسبات لا تصل له .
مسح سالار وجهه، ثم مرر يده في خصلاته الصهباء يبعدها عن عيونه ليرى ما حدث لها، زفر يحمل خنجره يضعه أسفل رأسها، ثم ببطء رفعه واعلاه رأسها يبعد رأسها عن الأرض بكل هدوء وبمجرد أن
رفعها نظر لها بريبة أن تكون قد تأذت بسببه خاصة أنها لم تنطق بكلمة حتى الآن، وحينما اطمئن أنها بخير سحب الخنجر ليسقط رأس تبارك مجددًا ارضًا بخفة لصغر المسافة بينه وبين الأرض .
لكن تلك السقطة كانت أكثر من كافية لينتفض جسد تبارك وتعود للخلف بسرعة تتحدث بغضب شديد :
” ايه يا اخي، فيه ايه ؟؟ مستكتر عليا لحظات الوجع اللي بعيشها ؟!”
كانت تتحدث وهي تمسح فمها في عادة منها بعد استيقاظها مخافة أن يكون لعابها خرج دون وعي ..
وسالار يراقب كل ذلك بأعين حانقة مغتاظة:
” ما الذي تفعلينه في هذا الوقت ؟! خارج غرفتك وفي هذه الممرات ؟!”
نظرت تبارك حولها تتأكد من حجابها وقد تحقق كابوسها وهو أن يراها نائمة بشكل فوضوي غبي، هذا الرجل لا يراها سوى في اسوء اسوء حالاتها.
نظرت له تقول محاولة تذكر ما تريد :
” أنا كنت …كنت جعانة ولما خرجت معرفتش اوصل المطبخ، وتوهت وبعدين معرفتش اروح فين، دورت على حد لكن مفيش جنود هنا خالص تقريبًا راحوا يناموا، بعدين ملقتش حل غير اني اقعد استنى حد يعدي يرجعني الاوضة بتاعتي، وشكلي كده سقطت في النوم ”
ختمت حديثها بكلمات خجلة وهي تمسح عن وجهها أي علامات نعاس أو نوم، تشعر بالخجل من حالتها أمامه.
وسالار الذي كان يستمع لكل تلك الكلمات المتدفقة من فمها، لا يصدق حقًا مقدار البساطة التي تتحدث بها، الملكة تنام بين ممرات القصر لأنها لم تستطع العودة لجناحها، حادثة فريدة من نوعها .
تنفس بصوت مرتفع ثم قال :
” هل أنتِ بلهاء ؟؟”
ولم يكن من تبارك سوى الإجابة بكلمات بسيطة :
” الله يسامحك ”
” أيتها الغبية تنامين في مكان مكشوف لأي حقير قد تسول له نفسه قتل الملكة، تنامين في الممرات دون أن تعبأي لأي شيء ؟؟ أنتِ الملكة .. الملكة، هل من الصعب عليكِ فهم ذلك ؟!”
” لا من الصعب عليك أنت مش عليا، بدل ما تفضل تقول اني الملكة قول لنفسك وللي شغالين معاك، أنا محدش بيحترمني في المكان ده غير الملك الله يباركله ويعمر بيته، قعد معايا وكان زي البلسم، إنما أنت اللهِ لا تكسب ولا تربح دايمًا تطلع فيا القطط الفطسانة كده ”
كان حديثها جديًا غاضبًا منه، ابتسم سالار بعدم تصديق، هل تقارنه الآن بالملك ومعاملته لها؟؟ هل هي حانقة لأنه يتعامل معها بشكل طبيعي كما يتعامل مع باقي البشر ؟!
كاد يتحدث ليبرر لها الأمر، لكن فجأة توقف يقول بعدما استوعب ما قالت :
” هل قمتي بالدعاء عليّ للتو ؟؟”
نظرت له تبارك دون أن تهتم بالرد عليه، تنهض عن الأرض تنفض ذلك الفستان الغبي الذي ترتديه :
” قوم رجعني الاوضة بتاعتي عايزة انام ”
نظر لها سالار وهو ما يزال جالسًا ارضًا، بينما هي تنظر لها من علوها بتكبر لا تهتم لنظرات سالار المصدومة وهو يحاول أن يستوعب أنها للتو أمرته بكل تكبر، وهو الذي حتى الملك يتحدث معه بكل الاحترام لفرق العمر بينهما والذي يصل لثلاثة أعوام ..
وتبارك لا تهتم بكل ذلك فقط تضع يديها في خصرها تنتظر منه أن ينهض لينفذ أوامرها :
” ايه هفضل مستنية كتير ؟؟ ”
نهض سالار بقوة وبسرعة كبيرة، مما جعل جسد تبارك يتراجع بسرعة كبيرة للخلف بردة فعل طبيعية تضع يديها أمام وجهها بخوف منه، وهو أصبح بضعف حجمها ويرمقها من علوه وهي تنظر له مبتلعة ريقها برعب .
” هل أخبرك أحدهم أنني أعمل خادمًا لسيادتك مولاتي ؟؟”
نفت تبارك برأسها وهي تبتلع ريقها بريبة من نظراتها، مال سالار بعض الشيء مع الاحتفاظ بمسافة مناسبة بينهما؛ كي يوصل كلماته لاذنها إذ يبدو أن سمع تلك المرأة به خطأ :
” أنا لستُ خادمًا لكِ مولاتي، لذلك تحركي وجدي من يدلك على الطريق غيري، لستُ متفرغًا لتصرفاتك الصبيانية ”
كان يتحدث بينما تبارك تخفي وجهها خلف يديها برعب من همساته ونظراته :
” حاضر، حاضر ”
ابتسم لها سالار بسمة واسعة، ثم قال برضى :
” جيد، والآن اعذريني مولاتي فأنا مشغول بعض الشيء”
تركها يتحرك بكل بساطة مبتعدًا عنها، وهي وقفت مصدومة مكانها، هل يمزح معها ؟؟ أخبرته أنها ضلت الطريق بسبب جوعها، ولم يهتم بحالتها أو حتى جوعها .
شعرت بالقهر يندفع داخل صدرها وقد عادت لها ذكريات الملجأ قديمًا حينما كانت تبيت ليلتها جائعة وتسكن معدتها ببعض المياه :
” على فكرة أنت لو استمريت تعاملني بالشكل ده انا هسيب ليكم القصر ده واطفش ومحدش هيعرفلي طريق”
توقف سالار فجأة لتبتسم وهي تمسح الدمعة الوحيدة التي كادت تفلت لحسرتها وقهرها، وهو استدار نصف استدارة ونظر لها ثواني ثم قال ببسمة :
” جيد، احرصي ألا تضلي الطريق أثناء هروبك، حتى لا نجدك وقد عدتي لجناحك بالخطأ ”
ختم حديثه يميل قليلًا باحترام شديدة :
” بالتوفيق مولاتي ”
اتسعت عيون تبارك بقوة من حديثه، وشعرت بالكره يمليء صدرها لذلك الرجل، هو أكثر لئمًا من عاملة الملجأ حتى .
استدار سالار يكمل طريقه، لكن فجأة توقف حين شعر بشيء يصم في ظهره بقوة شديدة .
ضيق ما بين حاجبيه يستدير ببطء ليبصر أحد المزهريات النحاسية أسفل قدمه بعدما ضربته بها، الملكة ألقته بمزهرية، حقًا ؟؟ امرأة ضربته مجددًا ؟؟ وهذا يذكره يوم ضربته في المشفى بمزهرية كذلك
رفع سالار رأسه صوبها ببطء مرعب جعل تبارك تعود للخلف ودموعها تسقط بقهر :
” أنت اللي اضطرتني اعمل كده ”
مال سالار برأسه في حركة معتادة منه، لترتسم بسمة مرعبة على فمه، وهي ابتسمت له بسمة صغيرة سخيفة ظنًا أنه يبتسم لها، لكن في ثواني كان صدى صرخاتها يرن في الممر بأكمله وهي ترى سالار يستل سيفه من غمده صارخًا بجنون :
” ترميني بقطعة حادة ؟! الويل لكِ ”
ومن بعد تلك الكلمات لم تكن تبارك ترى أمامها سوى ممرات تتحرك بسرعة وطرق تدخل بها، وهي تركض صارخة بجنون، تبكي رعب جلي وقد شعرت أن قلبها سيتوقف :
” أنا آسفة ..والله العظيم أنت اللي عصبتني، أنا آسفة”
كانت تركض دون أن تبصر حتى أن سالار لم يتحرك خطوة من موضعه بعدما نزع السيف، بل فقط اخافها كي لا تكرر فعلتها ونجحت خطته وبامتياز .
ابتسم يضع السيف في الغمد مجددًا، يتجاهلها متحركًا صوب مكتبة العريف كيف يعلم منه ما جاء لاجله، لكن فجأة توقف وصوتها يرن في أذنه وهي تخبره أنها جائعة وضلت الطريق.
نظر صوب طريق المكتبة ثواني، قبل أن يتراجع لنفس الطريق الذي ركضت به تبارك، يلحق بها بخطوات سريعة وهو يهمس بضيق :
” أنا لا أحب هذا …لا أحب كل هذا ”
____________________
دخلت الغرفة بسرعة وصوت انفاسها المرتفعة أيقظت تلك النائمة من أحلام اليقظة الخاصة بها، لتنتفض عن فراشها بأعين شبه مغلقة وصوت ناعس :
” من ؟؟ ماذا يحدث هنا ؟!”
فجأة أبصرت برلنت جندي يتقدم من فراشها يشير لها أن تصمت، شعرت بجسدها يتيبس رعبًا من خطواته تلك، هزت رأسها بخوف :
” أنا… أنا لم اؤذيه، أقسم أنه هو من كان ساقطًا في دمائه قبل أن أراه حتى، ارحمني، لقد اعتذرت منه ووافق على مسامحتي و..”
وقبل أن تسترسل في المزيد من التوسل نزعت كهرمان لثامها تقول بغيظ من كلام برلنت :
” هذه أنا برلنت ما بكِ ؟!”
اتسعت أعين برلنت بعدم فهم لما ترى، هي عندما خرجت لم تكن بهذه الهيئة، ولا تدري إلى أين ذهبت، لكنها خرجت فتاة وعادت جندي .
” كهرمان ؟! ما الذي ترتدينه ؟! هل تحاولين افتعال كارثة هنا ؟؟ إن رآكِ أحد جنود الملك ستكون نهايتك يا حمقاء ”
خلعت كهرمان ثوبها وهي تنظر صوب برلنت تقول ببسمة بسيطة :
” لا تقلقي عزيزتي لم يرني أحد جنود الملك ”
” حمدًا لله ”
” بل الملك بنفسه من فعل ”
اتسعت أعين برلنت بصدمة وهي ترى بسمات كهرمان الغريبة التي تعلو وجهها، والأخيرة كانت فقط شاردة به، ذلك الرجل الذي تشعر كما لو أنه شخصين داخل شخص واحد ..
الملك الهادئ والحكيم الذي يتعامل معها ومع الجميع بحكمة، وذلك الحقير الذي يكاد يقتلها داخل ساحة التدريب رغم معرفته أنها فتاة، لكنه لا يهتم بذلك، بل يعاملها كعدو حقيقي .
في تلك اللحظة انتبه الجميع لصوت فتح الباب واندفاع جسد زمرد منه تنزع عنها لثامها، تخطو صوب فراشها بوجه شاحب، ثم تسطحت عليه تنظر للسقف بشكل غريب وصدرها يعلو في وجيب منتظم بفعل أنفاسها .
نجت ..هي نجت منه، هي حية، لقد خرجت من أسفل يده بأعجوبة، ومن بين كل كلمات برلنت وكهرمان اللتين حاولتا معرفة ما يحدث، جذبت الغطاء بكل بساطة ووضعته على عيونها، وصوت همس دانيار يرن في أذنها :
” لولا أنني لم أعتد يوم محاربة النساء أو ضربهن، لكنت فعلت الآن، لكن ولأنني شخص نبيل سأمنحك فرصة الهروب من أمام وجهي ولتحاولي أن تتلاشي مقابلتي في الأيام القادمة ”
رفعت زمرد عيونها له تنظر له بشر كبير لتتسع بسمة دانيار أكثر هامسًا :
” عندما تحاولين التسلل والاختباء في المرة القادمة، احرصي على تجنب جميع الأماكن القريب من أي سطح عاكس ”
رمقته بعدم فهم ليشير بعيونه صوب زجاج النافذة والذي يعكس كل ما أسفل الفراش، لتشهق هي بصدمة كبيرة، لكنه لم يهتم يشير للسيف الخاص بها :
” جئتي لأجله صحيح ؟!”
