رواية مملكة سفيد كاملة جميع الفصول بقلم رحمه نبيل

رواية مملكة سفيد كاملة جميع الفصول بقلم رحمه نبيل


رواية مملكة سفيد كاملة جميع الفصول هى رواية من تأليف المؤلفة المميزة رحمه نبيل رواية مملكة سفيد كاملة جميع الفصول صدرت لاول مرة على فيسبوك الشهير رواية مملكة سفيد كاملة جميع الفصول حققت نجاحا كبيرا في موقع فيسبوك وايضا زاد البحث عنها في محرك البحث جوجل لذلك سنعرض لكم رواية مملكة سفيد كاملة جميع الفصول
رواية مملكة سفيد بقلم رحمه نبيل

رواية مملكة سفيد كاملة جميع الفصول

إن كانَ لَيْلُكَ قد كساكَ بُحزنهِ
ما ذنبُ صُبحِكَ أن يراكَ حزينا؟!”.
صلوا على نبي الرحمة
_________________
تسير والحذر رفيقها، تشعر أنها تود لو تطير متجاوزة تلك المنطقة، لا ترغب أن تمر بها وتعرض آذانها العزيزة لصيحات النساء، وتهكمات الثرثارات منهن، الأمر وما فيه أنها ملت كل ذلك، والأصح أنها ملت الحياة في تلك المنطقة، ولولا كسرة الخبز الجافة التي تتناولها كل يوم في غرفتها الرطبة العفنة، لكانت رحلت عن المكان بأكمله، لكن ماذا تفعل وحياة التقشف تناديها وتغريها .
وقع بصرها فجأة على عربة فواكهة بها اطباق جاهزة من فواكهة متنوعة، ثمرة تقريبًا من كل نوع، وفوق الطبق كُتب ( ٢٠ جنيهًا بدلًا من ٢٥ ).
ها انظروا المزيد من الاغراءات كي لا ترحل عن المكان، بالله عليكم كيف تترك تلك المنطقة التي تبيع أربعة ثمرات فواكه بخصم خمسة جنيهات ؟! أين قد تحصل على مثل تلك الرفاهيات ؟!
خرجت تبارك واخيرًا من تلك المنطقة بعدما استطاعت تلاشي ألسنة سكانها اللاذعة، انحرفت في شوارع عدة تركض بين برك المياه الملوثة، غير مهتمة بحذائها، فهو وَسخ على أية حال ..
توقفت أمام بناية صغيرة من ثلاثة أدوار، تتنفس بصوت مرتفع تجفف عرق وجهها متحركة صوب الداخل، وقد ظهرت لافتة مهترئة تعلو مدخل البناية كُتب عليها ( مستشفى الأمل والحياة ) حيث يُقتل الأمل وتتلاشى الحياة .
ابتسمت تستقبل يوم جديد في عملها بكامل الطاقة والحيوية، تفتح ذراعيها بسعادة، وبدلًا أن تستقبل طاقتها الإيجابية، استقبلت طفل صغير يبكي بصوت مرتفع وصديقتها تقول :
” امسكي يا تبارك العيل الزنان ده لغاية ما أمه تخرج من الكشف، أنا مش فاهمة الناس اللي بتيجي يكشف ويجيب عيل معاه ويرميه لينا ”
نظرت تبارك بصدمة لذلك الصغير الذي يقبع بين أحضانها يبكي ويجذب حجابها، بينما هي تحاول أن تتلاشى يده قائلة بصدمة :
” طب وأنا مالي يا سميرة، خدي الولد ده أنا مش فاضية عندي مرور على العنابر ”
لكن سميرة كانت قد رحلت بالفعل، وتبارك نظرت للصغير الذي كان صوته قد أيقظ الاموات من قبورهم، زفرت تتحرك به صوب غرفة تبديل الثياب تاركة إياه على الأرض تختفي خلف ستار لتبدل ثيابها لثياب العمل، إذ كانت تبارك تعمل في هذه المشفى المتواضعة ” ممرضة ” .
خرجت تعدل من وضعية ثيابها، تحمل الصغير مجددًا تضع القلم في فمها وتمسك مدونة بين أصابع يدها الحرة تقول :
” همشي أنا بيك في المستشفى كده ؟؟ أمك بتولد ولا ايه ؟! كل ده كشف ؟؟”
ختمت حديثها تتحرك دخل بعض الممرات كي تمر على بعض العنابر تطمئن على المرضى والصغير ما يزال يبكي بين ذراعيها، وبدأت بعض الجمل الحانقة تخرج من فم جميع المسطحين على الأسرة ..
” يا ختي وهي ناقصة دوشة عشان تجينا بابنك؟!”
” كنتِ سبتيه مع أبوه يا بنتي بدل بهدلتك بيه دي ”
” ايه الزن على الصبح ده ما ترضعيه يا ختي ولا تشوفيه ماله؟ ”
زفرت تبارك تحاول أن تُصمت ذلك المزعج الصغير تعتذر منهم بهدوء شديد :
” مش ابني والله ولا اعرفه ولا أعرف أبوه، أنا متضررة زيي زيكم ويمكن اكتر منكم، حقكم عليا والله….. يا بني سيب ام الطرحة ”
زفرت تلقي المدونة ارضًا، ثم تحركت خارج المكان بأكمله تبحث عن سميرة كي تفرغ بها كامل سخطها على ما يحدث، لكن فجأة توقفت أقدامها بصدمة في منتصف الطريق حينما ابصرته يتهادى نحوها بطلته المبهرة، يسير متمخترًا كالطاووس يجذب نحوه أنظار جميع إناث البغبغاوات حوله، وهي لم تكن أفضل منهن إذ انجذبت له ولهيبته كما الفراشة لللهب .
ابتلعت ريقها تسير بهدوء وهي تضم الصغير لها، تدري جيدًا أنها لن تلفت يومًا أنظاره ولن يراها، وهذا للحق جيد لها، فهي فقط تحب مشاهدته من بعيد وتتأمل وسامته كما الجميع هنا، لكن ومن بين كل تلك الغمامات توقفت فجأة على صوته يقول بتعجب :
” تبارك أنتِ خلفتي ولا ايه ؟!”
توقفت تبارك بصدمة وقد اتسعت عيونها، لا تصدق أنه يعرفها ويعرف اسمها، وفي المرة الوحيدة التي يقرر بها ذلك المغرور أن يهبط عن عرشه ليتفقد الرعية ويمن عليها بحديث، تكون وهي حاملة بين ذراعيها صبي صغير باكي .
رفعت عيونها له وقالت بعدم فهم ولهفة :
” خلفت ايه ؟؟ لا لا ده مش ابني أنا اساسا مش متجوزة يا دكتور ”
رفع الطبيب حاجبه بعدم فهم :
” مش متجوزة ازاي ؟؟ هو مش أنتِ اتجوزتي من وأنتِ ١٥ سنة وكان فيه مشاكل مع جوزك عشان بيضربك وغضبانة ؟!”
كانت تبارك تتابع قصة حياتها المأساوية على لسان الطبيب الذي أُعجبت به، يصف معاناتها مع زوجها القذر الذي يريها الويل ألوانًا منذ تزوجت به وهي فتاة قاصر.
آهٍ فقط لو تمسك به تقسم أنها ستذيقه الجحيم، لكن للاسف الشديد هي لا تستطيع؛ لأنها ببساطة ليست متزوجة .
ابتسمت تبارك تقول بعدم فهم واستنكار :
” ايه ايه ؟؟ مين اللي قال لك كده ؟! أنا متجوزة وغضبانة ومخلفة ؟؟”
تراجع الطبيب للخلف بعدم فهم لنظراتها المخيفة تلك، ثم نظر خلفه صوب الممرضات اللواتي كن يحدقن نحوهما بفضول كبير يقول :
” سميرة وعبير اللي قالولي كده ”
رفعت تبارك عيونها فورًا تجاه سميرة وعبير، إذ انتفضتا في وقفتهما تبعدان عيونهما عنها برعب كبير، وتبارك تتوعد لهما، تنفست بصوت مرتفع تقول بلا اهتمام :
” لا يا دكتور أنا لا متجوزة ولا غضبانة ولا نيلة، والعيل الزنان ده ابن سميرة اساسا، بس عشان عبير مجابتش عيالها الاتنين انهاردة يلعبوا معاه عمال يعيط وانا قولتلها هاخده اسكته ”
أنهت حديثها تستأذن منه ترحل برأس مرفوعة تشعر بالغضب والحنق تاركة خلفها الطبيب يحدق في ظهرها بريبة كبيرة، متعجبًا تصرفاتها، ومنذ متى لم تكن تصرفات تبارك غريبة، تلك الفتاة التي تدور حولها علامات استفهام كثيرة منذ جاءت للعمل في المشفى .
اقتربت تبارك من سميرة تعطيها الصغير مبتسمة بهدوء :
” ابنك يا حبيبتي ابقي سكتيه بنفسك، جاتكم الهم والواحد مش بياخد من وراكم غير المصايب ”
تحركت بعدها تبارك صوب عملها ترغو وتزبد، تحاول تعديل وضعية حجابها بعدما افسدها ذلك الصغير، وافسد كذلك فرصتها مع ذلك المغرور الوسيم …
للجحيم جميعًا .
________________________
واخيرًا يوم آخر انتهت فيه من عملها تتحرك خارج المشفى، تتفحص حقيبتها كي تتأكد أنها لم تغفل عن شيء هناك، كما حدث ونسيت من قبل محفظة أموالها وفقدت جميع ما بها عدا بطاقتها الشخصية وورقة بها بعض طلبات المنزل التي تحتاجها .
ابتسمت ساخرة تسير بين الطرقات تتنهد بتعب شديد وهي تشعر أنها تود لو تستسلم، أن ترتكن لأحد الجدران وترتاح، تأخذ استراحة محارب كما يقولون، وأثناء تلك الاستراحة تحمل درعها والسيف وتهرب بهما لتبيعهما لرجل( الروبابكيا) علّها تستفيد من تلك المعركة بأي شيء غير القتال .
وعلى ذكر القتال رأت تبارك معركة يومية تلوح لها في الأفق، حينما أبصرت جارتها الودودة صاحبة اللسان السليط تقف أمام بنايتها تحمل بين أناملها بعض الإبر الطبية صارخة بصوت جهوري، وبيدها الأخرى تمسك صبي بعمر العشر سنوات يفوقها طولًا وهي تقول بحنق :
” ما تهمد يا زفت واستنى أما التمرجية تيجي ”
تمتمت تبارك بحنق شديد تعض شفتيها :
” تمرجية ؟؟ اخرتها بعد سنين دراسة وبهدلة في الخدمة ؟؟”
تنفست بصوت مرتفع تستدير لتعود وتغير طريقها، أو تختفي لساعات حتى تمل جارتها وترحل مع ذلك الغبي ابنها الذي تأتي به يوميًا لتعطه هي حقنته ..
ولم تكد تستدير حتى سمعت صيحة مرتفعة تقول بتهليل :
” اهي جات اهي، تبارك، تعالي الله يكرمك يا ختي ادي الواد ده الحقنة لاحسن مستنياكِ من بدري وميعاد الحقنة عدى ”
أغمضت تبارك عيونها بغيظ شديد، قبل أن تمحي غيظها وترسم بسمة واسعة تستدير ببطء تقول باعتذار خافت :
” معلش يا ام أنور اصل أنا مش معقمة ايدي وكنت بتعامل مع مرضى كتير وكده ممكن أأذي أنور، ممكن تاخديه الصيدلية اللي على اول الشارع فيها شاب يديله الحقنة عادي ”
وقبل أن تركض صوب منزلها اوقفتها ” أم انور” باعتراض :
” هو ايه أصله ده يا ختي، هو أنتِ هتعملي عملية ولا ايه، بقولك تعالي ادي الواد الحقنة خليني ارجع البيت الاكل على النار والحاج زمانه راجع من الجزارة ينكد عليا، شكل كده طلاقي على ايدك ”
اتسعت أعين تبارك من كل تلك الكلمات :
” كل ده عشان حقنة؟! حياتك كلها واقفة على حقنة ابنك ؟؟ وبعدين هو مش خف ولا هو كل ما يلاقي نفسه فاضي يجي ياخد حقنة ؟؟”
أخذت تبارك الإبرة تجهزها أثناء حديثها وأم أنور تتحدث بكلمات كثيرة كعادتها :
” طبعا ما أنتِ معندكيش عيال وراجل في رقبتك ومش عارفة المرار اللي الواحد شايفه، ألا صحيح يا بت يا تبارك هو مفيش حد كده ولا كده ؟؟ ”
نظرت تبارك حولها قبل أن تعود لها بنظرها :
” لا مفيش حد يا أم أنور”
” يابت ركزي أنا قصدي عريس ….خطيب ”
أجابت ببساطة شديدة وهي تخرج الهواء من الإبرة :
” لا مفيش ”
التوى ثغر السيدة وهي تمتص شفتيها، تفتح فمها على وشك نطق جملة تحفظها تبارك عن ظهر قلب؛ لذلك قالت تقاطعها :
” تعالى ادخلي جوا عشان اديله الحقنة ونخلص ”
وقبل أن تتحرك أمسكت بها أم أنور تقول بجدية :
” جوا ايه يا ختي ما تديها للواد خلينا نخلص هو يعني في حد ؟! اقلع يابني خليها تـ ”
وقبل أن تضع أم أنور كلامها حيز التنفيذ صرخت تبارك تمسك يدها بصدمة تنظر حولها بشحوب وصدمة من كلماتها :
” يقلع ايه ؟؟ أنتِ بتعملي ايه أنتِ ادخلي جوا يا ست، عايزة تفضحي ابنك في الشارع هو مفيش احساس ولا حياء خالص ؟!”
رمقتها السيدة بحنق وقبل أن تتحدث قال الصبي وقد بدأ يتململ في وقفته بحنق شديد :
” انا زهقت ياما وعايز ادخل الحمام، خلصوني بدل والله امشي ومش هاخد حقن ولا نيلة”
صفعته والدته تزجره :
” ما تستنى مسروع على ايه ؟؟ ما تخلصينا يا ختي أنتِ كمان ”
كانت تبارك تشعر بعدم الارتياح، تنظر حولها محاولة أن تجد أي شيء ينقذها من كل هذا، وحينما يأست، وضعت الإبرة بيد أم أنور تقول بجدية ورفض تام :
” أنا جهزت الحقنة اهي يا أم أنور، خدي ابنك وروحي بيه الصيدلية عشان أنا افتكرت فجأة اني نسيت حاجة مهمة، عن اذنك”
وبمجرد انتهاء كلماتها ركضت على الدرج بلهفة تتجاهل صيحات السيدة المستنكرة وصراخ الصبي أنه يود الرحيل، ومن ثم وصلة مرتفعة من السباب لحقت بها حتى دخلت لشقتها المتواضعة تغلق الباب خلفها تتنفس بصوت مرتفع تلقي الحقيبة على الأرض متحركة صوب المرحاض تغسل يديها :
” يارب توب علينا من الشغلانة دي ”
أنتهت ترفع عيونها صوب المرآة تحدق في وجهها وملامحها، بشرة سمراء بعض الشيء، مع ملامح صغيرة تبدأ بعيون بلون العسل الصافي تحدها رموش كثيفة وأنف صغير مع شفاة متوسطة الحجم، مدت يدها تنزع حجابها بشرود وهي تداعب خصلاتها التي كانت مقدمتها هائجة متقصفة مذكرة إياها بضيق حالها وعجزها عن شراء مستلزمات العناية بالشعر كما ترى الجميع يفعل، وكأنها تمتلك وقتًا حتى لتفعل …
زفرت بصوت مرتفع تطيل النظر بنفسها تملئ كفيها بالمياه، ثم بدأت تمسح على شعرها في محاولة يائسة لردع تلك الخصلات وإحباط تمردها، وحينما انتهت ابتسمت بسخرية :
” شكلي كده هحتاج اشتري علبة كريم عشان الشوية دول، وادي نص المرتب راح، بس ولا يهمني اهم حاجة التألق ”
صمتت ثم تحدثت بتهكم من ذاتها :
” بس لمين ؟؟ اخرتها ايه ؟؟ ومع مين ؟!”
كانت تتحدث لنفسها وهي تنظر للمرآة قبل أن تتشقق المرآة فجأة بشكل مرعب جعلها تطلق صرخة مرتعبة تعود للخلف، ابتلعت ريقها تقول :
” ايه اللي حصل ده ؟؟ ايه اللي حصل ؟؟؟”
تنفست تقترب من المرآة تتحسسها بريبة، لربما ذلك الشيء الذي يصيب الزجاج فيؤدي لحدوث هشاشة شديدة لجزئياته ويتحطم بسهولة، نعم هذا هو التفسير الوحيد لمـ
وفجأة توقفت أفكارها مطلقة صرخة عالية تندفع للخلف ساقطة ارضًا على ظهرها، تزحف برعب وهي ترى شعاع نور يخرج من المرآة …..
________________________
قلعة شامخة مرصعة بالعديد من الأحجار الكريمة، نُحتت داخل أحد الجبال العظيمة البيضاء، قلعة تنافس الجبال طولًا، يحيطها العديد من المروج الخضراء والشلالات التي تبدو كالسحاب لشدة بياض المياه بها، قلعة لو قضى الشعراء قرونًا لعجزوا عن كتابة بيت شعر واحد يوفيها حقها…
وداخل تلك القلعة ..
يسير هو بكل هيبة وقوة مرفوع الرأس، شامخ، لا ينظر لموضع قدمه بل يسير مدركًا أين تحط قدمه، وهل هناك ركن واحد يجهله داخل جدران تلك القلعة ؟؟ كيف وهو ملكها وصاحب كل حجر بها ؟!
يتحرك بسرعة وخطوات تهز الأرض أسفله، وخلفه يركض العديد من الرجال الذين لا يقلون عنه في الهيبة أو الجسد أو حتى وسامة الملامح التي عُىف بها رجال تلك المملكة.
يتحرك بين ممرات القلعة وملامحه لا تنذر بالخير، وبمجرد أن وصل لإحدى الغرف توقف يقول بصوت قوي ونبرة مخيفة :
” ابلغ الملكة أنني اطلب اذنًا بالدخول ”
هز أحد الحراس رأسه في طاعة عمياء يتحرك داخل مخضغ الملكة وغاب ثواني قبل أن يخرج يحرك رأسه ببطء :
” الملكة تخبرك أنها بانتظارك مولاي ”
تحرك الملك صوب الغرفة مندفعًا بعدما أشار لمستشاريه بالتوقف، يدخل كالعاصفة الهوجاء لا يرى أمامه، وبمجرد أن سمع صوت غلق الباب نظر بعين مشتعلة صوب والدته التي كانت تجلس على فراشها تحمل بين أناملها كتاب تطالعه بهدوء شديد …
” بني، لمن أدين بالشكر لأجل حضورك لمخضعي ؟؟”
ارتسمت بسمة قاسية أعلى فم الملك وقد شعر بالغضب يتملك منه :
” لأفكارك العظيمة مولاتي، تدينين بالشكر لأفكارك العظيمة التي لا يضاهيها افكار في الممالك الأربع ”
ارتسمت بسمة هادئة على فم الملكة تدرك أن ما فعلته وصل له لتقول برزانة وتعقل :
” سأعتبر هذا مدحًا بني ”
” رجاءً لا تجبريني على الضحك أمي، فأنا وأنتِ نعلم أن حديثي لم يكن مدحًا بأي شكل من الأشكال ”
صمت يقول بأعين مشتعلة :
” من ذا الذي منحك حق التدخل بأموري الخاصة مولاتي، من الذي أخبرك أنني احتاج افكارك العظيمة لتدبر أمور مملكتي؟!”
رفعت الملكة عيونها له ببطء، ثم قالت وكأن صرخاته لا تسوءها، أو أن نظراته السوداء لا تخيفها :
” وهل تسمي خوفي عليك تدخلًا أنا أصدر ما أراه يصب في مصلحتك ”
صرخ في وجهها بجنون وقد أفلت عقال صبره، يشعر بالغضب يُصب داخل أوردته، يسير بها مجرى الدماء :
” ولأجل هذا عمدتي للاعتراض على قراري، وتحدثتي أمام الجميع بأمرٍ يقضي بابتعاد قائد الجيوش عني ملقية إياه في غياهب الحرب، ماذا إن ناله سوء ؟؟ كيف سأتدبر أمري لحين أجد مخلصًا مثله ؟؟”
” وماذا تريد مني أن أفعل وأنا أراك تقحم نفسك في حروب لا قِبل لك بها؟؟ وإن لم يكن قائد جيوشك هو من يقود تلك الحرب فمن سيفعل بالله عليك ؟؟”
اشتعلت عيونه يقترب منها خطوات بطيئة دبت رعب داخل صدرها، تدرك جيدًا أن ولدها ليس من الحلم الذي يجعله يتغاضى عن أفعالها كثيرًا، لكن حتى وإن نفاها لاعمق بئر في المملكة فلن تتراجع عن حمايته .
صدر هسيس من فم الملك يقول :
” أمور جيشي وأمور مملكتي أنا من اتحكم بها، لا أنتِ ولا أحد آخر يفعل، سمعتي …مولاتي؟؟”
تنفست والدته بصوت مرتفع ليتحرك مبتعدًا عنه، لكن فجأة توقف مجددًا واستدار لها نصف استدار يضيف :
” وصحيح ليس فقط أمور جيشي، توقفي عن التدخل في كامل شئون حياتي، فلا ينقصك سوى إخبار جميع اميرات الممالك الأربع أنني من اليأس الذي يجعلني أعرض نفسي عليهن ارتجي منهن امرأة تناسبني ؟؟ بأي حق تفعلين بي ذلك ؟؟”
” بحق أنني والدتك، أنت حتى هذا اليوم لم تجد زوجتك التي تتغنى بها ”
تنفست بصوت مرتفع تقترب له تربت على وجنته بحنان شديد :
” اسمع بني أنا أعلم جيدًا أنك مستاء لأنك… لأنك وحتى هذا العمر لم تجد امرأتك المنشودة كما حدث لجميع رجال العائلة قبلك، لربما بالبحث تجدها، دعك من تلك الخرافات التي تقول أن زوجة الملك لابد أن يلقيها القدر على اعتابه، ويسوقها له بأي طريقة من الطرق، تزوج من أي أميرة تعجبك ودعك من تلك الترهات ”
ابعد الملك وجهه عن يد والدته يقول دون نقاش :
” نعم تلك التراهات التي ألقت بكِ بين أحضان والدي باكثر الطرق غرابة، زوجتي ستأتي لي يا أمي وحتى ذلك الحين احرصي على عدم الزج بنفسك داخل أموري الخاصة رجاءً، والآن اسمحي لي بالمغادرة ”
ختم حديثه يتحرك صوب الباب يطرقه بقوة وحينما فتح غادر تاركًا والدته تنظر في أثره بصدمة سرعان ما تحول لغضب شديد …
وهو خرج من الجناح الخاص بوالدته يقول بجدية :
” أحضروا لي العرّيف …”
__________________
صوت القرآن يصدح في المنزل بأكمله وهي تجلس أعلى الأريكة في بهوه، تمسك بين أصابعها حبات مسبحتها التي أهداها لها الحاج سالم صاحب البناية عقب عودته من الحج .
كانت تستغفر وتدعو ربها، تشعر بالخوف من كل شيء وكل همسة تصدر في المنزل تتسبب في انتفاضة جسدها بقوة، ما يزال مشهد انشقاق زجاج المرآة وخروج ضوء قوي منه يرعبها، تنتظر أن يحل الصباح بفارغ الصبر كي تركض للمشفى حيث الجميع، حيث لن يجدها ايًا كان من ينتوي لها سوء .
فجأة انتفض جسدها بقوة بسبب طرق الباب، نظرت صوبه ثم حركت عينيها لساعة الحائط تتبين الوقت لتجد أن الوقت بالكاد اقترب من آذان المغرب، اعتدلت في جلستها :
” لسه المغرب مأذنش ؟؟ ولا الليل ليل ؟؟ امال الرعب بدأ بدري ليه ؟؟”
تحركت من مقعدها وهي ما تزال تحمل بين أصابعها مسبحتها، اقتربت من الباب تقول بخفوت :
” أيوة مين ؟؟”
” أنا احمد يا تبارك ”
نظرت تبارك من أحد تشققات الباب تحاول التأكد أن ذلك هو احمد نفسه ابن الحاج سالم صاحب البناية :
” وأنا ايه يأكدلي أنك احمد ومش قرينه ؟؟ قول أمارة ”
أجاب احمد ببلاهة وغباء بعض الشيء :
” امارة”
استمعت تبارك لتلك الكلمة وضيقت عيونها بتفكير قبل أن تنفرج اساريرها وتتنفس الصعداء تحضر حجابها تضعه أعلى رأسها متأكدة أن ذلك الغباء لا يخرج سوى من أحمد بالفعل :
” أيوة هو أحمد فعلا ”
وعلى الفور فتحت تبارك الباب مطمئنة :
” أمان”
نظرت له تبارك بقامته الصغيرة، فقد كان طفل في السابعة من عمره، ذو ملامح بها لمحة من التشرد تشعر أنك تقف أمام أحد قطاع الطرق، لكن بهيئة طفل، تجاوزت تبارك كل ذلك تتساءل بجدية :
” خير ؟؟”
” ابويا بيقولك تعالى الحقي ستي لاحسن بتموت ”
حدقت به تبارك بعدم فهم تجذب باب منزلها تدفع الصغير صوب الدرج وهي تشعر بالبلاهة الشديدة :
” هي مش ستك دي سيبتها امبارح وهي ميتة وبعتوا جبتوا الكفن والمغسلة ؟!”
أجاب أحمد بجدية يضع كفيه داخل جيب بنطاله يهبط معها الدرج يتحدث بنبرة اشعرتها أنها تتحدث مع رجل ناضج :
” لا ما هو اصل لما أنتِ مشيتي هي صحيت تاني، حتى امي قالت عليكِ غبية ومبتفهميش وبتفوّلي على ستي ”
توقفت تبارك في سيرها وقد بدأت ملامحها تشتعل بشكل مرعب، بينما الصغير استرسل في الحديث دون أن يتوقف عن السير ولم ينتبه لتوقف تبارك، التي كانت تشعر برغبة عميقة تندفع داخلها أن تهبط وتوسع والدته ضربًا، بالله ماذا تفعل إن كانت والدتها صاحبة المائة وخمسة أعوام تموت يوميًا ثلاث مرات، بل وتنقطع أنفاسها وتتوقف ضربات قلبها ؟؟
دخلت تبارك المنزل الخاص بالحاج سلامة تستقبلها صرخات والدة احمد ونحيبها وولولتها وهي تضرب فخذيها جوار فراش والدتها :
” اه يا اما هتيسبيني لمين من بعد ياما، اه يا حبيبتي بُعدك على عيني يا ختي ”
نظرت لهم تبارك ومن ثم نظرت للسيدة العجوز، تقترب منها بأقدام متعجلة تفحصها دون كلمة، تفحص النبض والتنفس، ومن ثم رفعت عيونها للجميع الذين كانوا في انتظار كلمة منها، وهي ابتلعت ريقها تقول جملة لم تعلم أنها قد تنطقها يومًا أو يستسيغها عقلها، لكن تلك العجوز أربكت جميع ما تعلمته وأثبتت أن الإنسان يستطيع الحياة حتى بعد توقف ضربات قلبه وأنفاسه :
” أنا مش عارفة هي ماتت ولا لا، بس عامة هو مفيش نفس ولا نبض ”
هتفت أم أحمد بأعين دامعة :
” يعني ايه مش عارفة ماتت ولا ايه ؟؟ هو أنتِ مش دكتورة ؟؟”
” لا أنا ممرضة مش دكتورة، بعدين أنا ايش عرفني مش يمكن تكون بتعمل بروفة ولا بتجرب الموت، هي يعني أول مرة اجي اكشف عليها وملاقيش نبض ؟؟ ما هي كل يوم نبضها بيقف، مش عارفة بتشحن ولا بتعمل ايه ؟!”
نظر لها الجميع حولها بعدم فهم لتقول هي وقد شعرت أن كل ما تعلمته لا يفيدها الآن:
” بصوا هي تقريبا ماتت، البقاء لله ”
وبعد تلك الكلمات ارتفعت شهقات صادرة من جسد العجوز المسطح على الفراش، تجاهد لالتقاط أنفاسها وكأنها خرجت لتوها من اعماق البحار .
أشارت لها تبارك بانتصار وكأنها تثبت لنفسها أنها محقة :
” اهو شوفتوا، مستنية تسمع إعلان وفاتها عشان تفوق، دي بتدلع يا أم أحمد كل يوم توقف نبضاتها شوية عشان تعرف معزتها عندكم مش اكتر ”
نظرت بعدها لسالم تقول:
” عن أذنك يا حاج سالم، لو حصل وفقدت الاتصال بالعالم الخارجي تاني، سيبوها شوية وهي هتصحى لوحدها، حمدلله على سلامتك يا حاجة ”
ختمت حديثها تخرج من الشقة ملتوية الثغر، تشعر بالنقم على تلك الوظيفة التي لا ينالها منها سوى المصائب، تحركت صوب شقتها الصغيرة الدافئة المرعبة كي ترتاح قليلًا، قبل أن تنهض وتذهب للعمل في اليوم التالي …
دخلت الشقة تسير بحذر بين طرقاتها ووجيب قلبها يعلو تخوفًا مما يمكن أن يحدث، تحاول إقناع عقلها أن الأمر لربما كان صدفة أو مجرد تخيلات لا أكثر.
ألقت جسدها على الفراش تستقبل اغطيته المريحة بتعب شديد، تغلق عيونها في انتظار أن تسحبها أحلامها بعيدًا عن هذا العالم .
وكان لها ما تمنت إذ سقطت في نوم عميق تخلله العديد من الأحلام، كان أكثرهم وضوحًا حلم لها تقف فوق عرش تراقب أمامها مدينة بيضاء كبيرة تحيط بها شلالات وجبال بيضاء.
نظرت تبارك حولها بتعجب شديد ولم تكد تستوعب ما يحدث إذ شعرت فجأة بيد تضم خصرها وصوت رجولي دافئ يهمس لها في أذنها بنبرة اجشة وكلمات مريبة :
” دلم برات تنگ شده پرنسس ”
________________________
يعتلي عرشه بكل كبرياء في انتظار أن يأتيه عرّيف المملكة، والذي يعلم كل ما يدور حوله ويفقه بكل شيء، ليس لأنه ساحر _ معاذ الله_ بل لأن لقب عريف هو لقب يُمنح لكل شخص مثقف، مدرك لجميع العلوم، حكيم ذو رأي صائب ونظرة مستقبلية صحيحة، وتحت يد العريف يتدرب شخص تنبأ له الجميع بمستقبل باهر، ليحمل هو لقب العريف من بعده .
تحرك العريف داخل قاعة العرش والتي كانت واسعة ذات نوافذ تبلغ طول الجدار، مما يجعل الشمس تدخل للقاعة وتنعكس على جميع ارضياتها البيضاء اللامعة ..
كان يسير منحني الظهر جامد الملامح، ناقم على كل شيء _ كما هو المعتاد منه _ يزفر بحنق كلما رأى وجه انسان في طريقه، لطالما كان العريف في هذه الحقبة من أكثر الشخصيات النقمة المتذمرة من كل شيء، والذي لو كان بيده تمني شيئًا ويتحقق لتمنى زوال جميع البشر .
يقبع بومة سوداء اللون على كتفه، وقد كان ذلك هو الكائن الحي الوحيد الذي قد يتقبله العريف في هذه الحياة بعد كتبه العزيزة بالطبع .
توقف أمام العرش يرمق الملك بحنق مكبوت حاول دفنه خلف جبال احترام وهمية، يقول بصوت خافت أجش واعينه تلتمع خلف خصلاته الطويلة الرمادية التي تكاد تخفي نصف وجهه :
” مولاي، طلبت رؤيتي ؟؟”
رفع الملك عيونه للعريف يحدق به مطولًا قبل أن يقول :
” هل وصلت لشيء بخصوص ملكتي أيها العريف ؟؟”
تأفف العريف داخليًا، ثم دار بنظراته في المكان يحاول أن يمنح عقله فرصة إيجاد رد مناسب على ذلك الملك المدلل الذي يجذبه من بين كتبه فقط ليسأله إن وجد له زوجته، ليس وكأنه يعمل مأذونًا شرعيًا .
” مولاي اعذرني، لكن أنا بحثت كثيرًا عن حالة تشبه حالتك في تاريخ الأسرة الحاكمة ولم يواجهني شيء شبيه به، لطالما كان مقدرًا لملوك هذه الأسرة أن يجدوا انصافهم بسهولة أو أن يسوقهم القدر صوبهم، لكن امهلني بعض الوقت لعلي اجد ما يزيل تلك الحيرة عنك ”
نظر له الملك قليلًا، بينما العريف يبتسم له بهدوء وداخله يتأفف في انتظار لحظة صرفه من المكان بأكمله، والبومة على كتفه تصدر صوتًا مزعجًا وكأنها تشارك مالكها الرأى في الرحيل من ذلك المكان .
تحدث الملك بنبرة هادئة بعض الشيء وبتحذير مبطن :
“لكم من الوقت تعتقد أنني سأصبر ؟؟”
ابتسم العريف بسمة صغيرة هادئة ورزينة :
” لحين نجد ما تريده مولاي، فلا أظن أن قلة صبرك قد تُعجل من ظهور ملكتنا ”
ابتسم الملك بسمة جانبية، يدرك أن ذلك الشيخ يعلم جيدًا كيف يتحدث وبما يتحدث، ومتى يتحدث، لذا لن يصل معه لحل سوى أن يصمت ويقول بهدوء مشيحًا بيده :
” لك ما تريد، لكن في النهاية عد لي بخبر يقين”
هز العريف رأسه يستأذن الملك راحلًا مبتسمًا بسمة واسعة أن قد تخلص منه، يهرول صوب مكتبته قبل أن يغير الملك رأيه ويستدعيه مجددًا.
دخل المكتبة بملامح واجمة جذبت انتباه تلميذه النجيب الذي اعتدل يقول ببسمة :
” مرحبًا أيها العريف لن تصدق ما اكتشفته للتو و…”
تجاهله العريف يطيح بالبومة عن كتفه مغتاظًا، لتطلق البومة صوتًا منزعجًا تحاول التحليق بعيدًا عنهم حتى يتحسن مزاج العريف :
” لست مهتمًا بما اكتشفته يا ولد، دعني وشأني، لارى من أين سأحصل لذلك المدلل على عروس، هل أذهب واجوب أروقة سفيد مناديًا أن الملك يبحث عن الملكة المفقودة ؟؟”
نظر الشاب ليده التي تحمل خارطة النجوم يقول بصوت خافت :
” لقد علمت للتو أن موعد القمر الدموي قد اقترب وسيوافق منتصف هذا الشهر و…”
قبل أن يكمل كلماته تحرك له العريف بسرعة كبيرة يلقي بالكتاب الذي كان يحمله في الهواء ويصطدم في البومة التي كانت تحاول الفرار من المكان ضاربًا إياها في الجدار لتتساقط ارضًا بقوة ..
ابتسم العريف يمسك باكتاف الشاب متسائلًا بأعين تلتمع :
” ماذا قلت مرجان ؟؟ هل سمعتك للتو تذكر القمر الدموي منتصف الشهر ؟؟”
هز مرجان رأسه بتعجب لحماس العريف، ليس وكأنه لا يعلم معلومة كتلك، فهذا الرجل أمامه يحفظ جميع الكتب في هذه المكتبة عن ظهر قلب، والتي لم يكن عددها بالهين أبدًا .
ابتسم العريف بسمة غريبة وقد بدأت عيونه تلتمع بنظرة مريبة جعلت مرجان يعود للخلف :
” إن تأكدت مما يدور بعقلي منذ أيام يا مرجان وربطته بما قلت أنت لتوك ووصلت لما يدور بخلدي من شكوك، سنكون على أعتاب معجزة كبيرة يا فتى ….”
أنهى حديثه يتحرك بسرعة صوب أحد رفوف المكتبة يسقط الكتب دون اهتمام بحثًا عن كتاب بعينه، وقد كانت الكتب تتساقط واحدة تلو الأخرى على رأس البومة المسكينة التي تحاول النهوض وتفشل كل مرة ..
واخيرًا امسك العريف أحد الكتب يطالعه باهتمام هامسًا :
” أجمع لي جميع الخرائط في تلك المكتبة، فلدينا ساعات طويلة من البحث يا مرجان….”
_____________________
زفر بصوت مرتفع وقد ملّ إلحاح تلك الفتاة والتي قفزت له منذ الصباح تتحدث له بأمور غريبة لا يفهم منها شيئًا، وتبارك تصر أنه من يستطيع مساعدتها لمعرفة ما يحدث لها في الآونة الأخيرة .
” يا عم متولي يعني يهون عليك تبارك اللي دايما تيجي تنفض معاك المكتبة لما ضهرها يتكسر تكون محتاجة مساعدتك وتتجاهلها ؟!”
عدّل متولي من نظارته وهو ينظر لتلك الفتاة بحنق :
” هو أنا اعرفك اساسا ؟؟ أنا أول مرة اشوفك ”
اقتربت منه تبارك تراقبه أعلى الدرج الخشبي يقوم بترتيب أرفف الكتب وهو يطالعها بتهكم ورفض لوجودها في المكتبة الخاصة به في هذا الوقت الذي لا يخصصه لاستقبال القراء والمثقفين .
” ايه ؟؟ لحقت تنسى ؟؟ ده أنا الإجازة اللي فاتت طلع عيني في ركن القواميس اللي هناك دي، فاكر لما قولتلي أنك بتعرف تتكلم كل اللغات دي ؟؟”
هبط الرجل يدفع بها باستخدام كتاب بيده :
” لا مش فاكر، بعدين أنا مش حابب عطلة هنا، عايز اخلص ترتيب المكتبة قبل ما القراء يبدأوا يتوافدوا للمكتبة ”
تشنج وجه تبارك تركض خلفه بين ممرات المكتبة، تبحث بين الكتب عن ذلك الرجل ناكر الجميل :
” قراء مين اللي هيتوافدوا يا عم متولي ؟؟ ده آخر حد دخل المكتبة دي كان رجال المقاومة ايام الاحتلال الإنجليزي عشان يعملوا اجتماع مغلق بعيد عن عيون الانجليز، وعشان عارفين إن محدش بيعبر مكتبتك ويدخلها اساسا فكانت احسن مكان ليهم ”
نظر لها متولي ينظف نظارته كي يبعد عنها ذرات الغبار :
” أنتِ عرفتي منين المعلومة دي ؟؟ محدش يعرف كده غير أنا وأعضاء المقاومة الكرام فقط ”
” الله يرحمهم جميعًا محدش عايش فيهم غيرك، وأنت اللي قولتلي كده آخر مرة وانا بنضف المكتبة، ومش بس آخر مرة، ده أنا كل مرة أخطي فيها المكتبة لازم تقعدني وتحكيلي دور المكتبة في المقاومة الإنجليزية ”
جلس متولي على مقعده يتنفس بصوت مرتفع وقد بدأت ترتسم بسمة واسعة على فمه يقول ممتصًا شفتيه بحنين وتأثر :
” المقاومة ؟؟ وهو أنتم تعرفوا أي حاجة عن المقاومة ؟؟ ده أنا في مرة كنت قاعد في المكتبة مع ابويا وانا عيل صغير وفجأة لقيت عسكري انجليزي داخل عليا و…”
وقبل أن يكمل حكايتها مالت تبارك على مكتبه تقول بجدية :
” وقالك فين أقرب صيدلية عشان يعالج جرحه وأنت عشان وطني رفضت وطردته من المكتبة، ها فيه ايه تاني؟”
” أنتِ عرفتي منين ؟؟”
” ما أنتِ حكيت ليا برضو كل ده، يا عم متولي أنت بتحكي كده لأي حد يعتب المكتبة حتى لو كان تايه داخل يسألك على مكان ”
فرك متولي رأسه بجهل شديد وقال بجدية :
” والله يا بنتي ما فاكر إني حكيتلك من كتر ما أنا بحكي للناس، فبنسى أنا قولت لمين ومين لا ”
وكانت هذه حقيقة، فذلك الرجل بكامل قواه العقلية، لا يعاني زهايمر أو أي أمراض تصاحب عمره الكبير، كل مشاكله تتمثل أنه كثير الكلام مع أي شخص ولذلك يتناسى ماذا قال لكل واحدٍ منهم .
ابتسمت تبارك تجلس أمامه :
” ولا يهمك يا عم متولي أنا مستعدة اقعد اسمع في القصص بتاعتك ليومين قدام، اقولك أنا ممكن اخلص الشغل بتاعي الاسبوع الجاي كله وكل يوم اجي اسمعك ازاي ساهمت في تحرير مصر من الاحتلال ”
نظر لها متولي من خلف نظارته يحاول معرفة ما تريد مقابل تلك الخدمة الكبيرة التي ستقدمها له، فهو كرجل مسن لا يريد أموالًا أو صدقات من أحدهم أو غيره، هو فقط يحب الرفقة ويحب الحديث مع أي شخص، يحب ألا يشعر بوحدته بعدما أصبح وحيدًا في حياته تلك، هو وكتبه فقط .
” مقابل ايه ؟؟ عايزة ايه وبتزني عليه من الصبح ؟!”
” مش أنت بتقول أنك اتعلمت لغات كتير من قعدتك هنا ؟؟”
ابتسم لها متولي بسمة واسعة وقد حانت لحظته للفخر مجددًا :
” اكيد أنا بتكلم سبع لغات، اتعلمتهم كلهم في اقل من ٣٠ سنة و…”
وقبل أن يكمل سرد قصصه المثيرة قالت له تبارك بلهفة تبتلع ريقها :
” طب أنا فيه كام كلمة سمعتهم في يوم وعايزة …عايزة اعرف معناهم أو على الأقل لغة ايه دي ؟؟”
نظر لها متولي بعدم فهم لتقول تبارك بسرعة كبيرة ما تتذكر من الكلمات في حلمها، والتي على عكس كامل أحلامها كانت واضحة كأنها حقيقة .
” أنا مش فاكرة اوي الترتيب بس كان فيه كلمات زي دلم.. شدة … مش فاكرة بس هي لغة اول مرة اسمعها شبه الهندي ”
صمتت ثواني تحاول عصر رأسها ودون أن تشعر نطقت الجملة كما سمعتها بالضبط، وكأنها لغتها الأم، اخذت تكرر الجملة مرات عديدة وكأنها لا تصدق أنها تفعل .
و متولي يرهف السمع لها محاولًا معرفة ما تريد إيصاله له من خلال تلك الالغاز التي تنطق بها الفتاة، ونظراته تعلوها البلاهة ليقول بعدما انتهت من الحديث :
” أنتِ عايزة ايه بالظبط ؟؟”
” عايزة اعرف معنى الكلام ده او لغة ايه، ما تشوفهم مش انت قاموس متحرك ؟؟”
” لا لا معرفش اللغة دي، مش من السبعة بتوعي ”
تشنج وجه تبارك بغضب :
” يعني يا عم متولي درست سبع لغات وجيت على دي وعطلت، مكنتش عارف تزود سنة اجتهاد كمان ودرستها بدل قعدتك هنا ؟؟”
ضرب متولي مكتبه بعصبية شديدة :
” أنتِ بتزعقي ليه ؟؟ هي دي لغة اساسا، أنا أول مرة اسمع الكلمات دي، بعدين مش يمكن تكوني سمعتي غلط ؟!”
تراجعت تبارك للخلف تخفي وجهها خلف يديها بخوف من انفجار غضبه بها، وهو تنفس بصوت مرتفع، ثم امسك هاتفه يقول بجدية :
” أنا متأكد إن دي مش لغة اساسا، بس عامة اصبري نشوفها على جوجل ”
نظرت تبارك للهاتف الخاص به في صدمة كبيرة، فقد كان العم ايوب يمسك هاتف أحدث طراز، انحرفت نظراتها لهاتفها الصغير الذي يستقر في جيب ثيابها بتعب شديد، مرهق بعدما فتحته فقط لترى الوقت، هاتف قديم الطراز ذو ازرار مُحيت حروفها لكثرة استعماله .
أفاقت تبارك من تلك المقارنة السريعة وهي تجد هاتف متولي يوضع أمام فمها آمرًا إياها بتكرير الجملة علّه يتعرف عليها، وبالفعل فعلت تبارك ما يريد تردد نفس الكلمات التي ما تزال ترنّ في أذنها بصوت واضح أجش دافء ..
وانتظرت ثواني وهي ترى متولي يفحص الهاتف جيدًا ينتظر أن يظهر نتيجة ما نطقت وبعد ثواني قال وهو يرفع عيونه لها بتعجب :
” أنتِ عرفتي منين الكلمات دي ؟؟”
نظرت له بريبة شديدة :
” ليه هي معناها ايه ؟!”
رفع متولي الهاتف في وجهها لتتسع عيونها بدهشة وهي تتذكر النبرة التي نُطقت بها، تطابق النبرة مع المعنى ليرتجف جسدها لا تدري خوفًا أم تأثرًا ؟؟؟
__________________________
” وماذا من المفترض أن يعني هذا أيها العريف ؟؟”
اغلق العريف الكتاب بقوة مما تسبب بتناثر بعض ذرات الغبار التي كانت تستقر على حواف اوارقه متسببة في موجة سعال عنيفة لمرجان، حرك الاخير يده في الهواء كي يتنفس بشكل طبيعي يستمع لصوت العريف يقول :
” يا فتى ألم تسمع باساطير الأسرة الحاكمة ؟؟ تلك الأساطير التي تناقلتها اجيال عدة، ولا يعلم أحد أيهما حقيقة وأيهما تُرّاهات بلا قيمة ”
نظر له مرجان بجهل كبير :
” تقصد تلك الأساطير التي تقول أن الأسرة الحاكمة من نسل سحرة ؟؟”
ابتسم العريف ساخرًا :
” نعم، وتلك واحدة من التراهات، أي سحرة تقصد؟؟ استغفر الله، لو كانت تلك الأسطورة حقيقة لما وجدت أحد أفراد تلك الأسرة يعتلي العرش، لعُوقبوا جميعًا لارتكابهم ذنب كممارسة السحر ”
صمت ثم قال بجدية :
” أنظر يا مرجان بعض الاساطير تقول أن ملك سفيد الاول حلم برؤية شبه مؤكدة تقول أنه في زمنٍ ما، سيكون هناك ملك غير الملك، وملكة لا تمت للملكة بصلة، وكل ذلك تزامنًا مع منتصف شهر القمر الدموي، وهذا فقط منحصر على سلالته، وهذا الملك الحالي أحد أحفاد الملك الاول وتزامن أمر القمر مع فترة حكمه، وتأخر زواجه وعدم إضاءة الكرة الملكية، يعني أنه لربما يكون هو المعني من الرؤية ”
هز مرجان رأسه يفتح فمه باتساع شديد :
” نعم نعم …مهلًا أنا لا افهم، ما معنى ملك غير الملك وملكة لا تمت للملكة بصلة ؟؟”
” يعني أن هذا الزمان الذي نحياه سيكون الملك غير الملك الذي اعتدنا عليه، ولن تكون الملكة واحدة من الاميرات المتعارف عليهم، بل ستكون امرأة مختلفة، وتقول بعض الاساطير أنها لا تنتمي لعالمنا، بل لربما تنتمي للجانب الآخر من العالم ”
شهق مرجان بصدمة لا يصدق ما يقال يستنكر الأمر بالكامل :
” ماذا ؟؟ من الجانب الآخر، أتقصد أن ملكتنا ستكون من عالم المفسدين، هذا غير معقول ”
” بل معقول، فكر معي ما الذي عطل وصول الملكة حتى يومنا هذا ؟؟ لربما هي لا تدري عن حقيقتها شيئًا ولربما لا تعلم عن عالمنا شيئًا”
” إذن..ماذا نفعل حيال الأمر ؟!”
فكر العريف قليلًا يحاول تقدير الأمر في عقله، ثم قال بتفكير :
” لربما نكثف البحث بين أرفف المكتبة علنا نعثر على شيء، وحينما تتأكد فكرتي سأخبر بها الملك وانتهي منه ومن أمر زواجه الذي يسبب لي صداعًا بالرأس ”
________________________
تسير بين ممرات القصر وهي تستمتع لصوت مسؤولة الخدم اجمعين، تضع وجهها بالأرض تهز رأسها على كل كلمة تنطقها، لا تنبث ببنت شفة تقاطعها، كان وجهها مغطى بقطعة قماش تشبه النقاب ينحدر من أعلى رأسها، فلا يظهر من وجهها سوى أطراف ذقنها كما جميع الخدم في القصر..
تتحرك صوب المطبخ كي تتولى مهمتها بعدما تركت مملكتها وجاءت كي تستقر بهذه المملكة للعمل بقصر الملك .
فجأة انتفض جسدها تسمع صرير السيوف الذي يصدح في المكان بقوة، لتشعر بيدها تتحرك دون إرادة كي تركض وتحمل واحدًا وتمارس ما اعتادت يومًا ممارسته، لكنها توقفت تذكر نفسها أين هي وماذا تفعل، وما الذي اوصلها لهنا …
افيقي كهرمان أنتِ لستِ بمنزلك .
رفعت عيونها ترى فتاة تركض بقوة مصطدمة بها حتى كادت تسقطها ارضًا صارخة بحماس شديدة مثلها كباقي فتيات القصر :
” مبارزة بين الملك و قائد الرماة دانيار ”
تحركت كهرمان بكل فضول صوب نوافذ القصر تبحث لها عن ثقب ترى به تلك المنافسة التي جذبت أنظار جميع من بالقصر لدرجة أن يتركوا أعمالهم خصيصًا لأجل مشاهدتها .
وفورًا وقعت عيونها على رجلين عراة الجذع العلوي أحدهما يرتدي بنطال ابيض والآخر يرتدي اسود ذو نقوش من الذهب خمنت أنه الملك، فقد كان بسعر اسود وعيون خضراء تلتمع أسفل أشعة الشمس، والآخر كان بخصلات شعر سوداء طويلة بعض الشيء واعين زرقاء بشدة يحمل بين كفه سيفًا يرفعه في السماء، ثم يهبط به بقوة عنيفة على الملك الذي يصده، ثم يباغته هو بضربة اقوى من خاصته .
كان الملك يبارز دانيار بكل طاقته، لا أحد في هذه المملكة يستطع التغلب عليه، ولم يحدث أن خرج من ساحة المبارزة خاسرًا سوى مرة واحدة فقط، وهو لن يكررها .
ابتسم دانيار بسمة جانبية يحرك سيفه في الهواء حركات قوية، يسمع صوت الملك يقول ممازحًا :
” يبدو أن ذراعك تبرع في اشياء اخرى غير رمي السهام دانيار ”
ابتسم دانيار يقول باحترام شديد وهو يهجم على الملك :
” سيدهشك ما تستطيع تلك اليد فعله غير حمل السهام مولاي ”
وقبل أن يجيبه الملك بكلمة سمع الجميع صرخات نساء وصيحات قوية متداخلة جذبت الأنظار وجعلت الأجساد تتحفز وبقوة كبيرة .
ثواني حتى وجد الجميع امرأة تركض صارخة بشكل غريب :
” لقد تحررت الثيران من الحظيرة وافسدت كامل المزروعات في حدائق القصر يا مولاي وهي تتقدم صوب المكان بعدما تسببت في أذية بعض العمال ”
تشنج وجه الملك وهو ينظر لدانيار الذي ابتسم يقول بسخرية :
” اوه مشكلة كبيرة تحتاج لتدخل فوري، من سوء حظنا أن قائد الجيوش ليس هنا كي يقودنا للحرب ضد الثيران والأبقار، إذن ماذا تقترح مولاي، هل أطالب باصطفاف جيشي وقتل كل تلك الثيران ”
رمقه الملك بغضب لسخريته، يلقي بسيفه ارضًا متحركًا في المكان وحوله العديد من الحراس يصرخ بهم بلا اهتمام :
” انتم اذهبوا وساعدوا النساء في إبعاد تلك الثيران، هل ترونني متفرغًا لأجل مشاكل كهذه بالله عليكم ؟!”
أطلق دانيار ضحكات عالية على تذمرات الملك، وفي الحقيقة هو لديه كامل الحق، فأي ثيران تلك التي سيهتم لامرها وسط كل امور مملكته ؟؟
هز دانيار رأسه يتحرك صوب الخزانة الخشبية التي يحتفظون فيها بسيوف التدريب، وكذلك يعلقون عليها الثياب، وحينما كاد يرتدي ثيابه العلوية حاد بنظراته صوب شرفات القصر بلا اهتمام، لكن فجأة جذبت أنظاره فتاة غريبة الثياب والهيئة، اطال النظر بها في تعجب شديد، لتنتبه له الفتاة وتبتعد عن النافذة فورًا وهو ارتدى ثيابه يرى انصراف الخادمات وهي معهن .
وقبل أن يتحرك ليعلم من تلك سمع صوت الأبقار يعلو ويعلو بشكل مزعج وقد بدأوا يقتحمون جزء القصر، فالقلعة تتضمن القصر الخاص بالملك و جزء كبير خاص بمزارع القصر وحظائره، وجزء يتضمن اسطبل الخيل ومنطقة المبارزة والتدريبات، واخيرًا الجزء الذي يحوي مقر الأسلحة والجنود ..
انتفض دانيار على صوت صراخ الملك :
” دانيار تخلص من تلك الأبقار ”
اتسعت عيون دانيار بعدم فهم وتشنجت ملامحه بسخرية لاذعة، لا يفهم أي ثيران تلك التي قد يقتطع من يومه لحظات قليلة للتعامل معهم ؟؟
وقبل أن يعترض ولأول مرة على مرة على أوامر الملك سمع اصوات الابقار يعلو بقوة .
زفر واستدار يراقب الرماة يصطفون على جدران القلعة ليقول بغضب شديد وبصوت جهور :
” اصطفــــوا ”
اصطف الجميع بشكل منظف وبسرعة كبيرة ليكمل دانيار أوامره :
” جهزوا السهام …”
وبالفعل تحفز جميع الرجال لكلمة قائدهم، وقد ظنوا أن هناك هجوم على القلعة، لكن اتسعت أعينهم ببلاهة حينما سمعوا صوت دانيار يأمرهم :
” أي ثور يعبر حدود المزرعة صوبوا عليها ….”
علت الهمهمات بينهم والاستنكار ساد الجو، ودانيار لم يعلق فهو يعلم أنهم محقون، لكنه فقط ينفذ الأوامر، زفر يصرخ بهم ..
” انتباه، ونفذوا الأوامر، أي بقرة ترونها على وشك إيذاء فرد من سكان هذا القصر تخلصوا منها، فقط انتظروا لحين نرى نهاية هذه المهزلة ..”
نظر أمامه يرى عاملي القصر يحلقون على الأبقار والثيران الذين كانوا في حالة هرج مخيفة يدهسون من أمامهم دون تفرقة، وهو يراقب بأعين حريصة ينتظر أي فرصة للتدخل، يتمتم من بين أسنانه:
” سيخلد التاريخ أنني كنت أول قائد رماة تغلب على جيش من الأبقار الهائجة، مرحى يا دانيار، أين قائد الجيوش ليفتخر بك ؟؟؟”
___________________
يعتلي فرسه وهو يتحرك به بسرعة كبيرة وبين يديه يقبع سيف ضخم ذو قبضة سوداء ترتسم عليه علامة الفهد، يرتدي درعًا حديديًا يزن وحده العديد من الكيلوجرامات، يتحرك بسرعة مخيفة وخلفه جيش كبير يلحق به وفي أعينهم نظرات سوداء خاوية، وكأنهم ليسوا بشر، بل مجرد الآلات حرب، وهكذا علمهم هو ودربهم، هم في المعارك لا يشعرون ولا يرون ولا يشفقون على أي عدو إلا إذا استسلم …
توقف بحصانه على بداية المدينة التي احتلها بعض المنبوذين يعيثون فيها فسادًا وهي تحت حكم ملكه، تجرأوا ودخلوا ارضًا تخصه هو، أرض يحميها هو .
ارتسمت بسمة جانبية على فم سالار يرفع رأسه الذي كان مغطى بخوذة فضية اللون يرفع سيفه في الهواء يصيح بصوت جهوري وخلفه مئات الجنود :
” يا رجال أنتم هنا اليد العليا، وأصحاب الحق، تذكروا أننا ما كنا دعاة حرب ولا مسببي خراب، نحن ندافع عن حقوقنا فقط وعن الأبرياء، وقبل أن تدخلوا المدينة تذكروا قول رسول الله لا تقطعوا شجرة، ولا تقتلوا امرأة ولا صبيًا ولا وليدًا ولا شيخًا كبيرًا ولا مريضًا، لا تمثلوا بالجثث، ولا تسرفوا فى القتل، ولا تهدموا معبدًا ولا تخربوا بناءً عامرًا، حتى البعير والبقر لا تُذبح إلا للأكل”
هلل الجنود خلفه ليعلو برأسه أكثر وترتسم بسمة مرعبة أعلى فمه يصيح بصوتٍ مرتفع يقذف الرعب في قلوب أعداءه :
” الله اكبر …”
ردد الجيش خلفه كلماته وهو يدخلون المدينة يهللون ويكبرون، يقودهم هو بنظرات مرعبة، وملامح مخيفة ..
_____________________
تعود للمنزل بعدما أنهت جلستها مع العم متولي لا تفهم ما يقصد من تلك الكلمات، من ذلك الاحمق الذي يظل يردد لها تلك الكلمات داخل أحلامها، فجأة توقفت أقدامها برعب وقد شحب وجهها تشعر بقشعريرة تمر في جسدها وقد ضربتها فكرة مرعبة للتو .
” معقول يكون …يكون جني عاشق؟”
وعند تلك الفكرة تحركت تبارك بسرعة كبيرة صوب منزلها وجسدها بالكامل ينتفض، تشعر بالرعب أن تكون إحدى ضحايا هذا الأمر، يالله هي ما تزال تتذكر جارتها التي أصابها مس جني عاشق وعانت منه حتى كادت تنتحر لتتخلص من عذابها ..
أي جني عاشق هذا، لِمَ يصفونه بالعاشق، بالله إنه لمُعذب، يعذب من تكون ضحيته، يعذبها ويقتات على روحها حتى تذبل وتصبح بلا روح ..
تنفست تتحرك داخل منزلها تشغل التلفاز على محطة القرآن الكريم، ومن ثم بدأت تتحرك في المكان تفتح النوافذ ولا تعلم السبب، لكنها فقط لا تود أن تشعر بالوحدة، لربما الاصوات الصاخبة من الخارج تساعدها على الشعور بالأنس ..
تنفست تجلس على الأريكة وقد قررت فجأة أن تتوضأ وتصلي لله، لكن وقبل أن تتحرك سمعت صوت شيء قوي يسقط في منتصف البهو لتطلق صرخة مرتفعة مرتعبة تعود للخلف وهي تتنفس بصوت مرتفع، لكن وحينما تبينت هوية ذلك الشيء المخيف والذي لم يكن سوى كرة قدم أُلقيت من النافذة على منزلها، تجعدت ملامحها بغضب شديد تتحرك صوب النافذة حاملة الكرة بعصبية .
سمعت صوت في الاسفل يقول :
” ارمي الكورة يا أبلة تبارك ”
” أنا بس عايزة افهم ايه اللي طلع الزفتة دي لشقتي ؟؟ الجول في الصالة عندي ؟؟ منطقة الـ ١٨ بتعدي من تحت الكنبة ؟! ”
زفرت ثم صرخت بجنون :
” الزفتة دي لو جات هنا تاني أنا هطفحها ليكم نفر نفر سامعين ؟؟”
هز الصبية رؤوسهم فقط كي يجارون حديثها ويحصلون على كرتهم، وبالفعل ألقتها تبارك بغضب شديد حتى أصابت صبي واسقطته ارضًا، لكنها لم تهتم، هي للتو كادت تموت رعبًا، بالله ما هذه الحياة التي تعيشها، زفرت بحنق شديد تتحرك صوب المرحاض كي تتوضأ، وحينما وصلت ورأت شكل المرآة المحطمة وعادت لها الذكرى القريبة التي تعود فقط للامس شعرت بقشعريرة قوية تصيبها .