رفعت حاجبها :
” هو لي .”
” لم يعد كذلك، غير مصرح لكِ بحمل الأسلحة أسفل قصر الملك ”
وبعد هذه الكلمة لا تعلم كيف نهضت تتحرك صوب النافذة بسرعة وكأنها هربت منه وليس هو من تنحى جانبًا سامحًا لها بذلك، ولا يدري حقًا السبب، لكنه فقط تركها تتحرك صوب النافذة وقبل أن تفكر في الهرب استدارت له تقول بصوت متوعد :
” لنا لقاء يا سيد .”
منحها دانيار ابتسامة ساخرة بعض الشيء :
” في الانتظار يا سيدة ”
ضمت زمرد غطاء الفراش لصدرها تعضه بغيظ مكبوت بعدما تذكرت ما حدث لها، تشعر بنيران تشتعل داخل صدرها من ذلك الرجل الغير معقول، يالله لو أنها فقط تـ ..
” زمرد ما بكِ؟؟ منذ اقتحمتي الغرفة وأنتِ شاردة تتعاركين مع الغطاء، ماذا حدث لكِ، ثم أين كنتِ ؟!”
استدارت زمرد على جنبها تراقب الفتاتين على الفراش أمامها ينتظرون منها كلمة تطمئنهم :
” لا تقلقا أنا بخير، فقط كنت أسير كي استشنق بعض الهواء النقي ”
” وما الذي أصابك ؟؟”
كان هذا سؤال برلنت المتعجب، لتتنهد زمرد تقول بصوت حانق مرهق بعض الشيء :
” لا شيء، فقط تذكرت أمرًا مزعجًا، والآن لننم قبل حلول الصباح، فلدينا بعض ايام الراحة لننعم بها ”
ختمت حديثها مبتسمة، ثم استدارت تغمض عيونها بقوة حتى تبعد كل الأفكار عنها، لكن تلك الافكار أبت إلا أن تصاحبها تلك الليلة …
__________________
بحث عنها في جميع الممرات وهو يتمنى أن تكون قد وجدت غرفتها ليريح ضميره ويعود لما كان سيفعل، لكن فجأة وجدها تقف عن مفترق طريق وهي تحرك أصابعها في الهواء وتقول كلمات غير مفهومة .
اقترب سالار بريبة منها يرهف السمع وقد وصل لمسامعه كلمات عجيبة :
” حادي بادي كرنب زبادي، شالو وحطوا وكالوا على دي، يا كتكـ …”
وقبل حتى أن تضيف كلمة واحدة على تلك الكلمات الغريبة التي غالبًا ما يستعملها المصريون حين حيرتهم في شيء بغرض الاستقرار على أمرٍ ما، وجدت تبارك جسدها يصطدم في الجدار جوارها حتى شعرت بعظامها تستغيث، وقبل أن تصرخ أبصرته يقترب منها هامسًا بصوت مرعب وسيفه قد استقر على رقبتها يتساءل بهدوء شديد وتعجب :
” ما تلك التعاويذ أيتها المشعوذة ؟! هل أنتِ من نسل سحرة ؟!”
تحركت عيون تبارك المصدومة من السيف لعيون سالار الذي كان يقف أمامها بهيئته الضخمة، قالت بصوت خافت خرج بصعوبة بسبب رعبها :
” أنا بس كنت …كنت عايزة أكل وانام ”
لكن سالار تجاهل كل ذلك يقول بصوت محذر :
” ما تلك الكلمات التي كنتِ تلقينها محركة بيديكِ في الهواء ؟؟ أنتِ ساحرة ؟؟”
لم يكن سالار يمزح أو يبالغ، فالسحر أمر مرفوض في البلاد وقد عوقب العديد من الأشخاص على ارتكابهم لذنب كممارسة السحر واذية غيرهم، وقد سمع يومًا بعض تعاويذهم والتي لم تكن مفهومة، تمامًا ككلمات الملكة .
جاهدت تبارك للتحدث وعيونه تكاد تحرقها حية وهي فقط تنظر للسيف بخوف لا تنزع عيونها عنه تحاول ابعاد رقبتها عنه :
” على حسب أنت قصدك ساحرة اللي هي جميلة، ولا الساحرة بتاعة المكنسة الطايرة ؟!”
رمقها سالار بعدم فهم :
” ماذا ؟؟”
لكنها لم تهتم وهي تكمل :
” هفترض حسن نيتك واقولك الله يكرمك، بس معلش ممكن بس تبعد السيف شوية لاحسن ..أنا بس عندي حساسية من المعدن بتاعه ”
كانت تتحدث وهي تدفع السيف بطرف إصبعها محاولة أن تتلاشى حافته الحادة، لكن سالار بنظرة واحدة جعلها تتراجع أكثر حتى كاد تطبع جسدها على الجدار خلفها تقول بخفوت :
” كل ده عشان ضربتك بالفازة النحاس ؟؟ امال لو ضربتك بالنار هتعمل فيا ايه ؟!”
نظر لها سالار ثواني، ثم فجأة شعر بالصدمة حينما تذكر أنها بالفعل ضربته، وها هو سبب آخر كي يقتلها دون تأنيب ضمير، لكن كمحاولة أخيرة لاستخدام كرمه وعدله :
” والآن اعطيني سببًا واحدًا يمنعني من قتلك ”
ابتلعت ريقها تقول بكل ذرة براءة كانت تختزنها داخلها طوال تلك السنوات :
” عشان أنا الملكة ؟؟”
لكن يبدو أن طول فترة تخزينها لبرائتها أصابها الصدأ وتضررت، فما ظهر على ملامحها وهي تتحدث بتلك الكلمات لم تكن براءة بأي شكل من الأشكال، بل كانت بلاهة ورعب .
ارتسمت بسمة جانبية على فم سالار يقول :
” حتى إن كان الملك نفسه ساحر فسيُعدم ”
” بس …بس أنا مش ساحرة، أنا…بالله عليك بص لوشي، ده وش ساحرة ؟؟ أنا يعني لو كنت ساحرة كان ده هيبقى حالي ولا كنت سكتلك على اللي بتعمله معايا ؟؟ اقسم بالله كنت وقتها سخطتك و…”
صمتت تكتم صرخة بيدها وهي تراه ينزع السيف عن رقبتها مانحًا إياها نظرة تحذيرية مخيفة، ثم قال بصوت خافت :
” نعم أنتِ محقة، لا يمكن لفتاة غبية مثلك أن تكون ساحرة ”
ختم حديثه تاركًا إياها بعدما أشار لها دون كلمة واحدة أن تتبعه، وهي فقط نظرت له تتنفس بصوت مرتفع ورعب، لا تدري أتسعد لأنها حية، أم تغضب لأنه وصفها بالغبية ؟؟
سارت خلفه محاولة أن تجاري خطواته السريعة والواسعة، ولم تتحدث بكلمة واحدة منذ رمى في وجهها أنها غبية دون وضع اعتبار أنه يتحدث للملكة ورحل هكذا بكل بساطة .
زادت من خطواتها حتى تلحق به وهي تردد ببسمة متناسية كل ما قاله منذ ثواني وأنه كاد يقتلها جديًا، وأن سيفه كاد ينحر رقبتها إن ابتلعت ريقها بالخطأ، هي فقط لا تحب ذلك الصمت الخانق، كما أن ذلك الرجل أمامها غامض بشكل مستفز بالنسبة لشخص فضول مثلها فأرادت التعرف عليه :
” صحيح مقولتليش، هو أنت تبقى قريب الملك ؟!”
استدار لها سالار يرمقها بحيرة لا يعلم سبب طرحها هذا السؤال الغريب، لتبرر تبارك الأمر ببعض الحجج الواهية :
” اصل يعني اخدت بالي من عشم كبير بينكم وأنت بتكلمه ولا كأنه الملك بتاعك، ولا أنت كده مش بتحترم حد ولا حد مالي عينك في البلد دي زي ما بتعمل معايا ؟؟”
ورغم جهل سالار بمقصدها خلف بعض المصطلحات والكلمات، إلا أنه صمت ولم يجب وهي زادت من سرعة خطواتها تكمل ذلك الحوار الشيق من طرفها :
” هو اشمعنا أنت الوحيد اللي شعرك كده ؟؟ يعني كلهم هنا شعرهم اسود وساعات بني واصفر، ليه أنت اللي شعرك لونه احمر كده ؟؟”
ابتسم سالار ولن يتحدث بكلمة واحدة يجيب على كل تلك الاستفسارات الغبية _ من وجهة نظره_ لكن ذلك لم يمنع تبارك من استكمال ذلك الحوار بينهما :
” أنت شبه والدك ولا والدتك ؟! يعني الشعر ده وراثة ولا خلقة ؟! اصل أنا طول عمري نفسي في شعر زي ده ؟! أنت بتستخدم نوع كريمات معينة ؟؟ دي صبغة ولا بجد”
توقف سالار فجأة وبشكل جعلها تتراجع للخلف بريبة وهو فقط نظر لها ثواني يراها تتنفس بسرعة وكأنها كانت في سباق ركض :
” هل كلفك الملك بعمل دراسة حول ألوان شعر الشعب ؟؟”
نظرت له وهي تحاول أن تجد ردًا على حديثه، هي لم تكن تريد الحديث بأمور عشوائية كتلك ابدًا، لكن الأمر وما فيه أنها تشعر بالرهبة حين السير جواره وحديثها حتى لو مع نفسها يقلل من ذلك الصمت الخانق والمرعب .
تنفست بصوت مرتفع :
” لا، أنا بس ….بسأل عادي، لو مش حابب تجاوب أنت حر”
نظر لها يقول باستنكار :
” بالطبع أنا حر، وهل أخبرك أحدهم أنني عبد ؟؟”
رمقته ببلاهة شديد لا تفهم ما دخل العبد بحديثها، وهو فقط زفر بصوت مرتفع يكمل طريقه صوب مطبخ القصر وهي خلفه، لا يعلم ما الذي يفعله، في حياته كلها لم يحدث وأن خطى ذلك الجزء من القصر، والآن يفعل ليطعم الملكة، هل يلعب الان دور والدها ؟! ام يلعب دوره كمرشد للقصر ؟!
زفر بغضب وهو يتجاهل صوت خطواتها الراكضة خلفه، وهي لم تتوقف عن الحديث أبدًا :
” هو اشمعنا أنا اللي ابقى الملكة ؟؟”
” عقاب من الله ”
” يعني من بين كل بنات المملكة مكانش فيه ملكة مناسبة غيري، ليه انا بذات اللي اختارتوني؟ ”
صمتت ثم ركضت كي تسبقه تقف في وجهه وهي تواجهه بذلك السؤال الذي فكرت به مئات المرات دون أن تصل لرد محدد :
” أنت المفروض وحسب ما عرفت أنك واحد ليك مركز هنا والناس كلها ماشاء الله بتخاف منك ”
رفع سالار حاجبه يبتسم بسمة جانبية هامسًا :
” وأنتِ لا تفعلين؟؟”
نظرت له تبارك مطولًا، هي لا تخاف منه، هو لن يؤذيها، إذن ما الداعي للخوف ممن لا يضمر لها أذى، فتحت فمها للحديث وأخباره أنها لا تفعل :
” لا واخاف منك ليـ ”
وقبل أن تكمل كلماتها وجدت يده ترتفع في لتشهق وهي تتراجع بعيدًا عنه بخوف تخفي وجهها، وهو فقط كان يبعد خصلات شعره عن عيونه، لكن بعد حركتها تلك ابتسم بسخرية لاذعة :
” نعم أنتِ لا تفعلين ”
زفر باستهزاء وقبل التحرك تحدثت هي بما كانت تريد قوله :
” نسيتني كنت هقولك ايه، المهم بما أنك واحد يعني ليك مكانتك وكده يعني، وجيت مخصوص كل المشوار وعديت كل المخاطر دي عشان بس تجيبني لهنا، هل أنا فعلا مهمة اوي كده ولا ايه بالضبط ؟؟”
رمقها سالار مطولًا حتى ظنت أنه لن يجيب كعادته وسيكتفي بالتحرك بعيدًا عنها وتجاهلها كما جرت العادة، لكنه خيب ظنها _ ويا ليته لم يفعل _ واجابها بكل بساطة :
” أنا لم أفعل ذلك بكامل إرادتي، لقد اجبروني على الذهاب واحضارك ”
ختم حديثه وهو يتحرك بعيدًا عنها وهي ما تزال في طور صدمتها، تحاول أن تخرج منها، نظرت لظهره وهو يسير بكل هدوء، ابتسمت لا تصدق ما يحدث، ما الذي تبقى ولم يحدث حتى يثبت أنها هنا لا أهمية تذكر لها .
وصل الاثنان صوب حجرة كبيرة يقف على أبوابها بعض الحراس الذين بمجرد أن لمحوا سالار انحنوا له ليتحدث بهدوء :
” اخبروا العاملات بالداخل أن يحضروا وجبة للملكة، ثم خذوها لجناحها، وأنت أرشد الملكة للجناح حتى يتجهز الطعام لها ”
ختم حديثه يتحرك بكل بساطة تاركًا تبارك تنظر في أثره ببلاهة وهي تقف أمام حجرة الطعام، لا تفهم ما حدث وما فعل، هكذا فقط ؟! احضرها ليأمرهم بإعداد الطعام لها وكأنها صغيرة لم تكن لتستطيع قول ذلك ؟؟
نظرت لاثره وهو يرحل ببساطة شديدة وهي فقط تقف وتراقبه ببسمة غير مصدقة، ألقاها لهم ليطعموها ثم رحل .
حقًا ؟؟؟
____________________
اصوات صاخبة جعلت جسده يتقلب على فراشه الذي كان دنسه بجسده بعدما سلبه من أصحابه، تأفف مرتفع خرج من فمه حانقًا كارهًا لكل ذلك الازعاج بعد حفلة رائعة قضاها رفقة جنوده، ثم اكملها رفقة فتاة، والآن يستيقظ على تلك الضجة التي تسبب له انزعاج شديد وتفسد مزاجه الصباحي .
فتح بافل عيونه ببطء يستقبل شمس الصباح بتأفف، لكن تلك الرائحة التي اخترقت أنفه وتلك الاصوات والصرخات جعلت جسده ينتفض بقوة وقد شعر بصاعقة كهرباء تصيب جسده يلمح الكثير من الجثث ملقاه حوله في جناحه الخاص، رجاله قُتلوا ووضعوا داخل غرفته .
انتفض عن فراشه بسرعة كبيرة يصرخ بصوت جهوري :
” ما الذي يحدث هنا أيها الـ ”
وشعوره بشيء لزج أسفل اقدامه جعله يتراجع بسرعة ليسقط على الفراش مجددًا وهو يرى الدماء متناثرة على كل خطوة من ارضية حجرته .
تنفس بعنف يشعر أنه في كابوس، ما الذي يحدث هنا، من فعل هذا؟!!
فجأة وجد أحد رجاله يقتحم عليه الجناح وخلفه العديد من الرجال وهو يصرخ بجنون :
” سيدي حراس الحدود جميعهم قتلوا والعديد من الجنود داخل القصر حدث بهم المثل، لقد تعرضنا لهجوم البارحة ”
كانت أعين بافل معلقة على الأجساد ارضًا وهو متسع الأعين:
” تعرضنا لماذا ؟؟ هل تمزح معي ؟؟ تعرضنا لهجوم دون أن يشعر أحد ؟؟ ”
رفع رأسها يهبط عن فراشه يصرخ في وجه الجميع بصوت مرعب ونبرة هزت جدران القصر :
” من ذلك الحقير الذي تجرأ وفعل هذا بجنودي، هل هم رجال تلك المملكة القذرين ؟؟ أجمعهم كلهم، واعدمهم أمام نسائهم وأطفالهم، لا اريد ترك رجل واحد فقط حي فوق هذه الأرض القذرة، لقد انتهينا، انهوا سلالة مشكى ولا تتركوا لي رجلًا واحدًا، سأريهم كيف يتسللون و يـ ”
توقف عن الحديث حين وقعت عيونه على الجدار المقابل لفراشه والذي نقشت عليه كلمات بالدماء، دماء جنوده كانت تزين جدار غرفته بكلمات جعلت جسده يهتز بقوة ويرتعش بجنون .
” تجرأت ودنست رمال سفيد الطاهرة بأقدام جنودك النجسة، واردت إيصال رسالة، وبالفعل حدث ووصلت، وهذا ردي، إن ظننت نفسك قد انتصرت لدخولك مملكتي، فها أنا وفي عقر دارك، وفي حجرتك بعدما تخلصت من جنودك دون أن تشعر حتى بوجود شيء، تمامًا كخنزير انتهى لتوه من وجبة وحّل دسمة، كان يمكنني قتلك، لكنني لست بهذا الكرم لاقتلك بسهولة، معادنا ارض المعركة يا سليل القذرين، قائد جيوش سفيد ….”
اشتعل صدر بافل، شعر بالنيران تصيبه، غضب مخيف انتشر داخل جسده بأكمله، كان وجه محمرًا بشكل مخيف وأعين من شدة الغضب كادت تخرج من وجهه، حتى أن جنوده عادوا للخلف خوفًا أن يطال أحدهم سوءً أثناء غضبه .
وفجأة اهتز القصر بأكمله بصرخة بافل الغاضبة كالجحيم :
” ســــــــــــــأريـــكم الجحـــيــم ….”
_________________________
تتحرك يمينًا ويسارًا كي تنتهي واخيرًا من تنظيف المعمل الخاص بصانع الأسلحة والقنابل، يا الله هل ينقصها أن تشرف هي على تنظيفه، من بين الآلاف العاملات وقع الاختيار عليها هي لتتولى تنظيفه دون مساعدة وكأنه يتم معاقبتها بفعل ما لا تحب .
توقفت برلنت في منتصف المعمل تدور فيه برضى تام، أيام قليلة فقط وانتهت من تنظيفه بعد تجديد ما تدمر به، والآن انتهى العمل الذي كان ثقيلًا ثقل الجبال على صدرها .
وبنظرة في المكان أطلقت تأوهًا وهي ترفع حجابها عن وجهها تهتف بسخرية لاذعة وأعين مستنكرة لما تحاول زرعه داخل عقلها بالقوة .
” من تخدعين برلنت ؟!”
أشارت حولها على المعمل وصوتها خرج محملًا بمشاعر عديدة :
” أنتِ من توسلتي المشرفة لتمنحك شرف تنظيف مكان به رائحته ”
حقيقة مرعبة تعترف بها لنفسها، حقيقة تحاول إنكارها حتى بينها وبين نفسها، حقيقة عشقها المرضي لصانع الأسلحة، الشعور اللذيذ والمؤلم الذي تتعايش معه منذ سنوات طويلة توقفت عن عدها من بعد العاشرة .
” تقفزين له بكل مكان، تخترعين صدفًا غبية فقط لـ…لتسمعي صوته، أنتِ أكثر شخص مثير للشفقة برلنت، أنتِ مثيرة للشفقة ”
تنهدت بصوت مرتفع تحاول أن تتماسك، تغمض عيونها وأمام عيونها تستحضر صورة تميم، حبيبها الوحيد منذ سنوات، ط سنوات عاشت بجحيم حب غير منطوق من طرفها، غير محسوس من جهته، هو حتى لم يعلم أنها حية إلا يوم ألقى عليها قنبلته ..
وذلك اليوم حين كانت تراقبه ووجدت مضجرًا في دمائه، ارتجف جسدها بقوة تتذكر هلعها وارتجافة جسدها، وشحوبها القوي والذي لم ينتبه له تميم في غمرة وجعه .
ولولا شعورها بنبضات قلبه وقتها لماتت قبله من الخوف فقط، وذهابها للمشفى فقط كي تطمئن عليه، كانت من البأس الذي يجعلها تلقي بنفسها في جحيم مستعر لأجلها .
فجأة سمعت برلنت صوت خطوات يقترب من المعمل لتعيد الحجاب على وجهها بسرعة كبيرة تخفي خلفه حبها المخزي لمن يفوقها مكانة وقدرًا، لمن لا يشعر حتى بوجودها في هذه الحياة .
ثواني حتى وصل صوت تميم لها :
” معذرة لم أدرك أن هناك من يعمل هنا، سأرحل الآن وحينما تناهيت سأ…”
قاطعته هي بسرعة تميل بحرص ورقة تلتقط ما يقبع أسفل قدمها من أدوات تنظيف وكامل مشاعرها ترتجف شوقًا له :
” لا، لقد انتهيت بالفعل، يمكنك العودة لمعملك، وإن حدث شيء ارسل للمشرفة، المعذرة منك سيدي ”
ولم تكد تخرج من المكان بأكمله حتى توقفت على صوت تميم الذي قال بتعجب :
” هذه أنتِ ؟!”
استدارت نصف استدارة تقول بصوت متحفز :
” عفوًا ؟؟”
” أنتِ هي نفسها تلك الفتاة التي جاءت لي المشفى والتي ألقيت عليها قنبلتي صحيح ؟!”
ابتلعت برلنت ريقها تخرج صوتها متأففًا حانقًا :
” نعم هذه أنا، ماذا هل هناك قنبلة أخرى تود تجربتها عليّ ؟!”
ضحك تميم ضحكة صغيرة يتحرك في أرجاء المعمل يتفحصه بأعين مدققة :
” لا أنا فقط متعجب من قدومك لمعملي، أوليس أنتِ من اقسم ألا يطأ معملي ذلك اليوم ؟؟ ”
تنفست بصوت مرتفع ظنه هو غضبًا، لكنه كان ابعد ما يكون عن غضب، كان محاولة بائسة منها لتخرج صوتها عاديًا :
” حسنًا، هذه مشرفة العاملات أجبرتني على المجئ وتنظيف هذه الخرابة التي تسميها ظلمًا بالمعمل، لذلك رجاءً حين تود أن تحضر من ينظف ذلك القبر الذي تقضي به اوقاتك، جد عاملة غيري .”
رفع تميم حاجبه وقد تشنج جسده بضيق من نبرتها لي الحديث معه :
” أنتِ تتخطين حدودك بالحديث معي، أنا أحد قادة الجيوش هنا، لذلك أنا يمكنني …”
” ماذا ؟؟ ستأمرهم بقتلي أو سجني ؟؟ بأي تهمة ؟؟ بتهمة ازعاج سيادتك واستفزازك بالحديث بعدما كدت تقتلني عدة مرات ؟!”
كانت برلنت تصرخ في وجهه وهي ترفع اصبعها محذرة إياه أن يتمادى معها في الحديث، ولم تكتف بذلك، بل أكملت صارخة :
” اقسم إن حاولت أن تزعجني أو تهددني سأكون أنا أول من يركض للملك وأخبره أنك يا سيد حاولت قتلي ”
أشار تميم لنفسه بصدمة :
” حاولت قتلك ؟! ”
” نعم، وسأحضر من يشهد على كلامك، والآن يا قائد اعذرني فأنا لست متفرغة مثلك لمثل تلك التُراهات ”
رفعت رأسها بكل كبرياء تحمل اشيائها ترحل منتصرة في معركة من طرفها هي فقط، وكأنها بكل ذلك الحديث تثبت لنفسها أنها ليست بتلك الضعيفة، هي ليست بمعدومة الكرامة التي تنتظر منه نظرة حب أو حتى كلمة، هي تحبه، لكنها أبدًا لن تسمح له بتخطي الحدود وتهديدها .
وبينما هي تسير برأس مرفوعة تشكر ذاتها لتلك الكلمات التي اراحتها، سمعت صرخة تميم وهو يندفع صوبها :
” انتبهي يا عمياء ..”
اشتعلت عيونها بغضب تستدير بسرعة له ولم تنتبه لذلك السلاح المعلق في السقف :
” من تلك الحمقاء يا سيـ ”
وقبل أن تتم كلمتها شعرت بشيء قوي يصطدم في رأسها ليندفع جسدها للخلف بسرعة مرتعبة متوجعة، لكن ما استقبلها هو الجدار فاصطدمت به كذلك وقد ارتفعت أصوات صرخاتها في المكان .