تنفست بصوت مرتفع تقترب من الحوض ترفع أكمام ثوبها البسيط كي تتوضأ، وحينما كادت تبدأ سمعت نفس الصوت يتردد داخل رأسها بشكل قوي جعلها تعود للخلف بقوة تنظر للمرآة بملامح شاحبة .
تستغفر ربها ثم أكملت وضوءها تهمس لنفسها :
” خلاص يا تبارك دي كانت صدفة، كل دي صدف وتهيؤات مش اكتر، مفيش حاجة حصلت، أنتِ مؤمنة ومحصنة نفسك بالاذكار ..”
أنهت الوضوء تخرج من المرحاض تستغفر ربها تردد بصوت هادئ :
” كله بأمر الله، قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ”
تنهدت براحة لحظية تحضر سجادة الصلاة ومصحفها لتؤدي بعض الركعات لله، وصوت القرآن يصدح في المكان .
وبعدما فرغت من صلاتها ارتكنت بظهرها للاريكة تقرأ بعض آيات القرآن، لكن دون أن تشعر غرقت في نوم عميق دون أي إرادة منها ..
رأت تبارك نفسها تجلس في غرفة واسعة يسودها اللون الاحمر والاسود بشكل قابض للصدر، تستدير في المكان بتعجب، قبل أن تسمع صوتًا يردد جوارها بنبرة هادئة ودودة :
” اونجا هستی پرنسس من ”
نظرت له تبارك بتعجب شديد تحاول رؤية ملامحه، لكن كل ما رأت منه هو جسد ضخم بعض الشيء، جسد رياضي قوي يرتدي بنطال اسود مطرز بشكل محترف وسترة علوية مطرزة بنفس التطريز، توقف أمامها وهي تنظر للأعلى تحاول الوصول لوجهه، لكن لم تستطع وكأن هناك غمامة تخفي ملامحه، ابتسم لها ذلك الرجل يميل ببطء صوبها هامسًا أمام وجهها بنبرة حنونة :
” همه جا دنبالت بودم ”
وتبارك فقط تحدق في جسده تحاول التحدث، تعجز عن الكلام تريد أن تخبره أنها لا تفهم ما يريد، لا تعلم ما يقصد، أين هي بالمناسبة ؟؟ هل هي في أحد افلام بوليوود ؟؟ من هذا الممثل ؟؟ هل هو سلمان خان ؟؟ استغفر الله هي توقفت عن مشاهدة تلك الأشياء منذ سنوات هل عادوا فقط ليراودونها عن نفسها ؟؟
فجأة تيبس جسدها حينما شعرت بقبلة تحط بكل حب فوق وجنتها لتتسع عيونها بصدمة تشعر برغبة عارمة على الصراخ، وهو همس لها :
” من به دنبال شما خواهم آمد، منتظر من باشید ”
واخيرًا استطاعت تبارك الحديث وتخلت عن دورها الصامت في هذا المكان الغريب الذي لا تعلم هل هو فيلم ام حلم أم كابوس، لكن مع هذا الرجل الوسيم لا تعتقد أنه كابوس لربما هو رؤية حلم به فتنة لها ..
” أنت مين، وبتقول ايه ؟؟”
ويبدو أن كلماتها التي خرجت منها وصلت له واضحة إذ ابتعد عنها يرمقها باستنكار وكأنها للتو ألقت له بكلمات غريبة، ليس وأنه هو منذ وطأ لذلك المكان الذي يشبه القبر يضمها ويقبلها كما لو كانت ابنة اخيه، ذلك الوقح، الحقير .
ولم تدري تبارك أن كل ما تفكر به ترجمه لسانها لتتسع أعين الرجل يقول بتعجب :
” ألا تعلمين من أنا ؟؟ أنا الملك …زوجك ”
في تلك اللحظة انتفض جسد تبارك عن الأريكة تتنفس بعنف شديد وقد كان جسدها متعرقًا بقوة شديدة :
” ما أنت بتتنيل بتتكلم عربي اهو، لازمتها ايه الفيلم الهندي ده ؟!”
نظرت حولها وانفاسها ما تزال سريعة، ذلك الحلم كان كالحقيقة، حقيقة رأتها بأم عينيها وشعرت بها، حتى أن أحضانها ما تزال دافئة بسبب عناقه ووجنتها، تحسست وجنتها، لتشعر فجأة بالرعب يتلبس قلبها :
” جن عاشق ؟؟ طلع جن عاشق، يا مرارك يا تبارك…..”
_________________________
” وجدناها يا مولاي …وجدناها يا مولاي ”
كانت تلك صرخات مرجان الذي يركض في ممرات القصر يبحث عن الملك وخلفه العريف يسير مبتسمًا متبخترًا وفوق كتفه ترتاح بومته العزيزة التي كانت تبتسم نفس بسماته وتمظرنفس نظراته، كما لو كانت طفل صغير يقلد حركات والده.
اقتحم مرجان قاعة العرش يردد وهو يرفع بين يده بعض الأوراق والمخطوطات يقاطع جميع من بالقاعة من مستشارين وكبار المملكة :
” لقد وجدناها يا مولاي، وجدنا الملكة”
انتفض الملك عن عرشه يولي كامل انتباهه للعريف متجاهلًا مرجان الذي توقف أمامه مبتسمًا يلوح بالمخطوطات في الهواء :
” هل ما يقوله ذلك الشاب صحيح أيها العريف ؟؟”
” اسمي مرجان ”
لكن الملك لم يهتم قائلًا :
” هل ما يقوله صحيح ؟؟ ”
هز العريف رأسه ينتزع الاوراق من بين انامل مرجان الذي صاح مستنكرًا من تهميش دوره في هذه اللحظة :
” مهلًا أنا …”
وقبل أن يكمل كلماته أشار له العريف أن يصمت، وكذلك البومة رفعت أصابع قدها تشير له بالصمت، وهو تذمر يتوعدها بعيونه ..
تقدم العريف من الملك يقول بجدية :
” نعم يا مولاي وجدنا الملكة …”
نظر له الملك بلهفة كبيرة ليكمل العريف :
” بعد مراجعة الخرائط والنظر في الكتب التي تحتل مكتبتي العظيمة مولاي اكتشفت …”
تنحنح مرجان يشير لنفسه مرتفع الرأس، ليلوي العريف فمه بحنق شديد :
” ومرجان أيضًا ساعدني قليلًا ”
ابتسم مرجان بفخر شديد يهز رأسه:
” نعم يا مولاي كان لي دورًا كبيرًا في …”
ودون أن يمنحه العريف فرصة للحديث، دفع بوجهه بعيدًا يقترب من الملك تحت أنظار مجلس المملكة يقول بكبرياء كعادته ينظر للجميع من علياه وكأنهم جميعهم أسفل أقدامه :
” كما قلت مولاي، استطعت أن اكتشف مكان الملكة، وربطت ما يحدث بما قيل لنا منذ عقود وقرون عن سلالة ملك سفيد الاول ”
” ماذا تعني أيها العريف ؟؟ أين هي ملكتي وما سبب تأخرها ؟!”
تنفس العريف بصوت مرتفع ثم قال :
” ملك إيفان، يؤسفني القول إن النبوءة التي تنبأ بها العديد من كبار الممالك قديمًا بشأن قدوم ملكة من ارض المفسدين، هي من نصيبك أنت ”
ابتسم وكأنه يتشفى بملامح الشحوب التي تخللت وجه إيفان يقول بجدية :
” مولاي أنت ببساطة لم تعثر على ملكتك ولم تضء كرة العرش باللون الازرق، لأن الملكة تقبع هناك، في ارض المفسدين ……”
________________
نعم ها هي الرحلة بدأت…
والرحلة ما هي إلا حرب، إما أن تنتصر أو تنتصر، لا خيار ثالث أمامك.
يتبع….
عانق أمانيكَ مهما ذُقت من تعبٍ
مَن ذا الذي نالَ ما يهوى بلا تعبِ؟”
صلوا على نبي الرحمة
_________________
تجلس منذ ساعات تنتظر عودته لا تدري ما تفعل، أو إن كان ما تفعل صحيحًا أم لا هي فقط تريد التخلص من ذلك الشعور المقيت داخلها والذي يهمس لها بصوت خبيث أنها قد مُست بجني سيحيل حياتها لجحيم.
ارتجف جسدها تحاول الخروج من تلك الأفكار السوداء تنظر حولها لذلك المنزل الفسيح المريح للنفس، حيث يسكن أحد رجال الحارة الصالحين، تتنفس بصوت مرتفع وهي تسمع صوت القرآن يعلو في المكان بأكمله، حتى وصل لها صوت أنثوي يقول :
” تشربي ايه يا بنتي ؟؟”
ابتلعت تبارك ريقها تنظر لها بأعين ضبابية تجيب بصوت ضعيف :
” أنا …أنا بس محتاجة كوباية مايه لو مش هتعبك معايا يا خالة ”
” لا ابدا يا حبيبتي مفيش تعب، استني هنا وانا هجيبلك كوباية المايه، والشيخ عبدالعزيز زمانه جاي، خلصوا الصلاة من شوية وتلاقيه خرج من المسجد وجاي ”
هزت تبارك رأسها مبتسمة تراقب رحيل تلك المرأة وهي تتذكر صوته وهمسه لها، ما تزال نبرته الدافئة تصدح داخل عقلها وهو يعصف بكلمات زلزلتها ( أنا الملك … زوجك)
أي زوج هذا، هل يحاول دفعها للجنون ؟؟
عند تلك الفكرة شعرت بغضب شديد يتلبسها ونظرت حولها، وكأنها تبحث عنه بين طرقات المنزل حتى تتخلص منه، تهمس له من بين أنفاسها بالويل :
” بس لما اشوفك يا بتاع (تنگ شده) أنت، قاعد تبرطم من غير دبلجة، وفي آخر دقيقة من الحلم ربنا فك عقدة لسانك ونطقت عربي”
صمتت تقول بتهكم شديد :
” ده كان ناقص ينزل تتر النهاية لأجل التشويق، ويقول انتظروني في الحلقة القادمة ”
زفرت بضيق تضع وجهها بين قبضتيها، تهمس بصوت خافت :
” أنا لو لمحته ههينه، بس ..”
فجأة انتفضت على صوت السيدة تعود لها بكوب ماء وهي تقول بفضول وقلق من شحوب وجهها :
” مالك يا تبارك يا بنتي ؟؟ وشك كده مخطوف من وقت ما دخلتي ”
نظرت لها تبارك تجاول أن تعتدل في جلستها وتبتسم، فخرجت بسمتها مرتجفة خائفة :
” أصل أنا كنت جاية للشيخ عبدالعزيز في موضوع مهم وخايفة يأكد ظني ”
اقتربت منها السيدة وقد استبد بها الفضول حتى كاد يحرق جميع احطاب صبرها، تهتف بنبرة متحمسة لا تلائم الموقف أو شحوب وجه تبارك، لكن تبارك لم تنتبه لذلك :
” ظن ايه ده يابنتي ؟! هو حصل ايه ؟؟”
نظرت لها تبارك تود الحديث، لكن قاطع كل ذلك صوت اقدام تخطو للمنزل وصوت رجولي يتنحنح وهو يقول بصوت مرتفع بعدما رأى حذاء غريب عن منزله :
” السلام عليكم ”
تحركت السيدة من مكانها والتي كانت شقيقة الشيخ الصغيرة، تركض صوب باب المنزل تستقبله بالبسمات قائلة :
” تبارك جوا يا شيخ مستنياك من بدري ”
نظر لها بتعجب لتوضح أكثر :
” تبارك الممرضة اللي في الشارع اللي ورانا يا عبدالعزيز ”
هز عبدالعزيز رأسه يشير لها أن تسبقه لتعلمها بمجيئه، وحينما أشارت له بالدخول، تقدم عبدالعزيز للداخل يتنحنح بصوت واضح :
” السلام عليكم يا بنتي ”
ابتسمت تبارك بسمة رقيقة وهي تستقيم ترحب به برأسها :
” عليكم السلام يا شيخ عبدالعزيز، بعتذر لو جيت في وقت مش مناسب، بس كنت محتاجة حضرتك في استشارة ”
هز عبدالعزيز رأسه يستقر على أحد المقاعد مشيرًا لها بالجلوس لتفعل وهي تنظر صوب شقيقته التي نظرت لها بفضول شديد، ليرمقها عبدالعزيز بحنق قائلًا :
” هاتي عصير لضيفتنا يا حسنية ”
نظرت له حسنية تقول :
” ايه ..اه اه يا خويا وماله، تشربي ايه يا حبيبتي ؟؟”
نفت تبارك لا تنتبه لنظراتها:
” لا ابدا متتعبيش نفسك ”
ابتسمت لها حسنية بسعادة وقد عفتها تبارك من التحرك وترك الحوار الشيق، لكن شقيقها والذي كان يعلم جيدًا ما ترنو إليه قال بتحذير :
” لا معلش قومي يا حسنية هاتي عصير للبنت شكلها تعبان”
زفرت حسنية بغضب مكبوت تتحرك صوب المطبخ الذي يقبع جوار البهو، تتمتم بكلمات غاضبة، وبمجرد أن رحلت تحدث عبدالعزيز ببسمة هادئة :
” قولي يا بنتي، لعله خير اللي جابك عندي ”
رفعت تبارك عيونها له برعب، ثم همست بصوت منخفض لا تدري كيف تخبره الأمر:
” هو أنا يا شيخ عبدالعزيز ازاي اعرف إن… إن فيه … إن فيه مس من جني عاشق ؟؟”
ضيق عبدالعزيز ما بين حاجبيه بتعجب :
” أنتِ حاسة إن فيه جني مرافق ليكِ ”
” أنا … أنا معرفش أنا …أنا بس بحلم احلام غريبة كأنها حقيقية، ومش فاهمة ايه اللي بيحصل فخايفة إن يكون ده حصل ”
اعتدل الشيخ في جلسته وتنفس بصوت مرتفع يتفهم تلك الهواجس التي قد تصيب النفس كين تعرضها لأمور غير مفهومة، فتبدأ النفس تتخذ من كل شيء إشارة لهلاكها دون أن تعي من الأساس معنى تلك الإشارات :
” اسمعي يا بنتي فيه فرق بين الاحلام العادية أو الاحلام اللي ناتجة عن وجود مس من جني والعياذ بالله، والأحلام لوحدها مش إشارة ابدا لوجود مس، دي واحدة من ضمن علامات كتير:
حرق أصابعه بين حبات مسبحته يراقب انتباه تبارك له ليسترسل في حديثه :
” علامات الجني العاشق واضحة ومعروفة وهي أنك تحسي بأنفاس حد جنبك وأنتِ نايمة، تحسي ببعض اللمسات على أجزاء من جسدك، أو كأن فيه يد تداعب شعرك، وكمان تحسي بحرارة شديدة في بعض اماكن الجسد، دي كلها علامات متعارف عليها، ده غير علامات تانية بس دي أهمهم، أنتِ بقى الاحلام اللي بتيجي ليكِ بتكون عبارة عن ايه ؟؟”
صمتت تبارك تدير الحديث داخل رأسها، تحاول معرفة إذا حدث لها كل ذلك أم لا، والإجابة كانت لا، هي فقط تحلم احلام تشبه الحقيقة، وجدت الشيخ يسبح على حبات مسبحته ينتظر ردها بصبر شديد، الشيخ عبدالعزيز كان من رجال حارتها المعروفين بورعههم ومساعدتهم في مثل تلك الحالات، ابتلعت ريقها تشعر بخجل شديد لوصف ما تراه في احلامها، رغم أنه لم يحدث شيء يدعو للخجل، لكن إن تخبره أنها تحلم برجل ذو ملامح ضبابية يتحدث لها بحب وحنان لهو أمر محرج .
لكنها رغم ذلك تحدثت بما رأته وشعرت به وقد بلغ منها الخجل مبلغه، ترفض رفع عيونها في وجه الشيخ عبدالعزيز والذي بمجرد انتهائها قال ببسمة صغيرة :
” بصي يا بنتي، اللي قولتيه ده مجرد احلام عادية، بعضها من الشيطان والبعض الآخر ربما لتأثرك في حياتك بشيء معين، أو ربما الرجل اللي بتحكي عنه مجرد رمز مش من الضرورة يكون رجل بمعناه الحقيقي، يعني احيانا رؤية رجل في الحلم بيرمز لشيء تاني”
صمت يتنفس يقول بهدوء :
” نصيحتي ليكِ أنك تستغفري ربك وتنامي على وضوء، والتزمي الاذكار دائما ولا تنسي وردك اليومي من القرآن الكريم، والله خير حافظ ”
هزت تبارك رأسها وهي تشعر ببعض الراحة تتسرب داخل صدرها، هذا الحديث قد أصابها براحة جعلتها تبتسم له مودعة إياه وهي تحاول أن تطمئن ذاتها، غافلة عن حسنية التي تركت أذنها لديهم قبل مغادرة المكان بأكمله …
غادرت تبارك المنزل وهي تقول بصوت مرتفع لنفسها :
” الحمدلله يا تبارك عدت على خير و…”
وقبل أن تكمل جملتها تذكرت فجأة أمرًا تهمس لذاتها :
” المفروض كنت احكيله على موضوع المرايا اللي انكسرت؟؟ ”
لكنها وبعد تفكير عادت وتجاهلت الأمر باعتبارها حادثة عادية قد تحدث للبعض .
تنهدت تتحرك صوب عملها كي تستكمله بعدما استأذنت دقائق لرؤية الشيخ قبل رحيله للعمل .
__________________
كان العريف ينظر برعب للسيف الموجه على رقبته وجسده المحشور في أحد أركان البهو، والجميع حول الملك مستنفرين حتى بومته العزيزة والتي كانت مستقرة على كتفه تراجعت للخلف بريبة تحدق في سيف إيفان بخوف وكأنه على رقبتها هي .
بينما مرجان تحرك صوب الخارج يتسحب كي لا يشعر به أحد، فبعد نطق العريف لما اكتشفوه سويًا، تجمعت شياطين إيفان حولهم ليصاب بالجنون هادرًا في وجه العريف :
” ما الذي تهزي به أيها العجوز، أي ملكة تلك التي سأحضرها من عالم المفسدين ؟؟”
نظر العريف للسيف الذي كان مستقر أعلى رقبته، ثم رفع إصبعه يشير صوب جسد مرجان الذي كان يستغل حالة الاستنفار للاختفاء:
” مرجان ..مرجان هو من اكتشف الأمر وليس أنا ”
في تلك اللحظة كان مرجان يتحرك وهو يردد داخله، يخطط لمستقبله القادم بعيدًا عن القصر والمملكة بأكملها :
” ربما أجلس مع أمي واصنع الفخار واتزوج بابنة جارتنا وانجب منها بعض الأطفال وارعى الأغنام واعيش حياتي في سلام بعيدًا عن هذا القصر الـ ”
وقبل أن ينهي قائمة أحلامه انتفض جسده وهو يرى جميع حراس الملك يقفون أمامه موجهين له السيوف وهو رفع يده مستسلمًا يهتف بارتجاف ولهفة :
” أنا فقط …فقط ظننت أنني اساعد يا مولاي، ظننت أنك ستسعد لمعرفتك مكان الملكة ”
صرخ ايفان بجنون ولا يصدق أين ألقاه نصيبه :
” توقف عن هذا الهراء، أي ملكة تلك ؟! ملكتي ليست من ذلك العالم ولن تكن ”
أبعد العريف السيف عنه ببطء بطرف إصبعه مبتسمًا بملاطفة :
” اسمع أيها المدلـ.. أيها الملك، صراخك بهذا الشكل لن يغير قدرك، تقبل الأمر أنت هو المنشود بتلك الرؤية القديمة، وملكتك تقبع هناك في عالم المفسدين تنتظرك ”
تنفس إيفان بصوت مرتفع وهو ينظر حوله لمستشاريه، يشعر بالجنون من تلك الفكرة، أبعد السيف عن رقبة العريف الذي ابتسم براحة شديدة، يراه يتحرك في المكان بأكمله وكأنه يفكر في أمر ما :
” الخروج والذهاب لإحضار الملكة يعني أن ألقي نفسي في التهلكة، خروجي لعالم هؤلاء المفسدين لهي مخاطرة كبيرة للمملكة ”
ابتسم العريف يقول بخبث ونبرة ذكية ماكرة يعلم أن إيفان لا يخشى ما سيقابله، بل يخشى ترك المملكة، لذا لعب بمهارة على تلك النقطة :
” ولا تنس يا مولاي أن خروجك وعودتك سيأخذ منك وقتًا غير معلوم، والمملكة هنا لا تستطيع البقاء دون الملك كل ذلك الوقت ”
نظر له إيفان يشعر بالحيرة الشديدة وهدير قوي يضرب صدره، عقله يرفض أن تكون ملكته الحبيبة التي انتظرها كل تلك السنين من هؤلاء المفسدين الذين نفروهم منذ مئات السنين ومازالت تأتيهم اخبار فسادهم وحروبهم، وقلبه يشتاقها حتى ولو كانت من الأعداء وليس مجرد شخص من عالم آخر، ريما هي تختلف، هي لا تشبههم بأي شكل ..
نظر لمستشاريه يحاول التفكير في أمرٍ ما ثم قال بهدوء ورزانة وغموص :
” ارسلوا لإحضار سالار وباقي القادة، وأنت أيها العريف لا تتحرك بعيدًا عن القصر فسوف نحتاجك أنت ومساعدك .”
صمت وهو يغمض عيونه يتمنى، فقط يتمنى إن كان حديث ذلك العجوز صحيحًا، أن تكون ملكته من الحكمة والهدوء ما يؤهلها لتترأس عرش ” سفيد “، وتستطيع أن تدير المملكة معه بكل حكمة وعدل…
_____________________________
” لا بقولكم ايه شغل العوق ده مش معايا، قولنا اللي عايز فول يقول واللي عايز طعمية يقول، لكن مش كل شوية واحد يقولي نص فول ونص طعمية مش تورتة عيد ميلادك هي وهتشكلوها، اخلصوا عندي شغل ”
زفرت وهي تدون في أحد المذكرات الصغيرة ما يقال لها من زملائها، فلسوء حظها كان اليوم يومها هي للذهاب وإحضار الفطور للجميع، وحينما انتهت وضعت القلم في طيب زيها الطبي تتحرك خارج غرفة الاستراحة :
” شوية همج مينفعش معاكم غير العين الـ …”
وقبل أن تكمل جملتها شعرت بجسدها يصطدم في جسد صلب بعض الشيء لتتراجع فورًا مرتعبة ولم تكد تفتح فمها لتعتذر حتى هالتها عيونه التي نظرت لها باهتمام فابتسمت تلقي الدفتر الذي دونت به كل شيء جانبًا تعدل من هيئتها :
” اهلا يا دكتور علي، ازي حضرتك ؟؟”
ابتسم لها عليّ بلطف يقول :
” أنا بخير الحمدلله، اخبارك أنتِ ايه يا تبارك ؟؟”
شعرت تبارك بقلبها يتراقص فرحًا من اهتمامه بها، تنظر ارضًا بخجل شديد، تحاول أن تجد كلمات تجيب بها على سؤاله البسيط العادي، رفعت وجهها مجددًا لتجيبه لكن قاطعها صوت من داخل الغرفة يقول بصياح :
” اوعك تنسي الجرجير والمخلل يا تبارك لاحسن والله المرة دي هتبقى بخناق، وبسرعة شوية مش ناقصين عطلة”
عضت تبارك شفتيها بغيظ شديد، ثم رفعت عيونها لعليّ الذي ابتسم لها يقول بهدوء شديد :
” طيب يا تبارك شكلك مشغولة، استأذن أنا ”
وقبل أن تعترض وتوقفه رحل بهدوء كما جاء بهدوء تاركًا إياها ترثي ذاتها، وحظها السييء الذي يلاحقها بلا هوادة، حتى أنها أضحت تظن أن هناك طيف خفي شديد الغيرة يلاحقها كي يبعد عنها كل الرجال، وكانت تلك فكرة في غاية الرومانسية للبعض، لكن ليس تبارك التي خرجت من المشفى تهمس وتتوعد بالويل :
” بس لو المح ابن الـخرابة اللي مبهدل حياتي، هديله علقة اسففه سنانه ومخليش دكتور يعرف يجمعه تاني ”
__________________________
يتحرك بين الممرات بخطوات مليئة بالهيبة وخلفه جميع مستشاريه وجنوده المخلصين، يتوجه صوب غرفة الاجتماعات التي ما فُتحت يومًا سوى لوجود كارثة، وهل هناك كارثة تنافس ما يمر بها الملك الآن ؟؟
دخل إيفان المكان الذي كان زاخرًا بجميع رجاله الأوفياء ووالدته التي كانت كمن فقدت عزيزًا، أو هُدم معبدها، لا تصدق ما وصل لاذنها، ابنها هي قُدرت له إحدى نساء المفسدين ؟؟
تحرك إيفان بين الجميع بملامح جامدة قدت من صخر، واعينه الخضراء تلتمع بنظرات خطيرة، نظر في جميع الوجوه يبحث عنه هو، الوحيد الذي يثق أنه سيساعده في الأمر :
” أين هو سالار ؟؟”
تحدث دانيار باحترام شديد :
” سيدي لقد أرسلنا له مبعوثًا ليخبره بضرورة الحضور ”
هز إيفان رأسه يستقر على مقعده الذي يتقدم جميع المقاعد يحرك عيونه بين كل من يثق بهم، العريف ومرجان، ودانيار ووالدته ومستشاره الملكي والطبيب الملكي مهيار، فقط تبقى قائد جيوشه ويكتمل جميع معاونيه ..
” اعتقد أن الجميع يعلم سبب وجوده هنا ”
هز الجميع رؤوسهم وقد علىٰ الصمت وكأن على رؤوسهم الطير، لا أحد حتى الآن يصدق ما وصل لهم من اخبار، الأمر أصبح في غاية التعقيد .
تنفس إيفان بصوت مرتفع يقول :
” لقد إتخذت قراري ..”
نظرت له والدته بفضول وداخلها هاجس يخبرها أن ما ستسمعه لن يسرها البتة، وقد كان إذ اعتدل في جلسته يقول بجدية كبيرة :
” أنا سأحضر ملكتي هنا ”
انتفض جسد الملكة بفزع من تلك الفكرة تصرخ باعتراض كعادتها التي تستفز كل ذرة من ذرات صبر إيفان، فهي تحب دائمًا حشر نفسها في شئون مملكته، لا تستوعب أنه الملك وتظن أنها تستطيع أن تملى عليه ما يفعل، وهو يومًا لم يعتمد على أحد في إدارة مملكته، وهو من يشهد له الجميع بالذكاء الحاد والعقلية الجبارة رغم عمره الصغير الذي تعدى الثلاثين بأيام قليلة .
وصوت والدته خرج مجددًا تعترض أمام الجميع دون وضع اعتبار أنه الملك :
” ماذا ؟؟ هل تمزح معي ؟؟ أي امرأة تلك التي ستحتفظ بها أسفل سقف غرفتك مولاي ؟؟ ما ادرانا أنها امرأة صالحة وليست كالجميع هناك و…”
ضرب إيفان الطاولة بشكل تسبب في استنفار أجساد الجميع واعتلاء نظرات التحفز وجوههم وصوته خرج هادئ قدر الإمكان احترامًا لمكانة والدته بين الجميع :
” مولاتي، أنتِ الآن تتحدثين عن ملكة سفيد المستقبلية، لذا رجاءً اظهري بعض الاحترام ”
” ملكة ؟؟ أي ملكة تلك ؟! هل أنت جاد في رغبتك بالبحث عنها ؟؟ ماذا سيحدث إن تزوجت واحدة من اميرات الممالك المجاورة ؟؟”
نظر لها إيفان ثواني قبل أن يحرك عيونه ويثبتها في نقطة فارغة أمامه :
” لن يحدث شيء أمي لأنها ببساطة ليست ملكتي، لقد إتخذت قراري وحُسم الأمر، سوف أحضر الملكة هنا ”
تنحنح دانيار وهو ينظر له بتحفز :
” لكن مولاي الخروج والذهاب لذلك الجانب من العالم، لن يكون سهلًا، وقد يستغرق الكثير من الوقت، ربما شهور لا أحد يدري ”
ابتسم إيفان يتراجع بظهره للخلف يقول ببسمة واسعة ماكرة :
” لقد فكرت في هذا أيضًا، أنا لن استطيع الذهاب وإحضار الملكة بنفسي، لذلك فكرت أن أرسل شخص أثق به يستطيع إنهاء تلك المهمة في أقل وقت ممكن ”
نظر الجميع له بفضول شديد، يحاولون معرفة من يقصده بكلماته تلك، وايفان ابتسم بخبث شديد وقد التمتت عيونه بقوة يسمع صوت الباب يُفتح خلفه والحارس ينادي بصوت جهوري :
” سيدي قائد الجيوش الأول، وصل يا مولاي ”
خطى سالار للداخل بخطوات قوية تكاد تسمع صداها يرن في الأجواء وتشعر بوقعها اسفلك..
وقد أرتجف جسد مرجان يختبأ خلف العريف من مظهر سالار الذي كان يتحرك داخل القاعة بدرعه وسيفه وسهامه التي لم ينزعها عن ظهره بعد، وقد عاد لتوه من معركة أخرى انتصر بها، ابتسم سالار بسمة جانبية وهو يتجاهل الجميع عدا دانيار الذي حياه برأسه تحية صغيرة ردها له دانيار باحترام شديد وقد وقف يستقبل قائده، لكن سالار أشار له بيده حتى يجلس مجددًا ..
وتحرك لمقعد الملك يقف أمامه بكامل هيبته، وملامحه الحادة بشعر بني يميل للأحمر ولحية نفس اللون، واعين خضراء، ابتسم يقول بهدوء وصوت قوي :
” أرسلت لي مولاي ؟؟”
نظر له إيفان ببسمة يجيبه بهدوء شديد :
” نعم سالار، اجلس رجاءً وأخبرني ما فعلت خلال رحلتك لتحرير المدن الغربية ؟!”
اتسعت بسمة سالار يجيب بهدوء شديد وملامح باردة بعض الشيء وبكلمات مقتضبة :
” يمكنك أن تسأل الأسرى في السجون سيدي، اعتقد أن الرواية من جانبهم ستكون أكثر إثارة من خاصتي، فأنا لا أملك سوى أننا ذهبنا وانتهينا منهم بفضل الله ”
أطلق إيفان ضحكات عالية يعلم جيدًا أن سالار لم يكن يومًا من محبي الحديث الطويل أو الكلمات الكثيرة، هو رجل أفعال، آلة حرب مخيفة لا يخرجها إلا في حالات نادرة .
اعتلت أعين إيفان نظرات غامضة جعلت سالار يميل برأسه متعجبًا، وهو يحرك نظراته بين الجميع يحاول استنتاج ما يحدث والذي تسبب في شحوب ملامح بعض المستشارين وتشفي العريف وغضب الملكة الأم..
وقد جاءه الرد على ما يفكر به سريعًا، مصحوبًا بنبرة غامضة من الملك :
” جيد سالار، احتاجك لمهمة أخرى يا صديقي ”
نظر له سالار بفضول كبير أخفاه بمهارة أسفل نظرات مهتمة مطيعة، وحوله الجميع ينظر بترقب لما سيقال :
” اريدك أن تذهب لإحضار الملكة سالار ”
” وهل وجدتموها ؟؟ ولِم تحتاج مساعدتي لاحضارها مولاي ؟؟ ”
اعتدل إيفان يضم قبضتيه على الطاولة التي تجمعهم كلهم يقول بنبرة آمرة لا تقبل أي نقاش وكأنه يوصل لسالار أنه الآن لا يتحدث له كصديق، بل كملك، وكلماته ليست طلبًا بل أمرًا واجب التنفيذ :
” هذا لأن الملكة تقبع هناك سالار، في جانب المفسدين، وأنت من ستذهب لتحضرها من اجلي وستأخذ معك مرشدي الجانب الآخر لمساعدتك …”
اتسعت أعين سالار بقوة وقد شعر الجميع حوله أن غضبه جعل هيئته تزدادت ضخامة ووجهه يزداد تحجرًا.
وهو فقط نظر حوله للجميع، ليشعر مرجان بالرعب الذي دفعه ليلقي بجسده أسفل الطاولة يختفي عن أعينه، فهو لا ينسى ثوارات سالار التي يقيمها على رأس العريف حين غضبه منه .
تنفس سالار بقوة يشعر برغبة عارمة لرفض مهمة للمرة الأولى، لكن وبالنظر لنظرات الملك شديدة التحذير من رفض أمر له، نهض من مقعده يضغط بقبضته على مقبض السيف يقول بهدوء شديد :
” يمكنك تجهيز عرش مولاتي منذ اليوم مولاي ”
ختم جملته يحني رأسه بطاعة، ثم تحرك خارج القاعة بأكملها بجسد مشتد كالوتر وملامح مرعبة، وخطوات قوية شعر الجميع أنها تكاد تحرك الطاولة والمقاعد من قوتها، توقف سالار أمام الباب الخاص بالقاعة يأمر بصوت جهوري :
” افتحوا الابواب ”
وفي ثواني كان الباب يُفتح بقوة لينطلق كالرصاصة خارج المكان بأكمله والشياطين تلحقه، نهض دانيار يعتذر من الملك، ثم ركض بسرعة كبيرة خلف سالار تاركًا إيفان ينظر أمامه بهدوء شديد وكأنه لم يفعل شيء يشير للعريف :
” تولى أمر إبلاغ سالار بكل ما يحتاجه في ذلك الجانب من العالم أيها العريف، وأخبر ذلك الجبان أسفل الطاولة أن يخرج ويذهب لاخبار مرشدي الجانب الآخر أن يتجهزوا للذهاب في رحلة رفقة القائد سالار، انتهى الاجتماع يا سادة ”
بهذه الكلمات ختم إيفان الجلسة يتحرك عن مقعده بقوة خارج المكان بأكمله، يسير بجسده الضخم نسبيًا وهو ينظر أمامه دون أن يهتم بأحد يتنفس بصوت مرتفع متحركًا صوب حجرته للانفراد بنفسه.
وكذلك فعلت الملكة والمستشارين يغادرون المكان وكلٌ يبكي على ليلاه، الجميع يفكر فيما سيحدث في الأيام القادمة، إذ يبدو أن المملكة ستشهد حدثًا سيغير مجرى تاريخها ..
وحينما عمّ الهدوء أخرج مرجان رأسه من أسفل طاولة الاجتماعات يهمس بريبة :
” هل رحل الجميع ؟؟”
نظر له العريف يضرب رأسه بحنق :
” أخرج أيها الجبان ”
وكذلك فعلت بومته التي ضربته بجناحها تطلق صوتًا مزعجًا وكأنها توبخه .
نهض العريف عن المقعد يشير لمرجان أن يلحقه :
” يبدو أن المملكة على وشك أن تُغير خارطتها يا فتى، القادم سيكون ممتعًا للغاية …”
_____________________________
تحركت صوب منزلها بعد يوم عمل مرهق، تبحث داخل حقيبتها عن بعض القروش فقط كي تشتري لنفسها شيئًا حلوًا لما بعد العشاء كمكافأة لها على تحملها العيش في هذه الحياة يومًا اضافيًا، لكن فجأة وأثناء بحثها عن أي أموال انتبهت لنظرات غريبة توجه لها من جميع سكان الحارة، وتقصد هنا بسكان الحارة ” النساء” …
نظرت تبارك خلفها تبحث عن ذلك التعيس الذي وقع ضحية لسان النساء هنا وأعينهم، لكن لصدمتها لم تجد ذلك التعيس لتدرك أنها هي نفسها التعيس ..
عادت بعيونها للنساء تشير صوب صدرها باصبعها تقول بصوت خافت :
” أنا ؟؟ بس أنا لسه معملتش حاجة”
ابتلعت ريقها تنفض عنها ذلك الشعور، بالطبع هي فقط تتخيل، فهي لم ترفض زوجًا ” لقطة” كما يخبرونها، أو تنبذ عملًا في إحدى عيادات الأطباء الحمقى هنا، أو حتى تتشاجر مع امرأة، لتكون محط أنظار النساء، هي تتوهم فقط .
لغت فورًا فكرة مكافأة نفسها تدرك أن أكبر مكافأة قد تقدمها لنفسها هي أن تنفرد بها داخل منزلها الدافئ بعيدًا عن كل ذلك، لذا قررت أن تتحرك صوب المنزل قبل أن تثقبها إحدى النظرات من النساء، وما كادت تعبر حدود البناية حتى سمعت صوتًا يهمس :
” اه والله وقال ايه واحد بيجيلها في الحلم ويكلمها كل يوم ”
اتسعت عيون تبارك فجأة تقف في مكانها تهمس داخلها :
” يارب مش اللي في بالي، يارب لا ”
نظرت صوب النساء لترى أم أنور تحدق بها متسائلة بوقاحة :
” فيه حاجة يا حبيبتي ؟؟ ”
” لا أنتم اللي فيه حاجة يا أم أنور ؟؟”
” لا يا حبيبتي وهيكون فيه ايه يعني ؟؟ ”
هزت تبارك رأسها ولم تكد تخطو للبناية، حتى توقفت على ضحكة عالية من إحدى فتيات الحارة التي سارعت بحجز مقعدها بين النساء مبكرًا، وكأنها تستعجل تحولها للسان متحرك لا غرض له سوى التحدث بأخبار من حوله .
توقفت تبارك ونظرت للفتاة بتحفز كبير تتساءل بأعين مشتعلة :
” فيه حاجة في وشي بتضحك ؟؟”
ابتسمت الفتاة تتجاهلها وهي تنظر من أعلى لاسفل بتقليل :
” كلك على بعض الصراحة، يا عيني من كتر الوحدة عقلك بدأ يطق منك ويخترع ليه ناس يحبوه ”
اقتربت منها تبارك بتحفز وقد بدأ جسدها بأكمله يهتز بغضب وشيك، هي لا تحب العراك وتتجنب المشاكل، لكنها لا تحب أن يتخذ أحدهم سخرية له :
” انتِ بتقولي ايه ؟؟ ما تتكلمي بوضوح وبلاش جو الفوازير ده يا حبيبتي، انطقي باللي عايزاه ”
” وأنا هعوز منك ايه يا ختي ؟؟ أنتِ اللي زيك هو اللي عايز شوية حنان وشفقة قبل ما يجن، الحارة كلها عارفة بالحوار بتاع احلامك وأنك عليكِ اللهم احفظنا جن زي اللي كان عند البت احلام ”
شعرت تبارك بدمائها تتصاعد بين شرايينها، الغضب تمكن منها حتى أصبحت لا تميز أمامها سوى اللون الاحمر، ودون كلمة تحركت راكضة صوب منزل الشيخ عبدالعزيز تشعر بالقهر، الغضب تمكن منها حتى شعرت بقرب انفجار بكائها، فهذه هي عادتها كلما أزداد غضبها ازداد معه فرص بكائها بشكل مزري، وصلت للمنزل تطرقه بعنف شديد وبمجرد أن ظهرت لها حسنية أطلقت عفاريتها في وجهها صارخة :
” هو أنتِ يا ست أنتِ لو كنتِ حفظتي سر اللي دخل بيتك وامنك على أسراره هيجرالك حاجة ؟؟ لازم لسانك ده يفضل يخوض في سيرة الناس ؟!”
اتسعت عيون حسنية بصدمة من كلماتها وهي تنظر حولها برعب :
” أنتِ بتقولي ايه يا بنتي أنا عملتلك حاجة ؟؟”
” بنتك ؟! يا ست يا أم لسان طويل، بكرة تتسحبي منه، والله العظيم لاوصل للشيخ عبدالعزيز كل كلمة نطقتيها في حقي وهوريكِ ازاي تتكلمي على الناس تاني، حسبي الله فيكِ وفي امثالك ”
وما كادت ترحل حتى سمعت صوت حسنية تركض خلفها تحاول إيقافها مرتعبة مما سيحدث لها على يد عبدالعزيز إن علم أنها أخرجت كلمة مما سمعت، لكن تبارك لم تتوقف في سيرها تركض صوب منزلها وبمجرد أن وصلت وجدت جميع النساء يجلسن أمامه ومعهم نفس الفتاة التي أخذت تطلق ضحكات بمجرد أن رأتها تقترب .
وتبارك حين أصبحت أمامها رفعت حقيبتها تضربها في وجه الفتاة بقوة اسقطتها بين أحضان والدتها وصوتهل يعصف بشكل مرعب :
” اياكِ تنطقي كلمة في حقي ؟؟”
نظرت لها الفتاة بخوف من نبرتها تلك، ابتلعت ريقها تحاول الحديث، لكن تبارك اصمتتها ترفع اصبعها في وجهها تقول بصوت خافت مرعب :
” كلمة واحدة في حقي برقبتك ”
ختمت حديثها تنظر للنساء بشر ليتبلعن ريقهن ويبتعدن عن عيونها وهي تحركت صوب منزلها تهنئ نفسها على تلك الخطوة التي ستجعلها مستهدفة من جميع نساء الحارة، لكنها ستجعلهم يتجنبونها، فكما يقول المثل ” اضرب المربوط يخاف السايب” وهي أوصلت رسالتها واضحة لنساء الحارة من خلال تلك الفتاة ..
دخلت المنزل تغلق الباب خلفها بقوة تتنفس بصوت مرتفع تلقي بالحقيبة على الأريكة، ثم جلست هي كذلك جوارها تحدق أمامها في الفراغ تدفن وجهها بين كفيها، تقول بحنق وغيظ :
” اه لو غاندي اللي كل شوية ينطلي في الحلم يقع تحت ايدي بس ….”
عادت برأسها للخلف على الأريكة تحاول أن ترتاح هامسة بخفوت قبل أن تسقط في نومة عميقة :
” أنا تعبت خلاص . ”
___________________
كان يجلس داخل مكتبته حيث مملكته التي يحكم، يعتلي عرشه والذي كان عبارة عن مقعد يتوسط العديد من أرفف الكتب الضخمة، يراقب ذلك العملاق الذي يعيث فسادًا في مملكته، فيحطم هذا ويدمر ذلك دون أن يعطي أي اهتمام لأحد.
زفر العريف يتحسس ريش البومة التي تعلو كتفه تحدق بسالار الذي يحطم ما يسقط امام عيونه بغضب.
ماله هو والنساء ؟! هو رجل حرب لا يفقه سوى في الأسلحة وما يخصها، وهذه امرأة كيف يعاملها ؟؟ هل يتعامل معاها كما يعامل السيف الخاص به أو درعه ؟؟
مال مرجان على العريف يهمس له :
” كل هذا وهو لا يعلم أنك أنت من اقترحت على الملك إرساله هو تحديدًا ”
نظر له العريف بشر مبعدًا وجهه عنه :
” وإياك أن يعلم وإلا اضعت مستقبلك مرجان، ألا تراه كالثور الهائج يكاد يحطم جدران القلعة فوق رؤوس قاطنيها ”
وحينما انتهى سالار من تفريغ غضبه تحرك صوبهم بخطوات رزينة هادئة تعاكس تمامًا ما كان يفعل منذ ثواني، يجلس على المقعد أمامه يتحدث بملاح في غاية الغضب :
” والآن أخبرني ما يحدث هنا وما عليّ فعله ؟؟”
ابتسم العريف يتنهد براحة مشيرًا صوب مرجان :
” مرجان سيذهب ليحضر لك مرشدي الجانب الآخر، وما عليك سوى حمل كرة العرش والتحرك بها للبحث عن الملكة، هي سترشدك إليها، وحينما تجدها أحضرها، واحرص أن تكون عودتك قبل منتصف الشهر الجاري ”
سخر منه سالار بكلمات حانقة :
” لِمَ ؟ هل ستتحول لمستذئب إن لم أفعل ؟!”
هز العريف كتفه يقول ببساطة :
” لا بل ستخفت قوى الكرة وسيصعب عليك إيجادها، هل كل شيء واضح ؟؟”
هز سالار رأسه، ليضيف العريف يلقي ببعض الكتب أمامه وعيونه باردة لا تهتم بشيء حوله، ولا حتى لقائد الجنود الذي يكاد يحيل المكان حولهم لرماد :
” هذا كتاب يصف لك بعضًا مما قد تقابل في الخارج، حيث الملكة، حينما تعبر حافة العالم ستسير حسب مخطوطة سأمنحها لك، وستصل لبلدة صغيرة أين ستجد أحد رجالنا في ذلك الجانب وهو سيساعدك للذهاب حيث تشير الكرة”
” وأين تشير الكرة ؟؟”
” لن نعلم إلا عندما تخرج من هنا، عامة هو سيخبرك أين ستذهب وكيف ستفعل، سيساعدك كما سبق وفعل مع مستكشفي مملكتنا سابقًا، يمكنك أن تثق به ”
رمقه سالار بنظرات شديدة مخيفة بعدما مال على مقعده وقد كان صوته أشبه بفحيح حية تستعد للالتفات حول ضحيتها وخنقها قبل أن تبتلعها :
” أنا لا أثق بأحد”
اقتحم دانيار في تلك اللحظة المكتبة يقول براحة شديدة لرؤية الجدران في مكانها المعهود :
” سيدي …”
أشار سالار عليه يكمل على حديثه السابق :
” عدا دانيار، وتميم والملك وتلك البومة التي تعلو كتفك فقط ”
أصدرت البومة صوتًا وكأنها تفهم ما يقول ليبتسم العريف بسخرية :
” اوه، هذا كان جارحًا ”
” لطالما كانت الحقيقة هكذا ”
ابتسم له العريف ينهض من مكانه يتحرك داخل المكتبة الخاصة به يتجاهل تمامًا وجوده، بينما مرجان والذي يلتزم الصمت منذ لمح وجود سالار قرر أنه حان وقت الهروب من وجهه والذهاب لإحضار المرشدين، لذلك ابتسم بسمة صغيرة وهو يستأذن راكضًا خارج المكتبة تاركًا دانيار يجلس أمام سالار..
” إذن هل ستفعلها سيدي ؟!”
” وهل ترك لي إيفان خيارًا ؟؟”
ابتلع دانيار ريقه ثم نظر حوله يميل قائلًا:
” هل تريد مني مرافقتك ؟؟”
رمقه سالار بحاجب مرفوع :
” ومن سيقود الجيش في غيابي دانيار ؟؟ ”
اجابه دانيار بكل بساطة ودون تفكير :
” تميم سيفعل ”
أطلق سالار صوتًا حانقًا مغتاظًا من اقتراح دانيار :
” تميم ؟! بالله عليك دانيار إن كنت تطمح لضياع تلك المملكة فلن تقترح هكذا اقتراح ”
وقبل أن يكمل كلماته سمع الجميع صوت انفجار قوي يأتي من داخل القصر ليزفر سالار بحنق يشير صوب الخارج :
” أنظر، نحن معه هنا في القصر ويكاد يحطمه أعلى رؤوسنا، ماذا إن تركنا له زمام الأمور ؟؟ أنت ستبقى هنا كي تحمي المملكة من أي معتدي خارجي، ومن تميم ايضًا”
ضحك دانيار بصوت صاخب، يرى أن قائده محق فتميم والذي كان المسؤول عن الأسلحة والمدافع وتطوير كل ذلك يعد كارثة متحركة، لا ينفك يفجر معمله مرتين كل اسبوع.
قال سالار :
” لا تقلق أنا استطيع حماية نفسي وحماية مملكة بمفردي ومعي سيفي العزيز ”
سمع صوت العريف يقول من داخل المكتبة :
” لا يمكنك أخذ السيف ”
عض سالار شفتيه بغيظ شديد :
” ذلك العجوز، يومًا ما سأتخلص منه وألقيه بيدي في الجانب الآخر من العالم، حيث المفسدين أمثاله ”
وصل له صوت العريف يقول بسخرية لاذعة :
” على الأقل لن أكون مضطرًا للتعامل مع ملك متسلط، وقائد جيش متجبر، ورامي سهام مزعج، وصانع أسلحة مختل، وبومة حمقاء ”
ختم جملته يضرب البومة بالكتاب لتطلق الأخيرة صوتًا محتدًا وهو تجاهل الأمر، يفكر أنه حقًا يتمنى الانعزال عن هذا العالم بمن فيه، هم مزعجون وبشدة، لا يطيق هؤلاء الأربعة الذين يمثلون تحالفًا، ويتمنى لو يختفون من تلك المملكة ويتركونه ينعم بحياة هادئة وسط كتبه الغالية .
تنهد سالار لا يدري ما يفعل، الأمر سيستلزم منه جهدًا وفيرًا كي يصل، وجهدًا أكبر كي يقنعها بالمجئ معه، حسنًا الجزء الاول ليس بالصعب، لكن أن يتعامل مع امرأة ويقنعها بشيء لهو المستحيل بعينه، لكن ومنذ متى يأس سالار وعجز أمام شيء ما ؟؟
والإجابة كانت أبدًا، إذن سيفعلها وينتهي منها كما يفعل دائمًا ويعود بأسرع وقتٍ ممكن، حيث مملكته الغالية وجيشه العزيز ..
سمع صوت انفجار آخر ليكمل داخل عقله، وليلقن تميم درسًا ..
________________________
كان يجلس في معمله امامه العديد من الأدوات والعديد من المواد التي يصنعها بنفسها أو يوصي عليها من العالم الخارجي، فنعم هم رغم انعزالهم التام عن الحياة في الخارج حيث المفسدين، إلا أنهم في بعض الأحيان يستعينون ببعض موادهم .
ابتسم يقوم بحشو كرة حديدية ببعض المواد المتفجرة، ثم امسكها بين يديه يحركها للأعلى والاسفل وهناك بسمة واسعة ترتسم على فمه، رفع يده في الهواء يبحث عن مكان يلقي به تلك الكرة ليجربها، ليقع الاختيار في النهاية على مدخل المعمل فهو المكان الوحيد الفارغ من أدواته الثمينة .
لوح بالكرة في الهواء ودون تفكير كان يلقي بها بقوة مخيفة تسببت في أحداث صوت عالي مدوي ودخان كثيف، وصاحب صوت الانفجار صوت صرخات أنثوية تصيح بهلع :
” النجدة …النجدة ”
فتح تميم عيونه ينتظر أن ينقشع الدخان حتى ظهر من بينه امرأة طويلة الجسد بعض الشيء، جميع ثيابها تدمرت ببقع حروق وهي تحمل بين يديها بعض أدوات التنظيف تسعل بقوة :
” رحمتك يا الله، ما هذا ؟ أشعر كما لو أن أحدهم القاني بقنبلة فلفل حار ”
نظر لها تميم ثواني قبل أن يقول بتفكير وهو ينظر للادوات خلفه :
” عجبًا لم تتسبب القنبلة في قتلها، ربما نسيت إضافة شيء ”
نظرت له الفتاة بأعين متسعة :
” ماذا ؟؟ هل أنت حزين لعدم موتي ؟؟”
” عدم موتك يعني فشلي في تلك القنبلة اليدوية، الأمر مخيب للامال”
ابتسمت الفتاة بصدمة كبيرة تترك أدوات التنظيف جانبًا وهي تتحرك صوبه تصرخ بجنون :
” أنت أيها المختل ما الذي تهزي به ؟؟ لقد كدت تفجر جسدي للتو، والآن أنت خائب الامل لأنك لم تر اشلائي تتناثر حولك ؟؟”
نظر لها تميم ثواني يحاول التفكير جيدًا في تلك الافتراضات التي تطرحها على عقله :
” لا، ارجوكِ آنستي لا تأخذين الأمر من هذا المنظور، انظري أنا أعمل على هذه القنبلة منذ اسبوع كامل، تخيلي أن نمتلك قنبلة يمكنها تدمير جيش بأكمله عن بعد ؟؟”
وما قال لم يحسن الوضع بالنسبة لها ولو لجزء صغير :
” أنت يا سيد حانق لأنك ألقيت عليّ قنبلة قادرة على تدمير جيش بأكمله ولم تؤتي ثمارها المرجوة ؟؟”
هز تميم رأسه بنعم، هو حقًا يشعر بخيبة الأمل، لكن فجأة تراجع للخلف على طاولة الادوات برعب وهو يرى الفتاة أمامه تتحول لوحش يزأر في وجهه :
” حسبي الله فيك وفي امثالك أيها الغبي، هل أرواح من بالقصر لعبة في يدك يا مدلل، اقسم أنني لو أصابني خدشٌ واحد لاشكونك عند الملك ولن اتركك إلا عندما ألقي عليك دزرينة قنابل بنفسي ”
أنهت حديثها تسحب الادوات صارخة بحنق :
” لن اخطو ذلك المكان العفن مجددًا، سامح الله من اقترح عليّ تنظيفه، لا ينقصني في حياتي البائسة سوى مختل حزين لأنه لم يستطع قتلي بنقبلته اليدوية ”
راقب تميم انسحابها من معمله ترغو وتزبد بغضب وهو لا يستطيع الشرح لها، يتحرك خلفها :
” انتظري أنا لا اقصد ما وصل لكِ، اقسم لم اقصد كل ذلك، فقط أنا حزين، قدّري حزني، حسنًا فقط أخبريني ما شعرتي به للعمل على التعديلات، هل كان الأمر مؤلمًا حينما اصطدمت بكِ ”
وصل له صوت الفتاة الذي صدح من الاعلى، إذ أن معمله يقبع أسفل القصر بسبب ما يحدث من انفجارات متتالية :
“أقسم أن أهبط أنا واريك كيف يكون الألم حينما يصطدم حذائي بوجهك ”
زفر تميم بحنق شديد، هو حتى لم يعلم اسمها او يرى من وجهها شيئًا ليراقبها ويرى تأثير الانفجار عليها، لربما فشل الآن لكن في المستقبل يسبب تشوهات أو ما شابه، أي شيء يشعره أنه لم يضع أيام وليالي لأجل قنبلة دخان وصوت فقط ..
” لِمَ كانت تلك الفتاة تصرخ للتو ؟؟”
لوح تميم بيده وهو يراقب دانيار وسالار يخطوان لمعمله :
” لا ادري اقسم، من المفترض أن اغضب أنا، لقد أصابتها قنبلتي الجديدة، ولم يصيبها سوى بعض اللون الأسود بسب بالدخان الكثيف، ورغم ذلك أصابت رأسي بصداع ”
توقف عن الحديث فجأة حينما انتبه لوجه سالار الجامد ليقول بريبة :
” ما به القائد ؟؟”
نظر دانيار له وقال بصوت منخفض :
” لقد أرسله الملك في مهمة للجانب الآخر من العالم ”
اتسعت أعين تميم بقوة ينظر لسالار الذي كان شاردًا، ودون مقدمات اتسعت بسمته يقترب من سالار يهمس له :
” إذن هل تحتاج بعضًا من أسلحتي معك ؟! ابتكرت للتو قنبلة بإمكانها تدمير جيشٍ بأكمله”
نظر له سالار يجيب ساخرًا وهناك بسمة ترتسم على وجهه :
” نعم، تلك القنبلة التي تصيب جيشًا كاملًا بالسعال ”
أطلق دانيار ضحكات عالية على ملامح تميم الذي تقهقر للخلف يدافع عن أسلحته :
” هي ما تزال بحاجة لبعض التطويرات، لكن صدقني في المستقبل سوف يقف الكون بأسره منبهرًا بما سأفعل ”
” وحتى نفعل هذا يا عزيزي، احتاج منك بعض الأسلحة صغيرة الحجم التي ستساعدني لتدبر أمري في ذلك العالم الغريب، أسلحة ليست بالظاهرة، فهمت تميم ؟؟”
نظر له تميم لحظات قبل أن يقول ببسمة :
” فهمت يا قائد …”
________________________
نظرت تبارك لوجه العم متولي والذي يجلسها أمامه منذ ساعات طويلة يتحدث بكلمات غامضة لا تفهم منها شيئًا، هو فقط أخبرها أنه وصل لشيء هام يخص أحلامها وحالتها ..
كانت تستمع له يضع أمامه ورقة كبيرة ويمسك بقلم بين أنامله يحركه بشكل عشوائي يقول بجدية كبيرة :
” ها فهمتي اللي بيحصل ؟!”
أشارت تبارك لنفسها بغباء شديد :
” يعني قصدك إني أنا عروسة النيل الجديدة واللي بحلم بيه ده نداء المفروض البيه قبل ما اللعنة بتاعة الفراعنة تصيب الحارة كلها ؟؟”
هز متولي رأسه مبتسمًا سعيدًا أن ما أراده وما اكتشفه بعد بحثٍ طويل عن أسباب تلك الأحلام التي تصيبها قد أتى ثماره وفهمت ما يريده .
” بالضبط، المفروض دلوقتي تلبي النداء قبل ما الحارة باللي فيها تولع”
” النداء اللي هلبيه ده، هلبيه بأني…”
تركت جملتها معلقة ليس لجهلها بباقيتها، فهو أعاد على مسامعها كل شيء مرات عديدة، لكنها فقط تود التأكد مرة أخرى أنها لم تخطأ السمع وهو سارع كي يكمل تلك الجملة لها :
” أنك ترمي نفسك في النيل ”
صمت ثم أضاف بعدما تذكر :
” من نزلة ابو العِلا اللي في التحرير كده، تتشيكي وتلبسي فستان ابيض بلياقة دهبي وحزام دهبي وتروحي ترمي نفسك ”
” والطرحة، دهبي برضو ولا على ذوقك ؟؟”
” لا دي براحتك يعني عادي ”
هزت تبارك رأسها تبدي اقتناعًا زائفًا، تتحرك من مقعدها للخلف ببطء شديد وحرص ومتولي يراقبها بعدم فهم، وهي تبتسم له بسمة صغيرة غبية :
” هروح اكوي الفستان وأجهز نفسي، واول ما أقرر إني ارمي نفسي هديك رنة، تمام ؟؟”
كان متولي يتابعها وهي تتحرك صوب باب المكتب الخاصة به، وبمجرد أن لمست أقدامها عتبات المكان حتى هرولت للخارج بسرعة وكأن الاشباح تطاردها، كانت تبارك تركض بأقصى ما تملك، تنظر خلفها برعب، وما اوقف هرولتها سوى جسد ضخم صلب اعترض طريقها .
توقفت برعب تعود للخلف وهي تتنفس بصوت مرتفع :
” أنا بعتذر مكنتش ….هو أنت ؟؟ هو مفيش حد في البلد دي بخبط فيه غيرك !!”
رمقها الطبيب الذي يعمل معها بتعجب، لكنه تجاوز ذلك التعجب متسائلًا حول ملامحها المرتعبة :
” هو فيه ايه ؟؟ حد بيجري وراكِ ولا ايه ؟؟”
نظر خلفها يبحث عن ذلك الذي يركض خلفها، لكنها سارعت للقول من بين انفاسها :
” لا …لا مفيش أنا …أنا بس كنت بعمل رياضة مسائية ”
نظر لها بشك، لكنه لم يعلق حول الأمر يبتسم لها ويمد يده ببعض الازهار التي أحضرها لأجلها :
” اتفضلي دي جبتها عشانك ”
نظرت تبارك للازهار بأعين متسعة وبعدم فهم :
” عشاني أنا ؟؟”
أومأ يؤكد لها صدق ما سمعته، يأكل المسافة بينهما ضاربًا بكل شيء عرض الحائط، لا يهتم بأي شيء يحيطه أو أنه يقف الآن وسط حارة ملغمة بأعين النساء وألسنة بحدة السيوف، يراقبون ما يحدث باهتمام شديد ينقصهم فقط بعض الأوراق وقلم لتسجيل ما يحدث والنقاش به في اليوم التالي .
” أيوة عشانك يا تبارك، أنا اساسا كنت جاي عشانك، كنت عايز اتكلم مع أهلك و اتقدم ليكِ عشان نتعرف على بعض بشكل مناسب ”
اتسعت أعين تبارك بقوة تشعر أن الأرض بدأت تدور أسفلها من تلك الكلمات، لكن فجأة ضرب جرس انذار داخل عقلها حينما انتبهت لكلمة ” اهلك” التي توسطت جملته بكل خبث تخرجها من تلك الحالة التي ألقاها بها الطبيب .
ابتلعت ريقها تنظر لوجهه تقول بتردد وكأنها تريد أن تبعده عنها :
” دكتور علي، الحقيقة أنا معنديش أهل ”
ضيق علي ما بين حاجبيه بعدم فهم، مبتسمًا بسمة صغيرة :
” يعني ايه معندكيش أهل؟؟ يتيمة قصدك ؟؟ أنا كمان والدي متوفي على فكرة بس مش بـ ”
قاطعته تبارك فجأة وهي تقول بجدية :
” لا معنديش أهل، مش عارفة إذا كانوا عايشين أو ميتين أنا كنت في ملجأ ”
بُهت وجه علي، يعود للخلف مبتلعًا ريقه وقد أصابته تلك المعلومة بصدمة، صدمة جعلته يفتح فمه رغبة في الحديث، لكنه اغلقه كـ سمكة خرجت من الماء تحاول التنفس بصعوبة .
وملامحه تلك كانت أكثر من كافية لتبارك التي ابتسمت تعيد له الورد مرة أخرى تقول بهدوء شديد :
” أنا عارفة إن الموضوع ممكن يكون صدمك، لكن كان لازم تعرف، عامة أنا بشكرك و ..”
صمتت تعض شفتيها تشعر بسخافة ما تقول، لا تجد رد تقوله، والأعين من حولها لا تساعد أبدًا على أن تبلور حديثها في جملة مفيدة؛ لذا قررت أن تبتسم وتودعه بكلمات مقتضبة، ثم تحركت صوب منزلها تستأذن منه تتجاهل أعين النساء والهمسات التي وصلت لها .
وعلي يقف مكانه يحاول معرفة ما حدث منذ ثواني، هو فقط، هو فقط تفاجئ، لم يستوعب ما قالته، نظر صوب المنزل يشعر أنها فهمت صمته بشكل خاطئ، هو لم يقصد أن يشعرها بالدونية أو ما شابه، تنفس يطلق سبة حانقة وهو يتحرك صوب سيارته وقد قرر أن يتحدث معها حينما يراها في المشفى وقد شعر بظهره يحترق بسبب النظرات التي يوجهها البعض له .
وتبارك وصلت لمنزلها ولم تحاول أن تضئ الانوار، تشعر أن الظلام الآن وضع جيد لما تشعر به، تنفست بصوت مرتفع تتحرك بتعب شديد صوب الأريكة تلقى نفسها عليها تتنفس بصوت مرتفع وعقلها يعود بها للخلف، حيث سنوات العذاب التي خاضتها لتصل لهذه اللحظة ..
” أنا مشبتعتش، يا دادة أنا مشبعتش ”
كانت تتحدث وهي تدور داخل قاعة الطعام بصحنها الفارغ بعدما أنهت جميع اللقيمات به، تتوسل الجميع في المكان أن يتوقفوا ويحضروا لها الطعام، لكن لا أحد يهتم .
ابتلعت ريقها تشعر بطعم مر في حلقها، ربما هو طعم ذلك الحساء غريب اللون، أو كسرة الخبز المتحجرة التي كادت تحطم أسنانها.
اقتربت من إحدى النساء اللواتي كن ينظفن المكان بعد رحيل من به صوب مخاضعهم :
” يا دادة أنا مشبعتش، أنا لسه جعانة، عايزة أكل”
نظرت لها السيدة والتي كان وجهها مسودًا حزينًا مغتمًا، لا تدري تبارك لكنها شعرت في تلك اللحظة أن المرأة على وشك الانفجار في البكاء، لكنها بدلًا من ذلك انفجرت صارخة في وجهها :
” وهو أنا يعني خدامة ابوكِ، روحي شوفي غيري يحطلك أكل، مش فاهمة انا مفيش غيري اللي كله عمال يطلب مني طلبات ”
ختمت جملتها تحمل الوعاء الصدأ الذي تعصر به قطعة القماشة التي تمسحها بها الأرضيات ترحل من أمام تبارك التي سقطت دموعها بحزن شديد، تنظر حولها تضم الصحن لصدرها وقد سقطت دموعها بوجع :
” بس أنا لسه جعانة، أنا ما اخدتش اكل كتير زيهم ”
أفاقت تبارك من ذكرياتها تتنهد بصوت مرتفع وهي تحدق في السقف فوقها :
” ولا أخدت حنان ولا اهتمام زيهم، ويا عالم هيجي دوري أخدهم ولا لا . ”
_______________________
يسير بين طرقات القصر بعدما انتهى للتو من جلسة حكم على بعض السارقين في المملكة والتي قضت أن تُقطع أيديهم جزاءً على فعلتهم، كانت ملامح إيفان شرسة قوية لا تتهاون ولا ينحني لريح، لا ينحني سوى لخالقه .
كان كما يصفه البعض قوي، ومتجبر كذلك الأمر، تنهد بتعب يخطو لممر جناحه، لكن فجأة توقف بسبب سماعه لصوت أنثوي يغني في الممرات، ضيق بين حاجبيه متعجبًا من تلك التي تغني داخل قصره وفي هذا الوقت .
تتبع الصوت متعجبًا تلك اللهجة الغريبة عن أبناء مملكته، لا يتذكر أنه وافق على عمل مغترب عن مملكته داخل قصره .
انتهى به المطاف أمام نافذة كبيرة تقع في نهاية ممر داخل القصر، نظر من النافذة ليرى فتاة أو امرأة لا يعلم تقف داخل حديقة القصر وهي تتحرك حركات غريبة وتغني بصوت قوي وتصفق بيديها في الهواء، وتلك الانشودة التي تغنيها، هو يعلمها جيدًا، نفسها انشودة النصر التي قام بعض القدماء بتألفيها بلغتهم الأم..
انشودة كانت تصدح قديمًا داخل قرى الممالك وقت الحرب لتوديع الجنود، ارتفع حاجبي إيفان، لا يستطيع تبين ملامح تلك المرأة بسبب الظلام وذلك الوشاح الذي تخفي به ملامحها، كانت تتحرك بقوة حركات مليئة بالشموخ وحولها يتطاير ثوبها الفضفاض .
ورغم أنه لم يكن من مشجعي الغناء داخل جدران قصره وخاصة من النساء، إلا أن تلك الانشودة وذلك الصوت وتلك الحركات منعوه عن إطلاق صيحة يوقفها، ابتسم بسمة صغيرة يتجاهلها مكملًا طريقة لجناحه يردد بصوت خافت :
” لدينا محاربة أسفل سقف القصر، مثير للاهتمام ”
ويبدو أن الأمر لم يكن مثيرًا لاهتمام إيفان والذي تجاهله بسرعة وعاد لجناحه، بل كان مثيرًا كذلك لذلك الذي يقف في جزء من الحديقة، يتناول بعض الفاكهة يراقب تلك الفتاة بأعين فضولية …
وحينما انتهت الفتاة من الغناء والتصفيق توقفت تتنفس بعنف شديد، ليعلو صوت تصفيق حاد في المكان جعلها تستدير بسرعة كبيرة مرتعبة للخلف ترى جسد رجولي يتحرك صوبها يقول ببرود شديد وبسمة واسعة :
” يا امرأة اعدتي لي ذكريات الحرب قديمًا”
تناول قضمة مما يحمل وهو يشير لها :
” من اين تعلمتي هذا ؟؟”
ولولا الظلام حوله لابصر دانيار اشتعال عيون الفتاة التي أخرجت خنجرًا من ثوبها بسرعة مهولة تهجم عليه بغية ضرب ظهره في الجدار خلفه ومحاصرته لتهديده، لكن ما حدث أنها وبمجرد أن هجمت عليه، شعرت كما لو أنها اصطدمت في جبل راسخ، جعلها تطلق تأوهًا وهي تعود للخلف مصدومة ؟؟ كيف لم يتراجع تحت وطأة دفعتها وجسدها ؟؟
ودانيار انتبه لحركتها تلك ليقول بإدراك :
” مهلًا هل يجب عليّ العودة للخلف ؟!”
نظرت له الفتاة بجهل ودون شعور هزت رأسها، هذا ما كان من المفترض أن يحدث، عليه أن يعود صوب ذلك العمود الخرساني بسبب دفعتها ..
ابتلع دانيار ما يأكل واعطاها باقي الثمرة يقول بجدية :
” حسنًا امسكي هذا لأجلي”
وفعلت الفتاة ببساطة، وهو بمجرد أن أمسكت منه الثمرة، حتى ألقى بجسده في قوة كبيرة على العمود خلفه وكأن دفعتها هي ما فعلت يقول بنبرة خائفة مصطنعة :
” ارجوكِ الرحمة، ماذا فعلت لكِ أنا ؟؟ أنا كنت اشجعكِ أقسم”
اتسعت أعين الفتاة لا تفقه شيئًا مما يحدث، هل هو مجنون ؟؟
ابتسم لها دانيار يميل برأسه قليلًا، وهو يرى الانزعاج يظهر على حركات جسدها، نعم هذا هو أثره المعروف على جميع من يتعامل معهم، الأنزعاج ..
وفي غمرة شرودها اندفع دانيار بعيدًا عن العمود الخرساني بقوة شديد يخرج خنجر مسنن يدفع جسدها بقوة مخيفة صوب العمود خلفها يقول بهسيس مرعب، وكأنه ليس من كان يمزح معها منذ ثواني :
” من أنتِ يا هذه ؟؟ تلك اللهجة التي كنتِ ترددنيها ليست تابعة لمملكتنا، من ارسلك هنا ولأي هدف ؟! ”
نظرت الفتاة لعيونه دون رد، ولولا أنه استمع لغنائها منذ لحظات، لاعتقدها بكماء، أطالت النظر لعيونه الزرقاء والتي كانت تلتمع أسفل اضواء المصابيح في المكان، تبتلع ريقها بصعوبة بسبب ضغطه لجسدها على العمود خلفها .
وهو شرد في عيونها السوداء المميزة التي تظهر من خلف لثامها، بها نظرات تجبر وقوة، وكأنها تتحداه أن يفعل ما يريد .
في تلك اللحظة وقبل أن تقول كلمة واحدة سمع الإثنان صوت أحد الجنود يقول بصوت مرتفع :
” من هنا ؟؟”
نظر دانيار خلفه صوب الجندي، لتستغل الفتاة ذلك دافعة إياه للخلف تركض بسرعة كبيرة بعيدًا عنه، سرعة أكبر من أن يستوعبها دانيار الذي اتسعت عيونه يقول بسخرية :
” تلك اللصة سرقت فاكهتي ورحلت ..”
بينما اللصة ركضت بين الممرات بسرعة كبيرة، تنحرف في ممر ثم الآخر حتى توقفت أمام الغرفة التي تتشاركها مع رفيقتها، تحركت للداخل ببطء شديد تزيح اللثام عن وجهها لتظهر ملامحها واضحة، نظرت لنفسها في مرآة جانبية، تتنفس بصوت مرتفع، وقبل أن تتنهد براحة سمعت صوتًا خلفها يقول :
” زمرد أين كنتِ ؟؟”
استدارت زمرة بسرعة كبيرة تبصر وجه رفيقتها التي اقتربت منها تقول بجدية :
” بحثت عنك في المكان بأكمله، أين رحلتي ؟؟ ”
تنفست زمرد تقول بصوت خافت :
” اششش اخفضي صوتك كهرمان وحاولي ألا تتحدثي كثيرًا، يبدو أن الجميع هنا يستطيعون تمييز لهجتنا عن خاصتهم ”
هزت لها كهرمان رأسها تتذكر صباح اليوم حينما كانت تسير مع رئيسة العاملات وابصرت مواجهة بين الملك وأحد الجنود لتتحدث معبرة عن انبهارها بالملك لتنظر لها فتاة بتعجب، الآن أدركت أن نظراتها كانت لأجل لهجتها .
” حسنًا حسنًا، لا تقلقي سوف أنتبه، وأنتِ توقفي عن الخروج بهذا الشكل، ماذا إن انتبه لكِ أحدهم ”
صمتت زمرد ولم تتحدث بكلمة وقد أبت أن تخبرها أنها فعلت وقد أنتبه لها أحدهم، وذلك الاحدهم كاد ينحر رأسها…
______________________
بعد عدة أيام …
زفر بحنق يتحرك بين طرقات تلك البلدة الغريبة، لا يفهم ما يحدث حوله، اصوات ضوضاء هي كل ما يستطيع التمييز..
نظر حوله يحاول تبين الطرقات، ثم تحرك بعيونه صوب كرة العرش يرى الخارطة بها تشير باتجاهات فيتبعها ومعه مرشدي هذا الجانب من العالم، رجلين أحدهما طويل القامة، والآخر قصير القامة، يسيران جوار سالار الذي قال حانقًا وبصوتٍ أجش قوي :
” بالله ما هذه الفوضى التي يعيش بها هؤلاء البشر ؟؟ ما كل هذه السيارات التي تملء الطرق، إن كان الجميع لديه سيارات من إذن يسير على قدميه ؟؟”
وقبل أن يكمل كلماته سمع صوت صيحات خلفه وصوت رجل حانق يصرخ :
” أنت يا أعمى ياللي واقف في نص الطريق هسفلتك والله، ايه مش شايف الإشارة يا متخلف ؟؟”
استدار سالار بسرعة كالرصاصة صوب المتحدث وقد اشتعلت عيونه بقوة يردد بريبة شديد :
” هل سبني ذلك الرجل للتو أم أنني اسئت الفهم ؟؟”
أجابه أحد مرشديه، قصير القامة منهم والذي كان يُسمى صامد، يقول بنبرة خفيضة وهو يخشى غضب القائد سالار :
” حسنًا سيدي، حسب معرفتي بهذا الجانب من العالم، فنعم أعتقد أنه سبّك للتو ”
امتلئ صدر سالار بالغضب الشديد يتحرك صوب ذلك الرجل واقدامه تضرب الأرض أسفله بشكل مخيف، يرتدي بنطال قماشي عادي وسترة من نفس النوع، أكثر ثياب عادية يمتلكها كي يندمج بينهم حسب أوامر العريف، لكن يبدو أن كل محاولاته تلك بائت بالفشل، توقف أمام السيارة ينظر للسائق يقول من تحت أنفاسه هادرًا :
” هل سمعتك تسبني للتو ؟؟”
نظر السائق حوله بعدم فهم :
” أنت بتتكلم كده ليه يا جدع أنت ؟! ما تكلمني زي ما بكلمك ؟؟”
قاطعته سيدة من الخلف، إذ كان ذلك السائق مالك لسيارة أجرة، يقل في الخلف سيدة مع اولادها الصغار، فتدخلت السيدة تتحدث ببسمة :
” ده شكله اجنبي يا اسطا مش شايف ملامحه ؟؟ الأجانب بيتعلموا فصحى مش لهجات”
كان سالار يستمع لكل ذلك، لكنه لم يهتم وهو يشير للسائق بتحذير وصوت جامد هادئ لا يريد أن يخيف أحد خاصة وأن ملامحه كانت تفي بذلك الغرض دون حديث :
” تعلم أن تحفظ لسانك ولا تسب غيرك أو تتجاوز حدودك مع أحد، فأنت لا تعلم مع من قد تتورط”
أطلق السائق صوتًا حانقًا من حنجرته، وهو يوقف محرك السيارة يهبط منها كي يقف أمام سالار والذي كان يفوقه طولًا بالكثير، لكن الرجل لم يهتم وهو ينظر في عيون سالار بتحدي :
” أنت بتقول ايه يا عسل ؟؟ هو أنت يعني عشان سايح هنخاف منك ؟؟”
أخرج الاطفال رؤوسهم من السيارة بحماس شديد وقد بدأ الطفل يقول بلهفة :
” ده ضخم زي ثور اللي الفيلم ”
استدار سالار صوب الصغير يرمقه بشر وقد استاء أن الصبي يشبهه بالثور، ولم يكد يتحدث كلمة واحدة وجد صوت بعض السيارات يعلو بسبب تعطيل الطريق .
زفر السائق يلوح بيديه في الهواء :
” طيب خلصنا، وأنت يا عم دي مش امريكا عشان تتمختر فيها بالشكل ده، أنت هنا في مصر ”
مال سالار برأسه وكأنه يفكر في كلماته :
” امريكا ؟؟ ما هذا الاسم ؟! هل هذه دولة مستحدثة ؟؟ ”
كان يتحدث بجهل، يفكر في ذلك الاسم الذي قاله الرجل، ففي جميع الكتب التي جمعها أسلافه لم يسبق وذُكرت دولة تسمى امريكا كما يقول ذلك الرجل، ويبدو أن الرجل التقط حيرته تلك فاشفق عليه ليقول :
” شكلك كده طينة ومش فاهم حاجة، بس يا خواجة أنت اقف على جنب شوف أي ظابط مرور واسئله عن المكان اللي حابب تروحه وهو هيساعدك، ربنا معاك ”
ختم حديثه يربت على ذراع سالار الذي نظر ليده نظرات جامدة، ثم نظر للرجل بهدوء وملامح منقبضة وقد رأى في عيونه نظرات طيبة وهدوء، لذلك لم يجادله كثيرًا وتحرك بعيدًا مع صامد وصمود …
فسالار كان من ذلك النوع، وحشًا في المعارك، مرعبًا في الحياة، لين القلب مع من يحب، ومن يرى منه لينًا.
يبحثون في تلك البلاد عن الملكة، يسألون البعض احيانًا ويستقلون السيارات أحيان أخرى وقد بدأ سالار يفقد هدوءه المستحدث ويشعر بالغضب الشديد يملئ صدره ..
مسح وجهه يتحرك صوب أحد المقاعد يستقر عليها وهو يدور بنظراته في المكان حوله تنقبض ملامحه لسماع موسيقى صاخبة احيانًا، وأخرى هادئة بكلمات سيئة بحق البعض تصف مفاتن الحبيبة كما يصفها المغني، والأخرى تتغزل في طريقتها، وكل هذا جعله يغمض عيونه مستغفرًا وقد انتفض جسده يتحرك بعيدًا عن تلك النقطة دون أن يبرر لصامد وصمود شيء …
واخذ يسير بها يبحث عن ركنٍ لا يصل له الشيطان بمعازفه، ولا تلحقه تلك الكلمات الفاسدة، ولا يدري من أطلق عليهم عالم المفسدين لكنه كان محقًا، بالله ما رأى يومًا مفسدين بقدرهم، ليس هنا في هذه البلاد فقط، على الأقل هنا يسيرون بثياب، لا ينسى تلك البلاد التي رأى الرزائل تُمارس على مرأى ومسمع من الجميع، بل ويتأملها البعض باستحسان ويصفونها عبثًا بالرومانسية .
مشاهد مقززة وحياة فاسدة، على الأقل هنا، يرى البعض بثياب ساترة والبعض الآخر يسير بمسبحة، مشاهد قد تعطيك بعض الأمل بجيلٍ صالح، ربما تفعل …..
فجأة توقفت اقدام سالار حينما تناهى لمسامعه صوتًا جعل قلبه يرتجف، ابتسم يسير خلف ذلك الصوت، وفي لحظة أصبح يهرول، يهرول خلف اصوات القرآن، وكأنه وجد نورًا في نهاية نفق مظلم، هناك صوت للحق يعلو وسط هدير الباطل .
توقفت أقدامه أمام محل صغير ملئ بالعديد من الأجهزة الغريبة له، لكنه لم يهتم يطأ ذلك المكان يتنفس براحة، بالله لم يصدق أن أمرًا كسماع القرآن والذي كان شيئًا معتادًا له، قد يمثل حاجة ملحة الآن.
” السلام عليكم يا عم ”
استدار رجل كبير في العمر قد بلغت التجاعيد جسده، لكن على الرغم من ذلك كان مبتسمًا بشوشًا يسر القلب ..
” عليكم السلام يا بني، اتفضل ”
ابتسم له سالار بسمة صادقة حنونة يتحرك صوبه يقول بهدوء :
” لقد سمعت صوت القرآن يصدر من محلك أثناء تحركي في الخارج واردت المجئ لارى من أين يأتي”
نظر له الرجل بعدم فهم لثواني لتطرأ في رأسه فكرة أنه لربما كان سائحًا بسبب هيئته ولهجته الغير معتادة بين أبناء شعبه :
” أنت فاهمني ؟!”
” نعم افهمك لا تقلق، افهم الكثير من حديثكم ”
ابتسم له الرجل يجذبه صوب أحد المقاعد وقد سعد قلبه لأجل حديث ذلك الرجل ذو الوجه المنير :
” ده المنشاوي، تعرفه ؟! هو قارئ مصري قديم، بس صوته وترتيله جميل اوي، أنت… أنت مسلم ؟؟”
ابتسم له سالار يشير برأسه صوب صامد وصمود أن يجلسا بعدما كانا ينتظران أوامره، ثم نظر للرجل يقول بصوت هادئ مريح للنفس :
” الحمدلله الذي هدانا يا عم، أنا مسلم ابًا عن جد ”
شعر الرجل بسعادة كبيرة يطلق من فمه دون شعور ( ماشاء الله ). ..
ربت سالار على كفه، ثم تساءل بفضول شديد :
” أخبرني يا عم، ما الذي يحدث هنا، فمن بين كل تلك المنكرات ما سمعت سوى صوتًا واحدًا للحق، ما بال الجميع في الخارج لا اسمع منهم ذِكرًا ”
ابتسم له العجوز يتحرك من المقعد صوب أحد الأجهزة في ركن محله يقول بهدوء شديد :
” تقدر تقول يا بني أن الباطل مغرياته أكثر من الحق، والسييء متزين اكتر من الجيد، هتلاقي كده وكده، هتلاقي برة اللي ماشي يتمتم مع الاغاني، واللي ماشي يردد اذكاره، اللي رايح لعمل خير واللي ماشي ناوي شر، مفيش زمن فيه شر خالص، الفكرة إن الباطل بجح وبيعلن عن نفسه، وصاحب الحق حييّ صامت ”
ابتسم سالار لحديث ذلك الرجل الذي أراح صدره وقد أعطاه املًا أن ملكتهم قد تكون من هؤلاء الذين نفروا الباطل، واتبعوا الحق .
فجأة تقدم منه الرجل ومد يده له بمشروب وقال ببسمة وهو يشير لصامد وصمود :
” خد اشرب يا بني، واقعد زي ما تحب هنا المكان مكانك ”
ابتسم له سالار يتقبل منه ذلك الكوب وقد تقدم صامد وصمود بلهفة لتجربة ذلك المشروب وجلسا جوار سالار الذي ارتشف منه بتلذذ يسمي الله :
” أخبرني يا عم، ما هذه الآلات الغريبة التي تقوم ببيعها ؟؟”
نظر الرجل حوله ثم قال ببسمة :
” دي انتيكات يا ابني، حاجات قديمة يعني، راديو وأجهزة تليفون قرص وكتب قديمة وغيرهم ”
ختم حديثه يتحرك صوب أحد الارفف يحضر شيئًا ما ثم عاد له يمد يده بساعة تبدو قديمة الطراز :
” خد دي تذكار من المحل عشان تبقى ترجع تاني ”
رفع سالار نظره للرجل الذي كان مبتسمًا، ليشعر بألفة غريبة جعلته يقول ببسمة :
” لا اعتقد أنني قد اعود يومًا يا عم ”
” متقولش كده، اللي جه مصر في يوم، مسيره يرجع ليها يا بني، هيجي اليوم وتحن وترجع ليها ”
هز سالار رأسه بتقبل منه تلك الساعة التي كانت غريبة عليه، لكنه لم يقل الكثير يدسها داخل طيب بنطاله :
” ربما …طالما أن تلك البلاد تمتلك من هم مثلك فربما اعود يا عم، ربما يومًا ما ”
ختم حديثه يدس يده في جيبه الآخر يخرج سرة من العملات الذهبية و وضعها على المكتب دون أن ينتبه له الرجل الذي كان يعطيه ظهره وهو يتحدث بخفوت :
” البلد دي يابني والله فيها ناس كتير طيبة وعلى نياتهم، ومن كلمة يبتسموا وكلمة تانية يزعلوا، شعب طيب والله ”
ربت سالار على كتفه :
” نعم يا حاج أنتم كذلك، والان استأذنك عليّ الرحيل للبحث عن ضالتي ”
” باذن الله تلاقي اللي بتدور عليه ”
غادر سالار ومن معه تاركًا الرجل يبتسم، لهم ثم عاد ليحمل اكواب الشاي الفارغة، لكن فجأة توقفت أنظاره حينما أبصر كيس قماشي غريب جعله يحدق فيه بريبة، امسك الكيس بعدم فهم ليشعر باهتزاز شيء فيه، فتحه بفضول ليبصر العديد من العملات الذهبية التي جعلت عيونه تتسع وينظر للباب بصدمة كبيرة فاغر الفاه …
______________________
وسالار ابتسم ييير في المكان براحة شديدة وقد ذهب عنه الضيق، وكأن سماعه لآيات القرآن أعطاه طاقة أمل كبيرة .
وهكذا قضى نهار آخر يدور وسط البلاد قبل أن يأخذه صامد وصمود صوب أحد الأماكن التي تسمى فنادق وبات ليلته هناك وهو يهمس لنفسه بتعب :
” أين سأجد تلك الملكة، اشتقت لحياتي وجيشي ”
________________
وعلى الجانب الآخر..
كانت تبارك تقف في نافذة أحد الممرات في المشفى، إذ كانت تلك الليلة قد حصلت على ساعات عمل إضافية في المساء اضطرتها للمبيت داخل جدران المشفى، ابتلعت ريقها وهي تتذكر أنه من بعد ذلك اليوم الذي تحدثت فيه لعلي لم تره، اختفى وقيل أنه سافر لاقاربه..
حاولت أن تتناسى كل ذلك وتشرد بالسماء علها تهدأ بعض الشيء، لكن فجأة سمعت صوتًا خلفها ينادي باسمها :
” تبارك يلا عشان فيه عمليات والدكتور طالبك معاه”
تحركت من مكانها تتنفس بصوت مرهق وهي تهمس :
” يارب يا معين، الفرج من عندك يا رب ”
_________________
صباح اليوم التالي وبعد سير طويل، ارتكن الثلاثة صوب أحد المقاعد التي تقبع في الطريق، صامد وصمود يرتاحان، بينما سالار يفحص الكرة وهو يهمس بصوت هادئ لا حياة فيه فلا تدري أساخطًا كان أم غاضبًا :
” أقسم أن خوض حرب لأيام طوال مع المنبوذين أكثر سهولة مما أفعل الآن، أين سأجد الملكة في هذه البلاد الضخمة؟! اشعر أنني ابحث عن إبرة في كومة قش”
فجأة وأثناء حديثه ذلك سمع صوت صمود يقول مقترحًا بصوت منخفض لصامد :
” لِمَ لا نعود للمملكة ونخبرهم أننا عجزنا عن إيجاد الملكة ؟!”
أجابه صامد بحنق :
” وهل تعتقد أن القائد سيعترف بالهزيمة في مهمة وكّلت له ؟؟ أنت تحلم ”
نظر صمود لصامد يميل عليه أكثر فقد كان يفوقه طولًا بشكل مبالغ به :
” إذن نعود وحدنا ونخبرهم أننا فقدنا أثره هنا، أو ربما نخدره ونسحبه بالقوة صوب المملكة ”
ابتسم صامد بسمة خبيثة وقد أعجبته تلك الأفكار، فهو مل حقًا كل ذلك، نظر حوله يهمس له بالمقابل :
” ونصبح نحن قائدي الجيوش بعدما يعزله الملك أو يعدمه لمخالفته الأوامر ”
اشتعلت أعين صمود بالحماس الشديد، وقد بدأ يبادل رفيقه البسمة الماكرة، لكن فجأة انتفض الاثنان على صوت سالار الذي قال ببسمة وهو ما يزال يحدق أمامه ببرود شديد :
” أو افضل، يمكنني قتلكما وإحضار الملكة والعودة للمملكة، وحينها لن احتاج لتقديم حجج مثلكم، فلن يتساءل أحد عنكما على أية حال ”
نظر له الأثنان بصدمة كبيرة وقد على سؤال ملامحهما والتقطه سالار بوضوح يجيب بسخرية :
” اصواتكما كانت عالية ”
ابتلع صامد ريقه يسارع بالقول :
” نحن لا نقصد ما فهمته يا قائد، نحن بالطبع لن نتخلى عنك أو عن ملكتنا، صحيح صمود ؟؟”
وضع صمود يده جهة قلبه يظهر له الاحترام والطاعة :
” نفديك بأرواحنا قائد سالار ”
نهض سالار عن مقعده يقول بملامح لا تخبرك ما يخفي خلفها :
” ارواحكما تلك سأستخرجها بيدي العارية حينما ننتهي من كل ذلك، الحقوا بي ”
تحرك وهم نظروا لاثره بريبة، ونظر الاثنان لبعضهما البعض، وقد قررا خفية أنهم لن يسمحوا لتلك المهمة بالانتهاء إن كانت حياتهما ستنتهي بنهايتها، أو هكذا رسم لهما عقلهما الصغير ..
بعد ساعات أخرى من التحرك هنا وهناك، خلف الكرة توقف الثلاثة واخيرًا أمام مبنى من ثلاثة أدوار في مكان مزدحم وفوق ذلك المبنى لافتة مهترئة الاحرف ( مستشفى الأمل والحياة ) .
أخفض سالار رأسه صوب الكرة لا يصدق أنه وجدها، أسبوعين يتنقل بين البلاد يصعد لالات غريبة غير مريحة تتحرك به، ومن ثم يسير طويلًا بين الطرقات، دون أن تغفل عيونه لحظات أو ينام .
واخيرًا أصدرت القلادة لونها المميز الذي يخبره أنه، وصل حيث تقبع الملكة، وقبل منتصف الشهر بيومٍ واحد
ابتسم سالار بانتصار وهو يرفع رأسه صوب المشفى قائلًا بصوتٍ مخيف :
” ها نحن ذا يا احمقان، استعدا لحصد ارواحكما….”

بداية الحرب شرارة …وبداية الحب نظرة .
وحبها كان حربًا لا خيار فيها سوى الانتصار .
يتبع….
خطى المشفى بخطواته القوية المعتادة منه، يسير بأعين جامدة وملامح لا روح بها تقريبًا، يتجاهل الجميع حوله، وخلفه يسير صامد ومعه صمود يتبلعان ريقهما برعب، يدعوان من اعماق قلبيهما أن تخيب مهمة سالار إن كانت رقابهما هي النتيجة لنجاحها .
وسالار يسير أمامهما لا يشعر بشيء حوله فقط يحدق بالكرة بين أصابعه يسير خلفها، يشعر بقرب اقترابه، ليس لأن الكرة تشير لذلك، بل لأن شيئًا داخل صدره يخبره بهذا، لطالما كان لديه هذا الحدس القوي في معاركه، يدرك الانتصار قبل حدوثه، يتوقع الهزيمة قبل وقوعها، في حالة إن هُزم من الأساس….
تحدث صامد وهو يحاول مجاراة خطوات سالار :
” إذن يا قائد هل ماتزال خطة حصاد أرواحنا قائمة ؟؟ ماذا إن غفرت لنا ذلتنا ؟؟”
رفع سالار عيونه ببطء عن الكرة يمنحه بسمة زادت رعبه وصوته خرج يقول ببساطة :
” ومتى غفرت لأحدهم صامد ؟؟”
” أنت رجلُ عدلٍ سيدي ”
صحح له سالار بهدوء :
” بل رجل حرب يا عزيزي ”
ختم كلماته يتحرك تاركًا إياه يرثي نفسه هو وصمود، بينما سالار ابتسم بسخرية عليهم، تعجبه تلك اللعبة، هذان الغبيان يعتقد أنه قد يخسر دنياه وآخرته لأجلهما، ويحمل وزر قتل نفس بريئة بغير ذنب لأجل التخلص من غبائهما ؟
كان يسمع اصواتًا عديدة في المكان بأكمله، يرى وجوه كثيرة لكن من بين كل تلك الأصوات لم ينتبه سوى لصوتٍ واحد، ومن بين كل الوجوه لم يرى سوى وجهها هي .
فتاة بملامح هادئة تبعث في القلب راحة، ملامح رقيقة، تسير بين ممرات المكان تحمل بين يديها بعض الأوراق ويبدو على وجهها الانشغال، لا تنتبه لأحد أو تهتم لأحد.
وعند تبارك كانت ترغو وتزبد وهي تشعر بشعور سييء داخل صدرها، تود الانعزال عن الجميع، فقط لترثي نفسها، لكن وجوده في الجوار لم يساعد على ذلك .
توقفت تلمح نظرات عليّ لها، إذ أطال النظر في وجهها ثواني قبل أن يتجاهلها ببساطة ويرحل وكأنه لم يرها.
يشعر بوجع كبير داخل صدره وقهر لا حصر له، كان يود المجئ والاعتذار لها، يخبرها أنه لا يهتم حقًا بما قالت، لكن كل ذلك كان قبل أن تعلم والدته بنيته في خطبة فتاة ” مجهولة النسب والهوية ” كما قالت ..
أُعجب بها عليّ وبصدق ولم يكن ليمنح أمر حقيقتها أي أهمية، فماذا يعني أنها ولدت بملجأ، الأمر ليس عجيبًا أليس كذلك ؟؟ لكن والدته كانت تحمل رأيًا منافيًا لكل هذا الهراء _ من وجهة نظرها _ ليس بعد هذا العمر يتزوج ابنها الذي عانت لأجله كي يصبح طبيبًا، من ممرضة لا أصل لها ولا عائلة معروفة، والله وحده يعلم ما تخفي خلف ماضيها الضبابي .
تنهد علي بتعب شديد، هو ما كان ليستمع لوالدته أو يرضخ لشيء لا يريده، لكن هي …هددته بنبذه والغضب عليه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهذه والدته، وضعف أمامها وأمام رجائها .
راقبت تبارك رحيله بملامح عادية هادئة، الأمر ليس محزنًا لها بقدر ما هو مؤلم لنفسها، مسحت دمعة صغيرة هبطت على وجنتيها تركض بسرعة لممر جانبي دون أن يراها أحد.
لكن سالار والذي كان يراقب كل ذلك بملامح جامدة وعيون ضيقة، تحرك خلفها دون أن يشعر متجاهلًا صوت صامد له :
” مهلًا سيدي أين تذهب، علينا إيجاد الملكة ”
جذبه صمود يكمم فمه بقوة :
” اششش اصمت يا أبله، هل تشتاق لنهايتك بهذه السرعة ؟؟ دعه ينسى ما جاء لأجله ”
نظر له صامد بعدم فهم، لكن صمود استمر ينظر لسالار الذي سار خلف تلك الفتاة بشكل مريب، فلأول مرة ينجذب قائد الجيوش والمتجبر المعروف بين الجميع لامرأة، لكن لا يهم إن كانت تلك المرأة ستؤخر عثوره على الملكة وموتهما فلا يهم …
و سالار لم يتوقف يسير بأقدام سريعة خلف تبارك التي دخلت لممر صغير تحشر جسدها في زاوية الممر تنفجر في بكاء عنيف، وهو يقف عند بداية الممر يراقبها بأعين مفكرة .
وهي تبكي ما حدث لها، فما لا يعلمه عليّ أن والدته العزيزة جاءتها قبل اسبوع وبعد عرضه الزواج بيومين تخبرها أن تبتعد عن ولدها، وتتوقف عن رمي حبالها عليه، فلا ينقصها أن ينشأ احفادها من امرأة لا نسب لها، ولا تعلم إن كانت قد جاءت للعالم بشكل شرعي أو لا..
تحمد ربها أن السيدة كانت من الرقي والمراعاة التي جعلتها تواجهها بتلك الكلمات السامة وحدهما .
هي لا تهتم لعلي ولا غيره، فهي ليست عاشقة له لتبكي فقدانه، هي تبكي حياتها وكأنها اليوم أُنبأت بحقيقة أن لا عائلة لها .
كان سالار يتابع كل ذلك يفرك لحيته لا يعلم سبب وقوفه هنا او تحديقه بها، ولا يدري أي شيء سوى أنه يرغب الآن في التحرك وصفعها، ثم يسحبها من ثيابها يهزها بقوة، ويصرخ في وجهها بصوت جهوري وقوة أن تنهض وتواجه أحزانها دون بكاء أن تكون رجلًا قويًا و لا تبكي كالنساء ….
مهلًا، هي امرأة بالفعل، أفق سالار هذه ليست أحد جنودك لتعنفها بهذا الشكل، ولا هي تهمك من الأساس، لذا ابتعد واذهب ابحث عن ملكتك وعد لبلادك وقرّع جنودك كما تشاء بعيدًا عن هذه الباكية التي لا تجد طريقة لمواجهة صعابها سوى بالبكاء.
عند تلك النقطة تجاهلها سالار يخرج من الممر بأكمله، لا ينتبه للكرة التي تنير بقوة، يعود حيث صامد وصمود لإيجاد ملـ
توقف في الممر يدور بانظاره في المكان بحثًا عن هذين الغبيين، لكن لا شيء، تبخرا دون أثر..
تحسس سالار خنجره الذي يخفيه، يضيق عيونه في نظرات مرعبة هامسًا بفحيح :
” سأتخلص منهما ، سأعود بالملكة ورأسيهما ”
ختم حديثه يتحرك في المكان بحثًا عنهما، بدلًا من أن يبحث عن الملكة، وهكذا أضاع صامد وصمود المزيد من الوقت ..
وعند تبارك وحينما توقفت وفرغت من البكاء تتحرك صوب المرحاض تغسل وجهها، تخفي أي آثار حزن، ومن ثم ابتسمت بسمة صغيرة تتنقل في الممرات حتى تعود لمرضاها الاعزاء، لكن فجأة توقفت على نداء صديقة لها والتي كانت تعمل في الاستقبال .
تحركت لها تبارك بتعجب وهي ترى شحوب وجهها :
” مالك يا زينة؟؟ وشك مصفر كده ليه ؟؟”
” بالله عليكِ يا تبارك لتيجي مكاني شوية، كلموني في البيت قالولي إن ابويا وقع من طوله وودوه على المستشفى اللي في شارعنا، وانا هموت من الخوف ومحدش بيرد ”
أكملت بدموع متوسلة :
” شوية بس اقفي مكاني وأنا والله هطمن وارجع، أنا عارفة أنها استراحتك بس …”
قاطعتها تبارك تلتف حول مكتب الاستقبال كي تأخذ مكانها :
” لا أنتِ روحي اطمني على والدك يا حبيبتي ولو عايزة خليكِ معاه، أنا هقول لحد يشييل باقي شغلي، كده كده مبقاش فيه شغل كتير ”
ابتسمت لها زينة بامتنان تعانقها بقوة وهي تهمس لها بحب :
” شكرا يا تبارك والله كنت عارفة أنك الوحيدة اللي مش هترفضي، ربنا يسعدك يارب ويرزقك باللي يسعدك ويريح بالك يارب ويستاهل طيبة قلبك وحنانك ده ”
شعرت تبارك بالسعادة عند سماعها لتلك الدعوات، دعوات كانت تتردد على مسامعها لسنوات طويلة خلال عملها مع الاطفال والعجائز وغيرهم، دعوات تنتظر أن يرزقها الله بتحقيقهم، هل يعقل أن يأتي ذلك اليوم ويأتي معه من يسعدها ويريحها بالفعل ؟؟
______________________
يسير بين ممرات القصر تحت نظرات البعض المعجبة بقوة القائد، والبعض كانت مرتابة خائفة، وتلك النظرات الخائفة لم تكن منحصرة فقط على تميم، والذي كان يمثل أحد أضلاع مثلث الرعب _ كما يصفه الجميع_ والذي يترأسه سالار، ويشاركهم به دانيار، فكما يقال سالار القوة والشراسة، ودانيار المهارة والدقة، بينما تميم الخبرة والمعرفة .
ابتسم تميم يلتقي في طريقه بدانيار والذي كانت خصلاته مبتلة، يخرج من جناحه يتحرك صوب غرفة الاجتماعات حيث طلب الملك جمعهم، ليمازحه بصوت منخفض كي لا يسمعه الجميع حوله :
” أوه انظروا لهذا الوسيم الذي يسير بين طرقات القصر بخصلات مبتلة بغرض بث الفتن بين قلوب العذارى ”
توقف تميم عن الحديث ببسمة جادة، ثم اقترب يهمس في أذن دانيار بجدية كبيرة :
” انتبه لنفسك يا فتى، فأنت لا تريد أن يتم اعدامك للتسبب في جذب نساء المملكة للخطيئة ”
حدق به دانيار ثواني قبل أن يبتسم له غامزًا :
” إذن ما رأيك أن يتم اعدامي للتسبب في قتل صانع الأسلحة هنا ؟؟”
نظر له تميم بجدية :
” لا، لا يعجبني الأمر ”
أطلق دانيار ضحكات خافتة يسير بين الممرات، حتى وصل مع تميم لباب قاعة الاجتماعات التي يعقد بها الملك اجتماعاته مع مستشاريه ورجال المملكة والجيش ..
فتح الحراس الباب لهما، ليدخلا في اللحظة التي كانت أوجه الجميع شاحبة، فرك تميم رقبته هامسًا :
” يبدو أن الملك ألقى قنبلته قبل وصولنا ”
نظر دانيار بدقة صوب الأوجه يحاول استشفاف ما يحدث :
” نعم ويبدو أن قنابل الملك مفعولها قوي، على عكس خاصتك ”
ختم حديثه يتحرك صوب مقعده لتنعقد ملامح تميم بقوة :
” هذا كان في غاية القسوة لو تعلم ”
تحرك هو الآخر صوب المقعد يستقر عليه بكل قوة وجدية، يلغي الجزء الهادئ والممازح جانبًا يستمع للأحاديث التي لا يفهم منها شيئًا، فقط خرج صوت العريف الذي كان يتحسس ريش بومته العزيزة :
” ما حدث يا مولاي لا يمكن أن يكون سببه المنبوذين فقط، فهؤلاء بعض المرتزقة لا يمتلكون ما يؤهلهم للهجوم على مملكة بحجم مملكة مشكى، بل ويتسببون في قتل جميع أفراد الأسرة الحاكمة واحتلال المملكة، أمر شبه مستحيل خاصة أننا جميعًا ندرك أن الملك ارسلان لم يكن بالملك الضعيف ”
نظر له إيفان بجدية كبيرة، فهذا هو بالتحديد ما يفكر به منذ وصله خبر سقوط مملكة مشكى بأيدي المنبوذين، تلك كارثة بجميع المقاييس، أن تسقط مملكة بحجم مشكى يعني أن المنبوذين سيزدادون تجبرًا وقد يوصلهم بطشهم للاقتراب من باقي الممالك الأربعة ومنهم مملكته .
اسودت عيونه بشراسة وهو يفكر في اليد التي قد تكون ساعدت هؤلاء الملاعين الكفار للهجوم على مملكة بحجم مشكى.
المنبوذون والذين كانوا ممن استولى الشيطان على أرواحهم ونبذتهم جميع الممالك، أو هربوا من عقوبات حاسمة، ليكونوا فيما بعض جماعات لا غرض لها في الحياة سوى تأسيس دولة لهم ومزاحمة باقي الممالك والتحكم بهم، وهم مجرد مرتزقة لا اصل لهم ولا هوية ..
تنهد دانيار وقد وعى ما يحدث، يعود بظهره للخلف يفكر في الأمر، بالطبع هو وصل له أمر سقوط مشكى، وقتل الأسرة الحاكمة، وهذا الأمر يعني حرب وشيكة ..
” مولاي اقترح أن نرسل جنود لتأمين حدودنا مع مشكى، فقط للتأكد أنهم لن يتجرأوا على التفكير بالدخول للبلاد”
نظر له إيفان ثواني، ثم هز رأسه باستحسان لهذه الفكرة :
” نعم هذا ما سيحدث دانيار، أبلغ الجنود بإرسال كتيبة كاملة وترابط على حدودنا مع مشكى حتى نعلم ما يجب فعله ”
صمت ثم نظر لهم يقول بجدية :
” ولا اريد لا أحد خارج هذا المكان أن يعلم بأن سالار خارج البلاد، فربما يشجعهم غياب قائد الجيوش على التجرأ علينا”
نظر مجددًا لدانيار :
” دانيار أنت المسؤول عن الجيش الآن، افعل ما تراه صحيحًا، وإذا رأيت أي شرذمة منهم تخلص منه دون تفكير”
أدار رأسه صوب تميم :
” وأنت تميم، أذهب لمصانع الأسلحة وتفقد الأمر اريد زيادة الإنتاج وتزويد الجيش بأكمله بالمزيد من الأسلحة، وتلك القنبلة التي كنت تعمل عليها، ماذا حدث لها ؟!”
وضع دانيار قبضته أعلى فمه يكبت ضحكته، ثم نظر بطرف عيونه صوب تميم الذي تململ في جلسته بهدوء يضم يديه على الطاولة أمامه بكل هدوء وجدية :
” ما تزال في مرحلة التجربة مولاي، قريبًا ستصلك اخبار تسرك ”
هز إيفان رأسه يقول بجدية ينظر للجميع :
” حسنًا، هذا حتى الآن، لنرى أين ستصل بنا هذه الأمور ”
بدأ الجميع يندفع صوب الخارج ومن ضمنهم تميم الذي سار بين ممرات المكان بملامح واجمة غاضبة وخلفه دانيار الذي نظر له ببسمة مستفزة، ثم سار بمحاذاته يقول بجدية :
” على رسلك يا رجل، لا تغضب بهذا الشكل، قريبًا ستنجح في تلك القنبلة ”
نظر له تميم بغضب وحنق شديد :
” هناك عنصر مفقود، شيء ينقص تجربتي للنجاح، لا ادري ما هو ”
زفر بغضب شديد، وأثناء ذلك انتبه لحركات إحدى العاملات في القصر اللي مرت تحمل بين أصابعها إناء من الخوص به العديد من الازهار، تسير في الممر وتحرك رأسها صعودًا وهبوطًا عليه كأنها تقيمه، ثم نفضت رأسها بازدراء وحقد ظهر واضحًا في حركات جسدها، بينما جميع ملامحها مختبئة خلف غطاء الوجه الذي تضعه جميع العاملات في القصر .
تشنج وجه تميم و لم يتعرف على الفتاة والتي كانت هي نفسها من كاد يفجر جسدها، ولكن لاخفاء جميع ملامحها، ولتأثير الدخان على الظاهر منها، لم يتعرف عليها .
ظلت الفتاة ترمقه بحنق ليتوقف في سيره يقول بحنق :
” ما بالها تلك الحمقاء وكأنني قتلت لها عزيزًا، أو هدمت معبدها فوق رأسها ”
نظر دانيار خلفه ليرى الفتاة قد استدارت بالفعل واكملت طريقها، ابتسم بسمة جانبية :
” يبدو أنك مكروه من النساء هنا، ربما تكون إحدى ضحاياك من الانفجارات المتتالية تميم ”
” لا أنا لم ا…”
توقف عن الحديث فجأة يفتح عيونه بانتباه :
” ربما تكون هي نفسها من ألقيت عليها القنبلة ؟!”
هز دانيار كتفه بعدم معرفة، ولم يكد يتحدث حتى تركه تميم وركض بسرعة صوب الممر الذي انحرفت له الفتاة تاركًا دانيار يراقب أثره، قبل أن يسير صوب مقر الجيوش ليبلغهم القرارات الجديدة ..
وتميم يركض خلف الفتاة يبحث عنها على أمل أن يعلم منها أي معلومة فينا يخص انفجاره الاخير، هل شعرت بوجع أو غيره، لربما يساعده ذلك في القادم، وأيضًا ليعتذر منها .
لكن بمجرد أن خطى الممر اندهش لرؤيته فارغًا، نظر حوله بتعجب شديد :
” ماذا، هل تلاشت الفتاة ؟؟ ”
وقبل أن يستدير لينظر حوله شعر بشيء عنيف يهبط فوق رأسه والعديد من الفواكه تتناثر حوله، وهو فقط لم يبدي أي ردة فعله، فقط اتسعت عيونه بصدمة وقد تحركت يده بسرعة صوب سيفه المستقر في ثيابه، لكن لم يكد يحركه من غمده حتى أبصر نفس الجسد الأنثوي يركض بسرعة في الممر وهو يراقبها بملامح مصدومة متسع الأعين، هل ضربته للتو بسلة الفواكه ؟
وقبل أن تختفي الفتاة من الممر استدارت له للمرة الأخيرة أثناء ركضها تنظر له بأعين مرتعبة، لكن وعن غير قصد ارتفع غطاء وجهها وظهرت ملامحها له، ومن ثم …اختفت .
____________________
كان الاثنان يحدقان بظهر سالار المشتد كالوتد برعب شديد، فبعدما ركضا بعيدًا عنه، بغية تعطيل العثور على الملكة لوقت اضافي، لأنهما في اعتقادهم أن سالار سينتهي منهما بالفعل بمجرد إيجادها، فمنذ متى لا ينفذ سالار كلمته، أو يفي بوعوده ؟!
هكذا كان تفكير الإخوة صامد وصمود، إثنان من أكثر الأشخاص بلاهة في هذا العالم والعوالم أجمع، الجميع يدرك حمقهما، لكنها رغم ذلك أكثر من يفقه في المملكة بأمور هذا الجانب من العالم .
كان سالار يسير بين الممرات بوجه صخري لا يوجد به شيء يدل أنه إنسان حي يشعر كالجميع، فقط ملامح جامد هادئة بشكل مثير للاستفزاز، وبين يديه تقبع الكرة يسير خلفها دون كلمة واحدة يوجهها لهما، هو فقط اكتفى بنظرات مرعبة ومن بعدها وصلت رسالته واضحة لهما .
فجأة توقف حينما رأى إضاءة الكرة تتضاعف أكثر وأكثر، تشير الخارطة أمامه، رفع عيونه ببطء ليجد طاولة طولية الشكل تقف عليها امرأة تخفض نصف جسدها للاسفل وكأنها تبحث عن شيء .
نظر لها سالار أكثر يقترب وعيونه تتحرك بينها وبين الكرة يتأكد أنها هي، ونور الكرة القوي أوضح جيدًا أنه …نجح، نجح ووجد الملكة بعد رحلة اسبوعين كالجحيم على قلبه .
ابتلع ريقه يطيل النظر بها لا يرى وجهها، لكنه فقط تمنى في أعماق أعماقه أن تكون سيدة قوية شجاعة وحكيمة تستطيع أن تشارك ملكهم الحكم بيد من نار و….
فجأة توقفت افكاره حينما أبصر وجهها، لتتسع أعينه، هي نفسها الفتاة التي كانت تبكي على الدرج منذ دقائق، نظر لها سالار ثواني بتهكم وملامح رافضة يحرك الكرة بين يديه غاضبًا :
” لابد أنكِ تمزحين معي، أي ملكة تلك ؟؟ هل ستحكم مملكتنا ملكة باكية ضعيفة ؟؟ ”
كان يحرك الكرة بشكل جنوني وهو يشعر أن هناك خطأ، استدار بسرعة يعطي ظهره للمكان الذي تقف به تبارك علها اخطأت الاتجاهات، لكن القلادة عادت وأشارت للخلف حيث تقف هي .
تأوه سالار يرفض الأمر :
” بالله عليكِ ما الذي تفعلينه، هل تعيين ما تشيرين إليه، لقد كانت تبكي منذ قليل كالطفلة الصغيرة، كيف ستحكم مملكة بحجم مملكتنا أيتها الكرة الغبية ”
كان يصرخ في وجه الكرة وكأنها تفهم ما يريد وستخشاه كالجميع وتغير فورًا قرارها، وقد كان كل ذلك على مرأى ومسمع من صامد وصمود اللذين امسكا بعضها البعض مبتعدان عنه قدر الإمكان بخوف من ملامحه المخيفة الغاضبة .
أخذت الكرة تضيء أكثر وهي تشير صوب تبارك وكأنها تخبره أن يستدير ويحضرها، وقد ازداد ضوءها جنونًا كأنها تصرخ به ( إنها خلفك هناك ) وهو تلقى الرسالة يصرخ بحنق وتهكم :
” نعم نعم، علمت أنها خلفي، علمت..لعنة الله على الكافرين”
استدار يتنفس بصوت مرتفع، ثم تحرك صوبها بخطوات رزينة قوية وخلفه يسير كلاً من صامد وصمود ..
بينما هي كانت تتوسط المقعد في الاستقبال، تتنظر أن تعود الموظفة المسؤولة عن الحجز وغيرهم، حتى تنصرف هي للاستراحة التي فقدت نصفها تقريبًا .
تنهدت بصوت مرتفع وقد ملت أفكارها التي تدور في رأسها منذ الصباح، هي حقًا تحتاج لشيء يشغلها عن الأمر، فكرت بالذهاب والحصول على مشروب أو طعام كي تستمر في العمل، بعد ليلة طويلة قضتها مع أحد الأطباء في غرفة العمليات، لكن وقبل أن تفعل توقفت بسبب شعورها بشيء يمنع عنها ضوء المصباح بالممر، وكأن هناك جبل قد نُقل أمامها.
رفعت عيونها ببطء شديد لترسو على جسد رجولي تبصر تقاسيمه لأول مرة، ما رأت يومًا رجلًا بجسدٍ منحوت كهذا الجسد أمامها، ولا تفاصيل كتفاصيل وجهه الذي يظهر بوضوح أنه لا ينتمي لدولتها، ربما روسي أو تركي، يراقبها من علياه بنظرات هادئة غاضبة و….محترمة ؟؟
مهلًا هل ينظر لها الآن بتقدير واحترام، أم أن حاجتها لذلك الأمر أضحت ملحة لدرجة أن تبصرها في عيون الآخرين ؟؟
تنحنحت وقد شعرت لثواني أنها أصبحت متحرشة حمقاء، وقد بدأت أعين ذلك الرجل تضيق بتحفز غريب كأنه يبحث بين وجهها عن خطأ أو ماشابه، اعتدلت في جلستها مبتسمة بهدوء :
” مساء الخير يا فندم اقدر اساعدك ازاي ؟؟”
وهو لأجل مكانتها وبغض النظر عن كامل اعتراضاته عليها، ابتلع ريقه يميل بنصفه العلوي قليلًا فقط، واضعًا كفه الأيمن أعلى منطقة صدره مرددًا باحترام كبير :
” جلالة الملكة، بحثنا عنكِ في كل مكان حتى كدنا نفقد الأمل في العثور عليكِ، والآن وحينما علمنا من الكرة أنكِ بهذا العالم، جئنا على وجه السرعة لأخذك لملكنا ”
رمقته تبارك ثواني، ثم نظرت حولها وكأنها تبحث عن تلك الملكة التي يوجه لها الحديث بالعربية دون العامية، لكن لم تبصر في الممر بأكمله أحد غيرها وهذا الرجل الوسيم، وهذين الرجلين…الغريبين اللذين يرافقانه ويرمقونها بنظرات الزائر لحيوان نادر داخل قفصه، نظرات تشعرك أنهما سيخرجان بعض السوداني ويلقونه لها ويصدرون اصواتًا لطيفة لها تدعوها لأكل ما القوه .
عادت بنظرها للرجل الذي حدثها منذ ثواني، تحاول أن تتمالك نفسها أمام ملامحه ونظراته، تغض البصر عنه، وتردد بعدم فهم، وقد شعرت أن قلة النوم، والأحلام المريبة قد تسببت لها في مشاكل عقلية، لتردف بنبرة خجلة :
” نعم ؟؟ معلش شكلي بسبب قلة النوم بقيت اسمع حاجات غريبة، حضرتك كشف ولا استشارة وجاي لعيادة ايه ؟؟”
أعتدل سالار في وقفته وقد ابتسم بسمة مجبرة يقول بهدوء واحترام كبير يحتمه عليه مكانتها وقسمه وولائه:
” لا، اشكرك أنا لا احتاج استشارة فلدى بالفعل من يمكنني استشارتهم وسوف اتخلص منهما بعدما ننتهي ”
كان يتحدث موجهًا إصبعه صوب الرجلين الغريبين معه، ومن ثم أكمل بهدوء وجدية كبيرة ظنًا أنها تدرك هويتها وما يتحدث عنه، نبرة جعلت تبارك تكاد تركض خوفًا مما يقول :
” أنا فقط جئت لأخذك حيث الملك ”
صمتت ثواني، قبل أن تبتسم باستيعاب:
” آه مش تقول كده، عيادة الأمراض النفسية آخر الممر على الشمال ”
نظر لها سالار يحاول تحليل كلماتها والتي لم تأخذ ثواني داخل عقله حتى يعلم ما تقصده، ابتسم بسمة مصدومة مما قالته.
فالبنسبة لرجل كسالار، قائد جيوش مملكة سفيد وأقوى قائد في الممالك الأربعة الذي خاض مائة وتسعة عشر حربٍ لم يخسر بهما واحدة حتى، أن تأتي فتاة تتهمه بالجنون لأنه يخبرها أن تأتي معه لتتسلم عرشها، كارثة لن يمررها لها .
ولم ينتبه سالار الذي يعميه غضبه أن ما يتحدث بشأنه هو أشبه بحكايات طفولية لفتاة كتبارك، أي ملكة تلك التي جاء يطالبها بها؟؟ ألا تكفيها أحلامها التي تشعرها أنها عادت عصورًا للخلف كلما سمعت ” ملك وملكة وغيرهم”؟؟
هو يظنها تعلم هويتها وتنتظره، وهي تعتقده مجنونًا أو مختلًا .
فجأة انتفضت تبارك للخلف برعب تطلق صرخة فزعة حينما وجدت ذلك الرجل يميل على منطقة الاستقبال وهو يتحدث ضاغطًا على أسنانه وبفصحى سلسة واضحة :
” اسمعي يا امرأة، إن كنتِ الملكة فأنا قائد الجيوش، فلا تظني أن رتبتك تلك ستمنحك حق اتهامي بالجنون، يمكنني نزع رأسك بكل بساطة دون أن يرف لي جفن، ولولا خوفي من أن أُلقى في جهنم لأجل حمقاء مثلك لكنت فعلتها ولو كلفني الأمر أن أُجرد من رتبتي وأُصنف خائنًا داخل مملكتي ”
صمت ثم أكمل يقول :
” أنا يومًا لم أفشل في مهمة وُكّلت لي، ولن أفعل الآن، أخبروني أن أحضر الملكة، وسأفعل حتى لو أحضرتها محملة على الأكتاف، أو قطع صغيرة سمعتي ؟؟”
كان هذا في قمة اللطف والرقي سالار، أحسنت، استمر على هذا المنوال وستتسبب لها في أزمة قلبية تودي لحتفها، وتعود بها جثة هامدة للملك .
صمت ثواني يشعر أنه تجاوز الحديث معها، حينما سمع صوت صمود خلفه يهمس له :
” سيدي هذه الملكة بعد كل شيء ويجب أن نظهر لها احترامًا ”
تنفس بعنف لا يصدق ما قاله هو يومًا لم يتحدث مع امرأة بهذا الشكل، حسنًا هو لم يتحدث مع امرأة يومًا على أية حال بعد والدته .
لا يحب عليه أن يتعامل معها هكذا، هي الملكة وهو عليه أن يحترمها ويطيعها .
تنفس بصوت مرتفع يحاول تحسين ما قال حينما أبصر خوفها منه يوبخ نفسه بصمت، ليبتسم بسمة حاول جعلها راقية هادئة :
” رجاءً مولاتي تعالي معي وأنا سأوضح لكِ كامل الأمور بهدوء شديد، فقط دعينا نتحدث بعيدًا عن هذا المكان ”
ابتلعت تبارك ريقها، تشعر بقلبها يخفق بقوة وكلماته قد أخذت تتردد داخل عقلها بقوة وجسدها يرتجف لا تدري رعبًا من ملامحه وأعينه المتوحشة أو من كلماته المخيفة، ودون تفكير ضغطت على زر استدعاء الأمن ……
____________________
استغلت انشغال كامل العاملات في تنظيف جناح الملك بكل دقة وحرص شديد، وهي تحركت ببطء شديد صوب هدفها المنشود منذ تطوعت لطاقم عمل جناح الملك .
ابتسمت تدلف المرحاض الخاص به تنظر حولها للمكان الذي كان فخمًا بشكل خاطف للانفاس، تنفست بسعادة تعض شفتيها، تمني نفسها باستحمام لطيف هنا وفي هذا المكان الواسع الذي يمتاز بالالوان البيضاء المبهجة، بعيدًا عن مرحاض العاملين الذي لا تستطيع حتى أن تستخدمه لثواني إلا ويسبب لها انقباضة صدر .