بينما تميم يراقب كل ذلك بأعين متسعة مصدومة، هو لم يكد يستوعب اصطدامها الاول لتكمله بالثاني، وبينما هي ملقاة ارضًا تتأوه شاعرة أن رأسها قد انشقت نصفين تبكي بوجع، سمعت صوت ضحكات تصدح في المكان .
استدرات ببطء لتبصر وجه تميم الذي غرق في موجه ضحك صاخبة جعلت غضبها يتضاعف وهي تنهض من مكانها تصرخ في وجهه بجنون :
” صه، كيف تتجرأ وتضحك على آلامي وأنا من كدت أموت رعبًا حين رأيك مضجرًا في دمائك، وكنت ابكي بخوف، أيا ليتك مت أيها الحقير عديم الشعور ”
ختمت حديثها بنبرة تحمل من البكاء ما كاد يجعلها تنهار ارضًا، حملت أدواتها تخرج من المكان بسرعة وتميم يقف ينظر لاثرها بعدم فهم، هل غضبت منه لأنه لم يبكي عليها كما فعلت معه ؟؟
مهلاً هل شبهت إصابته بخنجرين، بإصابتها بكدمتين ؟!
خرج من شروده بها على صوت دانيار الذي اقتحم المعمل يقول بجدية :
” تميم، هناك اجتماع مع الملك والجميع ونحتاجك هناك ….”
تحرك تميم بسرعة وشبه هرولة خلف دانيار يخرجون من معمله وهو يخمن في رأسه سبب ذلك الاجتماع، يا الله لتمر هذه الأيام بخير عليهم وعلى الممالك، يبدو أن أحدهم فتح أبواب الجحيم ونسي غلقها ….
_______________________
” قتل نصف الرجال، وإعدام النصف الآخر في مذابح غير آدمية، ثم اغتصاب النساء وزرع بذور فاسدة من قاتلي رجالهم داخل ارحامهم، خطة تطهير عرقية لشعب مشكى يتبعها المنبوذين، وقد نجحوا في النصف الأول منها، والنصف الثاني ما يزال في طور التمهيد، وهذا الطور سيكتمل في حالة واحدة …..حينما يعبرون على جثتي ”
كانت تلك كلمات سالار التي وصلت لمسامع كلٍ من تميم ودانيار بمجرد دخولهم القاعة، إذ كان سالار يقف في منتصف القاعة يصف للجميع ما علمه في الأمس من الشيخ الذي قابلوه في مشكى .
كانت ملامح إيفان باردة جامدة بشكل محير، فقط يستند على المقعد وهو يراقب حركات سالار الغاضبة، فلطالما كان سالار رجل غاضب ثائر ومتوحش فيما يخص القتل والحروب، بينما إيفان رجل حكمة وهدوء وإدارة …
نظر سالار للجميع ثم ضرب الطاولة بيده وهو ينظر لعيون إيفان يقول بحدة وصوت حاسم :
” هناك خائن في أراضينا، خائن ساعد المنبوذين في دخول مشكى وفرض سيطرتهم عليها، فلا يقنعني أحدكم أن رجال لا يحسنون حمل السيوف ويرتجفون أمام شفرة حادة ولا يعلمون عن الحروب سوى طبولها، يستطيعون التغلب على جيش بحجم جيش مشكى، وبقيادة ارسلان كذلك، هذا شبه مستحيل ”
وافقه دانيار كل ما يقول في صمت يهز رأسه، وهو الذي علم كل ذلك سابقًا وبمجرد وصول خبر سقوط مشكى بيد المنبوذين، فجميع الجالسين يعلمون أن رجال بافل ليسوا مقاتلين ولا يفقهون بالقتال شيئًا، لذلك قتلهم البارحة كان أيسر من شربة ماء .
تنفس سالار بعنف ثم دار بعيونه على الجميع وقال ببسمة جانبية :
” ما رأيك ملك إيفان أنني رأيت أحدهم يحمل سلاحًا من اسلحتنا البارحة ؟؟”
ارتفع حاجب إيفان وكأنه يقول له حقًا ؟؟ لكن تلك البسمة التي ارتسمت على فمه أخبرت سالار أنه يعلم ذلك جيدًا، حسنًا إيفان ليس بالغبي أبدًا .
اعتدل إيفان يميل على الطاولة يضم قبضتيه متسائلًا بجدية :
” تميم ..”
” أمرك مولاي ؟؟ ”
ابتسم إيفان بسمة جانبية وهو ما يزال يحدق بأعين سالار في تواصل بصري قوي :
” هل سبق وأخذت منك مملكة مشكى أسلحة من صنعنا ؟؟”
نفى تميم بقوة وهو يجيب بنبرة عملية جادة دون أن يغفل عن تفصيلة واحدة :
” لم يحدث منذ سنوات مولاي ومنذ أمرت أنت بمنع ضخ اسلحتنا لهم، فعلنا ذلك، ومنذ ذلك الحين لم يخرج خنجر واحد من سفيد لمشكى ”
قال إيفان ببساطة :
” اذًا هذا يلغي الاحتمال الأول، وهو أن بافل استولى على أسلحة مشكى والتي هي في الأصل من صنع مملكتنا، وهنا نأتي للاحتمال الثاني ”
نظر له الجميع ودون أن يتحدث علموا الإحتمال الثاني والذي كانوا يرجحونه ..
تحسس العريف بومته التي تعلو كتفه وهو يرمق الجميع بنظرات غامضة وكأنه يعلم شيئًا ويخفيه، ونظراته تلك لم تخفى عن سالار الذي ابتسم له متوعدًا بساعات طويلة من الاستجواب .
قال إيفان بإقرار :
” هناك مملكة تأخذ من اسلحتنا وتدعم بها هؤلاء المنبوذين ”
احترق صدر سالار بقوة صارخًا بجنون وهو يضرب الطاولة مجددًا وصوته يخرج هادرًا مرعبًا لبعض الرجال حوله، والذي ابتعدوا عن عيونه متجنبين حالة هياجه وأولهم مرجان :
” هم يقتلون اخواننا باسلحتلنا، نحن نمدهم بالسكين الذي يذبحونهم به ”
صمت يتنفس بصوت مرتفع ليسمع صوت إيفان يقول بتقرير بصوت جامد بعض الشيء :
” تميم، امنع ضخ الأسلحة لجميع الممالك دون استثناء لا آبى ولا سبز ستأخذ إبرة واحدة من اسلحتنا ”
نظر تميم حوله ثم قال بصوت خافت :
” لكن مولاي، نحن بالفعل تعاقدنا مع الملك بارق على صفقة أسلحة كبيرة و…”
نظر لها إيفان بنظرات مشتعلة :
” حتى الإبرة لن تخرج من مملكتي لايًا كان تميم، واضح حديثي ؟؟”
ابتلع تميم ريقه ثم هز رأسه:
” واضح مولاي ”
نظر إيفان صوب سالار الذي كان شارد بشكل مخيف، ثم قال :
” بعد يومين سأجتمع مع الملك بارق والملك آزار وحينها تحين مهمتك سالار، اريد معرفة من منهما قد تورط في مثل تلك الجريمة، رغم أنني اشك…”
ارتسمت بسمة مخيفة على فم سالار يتخيل رأس ذلك الخائن تحت قبضته، ودماؤه تسيل من بين أصابعه :
” سيحدث مولاي، سيحدث .”
______________________
غرفة جميلة من اللون الابيض، واسعة ومتلألئة بشكل جعلها تغمض عيونها مخافة أن تصاب بالعمى إن أطالت النظر بها، تحركت في الغرفة تحاول البحث عن مخرج لها وشعور بعدم الراحة يملئ صدرها، لكن لا مخرج، جميع الجدران مصمتة لا باب بها ..
فجأة ومن لا تدري وجدت أحدهم يتقدم منها، جسد تعلمه جيدًا، جسد كان ملازمًا لها في أحلامها سابقًا، حتى أبصرته في الحقيقة ..
تنفست بصوت مرتفع تشعر بقلبها يكاد يتوقف عن الخفقان، ولا تدري لمشاعرها من سبب سوى أنها ترهب اقتراب ذلك الرجل منها، ورغم كل رهبتها تلك لم يتوقف عن التقدم، ولم تتوقف هي عن التحديق بملامحه غير الواضحة .
وحين أصبح على مقربة منه مال وضمها لصدره بحنان شديد هامسًا بكلماته التي باتت تحفظها عن ظهر قلب وتستطيع أن ترددها دون توقف إن أراد، لكن منه كانت تلك الكلمات مميزة وبشدة لها، بنبرته الدافئة الاجشة التي أصبحت تحاصرها في صحوتها وأحلامها :
” دلم برات تنگ شده ”
ودون أن تشعر هي وكأنها مسيرة وليست مخيرة، لفت ذراعيها حول خصره تستمع بدفء صدره وقد بدأ وجيب قلبها يعلو ويعلو، تنطق دون شعور منها :
” منم دلم برات تنگ شده ”
ابتسم لها ولا تعلم كيف علمت ذلك وهي لا ترى ملامح وجهه، وتدفن رأسها داخل صدره، لكنها تعلم أنه ابتسم وقد ظهر ذلك واضحًا في صوته يتحدث لها واخيرًا بالعربية بنبرة تعلمها وميزتها في ثواني:
” إذن موعدنا قريبًا أميرتي، قريبًا أكثر مما تتخيلين مولاتي ”
اهتز قلب تبارك في موضعه لتلك الكلمات الرقيقة، رفعت رأسها عن صدره تحاول أن ترى ملامحه، لكنه لم يمنحها الفرصة، فقط مال عليها يمنح وجنتها قبلة دافئة، ثم همس لها بصوته المميز :
” قريبًا حبيبتي …”
” مولاتي …مولاتي هل أنتِ بخير ؟؟ ”
انتفض جسد تبارك بقوة عن الفراش عند سماعها صوت أنثوي يناديها ويد تهزها برفق، تنفست بصوت مرتفع وجسدها قد بدأ يرتعش وكأن حمى أصابتها تستغفر ربها، تستغفر وجسدها يترجف بعنف :
” أنا فين ؟؟ ”
نظرت لها الخادمة بأعين متعجبة :
” هل أنتِ بخير مولاتي، هل استدعي الطبيبة ؟؟”
نظرت لها تبارك ثواني وعقلها يعيد لها صور متتابعة مما حدث لها في الأيام السابقة :
” لا لا، اشكرك أنا بخير حال، فقط رأيت حلمًا غريبًا ”
نظرت لها الفتاة ببسمة لطيفة :
” حسنًا مولاتي هناك فستان احضرته لأجلك، وجهزت كذلك المرحاض لأجلك، رجاءً تجهزي فالملك ينتظرك لاخذك في جولة حول القصر ”
رفعت تبارك عيونها للخادمة بلهفة وحماس كبير :
” حقًا ؟؟”
هزت الخادمة رأسها مبتسمة :
” نعم، هيا كي لا تتأخري فهو ينتظرك ”
انتفضت تبارك عن فراشها، ثم تحركت بسرعة صوب المرحاض، والخادمة تركتها ورحلت بهدوء شديد، وقبل أن تخطو تبارك المرحاض توقفت تقول بدهشة :
” لحظة هي مجابتش سيرة الفطار ليه، ولا سألت هفطر ايه ؟؟ هما مش بيفتكروني على الاكل ليه هو أنا مش المفروض الملكة، واتعامل معاملة ملوك، ولا هما اساسا مش بياكلوا في العالم ده ؟!”
نظرت صوب الباب المغلق بعدما اغلقته الخادمة ورحلت وهي تنفست بصوت مرتفع :
” فرقت إيه عيشتي هنا عن عيشتي في الشقة بتاعتي والحارة ؟؟ والله نفس الشي اياكش الكام نفر اللي بيحترموني في المكان ده شوية، والسرير المريح ”
زفرت تدخل الحمام وهي تتمتم بحنق شديد وغيظ مما يحدث معها، ثم فجأة تذكرت الحلم والذي لم تستطع أن تتناقش به مع نفسها لوجود الخادمة، تذكرت تجاوبها به مع ذلك الرجل :
” والله عال يا تبارك، بقيتي تحضني وتتكلمي زيه ولا كأنه جوزك، مش بعيد الحلم الجاي تستنيه على الباب بطبق مايه دافي وفوطة وتغسلي ليه رجله ”
تحركت صوب ذلك المسبح المصغر الذي يتوسط المرحاض، تحدق به في راحة شديدة مرددة :
” لحظات قليلة من النعيم والتمتع كملكة في هذا المكان، وليس كشخص ثانوي …”
________________________
تحرر من قيد رجاله بعدما قرر أن يتفرغ بعض الوقت للجلوس مع الملكة ووضع النقاط على الاحرف، عليه أخبارها بالقرار الذي اتخذه مساء الأمس لأجل تأهيلها لتصبح ملكة .