اتسعت بسمة كهرمان حينما سمعت صوت غلق باب الجناح الذي يعلن بوضوح رحيل العاملات، نظرت حولها تتنفس براحة شديدة قبل أن تزيل غطاء وجهها الذي يخفي وجه ابيض مع ملامح رقيقة واعين ضيقة بعض الشيء باللون البني، بدأت تخلع ثيابها ببطء وتتحرك صوب حوض الاستحمام تتلمس نعومته بسعادة .
نظرت صوب الزيوت العطرية المستخلصة من الأزهار خصيصًا لأجل الملك واتسعت بسمتها أكثر وأكثر..
وخارج المرحاض وبعد رحيل العاملات بدقائق طويلة، دخل هو جناحه بسرعة كبيرة يخلع عنه عباءته وكامل أسلحته ليظل فقط بثياب مكونة من بنطال وسترة قماشية بها بعض الأزرار المصنوعة من أخشاب نادر يظهر منه مقدمة صدره العضلي .
تحرك إيفان في المكان يود التجهز لاجتماع الممالك لمناقشة ما حدث مع مملكة مشكى، زفر وهو يجلس على الفراش يتحدث مع نفسه بصوت منخفض :
” سقط ارسلان رغم كل تجبره وقوته، سقطت مشكى رغم كل تحصنها، الأمر ليس هينًا، هناك خيانة داخل مشكى وخارجها”
أزاح خصلاته السوداء للخلف يتنفس بصوت مرتفع ينتزع عنه سترته ملقيًا إياها في سلة من القش موضوعة داخل حجرة صغيرة في جناحه .
خطى بهدوء شديد صوب المرحاض ولم يكد يفتح بابه، حتى تناهى لمسامعه اصواتًا قادمة من الداخل، ودون تفكير عاد بسرعة كبيرة صوب سيفه يحمله متحفزًا وقد رسم له عقله مشهدًا لمقتحم يود مغافلته واغتياله داخل حجرته الخاصة .
ابتسم بسمة قاسية أعلى فمه يتوعده بالويل، توقف أمام المرحاض يستعد لفتحه ونحر رأسه دون تفكير .
وفي الداخل كانت كهرمان قد انتهت من الاستحمام وقامت بارتداء ثيابها، وطبقات الفستان السفلى ولم يتبقى سوى الطبقة الخارجية وغطاء الوجه وحجابها، تتمتم بعض الكلمات المنخفضة وهي تحرك خصرها بهدوء شديد رغم ملامحها الهادئة الحزينة، استدرات لتحمل الطبقة الأخيرة من الثوب، لكن فجأة ودون سابق إنذار وجدت يد تسحبها بعنف شديد ويد توضع على رقبتها جاذبة إياها صوب جسد صلب وصوت يهتف بفحيح :
” مجرمة نظيفة ها ؟؟”
اتسعت أعين كهرمان تشعر بجسدها يرتجف بقوة، هذه هي النهاية، هربت من موت لتسقط في جحيم، تنفست بصوت مرتفع وهي تحاول الحديث، لكن ذراعه تلك لا تساعد .
وايفان لم يستوعب بعد أنهم أرسلوا فتاة لقتله، فتاة تقف في مرحاضه دون حجاب وباذرع عارية، و….تحمل رائحته الخاصة ؟!
ضيق عيونه يحاول الخروج من تلك الأفكار، يزيد من ضغط السيف على رقبتها حتى بدأ يجرحها، يحرك ذراعه القوية ويشددها على رقبتها أكثر :
” من ارسلك ؟؟ ”
وهي نست كيف تتحدث، وكأنها يومًا لم تنطق بكلمة، ابتلعت ريقها مرات ومرات تحاول أن ترطب حلقها الجاف وصوتها خرج مرتعبًا به غصة بكاء وانهيار وشيك :
” أنا… أنا لست …”
ضغط إيفان على أسنانه بقوة يهمس بشراسة :
” لستِ ماذا ؟”
” لست…لم يرسلني أحد اقسم لك، أنا فقط … أنا فقط أردت الاستحمام، اقسم أنني لم انوي اذيتك ”
أطلق إيفان ضحكات صاخبة مستهزئة :
” وكأنكِ تستطيعين فعلها إن نويتي الأمر ”
نفت كهرمان بسرعة كبيرة تردد من بين أنفاسها الفزعة وقد كادت تسقط ارضًا لشدة حاجتها إلى الهواء :
” فقط …مراحيض العاملين سيئة جدًا، لذلك ارتأيت أن استعير منك مرحاضك لدقائق، سأ…سأنظفه مجددًا اقسم لك، أنا لم انتوي سوءًا مولاي صدقتي، ولا احمل أسلحة حتى لتظن بي ذلك ”
نظر لها إيفان بشك يبعدها عنه فورًا وهي شعرت بجسدها يكاد يسقط في حوض الاستحمام، لكنها تمسكت من فورها بالجدار تسند جسدها، وقد سقط شعرها يخفي وجهها عن إيفان الذي نظر لها بجدية كبيرة، وقبل أن ينطق بكلمة رفعت كهرمان وجهها بسرعة كبيرة ليصمت هو حينما أبصر ملامحها ونسي لثواني ما يحدث وأنه الآن يقف في مرحاض حجرته مع امرأة دون حجاب أو لثام أو ثوب يستر ذراعها العاري .
ابتلعت كهرمان ريقها وهي تتراجع للخلف ببطء :
” أرجوك أنا لم أقصد، أنا فقط …”
مسحت قطرات المياه التي تتساقط على وجهها، أو كانت عرق لا تدري، تنفست بقوة تنظر حولها :
” سوف أعيد ترتيب كل شيء كما كان”
فجأة أبعد إيفان عيونه عنها يشير لها بسيفه غاضبًا من كل ما يحدث هنا :
” ارتدي ثيابك وللخارج ”
” أنا سأ…”
قاطعتها صرخة إيفان المرعبة :
” فقط استري جسدك واخرجي من هنا يا أمرأة ”
أنهى كلماته يتركها في مرحاضه ويخرج منه بسرعة كبيرة يتنفس بصوت مرتفع، وهي ظلت واقفة لا تستوعب ما قال، قبل أن تطلق فجأة صرخة عالية تدرك أنها كل ذلك الوقت كانت تقف أمامه بهذه الهيئة دون حجاب وغطاء الوجه وباذرع عارية، بدأت تسرع وترتدي كامل ثيابها، ثم خرجت بسرعة دون كلمة تحاول أن تخفي احمرار وجهها خلف غطاءه…
وبمجرد أن خرجت من المرحاض قالت وهي مخفضة الرأس:
” أنا آسفة و…”
قاطعتها كلمة إيفان الحادة الصارخة :
” للخارج .”
وهي انتفضت واختض جسدها من صرخته تركض صوب الباب تطرق عليه ببطء ليفتح لها الحراس متعجبين وجوده عاملة أثناء وجود الملك وقد رحل الجميع بالفعل منذ دقائق، وهي لم ترفع رأسها واسرعت الخطى في الممرات تشعر أنها ستسقط ارضًا بسبب توترها، وحينما تخطت ممر جناح الملك ركضت بسرعة كبيرة تبحث عن زمرد، تشعر بضربات قلبها تكاد تتوقف والرعب بلغ منها مبلغه تردد بخوف شديد :
” لقد رأى وجهي، رأى وجهي، ستقتلني زمرد لأجل هذا”
______________________
تسير صوب منزلها بعد يوم عمل شاق …مريب .
مسحت وجهها لا تصدق ما مرت به اليوم، أحد المجانين الوسيمين هجم على المشفى يطالبها بالذهاب معه حيث الملك مدعيًا أنها ملكة، بالله ما الذي يحدث في حياتها ؟؟ ألا تكفيها أحلامها الغريبة، لتتسرب الغرابة نحو يقظتها ؟
تنفست بصوت مرتفع تتذكر ما حدث حين جاء الأمن وهجموا على المشفى وهو ما يزال واقفًا يحدق في عيونها بنظرات غريبة جعلت جسدها يرتجف .
امسك رجل الأمن ذراع سالار يتحدث بلهجة حادة مهددًا :
” لو سمحت اتفضل معايا من غير مشاكل كتير ”
لكن سالار لم ينزع عيونه عنها، بل فقط ابتسم بسمة جانبية جعلتها تخشاه أكثر، ابتلعت ريقها تشير لرجل الأمن بيد مرتجفة :
” لو سمحت وصله لبرة و…”
وقبل أن يقترب منه الحارس أوقفه سالار بإشارة من يده، ثم تحركت عيونه حتى استقرت على وجه تبارك يقول بهدوء مرعب :
” اسمعي يا فتاة أنا جئت هنا لهدف ولن أغادر دونه، ولا وقت لدي لاتوسلك أو اتذلل لكِ، لذا أما أن تأتي معي أو اضطر لاستخدام القوة ”
كان الحارس في ذلك الوقت يجذبه للخارج محاولًا تحريكه، لكن أين هو بجسده الهزيل الذي لا يؤهله حتى لحماية نفسه من الانيميا فما بالك بمشفى، بسالار الذي تربى وترعرع بين السيوف وأرض المعارك وأصبح من اقوى رجال مملكته والممالك المجاور ويقود جيوشًا من مئات الآلاف بيدٍ من حديد .
لذلك لم يؤثر سحب الرجل له ولم يتحرك هو مقدار شعرة عن مكانه، بل فقط جذب ذراعه بقوة تسببت في إسقاط الحارس ارضًا، وبعدها استدار صوب تبارك يقول مقتربًا من مكانها :
” إذن متى نرحل مولاتي ؟؟”
وإن كان يهدف بتلك الكلمات لزيادة رعب تبارك فقد نجح وبدرجة عالية، إذ أطلقت تبارك صرخة عالية تجمع على إثرها من بالمشفى وهي تصرخ بهم أنه هددها للتو بالخطف، تصيح بين الجميع بجنون :
” عايز يخطفني ويهربني برة البلد، هيجندني لصالح روسيا”
اغلق سالار عيونه بقوة يشعر بأذنه ستنفجر تحت ضغط صرخاتها :
” أقسم أن طبول الحرب أكثر رقة من صرخاتك، هدئي من روعك رجاءً ولا تهلعي، ثم أي روسيا تلك التي سأجندك لصالحها؟؟ بالله عليكِ أنا لا اقبل بكِ عاملة لتنظيف سيوف في جيشي، فكيف بجندي ؟؟”
صمت ثم قال بجدية ساخرة :
” الموقف الوحيد الذي سأقبل فيه بتجنيدك هو أن أجندك لصالح العدو، فهذا سيزيد من فرص فوزنا ”
نظرت له برعب تقول مرتعبة تنظر حولها لبعض الممرضين الذين كانوا لا يستطيعون استيعاب ما يحدث ومن هذا ولِم يتحدث بهذه الطريقة وما الجنون الذي يهزي به :
” أنتم واقفين تتفرجوا ؟؟ مش سامعين المجنون ده بيقول ايه ؟؟ حد يخرجه برة ويبعده، ده …ده بيبصلي ازاي، بصوا بيبص ليا ازاي ؟؟”
كانت تشير له بخوف شديد، خوف تبارك من المجهول والغرابة، فهي فتاة في غاية المنطقية تعيش حياتها فقط لتحمي نفسها من الاذية، وتخشى كل مجهول يقترب منها، وهذا الرجل يجعلها ترتجف من حديثه وكلماته.
اقترب في تلك اللحظة علي، يندفع صوبها يمسك ذراعها يحاول تهدئتها وهي تشعر فقط بأنها في خطر، تتحرك بين يديه دون وعي .
” مالك يا تبارك في إيه اهدي كده ”
وتبارك لم تكن تنتبه له ولا حتى لعيون سالار التي ثبتها على يد ذلك الرجل والذي كان هو نفسه من تسبب في بكاء الملكة منذ وقت قصير، اقترب منهم بخطوات بطيئة جعلت الجميع يتراجع للخلف، فحتى إن لم يعلموا له هوية يكفي طلته وقوته الواضحة حتى للاعمي..
وفجأة شعر علي بضربة على ذراعه شلت جسده بأكمله ليتراجع للخلف ممسكًا بذراعه يعض شفتيه كاتمًا تأوهًا قويًا كاد يفلت منه، لكن الوجع تغلب عليه وأطلق صرخة رنت صداها في المكان بأكمله .
وسالار الذي لم يفعل شيء سوى أنه ضرب ذراعه ليبعدها عن يد تبارك، قال بكل هدوء :
” لا يمكنك لمس امرأة لا تحل لك، وبالتأكيد لا يمكنك أن تفعل ذلك مع ملكتنا، التزم حدودك وضع بينكما امتارًا ”
نظر له عليّ وهو يتلوى ارضًا صارخًا والجميع كان يراقب ما يحدث بأعين متسعة، وتبارك في تلك اللحظة شعرت برغبة عارمة في البكاء خوفًا، ودون تفكير أمسكت مزهرية تستقر على طاولة الاستقبال وضربته بها فوق رأسه بقوة شديد جعلت شهقات صامد وصمود تخرج بعنف كبير ..
اغمض سالار عيونه بقوة حينما شعر بالمزهرية تصطدم برأسه متهشمة لشظايا كثيرة، نفض خصلات شعره الحمراء ببرود شديد يتجاهل ذلك الوجع الطفيف الذي أصاب رأسه، ثم استدار لها يبتسم بسمة صغيرة مرعبة :
” حقًا هذا كل ما تملكين ؟؟ أنتِ حتمًا أكثر ملكة ضعيفة رأيتها في حياتي ”
في تلك اللحظة انتفض جسد سالار للخلف مرتعبًا من صرخات تبارك العالية التي شعرت بالخطر المحدق يحوم حولها، ولشده رعبها لم تشعر سوى بالظلام يحيط بها وتسقط ارضًا.
وبعد ساعات استيقظت لتدرك أنها في المشفى آمنة وكل ذلك كان حلمًا قبل أن تنفيه رفيقه لها، وتخبرها أن ما حدث حقيقي، لكن ذلك المجنون غادر بلا رجعة .
والآن ها هي تعود لمنزلها المريح بعد يوم شاق مرهق مع ذلك المجنون الذي …
وقبل أن تكمل أفكارها شعرت فجأة بشخص يجذب جسدها بقوة كبيرة صوب أحد الأماكن التي ميزتها سريعًا، لكنها حتى لم تتمكن من الصراخ إذ شعرت بجسدها يُلقى على مقعد داخل ذلك المكان والذي لم يكن سوى مكتبة متولي الذي كان يجلس على مكتبه يراقب ما يحدث بهدوء مخيف .
وامامها يقبع ذلك العملاق ذو الشعر الأحمر ومعه هذين الغريبين، يحدقون فيها بنظرات جعلتها تبتلع ريقها مرتعبة تقول بخوف وهي تحرك رأسها بسرعة كبيرة بأول ما جاء لرأسها كي تنقذ نفسها :
” أنا… أنا موافقة اتجند لجيش العدو ياباشا ”
نظر لها متولي مليًا وهو يرى ذلك العملاق يخيم عليها، نهض عن مكتبه ينضم لهما وهو ينظر لتبارك التي أخذت تهمس وتشير له أن يحررها منهما تقول بصوت خافت :
” الحقني يا عم متولي، ابوس ايدك خرجني من هنا ”
لكن متولي لم يهتم وهو ينظر لسالار يقول بجدية كبيرة ليس وكأنه لم ير سالار سوى منذ ساعة تقريبًا :
” ها يا قائد هتاخدها امتى وترجع للمملكة ؟؟”
اتسعت أعين تبارك بقوة تحدق فيه بشكل جنوني وقد اتسع فمها بشكل مضحك وكأنها تسأله جديته، هل جُنّ الرجل لكثرة جلوسه وحيدًا؟؟
ابتسم سالار وهو يجيب بكل هدوء وبنبرة هادئة :
” اليوم إن وافقت الملكة أيها العريف ”
ابتسم متولي بسمة واسعة كادت تقسم وجهه نصفين، فرح بذلك اللقب الذي تلقاه من ذلك الشاب والذي حقًا لا يعلم له هوية، هو فقط كان يدور في المكان بحثًا عن منزل تبارك وحينما سأله وعرف منه ما يريده منها، صدق حكايته دون أن يحصل منه على دليل واحد حتى، وقرر أن يساعده في اختطافها..
همس صمود في أذن سالار بتعجب واستنكار :
” ما بك قائد تنادي ذلك الرجل بالعريف ؟؟ أنت حتى لم تعلم إن كان يمتلك نفس علم ومعرفة العريف ام لا لتمنحه مثل ذلك اللقب الكبير ”
ابتسم سالار بسخرية :
” نعم، لكنه مزعج مثله ”
أفاق من حديثه الخافت مع صمود، ثم نظر لتبارك التي كانت ترمقهما بنظرات متسعة واعين مرتعبة تحاول فهم ما يحدث في ذلك المكان ..
مال سالار برأسه يواجهها ثم أطال النظر داخل عيونها بشكل جعلها تغرق في عيونه ذات اللون الغريبة، لكنها استفاقت على صوته يقول :
” سأخبرك كل شيء وستسمعين ما أود قوله وحينها سيكون الخيار لكِ، أما أن توافقي على المجئ معنا، أو نختطفك حسنًا ؟؟”
نظرت تبارك برعب لمتولي الذي كان يحدق بها مثلهم، وابتلعت ريقها كي تقنعهم أنها موافقة على ذلك الهراء ومن ثم حين تحين فرصتها تهرب من هذا المكان الملئ بالمجانين ..
وبخوف تام قالت :
” حاضر اللي تشوفوه ..”
ابتسم سالار بنصر، فخبرته في المعارك علمته جيدًا
( إن لم يرضخ عدوك للسلام، فلا مانع أن تريه ما سينتظره إن اختار الحرب وسيلة )
__________________
” لا رحمة ولا خنوع ولا لحظة تفكير واحدة، كل من ترونه من هؤلاء الجرذان تخلصوا منه، الحالة الوحيد المسموح لكم بالتفكير بها، هي حين تفكر في قتله بالسيف أم افراغ احشائه بيديك العارية، فهمتم ؟؟”
صاح الجنود عقب كلمات دانيار في صوت موحد جهوري قوي :
” نعم سيدي ”
ابتسم دانيار برضى وقد رفع رأسه عاليًا يشير للكتيبة التي جهزها لحماية حدود المملكة وتكثيف الرقابة عليها، أن تتحرك .
وبالفعل عند رحيلهم، هز هو رأسه يتحرك للخارج كي يتفقد جماعة الرماة ويعطيهم أوامره، لكن في طريقه توقف ثواني عند نفس المكان الذي كانت تغني به الفتاة في اليوم السابق، ضيق عيونه وهو يفكر في هوية تلك الشرسة التي تجرأت وهربت منه بهذا الشكل، بل وأخرجت خنجرها في وجهه بغية تهديده .
وأثناء تحركه في الممرات انتبه للعاملات اللواتي يسرن برؤوس منحنية ارضًا وبهدوء شديد بغطاء الوجه المعروف في المملكة، فكر في محاولة البحث عنها بينهن، لكن عن ماذا سيبحث ؟؟ هو لم ير منها سوى أعين سوداء مبهرة ساحرة فقط .
ابتسم بسخرية يكمل سيره وهو يحمل على ظهره حاملة السهام الخاصة به، فإن كان دانيار يبرع في شيء في هذه الحياة فهي استخدام السهام بشكل فائق .
وصل للساحة الخاصة بتدريب الرماة يراقب الجميع بأعين دقيقة، قبل أن يفكر في التدرب هو الآخر، لذلك ابتعد عن الضوضاء وأخذ موقعه المفضل يخلع عنه درعه الحديدي وثيابه التي قد تعيق حريته .
ومن ثم أمسك السهام ونظر للهدف الذي يتوسط أحد الأشجار بعيون ضيقة، وفي ثواني كان سيل من السهام يصيب الهدف بشكل متتالي دون ثواني تفصل بين السهم والآخر، فقد كانت يده تلقي السهم، ثم تتحرك بسرعة مخيفة تحضر الآخر وتلقي به .
وعلى بعد صغير منه كانت تقف هي تحمل ادوات التنظيف بعد عودتها من المبنى الخلفي وانتهاء التنظيف تحدق فيما يفعل بأعين مصدومة، هل آلة القتال تلك هي ما كانت على وشك طعنه بخنجرها المسكين البارحة !؟
ابتلعت زمرد ريقها لا تدري له هوية، لكن تلك المهارة العالية في رمي السهام تخبرها جيدًا أنه أحد أفراد رماة المملكة .
رمشت وهي تحاول التراجع بسرعة وقد شكرت ربها أن نجاها بمعجزة من بين يديه، فما تراه الآن يخبرها أي مصير كانت ستلقى إن اثبت أنها ليست من هذه المملكة وقد يقع عليها تهمة التحايل والخيانة .
لكن لم تكد تتحرك خطوة من موقعها حتى وجدت سهم يقطع طريقها غارزًا في الشجرة المجاورة لها أمام عيونها مباشرة، ابتلعت ريقها وهي تستدير صوبه ببطء، لكن فجأة أطلقت صرخة حينما وجدت جسده قريب منها للغاية ينتزع سهمه قائلًا ببسمة جانبية :
” مرحبًا أيتها الخائنة ..”
ابتلعت زمرد ريقها تبتعد للخلف مبعدة عيونها عنه :
” عفواً سيدي، أنا لا افهم ما تقصد، هلّا افسحت لي طريقًا للمرور رجاءً”
أطلق دانيار ضحكة مجلجلة وقد تعرف عليها من ثيابها وطولها وتلك القلادة التي ترتديها :
” حقًا؟؟ ماذا عن فاكهتي التي سرقتيها في الامس؟؟ ”
ارتفع وجه زمرد بسرعة كبيرة تقول :
“أنا لم اسرقها اقسم لك، أنا فقط حينما ركضت ا…”
فجأة ابتلعت باقي جملتها تشعر أنه اوقعها في فخه، ذلك المحتال جعلها تعترف بما انكرت منذ ثواني .
رفعت رأسها بقوة تحاول أن تظل ثابتة أمام عيونه :
” أنا لست خائنة، وتلك الثمرة التي تبكي وتنتحب عليها سأحضر لك ثمرتين بدلًا منها وهكذا نكون متعادلين ”
ختمت جملتها تتحرك بعيدًا عنه بسرعة لكنه مد يده التي تحمل السهم مانعًا إياها من العبور يتحدث بجدية :
” لا لسنا كذلك، من أنتِ وما الذي تفعلينه في القصر هنا؟! لهجتك تلك لا تمت للهجة مملكتنا بصلة حتى ”
نظرت زمرد للسهم الذي يحمل ومن ثم رفعت عيونها له تقول :
” أنا رحّالة جئت لكسب قوت يومي من العمل هنا، والذي بالمناسبة أنت تعطلني عن فعله ”
ولم تكد تتحرك حتى قال دانيار بخبث وهدوء شديد :
” حقًا أنتِ مسكينة فقيرة إذن، مسكينة فقيرة ترتدي سلسال ذهبي يستطيع أن يؤمن لها منزلًا فاخرًا داخل المملكة، لكنها كانت من الكفاح الذي يجعلها تأتي للعمل داخل قصر الملك تحديدًا”
اتسعت أعين زمرد ونظرت بسرعة كبيرة صوب تلك القلادة التي تتوسط جسدها، ولا تدري كيف ظهرت من الحجاب أو خرجت من الفستان الخاص بها، سارعت لاخفائها أسفل ثيابها، بينما دانيار قال بهدوء وتهديد :
” أنتِ لا تريدين أن أضرب ظهرك بالشجرة خلفك مرة أخرى متسببًا في كسور صعبة الشفاء لعمودك الفقري صحيح ؟؟”
اومأت له زمرة دون أن تشعر، لكن فجأة انتبهت لما يحدث و نظرت لدانيار بغضب شديد ظهر على حركات جسدها جعله يرفع يده قائلًا ببسمة ساخرة :
” لا تنظري لي بهذا الشكل، لست أنا الاحمق الذي نسي اخفاء كل الأدلة عن أنني سليلة أغنياء جئت للعمل خادمة في قصر الملك بشكل مثير للشك ”
زفرت زمرد تقول بحنق وغضب :
” هذا إرث عائلي من جدتي، لذلك لا يمكنني التصرف به، والآن أسمح لي يا سيد فلدي من الأعمال ما يجعلني انشغل بهم بعيدًا عن ثرثرتك الفارغة ”
ولم تكد تتحرك خطوة حتى وجدت سهم دانيار يصيب سطل الادوات بيدها لتطلق صرخة متراجعة للخلف، ثم رفعت عيونها لدانيار الذي ابتسم يقول بكل بساطة :
” اعلمي أيتها الخائنة أنني اضع عيوني عليكِ في كل خطوة هنا ”
نظرت زمرد للسطل الساقط ارضًا قبل أن تطلق سبة مرتفعة جعلت أعين دانيار تتسع بصدمة وهو يراها تجمع الادوات ثم منحته نظرة حادة، وأخذت نفس عميق كي تهدأ ومن ثم فتحت عيونها تنظر له تراه يراقب ما تفعل باهتمام، لكن وعلى حين غرة منه مالت زمرد تلتقط صخرة تلقيها عليه صارخة في وجهه :
” للجحيم أيها الفاسد، اقسم إن رأيتك أمامي تنظر لي، نزعت عينيك من محاجريهما ”
ختمت جملتها تركض بسرعة كبيرة صوب القصر وهي تشعر بالرعب لما فعلت، لكنها لم تملك سوى تلك الطريقة لإنقاذ كبريائها الذي يصرخ بها أن تثأر لاجله .
وهو فقط اغمض عيونه بقوة وقد اشتعل جسده غضبًا يراقبها تركض بعيدًا عنه :
” سنرى …”
____________________
تحركت نظرات تبارك على الجميع تعض شفتيها، واعينها متسعة بعدم فهم، هل ما سمعته صحيح، مملكة وهي الملكة والملك في انتظارها وذلك المتجبر أمامها قائد الجيوش الذي أرسله لأخذها إلى مملكة تقبع خلف حافة الموت وبين قمم جبال مرعبة ؟؟
ابتسمت لهم بسمة مقتنعة، صدقتهم، نعم صدقت كل ما قاله بل وجعلها تتأكد أن ما ستفعله الآن هو عين العقل، عادت بظهرها على المقعد توهمهم أنها تستريح وتفكر فيما قيل، فركت وجهها قليلًا :
” اه، أنا برضو قولت كده اول ما شوفتكم على فكرة، باين عليكم ”
نظر لها سالار بفضول شديد يتساءل بعيونه عن مقصدها، لكنها تجاهلته ونظرت صوب متولي الذي كان ينظر لها منتظرًا إشارة منها على الموافقة حتى يساعدها للمغادرة ويؤدي دوره كعريف هذا العالم _ كما أخبره سالار ساخرًا _.
ابتلعت ريقها وأخذت نفس عميق وكأنها على وشك الغطس في محيط سحيق وسط الشتاء القارس، وفي غمضة عين كانت تنتفض عن مقعدها منتصف المكتبة تركض خارج المكان باكمله تصرخ برعب وقلبها يكاد يتوقف مما يحدث .
” الحقوني …الحقوني مجانين عايزين يخطفوني وعم متولي بيساعدهم ”
اتسعت عين سالار من المفاجأة وصرخ بصوت جهوري :
” ماذا تشاهدون أيها الحمقى أمسكوا بالملكة ”
وفي ثواني ركض صامد وصمود خلفها ومعهم متولي يمسكون بها، وهي تتحرك بخطوات مهرولة صوب الباب الخاص بالمكتبة، خطت العتبات الداخلية ولم تكد تطأ الخطوة الأخيرة حتى وجدت جسدها يصطدم بالأرض أسفلها بقوة كبيرة، ووجها يُطبع على عتبات المكتبة، بعدما جذبها صمود بعنف شديد من قدمها .
صرخت تبارك باكية بخوف حقيقي تتمسك بباب المكتبة وجسدها يُسحب على درجات المكان، تصرخ في الجميع :
” الحقوني يا ناس، حد يلحقني، ابوس ايديكم الحقوني من المجانين دول، لا لا سيبني مش عايزة اروح في حتة ”
فتح سالار عيونه بصدمة مما يفعل صمود، يتحرك صوبه صارخًا وهو يخرج أحد خناجره يضعه على رقبته بشر :
” ما الذي فعلته للتو؟؟ هل تجرأت ولمست الملكة ؟؟”
نظر له صمود برعب، بينما تبارك والتي اعتدلت في جلستها بوجه باكي تحدق فيهم بأعين متسعة من الرعب تتراجع للخلف بسرعة كبيرة، تردد بصوت خافت :
” يعني مزعلك أنه لمسني، مش أنه مسح بوشي بلاط العتبة ؟؟ ”
نظر لها سالار بحدة جعلها تصمت، ثم أشار لها بالخنجر محذرًا :
” تحركي واجلسي على ذلك المقعد هناك ولا تخرجي صوتًا”
” أنت ملكش الحق تأمرني على فكرة أنا ممكن اااا….”
لكن انتفض جسدها بعنف أشد وطأة حين سماع صرخة جهورية مرعبة منه :
” الآن”
ركضت تبارك بسرعة كبيرة على المقعد الذي كانت تتوسطه منذ لحظات، تجلس عليه بكل هدوء تضم يديها لقدمها وتنظر أمامها كتلميذة هادئة مطيعة ..
وسالار نظر لصمود يهمس له :
” إن تجرأت ولمست الملكة، فستفتقد يدك الباقي من حياتك ”
أنهى حديثه يدس الخنجر داخل ثيابه متحركًا صوب تبارك التي بمجرد أن رأت تقدمه لها حتى اخذت تدفع جسدها بالمقعد للخلف والخلف والخلف، وهو يتقدم منها بكل هدوء وصبر لا يمتلكه بالفعل، وهي تتراجع أكثر وأكثر، حتى اصطدمت فجأة بأحد المكاتب التي تحوي ارفف كتب كثيرة، ابتسم سالار وهو يرى أنها لم تعد قادرة على الابتعاد .
توقف أمام المقعد الخاص بها ثم نظر لعيونها بشر جعل جسدها يرتعش وهي تسمع همسه :
” إلى أي حد قد تعتقدين قد يصل صبري ؟؟ ”
أغمضت تبارك عيونها بقوة كبيرة تشعر بجسدها يرتعش وقد ضربتها فكرة إصابتها في مقتل جعلتها ترفع عيونها له بسرعة كبيرة وتبادله النظرات بأخرى مصدومة وهو ابتسم ويكمل حديثه :
” رجل حرب عاش حياته بين الرجال لايملك صديق سوى سيفه، ولا خليله سوى فرسه، ولا عائلة سوى سهامه، لكم من الوقت تعتقدين أنه سيتحلى بالصبر على تصرفات امرأة مثلك ”
ابتلعت تبارك ريقها، تحاول التنفس بشكل جيد وهي تهبط بجسدها على المقعد شيئًا فشيء، لا تدري أينتظر منها إجابة، أم كان ذلك مجرد سؤال استنكاري لا يرنو من خلفه لشيء ؟؟
وحينما طال صمته أدركت أنه بالفعل ينتظر اجابه لذلك قالت بصوت خرج بصعوبة :
” أنا عايزة …عايزة اروح الحمام ”
نظر لها سالار بعدم فهم لثواني، وهي قالت تلعن في نفسها تلك العادة السيئة التي تصيبها كلما شعرت بالخوف :
” أنا عايزة اروح الحمام ”
ابتعد عنها سالار مستقيمًا في وقفته يقول باستنكار :
” حقًا يا امرأة؟؟”
” حقًا والله ”
مسح وجهه بتعب، الأمر ليس سهلًا، تمامًا كما توقع .
قال صامد مقترحًا :
” سيدي ما رأيك بالعودة وتركها هنا، لا أظن أنها تلائم بأي شكل من الأشكال مملكتنا ”
هزت تبارك رأسها بسرعة ولهفة كبيرة تعتدل في جلستها داخل المقعد، تشير صوب صامد :
” أيوة أيوة صح الراجل الصغير ده عنده حق، أنا فعلا مش هنفع والله يا باشا أنا …أنا والله مش عارفة احكم نفسي اني ابطل اكل حلويات، هحكم مملكة؟؟ أنت لو كنت بتجري على خرابها مش هتصر الاصرار ده عليا، والله حضرتك أنا أحقر من كده بكتير”
صمتت ترى نظراته الغامضة تحلق حولها، لينتعش امل صغير داخل صدرها، تقول رغم عدم اقتناعها بكل تلك القصة الخيالية عن مملكة وهمية هي ملكتها :
” طب …طب ده انا وانا في المدرسة كنت رائد الفصل و في الفترة اللي مسكت فيها الفصل اخدنا اكتر فصل سييء في المدرسة، والله ما بكدب، كنا فعلا اسوء فضل وأكثر فضل مشاغب وبيغيب براحته لاني مش باخد الغياب، وكمان مزيناش الفصل عشان مكنتش بقدر أخد منهم فلوس عشان بيضربوني ”
شعر سالار في هذه اللحظة بهول ما سقطت به مملكتهم، بالله كيف تكون تلك الفتاة الهشة الباكية التي لا تفقه حتى أقل أساليب الحياة الملكية أن تصبح ملكتهم وتشارك الملك في الحكم، هي حتى لا تمتلك أقل ما يجب أن تمتلكه الملكة وهي معرفة اصول المبارزة وأساليب التعامل مع العامة، وكيفية الحديث بشكل لائق هادئ حكيم ..
كل هذا هي تمتلك عكسه بالضبط .
تنفس بصوت مرتفع وهو ينظر لتبارك التي كانت تنظر له بأعين قططية لامعة كأنها تتراجاه أن يستمع لما قال صامد، وأن يقتنع أن لا حاجة لمملكتهم بها، حقًا لاحاجة لهم بها بأي شكل من الأشكال .
لكن كل ما صدر من سالار هو زفرة عنيفة يقول دون نقاش أو جدال :
” أحضروا الملكة، سوف نشد الرحال للمملكة …”
اتسعت أعين تبارك تلقي بجسدها على المقعد خلفها بصدمة كبيرة تحاول أن تتلقي تلك الصدمة وتفكر فيمن يستطيع إنقاذها من هؤلاء المجانين .
ابتلعت ريقها ترى اقتراب سالار لها، لتنحفض في مقعدها شيئًا فشيء حتى تبتعد أكبر قدر ممكن عنه، لكن من سوء حظها أن حركتها تسببت في اختلال المقعد لتسقط به ارضًا صارخة بصوت مرتفع ..
وسالار راقبها من الاعلى يفرك عيونه بتعب شديد :
” لكِ الله يا سفيد …”
______________________
” ماذا فعلتِ ؟؟ضربتي صانع الأسلحة؟ ”
انطلقت تلك الصرخة من إحدى النساء العاملات في المطبخ لتتسع عيون الفتاة جوارها وهي تنظر حولها بفزع كبير ترى الجميع ينظر لهما .
ابتلعت ريقها توبه رفيقتها :
” أنتِ أيتها الغبية ما بكِ، هيا ارفعي صوتك أكثر عسى أن يصل لذلك الاحمق ويأتي لجز عنقي ”
عضت صديقتها شفاهها باعتذار صامت، ثم همست بصوت منخفض وهي تنظر حولها بحرص لمعرفة إن كانت هناك أعين متلصصة بهم أم لا :
” لكن برلنت، أنتِ قد تُعاقبي على مثل تلك الأفعال، أنتِ لم تتجرأي على أحد الجنود العاديين، بل هذا صانع الأسلحة وأحد القادة الثلاثة الذين تشيب لهم الرؤوس رعبًا ”
لوحت برلنت بيديها في الهواء غير مهتمة بما تقول :
” أنا لم افعل سوى أنني فقط رددت له ما فعل معي، وإن لم يكن كافيًا، بالله عليكِ لقد ألقى فوق رأسي قنبلة، ماذا لو أنه صانع أسلحة بارع ونجحت تلك القنبلة وتناثرت اشلائي في المكان ؟!”
” هيييه هو بالفعل صانع أسلحة بارع، هو من طور جميع أسلحة المملكة وحده ”
نفخت برلنت بسخرية لاذعة، ثم أكملت العمل وهي تحمل بعض الأواني تقول بصوت خافت ونبرة حانقة بعض الشيء :
” هو فقط يستمر في إزعاج جميع من بالقصر بأصوات تلك الانفجارات، أعان الله القريبين منه، سوف اذهب لجمع باقي الثمار لأجل الغداء ”
خرجت برلنت من المكان، وعبرت من الممر صوب الخارج في الوقت الذي كانت فيه فتاتين تقفان في أحد الأركان وواحدة تصرخ في الأخرى بشكل جنوني، جعلها تقترب بغية مساعدة الأخرى لكنها توقفت حينما سمعت لهجة الفتاة التي تصرخ تقول :
” أنتِ ذات عقلٍ صلب، بالله عليكِ كهرمان كيف تجرأتي على مثل تلك الفعلة ؟؟ جناح الملك ؟؟ هل جننتي ؟؟ أخبرتك مئات المرات ألا تجذبي لكِ الإنتباه هنا، لتأتي وتستحمي داخل مرحاض الملك ؟؟”
صمتت ثم صرخت بعدم تصديق :
” مرحاض الملك كهرمان ؟؟”
شهقت برلنت بصوت مرتفع وهي تسمع لتلك الكلمات بصدمة كبيرة، وقد انتبهت لها زمرد التي استدارت لها بسرعة متسعة الأعين، فتحت فمها بصدمة تشعر بأنها سقطت في ورطة ..
عادت برلنت للخلف تحاول الهروب من نظرات زمرد المرعبة وهي تقول :
” أنا… أنا لم أقصد أن أسمع ما قلته و…”
وقبل أن تتكلم كلمة واحدة اندفع جسد برلنت للجدار بقوة مخيفة وهناك خنجر وضع على رقبتها، وعيون زمرد أمامها تطالعها بشر وهي تفكر أن الأمر سهل، وقد نفذت ما تريد دون جهد، ما بالها لم تحسن ذلك مع تلك الصخرة التي قابلتها ؟
تنفست بصوت مرتفع تهمس لبرلنت :
” إن تحدثتي بكلمة مما سمعتي للتو سوف انحر رأسك تلك ؟؟”
اتسعت عيون برلنت وهي تنظر الخنجر تبتلع ريقها قبل أن تقول بكل بساطة :
” حسنًا كان يمكنك طلب ذلك دون أن تفعلي كل هذا، فإن كان أمر استحمام صديقتك داخل مرحاض الملك مريب، فأن تحمل عاملة خنجرًا وتسير به بين ممرات القصر تهدد الجميع لهو أمر مريب أكثر ”
اقتربت كهرمان تحاول دفع زمرد للخلف :
” هيييه زمرد دعي الفتاة لا تخيفيها ”
ابتسمت برلنت تبعد الخنجر عن رقبتها تقول بجدية :
” نعم زمرد اسمعي حديث رفيقتك، فأنا لست من ذلك النوع الذي يرتجف عند رؤية خنجر ”
أبعدت زمرد الخنجر عن رقبتها ببطء وهي تتساءل، ما بال الجميع في هذا القصر لا يهابون خنجرها، تقسم أنها كانت تتسبب في ارتجاف الرجال من قبيلتها قديمًا .
نظرت لهما برلنت بفضول وبسمة واسعة فضولية :
” إذن مما تهربان أنتما ؟؟”
___________________
فتحت تبارك باب المنزل وهي تشعر يجسد سالار يمنع ضوء المصابيح خلفه من الوصول لها، كان من الكرم الذي جعله يسمح بالمجئ وإحضار ما تريد، وها هي تقف في غرفتها وهم يجلسون جميعهم في بهو المنزل .
جلست على الفراش تفكر هل حقًا ستفعل هذا الجنون ؟؟ ستذهب مع رجال غرباء خطيرين إلى مكان غير موجود سوى في خيالهم الخصب فقط ؟؟ يالله هذا انتحار .
مسحت وجهها، تشعر بعجز وحدتها، ماذا لو كانت تمتلك عائلة الآن؟! اشخاص يحبونها ولن يسمحوا برحيلها، ابتلعت ريقها تحدق في الغرفة حولها ولم تملك سوى أن تجاربهم وتتظاهر أنها ستذهب معهم وحينما تحين لها الفرصة تهرب منهم، ستأخذ كل ما تحتاجه لبدء حياة جديدة بعيدًا عن المكان، فقد علموا بالفعل أين تسكن بفضل العم متولي .
نعم هذا العجوز الخرف، ليت الإنجليز تخلصوا منه فقط وأحرقوا مكتبته، سامح الله ذلك العجوز الخرف .
بدأت تجمع جميع أوراقها الشخصية، وجميع الأموال التي جمعتها خلال حياتها والتي لم تكن بالكثيرة حقًا، لكنها قد تكفيها للأكل والمبيت بأحد الاماكن المتواضعة ليومين أو ثلاثة ..
وضعت بعض الثياب الجديدة وتركت تلك المهترئة، حملت مصحفها الخاص وبعض الكتب العزيزة على قلبها، ثم تحركت خارج الغرفة تراهم يجلسون بتحفز، عدا سالار الذي كان يقف مكتفًا ذراعيه يحدق في المكان حوله يشرود وحينما انتبه لها تحرك ينتزع الحقيبة منها يشير لها أن تتحرك أمامه، هي من جنت على نفسها، يقسم أنه جاء هنا وتعهد أن يعود بها راضية، لكن إن كانت تريد أن تسير الأمور بالطريقة الصعبة، إذًا لها ما تريد …
تنفست تبارك بارتجاف ترى الحقيبة بين يده، قالت بصوت منخفض وهي تحاول انتزاعها من بين أصابعه :
” لا معلش أنا .. أنا هشيلها ”
رفض سالار بصرامة يقول بهدوء مشيرًا للباب :
” من بعدك مولاتي ”
رمشت تبارك تشعر بالعجز، تسير للخارج أمامه، تسمع صوت غلقه للباب، ومن ثم صوت خطواتهم يسيرون خلفها على الدرج، ولم تكد تخطو درجة إضافية حتى سمعت صوت خلفها يقول :
” رايحة فين يا تبارك ومين دول يا منيلة ؟؟”
استدارت تبارك بسرعة تلمح وجه جارتها التي كانت دائمًا تمثل لها شوكة في خاصرتها، لكنها الآن في أشد الحاجة لها، ابتلعت ريقها تركض صوب الاعلى تدفع سالار جانبًا صارخة بصوت مرتعب :
” بلغي البوليس يا خالة الله يكرمك، دول …دول عايزين يخطفوني، بلغي البوليس بسرعة ….”
_______________________
ربما تأتيك فرص الحياة على هيئة مصائب، كي تنبذها بكل ثقة وتنفرها، فتبتسم الحياة بخبث وتخبرك ببراءة مزيفة ( ها أنظر، منحتك فرصة ذهبية وأنت رفضتها بملء إرادتك، فلا تأتي وتتذمر من الحياة، أنت هو الملام الوحيد )..
لكن ماذا لو كنتَ من الغباء ما يجعلك تقبل بتلك الفرصة التي تتخفى في ثوب كارثة ؟؟
وفي النهاية تذكر ( هي حرب إما أن تنتصر أو تنتصر، لا خيار ثالث أمامك)
يتبع….
خطى قاعة التجمع بخطواته المهيبة، واعينه جامدة لا يظهر شيء على وجهه، فقط ملامح منقبضة وقبضة مشتدة، وجسد منتصب يوضح لك كمّ الغضب الذي يملئ جسده في تلك اللحظة .
نهض جميع مستشاري الملك، ومعاونيه، باحترام شديد، في الوقت الذي عزف فيه بعض ملوك الممالك الأخرى عن ذلك..
فهم مثلهم مثل إيفان ملوك لممالك ليست بالهينة .
ابتسم إيفان لهم بسمة صغيرة يرتاح على مقعده في حين تبادل ملوك الممالك الأخرى نظرات غامضة، لكن إيفان والذي فهم ما يرمون إليه من تلك النظرات، قال بهدوء شديد :
” مرحبًا بكم في مملكتنا المتواضعة ”
ابتسم له آزار ( ملك مملكة آبى ) يجيب بسخرية مبطنة وكلمات غاضبة تظهر جيدًا ما يكنه داخل صدره :
” نعم متواضعة، ما بال تلك المتواضعة تحاول أن تتحكم في ممالكنا ملك إيفان ؟؟ ما شأنك وحدودي ؟؟”
رفع إيفان حاحب واحد يهز رأسه بهدوء، ثم قال دون أن يستدير صوب محدثه وبكل سلام نفسي وبسمة ناعسة بعض الشيء :
” هل وضعت جنود على حدود آبى دانيار ؟؟”
دار دانيار بنظراته داخل القاعة ثواني، ثم تركزت نظراته على آزار يقول بجدية وملامح قُدت من صخر :
” العفو مولاي، نحن لم نطأ رملة واحدة من رمال آبى، نحن فقط وضعنا الجنود في الجزء الخاص بنا من الحدود ”
حرك إيفان كتفه بهدوء شديد وقال ببساطة وعدم اهتمام بما يحدث حوله :
” جيد إذن، فنحن لا نطمح لبناء عداوات مع الجيران دانيار، تأكد ألا يمس الجنود حبة خردل داخل أراضي آبى ..”
صمت ثم قال بشبه ببسمة وصوت خافت شبه مسموع :
” إلا بأمرٍ مني ”
وعند نطقه لتلك الكلمة انتفض آزار ومعه ولي عهده يصرخ بصوت جهوري مرعب رجّ القاعة بأكملها وتسبب بتحفز أجساد جميع مستشاري الملك وجنوده :
” إيفان التزم حدودك واعلم مع من تتحدث ”
نهض إيفان يجابهه طولًا بل يتفوق عليه بالبنية الجسدية الشابة_ على عكس ملك آزار _ وقد نهض كذلك جميع جنوده يقول بصوت جهوري قذف الرعب في قلوب الآخرين :
” أنا التزم حدودي المعروفة ملك آزار ولم اتخطاها، هذه أرضي وأرض ابائي أفعل بها ما أشاء واضع جنودي حيثما أريد ولا يحق لك أو لأيًا كان التدخل في سياسات مملكتي ”
بُهت وجه آزار، وعلى التعجب وجه ولده الذي قال بتسائل مستنكر :
” ما الذي ترنو إليه ملك إيفان؟؟ نحن لسنا بأعداء ولسنا هنا لنتقاتل معك، بل فقط جئنا لنتناقش بشأن ما حدث لمشكى ”
اجاب إيفان بملامح سوداوية مخيفة وصوت يقطر ظلامًا، وهو ما يزال يحدق في وجه آزار :
” أسأل والدك يا عزيزي ما الذي يرنو إليه هو من خلف كلماته التي يلقيها في وجهه وتعديه عليّ داخل مملكتي، احضرتكم هنا لنعلم القادم، لا لنتقاتل ”
اشتدت جميع الأعين وتحركت صوب آزار الذي كان ينظر بأعين إيفان بشكل مرعب، وايفان لم تتحرك منه عضلة واحدة يستمتع بتلك الهمسات التي علت جوار أذنه.
وآزار أظهر شرًا واضحًا و وقد على الغضب ملامحه، هو جاء ليتناقش معهم في أمر مشكى، ما الذي فتح كل تلك الأمور والنقاشات التي تحدث ؟؟
ابتسم لهم إيفان جميعًا ثم قال بصوت مرتفع وكلمات صارمة لا مزاح بها وبلهجة شديدة التوعد وبكلمات مقصودة تخفي خلفها الكثير، فصمته لا يعني جهله لما يُحاك خلف ظهره :
” لا تعتقدوا يومًا أنني غر يمكنكم خداعه كما فعلتكم مع ملك مشكى فقط لصغر عمره، أنا صغير لكنني افوقكم جميعًا بالتفكير، واظن أن هذا توضح لكم العديد من المرات؛ لذلك إياكم أن يجرأ أحدكم على تجاوزي أو التقليل من شأني وإلا أعلنتها حربًا على الجميع ولن اهتم ….”
صمت ثم همس له بصوت مخيف :
” فأنا اشتقت لساحة المعركة، وتتوق قبضتي لحمل السيوف كأيام الخوالي، ولا أعتقد أن سالار سيمانع أن يقود الحرب بنفسه، أنت تعلم أنه يحب تجميع ارقام جديدة ويحصي انتصارات أكثر وقد تمثل له حربًا مع مملكتك اغراءً لا يقاوم خاصة بعد آخر حديث لك معه ملك آزار”
ابتسم آزار بسمة لا تبشر بالخير، ومتى كان الخير خيارًا في عصر ذلك الملك الذي حكم مملكته بقبضة من حديد، تجبر وقسى، لكنه في المقابل صنع مملكة تنحني لها أعتى الروؤس، ومقابل ذلك ما جنى يومًا شكرًا أو كلمة حسنة من شعبه الجاحد الناكر لجميع افضاله، فهو أول من وضع قانون الإعدام لمن يرفض تسليم نصف امواله سنويًا للبلاد، وكان يأخذ نصف محصول الفلاحين جميعهم للجنود، ويُلزم شعبه أن يعملوا ويكدوا ليلًا نهارًا فقط لأجل بناء الدولة ولأجل اسعاد رجاله وجنوده ايضًا.
يطالبهم بالتنازل، وهو يومًا لم يتنازل لاجلهم، لم يدفع فلسًا واحدًا من جيبه، ببساطة هو حوّل شعبًا حرًا لعبيد له ولجنوده .
بنى جيشًا قويًا، لشعبٍ سقيم…
اهتم بالجدار، وتناسى العمدان…
هز آزار رأسه يقول بهدوء وبسمة جانبية غريبة :
” لك ما تريد ملك إيفان، لنتحدث في أمور مشكى ”
ومع انتهاء كلماته جلس الجميع مجددًا، وعلى الهدوء قاعة الاجتماعات مجددًا، ليقطع ذلك الهدوء صوت ملك مملكة ” سبز ” الذي قال بصوت خافت هادئ :
” وصل لي ما حدث بمملكة مشكى بأكملها، وقتل جميع أفراد الأسرة الحاكمة وهذا يجعل مشكى في يد المنبوذين ”
صمت ثم نظر لايفان وقال :
” ما رأيك ملك إيفان ؟!”
ابتسم له إيفان بسمة غامضة يجلس بكل راحة ينظر له بود شديد، فقد كان ذلك الملك من اوائل حلفائه، بل وكان صديق لوالده منذ القديم ..
لكن وقبل أن يبادر بالرد سمع الجميع صوت الملك آزار يقول بهدوء شديد وبنبرة قوية لا يُستهان بها، بل وغاضبة أشد الغضب لضياع مملكة صديقه وحليفه الأول، فمملكة مشكى هي الأقرب له من بين الممالك :
” ماذا تعتقد أنت ؟! مملكة بحجم مشكى تسقط بكل سهولة من مجموعة حفاة عراة لا عدة لهم ولا عِداد، بل ويقتلون جميع من بها بكل سهولة، بالله عليكم من الواضح أن هناك من ساعدهم في ذلك ”
كان آزار يتحدث بغضب جحيمي وهو ينظر صوب إيفان، بينما إيفان نظر له متحديًا وبقوة لا يحيد بنظراته عنه :
” الصراحة من شيم الرجال ملك آزار، توقف عن التلميح وألقى ما بجعبتك ”
ضرب آزار الطاولة بقوة مخيفة حتى كاد الخشب المصنوعة منه يتحطم تحت قبضته :
” جميع من بالقاعة هنا يعلم بعداوتك مع مملكة مشكى وخلافاتك مع ملكها، حتى أنك توعدت له يومًا بالقتل والخراب ”
اعتدل ملك سبز في جلسته يرى أن الحديث سيأخذ منحنى آخر لن يعجب احدهم، وقد حدث ما اعتقده، إذ انتفض دانيار بقوة يصرخ بوجه آزار دون وضع اعتبار أنه ملك ..
” هل تتهم ملكنا بالتواطؤ مع هؤلاء الخنازير ملك آزار ؟؟ تتجرأ وتلقي هكذا تهمة في وجهه وفي عقر داره؟”
نهض آزار كي يجابه كل ذلك وداخل صدره احتراق من حقيقة أن مملكة صديقه سقطت وجميع أفراد عائلته كذلك :
” أنا أقول لكم ما يعلمه الجميع ”
وفي ثواني كانت العديد من السيوف تحيط بآزار الذي احمرت عيونه غضب يرى انتفاضة جسد ولده جواره والذي صرخ بجنون :
” هذا تعدي منكم على ملكنا، وهذه بمثابة حرب ملك إيفان ”
نظر إيفان بهدوء مثير للأعصاب جنوده يأمرهم بالتراجع، ثم قال بكل بساطة :
” لا بالطبع نحن لا نطمح للحرب أمير نزار، لكن يبدو أن الملك آزار يفعل، أن تتهمني في مملكتي بالتعاون مع أعداء الله فقط بسبب وجود خلافات بيني وبين مشكى لهو أمر مرفوض لي، أنا لم اجعلكم تتكبدون عناء المجئ هنا كي نتقاتل ونلقي بالاتهامات أعلى رؤوس بعضنا البعض، رجاءً اجلسوا كي نتحدث بهدوء ”
ختم حديثه يشير لجنوده بالتراجع كليًا، ثم حدج دانيار بتحذير والأخير انحنى بعض الشيء يجلس مجددًا، وحينما استقر الجميع تنهد ملك سبز يقول بهدوء وقد كان هو أكثر الملوك ميلًا للسلام، فما كانت دولته يومًا دولة قتالية، بل هي دولة زراعية من الدرجة الأولى :
” إذن نحن هنا للتحدث بأمور مشكى ومعرفة ما سنفعل، علينا إعادة المملكة والبحث عن فرد من أفراد العائلة المالكة كي نسلمه العرش، كل ذلك قبل أن تسوء الأمور أكثر وربما تفشل جميع النقاشات، و نضطر للحرب مباشرة.”
هز إيفان رأسه ببسمة واسعة مخيفة :
” نحن لا نضطر للحرب، بل نختار الحرب بكامل إرادتنا مولاي، فمثل هؤلاء الشراذم لا حديث لنا معهم، ولن تجمعنا بهم طاولة نقاش”
ابتسم له الملك يرى ملامحخ الهادئة والباردة بشكل يدعوك للفخر به وبتفكيره، ليمازحه بخفة :
” إذن اقترح أن تُسرع من عودة سالار، فلا أظن أنه سيحب تفويت حرب كتلك ”
اتسعت بسمة إيفان يقول :
” أنت تعلم مولاي أن لا أحد يستطيع التحكم بكامل قوات الجيش عدا سالار، لذلك بالطبع لن نتخذ خطوة دونه، فقط يعود ونرى بشأن مشكى ومن بها، الآن لندعو أن ينتهي من مهمته على خير، وأن يعود بملكتي قطعة واحدة دون إصابات صعبة العلاج ….”
__________________
تتحرك بشكل قوي بين يديه تحاول الإفلات والركض صوب الطابق الخاص بشقتها حيث تقف جارتها، تمد يديها بقوة في محاولة بائسة للامساك بسور الدرج ليساعدها في جذب نفسها وثيابها من بين أنامل ذلك الضخم، تقول ببكاء وخوف :
” بالله عليك لتسبني، أنا متنازلة والله، أنا أساسا مش هنفع، والله ما هنفعكم ابدا، أنتم لو ناويين تخربوا البلد بتاعتكم دي مش هتسلموها ليا ”
جذب سالار ثيابها صوبه زافرًا بقوة وقد ملّ كل ذلك :
” أنتِ يا امرأة عنيدة ومزعجة، ولولا أنكِ الملكة هنا لكنت تخلصت منكِ”
تحدثت المرأة التي تقف في الاعلى تستند على سور الدرج وهي تلوي ثغرها في كل الاتجاهات بشكل جعل سالار يحدق فيها بأعين متسعة منبهرًا بتلك القدرة العجيبة عندها، وشعر كما لو أنه يشهد اعجازً أمامه.
” يعني حوار حلمك برجالة مطلعش كلام، وطلع حقيقة مش حلم ؟؟ ”
رمقها سالار بعدم فهم، عن أي حلم تتحدث تلك المرأة، هل تحلم ملكتهم بالرجال ؟!
نظر صوب تبارك التي كانت ترتجف بغضب وعيونها تتقد غضبًا وهي تسمع حديث المرأة :
” مين ده يا منيلة وماسكك كده ليه؟ والله أنا طول عمري اقول عليكِ واحدة ملاوعة ومش مظبوطة ”
اتسعت عيون تبارك بصدمة من حديثها، وهي من كانت تستجير بها منذ ثواني، بالله كانت تستغيث بها، تطالبها بمساعدة وهي تدري أن تلك المرة إن وجدتها مقتولة على يد رجل، ستترك الجريمة والرجل وتلوي ثغرها مستنكرة أنها لم تجد سوى الرجل لتمت على يده، وهل انعدمت النساء ليعجزن عن قتلها ؟!
فجأة انفجرت في الصراخ وقد شعرت بالقهر والحسرة ترتفع في نفسها والعيظ يملئ صدرها :
” أقسم بالله أنك ست مش محترمة، يعني بستنجد بيكِ وشيفاه بيجرجرني من هدومي زي الدبيحة وتقولي عليا ملاوعة، الملاوعة دي تبقى امـ”
وقبل أن تكمل تبارك كلمتها صرخت بصوت مرتفع وهي ترى صمود قد وصل في ثواني عند السيدة ورفع عليها سكينًا ينظر للعملاق خلفها قائلًا :
” هل اتخلص منها سيدي ؟؟”
نظر لها سالار ثواني، ثم نظر لتبارك يتساءل :
” ما رأيك مولاتي، تريدين التخلص من صاحبة الفم المتموج تلك ؟؟”
لكن تبارك كانت ما تزال غارقة في صدمتها مما حدث، وفجأة، ابتسمت وهي تمسح دموعها بسرعة كبيرة كطفلة حازت حلواها المفضلة بعد ساعات من البكاء :
” هو أنا يعني لو قولتلك تقتلها هتقتلها عادي ؟!”
هز سالار رأسه بكل بساطة ونسي أنه ليس في مملكته لتسير قوانينه هنا على الجميع يقول :
” إن كانت سيئة أو مخطئة تستحق الموت فنعم سنفعل”
ابتلعت تبارك ريقها تبتسم وقد اعجبها الأمر كثيرًا :
” طب هو …هو أنا لو قولتلك تقتل حد عشاني، هتعمل كده ؟؟”
نظر لها بعدم فهم، لكنه أجاب ببساطة :
” من ؟”
اتسعت بسمة تبارك تتنفس بلهفة :
” كل اللي في الحارة، عايزة اخلص عليهم كلهم، واولهم الست دي وعم متولي ”
” هل هم مذنبون أو ارتكبوا إحدى الكبائر ؟؟
فكرت تبارك لثواني، هي حقا لا تعلم، لكنها تكرههم، تكرههم من اعماق اعماق قلبها :
” معرفش ”
” إذن لا يمكننا، حينما نتأكد يمكننا تنفيذ الحد عليهم، لكن دون شهادة حق أنهم اذنبوا فلا يمكننا، دعها صمود ولنرحل فلدينا رحلة عودة طويلة ”
ختم حديثه يتحرك على الدرج يسحب معه تبارك التي أشارت على السيدة التي سقطت ارضًا ترتجف من هول الموقف :
” طب والست أم بؤق متموج ؟! على الاقل عم متولي أنت فاكرة الراجل الخرفان بتاع المكتبة اللي لسه عايش في جلالة الماضي ده ”
لكن لم يستمع لها يدفعها للخارج وخلفه مرشديه، وهي فقط تسير بخيبة أمل كبيرة، هل سترحل هكذا بكل بساطة قبل أن ترى بعيونها هلاك ذلك المكان القذر بمن فيه ؟؟
فجأة توقف الأثنان بصدمة بسبب امرأة قاطعت طريقهم تقول ببسمة واسعة وهي تجذب خلفها طفل ضعيف البنية طويل القامة بملامح غير مهتمة :
” تبارك كويس إني لحقتك، تعالي ادي الواد انور الحقنة لاحسن المفروض كان ياخدها امبارح وملقتكيش قالوا أنك كنتِ مبيتة في المستشفى ”
نظرت لها تبارك بملامح حانقة كارهة لكل شيء واولهم ذلك العملاق الذي يحدق فيهم بعدم فهم وكأنه يتساءل عما يفعلونه، زفرت ولم تعلم بما تتحجج، فقاطعت أم أنور كل ذلك تمد يدها بالابرة تدسها بين يديها، ثم جذبت ابنها توقفه بينهما وهي تقول :
” يا ختي خلصينا هي كيميا ”
وبمجرد انتهاء كلمتها مدت يدها لتسحب ثياب ابنها كي تنتهي من الأمر وترحل، لكن فجأة أطلق سالار صرخة جهورية يجذب تبارك خلفه يضع كفه أعلى عيونها قائلًا بصدمة مما يحدث أمامه :
” يــــالـلــه يا مــــغــــيــــث …”
______________________
كانت تتحرك بين حدائق القلعة براحة شديدة، ليس وكأنها لم تنتهي بعد من عملها في الداخل، بل وأن رئيسة العمال تبحث عنها لإتمام ما وكّل لها، لكن هي هكذا تعشق الحرية، وتحبها أكثر إن كانت في وسط معمعة العمل، لكم هي محبة لتلك النشوة الداخلية وهي ترى الجميع يعمل وهي تهرب منهم ..