جلس في الحديقة حيث مكانه المميز خلف القصر ينتظر أن يحضر جنوده الملكة، لكن بدلًا من ذلك لمح امرأة تقترب منه بخطوات متمهلة وهي تقول بصوت منخفض :
” اعتذر لازعاجك مولاي ”
شعر إيفان بأن صوتها مألوف له، ليخطر في رأسه صوت تلك الفتاة الخاصة بالحظيرة، نظر لها وهي تنظر له مباشرة من خلف حجابها دون أن تنظر ارضًا أو تبعد عيونها عنه، وكأن تلك المرأة لا تنحني لأحد ولا تخشاه حتى .
تجاوز إيفان تلك النقطة وهو ينظر لها نظرات عادية :
” نعم، كيف اساعدك ؟؟”
” حسنًا الأمر أنني أردت مساعدتك في مشكلة تواجه جميع العاملات هنا، ولم أجد واحدة منهن تتحدث عنها، ربما يخشون الحديث أو الاقتراب منك ”
اتسعت عين إيفان باستنكار لحديثها :
” وهل أخبرك أحدهم أنني اعض ؟؟ لماذا يخشوف الاقتراب مني ؟!”
” لا ادري ربما لأنك لست ملكًا عادلًا، أو أنك لا تهتم لأمور العاملين لديك، هناك احتمالات كثيرة ”
كان إيفان مصدومًا وهو يستمع لمقدار الظلم الذي يمارسه على العاملين في قصره من فم فتاة الحظيرة، هو ليس بعادل ولا يهتم بهم ؟! هل تمزح معه .
” يبدو أن المشكلة في غاية الخطورة آنستي لتستدعي كل هذا التقريع لي وأنا الملك هنا ”
ضغط إيفان على كلماته الأخيرة في انتظار أن تفاجئه تلك الفتاة المريبة أمامه بأنه وعن طريق الخطأ تسبب في حدوث زلزال في قسم العاملين، أو أنه مثلًا كان السبب الرئيسي في تفشي وباء قاتل بينهم جميعًا .
لكن كل ما خرج منها هو :
” مراحيض العاملين لديك مولاي تفتقر لكافة المقومات الآدمية، لا زيوت عطرية ولا سوائل تنظيف جيدة، مجرد زجاجات لا رائحة لها ولا فوائد، وهذا تعسف منك مولاي إذ أن المراحيض الخاصة بكم تزخر بكل ذلك ”
كانت تتحدث بنبرة جادة وبشدة وقد اتضح في صوتها الغضب دون أن تشعر، وهو فقط كان ينتظر سماع الكارثة التي تسبب بها، ليتضح في النهاية أنه لم يدلل العاملين لديه .
وعلى غير المتوقع انفجر إيفان في موجة ضحك صاخبة لم يستطع التحكم بها، أخفى وجهه بين كفيه وصوت ضحكاته رنّ في الاجواء حوله مما أثار صدمة كهرمان التي نظرت حولها لترى أن أنظار الجنود بدأت تنجذب صوب ضحكاته.
وهو لا يتوقف عن الضحك، يحاول الحديث من بين ضحكاته، لكنه لم يستطع :
” أوه، أنا آسف حقًا، كيف كنت ملكًا لئيمًا لهذه الدرجة ولم ادلل العاملين لدي ؟؟ عارٌ عليّ”
شعرت كهرمان بالحرج من كلماته تلك واستهانته بمصيبتها، هي لا تبالغ إن وصفتها بالمصيبة، فجسدها الذي اعتاد الدلال قد عزف عن استخدام كل أدوات التنظيف الرخيصة واصيبت بطفوح جلدية مريعة .
” أنا لا امزح مولاي أنا حقًا …”
ولم تكمل كلماتها بسبب اصوات ضحكات إيفان الذي وجد صعوبة كبيرة في التنفس بسبب كثرة الضحك :
” أنا أعلم، الكارثة أنكِ لا تمزحين، هذه هي الكارثة صدقيني ”
اعتدل في وقفته بصعوبة شديدة بعدما تمكن من تمالك نفسه حين شعر بأنه لا يجوز عليه الضحك بهذا الشكل جراء شكوى امرأة مقهورة ..
تنحنح بصوت جاهد لجعله متماسكًا :
” معذرة آنستي، لكن فقط شعرت بـ …حسنًا لنتجاوز هذه النقطة، ما الذي تقترحين عليّ فعله كي انال رضى العاملين لديّ ”
شمخت كهرمان برأسها تقول بقوة شديد وكلمات منتقاه وصوت واثق تمنى للحظات وبشكل غبي أن تكون تبارك تمتلك مثلهم، فها هي مجرد عاملة أمامه تتصرف كأميرة، وملكته تتصرف بشكل ….حسنًا تتصرف كتبارك، فهو لم ير يومًا من تتصرف مثلها، لكنه لا يبتأس حقًا ولا يشعر بالخجل أو ما شابه .
” اقترح مولاي أن تضع في مراحيض العاملين كل ما تضعه في مراحيض الطبقة العليا في البلاد ”
نظر لها إيفان ثواني نظرات جعلتها تشعر برغبة في التراجع وانزال رأسها، لكنها لم تعتد أن تنحني يومًا لأحد غير الله، هكذا أخبرها ارسلان .
” حسنًا آنستي، لكِ كامل الدلال أنتِ وجميع العاملين في قصري ”
نظرت لعيونه من خلف حجابها واطالت النظر به تحمد الله أنه لا يراها، ثم همست بصوت منخفض :
” شكرًا لك مولاي، والآن أئذن لي بالرحيل ”
” يمكنك ذلك ”
تحركت كهرمان بخطوات رشيقة هادئة وبشكل جعله ودون إرادته يشرد، ضاقت عيونه وشعور غريب يراوده تجاه تلك الفتاة .
توقفت كهرمان في مشيتها، ثم استدارت ببطء للخلف لتتفاجئ أن الملك يراقبها، هزت رأسها له، وهو ابتسم بسمة جانبية يهز رأسه لترحل ببطء وهدوء وثقة ورشاقة منقطعة النظير.
في المقابل وبمجرد اختفاء جسد كهرمان خرجت تبارك من المبنى نفسه وهي تسير بلا مبالاة، وبشكل متعجل وكأن لديها حرب ستفوتها، تسير وهي تنظر يمينًا ويسارًا بفضول شديد، حتى تعرقلت في حجر أسفل قدمها لينتفض جسد إيفان يهتف بهلع وهو يمد كفه وكأنه سيلحق بها من مكانه :
” يا ويلتي..”
لكن تبارك تمالكت نفسها بسرعة كبيرة تنفض ثيابها ببسمة خجلة من الموقف برمته :
” أنا بخير لا تقلق ”
تنهد إيفان بصوت مرتفع :
” لدينا طريق طويل… أطول مما تخيلت .”
______________________
بعدما انتهت من حديثها مع الملك سارت في القصر وهي تبحث بعيونها عنه وقد قررت أن تذهب للبحث عنه في جناحه دون أن يشعر أحد بها .
لكن ما كادت تخطو كهرمان للجزء المخصص لكبار القادة، حتى سمعت صوت رجل يهتف :
” نعم هو يحتجز العريف داخل المكتبة الآن مصرًا أنه يخفي عنهم شيئًا ”
ابتسم دانيار على كلمات تميم وقد أعجبته فكرة أن يقع العريف تحت رحمة سالار :
” هذا رائع، ليته يتخلص من ذلك الرجل وننتهي منه ”
كانت كهرمان تستمع لكل تلك الكلمات وهي تراقب رحيل تميم ودانيار صوب المكتبة، تستوعب أنهم يتحدثون عن سالار ..
ابتسمت بسمة واسعة وهي تتحرك بسرعة خلفهم خشية أن تضل في الطريق وفي نفسها قد عقدت العزم على التحدث مع القائد اليوم وإن كلفها ذلك حياتها .
____________________
كانت الكتب تتطاير في كل مكان داخل وكر العريف إلى جانب البومة التي كانت تحاول الهرب من ذلك الاعصار الذي ضرب المكتبة، فأصبحت وكأنها في سباق والكتب الطائرة تمثل لها عوائق ..
وصوت العريف الذي يصدح خلفها كجرس الانذار قبل الكوارث .
توقف سالار في منتصف المكتبة وهو يجذب له العريف مرددًا بصوت محذر :
” أنا لست حليم أو حكيم لاصبر على أفعالك يا عريف، أخبرني ما الذي تعلمه وتخفيه عني ؟؟”
نظر له العريف مبتسمًا وهو يحاول الفكاك من قبضته :
” أوه، كل هذا لأجل أنني ابتسمت لك خلال الاجتماع ؟؟ لِم لم تفكر أنني كنت آخذ صدقة لتبسمي في وجهك ها ؟!”
ابتسم سالار يميل عليه أكثر بشكل مثير للرعب :
” هذا لأنك وببساطة لا تطيق أي شخص في محيطك، ولا تحب البشر حتى توزع ابتسامتك على من حولك، والآن تحدث بما تعلم ”
” أنت الآن تتخطى صلاحياتك التي تمنع ايًا كان من اذيتي، حتى الملك بنفسه لا يستطيع فعل ما تفعله الآن بي، أنت لا تحترم سن أو حتى مكانة ”
ابتسم سالار يترك ثيابه، ثم أخذ ينفضها له وكأنه يزيل غبارًا وهميًا عن ثيابه :
” آه، نعم تذكرت أنا من المفترض أن احترمك، الأمر وما فيه أيها العريف أنك تستفزني بشكل يجعلني انسى من أنت وماذا تفعل وكيف يجب أن اعاملك، والآن تحدث بما تعلم كي لا أنسى كل ما نطقت به منذ ثواني ”
فتح العريف فمه ولم يكد يتحدث بكلمة حتى قاطعهم صوت أنثوي خجل من الخلف يهتف بصوت منخفض :
” سيدي القائد سالار احتاج للتحدث معك …”
استدار سالار بدهشة للخلف ليبصر تميم ودانيار وخلفهم، جوار باب المكتبة كانت تقف هي، فتاة لا يعلم من هي، لكن صوتها مألوف وبشدة له .
نظر لها بفضول لتتقدم كهرمان صوبه متجاهلة نظرات الجميع حولها لهم، ومن ثم توقفت في وجه سالار تقول :
” احتاج مساعدتك …رجاءً ”
نظر سالار حوله للجميع، ثم عاد بنظره لها يقول :
” هل اعرفك !!”
” لا لكنني اعرفك جيدًا …….”
______________________
المستقبل بدأ يتغير، وتاريخ المملكة بدأ يُدون، لكن هل سيتم تدوينه كما خُطط سابقًا، أم أن صفحة من كتاب التاريخ ستغير كامل احداث الكتاب ؟؟
يتبع…
حسنًا كان محرجًا أن تسقط أمامه بهذا الشكل المخزي، وليس أمامه فقط، بل أمام دزرينة من الحراس، إلا أن الثقة تلغي الأخطاء السابقة، هذا ما تعلمته وستنفذه .
مررت تبارك يدها على ثوبها تتحرك ببطء صوب الملك وهي تبتسم بسمة صغيرة تحاول بها أن تهدأ من روعها هي .
وبمجرد أن وصلت له منحها إيفان بسمة هادئة مسالمة يقول بصوت حريص :
” أنتِ بخير ؟؟”
” نعم، نعم لا تقلق، في أحسن حال، فقط اعتقد أن هناك بعض المشاكل في الأرضية الخاصة بالقصر ”
حجة جيدة خرجت بها لتحفظ ما تبقى من ماء وجهها، وايفان نظر صوب تلك البقعة التي سقطت بها يقول بحاجب مرفوع :
” آه، نعم ربما نصلحها لاحقًا، والآن مولاتي اسمحي لي بالاعتذار لازعاجك منذ الصباح لكن هناك ما نحتاج للتحدث بشأنه ”
رمقته تبارك باهتمام شديد ليعتبر هو صمتها موافقة، وبدأ في الحديث بصوت هادئ متعقل :
” بالطبع أنتِ لا تعلمين الكثير عن عالمنا ومملكتنا، ولا أعتقد أن سالار كان من الصبر ليخبرك أكثر من مجرد كلمات معدودة ”
انقبضت ملامح تبارك بمجرد سماعها لاسم ذلك الرجل والذي لا تدري سبب كرهه لها وعداوته معها :
” بل هو لم يكن من الصبر ليسمح لي بأخذ انفاسي، كلما توقفت للراحة يصرخ في وجه أن تكمل طريقنا ”
أطلق إيفان ضحكات صاخبة :
” حسنًا ربما هذا خطاي أن أرسلته هو تحديدًا، فهو لا يحب الحديث في مهامه أو يحب التأخر، لكن كان ذلك في صالحي إذ أن سالار هو أفضل من ينجز مهامي الخاصة وفي اسرع وقت ”
هزت تبارك رأسها توافقه الأمر، فهي وخلال تلك الرحلة رأت بعيونها ما يتحدث عنه، ذلك الرجل جاد بشكل خانق، لكنه رغم ذلك محترف فيما يفعل، وهي تقدر وتحترم ذلك .
” نعم لاحظت ذلك ”
” جيد إذن، اتمنى ألا تحملي له ضيقًا، فهو في النهاية أحد رجالي المخلصين والمقربين ”
ابتسمت له تبارك بسمة صغيرة تحاول بها تمرير الأمر، بينما إيفان تنحنح يتحدث فيما جاء بها لأجله :
” حسنًا، هنا في سفيد أو في الممالك المجاورة، لن تجدي امرأة تحمل سيفًا أو تركب فرسًا، باستنثاء الاميرات، فهن ومنذ الطفولة يتم إعدادهن ليصبحن ملكات، والملكة عليها أن تعلم بعض الاشياء الأساسية عن الحروب وغيرها، ولا ..اقصد أنني لا اعتقد أنكِ تعلمين هذه الأمور، أم تفعلين ؟؟”
نفت تبارك برأسها تتذكر تذمر سالار من جهلها لتلك الأمور، يا وانقلبت ملامحه بغيظ وكأنها عُرض عليها الأمر وهي من رفضت .
” لا أنا لا افهم ايًا من ذلك ”
ابتسم إيفان يحاول ألا يشعرها بالنقص أو بشعور سييء حيال الأمر، لكن تبارك كانت ابعد ما يكون عن تجربة ذلك الشعور، بل هي كانت لا تهتم لتلك النقطة :
” ورغم ذلك نجوتي في عالم ملئ بالمفسدين، هذا شيء يُحسب لكِ احسنتِ حقًا ”
كانت تبارك تهز رأسها بانصات شديد قبل أن تُصدم وترفع رأسها له وقد تشجنت ملامحها بقوة تحاول فهم ما يرنو له، عمن يتحدث بالتحديد ؟!
” مفسدين ؟؟ مين دول اللي مفسدين لا مؤاخذة ؟!”
” ماذا ؟؟”
” ماذا أنت، هل وصفت للتو عالمي بعالم المفسدين ؟! ليس لأن به أم أنور وابنها وحسنية والعم متولي ونساء حارتي وعبير وسميرة ومدير المشفى التي اعمل بها، وسائق التوكتوك سيد، وبائع الخضروات، وصاحب عربة الفول أمام المشفى، تطلق عليه عالم مفسدين ”
حركت اصبعها السبابة في الهواء ترفض تلك التسمية بكامل دواخلها :
” لا لا يا سيد، ليس لأنك الملك هنا سأسمح لك بالإساءة لعالمي، ثم تسخر من عالمي أنه ملئ بالمفسدين وأنت تأوي أسفل قصرك أكبر الفاسدين ؟؟”
اتسعت أعين إيفان بصدمة من حديثها وكل تلك الأسماء التي تلقيها على مسامعه، هو لا يدرك ما تقصد بكل ذلك، وتبارك انتفضت عن مقعدها تقول بحنق شديد :
” هل تريد القول أن عالمك العزيز يخلو من الفاسدين ؟! جميعكم ملائكة هنا ؟؟ لا اعتقد، فالنفس الامارة بالسوء تسكن جميع الأجساد مولاي ”
رفع إيفان حاجبه من كل تلك الخطبة التي تلقي بها في وجهه، يشير لها بالجلوس كي يكمل حديثه وملامحه هادئة لا توحي بأي شيء داخله :
” حسنًا اجلسي رجاءً فمحظور على النساء رفع اصواتهن هنا حيث ينتشر الرجال، وبالطبع محظور عليهن رفعها في وجه الملك ”
حسنًا يبدو أنها تمادت حتى حولت الراقي والهادئ لنسخة أخرى من ذلك المتوحش سالار، فملامح الملك في تلك اللحظة جعلتها تتراجع خوفًا أن ينفجر في وجهها، لولا الهدوء الذي يخفي خلفه كامل انفعالاته .
” اولًا نحن لسنا في المدينة الفاضلة، لكن بلادي تخلو من كل المفاسد، ليست لأن جميع النفوس طيبة، بل لأنه يتم القضاء على أي فساد بمجرد أن يظهر، ليس كعالم يعيش به السارق والقاتل في سلام لأنه يمتلك اموالًا أكثر، والظالم يتنعم برغد العيش لأن له اليد العليا، والقوي يدهس الضعيف استغالالًا لحياته، هنا تُدفن المفاسد وتُردم أسفل تلال الصلاح، نحن لا نقمعهم بالقوة، بل بالنصح والإرشاد ”
صمتت تبارك وشعرت أنها تمادت في الحديث معه، بينما إيفان اكمل :
” هنا لا فرق بين فقير وغني ولا قوي وضعيف، الجميع أمام القانون سواء، حتى الملك تتم معاقبته إن اخطأ، وهذا كل شيء ”
صمتت تتنهد وهي ترتشف بعض قطرات المياه تقول :
” حسنًا ربما بالغت، لكن العالم الخاص بي ليس مرعبًا بهذا الشكل، أنت فقط تحتاج لقلب قوي ولسان لاذع ويد سريعة لتستطيع النجاة به، وهذا لا يمنع أن عالمي ملئ بالصالحين كذلك”
ابتسم إيفان يقول بهدوء :
” ولهذا استطعتي النجاة منه رغم جهلك لأي فنون قتالية؟!”
” لا بل نجوت بدعاء الوالدين، وقيام الليل ”
نظر لها بعدم فهم لتبتسم وتجيب :
” كنت أدعو عليهم كل يوم واتجنب أي احتكاك مع أي شخص قد يصيبني بأذى.”
ابتسم إيفان بسمة واسعة يقول :
” جيد إذن أنا سأدبر لكِ معلمين لهذه الأمور، المبارزة ورمي السهام والفروسية، ولسوء الحظ لا يوجد العديد من النساء هنا يبرعن في تلك الأمور فلا شقيقات لي، لكن يمكن لأمي أن تساعدنا ”
ومجددًا كان الرد من تبارك هو هزة رأس بسيطة منها، وكأنها لا تعي ما يحدث، فقط مستمرة في هز رأسها دون تردد، وهو يراقبها ليبتسم لها بهدوء :
” هذا كل شيء، أنا سأتحدث مع الملكة الأم لتساعدك في هذه الأمور، كما يجب عليكِ الإلتزام بغطاء الوجه خارج حجرتك مولاتي و….”
قاطعته تبارك دون تفكير، وهي حقًا مجبرة على قول ذلك في هذه اللحظة لكن جسدها هامد ضعيف تحتاج طعامًا لأجل حالتها الصحية، لذا تغلبت على خجلها القوي منه وقالت :
” أنا جائعة متى سأتناول الفطور ؟!”
بُهت وجه إيفان قليلًا يحاول أن يستوعب ما قالت، وهي لم تتغير ملامحها، بل أصرت تقول :
” لم يسألني أحدهم عما احتاج للفطور، أنتم لا تتناولونه هنا ؟؟ ”
رمش إيفان ثواني يحاول أن يجد ردًا في رأسه يناسب ما تقول، وما كاد يجيبها حتى سمع صوت الحارس يردد بصوت خافت :
” مولاي هناك امرأة لجأت لعدالتك وهي تنتظر في القاعة الآن”
نظر له إيفان ثواني قبل أن يصرفه بيده، ثم عاد بنظره لتبارك التي كانت تنتظر أن يخبرها متى تتناول طعامها، لكن هو لم يفعل، بل فقط ابتسم يشير لها أن تسبقه في السير :
” إذن تريدين مشاركتي في جلسات الحكم ؟! ربما يكون ذلك جيدًا كبداية لك لمعرفة ما نقوم به في المملكة ”
تنهدت تبارك بصوت مرتفع، ثم اشارت له كي يسبقها في السير وهي تمتم داخل نفسها بصوت منخفض حانق :
” أنا مالي باللي بتعملوه في المملكة، أنا جعانة عايزة أكل هو الناس دي عايشة على الطاقة الشمسية ولا ايه، ألا ما شوفت واحد بياكل ولا بينأنأ في حاجة من وقت ما جيت”
نظر لها إيفان بتسائل لتبتسم له وهي تهز رأسها، ثم زادت من سرعة سيرها وهو يلحق بها لا يدري ما تتحدث به مع نفسها، لكنه يدرك أنه ليس بشيء يود معرفته حقًا.
_____________________
ارتفع حاجب سالار قليلًا يحاول معرفة ما تريد تلك المرأة منه، ورغم أنه لا يحبذ الاختلاط بالنساء أو محادثتهن، إلا أنه أومأ موافقًا يشير لها صوب أحد مقاعد المكتبة وهي سارت أمامه تفرك يديها تفكر فيما ستفعل .
وبمجرد أن وصلت لأحد الأركان بادرت سريعًا دون أن تفقد شجاعتها بالقول :
” احتاج لمساعدتك، أخبرني اخي أن الجأ لك حين أصل للملكة هنا ومن سوء حظي في اليوم الذي تلى وصولي كان هو نفسه يوم رحيلك لاحضارك الملكة ”
تعجب سالار حديثها، ضيق ما بين حاجبيه متسائلًا :
” هل اعرفك ؟؟ وما الذي تريدين مني فعله تحديدًا ومن هذا شقيقك ؟!”
هزت كهرمان رأسها وهي تقول بصوت منخفض ومازال حجابها يخفي كامل ملامحها تردد بهدوء شديد :
” لا اعتقد أنك تعرفني شخصيًا، لكنك تعرفني لأخي ..”
فرك سالار رأسه وهو حقًا لا صبر له لمثل تلك الأحاديث التي يشوبها الغموض، هو يحب أن يلقي محدثه كل ما يريده في وجهه دون مقدمات كثيرة.
” نعم، إذن هل ستخبريني من أنتِ وكيف اعرفك، وماذا تريدين مني ؟؟ فأنا حقًا لست متفرغًا للحديث الطويل ”
بلعت كهرمان ريقها وهي تحاول أن تتماسك وتتحدث بصوت ثابت :
” قبل أن أخبرك من أنا أريد كلمتك سيدي ”
” كلمتي ؟!”
” نعم، رجاءً عدني ألا يعلم الملك شيئًا عني ”
ارتاب سالار أكثر من ذلك الطلب وشعور بوجود خطب خلف تلك الكلمات، شيئًا لن يسره .
” لم أعتد أن أعطي كلمة على ما لا علم لي به، لذا سيدتي إما أن تتحدثي بما جئتي لأجله، أو توفري وقتي ووقتك وترحلي ”
قاسي ؟؟ نعم ومتى لم يكن، أو ربما يمكننا تخفيف وقع تلك الكلمة والقول أنه جاد ولا يعترف بالحديث الكثير، هو رجل حرب لا يعترف سوى بالحديث المباشر، اما نعم او لا، لا يوجد في قاموسه كلمة ربما .
شعرت كهرمان أنها لن تفوز عليه، كما قال شقيقها، سالار لا يحب المزاح ولا يعجبه أن يملي عليه أحد شيئًا أو يجبره عليه، مثله كالملك، لكن ربما الملك متفهم ويستمع ومن ثم يتحدث ويحكم .