ابتسمت تتذكر ما حدث معها منذ ساعات حينما كادت تلك الفتاة الغريبة المسماه زمرد أن تجز عنقها، حمدًا لله أنها كانت من التعقل كفاية لتهرب منها.
فجأة وخلال شرودها أبصرت من بعيد أحد الفرسان يعتلي خيله ويركض به بسرعة كبيرة بين المروج وكأنه يمتلك الكون بأسره، يمارس الحرية مثلها، لكن حريته كانت أكثر متعة من خاصتها…
التمعت عيون برلنت وهي تنظر حولها بأعين حذرة، ثم وفي حركات متمردة، خلعت غطاء الرأس، ثم شرعت تخلع عنها تلك الطبقات الإضافية من الملابس والتي كانت خاصة بزي العاملات، وتركض بفستان رقيق بسيط جدًا مكون من طبقتين، صوب ذلك الخيّال الذي جعلها تبتسم بانبهار لفروسيته الواضحة، تركض بين المروج وحينما أصبحت في محيطه نظرت حولها بفضول شديد وقد قررت أن تراقبه علها تتعلم ما يفعل ويومًا ما تأتيها الفرصة لتعتلي فرسًا مثله .
فجأة التمعت عيونها بقوة وهي تصعد الشجرة المجاورة لها بسرعة كبيرة متمرسة، إذ كانت متمرسة في ذلك منذ طفولتها حين مساعدتها لوالدها في الحصاد .
وحينما استقرت فوق الشجرة ابتسمت تراقب بأعين منبهرة ذلك الفارس الذي كان يقود الفرس بمهارة منقطة النظير، عيونها فضولية وهي تراقب جسده القوي :
” لا عجب أنه بمثل هذا التمرس ”
وعند ذلك الفارس.
كان العرق يتصبب على جبين تميم بقوة كبيرة يسرع من ركض فرسه أكثر وأكثر، يجبره على الوقوف على قوائمه الخلفية متحكمًا فيه بكل مهارة .
لكن فجأة وهو بذلك الوضع لمحت عيونه الرمادية التي تتوسط وجه قمحي اللون، جسد صغير يختبأ بين الأشجار على مقربة منه، ضيق عيونه بتعجب كبير وفي ثواني غير طريق الفرس بسرعة كبيرة متحركًا صوب ذلك الجسد بسرعة مرعبة .
سرعة جعلت جسد برلنت يختض وينتفض بسرعة صارخة من ذلك المشهد وكأنه على وشك اختراق الشجرة وجسدها بحصانه، لكن ما لم تحسب له حسابًا هو أن اختضاض جسدها تسبب في ابتعادها عن فروع الشجرة وتهاوي جسدها بقوة..
أطلقت برلنت صرخات عالية مرتعبة تغمض عيونها، تستعد للاصطدام والذي كانت تدرك أنه لن يكون سهلًا، لكن ثواني مرت …ولا شيء ؟
ما الذي حدث ؟! هل أنقذها ذلك الفارس المقدام الشجاع ؟! هل تتحقق أحلامها الآن وحازت فارسًا شجاعًا وسيمًا ؟؟
فتحت عيونها بخجل شديد وقد بدأ وجهها يتورد شيئًا فشيء تهمس وهي تشعر باشتداد ثيابها من الخلف وقد خرج صوتها هامسًا خجلًا تحاول الإفلات من قبضته:
” خفف قبضتك أيها الفارس فثيابي رقيقة قد تتمزق بين أناملك ”
رفع تميم حاجبه وهناك بسمة جانبية ارتسمت على وجهه، حك طرف أنفه في حركة معتادة منه، يراقب تلك الواهمة التي منعت الشجرة سقوطها، حينما علقت ثيابها في أحد فروعها لتظل معلقة كالخروف عند سلخه ..
” حسنًا أيتها القردة، يمكنني تخفيف القبضة لأجل ثيابك العزيزة ”
ضيقت برلنت ما بين حاجبيها تشعر بأن صوته مألوف، مألوف للغاية على آذانها، ذلك الصوت الذي لم تسمعه سوى مرتين، وفي كلتا المرتين لم يكن لخير .
فتحت عيونها ببطء لتتحطم أحلامها على صخرة الواقع حينما ابصرته، ذلك المخبول الذي ألقاها بقنبلة في لقائهم الاول ..
وقبل أن تبادر بقول كلمة واحدة كان تميم قد أخرج سيفه وفي ثواني معدودة قطع الجزء العالق بالفرع مسقطًا إياها بقوة مرعبة جعلت صدى صرخاتها يرن في المروج حولها ..
وهو فقط ابتسم بلطف يقول :
” لا داعي للشكر ”
تنفست برلنت بوجع وهي تمسك ظهرها تطلق تأوهات ولعنات وسبات ومن ثم رفعت وجهها لتميم الذي كان يراقبها بكل هدوء تصرخ في وجهه بجنون :
” أنت….. أنت أيها المخبول، ما الذي فعلته ؟! لقد مزقت ثيابي، كيف …كيف سأعود الآن ؟؟”
نظر لها ثواني ثم هز كتفه بجهل :
” لا ادري بشأن ذلك حقًا، أنا فقط ساعدتك وهنا ينتهي دوري ”
وقبل أن يتحرك أوقفته بسرعة وبانفاس لاهثة :
” لا لا مهلًا انتظر أيها الـ ..”
نظر لها تميم شذرًا لتصحح ما كادت تقذفه في وجهه:
” أيها القائد، انتظر ارجوك، أنا فقط لقد ..”
أشارت على الطريق الذي جاءت منه تقول برجاء وتوسل :
” هناك بجانب ذلك المبنى الصغير تركت ثياب العمل العلوية، هلّا تكرمت واحضرتها لي كيف اخفي القطع في ثيابي ”
” ولِم من المفترض أن أفعل هذا ؟!”
” هذا لأنك فارس شهم وذو مروءة وضميرك لن يسمح لك بترك فتاة شابة مثلي تسير بثياب ممزقة داخل جدران مليئة بالرجال ”
نظر لها تميم ثواني وهو يضيق عيونه، ثم تحرك بخيله في بساطة شديدة يحرك كتفه :
” بلى سأفعل ”
وبالفعل ابتعد عنها تاركًا إياها تنظر في أثره بأعين متسعة وقد شعرت بالصدمة من تصرفاته، يا الله من أين ينحدر امثال ذلك الحقير القذر عديم المروءة والرجولة؟؟ لِم يوقعها حظها طوال الوقت مع امثال ذلك الرجل ؟؟
_ لا سامحك الله أيها الاحمق الفاشل، ويسمونك صانع أسلحة، بل انت صانعٌ للخيبة والـ …”
وقبل أن تكمل كلمتها وجدت فجأة ثياب العمل تسقط فوق رأسها بقوة وصوت من بعيد يهتف بنبرة عالية وقد قذف لها الثياب من مكانه:
” لنعتبر هذا تعويض صغير عما نالك من قنبلتي يا قردة، واحرصي ألا اقابلك مجددًا ”
ختم تميم كلماته ببسمة يتحرك بفرسه تاركًا إياها تزفر بصوت مرتفع تضم الثياب لصدرها وقد شعرت بشعلة غضب كبيرة تتلبسها :
” أيا ليت تتقاطع طرقنا، فاقطعك بأسناني يا فاشل ”
_________________________
حسنًا هي لا تبتأس، حقًا لا تفعل، فلأول مرة منذ لمحت وجه ذلك الاصهب العملاق يعجبها شيئًا فعله، أن ترى أم أنور ترتجف رعبًا بعدما وبخها لفعلتها، بل وتمسك يد ابنها وتهرول صوب منزلها وكأن الشياطين تركض في أثرها، لهو مشهد مستعدة لمشاهدته يوميًا دون كلل أو ملل.
ورؤية نساء الحارة اللواتي تحدثن في الأمس عنها بالسوء يرتجفن خيفة رفع عيونهن في وجهها، لهي متعة خالصة تستطيع تذوقها دون شبع .
شريرة ؟؟ نعم بل في غاية الشر حينما يتعلق الأمر بأهالي حارتها..
شاهدت المنقطة التي عاشت بها سنوات طويلة وهي تلوح لها من بعيد، وداخلها مشاعر عدة، لا تدري سعادة أنها تخلصت من منطقة كانت تسبب لها خنقة وتعب نفسي، أم حزنًا لترك ما خزنته من ذكريات في منزلها الدافئ الصغير، أم هو خوف من مستقبل مجهول غريب مع أشخاص في غاية الغرابة، أم ندم أنها لم تصرخ وتخبر الجميع أنها خُطفت ؟؟
حسنًا ربما تفكر في إجابة لكل هذا حينما تستيقظ من تلك الغفوة التي تُلح على عقلها برفع رايات الاستسلام لها، ومن هي لتعاند أو تقاوم، ولِم تقاوم من الاساس وهي تود الهرب من كل ذلك بالنوم ؟
تنفست بصوت مرتفع تشعر بالسيارة تتهادى فوق الارض الغير متساوية، ولا تدري من أين احضروها حتى أو كيف تدبروا أموال لاجلها، هي فقط تستمتع بهذه الغفوة قبل أن تستيقظ لتواجه العالم، والآن نامي تبارك وغدًا تواجهين العالم بكل قوتك .
كان سالار يراقبها بأعين غامضة تعلوها سحابة من السواد يخفي خلفها كل ما يفكر فيه وما يريده، يشعر نحوها بالتشتت، فهو يومًا لم يكن بالهين اللين، ولو كانت امرأة أخرى كان أخرج سلاحه وانتهى منها ومن كل ما تفعله من كوارث، لكنها وللاسف الشديد ملكة لمملكته .
تنهد يريح ظهره للخلف يراقب ذلك الرجل الذي أرسله حليفهم في هذا الجانب كي يتحركوا للعودة، العودة التي لن تكون سهلة أبدًا خاصة بوجود امرأة ضعيفة كالملكة .
نظر صمود صوب صامد يهمس له بصوت مكتوم وعيونه ما تزال تحلق حول سالار وتبارك :
” إذن هل تعتقد أن تلك الفتاة ستصبح حقًا ملكة علينا ؟؟ أنها ضعيفة و…غبية ؟؟”
ابتسم صامد بسخرية لاذعة ثم نظر هو الآخر صوب تبارك يقول بحنق :
” يا عزيزي حينما تنضج ستكتشف أن الاغبياء فقط هم من يتقلدون مناصب داخل مملكتنا، أما الاذكياء أمثالنا مهدور حقهم ”
” نعم أنت محق صامد، أشعر بالظلم، لطالما تجاهلونا ولم يفكروا بنا إلا حينما يودون القيام بمثل تلك الرحلات المملة، لو أن هناك ذرة عدل في هذه المملكة لأصبحت اليوم قائد الجيوش ”
تحدث سالار بصوت منخفض وهو ما يزال يستند برأسه على المسند خلفه ونبرته خرجت هادئة مرعبة تحمل وعيدًا بالهلاك لهما بعدما استنزفا كامل فرصهم معه :
” نعم يا صمود، أنت محق، نحن مملكة قامت على الغباء والظلم، لأنه لو كان هناك ذرة عدل واحدة لكنتما الآن تتحاسبان في قبركما، لكن ماذا نقول وقد تفشى الظلم بيننا لدرجة أننا نترك بعض الاغبياء مثلكم احياء يرزقون”
ابتسم له صمود بسمة غبية يعتدل في جلسته :
” لا لا يا سيدي العفو، أنا فقط كنت افكر بصوت عالٍ”
ابتسم له سالار ببرود شديد وملامح جامدة تبث قشعريرة داخل صدورهم :
” حسنًا، احرص إذن على إخفاء اصوات افكارك الحمقاء تلك، وإلا حرصت أنا على إخماد صوتك من هذه الحياة كليًا ”
وبهذه الكلمات صمت الجميع ولم يعلو سوى صوت الأنفاس في السيارة التي يقودها أحد رجال معاونهم، وسالار ما يزال يجلس يحدق بالطريق في الخارج يتعجب مقدرة هؤلاء البشر على تعريض بيئتهم لمثل ذلك التلوث مستخدمين تلك القطعة الصفيح في التنقل، وهو من تسائل عن ثقل الهواء منذ وطأ تلك الأرض، لا ينسى صدمته حين ابتلعته تلك العلبة الصفيح الضخمة وتحركت به، الأمر أشبه يحصان لكن امتطاء الحصان افضل بكثير …
تنهد بصوت يمسح وجهه مفكرًا في القادم، بالله ما الذي أوقع نفسه به ؟؟ أما كان بقادرٍ على قول لا فقط وتجنب كل تلك المشقة ؟؟
نظر بطرف عيونه صوب تبارك يقول بحنق :
” وأنتِ تنامين براحة وكأننا في رحلة، ومنذ دقائق كدتي تقسمين رأسي من صراخك وبكائك ..”
وقبل أن يضيف كلمة لجملته السابقة، شعر بتوقف قلبه للحظات، لحظات قليلة اختبر جسده ولأول مرة كيف يكون شعور أن تمسه امرأة ولو كانت لمسة عابرة غير محسوسة، ابتلع ريقه مبعدًا عيونه عن الطريق، ثم استدار ببطء شديد صوب رأس تبارك التي استقرت أعلى كتفه، بلل شفتيه يفكر في طريقه لابعادها دون أن تستيقظ كي لا تصرع رأسه بالصراخ والعويل والنحيب بعدما واخيرًا توقفت عن كل ذلك.
واخيرًا هداه عقله أن يخرج خنجرًا من ثيابها، ويضعه بالجزء الخلفي على رأسها دافعًا إياها به ببطء شديد، لكن تبارك وكأنها استشعرت أن أحدهم يحاول تخريب راحتها فضربت يده بقوة دون شعور تعود مجددًا لذلك المكان المريح الذي تنام به .
وسالار ضم كفه الذي ضربته منذ ثواني له يرمش بقوة وصدمة شديدة، ابتلع ريقه وقد زاد إصراره على إبعاد تلك الرأس عنه وكأنها جرثومة أو ميكروب يخشى أن يتسربوا لمسامه ويتسببوا بكارثة في جهازه المناعي .
مجددًا وضع الخنجر على رأسها يدفع رأسها ببطء شديد وحذر، لكن فجأة فتحت تبارك عيونها بقوة لتبصر أول شيء أمامها هو خنجر موجه لرأسها، نظرت لسالار وهو نظر لها بصدمة وقد علم أنها الآن ستستغل ذلك وتصرخ مجددًا ..
ابتلع ريقه ولم يكد يتحدث بكلمة يبرر بها ذلك الوضع قبل أن تفكر هي في أنه يود التخلص منها وتقطيعها لبيعها أعضاء كما تردد، وهذا ما يجعله يفكر من يا ترى سيشترى أعضاء انسان ؟! وماذا سيفعل بها ؟؟ هل يتناولون لحوم البشر هنا ؟؟
نظرت تبارك للخنجر ثواني إضافية قبل أن تقول بصوت ناعس غير واعي لما يحدث :
” وصلنا ؟!”
نفى برأسه في هدوء شديد لتتنهد هي براحة وتعود للنوم، دافنة رأسها في ذراعه، ضاممة إياها لصدرها في براحة شديدة وهو عيونه اتسعت أكثر وشعر بقرب انفجاره مما يمارسه على نفسه من ضغط كي لا يبعدها للخلف بحدة، ويضرب رأسها في علبة الصفيح المتحركة، لكن وحينما بدأت تضم ذراعه أكثر، أطلق سالار صرخة معترضة جاذبًا ذراعه لصدره هادرًا بصوت مستنكر حانق :
” ما بكِ يا امرأة ستبتلعين ذراعي ”
استفاقت تبارك بصعوبة وهي تنظر له بعدم فهم، وهو انكمش في ركن السيارة بعيدًا عنها يحدجها بنظرات نارية :
” أنتِ ألا تخجلين من نفسك ؟! اعتدلي في جلستك وتأدبي، وتعلمي أن تتعاملي كملكة لا كفتاة حمقاء ”
نظرت تبارك حولها بأعين منغلقة، ومن ثم نظرت له وقالت وهي تحاول أن تفهم ما يريد :
” هو احنا عدينا على استراحة ؟! عايزة ادخل الحمام ”
_____________________
” نعم، أنت تعلم ما عليك فعله دانيار، نسق مع جيش مملكة سنز، ومن ثم انتظر عودة سالار لنبدأ الغارة نحو مملكة مشكى ”
ختم إيفان حديثه وهو يسير في طرقات القصر وجواره يسير دانيار يهز رأسه بتفهم شديد عالمًا كل ما سيفعل، وحينما انتهى من الحديث لمح دخول تميم من باب القصر ليستأذن من الملك ويرحل …
وايفان اكمل طريقه بكل هدوء يتنفس بصوت مرتفع محاولًا أن يفكر في القادم، الأمور تسوء، والمنبوذون يزدادون بطشًا، والخوف كل الخوف أن يتمكنوا من مملكة اخرى، حينها لن يكون الأمر في صالحهم أبدًا .
توقف مستندًا على سور القصر وعيونه شردت بعيدًا لا يرى أي شيء ولا يعطي انتباهه لشيء سوى افكاره الداخلية، لكن فجأة لفت انتباهه حركة غريبة في الجزء الخلفي من القصر، بعيدًا بعض الشيء حيث مزارع القلعة رأى جسدًا يتسحب ببطء بعيدًا عن العمال ..
ثم جلس على أحد الصخور بهدوء شديد ليس وكأنه يمتلك عملًا، ابتسم إيفان بسخرية :
” يبدو أن هناك من تهرب من عمله ”
وعند ذلك الجسد كانت كهرمان تنظر كل ثانية والأخرى خلفها بخوف أن تراها إحدى العاملات وتشي بها لدى الرئيسة وتجبرها على ذلك العمل المقزز .
نفضت ثياب العمل تتذمر بصوت مرتفع وبلهجتها دون حذر :
” لا سامحهم الله، لقد كادوا يلوثونني لاضطر بعدها للبحث عن مرحاض نظيف بعيدًا عن تلك المراحيض الضيقة ”
تنفست بصوت عالٍ وهي تستند على شيء خشبي خلفها تردد بينها وبين نفسها :
” سأبقى هنا لحين يتم الانتهاء من العمل في الحظيرة ومن بعدها اعود لمخدعي لاحصل على طعامي ”
ابتسمت لتلك الفكرة، تحاول تخيل ما تفعله زمرد في تلك اللحظة، تلك الفتاة لا تهدأ، كالشعلة طوال الوقت تبحث عن كومة قش لتُحدث حريقًا كبيرًا ..
وعلى بُعد صغير كان يقف إيفان الذي هبط ليبدأ مبارزته مع أحد الجنود، خلع كل ما يحمل من دروع على صدره وذراعه، ثم حرك رقبته بهدوء يتحرك ليمسك سيفه وعيونه ما تزال مع تلك الفتاة التي كانت ما تزال تجلس على الصخرة بشكل غريب، ما بالها تلك المرأة ؟؟ هل هي مريضة أو ما شابه ؟؟
نادى لأحد الجنود المحيطين به كي يرسله لها ليرى إن كانت مصابة أو شيء من هذا القبيل، لكن ما كاد يفعل حتى أبصر جسد الفتاة يسقط للخلف فجأة وقد تسبب جسدها في فتح باب الحظيرة حيث يحتفظون بقطيعٍ من الثيران .
” أوه لا ليس مجددًا”
وفي ثواني صرخ إيفان بصوت جهوري للجنود المحيطين به خوفًا أن يخرج الثيران ويتسببون بأذىة أحد داخل جدران القلعة :
” أذهبوا واغلقوا باب الحظيرة قبل خروج الثيران ”
وعند كهرمان كانت تجلس بهدوء شديد تدندن بعض النغمات الحزينة التي تذكرها بوالدتها، تتكأ بكل قوتها للخلف دون معرفة أنها تستند على باب وليس جدار خشبي كما تظن، وفجأة شعرت بجسدها يهوى بقوة على الأرضية .
تأوهت بصوت مرتفع وقد ارتفعت قدمها في الهواء وزُرعت رأسها في الأرض كنبات البصل، تأففت وهي تحاول الاعتدال وقد سقط غطاء وجهها، ولم تكد تجلس حتى سمعت صراخ بصوت جهوري .
اعتدلت بعدم فهم لتبصر بصدمة واعين متسعة مجموعة من العمال والجنود يركضون صوبها بسرعة مخيفة وكأنهم يهرولون صوب عدو في حرب ما.
نهضت كهرمان بعدم فهم تحاول ترتيب ثيابها وهي تتراجع للخلف بريبة :
” ماذا ؟؟ أنا فقط كنت التقط بعض الأنفاس وسأعود للعمل مجددًا، اقسم لكم ”
لكن استمرار ركض الجنود صوبها تسبب في تراجعها للخلف صوب الجدار الخشبي تصرخ بفزع وخوف، لكن ما لم تحسب له حساب أن ما خلفها لم يكن جدار خشبي أبدًا ..
شعرت بهواء قوي يضرب ظهرها، استدارت بتعجب لتُصدم بمنظر جعلها ترتعب أكثر من مشهد ركض الجنود والعمال صوبها، تراجعت بظهرها بسرعة كبيرة للخلف وهي ترى تحفز بعض الثيران للركض صوبها، ابتلعت ريقها ودون أن تمنح عقلها فرصة التفكير كانت تركض بسرعة كبيرة خارج الحظيرة وصرخاتها تكاد توقظ الموتى من القبور .
وعلى بعد صغير يقف إيفان بكامل هيبته يراقب الجنود يحاصرون الثيران بكل شجاعة معيدين إياهم للحظيرة واغلقوها، وتلك الحمقاء تركض في المكان صارخة بشكل جنون جعله يزداد اشتعالًا متوعدًا لها بعقاب رادع، فهو سبق وحذر أي امرأة من تخطى حدود تلك الحظيرة .
بكت كهرمان وهي تركض وتنظر خلفها، دون أن تعي أنها تجاوزت منطقة الرجال ودخلت لساحة القتال، وفجأة شعرت بجسدها يصطدم في جسد آخر بقوة لتسقط معه ارضًا لشدة اندفاعها.
وايفان قد اتسعت عيونه بصاعقة لا يصدق أن هناك امرأة تقبع الآن بين أحضانه .
هي نفسها تلك التي كانت في مرحاضه .
تمسكت به كهرمان تتوسله برعب :
” ارجوك ساعدني ”
مدّ إيفان يده يقول بصوت خافت جعل جسدها يرتجف برعب أكبر من ذلك الذي شعرت به حينما أبصرت الثيران :
” إن لم تنهضي من فوقي في هذه اللحظة، صدقيني لا يمكن لأحد أن يساعدك مما سأفعل بكِ ”
وسريعًا انتفض جسد كهرمان للخلف تسقط على ظهرها مصطدمة في جدار جانبي يتم تعليق الثياب تراقب الجسد الساقط أمامها والذي لصدمتها كان الملك.
همسات برعب وهي تحاول ابتلاع ريقها مما ألقت به نفسها :
” أوه لا، ليس هذا يا الله …”
_________________________
خرجت من المرحاض لتصطدم بوجود سالار يقف أمامها دون أن يضع في اعتباره أنه يقطع الطريق على أي امرأة تفكر في اللجوء للمرحاض، هكذا بجسده العملاق يمنعها حتى من التنفس بعيدًا عن عينيه، قلبت تبارك عيونها وهي تشير له أنها تود المرور، وبالفعل سمح لها يشير صوب السيارة الخاصة بهما التي تقف أمام تلك الاستراحة، لكنها فجأة توقفت تقول باعتراض :
” لحظة أنا …أنا جعانة وعايزة اشتري حاجة اكلها، خليك هنا وانا هشتري وأخرج على طول ماشي ؟؟”
ختمت حديثها تركض بسرعة كبيرة صوب المحل الذي يتوسط الاستراحة، تمني نفسها بطريقة عبقرية للهروب منهم، لكن صوت فتح الباب خلفها وذلك الضل الذي يشرف عليها من أعلى اخبراها جيدًا أنها لم تخمن..
زفرت تتقدم للمحل تلتقط بعض الأطعمة التي قد تعينها على الطريق، وخلفها سالار الذي كان يحدق في كل ما تحمل بأعين متعجبة يحاول استكشاف كل ما تشتريه :
” ما هذه الأكياس الملونة ؟؟”
” دي ؟؟ دي اكل عادي وتسالي وكده يعني ”
” وهل تضعون الطعام هنا في اكياس ملونة؟! بالله عليكم أي اهتمام ورعاية صحية هذه ؟؟ ”
نظرت له بعدم فهم ثم حدقت مجددًا في الطعام وقالت ببساطة :
” عادي ده بلاستيك صحي على فكرة ”
” ومن أخبرك بهذا ؟؟ ”
نظرت له ببلاهة لثواني وحينما عجزت عن الرد قررت أن تتحرك صوب الرجل لتحاسب على ما اشترته، لكن مجددًا تلك الشوكة التي تقف في حلقها لحقت بها وتوقف جوارها يقول :
” لا يجوز أن تدفعي من أموالك الخاصة، هذا مرفوض، أنا سأفعل ”
وبمجرد انتهاء حديثه أخرج من جيب بنطاله كيس قماشي كالسرة يضع به العديد من العملات الذهبية، ومن ثم أشار صوب الاشياء التي ابتاعتها تبارك يقول بجدية :
” بكم قطعة ذهبية تقدر تلك المفاسد يا رجل ؟!”
نظر له البائع ببلاهة وفم مفتوح، وقد شعر لثواني أنه سُحب لأحد افلام صدر الاسلام، نظر صوب تبارك يقول متسائلًا :
” هو عايز ايه لا مؤاخذة ؟؟”
جذب سالار رأسه له يقول بحدة :
” حدثني كرجل ولا تمدن عينيك للنساء، أخبرتك كم تريد مقابل تلك الأشياء الفاسدة ؟؟”
” الله الله الله، مالك كده يا استاذ استهدي بالله، فاسدة ايه لا مؤاخذة بص على الصلاحية بتاعتها، هتلاقيها لسه باقي أيام، ايه يا ابلة ما تشوفي الاستاذ اللي بيكلمني بقرف ده ”
نظرت تبارك صوب سالار بلوم، لكن الأخير لم يلتفت لها، بل فقط اطال التحديق بعيون ذلك الرجل وقال بصوت بارد كالصقيع ومرعب ومجمد للاوصال وهو يخرج عملة ذهبية من السرة بيده ضاربًا بها فوق المكتب أمامه:
” خذ أموالك وتوقف عن الحديث والثرثرة كي لا يطولك مني ما لا يسرك ”
ابتلع الرجل ريقه وهو يأخذ ما قدمه وجسده يرتجف، لكن بمجرد أن وقعت عيونه على القطعة المعدنية قال دون شعور :
” ايه ده يا روح امك ؟! جايب حتة حديد وبتدفع بيها ”
شهقت تبارك بصوت مرتفع ونظرت لسالار الذي لم يبدي أي ردة فعل وهو يقول بجدية :
” هذه عملية ذهبية ”
حدقت به تبارك دون فهم :
” أنت بتكلمه بهدوء كده ليه وهو هانك ”
” ماذا ؟! سبني للتو ؟؟ متى فعل ذلك ؟!”
” قالك يا روح امك ”
تغضنت ملامح سالار بتفكير وعدم فهم، ثم نظر صوب البائع الذي انعزل عنهما، يستكشف تلك القطعة الذهبية كي يتأكد من صدق حديثه، ليتجاهله سالار ويعود بنظره صوب تبارك يقول ببساطة :
” وماذا في ذلك ؟؟ أنا أحب امي وقد كنت روحها بالفعل، كانت دائمًا تخبرني أنني روحها وكل حياتها، لذلك ما الضير أن يخبرني أنني روح والدتي ؟؟ ”
اتسعت أعين تبارك بعدم فهم، ثم ابتسمت وهي لا تصدق ذلك الرجل، هل هو حقًا من عالم منعزل لهذا الحد ؟!
” روح امك دي هنا شتيمة ”
” حقًا ؟! ولِم تتخذونها سبة ؟؟”
قالت بعصبية كبيرة وهي لا تريده أن يكون بهذا الهدوء، هي غاضبة لأجله وهو بهذا البرود :
” عشان …عشان …معرفش ليه، بس هو نيته كان يشتمك ويهينك ”
نظر سالار صوب الرجل الذي كان ما يزال مشغولًا فيما يحمل :
” لا اعتقد ذلك، أنا لا افترض سوء النية بأحد، لذلك دعينا نرحل لنكمل رحلتنا ”
ختم حديثه يشير لها بالرحيل، وتحركوا تحت أعين الرجل التي كانت تلتمع بجشع كبير وقد وقعت عيونه على السرة التي تصدر رنينًا بسبب كثرة العملات داخلها ..
ابتسم بسمة مخيفة وهو يمني نفسه بثراء سريع …
خرجا الأثنان صوب السيارة وأشار سالار للسائق أن يتحرك، لكن وقبل أن يفعل سمع الجميع صوت البائع يصرخ بهم :
” لحظة يا استاذ نسيت حاجة”
توقف السائق عما كان يفعل ولم يتحرك بالسيارة قيد انملة، ينظر للبائع الذي ركض صوبهم يميل على السيارة الخاصة بهم، تحديدًا جهة سالار يقول ببسمة :
” نسيتوا حاجة جوا ..”
نظر له سالار بأعين ضبابية هادئة:
” لا، يبدو أنك مخطئ يا سيد نحن لم ننس شيئًا ”
وقبل أن يشير للسائق بالتحرك أصر عليه البائع بالحديث وهو يمد جسده أكثر داخل السيارة مستغلًا أن الطريق فارغ في ذلك الوقت ولأنه طريق سفر لا تعبر له العديد من السيارات سوى في أوقات معينة :
” لا صدقني نسيت ”
وفجأة أخرج سكين يصوبه على رقبة سالار ببسمة مقيتة والجشع يقطر من عيونه حتى انكمشت ملامح سالار باشمئزاز وهو يسمعه يردد :
” نسيت دي….”
__________________
اقتربت ببطء شديد من مخازن الأسلحة وكل ثانية تنظر خلفها بتوتر شديد مخافة أن يمسك بها أحدهم تحاول سرقة سلاح، وقتها تعلم يقينًا أنهم لن يكفيهم إعدامها بتهمة الخيانة بعد أن تثبت .
كان جسدها يرتجف بقوة وهي تحاول أن تتماسك بعض الشيء تذكر نفسها، أنها ما تفعل ذلك سوى لأنها تحتاج لشيء تحمي به نفسها وكهرمان بدل ذلك الخنجر الصدأ، الأمر مجرد وقت حتى يحدق بهما الخطر بهما من كل جانب، وبمجرد أن كادت تصل للغرفة التي يحتفظ بها الجنود بالأسلحة توقفت فجأة بفزع وهي ترى أحد الجنود هناك، كيف ذلك هي تأكدت أنهم جميعًا في استراحة الطعام، بللت شفتيها وهي تنظر له تلعن حظها في نفسها وقد فشلت الخطة، الآن عليها الرحيل ومحاولة الأمر لاحقًا ..
استدارت كي تغادر المكان، لكن ما كادت تفعل إلا وشعرت بيد تكمم فمها بقوة وشخصٍ ما يسحبها بعيدًا عن الحارس وهي تتحرك بعنف كبير بين يديه وقد بدأ وجيب قلبها يعلو والادرينالين يزداد ضخه داخل اوردتها، بحثت بين طبقات ثيابها عن خنجرها لكن فجأة خمدت حركة جسدها وهي تسمع صوتًا يردد :
” لا تصدري أي صوت، إن كنتِ ترغبين في الحياة ”
صمتت زمرد وهدأت حركة جسدها تسير خلف ذلك الرجل الذي سحبها للخارج من باب غريب، وثواني قليلة حتى وجدت جسدها يُدفع بقوة كبيرة صوب أحد الجدران وقبل أن تستوعب شعرت بنصل حاد يستقر على رقبتها وصوت يهمس :
” والآن ستخبرينني كل شيء، غنائك ذلك اليوم في الحديقة وبتلك اللهجة، حملك لخنجر بين طرقات القصر، واقتحامك محزن أسلحة القصر لسرقة ما به ”
رفعت زمرد وجهها صوب دانيار الذي كان ينظر له بأعينه في شر كبير ووجهه يلتمع بنية خبيثة، لكنها ببساطة ابتسمت تتأكد أن لثامها لم يتحرك تهمس له بصوت خطير وهي تخفض السيف الخاص به، ثم أخذت تقترب منه قائلة بصوت خفيض :
” هل تحاول اخباري أنك تهتم لأمن مملكتك ؟؟ إن كنت تفعل ما كنت لاظل حية حتى هذه اللحظة يا سيد ”
ابتسم دانيار بسمة مظلمة يعض شفتيه، ثم دس خنجره داخل غمده يهز رأسه وهناك نظرات سوداوية داخل عيونه :
” يمكنك القول أن مطاردة الفأر واللعب معه، افضل من وضع مصيدة له والتخلص منه بكل بساطة ”
” وهل تعتقد أن ذلك الفأر احمق ليدخل مصيدتك ؟؟”
” إن أردت أنا سيفعل ”
أمسكت زمرد سيفه وهي تقول :
” أخبرني الحقيقة، ما الذي ترنو إليه من وراء مراقبتك لي، فلا تقنعني أن رؤيتك لي هنا هي محض صدفة لا أكثر”
اطال دانيار النظر لعيونها ثم همس ببساطة :
” ومن أنتِ يا امرأة لاختلق صدفًا كي أراكِ ؟؟”
صدمة أصابت أوصال زمرد لرده القاسي، الذي جعلها تصمت ثواني لكنها تداركت الأمر سريعًا، تهز رأسها بهدوء تقول :
” إذن ما الذي يجعلك تدور خلفي ؟؟”
” ما تحملينه من اسرار، لا تعتقدي أنني احمي حياتك لاجل عيونك السوداء تلك، بربك أنا حتى لا اعلم من أنتِ، لكنني فقط احتفظ بكِ لأن جثتك مقطوعة الرأس لن تجيب اسألتي، صحيح ؟!”
ماهر وفذ ومتحدث جيد، هذا كل ما استطاعت زمرد معرفته خلال مقابلاتها القصيرة مع ذلك الرجل، هذا كله وهي تتحدث مع جندي عادي، بالله كيف سيكون الوقوف أمام الملك أو القائد الذين سمعت عن بطشهم وجبروتهم، و لن تدرك أنها الآن في حضرة دانيار …قائد الرماة أجمعين.
ابتلعت ريقها تقول بجدية :
” أنا فقد اود ما احمي به نفسي، أنا لا اهاجم بل ادافع فقط ”
” ممن ؟؟ تحمين نفسك ممن ؟؟”
نظرت له ثواني ثم قالت :
” من المنبوذين …لقد كنت أعيش في مدينة الشمال التي احتلها المنبوذين قبل تحرير القائد سالار لها، وقد قتلوا جميع أفراد أسرتي وأنا قتلت واحدًا منهم وهربت مع شقيقتي وجئت كي احتمي بقصر الملك ”
تنهدت بصوت مرتفع بعدما انتهت من قص ما تريده وهو نظر لها ثواني، ثم هز رأسه ببساطة يقول :
” لا اعتقد أنكِ بحاجة لحماية نفسك أسفل اسوار القصر، فأنتِ هنا في حماية الملك والجنود، كما جميع المملكة بالضبط، ما كان الملك سيسمح لأحد أن يتعدى على حكمه، وأنا آسف لفقدك، لكن لا انصحك بمحاولة اقتحام المكان وابتعدي عن تلك التصرفات المريبة كي لا تقعي تحت يد من لا يرحم ؟؟”
قالت دون تفكير :
” سالار تقصد ؟؟”
” القائد سالار، حينما تذكرينه احترميه، ونعم هو أو الملك لن يرحموكِ إن علموا ما كنتِ تفكرين في فعله، فالملك لا يسامح المخطأ تمامًا كما سيفعل مع شقيقتك، أوليستِ هي نفسها تلك كهرمان ؟؟”
وحينما ذكر دانيار كهرمان التي علم عنها من خلال مراقبتها، ركضت صوبه زمرد بوجه شاحب وجسد مرتجف تهتف بعدم فهم وصدمة :
” ماذا ؟؟ ما بها كهرمان، ماذا فعلت ؟؟”
___________________
كانت تقف أمامه وهي تشعر بنظراته تكاد تخترقها، لكنها لم تسمح لنفسها أن تنظر ارضًا أو تنحني لأحد، تتبع نصائح زمرد واخيرًا، لكن للاسف في الوقت الخطأ .
تقدمت داخل القاعة حيث يجلس إيفان يحدق بها وجواره يجلس بعض المستشارين :
” أنا فقط اريد معرفة ما هو جرمي ؟! بالله عليكم لا تخبروني أن كل تلك المحاكمة فقط لأنني سقطت على الملك ”
اتسعت عين إيفان ينظر لها بشر وتحذير جعلها تبتلع باقي كلماتها، وقد تحركت الأنظار صوب إيفان الذي تجاهلهم وهو ينظر لها بحنق، يتحدث بصوت هادئ مخيف :
” بالطبع نحن لا نعقد محاكمة لأجل أسبابك التي ترينها تافهة، لكن أنتِ متهمة بالتخريب، بل كدتي تتسبب في أذية الكثيرين لاهمالك الشديد وتحرير الثيران من الحظيرة ”
اتسعت عين كهرمان وقد عادت للخلف بعدما استوعبت ما يقصد، نظرت حولها لتجد جميع الأنظار موجهه لها وهي تقف بينهم لا تعلم ما تفعل، فكرت بالبكاء والنحيب الآن، لكنها فجأة تذكرت أنها ليست بالمنزل وهذا ليس شقيقها ليسارع ويراضيها .
” حسنًا أنا آسفة، اقسم أنني لن اهرب من العمل مرة أخرى واذهب للجلوس عند حظيرة الثيران ”
فتح إيفان عيونه لا يصدق تلك الغبية التي تبحث عن تهم تلقيها على عاتقها، أحضرها لأجل معاقبتها على الاهمال، لتعترف أنها اسقطته، وأنها تهربت من العمل وكل هذا دون أن يحدثها أحد بكلمة واحدة، أمثال هذه الفتاة هم نعمة إن كانوا من الأعداء .
هو في العادة لا يقسو في عقاب النساء إن كان الجُرم بسيطًا، لكن من أمامه تشعره برغبة عارمة في الحكم عليها بالقتل لغبائها .
تنفس إيفان بصوت مرتفع ثم قال بهدوء شديد وملامح جامدة لا تفارقه عادة :
” حسنًا يا آنسة، عقابًا على اهمالك وتهربك من عملك، فأنتِ مكلفة ولمدة عشر أيام بحصد الثمار مع النساء ومن ثم التحرك صوب الحظيرة لجمع البيض وتنظيفها ”
اتسعت أعين كهرمان بصدمة :
” ماذا ؟؟ لكن أنا، أنا فقط اعمل داخل القصر و…”
قاطعها صوت مرتفع جهوري غاضب :
” هل تتجرئين وتعترضين على أوامر الملك ؟!”
ارتعش جسد كهرمان تنفي برأسها في سرعة كبيرة ثم اخفضت رأسها بعض الشيء تبتلع مرارة الذل ببطء شديد دون كلمة :
” العفو مولاي، أوامرك ”
نظر لها إيفان ثواني وهو يرى انكسارها واضحًا، رغم أنه لم يبالغ في عقابها كما يفعل في مثل تلك الأمور الصغيرة، لكنه لم يهتم، بل قال بهدوء وبرود شديد :
” يمكنك الرحيل ومن الغد تنفذين ما أُمرتِ به ”
هزت رأسها ببطء، ثم تحركت للخارج بخطوات هادئة راقية، وبمجرد أن خطت خارج القاعة حتى ركضت بسرعة باكية، في الوقت الذي لمحت ركض زمرد من الطريق المعاكس، وما كادت زمرد تتوقف للاستفسار عما حدث حتى ارتطم جسدها في أحد أعمدة الرخام البيضاء التي تحد الممر بفعل دفعة كهرمان .
اتسعت عيونها تراقب ركض كهرمان بعيدًا باكية وهي تنظر حولها بعدم فهم :
” ما الذي يحدث هنا ؟؟؟”
_________________
” نسيت دي ..”
وعقب تلك الجملة التي توقع الرجل أن يحدث بها هلعًا أو على الأقل توترًا داخل السيارة، لم يسمع أحدهم صوتًا سوى صرخات فقط، صرخات صدرت من ذلك البائع .
إذ نظر له سالار ثواني معدودة قبل أن يمسك يده التي كان يمدها داخل السيارة ودون تفكير كان يجذب جسده بقوة مخيفة للداخل متسببًا في انتفاضة جسد تبارك جواره وهي ترى رأس البائع قد أصبحت متدلية جوار قدمها .
ودون أن يتحدث أحدهم بكلمة كانت يد سالار تعرف طريقها صوب السكين تنزعه بكل احترافية، ثم جذب رأس البائع صوبه ومازال جسده معلقً على النافذة وقد اصبحت السكين مصوبه لصدره وهو يتحدث بهسيس :
” أخبرتك أنا لم أنس شيئًا، فهمت ؟؟”
كان الرجل في حالة ذهول يشعر أنه سقط كالبهيمة في الفخ، فهو حتى لم يستوعب كيف ومتى أصبح نصف جسده داخل السيارة والسكين موجه له هو، ابتلع ريقه يحاول أن يتحرر، لكن سالار ضغط على رأسه وهو يقربه منه أكثر وقد أوشكت رأس البائع على الانفجار من شدة الضغط :
” ألا تستطيع الرضا بما في يديك يا هذا ؟؟ محاولتك لأخذ ما ليس لك لن تعود على حياتك بالنفع ولو أضحيت ثريًا، فهمت ؟؟”
هز الرجل رأسه سريعًا وهو يحاول الإفلات منه :
” فهمت، فهمت يا باشا ”
ابتسم له سالار بسمة لم تكن بالسعيدة أو الفخورة، لكنها كانت مخيفة مسببة لارتعاش جسد البائع، وشيئًا فشيء حرر جسده ملقيًا إياه للخارج ومن ثم ألقى سكينه عليه وقال بصوت هادئ :
” هيا تحركوا ”
وتحركت السيارة بالفعل تحت نظرات الصدمة من تبارك، لا تكاد تصدق ما حدث منذ ثواني، الأمر تم بسرعة كبيرة حتى أنه لم يعطيها فرصة الصراخ أو الفزع، فجأة استدار رأس سالار لها لتطلق صرخة كتمتها بكفها وهي تبعد عيونها عنه .
تهمس لنفسها :
” طلع مجرم محترف، ههرب منه ازاي ده ؟؟”
سمعت صوته الذي خرج هادئًا :
” لا تقلقي، فلن يطولك سوءًا مني، هذا لأنكِ لن تنجحي في الهرب على أية حال، لذلك ما رأيك أن ترضخي للأمر الواقع وتسلمي لحقيقة أنكِ ملكة مملكة سفيد، وأنني لن افلتكِ حتى يتسلمك مني الملك ”
ابتلعت ريقها تبعد عيونها عنه، كي لا يرى نظرات عدم التصديق تلوح في نظراتها، هي ما تزال غير مصدقة لروايته رغم كل الأدلة التي تشير لعكس ذلك .
وبعد ساعة تقريبًا وحينما بدأ جسد تبارك يسترخى ويتحرر من خوفه الذي نمى بسبب ذلك الموقف، بدأت هي تخرج الطعام الذي احضرته وتتناوله بتلذذ وجوع كبير، وجوارها سالار ينظر أمامه بهدوء شديد دون أي حركة منه، لكن فجأة شعر بشيء يوضع على قدمه…
أنزل عيونه ليجد عبوة بلاستيكية ملونة وصوت تبارك تقول ببساطة من بين مضغاتها :
” كله هيعجبك طعمه اوي ”
نظر لها بأعين جامدة هادئة، ثم أمسك تلك العبوة يحركها بين يديه وهو يقول دون أن ينظر لها وبكل صرامة :
” لا يجوز لكِ التحدث أثناء الأكل، هذا يخالف آداب الطعام ”
نظرت له بصدمة لا تصدق أنه كان من الوقاحة التي تجعله يتجاهل بادرتها اللطيفة وتضحيتها العظيمة حينما أعطته بعض طعامها الذي اشترته بأمواله هو، ويعلق على طريقتها في الأكل.
وقبل أن يكمل سالار تفحص تلك العبوة الغريبة بين أنامله ومعرفة مما تتكون أو كيف تستخدم، وجدها تُنتزع من بين أنامله بقوة وصوت تبارك يصدر حانقًا متهكمًا :
” هات ده، أنا استاهل الضرب اني عبرتك ”
نظرت أمامها صوب صامد وصمود وهي تقول :
” خدوا كلوا أنتم ”
نظر لها الاثنان بلهفة كبيرة وكادوا ينقضون على ما تقدم، لولا رؤيتهم لنظرات سالار التي تسبب في سحب لهفتهم واعتلاء نظرات الجمود ملامحهم وهما يقولان بصوتٍ واحد :
” العفو مولاي، يلا يجوز لنا مشاركتك الطعام ”
نظرت تبارك بسرعة كبيرة صوب سالار الذي تجاهل نظراتها ونظر من النافذة وقال بنبرة مسترخية وصوت جليدي :
” تناولي طعامك بهدوء وتوقفي عن الحديث الكثير، وتعلمي كيف تتصرفين كملكة لدولة بحجم سفيد ”
تمتمت تبارك وهي تملئ فمها بالكثير من الطعام دون حساب :
” أبوك لابو سفيد، جاتكم القرف شعب ثقيل ”
فجأة انتفض جسدها حينما سمعت تعليق سالار :
” وايضًا حاولي التحكم في تمتماتك ودعي افكار الداخلية تظل مجرد أفكار دون ترجمة ”
” اتنفس عادي ”
” نعم لا بأس، لكن تعلمي أن تتنفسي كملكة ”
تشنج وجه تبارك من كلماته التي لم تعبر حدود أذنها، بل تجاهلتها كليًا تنتبه للطريق وهي ما تزال تتمتم بغضب شديد، لا تريد أن تتجادل معه مجددًا وقد ملت حقًا كيف يتحكم بها ويعد عليها أنفاسها، متى تنتهي تلك الرحلة وتتخلص منه، حتى لو ألقى بها في فوهة بركان فلن تبتأس طالما أنه ليس معها .
دقائق قليلة وتوقفت السيارة في ميناء متطرف غريب وهبط الجميع واولهم سالار الذي نظر حوله يتأكد من أمان المكان، حتى وقعت عيونه على السفينة التي ستأخذهم لوجهتهم والتي احضرتهم منذ البداية، ضيق عيونه مفكرًا في القادم ومصير المملكة من بعد وصول الملكة .
وقف أمامه صمود يعبر عن القلق الذي لا يود هو الاعتراف به :
” مولاي هل أنت متأكد من تلك الخطوة ؟!”
لم يبعد سالار عيونه عن البحر امامه :
” أي خطوة تلك صمود ؟! هذا أمر وليس خطوة يمكن تخطيها ”
تدخل صامد بجدية في الحوار وهو ينظر لتبارك التي كانت تجلس داخل السيارة تخرج رأسها منها بشكل مثير للريبة :
” لكن سيدي اعتقد أن الملك لو علم ما هو على وشك إسقاط نفسه به، لمنعك إتمام المهمة ”
نظر له سالار يجيب بهدوء شديد :
” وهو لم يمنعني بعد، لذلك المهمة ستتم كما خُطط لها، ثم أنتم تتحدثون وكأننا احضرنا كارثة للمملكة، الأمر ليس بهذه الخطورة، هي فقط تحتاج لتعلم بعض الاشياء و…”
وقبل أن يكمل جملته سمع الجميع صوت شيء يصطدم بقوة في الأرض والذي لم يكن سوى تبارك التي تعرقلت أثناء هبوطها في فستانها، لكنها نهضت بسرعة كبيرة تقول ببسمة هادئة ترفع ابهامها لهم :
” أنا كويسة متقلقوش ”
ولم تكد تخطو خطوة أخرى غير منتبهة لفستانها حتى عادت وسقطت وهذه المرة بشكل أقوى لدرجة أن تأوهاتها قد علت في المكان وقد غُرز وجهها في الأرض أسفلها تهمس بتعب :
” اعتقد أن الرمل هنا بيزحلق ”
أبعد سالار عيونه عنها يقول وهو يفكر في تلك الورطة التي ألقى الملك نفسه بها :
” نعم، الأمر ليس بهذه الخطورة، بل أكثر خطورة من هذا، رحمتك يا الله ”
نهضت تبارك من الأرض تنفض ثيابها تحاول تلاشي الاحراج الذي تعرضت له للتو، وقد تمنت لو تنشق الأرض وتبتلعها، الأمر كان مخجلًا بشكل يفوق قدرتها على التحمل، مرحى تبارك ها أنتِ اثبتي لهم كم أنتِ حمقاء .
تود لو تبكي خجلًا، والله هي ليست بذلك الحمق، فقط الطبيعة والقوانين جميعها يعاندونها ليس إلا.
تنهدت بصوت مرتفع تمسك أطراف فستانها باصباعها وهي تتحرك بحذر شديد كي لا تزيد الوقعتين ثالثة، تتحرك صوب الجميع قبل أن تتوقف وتقول بصوت جاد :
” دلوقتي المفروض ناخدها عوم ولا ايه ؟!”
رفع حاجبه وهي أكملت بعفوية شديدة :
” أنا مش بعرف اعوم، ولا بعرف اعمل أي حاجة في الحياة دي غير اني بمشي وباكل وبنام، فأرجو لغاية ما نخلص من كل ده محدش يطالبني بحاجة خارج القايمة دي، لأني مش هعمل حاجة زيادة، مبقاش جاية على حباب عيني وعاصرة على نفسي لمونة وتتعبوني، مش شغل عصابات ده ”
ختمت حديثها ترفع رأسها بكل إباء، ثم تحركت بعيدًا عنهم جميعًا تعلن انتهاء الحوار بالنسبة لها، وسالار ابتسم يقول ساخرًا مما يحدث له بعد كل تلك السنوات التي قضاها في قذف الرعب داخل قلوب اعدائه لتأتي فتاة لم تتجاوز حدود كتفه وترفع رأسها في وجهه دون خوف وتأمره بما تريد :
” أوامرك مولاتي، أوامرك …”
بينما تبارك وحينما ابتعدت عنه تنفست بتوتر، بالله هي ترتعب من نظراته التي لا تظهر ما يريد أو يحمل، تشعر بالرعب مما يخفي خلف ملامحه الجامدة، ذلك الرجل لغز كبير وهي ليست بالفضولية أو العبقرية لتحله، ولا تريد من الأساس حله، بل فقط تريد التخلص منه ..
هي فتاة عاشت لتتجنب المشاكل، وتتجنب أي شيء قد يؤذيها .
تنفست تنظر للبحر أمامها غافلة عن عيون سالار التي تكاد تحرق ظهرها، وهو يردد لنفسه :
” لدينا رحلة طويلة في تحويل تلك الفتاة لملكة تستحق الجلوس على عرش البلاد، رحلة ستنتهي إما بقتلي أو قتلها، والحمدلله أنني بعيد عن القصر كي لا يكون الخيار الثاني ”
__________________
” أقسم أن نهايتنا على يديكِ كهرمان، ما بال عقلك يا امرأة ألا تفكرين في عواقب فعلتك ؟؟”
انكمشت كهرمان على نفسها بقوة تحاول أن تهدأ ارتعاشة جسدها، لكن صراخ زمرد لم يساعد أبدًا على ذلك، بل ارتفع أكثر محضرًا لها ذكريات هجوم قريب، هجوم انتهى ببركة من دماء كامل أفراد اسرتها، دفنت وجهها بين قدميها تبكي بصوت مرتفع :
” لم اقصد، لم اقصد، اقسم أنني لم اقصد التسبب في مشاكل، بل هي تلاحقني من طريق لآخر، أنا آسفة زمرد”
كانت تتحدث من بين شهقاتها لتشفق عليها زمرد وهي تتحرك صوبها ببطء وجلست جوارها على الفراش تضم جسدها المنكمش داخل أحضانها :
” لا بأس، لا بأس عزيزتي، أنا فقط شعرت بالخوف لذلك صرخت بكِ ”
نظرت لها كهرمان وهمست بتعب ووجع شديد :
” أنا لا أستطيع العيش بهذه الطريقة زمرد، اقسم أنني أشعر بالعجز كلما رأيت ما يجب التعامل معه طوال اليوم بعدما كنت مدللة أخي ووالدتي، الأمر صعب علي ”
أغمضت زمرد عيونها تدرك أنها تعني كل كلمة مما نطقت به، هي ليست مدللة، بل هي فقط فتاة عاشت في رغد أخيها قبل أن تأتيها الطامة الكبرى وتسحبها من دفء أخيها لبرودة الوحدة، من كنف منزلها، لغياهب القصر ..
” لا بأس أنا سوف اساعدك، لا بأس سنتخطى كل هذا، ويومًا ما، يومًا ما يا كهرمان سنعود، سنعوم كما كنا ”
____________________
يجلس أعلى السفينة وهو يتنفس بصوت مرتفع يحاول الهدوء والتفكير في الخطوة القادمة، فبعد وصولهم لوجهتهم سيتعين عليهم خوض مغامرة حتى يصلوا لمملكتهم، هو في الحقيقة ليس مستاءً لذلك، هو معتاد على خوض ما هو اصعب من تلك العوائق .
لكن هي ليست كأي عائق قابله ….
حرّك عيونه صوب جسد تبارك التي كانت تقف على بداية السفينة وتفتح ذراعيها للهواء وتتحرك بشكل غريب عليه، وكأنها تراقص الرياح .
وعند تبارك كانت بالفعل تتراقص مع الرياح وهي تتمتم بكلمات منخفضة دون وعي وقد انسجمت مع تلك الحالة حولها وبكل شاعرية اختارت النسخة المصرية من تلك الأغنية المعروفة، لجهلها بكلمات الاجنبية، لكن لا يهم هي فقط تحقق حلمًا سخيفًا كان يراودها قديمًا :
” لا خلاص مش منظر …مستنظر يا سلوى، قلبي صدى وجنزر يا هووو”
ومن بين انسجامها سمعت صوتًا جوارها يهتف بهدوء :
” من هذه سلوى ؟؟ والدتك ؟!”
انتفضت تبارك من مكانها حتى كادت تسقط في البحر أسفلها لولا أنها تمسكت بالحديد تحت يدها برعب شديد، وقد ارتفع صوت تنفسها لتشعر برغبة في الصراخ، رفعت رأسها له تقول من بين أسنانها :
” لا امك ”
استند سالار على الحديد أسفل يده يشرد في المكان أمامه متنهدًا بحنين شديد وبكل صدق وجدية قال :
” لا والدتي لا تُسمى سلوى، بل كانت تُسمى عائشة ”
كان يتحدث غافلًا عن تشنج ملامحها، إذ كانت جديته في تلك اللحظة تمثل لها صدمة، هل تحدث بكل بساطة للتو بعدما تواقحت عليه، بل وأخذ يناقشها بهدوء دون نظراته المخيفة تلك !؟
بالله هي لم ولن تفهم ذلك الرجل يومًا .
” إذن أنتِ لم تعلمي يومًا عن حياتنا أو عالمنا أو مصيرك ؟! ولم تصدقي قبلًا بمثل تلك الأشياء ؟؟”
نظرت له ثواني قبل أن تقول ببساطة شديدة :
” ولسه مش مصدقة ومقتنعة أنك شوية مجانين وخاطفني أو اني بحلم حلم من الاحلام المريبة اللي كنت بشوفها وشوية وهصحى ”
” أي احلام تلك، السيدة في منزلك أيضًا تحدثت عن احلام برجال ؟؟”
نظرت له بطرف عيونها وقالت دون تفكير :
” احلام بوليوودية ”
” ماذا ؟!”
زفرت بحنق ولا تدري سبب حديثها عن تلك الأشياء الخاصة بها مع شخص لا تعلم عنه شيئًا، بل ويخيفها كذلك :
” احلام عن شخص غريب بيكلمني بلغة غريبة وبيقول حاجات مريبة كده و ….”
وقبل أن تكمل جملتها شعرت تبارك بحركة قوية في السفينة جعلتها تهتز بشكل مخيف، وقبل حتى أن يعطي عقلها إشارة لها لتصرخ وتعبر عما اعتراها من رعب جراء تلك الاضطرابات القوية في السفينة، لكن اهتزاز السفينة منع ذلك، إذ انقلبت شيئًا فشيء حتى وجدت تبارك جسدها ينجرف صوب الحافة والتي كان سالار يمسك بها وهو ينظر لها محاولًا أن يساعدها للتشبث بأي شيء حتى يمر ذلك الاضطراب المؤقت .
لكن ما حدث هو أن جسد تبارك وبسبب ارتفاع جانب السفينة انزلقت للجانب الآخر واصطدمت في جسد سالار الذي اتسعت عيونه وقبل أن يعترض سمع صرخة تبارك في أذنه :
” حسبي الله ونعم الو….”
وباقي الكلمة اكملتها في طريقها للبحر وهي تسقط، لكن لم تكن وحدها، بل كان معها سالار الذي جذبها له بسرعة هائلة، وفي غمضة عين كانت بين يديه، حينما سقطا سويًا……
__________________
جميع المشاكل تعشق الدفئ، لذلك حينما تفكر في الاستكانة والمبيت، لن تجد أفضل من أحضانك للاستقرار بها ……
وفي النهاية كل ذلك ما هو إلا حرب، إما أن تنتصر أو تنتصر، لا خيار ثالث أمامك.
يتبع….
متنساش ان الرواية موجودة كاملة في قناة التلجرام والواتساب
اصوات الأمواج المتلاطمة، وهدير المياه وصرخات مكتومة …
كان هذا فقط ما يصل لمن على متن السفينة بعد أتزانها وبصعوبة شديد، حالة من الرعب تلبست الجميع بسبب غياب أجساد القائد والملكة أسفل المياه بعد سقوطهما .
مسح صامد عرق بدأ يظهر على جبينه برعب شديد مما يرى، كان البحر قد ابتلعهما بالكامل وبكل غدر، منذ ثواني فقط كان يبتسم لهما ويظهر لهما صفاءه، لكن اتضح الآن أن تلك لم تكن بسمة عادية، بل كان بكل بساطة يكشر لهما عن أنيابه وفي ثواني تعكر صفاءه ..
وأسفل المياه كان سالار يكتم أنفاسه بمهارة عالية، فهو لم يكن جاهلًا بالسباحة أو ما شابه، فلا تدري متى ترميك اقدارك لمعركة مع البحار .
كان يبحث بعيونه عنها في كل مكان وقلبه يكاد يتوقف من الرعب، لأول مرة يخشى شيئًا، ضياع الملكة يعني خسارته لكل تاريخه المحفوف بالانتصارات، أن يخسر مهمة لهو عارٌ غير مستعد أن يزين دفتر ملئ بالمكاسب .