وفورًا رفعت حجابها تنظر له بجدية وهي تقول بصوت فاقد الحياة والأمل ونبرة ميتة :
” أنا الأميرة كهرمان، أميرة مشكى و….الوحيدة المتبقية من سلالة ملوك مشكى، شقيقة الملك أرسلان ”
اتسعت عيون سالار بقوة وهو يبصر أمامه شقيقه أرسلان، نعم يعرفها خين لمحها مرات قليلة داخل قصر ارسلان في بعض الزيارات الخاصة به، لمحات قليلة لم يهتم حقًا ليطيلها أكثر من ثواني، لكنها لمحات تكفي ليعلم أنها تقول الصدق .
سقطت دموع كهرمان وهي تقول بصوت قوي وحقد قاتل :
” اريد منك مساعدة في إعادة ارضي وارض أجدادي قائد سالار، اريد منك مساعدتي للقصاص، اريد أخذ قصاص شقيقي وامي، لكن دون معرفة من الملك أو حتى مساعدة منه، لا أريده أن يعلم بأمري ”
شرد سالار بعض الشيء في الفراغ في الوقت التي اطالت هي التحديق بملامحه، ملامح لم تر مثلها كثيرًا، رجل جسور قوي، وكذلك كان الملك يشبه سالار في الطباع مع اختلاف بعض الصفات والتصرفات بينهما و….مهلًا ما شأنها والملك الان ؟! هي فقط تريد مساعدة سالار وفقط، لن تطلب مساعدة بمن سعى لعداوة شقيقها .
” حسنًا ”
كانت كلمة واحدة، واحدة فقط نطق بها سالار قبل أن يتركها ويتحرك من أمامها يشير لدانيار وتميم باللحاق به وخرج من المكان بأكمله .
و تلك المسكينة ما تزال تقف مكانها تحاول أن تستوعب ما يقصد ذلك الرجل بكلمة ( حسنًا).. ماهذا حسنًا ؟؟ هكذا فقط ؟؟ أين الدراما والبكاء والتوعد والصراخ أنه سيجلب لها حق شقيقها ؟؟ أين كل ذلك ؟؟ ما هذا الجبل الذي عبر أمامها وكأنها لم تتحدث بشيء ؟! هل أخطأت حين لجئت له؟!
يا الله تشعر باحتراق داخلها، هي حقًا لا تصدق ردة فعل تلك، كلمة واحدة وتحرك بعيدًا عنها .
ونيران صدرها من يطفئها ؟؟ كرهها من يخففه، من سيتوعد بإعادة حق شقيقها ووالدتها ؟؟
ومن بين صدمتها تلك سمعت صوتًا جوارها بنبرة خبيثة :
” اول مرة تتعاملين مع ذلك المتجبر صحيح ؟!”
استدارت كهرمان بسرعة صوب العريف الذي كان يجلس على مقعده يحمل كتابًا وهو ينظر لها من خلفه ببسمة خبيثة، وفوق كتفه تقبع بومة تنظر لها بـ….بسمة ؟؟
هل تبتسم لها تلك البومة بخبث ؟؟
أعادت كهرمان الحجاب الخاص بها على وجهها بسرعة تخفي وجهها ليسارع العراف يقول بهدوء شديد ونبرة غامضة وهو تحسس ريش بومته :
” لا لا سموك لا تقلقي ما يخرج هنا في مكتبتي لا يعبر جدرانها ”
تنفست كهرمان بصوت مرتفع بعدما أدركت أن ذلك الرجل علم عنها ماتخفيه بالفعل :
” لا اريد لأحد أن يعلم ذلك رجاءً ”
ابتسم العريف يردد بنبرة هادئة:
” لن يعلم أحد مني شيء صدقيني، لكن الاسرار لن تبقى اسرار للابد يا فتاة، وخاصة إن كان ذلك السر هو مفتاح العديد من العقد كخاصتك ”
نظرت له بعدم فهم ليبتسم متحركًا عن مقعده يردد انشودة بصوت مرتفع بعض الشيء، ثم قال لها يحرك يديه في الهواء والبومة تتطاير حوله وكأنها تشاركه تلك الانشودة :
” لا اسرار تختبئ عن الحب، الحب يكره الغموض يا صغيرة، فلا تجديهما يجتمعان سويًا في قصة واحدة، وبالطبع قصتك ليست باستثناء، فإما أن يكشف الحب غموضك، أو أن يقتل غموضك الحب ”
اشتعلت الحيرة بملامح كهرمان التي لم تفهم من ذلك الرجل شيئًا، نظرت أمامها صوب مرجان الذي كان يحدق في العريف بتفكير يحاول أن يحل الغازه، وحينما أبصر نظرات كهرمان له هز كتفيه بعدم معرفة يقول :
” لا أعلم ما يقصد صدقيني، هو هكذا يحب لعب دور الغامض مع الجميع، وانا أجهل ما يريد، ربما تعلم البومة ما يقصد، لكن لسوء الحظ هي لا تتحدث كما تعلمين ”
ابتسمت كهرمان بعدم تصديق لما يحدث حولها :
” ما الذي يحدث أسفل سقف ذلك القصر ؟؟”
___________________
تقف في منتصف الساحة وهي تتمايل بكل دلال تمتلكه، له وحده تفعل ذلك علها تنال رضاه، أو نظرة واحدة منه .
لكن ذلك الذي الذي تكاد تقبل قدمه ليمنحها نظرة رضى واحدة، كان شاردًا لا يشعر بشيء حوله سوى تلك النيران التي تشتعل داخل صدره، حتى لمساتها له لم تؤثر به، ليس لأنه _ معاذ الله _ تقي أو ورع، بل لأن الصفعة التي نالها على وجهه من سالار ما يزال صداها يرن في أنحاء مشكى بأكملها .
تنفس بصوت مرتفع ينظر جوراه لتلك الفتاة ذات الملامح الملائكية التي تتنافى بالكامل مع أفعالها الشيطانية ..
” أنا لست في مزاج يسمح لي بالاندماج معك، لذلك اذهبي من أمامي كي لا انفجر بكِ، وستكونين الضحية الوحيدة هنا ”
انتفضت الفتاة متراجعة عنه، تتنفس بخوف من نظراته السوداوية، ليس وكأنها عاشقة له أو ماشابه، فمن سيحب رجل بوجه نصف مشوه وقلب اسود كبافل ؟! هي فقط شأنها كشأن جميع نسائه، تريد السلطة والثراء المرتبط باسمه .
تحركت الفتاة للخارج تزامنًا مع دخول رجل المكان يقول بصوت مرتفع :
” ارسلت لي سيد بافل ؟؟”
ابتسم بافل ينظر في وجه ذلك الرجل، واحد من شياطين الانس الذين اتحدوا معه لأجل إسقاط مشكى، قائد جيوشها الاول والذي باع مملكته لقاء سلطة اكبر من سلطته المقيدة ..
” نعم، لقد حان الوقت ”
نظر له الرجل بعدم فهم :
” وقت ماذا سيدي لا افهم ؟!”
” وقت إسقاط سفيد يا رجل ”
اتسعت عيون الرجل بصدمة كبيرة لا يصدق ما يسمع، سفيد ؟؟ الآن وقبل أن تتجهز جيوشهم ويستعيدوا حيويتهم بعد هجوم الامس ؟!
” لكن سيدي نحن لسنا مستعدين في هذه اللحظة لسفيد البتة، الأمر صعب، لا سفيد ولا آبى ولا سبز، نحن الآن في أضعف حالاتنا بعد قتل العديد من رجالنا و…”
قاطع كلماته رؤيته لخنجر يمر جوار وجهه وصوت بافل يصرخ بجنون :
” أنا لا آخذ رأيك يا هذا، ستنفذ ما أخبرك به، وإلا لحقت بملكك وجنودك ”
ابتلع الرجل الإهانة التي ألقاها بافل في وجهه وقال بصوت خانع :
” كما تريد سيدي، أخبرني ما يجب عليّ فعله وسأفعل ”
استند بافل إلى سيفه يشرد في المكان أمامه محاولًا التفكير في القادم، هو حقًا يحتاج لكل ذرة تفكير داخل عقله :
” نحن لن نعلنها حربًا صريحة، أريد اولًا أن أرد على هجومه، وسنفعل … ”
___________________
يجلس الثلاثة داخل معمل تميم الذي كان يعمل بجد على سلاحه العزيز والذي أوشك على الانتهاء منه :
” إذن أنت ستساعدها ؟؟”
هز سالار رأسه بهدوء :
” سأفعل، إن لم يكن لأجلها فلأجل أرسلان ”
تنفس دانيار بقوة وهو يفكر في شيء لم يفصح عنه، إن كانت تلك الفتاة والتي ادعت الخائنة _ كذبًا _ أنها شقيقتها وقد هربتا من قرية في غرب سفيد بعد هجوم المنبوذين، والآن اكتشف أن التي تدعي أنها شقيقتها، هي نفسها الشقيقة الوحيدة لملك مشكى السابق، إذن من تلك الفتاة ؟؟
انتفض جسد دانيار، أمام سالار الذي ضيق عيونه بعدم فهم لشروده العجيب ذلك :
” ما بك دانيار ؟؟ بم أنت شارد ؟!”
” لا أنا فقط …كنت أفكر إن كنا سنخبر الملك بشأن الأميرة أم لا، في النهاية هي تجلس أسفل سقف قصره ”
شرد سالار قليلًا قبل أن يقول بتقرير :
” لن نفعل، ليس الآن على الأقل، حينما أتأكد من شيء في رأسي أنا بنفسي ساخبره بأمرها ”
هز دانيار رأسه ولم يتناقش معه في شيء لمعرفته أنه يعلم ما يقرر جيدًا .
وبعد دقائق من الحديث تحرك دانيار بحجة رؤية شقيقه لأمر هام، وخرج من المعمل بسرعة تحت نظرات متعجبة من تميم و غامضة من سالار الذي أدرك أن دانيار يخفي شيئًا ما ..
بينما دانيار تحرك خارج المعمل يعيد خصلاته للخلف وهو يتمسك بحاملة سهامه جيدًا، يحيي جميع من يقابله برأسه، يسير في الممرات وهو يعلم أين سيجد تلك الخائنة .
خرج من القصر بأكمله وسار للجزء الخلفي من القلعة حيث الباب الخلفي المؤدي للخارج وهو يبتسم بخبث، خرج يضع قلنسوة أعلى رأسه صاعدًا أعلى فرسه، ثم اندفع به للسوق الشعبي حيث تلهو تلك المخادعة في مثل هذا الوقت من كل أسبوع .
نعم يراقبها داخل القصر ويعلم كل ما تفعله، وها هي مراقبته تؤتي ثمارها .
وفي السوق كانت هي تسير بحرية بلثام الوجه، و حجاب بسيط أعلى فستان اسود بحزام جلدي به بعض الخناجر تسير متفاخرة بهم، وكأنها تتحدى أن يقترب منها أحدهم .
وأصوات الباعة ترن حولها بشكل متداخل لم تهتم لهم، إلا أن جذب مسامعها صوت رجل يصيح بصوت هادئ رزين بعض الشيء :
” الحرير سيدتي ؟! اشتروا مني أفخر انواع الحرير في جميع الممالك”
حرير ؟؟ هذا مثير للاهتمام، منذ متى لم تشتر لنفسها شيئًا كهذا من باب الدلال ؟؟ تحركت زمرد صوب ذلك الرجل وهي تنظر صوب انواع والوان الحرير أمامه مبتسمة بسمة صغيرة .
بدأت تتلمس بأطراف أصابعها الحرير تقول بصوت خافت :
” مرحبًا يا عم بكم القطة لديك ؟!”
ابتسم لها الرجل بوقار واحترام شديد :
” بخمس قطع ذهبية آنستي، وصدقيني لن تجدي بهذا السوق ولا أي سوق بالمملكة اجمع من ينافس جودة وسعر حريري ”
ابتسمت زمرد وقد نال ذلك الحرير إعجابها ووقعت عيونها على قطعة من اللون البرونزي اللامع، لتلتمع عيونها تباعًا للأمر، تتحسسه بوله شديد :
” يبدو هذا مناسبًا لي، إذن سآخذ قطعتين، هذه و…”
وقبل أن تكمل كلمتها شعرت بيد تجذب الحجاب الذي تلفه حوله رقبتها، ويقوم بلفه حول وجهها بسرعة مخيفة، ثم سحبها من ذلك الحجاب، وزمرد ودون تفكير للحظة واحدة تحركت يدها صوب الخناجر الخاصة بها، لكن تلك اليد التي سحبتها بعنف أجبرها صاحبها على دخول زقاق ضيق لا أحد به، يدفعها صوب أحد الأركان هامسًا بصوت مخيف :
” مرحبًا بالخائنة الكاذبة والمخادعة ”
اتسعت عيون زمرد حينما رأت عيون تعرفها تمام المعرفة، رفعت حاجبها تتنفس بصوت مرتفع :
” كل هذا ؟؟ يا ويلي يبدو أنني اسوء مما توقعت ”
ابتسم لها دانيار بشكل مرعب ينزع القلنسوة عنه، ثم في ثواني كانت أنامله تنتزع جميع خناجرها ملقية إياها ارضًا، وبعدها ابتعد عنها يقول بصوت مهدد :
” والآن ايتها المخادعة تحدثي وأخبريني من أنتِ ومن ارسلك للقصر وبأي حجة ؟؟”
نظرت له زمرد بغضب شديد وعيونها تتحرك صوب الخناجر خاثتها بغضب شديد، تحركت بسرعة بغية امساكهم، لكنه نزع سهمًا من حافظة سهامه يضعه داخل القوس وموجهًا إياه عليها :
” أنتِ لا تريدين أن تصبحي هدفًا حيًا لسهامي صحيح ؟؟”
رمقت زمرد عيونه بغضب شديد لتميل بكل عناد صوب الخناجر الخاصة به وكأنها تخبره أن يفعل ما يريد، لكن كل ما فعل دانيار أنه امسك سهم آخر ووجهه لها، وهي رفعت حاجبها بسخرية وكأنها تخبره ( حقًا ؟؟)
وهو ابتسم بسمة أوسع ينتزع سهمين آخرين لتكون الحصيلة أربعة سهام في قوسه وجميعهم موجهين لرأسها :
” يمكنني الاستمرار حتى الصباح، وصدقيني سأزيد من سهامي حتى يمتلئ جسدك بأكمله.”
استقامت زمرد في وقفتها تقول ببسمة ساخرة :
” يبدو أنني أرهق تفكيرك لدرجة أن تأتي خصيصًا خلفي وتقف الأن امامي تبذر سهامك على جسدي ”
نظرت له بخبث شديد، ثم اقتربت منه خطوات صغيرة تقول بصوت هامس:
” هل حلمت بي لتقفز أمام وجههي منذ الصباح ؟؟”
ابتسم لها دانيار بسمة واسعة قبل أن تتحول تلك البسمة لضحكات مرتفعة، يميل قليلًا كي يصل لطولها :
” تتمنين، لكن عقلي لديه أمور أكثر أهمية منك ليفكر بها في نومي على هيئة احلام ”
رفعت زمرد حاجبها بسخرية :
” بل انت من تتمنى، لم يتبقى غير رامي السهام لارهق نفسي في أحلامه ”
فجأة شعرت بسهم يخترق الحاملة الخشبية خلفها لتشهق بصوت مرتفع وهي تتحرك بعيدًا عن كل ذلك، استدارت صوب دانيار الذي ابتسم لها ببساطة :
” سيدهشك ما يستطيع رامي السهام فعله، هيا لا تضيعي وقتي وأخبريني من أنتِ ومن أي مملكة جئتِ ”
صمت ثم سارع يلغي خطتها التي تلوح في عيونها :
” ولا تقولي أنكِ هربتي مع شقيقتك من الحدود الغربية حتى هنا، فكلانا يعلم أن شقيقتك هي نفسها أميرة مشكى،”
شهقت زمرد بصدمة مما قال، كيف علم الأمر ؟!
وقبل أن تبادر بطرح سؤالهم قاطعها شعورها بحد السهم يكاد يخترق رقبتها وصوت دانيار يهمس بتحذير :
” من أنتِ وما قصتك ؟؟”
ابتلعت زمرد ريقها تقول وهي ترفع يديها في الهواء تدعي استسلامًا :
” أنا…أنا الخادمة الخاصة بالاميرة، هربت معها ليلة اقتحام المنبوذين لقصر مشكى وقتلك الملك، وجئنا هنا للاحتماء بسفيد، ولم أتحدث بكلمة بناءً على أوامر الأميرة ”
مقنعة وجدًا، ومنطقية كذلك، كان يدرك أن هذا سيكون ردها، لكنه أراد التأكد، أو أنه فقط أراد حجة كي يتحدث معها ؟؟
” وكل تلك المهارات التي تستطيعين فعلها ؟؟”
” الأميرة علمتني كل ذلك، كنت اراقبها طوال فترة تدريبها وتعلمت معها ”
نظر لها دانيار بشك وهي فقط ابتسمت تبعد عنها حد السهم تقول :
” هذا كل ما اعرف سيدي صدقني ”
نظر لها دانيار قبل أن ينزع السهم يقول :
” أنا لا أستطيع تصديقك حقًا ”
” أوه اعلم هذه المشكلة فملامح وجهي لا تساعد في الأمر، لكن يمكنك المحاولة وستنجح يومًا ما ”
راقب دانيار عيونها السوداء التي كانت في تلك اللحظة ملتمعة، وابتسم بسمة جانبية يقول :
” نعم، ربما يومًا ما أستطيع تصديقك ”
أخفى سهامه مجددًا في حافظتها، ثم نظر لها من أعلى لأسفل يقول :
” يجب أن تتوقفي عن الهروب من العمل وإلا عوقبتي ”
عدلت زمرد من وضعية لثامها تقول بجدية :
” لقد منحني الملك إجازة لأجل ما فعلت بذلك المنبوذ الـ ”
صمتت تحت نظراته المتعجبة وكأنه يسألها عما تقصده، وهي قلبت عيونها بملل تراه يخرج سهامه مجددًا يضعها في القوس يوجهها لها .
” أي منبوذ وما الذي فعلته يا امرأة ؟؟”
نفخت زمرد بحنق شديد ترفع يدها تدعي استسلامًا :
” أوه ليس مجددًا ”
_________________________
كان هذا أشبه بالمحكمة في عالمها، لكن الأمر والمتعة كانت تتمثل أنها تجلس كما القاضي تستمع وتحكم، حسنًا الملك هو من كان يحكم بين الجميع، وهي كانت تشاهد بصمت، ربما يمكن القول أنها كانت تتخذ دور المستشار ؟؟ نعم يعجبها هذا اللقب .
وأثناء طريقها خارج القاعة بعدما تركت الملك يهتم بشؤونه، اصطدمت في امرأة جعلتها تتراجع للخلف بسرعة :
” اعتذر لكِ سيدتي لم …”
وقبل أن تكمل كلماتها وجدت تلك المرأة تنبذها وترحل بعدما ألقتها بنظرات غير مهتمة، فتحت تبارك عيونها بعدم فهم مما حدث .
أبصرت في تلك اللحظة سالار الذي كان يتحرك صوب القاعة وتوقف ليرى الام بينها وبين الملكة الأم، ويبدو أن الملكة لم تتعرف على هوية تبارك .
أشارت تبارك على المرأة التي رحلت وهي تقول :
” هي الست دي مالها زعلانة كده ؟!”
رفع سالار حاجبه ينظر لها من أعلى لأسفل متعجبًا ما ترتديه، إذ لم تعتد عينه بعد على رؤيتها بثياب نساء مملكته، وفجأة توقف على وجهها يقول :
” أين غطاء وجهك ؟!”
حملقت به تبارك بعدم فهم تتحسس وجهها :
” يعني ايه ؟! هو ده جزء من اللبس بتاعكم ؟! ”
” ماذا ؟؟ ما هذا الذي تقولينه ؟؟ هناك غطاء للوجه عليكِ وضعه قبل خروجك من جناحك …مولاتي ”
قال كلمته الأخيرة ضاغطًا على أسنانه بغضب، وهي نظرت له تقول بهدوء مستفز :
” محدش قالي حاجة، بعدين أنت مالك ؟؟”
ضغط سالار على أسنانه بغضب وهو يحدجها بتحذير أن تلتزم حدودها معه، وتبارك التي كانت منذ الصباح غاضبة في الأساس لم تخضع لنظراته تقول بجدية :
” وإن ظننت أن نظراتك هذه ستخيفني، فأنت محق أنا بالفعل اخافك، لكنني الأن في مقام الملكة؛ لذلك أنت مجبر على احترامي، والآن يا فتى أخبرني كيف أجد فطوري ”
تشنج وجه سالار بقوة يردد بعدم فهم :
” فتى ؟؟ حقًا ؟؟”
اطال النظر لها ثم اقترب منها يقول بتشنج وملامح مخيفة :
” من تظنيني يا امرأة ؟؟”
” البودي جارد بتاع الملك ”
رفع حاجبه يحاول ترجمة تلك الكلمات في عقله، هو يعلم بعض اللغات القديمة والقليل فقط من اللغات الجديدة، وهذه الكلمات يعلمها لكن لا يتذكر لها معنى :
” اسمعي جيدًا إليّ، هل ترين ذلك الشيء المعلق في خصري ؟؟”
اشاحت تبارك عيونها عنه صوب حزام خصره، ثم قالت :
” أتقصد ذلك السيف ؟!”
” نعم هو، لا تحاولي استفزازه فهو لن يفرق بين ملكة وعاملة ”
هزت تبارك رأسها بهدوء شديد تحاول أن تتجنب الجدال في هذه اللحظة ولم تقل سوى :
” الله يسامحك، أنا اساسا يعني مش ميتة على شوفتك، ده أنا مُنى عيني مشوفش وشك قدامي تاني ”
ابتسم سالار يردد ببسمة باردة مرعبة يهمس لها :
” ابشري..”
نظرت له بخوف متراجعة تردد رغم ذلك بعناد :
” قبلت البشرى ”
ابتسم لها وهو ينظر بشر صوبها :
” جيد، والآن مولاتي اسمحي لي بالمغادرة رجاءً، استأذنك الرحيل ”
أشارت له تبارك تتنحى عن الطريق ساخرة :
” تصحبكم السلامة ”
راقبت أثره ثم غمغمت بسخرية لاذعة :
” ناصح أنت آخر ثانية من الحوار تقول مولاتي وتحترم نفسك بعد ما تقل من قيمتي طول المناقشة”
تنهدت بصوت مرتفع تنظر في أرجاء القصر بتعب :
” ودول بياكلوا فين دول ؟؟”
_______________________
زفر بضيق شديد وهو يتابع مهيار بعيونه، يُجلسه هنا منذ ساعة تقريبًا كي يفحص جروحه التي حصل عليها سابقًا .
” مهيار بالله عليك ألم تنتهي ؟! أشعر أنني اجلس هنا منذ سنوات ”
نزع مهيار تلك اللاصقة يتذمر من تذمر تميم والذي كان لا يحتمل الجلوس على الفراش أمامه كالجالس على جمر، جمع كل أدواته يقول عقب تنهيدة صغيرة :
” انتهينا تميم، وربما يفيدك أن تهتم بجرحك فهو على وشك أن يلتهب مجددًا، وصدقني لن يعجبك ما ستلاقيه حين يحدث ذلك .”
التوت ملامح تميم يعيد ثيابه مجددًا وهو يهبط عن الفراش، ثم تحرك صوب باب الغرفة يردد بجدية كبيرة :
” نعم ربما حين انتهي من عملي، سوف اهتم به وارعاه”
ابتسم له مهيار بسخرية تفوق خاصته :
” حري بك هذا وإلا لا تلومن إلا نفسك ”
لوح تميم بيده يقول مبتسمًا :
” الوداع سيدي الطبيب ”
تحرك تميم خارج المشفى يتحسس جرحه بتعجب شديد، ثم بدأ يضغط عليه مجددًا وهو يردد بصوت مستنكر :
” هي من الأساس لا تؤلمني، لِم عليّ أن انتبه عليها إن كانت لا تفعل ؟؟ هراء، أنا في النهاية لن أخضع لكلمات مهيـ”
اصمتت دفعة من إحدى النساء حديث تميم لنفسه، إذ تراجع الأخير للخلف بسرعة كبيرة رافعًا يديه في الهواء معتذرًا :
” آسف لم ارك آنستي، اعتذر منك .”
ابتسمت الفتاة خلف غطاء الوجه تتحدث بصوت رقيق وقد وجدت أخيرًا