وفجأة ابصرها تحرك يديها وقدميها على بعد كبير منه وبكل حماقة، وكأنها تعاند البحر ليزداد هو عنادًا وتشبثًا بها .
سبح جهتها بمهارة عالية وبسرعة فائقة، حتى التقط جسدها بسرعة كبيرة يخرج بها لسطح المياه مطلقًا شهقة عالية هاتفًا من بين أنفاسه :
” يا الله يا مغيث …”
وقبل أن يتبع جملته بأخرى شعر بها تضربه بيديها وقدميها وتتحرك بعنف شديد وكأنها ما تزال محتجزه أسفل المياه، وهو يحاول أن يتحكم بحركة جسدها كي لا يسحبها الموج مجددًا :
” لقد نجونا، تنفسي مولاتي، أنتِ بخير تنفسي جيدًا”
وفجأة تلقى صفعة على وجهه دون أن ترى هي أين تحط يدها، فقط ما تزال تشعر أنها أسفل المياه، وهو يصرخ بها أن تتوقف :
” بالله عليكِ توقفي قبل أن يشتد غضبي واريكِ مني ما لا يسرك و…”
ومجددًا هبطت صفعة أخرى على وجهه ليصرخ بجنون :
” لعنة الله على الكافرين، اقسم أنني …”
ولم يكد يتم جملته إذ تمادت بعدما بدأت تصعد فوق جسده وتنزل رأسه أسفل المياه مستعملة إياها كطوق نجاه صارخة :
” مش بعرف اعوم ….مش بعرف اعوم ”
كانت تتحدث وهي تُغرق رأس سالار الذي كان يحاول الخروج من المياه دون أن يؤذيها، وهي ما تزال تضغط على رأسه وتصرخ بجنون باكية برعب.
تشعر أنها ستموت الآن إن افلتته كل كوابيسها تجمعت أمام عيونها لتغطي على ذلك المشهد أمامها وتعرض لها مشاهد أخرى لخيالاتها التي كانت تراودها يوميًا، كانت تعيش يوميًا في كوابيس أن تموت وحدها ولا يشعر بها أحد حتى تتعفن، والآن ستموت ويتركونها ليذوب جسدها في المياه:
” حد يخرجني من هنا، مش بعرف اعوم، مش بعرف اعوم، مش بعرف اعوم ”
وعلى السفينة ركض أحد أفراد الطاقم يحضر طوق نجاه وصمود يصرخ وهو يشاهد ما يحدث :
” يا ويلي هل تحاول قتل قائد الجيوش ؟؟”
أجابه صامد وهو يرى ما تفعل :
” أقسم أن الملك لن يكفيه أن يجز رأسها أو ينفيها إن فعلت ..”
وفجأة اتسعت أعين الجميع حينما انتفض جسد سالار بقوة من أسفل المياه بعدما يأس أن تتوقف هي عن دفعه للاسفل، ليتراجع جسد تبارك للخلف بسرعة كبيرة ساقطة في المياه مرة أخرى وهي تصرخ أن ينقذوها، وقبل أن تعود للدوامة السابقة، شعرت بمن يسحبها من ثيابها للخلف جاذبًا إياها للأعلى، فتحت عيونها بصعوبة لتبصر وجه سالار الذي كان يحدق فيها بشر، ومن ثم جرها خلفه من ثيابها وكأنه امسك لصًا يحاول سرقة حذاءه من أمام المسجد ..
يجرها في المياه سابحًا، وهي كانت تشعر أنها شربت نصف المحيط حتى طريقها لطوق النجاة، ولا تدري كيف لكنها فجأة شعر باليابسة أسفلها وهناك عدد كبير يجتمع حولها مانعين عنها الشمس …
نظرت لهم، لا تشعر بشيء، فقط دوار ورغبة بالقيء الشديد، سمعت صوتًا يتحدث بلهفة :
” أنتِ بخير مولاتي ؟؟”
رفعت عيونها لذلك القصير الذي يرافق سالار ولا تتذكر له اسمًا، وقالت بصعوبة من بين أنفاسها :
” بخير ايه ؟؟ ده مسح بوشي البحر كله ”
دفع سالار الجميع عنها بعدما صعد هو للسفينة يسير صوبها بكل هدوء، ثم جلس القرفصاء يراها تحاول الاعتدال في جلستها، ليجذبها من ثيابها بعنف تسبب في اهتزاز جسدها بقوة وصوته يصدح في جدية كبيرة :
” أنتِ بخير ؟؟”
” لا أنا مبلولة ”
رفعت عيونها له، ونظرت بتشوش شديد، ثم مدت يدها تبحث عن شيء صلب كي تستند عليه، تحاول التحدث بكلمات ما وهو يضيق عيونه محاولًا فهم ما تريده، لكن فجأة اغمض عيونه بقوة كبيرة وهو يشعر بها و قد اغرقته بقيئها …
عض سالار شفتيه وهو يسمع صوتها ما تزال تفرغ ما في معدتها عليه والجميع يشاهد بأعين متسعة، وهو داخله يشعر برغبة عميقة أن يحملها ويلقي بها للبحر ليأخذ منها ثأره :
” لعنة الله على الكافرين ….”
______________________
” مجموعة كالمنبوذين يقتحمون مملكة بحجم مشكى، لهو أمر مثير للشك والريبة ”
ابتسم إيفان يستمع لكلمات تميم التي ألقاها بمجرد جلوسه، مال برأسه قليلًا محاولًا التفكير في الأمر، بالطبع هو لم يقتنع ولو للحظة بكل تلك الروايات التي وصفت تلك الغارة الشنيعة والمذابح البشعة بحق الأسرة الحاكمة لمشكى، الأمر وما فيه أن ذلك السبب الذي يختفي بخبث خلف كل ما حدث يحتاج فقط للصبر .
قال دانيار بهدوء شديد يوافق تميم الحديث :
” بالطبع يا تميم، فمن أين لهم بالأسلحة لذلك، وهم جماعة مرتزقة لا مصانع لهم ليصنعوا كل تلك الأسلحة، ولن تنفعهم العداد بلا عدة، إلا إذا اغاروا على قافلة أسلحة ”
نظر له إيفان ومازالت بسمته لم تنمحي عن وجهه، يستمع لكل كلمة ويحللها في عقله بهدوء وصمت، ذكي هو وماكر وهادئ ..
” هذا أكثر الاحتمالات منطقية دانيار، فلا يعقل أنهم بنوا مصانع بلا إمكانيات تؤهلهم لذلك، بل وصنعوا عدد أسلحة يؤهلهم لاحتلال مملكة كاملة ذات جيشٍ وسيادة ”
وكانت تلك كلمات تميم، الذي صمت يفكر ومن ثم أضاف :
” كما أن وحسب شهادة البعض ممن كانوا على حدود مشكى ذلك اليوم، فالاسلحة التي استعملوها كانت جيدة الصنع، تمامًا كتلك التي ….”
قاطعه إيفان بكل هدوء :
” نصنعها نحن، يستخدمون أسلحة تشبه خاصتنا، أو …ربما هي ذاتها ”
نظر له الاثنان بتعجب ليبتسم ويقول بهدوء شديد :
” الأسلحة التي كانت مع المنبوذين ذلك اليوم حين الغارة على مشكى هي نفسها اسلحتنا يا تميم ووجودها بين اكفتهم يعني شيئًا من عدة احتمالات، انهم اغاروا على قافلة لنا، وهم ما كان لهم من جرأة ليفعلوا ذلك، أو أنهم اغاروا على قافلة لمملكة تشتري منا اسلحة، ونحن لم نسمع بشيء كهذا، أو الاحتمال الاخير …”
صمت ينظر لهم نظرات غامضة جعلت أعين كلاهما تتسع بقوة والاجساد تتصلب بتحفز شديد.
ابتسم إيفان وقد أدرك أن مقصده وصل لهما؛ لذلك أشار ببساطة أن يتحركا قائلًا وهو ينهي الأمر :
” سنكمل النقاش في هذا حين عودة سالار يا رجال ونكتمل لنفكر سويًا، يمكنكم المغادرة ”
حياه الاثنان وخرجا من جناح الملك والذي استقبلهما فيه خصيصًا لأجل الحصول على خصوصية وهدوء بعيدًا عن الجميع .
وبمجرد خروج دانيار وتميم، حتى ابتسم إيفان وهو يضم كفيه ويشرد أمامه بأعين قد علتها نظرات تفكير عميقة، يتنفس بصوت مرتفع وقد قرر أن يستحم كي يهدأ ويفكر بشكل أفضل، لكن ما كاد يتحرك من فراشه إلا وسمع صوت الحراس يهتفون أن الملكة الأم تطلب إذن الدخول وهو قد أعطاهم الاذن، لتتحرك والدته داخل جناحه برأس مرفوع تقول ببسمة واسعة :
” صباحك ملئ بالخير والتوفيق مولاي ”
” صباح الخير لكِ أيضًا مولاتي …”
ابتسمت له الملكة وهي تقترب منه تقول بجدية وسعادة غريبة بعض الشيء عليها :
” جئتك لمعرفة إذا ما كنت تمتلك أي مخططات معينة لأجل الاحتفال الوطني مولاي ”
نظر لها إيفان ثواني وكأنه لا يفهم ما تقصد أو يستوعب، وفجأة أدرك ما تريد وقد نسي أمر ذلك الاحتفال تمامًا :
” آه نعم، بشأن هذا، فالأمور متروكة لكِ أمي كالعادة ”
تحدث وهو يتحرك في جناحه بهدوء شديد، لكن فجأة توقف على كلماتها حين قالت بخبث :
” إذن بني، هل تريد مني دعوة بعض الاميرات للحفل لربما تغير رأيك و..”
” أمي ”
قاطعها بصرامة ومن ثم قال منهيًا ذلك الحوار :
” هذا الأمر اخرجيه من رأسكِ رجاءً ”
” بني أرجوك اسمعني، لربما تجدك مبتغاك في أي امرأة غير تلك الـ ”
” ليست تلك امي، بل الملكة، أنا لم اخاطر بأمهر مقاتلي المملكة وقائد الجيوش الاعلى لأجل أن أبحث عن امرأة أخرى، لذا رجاءً انتهينا ”
هزت والدته رأسها وقد التمعت عيونها بالاصرار على تنفيذ ما تريد، تهز راسها ببسمة صغيرة :
” كما تريد مولاي، اسمح لي بالمغادرة ”
هز رأسه وهو يراها تتحرك صوب الباب وتخرج منه، ليذهب وينتهي مما كان يريد .
وبعد ساعة وحينما خرج وارتدى ثيابه قرر الذهاب للتدريب كعادته، لكن وقبل أن يتحرك، أبصر مشهدًا جعله يسرع وهو يشير للجنود ألا يتبعوه …
خرج يتبع تلك الفتاة التي تسير بحرص شديد وتتلفت بشكل يخبر الجميع أن ينتبهوا لها فهي على وشك القيام بشيء سييء .
ابتسم إيفان بسخرية شديد وهو يراها تتعمق صوب ممر لا يوجد به أحد تقريبًا، تناسى منصبه وكل شيء يتبعها لمعرفة ما تريد ونا تنوي ظنًا أنها جاسوسة أو متسللة، ولم يدري أنها نفسها مقتحمة مرحاضه وصاحبة كارثة الثيران .
وحينما توقفت أمام أحد الأبواب ابتسمت بسمة واسعة تضم المنشفة وبعض الثياب لها تمني نفسها بحمام ساخن منعش فاخر في جناح قائد الجيوش والذي كان خارج البلاد في هذا الوقت .
فجأة سمعت صوت خلفها يهتف بكل برود :
” لا انصحك بفعلها …”
صرخت كهرمان برعب شديد تستدير بسرعة خارقة وهي تضرب من خلفها بما تحمل، ثم التصقت في ركن الممر، وايفان وضع يده أعلى وجهه بغضب لتتسع أعين كهرمان مرددة بارتجاف :
” مولااااي ؟؟؟ أنا… أنا..”
” أنتِ ماذا أيتها الكارثة ؟! كدتي تتسببين في إصابتي بالعمى، ما الذي تفعلينه هنا امام جناح قائد الجيوش ؟؟ ”
نظر للثياب التي القتها على وجهه ليشحب وجهها هي .
حدقت به كهرمان وهي تدرك أن تلك المرة قد وضعت بالفعل نهاية لحكايتها البائسة، إن علم الملك أنها جاءت لتستحم في جناح قائد الجيوش مستغلة عدم وجود جنود على بابه، سينحر رأسها..
لكن هي ليست بالغبية لتعترف بما كادت تفعل، هي ستراوغه بكل ذكاء، وبالفعل نطقت بما سيجعلها تنجو من العقاب :
” أنا جئت كي انظف جناح قائد الجيوش، واطمأن أن كل شيء به صالح للاستخدام بعد غلقه لفترة طويلة ”
لو أنكِ قلتِ الحقيقة لكان افضل من هذا الهراء الذي اخرجتيه من فمكِ للتو كهرمان، أقسم أن لا غباء ينافس خاصتك، هذه المرة لن يكفي زمرد أن تعلق جسدك على باب السكن لتطعلك عبرة لكل غبي أسفل سقف تلك القلعة .
ابتسم إيفان بسمة جانبية أظهرت لها جيدًا أنه لم يقتنع، حسنًا هذا جيد نوعًا ما، فلو كان اقتنع بالهراء الخاص به لشكت في قواه العقلية ولتأكدت أنه لا يصلح ملكًا من الأساس .
تنحنحت وهي تقول بصوت خافت بعض الشيء :
” حسنًا بما أنك هنا مولاي، فسوف ارحل الآن واعود وقت آخر للتنظيف ”
تحركت ببطء لحمل ثيابها التي القته بها منذ ثواني، وقد كانت تتلاشى النظر له، وهو فقط يراقبها بسخرية لاذعة وحينما رأى أنها انتهت وتحركت بكل بساطة بعيدًا عنه أوقفها يقول :
” القائد لا يمتلك مرحاضًا واسعًا فخمًا كما تتخيلين، بل هو يمتلك واحدًا صغيرًا لا يستخدمه اغلب الوقت ”
نظرت له بصدمة ليكمل ببسمة وقد عرفها من ثيابها التي تحملها وصوتها المرتجف :
” هو في العادة يقضي أوقاته خارج القصر ولا يستعمل جناحه أو مرحاضه سوى مرات قليلة”
علت نظرات الخيبة أعين كهرمان وقد شعرت بالحنق يعلوها، ليقترب منها إيفان يضيف :
” هو يستحم معظم الأوقات في البحيرات وأسفل الشلالات، إن كنتِ تفكرين الآن في الأمر ”
اشتعل وجه كهرمان بقوة وهي تتراجع بعيدًا عنه :
” ماذا ؟! لا لا أنا … أنت يا مولاي قد فهمت الأمور بشكل خاطئ صدقني، من جاء على ذكر الاستحمام الآن بالله عليكِ، أنا فقط كنت اريد تنظيف المكان ”
نظر ليدها :
” بثياب نظيفة وسائل استحمام ومعطر جسد ومنشفة ؟! لا اظن ذلك ”
تنهدت كهرمان تهتف من بين أسنانها :
” لا أحب التعامل مع الاذكياء حقًا، الأمر مرهق ”
أطلق إيفان ضحكات مرتفعة وهو يقول بجدية :
” صدقيني نفس الأمر معي، لا أحب التعامل مع الحمقى، يكون التعامل معهم مرهقًا كذلك كما يحدث لي معكِ الآن”
هزت رأسها وهي تضم الثياب لها تخفي اسفلهم اشيائها الخاصة بالاستحمام :
” نعم اصدقك فأنا….مهلًا هل وصفتني بالحمقاء للتو ؟؟”
تنهد يتجاهلها متحركًا بعيدًا عنها وقد أخذت أكثر مما تستحق بالفعل :
” نعم فعلت.”
راقبت كهرمان رحيله لتشعر فجأة بالغضب يملء صدرها والحنق يعميها :
” هذا كان قاسيًا حقًا ”
سارت خلفه بغيظ شديد وفي رأسها تود أن تستوقفه للشجار معه، لكن فجأة ابصرته يخرج سيفه من الغمد وهو يتحرك للدرج الخلفي الذي يؤدي للساحة الخلفية حيث رأته لأول مرة وهو يبارز قائد الرماة .
ووصل لها صوته يقول بهدوء لأحد الجنود :
” اخبر أحدهم أن يأتي لمبارزتي …”
ابتسمت بسمة جانبية تميل برأسها وقد شعرت بالحماس لمتابعة مبارزة أخرى، لكن هذه المرة أرادت أن تكون عن قرب أكثر…
__________________________________
” ومن ثم تركتها ورحلت، أعني أنا فعلت الصواب، فمثل تلك الفتيات ذوات الألسنة الحادة لا يجب أن تتناقش معهن بالمرة، أفضل حل هو أن تتجاهلهن، حسنًا إن أردت رأيي فالنساء جميعهن يجب تجاهلن ”
ختم تميم كلماته وهو يركز كل حواسه في المواد التي يملكها أمامه لصنع قنبلة جديدة غير تلك التي خربت سابقًا، ومازال عقله يعرض عليه لقاءه مع تلك الفتاة قصيرة القامة طويلة اللسان .
بينما كان دانيار يجلس جواره يصفر بلا اهتمام لأي شيء، يحمل بعض السهام ويقوم بتلميعها، وتميم يكمل حديثه بكل جدية :
” لا لا يا دانيار، أنا لم أخطئ فيما فعلت، بل ما فعلته كان عين العقل ”
صمت ثم أكمل وكأن دانيار يحاوره بالفعل :
” صحيح هذا ما فكرت به كذلك، ثم أنا لا قبل لي بالتعامل مع النساء بحنان ولين مثلك ”
بدأ دانيار يختبر شفرات السهام واحدة تلو الأخرى، وتميم يكمل عمله بكل دقة وحرص شديد لئلا ينفجر بهم المعمل مجددًا :
” نعم أنت محق دانيار، يجب أن نتجنب النساء كي لا نتسبب لأنفسنا بصداع ”
ابتسم دانيار بسمة سعيدة حينما أتم التأكد من جميع سهامه العزيز، ومن ثم بدأ ينظف حاملة السهام نفسها بكل هدوء وتميم يكمل عمله وكذلك حديثه :
” وأنت أخبرني ما الجديد في حياتك ؟! هل فعلت ما طلب منك الملك ؟!”
ترك فجأة تميم ما بيده منتبهًا له :
” لا تقل أنك نسيت يا رجل ”
نظر له دانيار بطرف عينيه ليبتسم الآخر :
” نعم هذا ما ظننته أيضًا، آه يا صديقي الحياة ليست بهذه السهولة التي كنا نعتقدها حينما كنا صغارًا، أتتذكر تلك الأيام دانيار حينما كنا نركض في السهول ونلعب في البحيرات دون أن نحمل همًا ”
صمت يتنهد بصوت مرتفع :
” نعم كانت بالفعل ايام جميلة ”
فرك دانيار خصلات شعره، ثم تمطأ وتميم يكمل حواره الشيق بينه وبين دانيار الخيالي الذي يصنعه كي لا يصاب بالجنون من تصرفات المزعج الحقيقي .
وفجأة انتفض تميم عن مقعده يقول بأعين متسعة :
” لقد نجحت، لقد نجحت، تغير لون المسحوق دانيار، انظر لقد نجحت في صنع بارود متطور غير ذلك التقليدي يا رجل ”
نظر له دانيار بفضول شديد ليبتسم له تميم :
” نعم يا غبي الأمر رائع، بارودي العزيز سيحدث ثورة في عالم الأسلحة ”
نهض دانيار يتحرك صوب طاولة الأدوات الخاصة بتميم يقول وهو يشير صوب المادة التي بدأت ذراتها تهتز على الطاولة :
” مهلًا، هل تحركت تلك المواد للتو ؟!”
نظر له تميم بعدم فهم :
” ماذا ؟!”
لكن دانيار دفع رأسه وانظاره بسرعة صوب الطاولة وهو يصرخ مشيرًا لتلك المادة الصلبة التي كانت تنجذب بشكل غريب صوب النار :
” يا غبي انظر، باردوك العزيز يركض صوب النيران كالمشتاق للحبيب ”
اتسعت عين تميم وهو يحدق بذرات البارود التي تجذبها النيران كالمغناطيس، ليقول وهو يشعر أن القادم ليس جيدًا أبدًا :
” أوه لا ”
صرخت دانيار بجنون :
” ماذا تعني بأوه لا ؟؟ ما الذي فعلته يا أحمق؟!”
تراجع تميم للخلف شيئًا فشيء، ثم قال بريبة وبقلق :
” إذن يا صديقي يستحسن أن تركض الآن، فالقادم لن يعجبك، أو يعجبني أو يعجب أحد داخل جدران ذلك القصر ”
وبمجرد أن ختم كلماته هرول تميم للخارج صارخًا بصوت مرتفع :
” حريق على وشك النشوب داخل المعمل ”
كل ذلك ومازال دانيار لم يستوعب بعد ما يحدث ويقف أمام الطاولة يراقب هرولة ذرات الباورد صوب الشعلة التي يستعملها تميم عادة لتسخين المواد، ثواني حتى عاد له تميم يسحبه خارج المعمل صارخًا :
” أيها الغبي اركض سوف تصبح قطع محترقة بعد ثواني ..”
هرول الإثنان للخارج برعب شديد في الوقت الذي على صوت انفجار في المكان هز اركان القصر بأكمله ..
في ذلك الوقت كانت برلنت تسير صوب الطابق السفلي لإحضار بعض المؤن اللازمة لتحضير طعام الجنود، تتلو بعض الأغاني القديمة التقليدية للنساء وهي تسير باستمتاع وهدوء، لكن فجأة شعرت بالأرض تهتز أسفلها، ضيقت ما بين حاجبيها بتعجب تقضم قطعة تفاح داخل فمها ثم أخذت تلوكها بتفكير وهي تحدق بذرات الرمال التي تهتز ارضًا :
” ما الذي يحدث هنا؟! هل هناك زلزال أو ما شابه ؟؟”
رفعت عيونها ببطء وجهل، لتشعر أن الهزة ازدادت وبمجرد أن نظرت أمامهما اتسعت عيونها بقوة وهي ترى رجال كثيرين يركضون صوبها وأحدهم يصرخ بجنون :
” اخلوا الممـــر ..اخــلوا الممــــر ”
شهقت برلنت وهي تتراجع للخلف تضع التفاحة في فمها، ثم ألقت الإناء من يدها تسمك طرف ثوبها كي تركض، لكن فجأة شعرت بمن يجذب ثيابها بيد قوية ويركض بها صارخًا :
” ابتعدوا بسرعة ”
و برلنت كانت تركض دون وعي، وهناك تفاحة في فمها تمنع صرخاتها وعيونها متسعة بشكل مثير للضحك، وتميم يركض معها دون أن يعلم هويتها أو يدري من بجذب، هو فقط أخذ كل من قابله في طريقه….
نزعت برلنت التفاحة من فمها وهي تصرخ بنبرة توشك على البكاء :
” أسرع، يا ويلي اسرع سنموت، كله بسبب ذلك المختل الذي لن يتوقف إلا عندما يقتل له دزرينة رجال ونساء ”
نظر لها تميم ليقول بغيظ شديد :
” هذه أنتِ يا طويلة اللسان، لو علمتك من البداية لتركتك علّ القنبلة هذه المرة لا تخيب آمالي وتحولك لاشلاء .”
اشتد جنون برلنت لتنحني فجأة على ذراعه وتنقض عليه بالعض الذي جعله يطلق صرخات ولعنات وسباب ارتفع في الممرات، حتى أنه فجأة تعرقل وسقط ارضًا بسبب حركاتها، ليغفل عن الدرجات أسفل قدمه ويسقط عليها مع برلنت والعديد من الأشخاص بقوة والجميع أعلى الدرج يراقبون بأعين متسعة ما يحدث ….
__________________________
كانت الصغيرة تجلس في أحد الأركان باكية بصوت مرتفع، وقد ازداد ارتفاعًا بمرور الوقت ليأتي على أثره تلك المرأة المتجبرة المرعبة وهي تصرخ في جميع الأطفال حولها أن يبتعدوا جانبًا، ثم حدقت بالصغيرة الباكية وهي تنغزها بيدها :
” مالك يا بت أنتِ على المسا نازلة عياط كده ليه ؟؟”
رفعت الصغيرة الباكية وجهها وهي تقول من بين شهقاتها بصعوبة شديدة :
” تبار…تبارك ضربتني ”
ومن ثم انفجرت مجددًا في البكاء لتستدير السيدة تحدق في الجميع بشر كبير وقد شعرت داخلها بغضب قادر على إحراق مدينة بسكانها، تلك الملعونة تبارك والتي تتسبب لها بالعديد من المشاكل في العمل، تكرهها وتكره اليوم الذي خطت به ذلك الملجأ، منذ جاءت وهي متمردة مجادلة، لا تخشاهم وهذا أكثر ما يثير حنقها .
” فين الزفتة تبارك …فين طين البرك اللي مش هتسكت غير لما اقطم رقبتها ؟؟”
كانت تتساءل وهي تبحث عنها بين الجميع وقد نوت لها الليلة على جحيم لن تنساه، ستقومها ولو كان بالاجبار، ستجعلها تخضع لها ولو كان بالقوة .
ابتعدت جميع الفتيات عن المربية في تلك اللحظة وقد بدأت ملامح الرعب ترتسم على وجوههن، رافضين الحديث بكلمة، لكن الصغيرة الباكية نهضت بسرعة كبيرة تقول بحنق طفولي لا تعلم له عواقب :
” مستخبية تحت السرير اللي هناك ده يا أبلة سميحة ”
نظرت سميحة في المكان بأعين غاضبة، ثم تحركت صوب الفراش ومالت بجسدها الممتلئ لتجد تبارك تجلس في الركن ملتصقة بالجدار وكأنها تود لو تصبح رسمة عليه لا روح فيها، تضم دميتها الغبية الممزقة والمتسخة لصدرها وهي ترتجف، وحينما لمحت أعين سميحة تلتمع بالتهديد في الظلام قالت بصوت مرتعش :
” هي …هي اللي شتمتني وقالت إن… إن ماما مش كويسة يا أبلة ”
حجج كثيرة لم تكن سميحة مهتمة بسماعها أو التفكير بها حتى وهي تميل بجسدها أكثر تجذب لها جسد تبارك بقوة غير مهتمة بالارضية الباردة التي التصق بها وجه الصغيرة وهي تصرخ برعب .
بل فقط جذبتها للخارج، ثم سحبتها من خصلات شعرها تهز جسدها وتخضه بقوة صارخة :
” هو أنا مبقاش ورايا غيرك ؟! مبقاش فيه غير تبارك هي اللي عاملة مصايب ؟! ايه اسيب شغلي واشتغلك يا روح امك ؟!”
بكت تبارك برعب وهي تشعر بقلبها يكاد يتوقف :
” والله ما عملت حاجة يا أبلة والله هما اللي بيضايقوني وبيضربوني، أنا آسفة والله، خلاص يا ابله سميحة بالله عليكِ خلاص ”
تحولت الصغيرة من مرحلة الدفاع للانكار، واخيرًا وصلت للتوسل، ترتجي منها رحمة بطفلة صغيرة يتيمة لا تملك من الحياة ما يؤهلها للدفاع عن نفسها أمام تلك الطاغية التي سحبتها خارج العنبر بأكمله وهي تحاول سحب نفسها منها باكية برعب صارخة :
” والله ما عملت حاجة يا أبلة سميحة، بالله عليكي آخر مرة والله آخر مرة ”
لكن أي كلمات وأي رجاء يلقى صداه عند امرأة قد انتزعت قلبها ووضعت محله صخرة مصمتة لا رحمة بها، كانت تلك المرأة ممن قال الله عنهم في كتابه العزيز ” ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ”
كانت قاسية للدرجة التي تجعلها تهبط فوق جسد الصغيرة تبارك بسوط دون الاهتمام لصرخاتها التي هزت أرجاء الملجأ بأكمله وحركت قلوب الاموات في قبورهم ..
كل ذلك كانت تراه تبارك أثناء حلمها وهي تتحرك برعب وترتجف على الفراش باكية تهمس كلمات غير مفهومة له، هو فقط جاء كي يطمئن عليها بعد تبديل ثيابه، ليسمع صوت تأوهات من الخارج جعله يندفع للداخل، ليرى جسدها يهتز بهذه الطريقة المرعبة ويختض وينتفض كما لو كانت تحارب في أحلامها، لكن حروبها كانت أكثر شراسة من تلك الحروب التي يخوضها هو، كانت تحارب كوابيسها، وما اسوء من محاربة ما لا تستطيع التحكم به أو لمسه .
مال سالار قليلًا فقط ليصل صوته لها أثناء نومها وبدأ يقرأ بعض آيات القرآن بالقرب من أذنها بصوت خاشع أجش، صوت وصل لها في أحلامها بلسمًا، ليتبدل الكابوس بحلم جميل لفارسها البوليوودي الذي كانت تراه سابقًا وهو يضمها ويهمس لها كلمات مطمئنة بصوته الاجش، يهمس لها بآيات من القرآن ويربت على ظهرها بحنان لتبتسم تبارك واخيرًا تاركة لنفسها فرصة التنفس براحة داخل أحضانه .
ابتسم سالار حينما رأى جسدها قد بدأ يتراخى شيئًا فشيء ليعود بظهره على المقعد وهو يتنفس بصوت منخفض :
” ترى ما الذي تضطرين لمحاربته في احلامك مولاتي ؟؟”
____________________
أي جنون ذلك الذي ألقى بكِ لمثل ذلك كهرمان ؟! كيف فكرتي في مثل تلك الفكرة الغبية لتثبتي له أنكِ لستِ حمقاء كما يظن، وتنتقمي منه، وكيف ستفعلين وأنتِ من الأساس ترتدين ثياب جندي ولثام جندي ؟!
تنهدت بصوت مرتفع تتقدم صوب ساحة التدريب حيث كان يقف الملك وهو يحرك السيف الخاص به في الهواء بمهارة شديدة وتمكن كبير وملامح مرعبة جعلت اقدام كهرمان ترتعش رعبًا .
ابتلعت ريقها وهي تستدير رغبة في الهرب وإرسال أحد الجنود غيرها، لكن استوقفها صوت إيفان الذي قال متأففًا :
” وهل سأنتظر اليوم بطوله ؟؟”
استدارت كهرمان ببطء تنظر له ولجسده الذي كان يلتمع بسبب ذرات العرق عليه، ابتلعت ريقها وقد بدأت قبضتها ترتعتش، هي لن تنجو من ذلك، لطالما وصفتها زمرد بالتهور، لكن ما ما تفعله الآن اسوء من التهور بمراحل، هذا ببساطة انتحار .
كيف تعتقد تلك الغبية أن تدريبات شقيقها لها سابقًا قد تؤهلها لمجاراة ملك سفيد في قتال بالسيوف ؟!
تأفف إيفان بصوت مرتفع وهو يرى ذلك الجندي يتقدم بتردد صوب الساحة، لذلك تحرك صوبه بخطوات واثقة ودون مقدمات رفع سيفه في الهواء ليباغته بضربة قوية تصدى لها الجندي بمهارة جعلت بسمة واسعة ترتسم على فم إيفان يقول بهمس :
” ارني ما لديك يا فتى ”
وفي ثواني رفعت كهرمان سيفها وعادت للخلف بحركات ماهرة، ثم ركضت بسرعة كبيرة قافزة في الهواء وهي تحرك سيفها بمهارة لا بأس بها تهجم على إيفان الذي تصدى لضربتها بمهارة منقطعة النظير، وقد أعجبه الأمر واعجبه روح التحدي الواضحة في ذلك الجندي، فالجميع حينما يتبارز معهم يتعاملون معه بحرص شديد، لكن هذا كان جريئًا قويًا لا يهمه شيء، أو أنه الآن يقاتل الملك .
ابتسمت كهرمان وقد بدأت تستعيد كل ما تعلمته واكتسبت ثقة مع أول ضربة تصدت لها، تهجم عليه تارة وتدافع تارة، تتدحرج في الأرض وتقفز وقد بدأ القتال بينهما يشتد بقوة لا مثيل لها .
ورشاقة كهرمان كانت تؤهلها للتحرك بحرية كبيرة
لا تشبه أبدًا حركات رجل، وهذا ما جعل أعين إيفان تضيق يشك وهو يراقب كل حركة من ذلك الجندي بشكل جيد، وفي ثواني هجم بشراسة عليه متسببًا بجرح في ذراعه جعل صرخة كهرمان تخرج دون وعي .
لتتسع أعين إيفان بقوة وقد بدأ جسده ينتصب بتحفز يقترب منها بسرعة كبيرة صارخًا :
” امرأة في ساحة القتال ؟؟”
ابتلعت كهرمان ريقها وهي تدرك أن ساعتها قد حانت، يا الله ستموت هذه المرة، وحينما أوشك إيفان على الوصول لها رفعت في وجهه السيف تحذره بعيونها أن يتقدم وهو يحاول معرفة أين رأى تلك العيون ..
قالت كهرمان بصوت خافت بعض الشيء وقد حاولت تغيير نبرتها قدر المستطاع :
” للخلف ولا تفكر في الاقتراب ”
ارتسمت بسمة على وجه إيفان من تهديدها، لكنها أبدًا لم تكن بالسعيدة أو حتى الساخرة، بل كانت بسمة غاضبة مخيفة، جعلت كهرمان تعود للخلف وهي ما تزال ترفع السيف في وجهه محذرة، لكن إيفان رفع سيفه مجددًا يقول بشر :
” تريدنه قتال ؟؟ فليكن سيدتي ؟؟”
ختم كلماته بأنحائه صغيرة، ثم هجم عليها بشراسة مرعبة جعلتها تميل بنصف جسدها وهي تصد ضربته، تعتدل بسرعة كبيرة تصد ضرباته واحدة تلو الأخرى ببسالة وجسارة، إن كانت ستموت أو تُعاقب فليحدث ذلك بشرف كما علمها شقيقها ..
كانت كهرمان تبارزه بكل مهارة تعلمتها وتتحرك في الساحة وهو اندمج في القتال معها ونسى أنه الآن يواجه امرأة، بل بدأ يستمتع بذلك النزال والقتال، يرفع سيفه ويضرب بقوة وكأنه في معركة حقيقية ..
بدأت كهرمان تصاب بالتعب لترتسم بسمة على فم إيفان وهو يرفع سيفه ضاربًا يدها ضربة قوية مسقطًا سيفها ارضًا :
” ماذا ؟! أصابك التعب منذ الآن؟؟”
نظرت له بشر ليقول بصوت منخفض وهو يضع السيف أمام رقبتها وعيونها:
” لا تنظري لي هكذا آنستي فأنا لا أخشى عيون القطط خاصتك تلك، لا ادري كيف ظننتي أنني سأُخدع بكِ، منذ متى وامتلك جنودي جسد مرن وصغير الحجم كخاصتك ؟؟ ”
صمت ثم نظر ليدها التي كانت تمسكها بوجع :
” ومنذ متى كانت ترتجف أيديهم عند القتال ؟! ينقصك الكثير لتصبحي مبارزة بارعة يا امرأة، والآن اكشفي عن وجهك واخبريني من أنتِ وماذا تفعلين بثياب جنودي ؟؟”
ابتلعت كهرمان ريقها تعود للخلف ببطء شديد وقد بدأ وجيب قلبها يعلو أكثر وأكثر حتى شعرت بقرب توقفه من الرعب …
اشتعلت النظرات بين الإثنان ليتوه إيفان في عيونها وتلك القوة داخلهما جذبته كما الفراشة للنيران.
فجأة قطع كل ذلك صوت خلفه يقول :
” سيدي العريف يحتاجك بأمر هام ”
نظر لها إيفان ثواني قبل أن ينظر إلى سيفه مبتسمًا يقول بجدية :
” أخبره أنني قادم ..”
تحرك الجندي لتستغل كهرمان ذلك وهي تدفع إيفان للخلف بسرعة كبيرة وتركض خارج ساحة المبارزة وهي تشعر بقلبها يكاد يتوقف من الرعب وايفان لم يتحرك من مكانه مبتسمًا على ما تفعل، تحسب أنها خدعته وهو من أرخى دفاعاته، تعجبه تلك اللعبة، الذئب والنعجة .
ألقى السيف ارضًا ثم نظر لاثرها يقول بهدوء :
” جيدة كامرأة…سيئة كمحارب ”
_____________________
يقف على مقدمة السفينة وهو يمارس بعض التمارين مخافة أن تضعف قدرته البدنية لابتعاده هذه الأيام عن تمارينه المعتادة، فهو يومًا واحدًا لم يتخلف عن تأدية تمارينه أو المبارزة، إلا في حالة الحرب وقتها يطبق عمليًا ما تمرن عليه، والآن مرت اسابيع لم يحمل بها سيفًا أو يقاتل ..
كان يقف أمام صمود يقاتله بالأيدي بكل مهارة وصمود ذلك التعيس الذي جعله حظه النحس يستيقظ مبكرًا ويقع أمام سالار حتى يعرض عليه الأخير تمرينًا خفيفًا .
وها هو قد كُسر له ضلعين وأُصيبت عينه اليمنى بكدمات وأصبحت ذراعه رخوة لكثرة الضربات التي تلقتها، وكل ذلك خلال ( التمرين الخفيف )، حمدًا لله أنه لم يقترح قتالًا شرسًا، لكان الآن أصبح بطول صامد بعدما يكسر له القائد سالار عظامه ويطويه …
خرجت صرخات من صمود بعدما قبض سالار على ذراعه بحركة متمرسة يجذبه له وهو يقول بصوت خافت :
” ما بك صمود ؟؟ هل تحاول أن تتهاون معي ؟! قاتل يا رجل ولا تخشى ”
نظر له صمود يبتلع ريقه بألم:
” ليتني امتلك رفاهية التهاون يا قائد، أنا أريد أن أصل لمرحلة التهاون تلك، لكنني مازلت أحاول أن اقاتل، اعطني فرصة لرفع إصبعي ”
تركه سالار فجأة، ثم عاد هو للخلف يحرك رقبته بهدوء مبتسمًا بسمة صغيرة هادئة :
” حسنًا لك ذلك، سأمنحك فرصة الهجوم عليّ، أريدك أن تغافلني بحركة غير متوقعة، لتتخيل أنك في معركة ضدي صمود، هيا ”
تمتم صمود بتأوه مكتوم :
” أتخيل ماذا يا قائد؟! التخيل نفسه مفزع، أنت مرعب في معاركك ”
منحه سالار هزة بسيطة من كتفه :
” فقط تخيل، ولا تخف فلن اعقابك إن اصبتني بشيء، هذا متوقع في القتال ”
ردد صمود بتمني :
” أقسم أنني لا امانع إصابتك يا قائد، لكنني لن استطيع، الحالة الوحيد التي يمكنني إصابتك بها هي عندك تخديرك بالكامل ”
أعاد سالار خصلاته الصهباء الكثيفة للخلف يشير له بالاقتراب، وصمود ابتلع ريقه يردد بينه وبين نفسه بنبرة أوشكت على البكاء :
” ليتني مت عطشًا وما استيقظت مبكرًا للشرب ”
” هيا صمود لن انتظر اليوم بطوله ”
” ما بك تتعجل موتي يا قائد، رجاءً اعطني فرصتي لرثاء نفسي واستعادة ذكرياتي قبل الرحيل ”
تنفس بصوت مرتفع مغلقًا عينيه يستدعي كل قوته المخزنة داخل جسده، وقوته الباطنية التي حتى لم يستكشفها يومًا، يقوي روحه قبل جسده، واخيرًا فتح عيونه ببطء يستشعر اصوات الرياح الخفيفة حوله وقد أصبحت جميع حواسه في كامل قوتها وتركيزها، نظر لسالار من أسفل رموشه، يطقطق رقبته، ويفرقع أصابعه، ويحرك لسانه على باطن خده، ثم ابتسم بسمة جانبية يتراجع للخلف خطوة، ومن ثم انطلق بقوة مرعبة وخطوات سريعة كالبرق صوب جسد سالار الذي كان في انتظار ضربته..
وبمجرد أن أصبح على بُعد خطوة من سالار رفع يده صارخًا صرخة حماس سرعان ما خفتت حينما تلقى لكمة واحدة من سالار اسقطته ارضًا واسقطت معه كامل تجهيزاته .
وتزامنًا مع صوت اصطدام جسد صمود بالأرض ارتفعت صرخة من فم تبارك التي كانت تراقب القتال منذ بدايته والتي تراجعت للخلف حينما رأت ما حدث قائلة بصدمة :
” يا منجي من المهالك يارب ”
رفع سالار رأسه له بتعجب وهي ابتلعت ريقها وما تزال تنظر لصمود الذي هبط ارضًا ولم يصعد حتى الآن، وحينما رفعت رأسها لسالار قال بهدوء شديد وكأنه يخبرها تحية الصباح :
” تريدين قتالي ؟؟”
نظرت تبارك حولها بسرعة كبيرة على أمل أن يكون هناك من يحدثها خلفها، لكن اكتشفت أنها هي الفتاة الوحيدة هنا وعلى السفينة، أشارت على نفسها بصدمة :
” أنا ؟؟ اعاركك أنت ؟؟”
اومأ سالار بجدية :
” نعم، تستطيعين ؟؟ جميع الملكات يستطيعون القتال بمهارة معينة، هناك من يستطيع القتال بالسيوف أو السهام وغيرها من الأسلحة ومنهم من يبرع في استخدام اليد في القتال، ما الذي تبرعين أنتِ فيه ؟!”
” بعرف ادي حقن ”
تشنجت ملامح سالار بعدم فهم، بينما تبارك استرسلت بسرعة تقول بلهفة :
” أنا احسن واحدة في المستشفى كلها تدي حقن، والله كان المرضى يطلبوني بالاسم، اصل انا ايدي خفيفة محدش بيحس بيها ”
ارتفع حاجب سالار لا يفهم ما الذي تقصده، يتمنى ألا يكون ما وصل لعقله منذ قليل صحيح، لا يجوز، أن تكون ملكتهم عديمة الخبرة في القتال لهو عار على المملكة بأكملها، أن تحظى بملكة ضعيفة لا تستطيع حتى القتال والدفاع عن النفس، فمن المعروف في جميع الممالك أنه ومنذ صغر الاميرات يتم تعليمهن مهارات القتال بمختلف أنواعها …
” لا تستطيعن استخدام أي سلاح ؟!”
صمتت ولم تتحدث بكلمة واحدة، بينما هو شعر بصدمة كبيرة، يا الله أي ملكة تلك التي لا تمتلك من المهارات ما يؤهلها حتى للجلوس على العرش لثواني معدودة ؟
تحرك سالار صوبها بعناد، يخرج من ثيابه خنجرًا خاص به، يضعه بين يديها قائلًا :
” لا يمكن أن تكوني معدومة الخبرة القتالية، بالطبع هناك قدرات كامنة داخلك وعليكِ اكتشافها، هيا هاجميني ”
نظرت تبارك للخنجر ثواني، ثم رفعت عيونها له تقول ببسمة غير مصدقة :
” اهاجمك ؟؟ زي المرحوم اللي لسه مرمي في الأرض ده ؟؟”
كانت تتحدث وهي تشير صوب صمود والذي يبدو أنه لا ينتوي النهوض ابدا وكأنه استحسن فكرة إدعاء الموت كي لا يكمل سالار القتال معه …
ابتسم سالار يهز رأسه، وهي تراجعت للخلف رافضة أن تتسطح جوار صمود ارضًا بعدما ينتهي منها، لكن سالار لم يسمح لها صارخًا في وجهها بشراسة كما لو كان يأمر أحد جنوده :
” أخبرتك أن تهجمي عليّ…. الآن ”
وفي ثواني دون أن تعي حتى كيف رفعت السكين وحركت يدها ناحيتها بقوة ليتجنبها بكل سهولة ينظر لطريقة امساكها السكين بشر :
” ما هذا ؟! هل تقطعين بعض الخضروات ؟! احملي سلاحك بشكل صحيح ”
” سلاح إيه يا مجنون يا ابن المجانين أنت، حد قالك أنك معاك خبيرة قتال ؟؟ ده اخطر حاجة مسكتها كانت مشرط الجراحة عشان اناوله للدكتور وبعدها علقولي محاليل من الخضة ”
كان سالار يستمع لها دون اهتمام بكل ذلك الهراء، كل ما يهمه هو أن يجبرها على استخدام قوتها الكامنة داخلها :
” إذن أنتِ لن تهجمي عليّ ؟؟”
تحدثت بسخرية وهي تلوح بيديها في الهواء ثم أشارت صوب صمود :
” كان عمود النور المرمي في الأرض ده قدر، أنت صاحي على الصبح عايز تتكيف على قفانا ولا ا..”
وقبل أن تكمل كلمتها أخرج سالار خنجر آخر يخفيه في ثيابه حتى يريها كيف تحمله، لكن وحينما أظهره لها أطلقت تبارك صرخة جنونية متراجعة للخلف ظنًا أنه سيتخلص منها، ترفع الخنجر في وجهه :
” حاضر ههاجمك، والله هقطعك واعملك كل اللي عايزه، بس ..بس ارجع ورا شوية، اديني بس فرصتي وانا هعملك شرايح دلوقتي ”
ورغم تعجبه من كلماتها إلا أنه نفذ لها ما تريد وتراجع بعض الشيء ليمنحها فرصة الاستعداد، وبالفعل بمجرد أن فعل تنفست تبارك بصوت مرتفع، ثم رفعت يدها وألقت الخنجر عليه بقوة كما لو كانت ترميه بصخرة، ثم ركضت صارخة بعيدًا عنه صوب غرفتها التي خرجت منها وهو ما يزال يراقبها بصدمة مما فعلت :
” يا الله الصبر ياالله، سيموت إيفان بحسرته حينما يرى ما خرج بعد بعد سنوات تعففه وصبره ”
_______________________
” أقسم بالذي خلقني لو اقتربت مني خطوة واحدة لاصرخن في طرقات القصر واخبرهم أنك تحاول التحرش بي، ولن يهدأ لي بال حتى أراك تُجلد أمامي أيها المختل”
اتسعت عين تميم بصدمة ولا يصدق ما وصل له حاله، فتاة من عامة الشعب تهدده هو، هو من تهتز له أجساد رجال يفوقنها الحجم اضعافًا مضاعفة، هو صانع الأسلحة الأشهر في الممالك وافضل فارس بين الجميع تقف أمامه تلك الـ شيء الذي لا يجد له مسمى ويهدده بالجلد ؟!
حاول تميم الفكاك من بين ذراعي دانيار صارخًا بجنون :
” أي تحرش هذا أيتها الحولاء ؟! بالله هل تصنفين نفسك امرأة لتقفي وتتبجحي باتهامك لي بالتحرش ؟؟ ”
نظر له دانيار بشر هامسًا :
” ما بك تميم ؟! منذ متى ونعامل النساء بهذه الطريقة ؟؟”
صرخ تميم بجنون بعدما أفلت من يده :
” ومنذ متى ونحن نصنف مثل هذه الطفيليات نساء يا اخي، بالله عليك انظر إليها، بعدما انقذتها من انفجار آخر كاد يتسبب في تحويل جسدها لقطع لحم بحجم الرمال، تنهض وتصفعني ؟؟ تصفعني أنا ؟؟”
تنفست برلنت تحاول أن تتماسك رغم ارتجافة يدها، فهي تقسم بالله ما علمت كيف تجرأت ورفعت يدها وصفعته لجذبه لها، بل وصرخت في وجهه متهمة إياه بالتحرش .
” هذا جزاؤك لأنك لمستني و…”
” بالله وتالله ووالله كنت سأهرول لحجرتي بمجرد تركك لغسل يدي بالمطهرات، فلا تتصرفين بهذا الشكل وكأنني كنت مستمعتًا لجذب بقرة تزن طنًا والركض بها بين طرقات القصر ”
نفخ بحنق يهمس من أسفل أنفاسه :
” يا الله على عقول النساء، عسى أن يعطيكن الله على قدر عقولكن ”
ختم جملته يتحرك بعيدًا عن الجميع وهو يتمتم بغيظ وصوت تمتماته يصل للجميع، وبرلنت ما تزال تقف ارضًا تحاول أن تلملم بقايا كرامتها التي دهسها تميم أسفل أقدامه قبل الرحيل..
بينما دانيار وضع يده أعلى فمه يكتم ضحكة كادت تفلت منه، يقول بصوت هادئ بعض الشيء يظهر به بوادر ضحك :
” اتمنى أن تعذري رفيقي آنسة، فهو كالثور لا يرى أمامه حين الغضب، لكنه في الحقيقة امممم ثور لطيف، والآن اعذريني وآسف على ما تعرضتي له، ارجو ألا يصل للملك ما حدث ”
تحرك دانيار بسرعة وبخطوات واسعة بعيدًا عنها قبل أن تنفلت ضحكاته أمام برلنت والتي كانت ما تزال متسعة الأعين فاغرة الفاه، تحاول استيعاب ما قيل لها منذ ثواني ..
وفجأة انتفضت على صوت ضحكات صاخبة جوارها، جعلتها تستدير بتحفز وأعين تقدح شرارًا، لتجد أن مصدر الضحكات لم يكن سوى زمرد التي شاهدت ورأت كل ما حدث، وقد كانت أحد الناجين من الانفجار .
تنفست زمرد بصعوبة من بين ضحكاتها :
” حسنًا، في الحقيقة كان هذا أكثر من قاسٍ ”
تنفست برلنت بصوت مرتفع وقد بدأت تعلو نظرة مرعبة عيونها قبل أن تندفع بعيدًا عن زمرد بشكل جعل الأخيرة تقول وهي تهز كتفها بهدوء :
” رجال هذا القصر، لا يعلمون عن احترام النساء شيئًا”
تحركت زمرد لتنتهي من جولتها في القصر حتى ينتهي وقت العمل ويحين وقت الطعام، لتركض وتتظاهر بالاعياء والمرض جراء عمل اليوم ..
وبعد ساعة من الدوران حول حديقة القصر الداخلية حيث تعمل النساء عادة ويُمنع دخول الرجال لهذا الجزء بسببهن، كانت زمرد تجلس أسفل إحدى الأشجار وهي تتناول بعض الفاكهة التي قطفتها بنفسها ..
لكن وبعد مرور ساعات شعرت بالملل الشديد لتفكر في فعل شيء مختلف، نهضت بسرعة تنفض ثيابها، ثم تحركت صوب الباب الخلفي للقصر وهي تفكر في الخروج والعودة قبل المغيب، سوف تأخذ جولة في سوق المملكة، لكن قبلًا عليها تبديل ثياب العمل تلك وارتداء ثيابها القديمة، ستعيش اليوم كما كانت تفعل قديمًا وبكل حرية بعيدًا عن أسوار السوق الخانقة…
وفي سوق المملكة كان يسير هو بثياب عادية يحاول الاندماج بين عامة الشعب لشراء ما يحتاج بنفسه دون وجود أي حراس أو خيله أو أسلحته، يضع قلنسوة من القماش كالتجار مخفيًا ملامحه، يبتسم لهذا وذاك …
وفجأة سمع صوت ضرب الدف يصدح في المكان والجميع يتحرك صوب أحد الأزقة التي تجاور السوق، قادته قدمه بسرعة ليتفقد ما يحدث ..
وبمجرد أن وصل وجد امرأة تقف في منتصف الزقاق دون لثام والذي عادة ما ترتديه النساء، لكن البعض قد يخلعنه، وتلك المرأة أمامه لم تكتفي بخلع لثامها، بل كانت ترتدي ثياب غير مسموح بها للنساء، بنطال قماشي واسع وسترة علوية واسعة من اللون الاسود وتضع حجاب اسود تعلوه قبعة من نفس اللون أعلى رأسها، تحمل بين يديها خنجران تدور بهما في المكان وهي تقول بصوت صاخب ساخر :
” ماذا ؟! ألا يوجد بكم رجلٌ يمكنه هزيمتي ؟؟ عارٌ عليكم أجمعين…”
ابتسمت بسمة واسعة، ثم انحنت بعض الشيء وهي تؤدي لهم تحية ساخرة :
” إذن الميدالية لي والجائزة لي، حظ أوفر ”
ختمت حديثها تلقي الخنجرين ارضًا بعدما انتهت من منافسة الرجال وفازت هي بشكل غير متوقع بالجائزة المعروضة، بدأت تجمع القطع الذهبية بكل استمتاع، لكن قبل أن تنتهي من وضع القطعة الأخيرة داخل السلة وجدت خنجر يصيب السلة جوار كفها بانشات قليلة، ابتلعت ريقها بصدمة تستدير ببطء لتلمح جسد رجل يخفي وجهه خلف قلنسوته والذي قال ببسمة ظهرت في عيونه :
” بل العار هو أن تعلني فوزك بحرب لم تكتمل سيدتي ”
نظرت له الفتاة تحاول تبين ملامحه وصوته المكتوم خلف لثامه يذكرها بصوت مألوف، لكن الجسد لم تتبينه بسبب كبر حجم ثيابه .
ابتسمت زمرد بسمة جانبية تترك القطع الذهبية، ثم انتزعت الخنجر الذي ألقاه هو بالسلة، وهي تشير للهدف الذي يتم التنافس على التصويب عليه، دققت النظر به ثم صوبت عليه بتحديد وبشكل مهاري جعل الجميع يشهق بانبهار وهي ابتسمت تمد له أحد الخناجر :
” دورك يا سيد ..”
انتزع منها الخنجر ونظر للهدف ثواني معدودة، ثم عاد ونظر لها ودون أن يعيد النظر للهدف رمى الخنجر ليصيب منتصف الدائرة بالضبط في نفس النقطة التي صوبت هي خنجرها صوبها، وقبل أن تستوعب زمرد ما حدث كان هو يلقي خنجرين آخرين بنفس الشكل وهناك نظرة تحدي ملئت عيونه …
اسودت ملامح زمرد وهي تسمع صوت الرجل يقول :
” هل من منافس آخر ؟؟ لا ؟؟ إذن المنافسة محسومة ”
وبهذه الكلمات ختم حديثه يتحرك لحمل سلة القطع الذهبية، ثم تحرك خارج الزقاق بكل هدوء، يمر برجل مسكين تظهر عليه امارات الفقر، فوضع له كل القطع الذهبية :
” عد لمنزلك يا عم واطعم صغارك ..”
سار بعيدًا عنه وهو يخرج ورقة من جيبه ليرى ما ينقصه، لكن فجأة سمع صوتًا خلفه يقول :
” أنت…توقف يا سيد ماذا تظن نفسك فاعلًا؟؟”
استدار دانيار ببطء يراقب اقترابها منه، وحينما أصبحت أمامه انتزعت القبعة الخاصة بها تهتف بأعين مشتعلة :
” هل تظن نفسك بارعًا وتتحداني أمام الجميع ؟؟”
” أنا لا أظن ذلك آنستي، أنا كذلك بالفعل ”
كانت يتحدث وهو يتأمل ملامحها باندهاش حاول أن يخفيه، ملامحها مختلفة كليًا عليه، ملامح شرسة حاد وأعين كحيلة قاسية وفم يقذف سهام أشد حدة من سهامه المسنونة بعناية، تلوح بيديها في الهواء ثم رفع اصبعها تقول بتحدٍ :
” غدًا في نفس الموعد ونفس الزقاق، سأريك كيف تكون الهزيمة على حق ”
نظر دانيار لاصبعها باستهزاء، ثم قال بكل هدوء :
” عفواً آنستي، لكنني لستُ متفرغًا لهرائك الخاص، ولستُ مضطرًا لإثبات أنكِ خاسرة، اعتقد أنك تعلمين نفسك جيدًا وانكِ ناضجة بالقدر الكافي الذي يؤهلك لمعرفة ذلك دون أن يثبته أحد لكِ ”
ختم جملته يتركها بكل بساطة يسير بعيدًا عنها تاركة إياها تراقب ظهره ورحيله بصدمة كبيرة، تشعر بالخسارة تأكلها من الداخل، الشيء الذي كانت تتميز به بين المحيطين بها جاء ذلك الغبي وهزهمها به ….
________________
تتحرك في أركان السفينة بحذر شديد، تتلفت حولها كل ثانية والأخرى كما لو كانت على وشك افتعال سرقة أحد البنوك، واخيرًا وصلت صوب الكابينة الخاصة بتناول الطعام أحضرت لها بعض الغذاء، ثم أخذته في صحن صغير وركضت صوب إحدى الطاولات واختبئت أسفلها وهي تتنفس الصعداء وتنظر حولها أثناء تناول لما بيدها، لكن فجأة وقعت عيونها على صامد وصمود يشاركنها مخبئها حاملين اطباق الطعام ويتناولون بنهم…
ابتسم لها صامد حينما انتبه لها يشير بيده قائلًا من بين مضغاته :
” مرحبًا ”
انطلقت صرخات مرتفعة من فم تبارك التي تراجعت للخلف برعب شديد، بينما انتفض صامد بسرعة يحاول أن يصمتها :
” اهدأي رجاءً قبل أن يصل صوتك للقائد، وحينها لن يرحم ايًا منا ”
نظرت لهم تبارك بتعجب:
” أنتم كمان مستخبيين منه ؟!”
اومأ صمود يقول بصوت منخفض :
” لقد جن القائد، من الصباح يتحين أي فرصة لقتال أي شخص تقع عليه عيونه، وقد كاد يقتلني في التدريب الأخير ”
اخفضت تبارك صوتها تهمس بقلق :
” هو …هو على طول كده يعني ؟؟ هما طالقينه كده على الناس ؟! مفيش حاجة حكماه يعني ؟؟”
تناول صامد بعض طعامه باستمتاع شديد وما يزال الثلاثة جالسين أسفل الطاولة يتناولون ما بأيديهم :
” حسنًا نحن لا نعلم الكثير، فبحكم وظيفتنا في المملكة لا تتقاطع طرقنا مع القائد كثيرًا ”
تمتم صمود براحة :
” حمدًا لله على ذلك ”
اكمل صامد وهو يبتلع ما بفمه :
” لكنني سمعت أن القائد لا يحتك بأحد سوى جنوده ورفاقه، وحينما لا تكون هناك حروب، فإنه يقضي وقت فراغه في التدرب على جنوده وتعليمهم كيفية القتال الصحيح، و…”
صمت ثم اقترب منها يهمس بجدية :
” سمعت أنه وحينما يرون سالار يتحرك صوب ساحة القتال، يفر الجميع مرتعبين منه ”
كانت تبارك تتناول الطعام بكل اندماج مع حكايات سالار التي كان صمود وصامد يقصونها عليها، وهي تتابع يحماس وشغف كبيرين تتسع عيونها تزامنًا مع اشتعال الأحداث، وصمود يصف لها انجازات سالار وأفعاله :
” وذات مرة دخلت مملكتنا في حربٍ مع المنبوذين، وسمعت البعض يقول أنه وفي منتصف الحرب رأوا القائد سالار يتحول لوحش ثلثه اسد والثلث الثاني فهد، والثلث الاخير كان تنينًا ”
شهقت تبارك بدهشة شديدة وهي تبتلع ما بفمها، تحاول أن تتخيل ذلك الوحش الأسطوري الذي يتحدث عنه الاثنان، وصامد لم يتوقف عند ذلك الحد :
” نعم نعم أنا أتذكر تلك الحرب جيدًا، لقد أخرج نيرانًا من فمه، هو فقط توقف في منتصف ساحة الحرب فاردًا ذراعيه باتساع، ثم نفخ صدره وقال بصوت جهوري (قولوا وداعًا يا حمقى) ومن بعد تلك الكلمات لم يبصر أحد سوى جحيمًا مستعرًا خرج من فمه ”
ارتعش جسد تبارك تتخيل ذلك المشهد المهيب، لكن فجأة ومن وسط ذلك الحوار الشيق استمع الثلاثة صوت هادئ خلفهم، استداروا ببطء شديد ليجدوا سالار يجلس ارضًا بكل هدوء يضم قدميه لجسده، مبتسمًا بشكل مرعب، ومن ثم قال لهم بنبرة باردة كالصقيع :
” قولوا وداعًا يا حمقى …”
وبعد تلك الكلمات ارتفعت صرخات صامد وصمود اللذين انتفضا من خلف الطاولة ملقيين ما بأيديهما راكضين في المكان وصوت صرخاتهما يرن في الأجواء الهادئة .
بينما تبارك والتي لم تكد تهرب زحفت للخلف وهي تصرخ بصوت مرتفع صرخات متواصلة وقد كادت عيناها تخرج من محجرها، تعود للخلف وهي تلقي بكل شيء عليه :
” ارحمني، ارجوك ارحمني …”
وضع سالار يده على أذنه بانزعاج :
” بل أنا من ارجوكِ أن ترحميني وتتوقفي عن الصراخ، يا الله يا مغيث أكاد أفقد السمع ”
لكن تبارك كانت تبكي برعب وهي تزحف بسرعة من أسفل الطاولة لتخرج، ولم تكد تفعل إلا وشعرت بيد سالار تجذب ثيابها للاسفل مجددًا يردد بجدية :
” توقفي هنا واستمعي لي، أنتِ بالطبع لا تصدقين هـ ”
وضعت تبارك يدها أمام وجهها بسرعة كبيرة وهي ترتجف برعب وتردد من بين أسنانها التي تصطك بخوف :
” ارجوك متولعش فيا، أنا موافقة، هاجي معاك والله ”
” أنتِ حمقاء ؟؟”
لكن تبارك والتي كانت قد بنت في عقلها قصة كاملة عن مملكة خوارق ومصاصي دماء ومستذئبين ووحوش امثال سالار، لم تكن لتستمع لحديثه الذي يحاول إيصاله لها…
وحينما يأس سالار من أفعالها جذب ثيابها بعنف شديد جاعلًا إياها على بعد مناسب منه مرددًا من بين أسنانه ضاغطًا على كل احرفه كي يحشر كلماته في رأسها:
” أنا لست وحشًا ولا تنينًا ولا انفث نيرنًا من فمي كما أخبرك الاخوان الاحمقان، واضح ؟؟”
هزت رأسها بسرعة وبخوف :
” اللي تشوفه…. اللي تشوفه أنا معاك فيه ”
نفث بغضب قائلًا من بين أسنانه :
” أنا في هذه اللحظة لا أرى سوى ذرات الغباء تتحرك في المكان حولي ”
” صح، أنت عندك حق ”
كانت تتحدث وكأنها تهادن طفل صغير مخافة أن ينفجر في البكاء ويؤرق ليلتها، لكن الفرق أن من أمامها ليس طفلًا وأن انفجاره لن يكون بكاءً .
” أنتِ حتمًا اسوء واغبى ملكة ستحصل عليها سفيد يومًا”
” وماله يا باشا، اللي تشوفه ولو تحب اروح اعتذر منها بنفسي أنا مستعدة ”
” من هي ؟؟”
” سفيد ”
ترك سالار ثيابها يخرج من أسفل الطاولة بعدما آلمه ظهره من الانحناء يصرخ رافعًا يديه للسماء :
” يالله يا ولي الصابرين ”
راقبته تبارك وهو يخرج من المكان، بينما هي تحاول التنفس براحة شديدة بعدما تخلصت من أسر قبضته تردد :
” يا رب وأنا كنت ناقصة شغل الخوارق ده ووحوش وتحول وملكة و MBC2؟؟ والله انا أخري تسالي احلى عالم على MBC3 وكنت بمل في نصها وبجيب طيور الجنة ”
مسحت وجهها وهي تقول :
” خلاص هو الموضوع اتحسم، اول ما نوصل اقرب يابسة هسيبهم وأهرب على اول مركز شرطة اطلب منهم مساعدة، مستحيل اكمل مع شوية المجانين دول باقي حياتي ”
_________________
” ايه ده ؟؟ ”
اقترب سالار من الخلف وهو يحدق فيما تنظر له، غابة واسعة لا بداية ولا نهاية لها، أو هذا ما يظهر لهم، وأصوات مرعبة تخرج منها وكأنها تدعوك لخوض مغامرة رعب ستنتهي بموتك أنت وكامل طاقمك ..
ابتسم سالار يردد بهدوء :
” خلف هذه الغابة تقبع نهاية العالم ”
نظرت له تبارك بجهل:
” القيامة هتقوم؟؟”
” ماذا ؟؟ لا …اقصد المكان يسمى بحافة العالم أو نهاية العالم، وهذه هي بوابتنا لدخول المملكة ”
ابتلعت تبارك ريقها بقلق تشير صوب الغابة التي يخرج منها اصوات صريخ وحيوانات ليلة وهناك العديد من الطيور السوداء تحلق فوقها بشكل مثير للاختناق :
” يعني احنا هندخل هنا ؟! في الغابة دي ؟؟”
” نعم هذا صحيح ..”
اومأت تبارك بتفهم وهدوء شديد، هي لم تعد تتعجب ما يطلبونه منها، حقًا لم تعد تفعل :
” كلام جميل، كلام لطيف، لكن للاسف الشديد أنا ما اخدتش اجرتي عشان اشترك في فيلم الرعب ده، وانا سبق وجيت معاكم الرحلة على أساس أنها خيال علمي، بس محدش جاب سيرة الرعب، وعشان كده انا بنسحب من الفيلم ده وتقدروا تجيبوا أي زميلة مهنة تكمل الدور، اشوفكم في شاشات العرض، بالتوفيق يا شباب ”
وبمجرد انتهاء كلماتها تركت سالار وصامد وصمود خلفها دون اهتمام بهم، وسارت تحمل حقيبتها أعلى ظهرها وهي تردد بحنق وسخرية لاذعة :
” نهاية العالم …اللهي اشوف نهايتكم واحد واحد يا بعده”
زفرت بتعب وهي تنظر حولها لتلك الغابات المنتشرة والأشجار الشاهقة تردد بعجز وهي تخرج هاتفها عديم الفائدة تبحث عن شبكة اتصال، لكن بالطبع فشلت مساعيها، وضعت يدها أمام رأسها كي تخفي أشعة الشمس عن عيونها، تبحث في الإرجاء عما قد يفيدها مرددة بتأفف :
” اركب منين أنا لصفط اللبن دلوقتي ؟؟”
وكانت الإجابة هي ارتفاع اصوات الحيوانات في الغابة خلفها لتشعر تبارك بالرعب يتلبس جسدها، ابتلعت ريقها تستدير بخوف للخلف :
” يا قائد …يا قــــائــد ”
_________________________
أن تعيش طوال حياتك بحذرة مخافة أن تأتيك كارثة تؤرق مضجعك لهو أمر جيد، لكنك لم تدري أن كل الكوارث التي تجنبتها سابقًا بحذرك، تجمعت تنتظر لحظة طيشك لتغرقك كما السيل حين انهيار سد حذرك …
يتبع….
هناك بعض النقاط التي تسرع البعض منها في الحكم عليها واهمها، أن البعض يظن ” تبارك ” غبية لأجل تصرفاتها المرتابة، لكن اعزائي ببساطة تبارك شخص منطقي لأبعد الحدود، تخيلوا أن تستيقظوا لتجدوا رجلًا يخبركم نفس ما قاله سالار لها، واضطررتم لخوض مغامرة ابعد ما تكون عن حياتكم العادية، بالطبع ستجهلون كل شيء يمر عليكم مثلها، وتخطئون وترتابون وتخافون من كل شيء مجهول، فهذه المرة الأولى لها التي تتعامل مع مثل هذه الأشياء، وهي فتاة وحيدة منغلقة بالطبع يجب أن تكون ردات فعلها كما رأيتم، فأنا وضعت نقاط كثير في شخصية تبارك واهمها ( خوف تبارك الدائم من الموت والحرص على حياتها باعتبارها وحيدة لا سند لها، ومنطقيتها بعيدًا عن الخيال ) فهي لن تركض وتلبي النداء وهي سعيدة دون رفض، وفجأة تجد نفسها ماهرة في التأقلم على كل ذلك، هذا غير منطقي…وقريبا تنكشف باقي نقاط شخصيتها التي ستذهلكم .
ثانيا شخصية كهرمان، البعض وصفها بالغباء وصدقوني كهرمان عقليًا ابعد ما يكون عن الغباء، هي شخصية ماهرة ذكية وحكيمة لأبعد حد وظهر ذلك في موقف عدة، عيبها الوحيد هو التسرع والتهور والحكم بعاطفة .
البعض منذ الآن يعترض ويقول ( لا اريد سالار لتبارك / لا اريد إيفان لتبارك / لا اريد فلان لفلانة ) اعزائي ظننت أننا تخطينا هذه الأمور سابقًا، فللأسف ما قررته في هذه الرواية هو ما سيحدث بغض النظر عن أي اعتراضات، حبكة الرواية قوية، وكل ما شهدتموه اصنفه أنا مجرد بداية لا أكثر، تمهيد لملاحم قوية واحداث شديدة، فقط اصبروا ومهما كانت النتيجة تأكدوا أنه هو الصحيح ونحن جربنا هذا سابقًا .
واخيرًا ليس هناك بطلٌ محدد الأربعة ابطال بنفس المقدار ونفس الحجم، فلا يأتي أحدهم ويظن أن دور إيفان دور مساعد، دعوني اخيب ظنكم واخبركم أن إيفان داهية وملك كبير كما سالار متجبر وقائد جيوش عظيم، ودانيار قائد رماة ماهر، وتميم صانع أسلحة خبير، وقريبا ينضم لنا مهيار الطبيب الملكي ….
والآن نصيحة من رحرح، استمتعوا بالاحداث وتأكدوا أن ما يحدث الآن هي قشرة بسيطة تخفي خلفها الكثير والكثير فلا تتسرعوا بالحكم، هذه الرواية كما وعدتكم ستخطف انفاسكم .
والآن قراءة ممتعة .
صلوا على نبي الرحمة
______________________
تأففه يعلو كل ثانية خمس مرات أو أكثر، لا يطيق وجودهم داخل مكتبته العزيزة، أو بالأحرى هو لا يطيق وجود أي كائن حي داخل مكتبته..
” أشعر أن العريف لا يحب وجودنا داخل مكانه الحبيب ”
أردف تميم بهدوء شديد وهو يحمل بين يديه ورقة وقلم يحاول أن يتذكر جميع مكونات البارود ليعيد نفس التجربة بشكل أفضل، بينما جواره يجلس دانيار الذي عاد لتوه من الخارج.
ابتسم العريف يتحسس بومته الخاصة ثم قال :
” نعم صدقت، أنا لا أحب وجودكم داخل مكتبتي، أو في محيطي الخاص، بل …أنا لا احبكم بتاتًا ”
ابتسم دانيار يجيب بهدوء شديد وهو يضجع على مقعده بكل استرخاء فقد أصبحت مكتبة القصر والتي يعتبرها العريف ملكية خاصة، هي مكان تجمعهم لحين الانتهاء من ترميم معمل تميم :
” وكذلك نحن لا نحبك، لكن هل وجدتنا نشكو ذلك ؟؟ لا صحيح ؟؟ إذن اسمعنا صوت هدوئك .”
ارتفعت أصوات من البومة التي تعلو كتف العريف وكأنها تعترض تمامًا على كلمات دانيار، ليبتسم لها دانيار حاملًا السهام الخاصة به يوجه سهمًا صوبها قائلًا :
” صوت اضافي واجعل منكِ طبقًا لعشائي يا ثرثارة ”
وكأن البومة قد فهمت ما يريد إذ تراجعت مرة أخرى بخنوع على كتف العريف تصمت، بينما العريف قال :
” بالله ما الذي يجبرني على تحمل وجودكم هنا ؟! ألا يكفيني مرجان بكل حماقاته وضوضائه ؟؟”
رفع مرجان والذي كان يجلس ارضًا بين العديد من الكتب رأسه قائلًا بعدم فهم :
” وماذا فعلت الآن يا عريف ؟؟”
تجاهله العريف يكمل :
‘ارجو أن يتم الانتهاء من المعمل قبل عودة سالار فلن أتحمل أن يأتي هو الآخر لمكتبتي العزيزة، فتملئ أصواته الصاخبة جدرانها الحساسة ”
قال تميم بجدية بعدما رفع رأسه عن الاوراق أمامه :
” صحيح على ذكر سالار، ألا تعلم متى سيعود ؟! مرت اسابيع منذ غادر لذلك العالم المخيف”
تمتم العريف بصوت منخفض وهو يتحرك صوب أرفف بعض الكتب :
” عسى ألا يفعل، لقد سئمت منكم حقًا ومن قائدكم ذلك، صرت أترقب الحروب بفارغ الصبر فهي ما يبعدكم عني ”
وعلى ذكر الحرب شرد دانيار يقول بصوت خافت :
” إذن أيها العريف من برأيك قد يساعد المنبوذين لدخول مشكى ؟؟ أنت لمحت أن الأمر لم يكن محض صدفة، هل تعلم شيئًا لا نعلمه ؟!”
نظر له العريف بطرف عينه، ثم عاد ينتبه لما يفعل، لا تعنيه إجابة في الوقت الحالي، بينما دانيار تأكد من شكوكه، ذلك العجوز المخيف والذي يعلم أكثر مما يظهر، يخفي عنهم سرًا قد يغير مجرى الحكاية بأكملها..
وبعد صمت لدقائق قال العريف بنبرة غامضة أبعد ما تكون عن نبرته الحانقة والمتهكمة والكارهه، يقول بصوت أجش خافت وهو يحمل كتاب ويسير صوبهم بتؤدة :
” أحيانًا لكي تسير مركبك المحطمة، عليك بأخذ شراع غيرك، ولتفعل ذلك تحتاج لمساعدة ممن يحترفون الأخذ والسرقة …”
صمت ثواني ثم قال بخبث :
” كالقراصنة مثلًا ”
وها هو ذلك العجوز يعود لالغازه التي تخفي خلفها حقائق مخيفة، حقائق يستغرقون ربما أشهر طويلة لحلها، فقط لأن العريف يحب لعب دور مقدم الفوازير، ويهوى فقرة السحر والالغاز .
كان تميم ينظر له ببلاهة وفم مفتوح يحاول أن يفهم ما يقصد العريف، وفي النهاية قال وهو ينفخ بغيظ :
” أنت أيها العجوز الخرف، لو أنك قلت كلماتك دون الغازك الغبية تلك ستصيبك لعنة؟! هل هناك من يهددك لعدم كشف الحقيقة ؟؟”
شاركه دانيار الغيظ والغضب لتلك اللعبة التي يخوضها معهم العريف :
” كانت نصف مشاكل المملكة لتنتهي في وقتها، لو أنك أخبرتنا بما تعلم دون لعب دور الغامض الذي لا يليق بك، صدقني أنت بهيئتك المخيفة تلك أبعد ما يكون عن الخبث والغموض، هيئتك تصلح لتكون مشعوذ ”
ابتسم العريف بسمة جانبية يقترب من دانيار فجأة بشكل جعل الاخير يتراجع بنصف جسده العلوي بصدمة، لكن العريف ابتسم بسمة جانبية يقول :
” وأين التشويق يا فتى؟؟ أين الغموض ؟؟ لولا الغموض لأصبحت جميع القصص بلا لون، ولاضحت جميع الحكايات بسيطة لدرجة الممل”
صمت ثم ابتسم بسمة مخيفة يهمس بصوت كالفحيح :
” تمامًا كقصتك دانيار، لو أنك أدركت من البداية أن لا مفر لك من الوقوع في قبضة القراصنة، وأن ما يحوم حولك هو ما تنفر منه، لانتهت قصتك قبل بدئها، لنبذت قدرك المحتوم، لكنه القدر يا فتى، كُتب عليك وانتهى ”
ابتعد عن دانيار الذي كان وجهه لا يُفسر وفي رأسه تدور كلمات العريف والذي يدرك جيدًا أنه يعني كل كلمة يقصدها، ذلك الرجل ليس ساحرًا أو مشعوذًا لكنه كان من هؤلاء الأشخاص الذي يرون رؤى وتتحقق بمشيئة الله ..
نظر العريف بطرف عينه لتميم الذي تراجع بمقعده للخلف ونظر له بريبة كبيرة، يضيق عيونه :
” إياك، سمعت إياك وقول كلمة أيها العجوز، فأنت لم يسبق لك وبشرتني بخبر مفرح، طوال الوقت تنبأني بمصائب ”
ابتسم له العريف يقول :
” لا تقلق مصيبتك أهون من مصيبة رفيقك، أو ربما لا تكون، من يدري ”
همس له تميم بقلق :
” الله يريحني منك يا عجوز يا جالب المصائب ”
استقام العريف ثم تحرك بعيدًا عنهم وهو يردد بصوت مرتفع يرفع يده في الهواء وضحكات عالية ترن في المكان :
” كله مقدر …كله مقدر وسيحدث رغم انوفكم أجمعين”
أخرج دانيار سهمًا يضعه داخل القوس وهو ينظر لظهر العريف بشر وقد شعر برغبة عارمة في قتله يهمس بغل وغضب :
” سأقتله لهذا الحقير النحس ”
لكن تميم قفز عليه يجذب يده بعيدًا عن العريف يحاول منعه من قتله، ودانيار ينظر له بغضب وكلماته ما تزال ترن في أذنه..
لكن العريف لم يكن يهتم لشيء وهو يردد بلا توقف يختفي داخل المكتبة ومن بين ضحكاته :
” لا شيء أكيد، ولا شيء حتمي، لكن الأكيد والحتمي هو أن مصير مملكتنا على وشك أن يتغير كليًا، ومستقبل سفيد على اعتاب التحول وكل ذلك سيكون على يده هو، هو فقط من سيفعل، سيفعل ويغيرها ويغير خارطة هذا العالم …….”
___________________
قاعة كبيرة تتميز باللون الاسود، العديد من المقاعد ترتص على جانبي القاعة وفي المنتصف ممر كبير فارغ إلا من سجاد ثمين باللون الاحمر …
وفي المقدمة يقبع عرش ضخم مرصع بكل الاحجار الكريمة ذات اللون الاسود، وعليه يجلس رجل بجسد ضخم وملامح شرسة ونصف وجه مشوه بالكامل، وأيدي مليئة بالجروح والتشققات وكأنها تخبرك عن مدى الكفاح الذي خاضه ذلك الرجل ليصل لعرشه، لكن أحيانًا تخدعك الادلة وتضللك الحقائق، فتلك الجروح ليست نتيجة كفاحه، بل نتيجة بطشه وجبروته، تلك الخدوش والتشوهات شاهد عيان على كل الفساد الذي عاثه ذلك الرجل خلال سنوات عمره السبع والثلاثين …
ارتسمت بسمة على وجهه المقيت والمقزز وهو يراقب تمايل إحدى نساءه الكثيرات امامه وأمام أعوانه، تتمايل على موسيقى صاخبة بكل فجور وكأن لا غد ولا موت .
تحرك خصرها الواضح من ثوبها المكشوف يمينًا ويسارًا، فقط كي تنال شرف إعجاب ذلك الطاغية ” بافل” والذي نصب نفسه قائدًا ورئيسًا للمنبوذين، منصبًا أخذه وراثة من والده بعد مقتله على يد إحدى زوجاته الكثيرات ..
وحينما انتهت رقصة تلك الفتاة مالت تحيي جميع الرجال في القاعة، ثم نظرت لبافل تنتظر منه إشارة رضى واحدة، لكنه فقط ابتسم يشير لها أن تتحرك بعيدًا.
علت الخيبة وجهها وشعرت بالحسرة وهي تتحرك خارج قاعة القصر، بالطبع ليس قصر بافل أو رجاله، فهم كانوا ومازالوا جماعة من الخنازير البرية لا مسكن لهم سوى الوحل ولا طعام لهم سوى القمامة، لكن تدور الحياة ويحصل هؤلاء الخنازير على مسكن لهم لا حق لهم به، ولا علاقة لهم فيه …
هم فقط ذهبوا وجلسوا داخل ذلك المسكن ثم اشهروا أسلحتهم بكل تبجح في وجه قاطينه، فقد كان ذلك القصر الشاهق هو نفسه قصر مشكى الذي نهبه بافل مع جماعته بعدما هدر دماء جميع العائلة الملكية وفرض سيطرته على المكان بالقوة .
” إذن سيدي ما الخطوة القادمة ؟؟”
سؤال جيد كان ينتظره بافل، ما الخطوة القادمة يا ترى، وبأي مملكة يبدأ ؟؟ سفيد أم سنز أم آبى ؟؟
ابتسم بسمة جانبية يقول بصوت هادئ مرعب :
” الخطوة القادمة هي الاستمتاع بلحظات النصر، الاستمتاع قبل العودة لساحة المعركة مرة أخرى، لا بد أن خبر سقوط مشكى وصل لجميع الممالك، وهم الآن يفكرون في طريقة لرجوع المملكة مرة أخرى ”
نظر الرجال لبعضهم البعض قبل أن يتساءل أحدهم :
” إذن هل نبدأ بتجهيز الجيوش ؟؟”
” بل ابدأ بتجهيز الاحتفالات يا عزيزي، نحن سنقيم احتفالًا في مملكتي لتنصيب نفسي قائدًا وملكًا عليها ”
لم يفهم أحد ما يفكر به بافل، ولن يفعلوا، لكنهم يثقون بعقله وبأنه سيقودهم للنصر يومًا ما .
لذلك صمتوا وبدأوا يفكرون بطموح كبير أن القادم سيكون لهم، وأن القدر سيكون حليفهم …
________________________
تسير وهي تتمسك بأحزمة حقيبتها تنفخ بسخرية شديدة مما يحدث في حياتها العجيبة المريبة تلك، يظنها ستخاف تلك الأمور الغريبة حولها وتخشى ذلك الظلام الدامس، وتلك الغابة المخيفة، وترتعد لسماعها تلك الأصوات المرعبة ؟! وتركض له تستغيث به منهم ؟؟
نفخت بسخرية لاذعة على تلك الأفكار الغبية وهي تنظر لظهر سالار وتردد بتسائل :
” هو احنا قدامنا قد ايه ونوصل ؟؟”
أمسكت حقيبة ظهرها بقوة وهي تركض خلف سالار الذي كانت خطواته سريعة وواسعة، وخاصة باقدامه الطويلة تلك…
هي الآن تسير مع الثلاثة بين الادغال كما في الأفلام الأجنبية، تتحرك بحذر مخافة أن يلتف ثعبان على قدمها دون شعورها، أو أن يهبط صقر أعلى رأسها، أو أن يهجم عليها أحد الحيوانات المفترسة من خلف الأشجار، هي تعلم كل الالاعيب تلك .
نظر لها سالار ثواني قبل أن يعود للنظر أمامه قائلًا بجدية :
” لقد تخطيتها في طريق الذهاب في يوم وبضعة ساعات، لكن معكِ لا أدري ربما اسابيع أو شهور، إن كنا محظوظين سنصل قبل أن أبلغ الاربعين من عمري ”
” هانت يعني، أنت كام يوم وتتم الاربعين ؟؟”
نظر لها يجيب ببسمة صغيرة ساخرة مستفزة :
” ليس كثيرًا، ربما سبع سنوات تقريبًا ”
نظرت تبارك لظهره وهي تحسب بكل جدية ما ستستغرقه الرحلة، وتوقفت فجأة متسعة الأعين:
” سـ..سبع سنوات ؟؟ ليه بنلف طريق رأس الرجاء الصالح ولا ايه؟؟ ده لو هنلفه زحف مش هياخد مننا سبع سنوات ؟؟”
كانت تتحدث وهي تركض خلفه بسرعة كبيرة تتمسك بحقيبتها، وفي الامام يسير صامد وصمود بحذر لتبين ما قد يعيق رحلتهما..
وسالار يسير وهو ينظر حوله بأعين حادة، يتجاهل كلماتها وثرثرتها، هو ليس من ذلك النوع الذي يتحدث كثيرًا وإذا تحدث لا يطيل الحديث، وإذا فعل واطال فسيندم ذلك الذي اضطره للخروج عن صمته، ليس معنى ذلك أنه شخص انطوائي لا يحب التحدث، هو يحب التحدث كثيرًا لكن باستخدام سيفه ويده ..
سالار يضمر عكس ما يخفي، داخله شخص مبتسم، حنون و عفوي، لكن ذلك الشخص لا يظهر سوى في سهراته القليلة مع رفاقه وجيشه، قليلًا …
ابتسمت تبارك وهي تركض بصعوبة بين تلك الأغصان والاعشاب، لا تدري أي جنون جعل حالها ينتهي بها لمثل تلك المغامرة، هي حتى لا تصدق بوجود تلك المملكة التي يتحدث، لكنها تسايره، فقط تفعل بمبدأ ( وماذا حملت لكِ حياتك المملة تبارك لتتمسكي بها بهذا الشكل ؟؟ ما الضير في خوض مغامرة قد تنتهي بموتك ؟؟)
” صحيح يا قائد هو أنا أول ما اوصل المملكة هبقى ملكة على طول ؟؟ يعني هتعملوا مراسم وابقى الملكة بتاعتكم ”
أزاح سالار الاغصان يتحدث بكلمات قليلة :
” ربما ”
” يعني هلبس تاج ولبس حرير ودهب ”
” نعم ”
صمتت ثم قالت بخجل من نطق تلك الكلمات :
” وهتجوز ملك ؟؟”
” صحيح ”
ابتسمت تبارك لتلك الأفكار الغبية، هي تتزوج ملك وتصبح ملكة وتعيش حياة مليئة بالرفاهية بعدما تجرعت الفقر كاسات دون أي رحمة ؟؟ الأمر جنوني بقدر جنون تلك المغامرة، ستتظاهر أنها تصدق كل ذلك وتفرح.
” وأنت على كده شغال ايه؟ مساعد الملك ؟!”
لم يجب سالار عليها وهو يدفع بقدمه أحد الأغصان بقوة كاسرًا إياها، ثم انتزعه من الشجرة يتجاهل صوت ثرثرة تبارك خلفه والتي ركضت تحاول اللحاق به وهو ما يزال يحمل ذلك الغصن بين يديه :
” يعني حاجة كده زي البودي جارد ؟؟ اصلك ماشاء الله عندك جتة، أنت بتروح جيم ؟؟ ”
وفجأة وأثناء حديثها لم تنتبه تبارك لبعض الفروع الملتحمة أسفل قدمها لتتعرقل بقوة وتسقط ارضًا، ثم شعرت فجأة بجسدها يُسحب للأعلى بسرعة مهولة تصرخ بجنون ورعب :
” يا قـــــائـــد …”
استدار سالار بسرعة يبحث عنها لكنه لم يبصر سوى فراغ فقط، وفجأة شعر بشيء يسقط فوق رأسه، ولم يكن ذلك الشيء إلا حقيبة تبارك التي كانت معلقة كالخروف وقت سلخه في أحد الافخاخ التي يصنعها بعض الصيادين البرية، أو المختلين..
ابتسمت تبارك وهي ما تزال معلقة من قدمها رأسًا على عقب :
” شوية مساعدة …ارجوك ”
” أوه نسيت أخبارك أن هذه الغابة تحتوي افخاخ، هذا خطأي ”
” لا ولا يهمك أنا عرفت اهو بنفسي، نزلني الله يكرمك ”
مسح سالار وجهه بغيظ شديد وهو يتمتم ببعض الكلمات الغير واضحة، يتبع الفخ يعيونه حتى وصل لمربطه، وبقوة شديدة انتزع الحبل من حول الشجرة لينفك وينفك معه الفخ وتسقط تبارك بقوة ارضًا وتعلو صرخاتها للمرة الثانية وقد بدأت تأوهاتها تزداد، تشعر بعظامها وقد تحطمت بالكامل، مال سالار قليلًا يستند على ركبته متحدثًا بملامح جامدة وبصوت أجش:
” أنتِ بخير ؟؟”
كان وجه تبارك ما يزال مدفونًا في الأرض أسفلها، لكن رغم ذلك رفعت ابهامها تقول بصوت مكتوم وهي تبصق الوحل من فمها :
” زي الفل …”
تنهد سالار بصوت مرتفع يمد لها الفرع كي تمسكه، ليرفعها عن بركة الوحل، ثم ساعدها لتقف متجاهلًا الوحل الذي يمنع عنها الرؤية بسبب اغماضها لعيونها، إذ رفعت يديها تحاول تحسس الطريق أمامها وهو يقول ناظرًا حوله :
” بما أن لا شيء حدث، لنكمل الطريق قبل حلول الظلام ”
وبعد هذه الكلمات ساد صمت طويل جعل تبارك تتعجب، فهي تنتظر هنا أن يمد لها زجاجة مياه أو قطعة قماشية تمسح وجهها، مدت يدها أمامها تقول :
” يا قائد …يا قائد، مين هنا ؟؟ حد هنا ؟؟ أنا… أنا مش شايفة ”
انحنت ارضًا تتحسس المكان بحثًا عن الحقيبة الخاصة بها، وبمجرد أن لمستها شعرت بمن يجذبها بقوة منها وصوت سالار يردد بحسرة :
” الآن فقط اتمنى أن أصل لمملكتي قبل الشيخوخة، حلمي أن أخوض حربًا أخيرة قبل التقاعد ”
كانت تبارك تضم الحقيبة لصدرها وهي تسير خلفه مغمضة العين، تعتمد على جذبه لها من الحقيبة وكأنها فأر صغير، لكنها حقًا لا تستاء، فهي ومنذ ابتعدت عنهم في بداية الغابة وكادت تصبح طعامًا للحيوانات، أخذت قرار أن تخوض تلك المغامرة وتستمتع بها، وها هي تفعل.
هل هناك اجمل من السقوط في الوحل والسير مجروره مع ثلاثة رجال لا تعلم عنهم شيئًا في غابة مخيفة ؟!
يالها من متعة !
____________________
انتهى من تفقد الجيش يعود لجناحه للحصول على بعض الراحة، جذب لثام وجهه يخفي خلفه نصف ملامحه، ليس لشيء سوى للحصول على بعض الدفء بعدما كادت أنفه تتجمد من برودة الجو في مثل تلك اللحظات .
كانت ثيابه سوداء اللون كلثامه وخلفه يرفف معطف من الجلد الذي يُصنع خصيصًا لأبناء الطبقة النبيلة والتي لا ينتمي لها ولو بمقدار شعرة، فهو ابن لمزارع بسيط، لكن بفضل الله ومساعدة سالار أصبح ما هو عليه اليوم، القائد دانيار والرامي الأول في جيش مملكة سفيد، مكانة لم يحلم يومًا أن يحتلها .
ابتسم وهو يبعد خصلاته السوداء عن عيونه، لكن فجأة تجمدت عيونه حينما أبصر من بعيد جسد يركض في الظلام، جسد يبدو كالاشباح يتحرك بخفة مثيرة للاعجاب، لكن الوضع لن يكن مناسبًا ليبدي إعجابه بشخص ربما يكون متسلل.
تحرك دانيار بسرعة كبيرة خلف ذلك الجسد، لكن بخفة تمنحه فرصة التلصص دون أن يشعر به أحد، وجد الجسد يسير صوب الجزء الخلفي من القصر، حيث مساكن الجنود ..
اشتعلت عيونه وركض خلفه وهو يخرج سهم من حاملة السهام بسرعة ويتجهز لأي قتال محتمل …
وخلف القصر، وعلى مقربة من مساكن الجنود، كانت زمرد تقف في ظلام الليل ترفع سيفها الذي هربته بكل ذكاء معها للقصر، تحركه في الهواء بقوة مرعبة، تقفز وتقاتل اشباحًا، وهذه كانت عادتها اليومية كي لا تضعف أو تنسى ما تعلمته سابقًا..
كل يوم مساءً وفي نفس المكان تأتي لتتمرن وتقوي نفسها تحسبًا لأي شيء، لكن فجأة ارتعدت أوصالها لسماع صوت خطوات يقترب من مكان تدربها المعتاد، ركضت بسرعة واختبئت خلف إحدى الأشجار لتجد اجساد متشحة بالسواد تقترب من المكان حيث كانت تتدرب وصوت أحدهم يقول بنبرة ولهجة تعلمها تمام العلم :
” أنتهي من إحراق ذلك المبنى بمن فيه وتخلص من الجنود وحينها تسهل مهمة الاقتحام ”
اتسعت أعين زمرد بقوة وهي تهمس بخفوت :
” آهٍ من هؤلاء الخنازير، ألن يتوقفو عما يفعلون ؟؟”
تحركت بخفة من خلف الأشجار وهي تتلتحف بالليل وتندمج بسوداه مبتسمة بسمة واسعة وقد وجدت خصمًا حقيقيًا لها اليوم…
رفعت السيف وهي تسير ببطء تقترب من أحد الرجال الذي كان يراقب الطريق للآخرين حتى ينتهون من إحراق مساكن الجنود، ودون أن يشعر بأحد كانت زمرد تكتم فمه بقوة وهي تضع السيف على رقبته هامسة :
” مرحبًا بالخنزير الصغير، مالكم تركتم الوحل واصبحتم تلعبون بمصائر البشر ؟؟”
اتسعت عين الرجل بقوة وشعر بتصلب جسده من ذلك الصوت، أضحى قلبه ينبض بجنون وهو يهمهم أسفل يد زمرد يحاول التحدث، لكنها لم تمنحه ما يريد إذ سحبت السيف بقوة تقطع له رقبته تاركة إياه يسقط ارضًا وهي راقبته ببسمة تقول بكل شر :
” سلامي لابا بافل، وأخبره أنني قريبًا سأرسل له ابنه الحبيب ”
ختمت حديثها تخطو أعلى جثته تتحرك صوب مبنى الجنود، لكن في طريقها أبصرت جسدًا يقترب من المبنى كبيرة يشهر سهمًا أمامه وهو يشير لها بشر :
” سيفك ارضًا، ويدك لفوق …”
ابتلعت زمرد ريقها برعب من تهديد ذلك الجندي لها، والذي تعلمه جيدًا وتجهل اسمه، لا تدري إلا أنه أحد رماة الجيش وفقط ..
ابتسمت بتوتر تقول :
” هييه ما بك، أنا لا انتوي لكم شرًا اقسم، جئت في سلام ”
نظر لها دانيار بشر يقترب منها، لكن فجأة أبصر سيفها المضجر في الدماء والجثة الملقية ارضًا، عاد بنظره لها لتكمل ببسمة صغيرة :
” حسنًا هذا ..امممم….لنتفق أنه كان يعوق رحلة السلام الخاصة بي ”
في تلك اللحظة ارتفعت أصوات داخل سكن الجنود لتتحفز جميع حواس دانيار، وتنظر زمرد له وتضيف :
” أوه ونعم هناك رفاق له، دخلوا لهذا المبنى بغية إحراقه بمن فيه من الجنود، اعتقد أنهم لا يحبونكم ”
ابتسم دانيار بسمة انعكست في عيونه وهو يقول بصوت خافت وقد تعرف عليها بالطبع من صوتها وعيونها، تلك الكارثة التي لا تنفك تسقط في طريقه بطرق غريبة :
” إذن تحملين السيوف كالرجال، وتتسللين كاللصوص، هل تستطيعين التصرف كالنساء لمرة واحدة ؟؟”
نظرت له بعدم فهم ليبتسم بسمة سرعان ما تلاشت وهو يسحب منها سيفها بقوة آمرًا إياها دون أي تردد وبأعين مرعبة وصراخ :
” اسمعيني صراخكِ يا امرأة.”
وهكذا فعلت زمرد التي ركضت بسرعة مهولة صوب القصر وهي تصرخ كأي امرأة طبيعية وبصوت زلزل الجدران وايقظ النائمين _ تمامًا كما أمر دانيار _ تتحرك بين الممرات تصرخ بجنون تتظاهر بالرعب والهلع :
” النجـــدة …هنــاك متمردين داخل القصر…هناك هجوم على القصر جهة الغرب…استيقظوا …هناك من يحاول إحراق القصر جهة مساكن الجنود ”
وقبل أن تكمل زمرد صراخ أطلقت شهقة عالية وهي تلتصق في الجدار خلفها تتفادى ذلك الهجوم المرعب من الرجال الذين اندفعوا بجنون صوب الخارج، يتقدمهم الملك الذي حمل سيفه وركض بثياب نومه، وكأنه كان ينتظر اشارتها يصرخ في الجنود :
” الجميع صوب الجهة الغربية وليبق عشرة رجال هنا لحماية النساء، احملوا اسلحتكم جميعًا، لا تتركوا منهم سوى من يستسلم ”
وقف في النافذة يصرخ بصوت جهوري وهو يلمح الجنود الساهرين يركضون صوب الجهة الغربية، ويرى الرماة قد وقفوا بحالة استنفار، ثم تحرك هو بسرعة كبيرة يحرك السيف بين أصابعه ..
في تلك اللحظة رأت زمرد اندفاع جسد تميم للخارج بشكل مرعب وهو يركض كالقذيفة يتحرك صوب الجهة الغربية وبين يديه يحمل سيف وسلسلة حديدية لا تدري سبب حمله لها، لكن هي فعلت ما أُمرت والآن ستتحرك لتراقب ما يحدث وتستمتع برؤية هؤلاء الخنازير يُبادون على بكرة أبيهم …
كان دانيار قد هجم بالفعل على مساكن الجنود ليجد أنهم سبقوه واستيقظوا من نومهم وانتفضوا لتشتعل الحرب بينهم وبين هؤلاء المتمردين _ إن كانوا كذلك من الأساس_ ابتسم يراقب الجنود وصحوتهم السريعة يهمس بينه وبين نفسه وهو يرفع سيفه :
” كان القائد ليفتخر بتلاميذه وبشدة ”
في تلك اللحظة سمع دانيار صوت أبواق الانذار تنطلق ليبتسم وقد علم أن تلك الخائنة الشرسة قد أبلغتهم رسالته، رفع سيفها الذي انتزعه منها وهو ينطلق به للقتال، لكن بعد لحظات شعر بالملل من المحاربة بهذه الطريقة .
وضع السيف داخل حاملة السهام الخاصة به، وسحب ثلاث سهام دفعة واحدة وضعهم في القوس ثم نظر لهم يبتسم مرددًا بصوت مرعب :
” نعم هذه هي المتعة ”
وفي ثواني ترك السهام الثلاثة لتستقر في ثلاث أجساد أمامه، ويطلق هو صفيرًا مبتسمًا :
” نعم ها أنا استطعت واخيرًا اتقان الأمر، المرة القادمة سأجرب أربعة سهام ”
سمع صوتًا خلفه يقول بلهاث بسبب ركضه :
” رقم قياسي جديد ها ؟؟”
ابتسم دانيار وهو يحدق بوجع تميم الذي اعتدل في وقفته، ثم حرك السلسلة في الهواء بشكل مرعب وصوت دانيار يهمس له :
” نعم يا عزيزي، أرني كيف ستتخطاه ”
نظر له تميم غامزًا :
” راقب وسترى ….”
وقبل أن يتحرك أحدهم وجودا إيفان يندفع بشكل مرعب يجز الرؤوس دون أن يرى أحدهم وهو يصرخ في جنوده، ليبتسم الإثنان وينطلقا للقتال .
______________________
كانت ساحة مملكة مشكى تشبه حانة للرقص والفواحش، الساحة التي لم تشهد تجمعًا كهذا التجمع سوى وقت الصلاة أو الاحتفالات بالاعياد أو غيرها ..
ها هي تستقبل أفواج من السكارى والراقصات اللواتي يتمايلن بأجسادهن في منتصف الساحة في محاولة يائسة لجذب انتباه بافل والحصول على امتيازات مرافقته ..
لكن الأخير كان يجلس على أحد المقاعد يراقب بأعين ضبابية شاردة ما يحدث، لحظات ونظر جواره ليرى أحد الرجال يقترب منه هامسًا :
” ذهب الرجال لمملكة سفيد كما طلبت سيدي، ساعات ونسمع عن قتل جنود إيفان ”
ابتسم بافل وهو يشرد بعيونه أمامه، ثم صرف بيده ذلك الرجل، يستند على سيفه :
” وكأن مملكة بحجم سفيد ستنخدع بهؤلاء الحمقى الذين ارسلتهم، هم فقط كانوا مجرد هدية صغيرة للملك الصغير، هدية ليستمتع بها مع جنوده ويعلم أن لي مئات الطرق للوصول له في عقر داره وايضًا ليعلم أن الحرب قد بدأت”
رفع بافل عيونه صوب الفتاة التي كانت تتمايل بحركات راقصة قوية عكس حركات الأخريات التي كانت تتسم بالدلال ..
ابتسم وهو يشرد بها وقد ذكرته قوتها وملامحها الحادة تلك بملامح أخرى، ملامح أكثر فتاة شرسة رآها في حياته، تحسس نصف وجهه المشوه وهو يهمس ببسنة مخيفة سرعان ما تحولت لنظرات سوداء :
” حتى إن عدتي لرحم والدتك الفاسقة سأجدك وحينها ستتمنين لو أنكِ لم تخرجي منه يومًا، ستتمنين لو أن والدتك فقدتك قبل ولادتك، ستتمنين لو أنكِ قُتلتي مع والدتك ذلك اليوم….ستندمين يا سافلة، ستفعيلن وهذا وعدي ”
_____________________
يجلس داخل القاعة الخاص به وحوله العديد من جنوده ومستشاريه وما يزال بثوب نومه الذي كان مؤلف من بنطال وسترة قماشية ذات خامة سميكة تناسب الشتاء .
يجلس أعلى عرشه وعلى يمينه يقف تميم الذي كان جسده ملئ بالدماء، ويساره يقف دانيار الذي كان يحمل سهمًا يقطر دمًا ..
وعلى جانبي القاعة يصطف رجال المملكة ومستشاريه وكذلك العريف ومرجان، وفي منتصف القاعة يجلس من نجى من المتمردين مقنعي رؤوسهم متهدلين الاكتاف وقد أصابهم ما أصابهم من الجروح .
” إذن أردتم حرق جنودي أحياءً؟؟ ”
لم يجيبه أحدهم ليبتسم إيفان ويقول بصوت هادئ :
” صدقوني أنا أبحث عن حجج للعفو عنكم ”
رفع رجلٌ منهم رأسه وهمس بصوت كاره من بين أنفاسه وقد نجح بافل في زرع الحقد داخل نفوس أتباعه تجاه كافة الممالك :
” ومن قال أننا نأمل عفواً منك يا سليل القذرين ؟؟ ”
وبقوله لتلك الكلمات تلقى الرجل ضربة قوية على رأسه من أحد جنود الملك الذين يحيطون بهم، ضربة جعلت رأسه تلتصق ارضًا ويطلق تأوه مرتفعًا جعل رفاقه يرتعدون بخوف وجبن شديد…
همس الرجل الساقط ارضًا :
” غدًا لن نحرق فقط سكن جنودك، بل مملكتك بأكملها قبل أن تصبح لنا ويحكمها سيدي بافل، ستصبح لنا كما أصبحت مشكى، جميع تلك الممالك التي نبذتنا ستصبح تحت أمرتنا وتكون موطنًا لنا ”
ابتسم العريف بسمة جانبية وهو يستمع لتلك الكلمات ومرجان جواره يراقب كل ذلك بنظرات كاره ..
ارتفع صوت تميم يقول بقوة :
” ومنذ متى كان لكم موطنًا؟؟ تالله ما عهدنا لكم من وطنٍ، وقائدك الذي جعلك تحفظ تلك الشعارات، سيكون غدًا مكانك، أسفل أقدامنا ”
أطلق الرجل ضحكات مجلجلة هزت القاعة من قوتها، وقد جعلت جميع الأجساد تستنفر وتتحفز لأي حركة منه، لكنه فقط اعتدل بنصف جسده يهمس بسخرية كبيرة وتشفي اكبر:
” ومن سيفعل ذلك ؟! الممالك التي تتصارع لأجل مصالحها، ام تلك المملكة التي تصارع الحياة لتحيا ؟؟ أم مملكتكم ستتكفل بالقتال وحدها ؟؟ تصفوننا بالشرذمة والخنازير وأنتم كالاغصان المتناثرة كسركم أسهل من فرقعة إصبع ”
اشتعلت أعين إيفان بشكل مخيف، ولم يتحدث أحد بكلمة واحدة، الجميع التزم الصمت بعد تلك الكلمات في انتظار كلمات إيفان الذي نطق بهدوء شديد :
” خذوهم للسجن حتى أصدر حكمًا ”
وبالفعل تحرك الجنود يسحبون أجسادهم تحت نظرات الجميع التي تحلق حول إيفان، يدركون أن صمت إيفان على ما قاله ذلك الرجل أكثر خطورة من حديثه الذي كان سيجيب به .
نظر إيفان للجميع يقول بهدوء يسبق العاصفة :
” غدًا يتجمع الجميع، وارسلوا لملوك آبى وسنز لاجتماع طارئ، انتهت الليلة وليعد كلٌ لمسكنه ”
وبهذه الكلمات أنهى إيفان تجمعهم لينفضوا من حوله صوب مخادعهم، وكذلك تميم الذي اقترب من دانيار يسير معه صوب الحجرات الخاصة بهم يستمع لكلام دانيار :
” إذن ما الذي سيحدث لاحقًا ؟؟”
شرد تميم أمامه يقول بجدية كبيرة :
” لا أعلم، لكن أيًا ما سيحدث، لن يكون جيدًا ..”
__________________
تسير خلفه بصمت وهي تراه يزيح الأغصان والأوراق الخضراء من أمامهم باستخدام عصاه، ابتلعت ريقها تحاول أن تتمالك نفسها وألا تنهي جميع ما أحضرت من طعام كي لا تتضور جوعًا، لكنها لم تتحمل، إذ انزلت حقيبة ظهرها وأخرجت منها كيس بلاستيكي صغير ملئ برقائق البطاطس المقلية، ثم وضعت الكيس داخل فمها تحمل حقيبتها مرة أخرى، وبمجرد أن استقامت اتسعت عيونه بصدمة حينما وجدت الجميع غاب عن نظرها ..
نظرت الكيس من فمها تقول بصدمة :
” سابوني ومشيوا عادي ؟؟ محدش استغيبني ولا بص وراه حتى ؟؟ ”
صرخت برعب وهي تضم التسالي الخاصة بها لصدرها تهرول وهي تنادي كالعادة بلقبه إذ كانت تجهل كيفية نطق اسمه :
” يا قائد …يا قائد، أنتم نسيتوني، كل ده وملكة اومال أو كنت جارية كنت اتعاملت ازاي ؟؟”
توقف سالار وهو ينظر خلفه بصدمة بعدما فقد أثرها ولم يشعر بها، تنهد بصوت مرتفع يفرك خصلات شعره الكثيف وهو يشير لصامد :
” اذهب وابحث عن تلك الكارثة …”
وقبل أن يتحرك صامد خطوة واحدة وجدوها تخرج من خلف الأشجار وهي تتناول بعض الاشياء الفاسدة وتبتسم لهم بسمة واسعة :
” متقلقوش يا جماعة أنا بخير، أنا ميتخافش عليا، متقلقوش ”
رمش سالار قبل أن يقول بهدوء :
” لم نفعل ”
توقفت تبارك عن تناول رقائق البطاطس وهي تنظر لصمود بعدم فهم :
” يعني ايه ؟! ”
ابتسم لها صمود بسمة صغيرة يشير لها أن تتحرك أمامهم هذه المرة :
” من بعدك مولاتي ”
هزت تبارك رأسها تسير بهدوء شديد أمامهم، وهي تتنهد بتعب شديد تخرج زجاجتها تشرب منها في الوقت الذي تسير خلف سالار تتحدث مع صامد وصمود بكل جدية :
” يعني هو مش بودي جارد للملك وبيمشي معاه في كل مكان ؟!”
” لا مولاتي هو قائد الجيوش، ما تتحدثين عنهم هم جنود وحراس الملك وليس القائد، هو لا يحمي شخصًا بعينه بل يحمي وطننا ”
هزت تبارك رأسها تنظر بانبهار شديد صوب سالار، ثم قالت ببسمة :
” ربنا يديله الصحة يارب، تلاقيه بيتعب في شغله، على كده مرتباتهم حلوة في الجيش ده ؟؟”
نظر لها صامد بعدم فهم لتبتلع ما بفمها :
” هو يعني شغله ايه ؟! بيشرف عليهم بس ولا بيشتغل بايده ؟!”
ابتسم صمود يميل عليها هامسًا :
” القائد يحارب بنفسه في الحروب، يمكنك القول أنه يصبح مرعبًا داخل ساحة الحرب .”
نظرت تبارك لظهر سالار الذي كان يتجاهل كل ما يفعلونه، ويترفع عن الحديث معهم أو الرد او إجابة اسئلتها الفضولية .
” قال يعني هو مش مرعب برة ساحة الحرب ”
وفجأة توقف سالار بشكل جعل صمود يرتطم بظهره وهي تصطدم بظهر صمود مطلقة تأوه مرتفع، لكن لم يهتم بها أحد إذ قال سالار وهو ينظر للمكان حوله :
” وصلنا حافة الغابة الشرقية ..”
وبعد هذه الكلمات تحرك صامد وصمود بسرعة صوب شجرة عملاقة بشكل آلي، ثم أخذوا يحفرون الأرض تحت نظرات تبارك الفضولية، وبعد دقائق استخرجوا سيوف وخناجر وسهام جعلت عيونها تتسع، كانت تراقب ما يحدث بانبهار، وسالار يحمل سيفه وسهامه مبتسمًا أخيرًا وكأنه التقى بحبيبة غائبة منذ سنوات عجاف ..
تنفس براحة وهو يقول :
” وصولنا هذه النقطة يعني أننا كدنا ننتهي من الغابة ”
اتسعت بسمة تبارك :
” باقي كام ساعة كده ونخرج ؟!”
” عشر ساعات تقريبًا ”
شهقت تبارك بصدمة ولم يمنحها أحدهم فرصة لتعرب عن صدمتها إذ تحركوا مجددًا وهي تسير خلفهم وقد بدأ التعب ينال منها، لا تدري حقًا كم من الوقت استغرقت رحلتهم منذ بدأوا في تلك الغابة، ربما ساعات طويلة، كل ما تدركه أنها الآن في حاجة ماسة للنوم والشرب و…المرحاض .
سارت خلفهم تبارك ومازالت نظراتها تدور على سالار بانبهار شديد، ليس لملامحه الغريبة الوسيمة والصهباء والمميزة، فهي سبق واعربت عن انبهارها على تلك الملامح قبل أن تغض البصر مستغفرة، هي فقط …منبهرة بشكل كبير بهيبته وذلك السيف يقبع بيده والأسهم المعلقة على ظهره، يشبه …يشبه هؤلاء الفرسان الذين كانت تراهم في افلام الحروب القديمة .
استغفرت ربها من كل ذلك تحاول غض الطرف عن أي انجذاب له، تدرك الآن أنه لهذا السبب حرّم الله الاختلاط، فالنفس الإمارة بالسوء لن تمنعك عن التأمل وأخذ نظرة ستتحول لنظرات وإعجاب، ربنا هي حديثة العهد بالتقرب من الله، إذ انقطعت عن أي شيء سييء منذ سنتين، لكنها ما تزال تحارب لأجل الوصول لنجاتها قرب ربها، وهذا لم يكن بالهين وسط عالم ملئ بالمفاسد .
فجأة استدار سالار للخلف بسرعة كبيرة جعلت تبارك تبعد عيونها عنه، وهي تحمل زجاجة المياه الخاصة بها ترتشف منها ما يسد عطشها ويخفف وطأة الموقف بأكمله .
وسالار ضيق عيونه، ثم مال برأسه قليلًا يقول :
” ربما تحتاجين للاقتصاد في استخدام المياه، فلن نجد مصدرًا له في هذا المكان ”
أغلقت الزجاجة وهي تقول باحراج :
” أنا …أنا ..عايز تشرب ؟؟”
نظر لها ثواني ثم عاد للسير بهدوء :
” لا اشكرك يمكنني تحمل الجوع والعطش لأيام، لا بأس ”
” أيام ؟؟”
هكذا تحدثت تبارك بصدمة وهي تزيد من سرعتها تلحق به وقد ألقى لها سالار كلمة تغذي بها فضولها، هي بالفعل علمت من قبل أن هناك من يستطيعون العيش لأيام بدون طعام، لكن ماء هذا صعب.
” أيام ازاي ؟؟ مش بتشرب لأيام ؟؟”
ابتسم سالار بسمة جانبية صغيرة تكاد ترى، ثم أجاب بنبرة غامضة مقتضبة وهو ينظر لها :
” لا تدرين اين قد تقرع طبول الحرب”
” يعني ايه ؟؟”
” يعني أنه ربما تدعوكِ الحرب لخوضها داخل صحراء قاحلة وتستمر لأيام، ربما تخوضين حربًا في منتصف المحيط، وربما في فوهة بركان، لا يهم أين ستكون الحرب المهم أن تنتصري بها ”
كانت تبارك تزداد فضولًا وانبهارًا بسالار وحكاياته :
” وأنت بتنتصر في حروبك ؟!”
توقف سالار ونظر لها ببسمة صغيرة يقول بثقة كبيرة وفخر أكبر بذاته وما حققه وهو بالكاد بلغ الثالثة والثلاثين من عمره :
” لم أخسر حربًا في سنوات عمري الثالثة والثلاثين”
” ولا واحدة ؟؟”
” ولا واحدة”
نظرت لعيونه بقوة ثم همست دون وعي تفكر في عقلية ذلك الرجل الذي يستطيع خوض حروبًا ضارية في ظروف قاتلة دون خسارة واحدة حتى :
” ولو حصل وخسرت في يوم حرب، هيحصل ايه ؟؟ يعني ممكن تعيدوا الحرب تاني ولا كده خلاص ؟؟”
حدق بها سالار ثواني قبل أن يطلق ضحكات صاخبة جعلت أعين تبارك تتسع فهذه هي المرة الأولى التي تراه يضحك بهذه الطريقة، هو فقط كان يمن عليها ببسمات محسوبة جامدة أو ساخرة ..
” حسنًا، لا يوجد شيء يُسمى إعادة حرب، هي ليست باللعبة، لكن إن حدث وخسرت حربًا …”
نظر لعيونها بجدية وقال :
” سأقف بكل شجاعة أمام عدوي وانظر لعيونه و أحييه على مهاراته العالية التي حطمت عزيمتي، سأمنحه سيفي والذي هو شرفي وكبريائي وأخبره أنه كان الأول الذي هزمني، ثم انهض واحارب مرة أخرى، أنا رجل واواجه خسارتي بكل جسارة ولا يضيرني هزيمة مفردة، فبعده نصر بأمر الله سبحانه وتعالى ”
وحين انتهاءه من جملته تلك نزع عيونه عن تبارك التي خرج من فمها أكثر سؤال مريب غريب قد يفكر به شخص بعد كلماته الحماسية تلك :
” هو أنت مسلم ؟؟؟”
انقبضت ملامح سالار يردد بعدم فهم :
” ماذا ؟؟”
” أنت… أنت مسلم ؟؟ أنا… أنا معرفش أنت ايه؟؟ أنا مش قصدي حاجة والله، أنا بس …يعني طريقة كلامك و…”
صمتت لا تعلم كيف خرجت بذلك السؤال له، كان غبيًا، منذ متى كانت تتدخل في تلك الأمور ويقودها فضولها لتلك النقطة مع شخص تكاد لا تعلم عنه الكثير .
” نحن جميعًا مسلمين، تجمعنا راية الله أكبر ودستورنا القرآن…”
نظرت له ببسمة واسعة، ليكمل هو طريقه بهدوء :
” هيا، تحدثنا كثيرًا، لنكمل الطريق كي لا نتأخر على الوصول …”
ابتسمت تبارك وسارت خلفه بسرعة تضم حقيبتها لها، تقول بصوت مرتفع :
” على فكرة أنت شبه الناس اللي في فيلم وااسلماه ..”
وسالار كعادته لم يعلق أو يهتم بما تقوله هي، بل سار بهدوء شديد وهي لحقت به دون كلمة واحدة وبهدوء تحاول ألا تضل عنهم أو تتسبب في مشاكل، وهكذا كانت هي في العادة، تبارك الفتاة الهادئة الرقيقة والذكية، كانت طوال الوقت تتجنب المشاكل، إلا أن استدعت الحاجة لتدخل غضبها، لكنها وبشهادة الجميع هادئة لطيفة ورقيقة وذكية وتستطيع استخدام الإبر الطبية وقياس الضغط والسكر وسحب عينات الدم، والمشاركة في بعض العمليات الجراحية البسيطة…..
أوليست تلك الصفات كافية لتصبح ملكة؟؟
أو هذا ما تتمناه هي ….
__________________
يعتلي صهوة فرسه وهو يركض به بين جدران قلعته وعيونه بحر سواد لا بداية له، ولا نهاية متوقعة منه، قلبه مراجل تغلي، ما حدث مساء الأمس تحت سماء مملكته ليس اقتحام مقصود بقدر ما هو تهديد واضح .
على سالار أن يعود في أسرع وقت، فهو أكثر من يفهمه ويستطيع استشارته وأخذ منه نصيحة، فسالار فيما يخص الحروب، تفوق حكمته الجميع حوله، وتفكيره يتخطى تفكير الكل باشواط، رجل يتخذ ” خالد بن الوليد” قدوة له ويقرأ في كتب الحروب القديمة، لا بد وأن يمتلك عقلية حربية جبارة، حمدًا لله أن سالار بصفه وليس عدوًا له .
وإيفان اعتاد ألا يتخذ خطوة في أمور مملكته إلا بعدما يستشير أهل الخبرة بتلك الأمور ” وشاورهم في الأمر “، مملكته لم تقم عليه وعلى عقله فقط، بل قامت على الشورى والحكمة وسواعد رجالها
توقف خيل إيفان جوار أحد الأشجار على أطراف القلعة، قرب المزرعة تحديدًا، حيث يتنعم هناك بالمزروعات والطبيعية الجميلة.
هبط وهو ينزع سيفه يلقيه ارضًا يتحرر من كل ما يقيده، يتحرر من السلطة ومن كل شيء، يود أن يعيش تلك اللحظات كإيفان الشاب المحب للحياة بعيدًا عن كونه الملك .
جلس أسفل الشجرة يستظل بها من حرارة شمس الظهيرة، يتنهد بصوت مرتفع وهو يمسح رأسه حتى فسدت خصلات شعره السوداء :
” يالله رحمتك بعبادك ”
كان يحمل فوق أكتافه هموم شعب بأكمله وخوف من القادم، قوة المنبوذين تزداد شراسة ولا أحد يعلم ما يضمرونه أو ما يخفونه خلف قلوبهم السوداء .
فجأة رفع إيفان رأسه بانتباه شديد وهو يسمع صوت الحان يعلمها جيدًا فهي نفسها الحان الدف الذي يستخدمه عادة ( العم سفيان ) حارس الحظائر، فذلك العجوز يهوى العزف وطرق الطبول، لكن العجيب هو أن الصوت لم يكن صوت الدف فقط، بل كان هناك ترنيمات واناشيد فلكورية قديمة، ترنيمات واناشيد لم يسمعها قبلًا، كلمات غريبة وبصوت رقيق ..
نهض من مكانه ينتزع درعه يلقيه ارضًا وفي خاطره أنها ربما تكون نفسها الفتاة التي سمعها تنشد اغاني الحرب في إحدى الليالي، لكن ذلك الصوت الذي يغني في تلك اللحظة كان رقيقًا هادئًا، بينما الآخر كان قويًا كالرعد وكأنه صوت مقاتل في حرب..
توقفت أقدام إيفان على مقربة من حظيرة القلعة ليبصر بعيونه فتاة غريبة لا يعلم لها هوية، والغريب أنها كانت في تلك اللحظة تردد ترانيم وتدور وتحرك يديها بكل دلال .
ابتسم بسخرية يهمس من بين أنفاسه وعيونه لا تغادر تلك الفراشة الملونة بين حدائق قصره :
” مابال نساء القصر هذه الأيام ؟؟ أصبحن يتراقصن كلما حانت لهن فرصة لذلك ”
نظر للفتاة يقترب خطوات أكثر وهو يراها تدور في مكانها بسرعة كبيرة، ثم تنخفض وهي تحرك يدها وكتفها بشكل ذكره برقصة سيدة في زفاف قديم رآه بالصدفة .
ابتسم دون وعي وهو يضحك على حركاتها ولا يدري ما حدث، لكنه ولثواني نسي كل ما يجري داخل المملكة، ونسي اجتماع الممالك الذي سيتم بعد ساعات قليلة .
وعند كهرمان منذ دقائق ..
كانت تنظف الحظيرة كما أمرها الملك معاقبًا إياها، وقد شعرت بالقهر يكتنفها، بعدما كانت تتنعم في حياتها، وتعيش الرفاهية الوانًا أصبحت الآن خادمة لبعض المواشي .
هبطت دموعها بقهر شديد وهي تهمس أثناء تنظيف الأرضية:
” حسبي الله فيمن كان سبب ما يحدث لي، عسى أن يريني الله فيهم انتقامًا شديدًا، لعنة الله عليهم هؤلاء القذرين ”
انتهت من تنظيف المكان تستقيم وهي تجفف دموعها، ثم ابتسمت بسمة صغيرة تشجع بها نفسها :
” لكن رغم كل شيء أنتِ فتاة شجاعة وقوية كهرمان، احسنتِ، ها هي حياتك تسير بشكل جيد كلما ابتسمتِ لها، لا شيء يقهرك ”
أخذت تصفق لنفسها بسعادة كبيرة، سرعان ما تلاشت حينما وجدت إحدى الأبقار تتغوط ارضًا بعدما نظفت هي المكان منذ ثواني، شحب وجهها واتسعت نظراتها لتلقي ادوات التنظيف ارضًا تصرخ بجنون :
” ما بالك أيتها الغبية ؟؟ للتو نظفت المكان ؟! ألم يحلو لكِ التغوط إلا حينما نظفت اسفلك؟؟ ”
وبانتهاء كلماتها وجدت المزيد والمزيد من المواشي تلوث المكان مرة أخرى، وهي تراقب ما يحدث لتلقي ادوات التنظيف صارخة :
” لن انظف المكان مرة أخرى، هيا افعلوا ما تريدون، أقسم لن انظف شبرًا واحدًا بهذه الحظيرة القذرة ولو تحول المكان بأكمله لكتلة كبيرة من العفن، سمعتم ؟؟”
أصدرت بقرة صوتًا وكأنها تعترض على حديث كهرمان التي رفعت كتفيها :
” هذا ما لدي يا آنسة، ولا اريد اعتراضًا عليه ”
أمسكت طرف فستانها كأميرة نبيلة، ثم انحنت قليلًا تقول ببسمة صغيرة ونظرات رقيقة كما لو كانت ترحب بأمير :
” والآن آنساتي، اعذروني عليّ الرحيل لازيل عني رائحتكن القذرة، وداعًا ”
اعتدلت في وقفتها واستدارت لترحل، لكن فجأة شعرت بشيء زلق أسفل قدمها، شيء تسبب في سقوطها بقوة على وجهها لتتلوث كامل ثيابها بالوحل ويعلو صوت الأبقار في المكان، وهي نهضت بسرعة تنظر صوب الابقار بشر :
” كفاكن شماتة يا نساء، أنا لا اهتم لدي العديد من الثياب النظيفة، بينما أنتن مضطرين للعيش بهذا الجلد العفن ”
ارتفعت أصوات الأبقار لتصرخ كهرمان في المقابل وهي تمسك ثيابها :
” نعم عفن، ولا عزاء لكُنّ…حمقاوات ”
نفخت بعدم اكتراث وهي تخرج وتغلق الحظير خلفها، ثم نفضت كفيها سويًا مبتسمة رغم كل ما حدث في الداخل وهي تتنفس بصوت مرتفع :
” ما اجمل الهواء دون رائحة الابقار !”
نظرت لثيابها تتحرك صوب جدول مياه تنظفه وهي تتمتم بحنق شديد وغضب :
” لا بأس كهرمان، غدًا تبتسم لكِ الحياة عزيزتي، ابتسمي لها الآن لترد لكِ بسمتك بالمثل ”
وفجأة توقفت كهرمان عما تفعل حينما سمعت عزف على الدف عزف تعلمه جيدًا، عزف كذلك الذي كانت تجيده والدتها، ابتسمت دون وعي وهي تنهض وتركض صوب صوت العزف، وحينما وصلت له توقفت ترى من بعيد رجل عجوز يجلس أمام بحيرة صغيرة يحمل بين يديه دف ويطرق عليه بقوة .
ابتسمت دون شعور ثم رفعت يديها في الهواء تحركهما بتناغم مع الموسيقى، وأغلقت عيونها دون شعور وصوت ترنيمات والدتها يصلها بوضوح فتحت فمها تغني كما كانت تفعل والدتها وتحرك جسدها بحركات في غاية الرقة والدلال، فقط رغبة منها لعيش لحظات من الماضي، تنسلخ عن واقع أليم بماضي مشرق .
تحرك يديها وكتفها وخصرها وتميل تارة وتدور تارة، كل ذلك وهي ترى نفسها في قاعة الموسيقى الخاصة بوالدتها وهي تقف أمامها وتتمايل بدلال وتشاركها الغناء …
ابتسمت كهرمان بسمة واسعة من بين دموعها وهي تغني نفس الكلمات بصوت تهدج شيئًا فشيء وقد ارتفعت وتيرة الغناء وأخذت تدور بقوة في المكان وهي ترى أمامها والدتها تصفق لها وتزيد من حماسة كلماتها والتي كانت تتردد في الواقع على لسان كهرمان، سقطت دموع كهرمان أكثر ترفع طرفي فستانها تدور في المكان وصوت والدتها يهمس لها :
” عزيزتي المدللة لكم أنتِ راقصة بارعة، ترقصين كالفراشات أعلى الزهور في فصل الربيع، محظوظٌ ذلك الرجل الذي سيحظى بفراشة رقيقة مثلك ..”
” أمي أنا لستُ بهذه الرقة، أنا شرسة أيضًا لذلك احذروا مني جميعًا ”
أطلقت والدتها ضحكات صاخبة تضم كهرمان لصدرها :
” نعم نعم أنتِ في غاية الشراسة، هذا ما نقوله نحن أمام شقيقك الاحمق الذي لا يستطيع الاقتناع بأنكِ فتاة ولستِ صبي ليعلمك القتال ”
” لكن القتال ليس بالشيء السييء امي، لربما يومًا ما احتاجه ”
” اتمنى ألا يأتي ذلك اليوم اميرتي الصغيرة ”
سقطت دموع كهرمان وهي تقول بحسرة ووجع تتوقف عن الرقص :
” جاء ذلك اليوم أمي، جاء ورحل آخذًا إياكم جميعًا …”
تعجب إيفان الذي كان يراقب من بعيد ازدياد حدة الغناء والحركات وبكاء تلك الفتاة، رفع حاجبه لا يفهم ما يحدث، في اللحظة التي رفعت كهرمان عيونها تجففها، لكن فجأة صُدمت حينما رأت أمامها شابًا يراقبها من بعيد. .
انتفضت للخلف صارخة تتحسس غطاء الوجه الخاص بها تتأكد أنه موضوع، وهي ما تزال تعود للخلف .
وايفان اتسعت عيونه يراها تقترب من إحدى البحيرات الصناعية التي حفروها لأجل الحيوانات، رفع يده يقول بصوت مرتفع :
” انتبهي …خلفك ..”
لكن كهرمان لم تسمع ولم تنتبه لشيء وهي تسقط بكامل جسدها داخل تلك البحيرة بقوة تسببت في تناثر المياه حولها .
وايفان اتسعت عيونه بصدمة كبيرة، لكن فجأة انفجر في ضحكات مرتفعة وهو يراها تعافر لتخرج وكلما تمسكت بالحافة انزلقت وسقطت ..
زادت ضحكاته أكثر وهو يسمع سباتها له وصرخاتها به :
” أنت أيها المنحرف عديم المروءة، بدلًا من مد يد المساعدة تضحك ؟؟ ”
أطلقت صوتًا حانقًا غاضبًا، بينما إيفان لم يتوقف عن الضحك مدركًا أنها لم تعلم بعد هويته، ربما لثيابه العادية أو ملامحه غير الواضحة بسبب المسافة بينهما ..
ورغم ذلك رفع يديه في الهواء وهو يقول بصوت مرتفع وسخرية لاذعة نفس كلمات الأغنية التي كانت ترددها :
” كالنيران المشتعلة أنا ها ؟؟”
ضربت كهرمان المياه بقوة صارخة خجلة من سماعه لها :
” أيها الحقير، اقسم أنني شأشكوك للملك فقط انتظر ”
ابتسم إيفان يعيد خصلات شعره للخلف متجاهلًا إياها بكل برود :
” نعم نعم، افعلي، اذهبي للملك واخبريه أن هناك منحرفًا كان يراقبك تغنين ومن ثم تكبر عن مساعدتك، وفي المقابل أنا سأخبره أنكِ اذيتي اذني بالإستماع لصوتك، واضررتي عيني برؤيتك ترقصين بهذا الشكل الغريب، ولنرى لمن سيستمع الملك ”
صرخت كهرمان بغيظ وغضب:
” سأفعل وسترى، أقسم أن اشكوك واتأكد أن تنال عقابك من الملك فهذا المتجبر لا يترك أحدًا يفلت من عقابه، انظر إلي عاقبني بالعمل في الحظيرة لأجل اسباب تافهة، انتظر لترى ما سيفعل بك ”
توقفت أقدام إيفان عن التحرك وهو ينظر أمامه بصدمة يدرك الآن هويتها لتلك الفتاة :
” متجبر ؟؟”
نظر لها ليراها تحاول الخروج بصعوبة :
” أنا متجبر ؟؟ تهاونت معها وتخبرني أنني متجبر ؟؟ بالله إن النساء لا يعجبهن شيئًا ولو احضرت لهن قطعة من السماء سيتذمرن أنك وصلت للسماء ولم تحضرها بأكملها ”
نفخ باستهزاء يرتدي درعه ويحمل أسلحته، ثم وضع لثام وجهه يتحرك بفرسه بعيدًا عنها وهي تنظر لاثره بصدمة مرددة :
” يا الله لقد رحل …رحل دون أن يساعدني ؟؟”
___________________
ساعة متبقية على بدء اجتماع الملك مع باقي ملوك الممالك المجاورة، الأمر الذي يستدعي منه طاقة كبيرة ليركز على كل ما سيصدر من الجميع، الأوضاع في الممالك أصبحت على شفا جرف من الانهيار، ممالك دامت لقرون ستُمحى بسبب بعض المنبوذين، منبوذين تهاونوا معهم واستهانوا بهم حتى اضحوا كالصخرة التي تعوق مجرى المياه.
دخل تميم مكتبة القصر حيث العريف على أمل أن يجد دانيار هناك، سار بين أرفف الكتب يتتبع الصوت الذي يأتي من داخل المكتبة والذي كان للعريف المتأفف دائمًا .
” يا فتاة أخبرتك أنني لا أحب أن يعبث أحدهم بأشيائي ”
ومن ثم صمت عم المكان جعل تميم يسرع من خطواته صوب العريف ليعلم أي فتاة تلك التي أثارت غضبه، لكن بالتفكير في الأمر فأي إنسان يقترب من العريف يثير غضبه ..
صوت اصطدام العديد من الكتب بالارضية الخشبية كان واضحًا في المكان، إذ توقفت أقدام تميم عن التقدم وهو يسمع صوت شهقات العريف العالية يصرخ بجنون :
” أيتها الفتاة الغبية، ما الذي فعلتيه بمكتبتي ؟؟”
مالت الفتاة ارضًا تلتقط الكتب بسرعة :
” ما بك يا عم عريف لقد سقطت مني الكتب سهوًا رجاءً لا تبالغ بردة فعلك ”
” أيتها الصغيرة الغبية، أي عم عريف هذا ؟! أخبرتك مئات المرات أن اسمي ليس عريف، هذا لقبي وليس اسم لتسبقيه بعم، ثم أنا لست عمك، ولن اكون عمًا لفتاة بمثل حمقك ”
التوى ثغر الفتاة بتشنج تضع الكتب في الارفف مكانها :
” وأنا أخبرتك أنني لا أستطيع التقليل من احترامك ومناداتك بالعريف دون لقب، لقد ربتني والدتي على احترام كبار السن ”
انتفض جسد العريق بقوة يصرخ :
” أنتِ يا فتاة من هؤلاء كبار السن ؟! هل ترينني عجوز امامك ؟؟”
نظرت له الفتاة بتعجب من صراخه :
” ما بك ..الجميع يراك هكذا والجميع ينادونك بالعجوز، لِم غضبت مني بهذا الشكل ؟! ”
تنهد العريف وهو يعلم أنه لن يصل مع تلك الفتاة _ التي تقفز له في المكتبة كل نهاية اسبوع _ لشيء، فهي هكذا منذ جاءت للعمل بالقصر وهي تعيش في عالمها العجيب المريب حيث هي وفارسها الذي تقص عليه حكاياته ..
” إذن يا عم ألم أخبرك بآخر اخبار فارسي ؟!”
” لا لم تخبريني، ولا اريد السماع ”
” حسنًا هذا لئيم، ذكرني ألا اشاركك حكاياتي مع فارسي الشهم مجددًا، والآن أين أرفف الروايات لأخذ واحدة وارحل من هذا المكان الذي لا يرحب بي ”
زفر العريف بصوت مرتفع وبغيظ مشتعل :
” يا الله يا معين على هؤلاء الحمقى، أي روايات تلك ؟؟ مكتبتي لا تحتوي أي روايات رومانسية لتساعدك على نسج حكايات غبية وتضعين بها فارسك الشهم ونفسك، هذه مكتبة علمية تضم كافة المجالات في هذا العالم ”
نظرت له الفتاة قليلًا ثم تساءلت بخيبة أمل:
” إذن لا روايات رومانسية ؟؟”
” لا، لا روايات رومانسية وهذا ما أحاول قوله منذ سنوات حينما جئتِ للعمل هنا ”
قالت ببساطة شديدة :
” إذن هذا يعني أن مكتبتك غير مكتملة وينقصها الكثير من الأمور كالروايات الرومانسية، ما رأيك أن تكتب البعض”
اجاب العريف وهو يرتشف بعض المياه ليهدأ :
” لا استطيع ”
” ياا.. كتبت كل هذه الكتب وتعجز عن كتابة بعض الروايات الرومانسية ؟؟ هل حياتك بائسة لهذا الحد ؟!”
اتسعت أعين العريف وهو يرفع نظراته لها بتشنج، وقد علت نظراته البلاهة الشديد، هل تعتقد تلك الغبية أنه هو من كتب كل تلك الكتب ؟؟ حقًا ؟؟
” يا ابنتي من ذلك الأحمق الذي أخبرك أنني من كتب كل تلك الكتب ؟؟ كم تعتقدين عمري لأكتب كتب يتجاوز عددها المليون كتاب ؟؟”
” لا ادري ربما المائة ؟؟”
وفجأة انفجر العريف في وجهها مما جعلها تركض بسرعة من أمام وجهه تحتمي في أحد الارفف، وكل ذلك تحت نظرات تميم الذي أطلق ضحكات صاخبة رنّ صداها في المكان بأكمله، ليتوقف العريف عما يفعل وهو ينظر له بحنق، بينما الفتاة توقفت تنظر له بصدمة هامسة :
” المختل ؟؟”
لكن تميم كان غارقًا في الضحكات على تلك المعتوهة وحديثها وعقلها الصغير وردودها المريبة على العريف، حسنًا للمرة الأولى يجد مبررًا لتأفف العريف وحنقه من شخص ما .
” ماذا ؟؟ هل يضحكك ما ترى يا سيد ؟؟”
نظر تميم أمامه صوب برلنت يتنحنح بجدية دون معرفته بهويتها ثم قال :
” في الحقيقة نعم، هو يضحكني وبشدة ”
ختم حديثه ثم أكمل ضحكه بصوت مرتفع لا يصدق ما تعيش به تلك الفتاة :
” أي فارس هذا يا ابنتي ؟؟ ثم كيف توقعتي أن تجدي تلك الروايات التي تبحثين عنها في مكتبة المملكة ؟؟”
شعرت برلنت بالخجل الشديد وقد احمر وجهها بقوة من خلف غطائها أن يطلع شخص لئيم كذلك الرجل على جزء خاص من داخلك كعشقها للروايات الخاصة بالمشاعر، وحلمها بفارس الاحلام الشهم، لهو أمر في غاية الاحراج ، عضت شفتيها وهي تحاول الحديث :
” هو … الأمر هو أنني فقط اقرأ تلك الأشياء فقط لتمضية وقت لا أكثر، لكنني في الحقيقة لا اهتم بهم، أنا أنا … أنا أقرأ كتب أخرى في مجالات عدة، حتى أنني قرأت تقريبًا مئات الكتب من هنا والتي اخذتها من العريف ”
تحدث العريف وهو يعيد ترتيب كتبه :
” كاذبة ”
نظرت له برلنت بغيظ شديد ثم قالت :
” لست كذلك، أنا جئت واخذت العديد من الكتب بنفسي وسلمني إياها مرجان، صحيح مرجان ؟؟”
رفع مرجان رأسه عن الكتاب الذي يقرأه ولا يدري ما يحدث حوله، لكنه قال على أية حال :
” ها ؟؟ نعم نعم صحيح ”
ابتسمت برلنت باتساع ترفع رأسها عاليًا بتكبر :
” لست وحدك الخبير في صناعة الأسلحة يا سيد، فأنا ايضًا أعمل على تطوير سلاح خطير ”
اندهش تميم من كلماتها يبتسم بعدم تصديق :
” اوه حقًا ؟؟ وما هذا السلاح يا ترى ؟؟”
” العقل، سلاح العقل يا سيد هو أخطر من جميع اسلحتك الفاشلة وقنابلك ذات الرائحة القذرة، أنا أعمل على تطوير سلاح عقلي عن طريق قراءة …”
” الروايات الرومانسية ؟؟”
هكذا قاطعها تميم ببسمة واسعة مستفزة ليشتد غضب برلنت وهي ترفع اصبعها في وجهها :
” تلك الروايات التي تسخر منها يا سيد لا قِبل لك ولا لامثالك على فهمها، وفهم ما بها من مشاعر، فأمثالك عديمي المشاعر لا يمكن أن يتفهموا ما بها، امثالك لا وظيفة لهم سوى السخرية من أمثالي المثقفين، امثالك يرتعبون من المرأة القارئة، فنحن كالأفاعي السامة ”
ارتسمت ملامح الدهشة والإعجاب على وجه تميم الذي استطاع وبكل مهارة افتعال أكثر ردة فعل مندهشة قد يراها أحدهم وهو يقول :
” يا ويلي من الأفاعي السامة التي ستقهرني بقوة الصداقة وضربات الحب ”
شعرت برلنت بغضبها يشتعل أكثر وأكثر، ورغم ذلك اكتفت فقط ببسمة انعكست داخل عيونها :
” هذه ردود الجاهلين امثالك يا سيد، أنت لا علم لك سوى بالأسلحة والبارود، لكنك جاهل بكل ما يخص المشاعر والكلمات العذبة اللبقة، لو أنك فقط قرأت كتاب واحد لاكتسبت اكوامًا من اللباقة، لكنك للاسف الشديد جاهل، والآن اعذرني، فوقتي الثمين لا يسمح لي بالوقوف معك واعطائك محاضرة عن اللباقة واسماعك المزيد من الكلمات التي ستقف أمامها عاجزًا عن الرد ”
ختمت حديثها ترمقه بتحدي، ثم ركضت خارج المكتبة قبل أن يصمتها بكلمة لن تستطيع الرد عليها بشيء، وهو ظل واقفًا أمام العريف يبتسم بعدم تصديق لما حدث، تلك الفتاة تصفه بالجاهل الذي لا يعلم شيئًا سوى الأسلحة ؟؟ حسنًا هو كذلك لكنه لا يحب أن يصفه أحد بذلك .
فجأة انتفض على صوت العريف وهو يردد بتهكم :
” تلك الصغيرة لا استطيع التخلص منها، كل نهاية اسبوع تقفز لي وتفسد يومي …”
فجأة سمع الجميع صوت أحد الجنود يقول بصوت جهوري :
” حضرة العريف، الملك يستدعيكِ لأجل اجتماع الممالك بشكل عاجل ”
نهض العريف وقد طارت بومته لتستقر على كتفه وكأنها علمت أنهم على وشك الرحيل، والعريف يشير لمرجان أن يلحق به وهو يقول بغيظ :
” متى يترك هؤلاء القوم العريف ليعيش بسلام بعيدًا عن مشاكلهم الغبية التي لا تعنيني ؟؟ آه يا الله عسى أن تحترق البلاد بمن فيها واتخلص منكم ”
اتسعت أعين تميم بصدمة من كلمات العريف وهو يسير خلفه صوب قاعة الاجتماع :
” عجبًا ذلك الرجل يكره الجميع حقًا، لم يكن مبالغة حين قالوا أنه يكره البشر أجمعين ”
_____________________
حسنًا هي انسان، انسان طبيعي لديه احتياجات كثيرة، ليست كتلك الآلات التي تتحرك أمامها وقد غضت الطرف عن حاجاتها البيولوجية، ياالله هم لم يشتكوا عطشًا أو جوعًا أو حتى راحة .
يوم مر وهي تسير في تلك الغابة لا تنال من الراحة سوى لمامًا، خمس دقائق ثم يسحبونها خلفهم لإكمال الرحلة وصوت سالار يصدح في الخلفية حانقًا من أخذها اربع ثواني إضافية فوق الخمس دقائق..
” يكفي راحة، لن نقضي كامل النهار بالراحة ”
وها هي الآن تسير خلفهم وقد بدأت تشعر أنها تحمل فوق ظهرها عمارة سكنية بسكانها، وليس مجرد حقيبة صغيرة بها اشياء في غاية الصغر، وكل ذلك بسبب إرهاق جسدها .
ابتلعت ريقها تحتاج وبشدة للذهاب للمرحاض، قاومت أن تخبرهم بذلك متجنبة حرج شديد، فهي اوقفتهم مرات عديدة لتفعل وتكاد تنصهر من الخجل، تشعر بأنها تعاني للتأقلم على كل هذا، لكن كل هذا دون إرادتها، نظرت حولها بدقة كأنها كانت تتنتظر بكل غباء أن تجد مرحاض عام داخل الغابة، لربما أحب بعض آكلي اللحوم أو الوحوش المفترسة قضاء حاجتهم .
نظرت لظهر سالار الذي كان ينظر للسماء تارة وللاشجار تارة ولا تعلم إن كان يتأمل الطبيعة أم يحاول معرفة أين هم، لكنها لم تعد قادرة على التحمل .
فتحت فمها بنية الحديث، لكن قاطعها صوت صامد الذي قال بجدية :
” تبقى ساعة تقريبًا ونخرج من الغابة، وبذلك نكون شبه وصلنا للحافة التي يليها المملكة سيدي ”
هز سالار رأسه وهو يتحرك خلفه يقول بجدية :
” حسنًا إن اسرعنا سنصل في اقل من ساعة، هيا لا داعي للتراخي الآن، كدنا نصل يا رجال ”
مدت تبارك يدها تحاول أن توقفه، يالله هي ستموت إن لم تقضي حاجتها الآن، هي تعاني من تلك المشكلة بسبب ظروفها الصحية، ابتلعت ريقها ونظرت لهم لتفكر بالذهاب خلف أحد الأشجار دون أن تضع نفسها في موقف محرج معهم، ثم تعود وتلحق بهم مجددًا بكل بساطة …
وهكذا توقفت تبارك واختبئت خلف أحد الأشجار، بينما اكمل سالار طريقه بكل سلاسة، غير مدرك أنه لا يسير مع جنود يمكنهم الاعتماد على أنفسهم إن ضلوا الطريق، أو أنه يتعامل مع رجال أشداء يستطيعون تدبر أنفسهم، بل هو في الحقيقة يتعامل مع فتاة جاهلة لكل ما يحدث معهم .
بعد دقائق قليلة خرجت تبارك للطريق الذي يتحركون به مجددًا وركضت به بسرعة تبحث عنهم تدرك أنها ستجدهم فهم يسيرون على طريق مستقيم لا يحيدون عنه، لكن الصادم أنها لم تفعل …
توقفت تنظر حولها بعدم فهم :
” هما …هما راحوا فين ؟؟ أنا…أنا غبت كتير ؟؟”
ابتلعت ريقها برعب وهي تستدير حولها تكمل السير في نفس الطريق تتذكر كلمات صامد أنهم اوشكوا على الوصول، هل يعقل أنهم ينتظرونها في نهاية الغابة ؟؟
فجأة لا تدري كيف اصبحت الغابة مظلمة ومخيفة وأضحت الاصوات عالية، وكأنها كانت تستأنس بوجود سالار والأخوين معها، حين غيابهم بدأت مخاوفها تطوف على سطح مشاعرها لتصيبها بالرعب ..
بدأ جسد تبارك يرتجف بقوة وقد شعرت بقرب سقوطها ارضًا تكمل سيرًا وهي تنادي بخوف :
” يا قائد ..صامد …صمود ”
نزلت دموعها بخوف تسير في الطريق وقد أضحت الأصوات التي كانت تتجاهلها أكثر حدة، أو ربما استفرد بها الخوف لتشعر بذلك ..
ازداد ارتجاف قلبها وسالت دموعها أكثر وأصبحت رجفاتها اقوى وهي تهتف بصوت أبح من البكاء :
” يا قائد …ياقائد ”
علت شهقاتها أكثر وأكثر وقد أصبحت جميع طرق الغابة متشابهة ولم تعد تميز أي طريق سلكت وأيهم هو الرئيسي وأيهم الفرعي، أخذت تدور حول نفسها باكية بخوف وهي تهمس :
” ياقائد ..”
فجأة شعرت بصوت خطوات خلفها جعل جسدها يتصنم برعب وهي تضم حقيبتها لصدرها وترتجف وقد أصبح تنفسها اقوى واقوى، لحظات حتى سمعت صوت يهمس بغضب وخوف شديد :
” بالله عليكِ أين ذهبتي أنتِ ؟؟؟”
في تلك اللحظة أنهار تماسك تبارك الوهمي وهي تستدير بلهفة وخوف شديد صوب سالار تنفجر في بكاء عنيف جعل سالار يُصدم، لكن صدمته الأكبر كانت حين لمسته، مجددًا تجاوزت مساحته الشخصية وضمت ذراعه تخفي نفسها خلفه باكية .
اتسعت أعين سالار وشعر بجسده يتصنم كالصخرة و……….
________________________
ربما ظننت أنها مجرد صدف، لكنها يا عزيزي اسباب تقودك صوب نهايتك المحتومة، كل تلك لا يعقل أن تكون مجرد صدف عابرة، بل إشارات تخبرك بمصيرك …..
يتبع….
بالنسبة لرجلٍ لم يعلم من النساء غير والدته، وعاش حياته بين رجال أشداء لا يرى من النساء إلا لمامًا، بضع نساء يلمحهن حينما يحرر قرية أو ينقذ رهائن، نساء لم يهتم حتى ولو بدافع الفضول أن يتطلع على ملامحهن، فقط عاش حياته سعيدًا بعيدًا عن كامل تعقيدات النساء والمشكلات التي ترافقهن، لم تمس يده امرأة قط عدا والدته العزيزة، والآن وبعد كل تلك السنوات، وبعد ثلاثة وثلاثين عامًا من العزوف عن لمس امرأة، فعل المحظور، هو لم يلمسها فحسب، بل عانقها….أو بالأحرى هي من عانقته .
انتفض جسد سالار بقوة بين ذراعيّ تبارك التي كانت تبكي على ذراعه برعب وهي تردد كلمات غير مفهومة من بين شهقاتها، وهو المسكين يشعر بيديه تكافح لدفعها بقوة وتحطيم عظامها لتجرأها وتخطي منطقته الخاصة، ابتلع ريقه يغمض عيونه بقوة وجسده يرتجف هامسًا داخله حتى يهدأ :
” هذه ملكتك …هذه ملكتك وهي خائفة، هذه ملكتك، لا تتصرف بعنف قد يؤذيها، تريث …تريث سالار ..تريث بالله عليك ”
لكن كل تلك الكلمات تبخرت وتلاشت في الهواء حينما شعر بكف تبارك يقبض على سترته من الخلف بقوة من بين شهقات غير مفهومة، ليكون ردة الفعل منها هو دفعة قوية للخلف اسقطتها ارضًا بشكل جعل أعينها تتسع ألمًا، و سالار هتف بشكل جنوني :
” لا تتعدي حدودك معي، ولا تقتربي بهذا الشكل مجددًا لأي سبب كان من أي رجل، سمعتي ؟؟”
نظرت له تبارك برعب كبير تحاول أن تتحدث وتبرر ما تريد قوله وعيونها قد التمعت بدموع كثيفة :
” أنا كنت بس خا…..”
لكن سالار لم يهتم لأي سبب تنطق به صارخًا بصوت تسبب في طيران الغربان والعصافير التي تسكن الاشجار :
” سمــعـــتــي ؟؟”
هزت رأسها بسرعة كبيرة وعيونها متسعة مليئة بالدموع تراقبه والخوف قد احتل جسدها في تلك اللحظة، تخافه أكثر من خوفها بأن تضل وسط الغابة والحيوانات الشرسة وحدها .
راقبها سالار وهو يدري داخله أنه بالغ، بالغ في التعامل معها باعتبارها أمرأة، حسنًا على من يكذب هو يعاملها كأحد جنوده، وهذا ما يملك في الحقيقة .
أنزل إصبعه وهو ينظر لها بشفقة ورغبة عارمة بالاعتذار تلح عليه، لكن هي لم تمنحه فرصة، لم تمنحه ثانية واحدة ليفكر في كلمات اعتذار مناسبة إذ فجأة ودون مقدمات انفجرت في البكاء والصراخ وهي تنهض من الارض تصرخ في وجهه .
وكأنها وافقت أوامره منذ ثواني دون وعي، والآن فجأة استفاقت منها، صرخت رغم دموعها وشهقاتها :
” لا مسمعتش، مسمعتش، هتعمل ايه يعني ؟؟ هتقتلني بالسيف اللي في ايدك ده ؟؟ مش بخاف، ولا هخاف منك، ولو فاكر أن زعيقك وصوتك ده هيخوفني تبقى غلطان ”
وقفت تتنفس بصوت مرتفع أمام أعين سالار الذي كان من الواضح أنه يعجبه ما يرى في تلك اللحظة، يعجبه أن تنتفض ملكتهم وتتوقف عن الضعف وتصرخ في وجه ما يخفيها، حتى لو كان هو المقصود ..
رفعت تبارك وجهها بعنفوان له تردد من بين دموعها :
” أنا…. أنا الملكة هنا، وأنت مجرد بودي جارد للملك واوامري تمشي عليك …المفروض يعني، وأنت مجبر غصب عن عينك تسمع كلـ …..ااااه ”
كانت تصرخ أمامه بقوة ودون خوف رغم دموعها التي تهبط دون إرادتها، لكن وحينما كانت في غمرة قوتها ووسط فقاعة الشجاعة الخاصة بها وجدت حد سيفه يفرقع تلك الفقاعة وهو يرفعه في وجهها تحديدًا على بعد سنتيمتر واحد فقط من رقبتها وصوته خرج بهدوء شديد من خلف بسمة صغيرة مخيفة :
” وأنا قائد الجنود الذي يمكنه قتلك هنا ودفنك بارضك دون أن أبذل قطرة عرق واحدة ”
ارتجف جسد تبارك بقوة تود لو تبتلع ريقها، لكن ابتلاع ريقها في هذه اللحظة قد يتسبب في تحريك رقبتها وبالتالي يصيبها السيف، شعرت بالغضب يتلبسها من ذلك المتجبر الذي لا يخشى شيء ولا حتى تهديداتها .
” مش هتعرف تعمل حاجة، الملك مش هيسمح ليك تقتلني ”
ابتسم لها سالار بسمة جانبية :
” ومن يا ترى سيخبر الملك بما سأفعل ؟؟”
شعرت تبارك بالعرق يسير أعلى جبينها والخوف يملئ جسدها بقوة، بالله ما رأت يومًا من هو بمثل قسوة وتحجر ذلك الرجل، فجأة وقعت عيونها على صامد وصمود اللذين كانا يشاهدان ما يحدث بأعين متسعة ورعب كبير أخذته هي أنه رعب على ملكتهم :
” صامد وصمود هيروحوا ويقولوا للملك كل حاجة لو قربت مني ”
اتسعت أعين سالار بقوة لتلك الفكرة يدعي التفكير :
” أوه أنتِ محقة، يا الله ما العمل الآن ؟؟”
ابتسمت تبارك براحة، سرعان ما تبخرت حينما سمعته يقول يكل بساطة محركًا كتفه:
” لا بأس سأتخلص منهما كذلك، لكن لا تقلقي مولاتي فلن يتم دفنهما بنفس قبرك، سأحفر واحدًا لهما، لأنني لن أقبل أن تُدفن ملكتنا مع رجلين غريبين عنها، هذا مرفوض البتة ”
” شهم …”
ابتسم لها سالار يستمع لصيحات صامد وصمود خلفه وكلماتهما المتداخلة برعب ..
” سيدي نحن لن نتحدث بكلمة واحدة ”
” نعم سيدي، فنحن لا شأن لنا بها إن أردت التخلص منها ”
” هيا سنساعدك في حفر قبر لها ”
نظرت لهما تبارك بشر وشعرت بالغضب يعتريها، لكن فجأة انتزع سالار سيفه عن رقبتها يستدير بسرعة كبيرة صوب الاثنين وهو يوجهه لهما قائلًا بصوت جهوري :
” تعينان شخصًا يود قتل ملكتكما دون الدفاع عنها ؟؟ ياله من عارٍ مخذي”
عادت تبارك للخلف بريبة من ذلك الرجل وهي تهمس داخلها، أنه أنت من أردت قتلي إن لم تكن تتذكر، لكن رؤيتها لنظرات الشر تنطلق من أعين سالار جعلتها تبتلع تعليقها وهي تراه يوبخ الاثنين بصوت مرعب جعلها هي ترتجف في مكانها ..
” هذه ملكتكما، وإن رأيتموني أرفع عليها سيفًا ترفعون عشرة في وجهي، سمعتم ؟؟”
هز الإثنان رأسيهما بقوة وقد كانا جسديهما يرتجفان، ليرمقهم سالار بشر وهو يقول :
” لتشكرا الله أنكما لستما من رجال جيشي وتحت أمرتي، وإلا كنت أحلت حياتكما لجحيم ”
ختم حديثه يعيد السيف لغمده، ثم استدار صوب تبارك يقول بجدية ونبرة عملية بحتة :
” وأنتِ …”
سارعت تبارك تقول بصوت مرتجف تبعد عيونها عن صامد وصمود بسرعة :
” أنا آسفة والله كلام في لحظة انفعال مش اكتر …”
للعجب ابتسم سالار بسمة صغيرة يهمس بكلمات غير مسموعة لها، ثم أشار للجميع أن يلحقوه ليكملوا رحلتهم، سارت تبارك وخلفها صامد وصمود و صوت تذمرهما وحنقهما يصلاها بشكل واضح، لا بأس يستحقان ما حدث لهما، هذا فقط كي يفكروا مرات قبل محاولة التستر على جريمة قتلها، شكرت تبارك سالار في رأسها وهي تردد بصوت هامس ممتن :
” راجل جدع وشهم والله …”
ولم تنتبه تبارك أن ذلك الرجل الجدع والشهم هو نفسه من كان سيتسبب في الجريمة التي كان سيتستر عليها صامد وصمود .
وبعد ساعة ونصف من السير، توقف سالار فجأة ليتوقف الجميع بقوة وتنظر لهم تبارك بدهشة، تسمع صوت صامد يقول بجدية وبسمة واسعة :
” ها نحن يا قائد وصلنا للحافة ….”
__________________
يتحرك بقوة بين ممرات القصر وخلفه الكثير والكثير من الجنود بملامح واجمة، ما حدث ليلة أمس لم يكن سوى بداية، بداية فتح بوابة الجحيم على جميع الممالك، يبدو أن فترة الانتظار والتريث قد انتهت بالكامل .
فُتح الباب وخطى لغرفة الاجتماعات بقوة ومعطفه يتحرك خلفه، وبمجرد أن وصل أبصر الجميع ينتظر؛ مستشاريه وقادة جيشه _ عدا سالار_ والعريف، والملك آزار وولي عهده والملك (بارق ) ملك سبز .
نظر لهم إيفان نظرات هادئة يحييهم بعيونه، ثم جلس بهدوء يتنهد بصوت مرتفع يقول بجدية كبيرة :
” اشكركم لتلبية دعوتي، لكن الأمر في غاية الخطورة ”
انتبه له الجميع، وقد بدأ إيفان يحرك نظراته بينهم وكأنه يبحث عن شيء ضائع بينهم، وبعد صمت قصير استمر ثواني أدلى بما يضمر داخله :
” البارحة تعرضت سفيد وتحديدًا قصري لمحاولة هجوم فاشلة ”
نظر له الجميع باهتمام وهو اكمل دون أن يهتم بأي ردة فعل في تلك اللحظة، هو فقط يود وضع حد لما يحدث داخل الممالك الأمر تطور وأصبح خطر المنبوذين مرعبًا ..
هؤلاء المنبوذون…مجموعة من المرتزقة المنبوذين يسكنون الجبال احيانًا، والسهول أحيان أخرى، ولا هواية لهم سوى قطع طرق القوافل ونهبها وقتل التجار بين الممالك، وقد خاض سالار حملات تطهير لهم، لكنهم يتكاثرون كالذباب وبشكل مهول، ومن افضل منهم ليتكاثر؟!
فهم بالإضافة لنهب القوافل، كانوا بارعين في خطف النساء والزواج بهم بالاجبار للحفاظ على سلالاتهم العفنة …
” لم يكن هجومًا مدبرًا أو خطرًا أو حتى مؤثر، فكان يكفيهم جنديين فقط ليتخلصوا من هؤلاء المنبوذين لكن …”
صمت بسبب تدخل بارق في الحديث، لا يفهم سبب دعوتهم لهنا إن كان جنود الملك قد احبطوا عمليتهم :
” إذن ما الضرورة من جمعنا إن افشل جنودك بالفعل محاولة الهجوم على المملكة ملك إيفان”
نظر له إيفان قبل أن يقول بشر :
” الضرورة هي أن ذلك الملعون بافل أرسلهم فقط ليعلمني جيدًا أنه يستطيع دخول مملكتي وقتما شاء دون أن يتكبد أي عناء، يريد إخباري أن احتلاله لعرشي مسألة وقت وتكتمل، والأمر لا يقتصر على مملكتي فقط ملك آزار، بل سيمتد ليشمل جميع ممالككم ”
حدجه آزار بنظرات واثقة قبل أن يعتدل في مقعده يقول بصوت هادئ وهو يمد كفيه أمامه يعقدهما ببعضها البعض وفي صوته نبرة كبرياء وغرور لا حدود لهما، يثق بجيشه الذي هو اقوى ما لديه :
” لن يطأ أي حقير منهم أرض مملكتي، فلا أسمح لأيًا كان أن يفعل، انتبه لحدودك وجنودك ملك إيفان فيبدو أن منظومتك الدفاعية تعاني خللًا كبيرًا خاصة في غياب قائدهم ”
عاد إيفان للخلف يستند بهدوء على مقعده وهو يقول بصوت بادر كالصقيع وجميع الأعين حولهم قد تأهبت لبدء قتال :
” كنت لاخجل من نفسي ومن جنودي ملك آزار، لو أن هؤلاء المنبوذين لم يأتوا عن طريق الحدود المشتركة بيننا وبين مملكتك بأوراق خاصة بشعبك فقط وبتصاريح تم ختمها بختم تجارك ”
ابتسم دانيار بسمة سوداء وهو ينظر بأعين آزار ومن معه وقد تحركت يده على القوس الخاص به والذي يقبع أعلى كتفه، وجوراه تميم يستند على الطاولة بيد، وبالاخرى أخرج سيفه من غمده أسفل الطاولة، وقد بدأت حالة الاستنفار تعلو في المكان والنظرات تتحرك بين الجميع ليروا أيهم سيبدأ المعركة اولًا .
وصوت آزار يصدح رافضًا لتلك الفكرة داخل المجلس وتحت أعين جميع القياديين مستنكرًا لما سمع، لا يمكن أن يكون ذلك حقيقة ابدًا:
” مهلًا، هل تتهمني بمعاونة هؤلاء المنبوذين ملك إيفان !!”
صمت إيفان ثم أجاب بهدوء كبير وكلمات ذات معنى :
” أنا لستُ كالبعض ألقي اتهامات دون أدلة أو بلا علامات على تلك الاتهامات مولاي، لذلك إجابتي لا، معاذ الله أن القيك بالباطل دون دليل ”
كان في حديثه تلميح واضح للاجتماع الأخير الذي اتهمه خلاله بالتواطؤ مع المنبوذين، والآن وأمام الجميع يضعه إيفان في نفس الموقف، لكن مع استخدام حكمة تفوق حكمة وتفكير الملك آزار الذي ينحصر عقله وذكاؤه في القتال والحروب فقط .
عاد آزار بظهره على المقعد مصدومًا :
” ربما أنت مخطأ، فلا أحد من هؤلاء الرجال قد يأتيك عبر مملكتي، أنا حدودي آمنة تمامًا .”
مال إيفان على الطاولة ينظر للجميع بنظرات غامضة، ثم تشدق بصوت هادئ بعض الشيء :
” يبدو أنك يا مولاي أمنت حدودك بشكل أقوى من تأمينك لداخل المملكة ”
” ماذا تعني ؟!”
ابتسم إيفان يقول دون مواراة أو التفاف حول المواضيع :
” يعني أن هناك خائن في مملكتك وهذا الخائن لا يمتلك مكانة صغيرة، بل يمتلك مقامًا رفيع يؤهله لتأمين عدد ثلاثين رجل من رجال بافل وإدخالهم لبلادي عبر تصاريح خاصة مختومة بختم تجارك ملك آزار…”
صمت يراقب ملامح آزار المصدومة، ثم قال إيفان بصوت غاضب مرتفع يضرب الطاولة معلنًا الحرب على كل من يقترب من مملكته :
” هناك متآمر في مملكتك ملك آزار وهذا المتآمر كاد يتسبب في كوارث للجميع هنا، وأنا أطالب بهذا الخائن ليمثل أمام عدالة مملكتي فمن تأذى كان أنا والخسائر كانت لدي، والآن اطالبك بإحضار ذلك الخائن بنفسك، قبل أن أعطي نفسي حق إحضاره من بين اسوار مملكتك بشكل لن يعجبك أو يعجبه ….”
________________
” هذا يعني أن سيفك معه ؟! ياللمصيبة ..”
هكذا هتفت كهرمان بصدمة وهي تسير مع زمرد نحو الغرف لتنظيفها، قبل أن تتجه هي لترى عملها في الحظيرة مع الابقار والماشية.
جالت زمرد بنظراتها حولهم قلقة أن يستمع لهم أحد، ثم قالت بصوت منخفض :
” اخفضي صوتك كهرمان، بالله عليكِ ستتسببين في كارثة لي، أشعر أنكِ لن ترتاحي إلا عندما أُعاقب واشاركك اعمال الحظيرة ”
ابتسمت كهرمان تحرك كتفها بدلال :
” ربما افعل، لكن صديقتي أنتِ تعلمين أن هذا الرجل قد يرى الاسم المحفور على السيف ويكتشف حقيقته ”
نظرت زمرد أمامها بأعين مفكرة، تتحدث بصوت خفيض لا تدري أتطمئن نفسها، ام كهرمان :
” لن يفهم اللغة التي حُفرت بها تلك الكلمات، أو هذا ما اتمناه ”
تنهدت بصوت مرتفع وقد شعرت بالحنق الشديد :
” لا ادري ما بال ذلك الرجل بي، كلما ذهبت لمكان رأيته يقفز أمام عيوني، بدأت اصدق أنه أحد المهووسين ”
ابتسمت كهرمان بخبث شديد تقترب منها ضاربة إياها بكتفها مع غمزة صغيرة :
” لربما هو بالفعل أحد المعجبين بكِ حبيبتي، فمن يرى تلك الأعين الجميلة ويظل صامدًا ها ؟؟”
ارتسمت بسمة ساخرة على فم زمرد تقول بحنق :
” نعم معجب وبشدة، حتى أنه كاد يقتلني في كل مرة قابلته بها تقريبًا ”
أطلقت كهرمان ضحكات صاخبة قبل أن تتوقف فجأة وتطرح ما يدور بخلدها :
” إذن هل هو وسيم ؟؟”
وبهذه الكلمات تسببت كهرمان دون أن تشعر في تدافع العديد والعديد من الصور داخل عقل زمرد، صور لذلك الجندي مجهول الاسم والهوية، وسيم الملامح قوي البنية، رجل لو كانت مجرد فتاة عادية لا تحمل من الأسرار ما قد ينهي حياتها لكانت سقطت صريعة له دون أن تهتم بأي اعتبارات، بل كانت ستجبره على حبها رغم أنفه، ولو تحت تهديد سيفها .
فأنت لا تجد كل يوم رجلًا بمثل بهاء ذلك الجندي وقوة شخصيته، لكن التمنى لن يقدم شيء، وحياتها لن تنفعها بشيء إن ألقت بقلبها في غياهب الحب دون اهتمام، لن ينفعها الندم إن أحبت من قد ينبذبها، لكن إن كانت كهرمان تنتظر أن تجيب سؤالها، فالاجابة هي نعم ونعم ونعم ونعم وألف نعم، هو الوسامة بحد ذاتها ..
” لا ليس وسيمًا البتة، ثم اتركينا من ذلك الجندي واخبريني ”
نظرت لها تحاول تغيير الحديث متسائلة بخبث :
” مابالك وذلك المنحرف الوقح الذي ظهر أمامك عند الجدول القريب من الحظيرة ؟؟”
اشتعلت فورًا ملامح كهرمان وشعرت بالغضب يتلبس كل خلية حية داخل جسدها، تتذكر ذلك الرجل الذي لا تعلم ملامحه بدقة بسبب بعد المكان بينهما، بالإضافة للشمس التي كانت تحجب عن ناظريها الرؤية بشكل جيد، كان يضحك ويسخر منها وأخذ تهديدها باستهانة ..
” ذلك الوقح أقسم أن اجعله يندم أشد الندم، سأذهب للملك واشتكيه، لا بد أنه أحد العاملين بالمزارع القريبة من الحظيرة، لقد رأيت ثيابه وأستطيع أن اصفها له، لقد تطاول على امرأة وظل واقفًا يراقبني بكل وقاحة وهذا ينافي قوانين الملك هنا، لذلك سأريه بنفسي ….”
_____________________
” نهاية العالم ؟؟”
كلمات نطق بها صامد واصفًا ذلك المكان الـ…عجيب أمامهم، نعم عجيب وهذا الوصف الوحيد الذي استطاع عقلها تدبيره بهذه السرعة، لا شيء يظهر أمامها، فقط حافة جبل عملاق أو نهاية اليابسة وامامها سحب كثيفة تخفي ما يقبع أسفلها..
” هو احنا فين بالضبط ؟!”
نظر لها سالار ثواني ثم قال :
” نهاية العالم، حافة يقبع عندها نهاية اليابسة، ومن بعد تلك الحافة تبدأ حدود الممالك الأربعة ”
” أيوة يعني فين ؟! احنا فين دلوقتي؟! دولة ايه دي على الخريطة ؟! اللي اعرفه إن حافة العالم دي في السعودية مش كده ؟؟”
” السعودية ؟! ”
” شبه الجزيرة العربية تعرفها، فيها جبل اسمه نهاية العالم ”
مال سالار برأسه قليلًا، ثم هز كتفه يقول بهدوء وصوت قوي النبرة كعادته، وهو يخرج سيفه وينظر للاسفل دون ذرة خوف واحدة :
” نعم بالطبع أعرفها، لكن هذه ليست حافة العالم التي تقبع هناك إن كان هذا ما تقصدينه، هذه نهاية اليابسة في قارة أخرى ولا ادري مسميات الدول الحديثة، لكننا لسنا في شبه الجزيرة العربية”
ختم حديثه ثم أشار بإصبعه لصامد وصمود وهو يخبرهم :
” هيا اسبقانا ..”
هز الإثنان رؤوسهما يتحركان صوب الحافة التي يخفي السحب ما يقبع اسفلها، إذ تجعلك تشعر كما لو أنك في السماء السابعة تحلق فوق السحاب .
اقتربت تبارك خطوات بريبة وهي ترى صامد وصمود يقفان على الحافة بالتحديد :
” يسبقونا لفين و…”
وفجأة انطلقت صرخة رنّ صداها في المكان بأكمله وهي ترى أجساد صامد وصمود تسقط عن الحافة بقوة مرعبة، جعلتها تعود صارخة للخلف وهي تضع كلتا يديها على فمها، كانت تشعر أن قلبها سيتوقف وهي تنظر للحافة بخوف كبيرة .
ثواني حتى ارتفع صوت صرخاتها وهي تشير للحافة مرتجفة :
” دول …دول وقعوا، دول وقعوا ”
” لا لم يفعلوا، هم فقط سبقونا للبلاد، فهذه هي طريق العودة ”
نظرت له تبارك ثواني وكأن رأس إضافية نبتت له، أو أن هناك قرون ظهرت أعلى رأسه، لا تفهم أي كلمة من تلك الحملة التي نطقها، ابتلعت ريقها تقول :
” العودة للي خلقهم اكيد …”
” لا بل العودة للبلاد ”
وفجأة وبعد تلك الكلمات اتسعت أعين تبارك تصرخ دون مقدمات وجسدها يرتجف من فكرة مجنونة خطرت لها، لكنها بالطبع لن تنافس جنون ما يحدث معها :
” أنتم… أنتم أرواح ؟؟ ”
تشنج وجه سالار وهو يتحرك صوبها :
” ماذا ؟؟”
” أنتم اكيد من العالم التاني اللي هو بتاع العفاريت والأرواح عشان كده عايزين تقتلوني وانتقل لعالمكم ”
زفر سالار وقد مل حقًا تصرفات تلك الفتاة :
” اسمعي ”
هنا ووصل صبر تبارك الحافة وهي تصرخ بجنون :
” لا أسمع أنت، أنا مش هتحرك خطوة هنا وهرجع …هرجع لوحدي، أنا لا يمكن اقرب من الحافة دي ولا اعمل العبط اللي بتقول عليه ده ابدا ”
كانت دموعها تشق طريقها أعلى خدها بقوة وهي تهتف برعب وتحرك يدها أمامها تتجاهل ارتجاف جسدها، استدارت بسرعة وهي تنظر من الطريق الذي جاءوا منه وتحركت له، لكن قبل أن تصل، شعرت بأحدهم يمسكها من حقيبتها وصوت سالار يصدح بجدية وغضب :
” أنتِ ستأتين معي، بإرادتك أو دونها ”
وهذه كانت آخر كلماته قبل أن يسحبها معه للحافة والتي بمجرد أن ابصرتها تبارك تقترب حتى أصابتها حالة هستيرية من الخوف صارخة وجسدها ينتفض تشعر بروحها تُسحب منها :
” لا لا لا لا، ارجوك، ارجوك لا، سيبني ارجع البيت، ابوس ايدك، مش عايزة أنا … أنا… أنا…”
كانت تتحدث وهي تشعر أن أنفاسها تكاد تتلاشى من صدرها، هذا مرعب وبشدة أن تقترب بقدمها من تلك الحافة، وتقفز منها لهو أمر جنوني ومغامرة لم تفكر بها يومًا، يالله هي عندما كانت ترى القفز الحر بالمظلات، كانت تشعر أن قلبها سقط في قدمها من مجرد التخيل، والآن هي ستفعل الأمر نفسه، لكن الفرق هو أنها لا ترتدي مظلة قد تساعدها .
” سيب ايدي، أنا مش عايزة اروح في حتة، سيبني ”
لكن سالار رفض تركها يردد بجدية :
” لا تخافي، لا شيء لتخافي منه ”
نظرت له لحظات قبل أن تصرخ في وجهه :
” هو أنت ساحبني اجرب مرجيحة جديدة ؟؟ دي …دي حافة عالية وعايزني أنط منها يا مجنون، أنا مش عايزة اروح معاك لمملكتك دي أنا متنازلة عن منصبي ”
” أنتِ ستكونين الملكة هناك، كيف تتخلين عن هكذا لقب ”
سقطت تبارك ارضًا تحاول سحب حقيبتها من بين أنامله باكية بقوة ورعب شديد :
” مش عايزة .. مش عايزة اكون ملكة أنا عايزة اعيش طول عمري ذليلة كده، مش عايزة أي حاجة، ابوس ايدك سيبني ”
شعر سالار بمشاعر شفقة وحزن لرؤية انهيارها ورعبها هذا، لكنه مجبر على سحبها صوب مملكتهم دون وجود أي اختيارات أخرى .
لذلك أخذ نفس عميق وقال بصوت جامد وأمر نافذ وكأنه يتحدث لأحد رجال جيشه :
” هيا توقفي عن كونك مثيرة للشفقة، ألم تملي كونك ضعيفة ؟؟ ”
رفعت تبارك عيونها له، تحدق في وجهه من بين دموعها تشعر برغبة عارمة في الأنقضاض عليه وتقطيع وجهه باظافرها، وحديث سالار لم يساعد البتة في تحسين أفكارها وتخفيف حدتها، إذ مال قليلًا يردد من بين أسنانه يرفض رؤيتها ضعيفة أو خانعة :
” أنتِ ستنهضين الآن وتأتين معي برأس مرفوع أمام الجميع، لن أسمح لكِ أن تكوني مجرد فتاة مثيرة للشفقة، لن أسمح لكِ أن تضيعي تاريخ مملكتي فقط لأن الله جعلك ملكة عليها، فهمتي ؟؟”
شعرت تبارك بالغضب يتلبسها ودون مقدمات نهضت بقوة تدفعه بكل قوتها صارخة في وجهه بجنون، وسالار لم يتحرك قيد أنملة يراها تصرخ في وجهه وتثور عليه، ثم مالت واحضرت صخرة والقتها بكل قوتها في وجهه وهي تصرخ بجنون :
” أنا مش ضعيفة ولا مثيرة للشفقة، ولا عايزة اكون ملكة لمملكتك، أنا إنسانة طبيعية عايزة اعيش حياتي زي أي بنت، مش عايزة مغامرات، مش عايزة تنطيط وحياة أنا رفضاها، أنا مش من النوع ده، أنا بس عايزة اعيش في سلام لوحدي، سيبوني لوحدي، ســامع ؟؟”
امسك سالار بسرعة الحجر قبل أن يصيب وجهه، ثم ابتسم لها يقول باستحسان لانتفاضتها تلك، هناك أمل داخلها يستدير ليحدق بالحافة :
” هذا جيد، أرى أن داخلك طاقة مكبوتة، سأكون سعيدًا باستخراجها، في النهاية أنتِ لستِ سيئة لهذه الدرجة ”
أصاب بروده تبارك في مقتل وجعلها تشعر بالقهر، هي لم تحركه خطوة واحدة ولم تصبه بخدش واحد، ابتلعت غصتها وقد قررت أن تنتقم لكرامتها، لذلك ودون تفكير ركضت صوب ظهره وقفزت أعلاه بغية جذب جسده وإسقاطه ارضًا، لكن بمجرد أن تسلقت جسده وجذبت رأسه :
” هقتلك …بكرهك ”
ارتسمت بسمة مثيرة للرعب على فم سالار ومن حسن حظ تبارك أنها لم ترها حينما كانت منشغلة بمحاولة جذب رأسه وإسقاطه ارضًا .
همس سالار بفحيح وهو يمد يده ليمسك جسدها ويثبته على ظهره، ثم قال بفحيح :
” هذا يسهل عملي أكثر”
وقبل أن تستفسر منه تبارك عن مقصده شاهدت بأعين متسعة الحافة تقترب منهم، بعدما امسكها سالار بقوة وركض صوب الحافة بكل قوته وهو يبتسم بسمة واسعة، ولم تشعر تبارك سوى بجسدها يطوف في الهواء وهو محمول أعلى ظهر سالار، مدت أظافرها تثبتها في وجهه تصرخ بقوة مغمضة عيونها دافنة رأسها في كتفه :
” أشهد أن لا إله إلا الله…. أشهد أن لا إله إلا الله”
وفجأة شعرت باصطدام قوي يصيب جسدها لتتعالى صرخاتها وتنفصل عن ظهر سالار، ويرن صدى صرخاتها في المكان بأكمله، قبل أن تنكتم تلك الصرخات فجأة …..
___________________________
خرج من القاعة يسير مبتسمًا بسمة لا معنى لها، وعلى عكس عادته لم يتبعه أحد جنوده، بل كانت شياطينه هي من تسير خلفه، ترك لهم الاجتماع وخرج بعدما ألقى تهديده في وجه آزار، أخبره صراحة أن الخائن داخل مملكته يخصه …
ترك الجميع وخرج دون أن يعبأ بأي شيء، ما يزال غضبه مشتعلًا كالجحيم، يشير لحرسه ألا يتبعوه، لا يريد الحديث مع أحد أو رؤية شخص في هذه اللحظة، نظرات آزار له تخبره جيدًا أن القادم لن يكون جيدًا لا عليه ولا على مملكته .
ابتسم بسمة جانبية يتوعد للجميع، لطالما استهان به جميع حكام الممالك لصغر عمره، يرون أن سفيد أكبر منه، وهو سيريهم أنه خُلق ليكون ملك سفيد وأن سفيد لن تكون سوى له .
وصل لممر قاعة العرش حيث أخبر الجميع أن يلحقوا به بعد تأمين خروج الملوك ورجالهم من مملكته، لكن وقبل أن يطأ قاعة العرش سمع صوتًا يهتف بلقبه .
” مولاي …”
توقف إيفان ينظر خلفه ببطء شديد ليبصر إحدى الخادمات تحاول الاقتراب منه، لكن الحراس يمنعونها من ذلك، تنهد بتعب، هو ليس متفرغًا لسماع مشاكل العاملات في هذا الوقت، ورغم ذلك أشار بيده للحراس أن يدعوها .
وبالفعل تركوها لتركض له الفتاة وهي تقول بلهفة شديدة :
” مولاي جئت لأنني أثق بحكمك وعدلك ”
توقف أمام إيفان ليتعرف عليها إيفان في ثوان من صوتها وطريقة سيرها المختلفة عن الجميع وكذلك الوقفة، وقفتها تشعرك أنك تتحدث مع أميرة راقية وليست مجرد فتاة تعمل داخل قصره .
هي نفسها فتاة الحظيرة.
” مولاي أنا… أنا جئت اشكوك ظلمًا تعرضت له أسفل سقف قصرك ”
اشتدت أعين إيفان وقد انتصب جسده، هو في هذه اللحظة غاضب بما فيه الكفاية، لا يحتاج سوى شرارة صغيرة فقط كي يحترق وينفجر في الجميع .
نظر إيفان حوله، ثم تحرك صوب القاعة يقول بهدوء :
” تعالي .”
دخل القاعة وهي سارت خلفه ترى العديد من الحرس على جانبي القاعة الواسعة، تشعر برهبة المكان والتي اكتسبها من صاحبه الذي يعتلي عرشه بكل قوة .
رفعت رأسها تنظر لايفان الذي قال بكل هدوء :
” تفضلي واخبريني ما تعرضتي له وما حدث بالتفصيل ”
نظرت له كهرمان بتردد تحاول ألا تنظر له مباشرة احترامًا له، ورأفة بنفسها وقلبها الذي يخفق بقوة لرؤيته بهذه الهيئة أعلى عرشه .
” هو مولاي … أنا… أنا هي نفسها من …من عاقبتها منذ أيام بتنظيف الحظيرة، وأثناء تنظيفها تعرضت للعديد من المصاعب بسبب الأبقار و…هناك هناك شاب وقح اعتقد أنه يعمل مزارعًا، كان طويل القامة ذو جسد ضخم بعض الشيء مولاي، أخذ يتواقح عليّ و….”
توقفت تشعر أن كلماتها غير مرتبة، كان عليها الاستماع لزمرد وتجاهل ما حدث، لكنها لم تتحمل أن تتعرض لمثل تلك المعاملة من مزارع حقير وهي من اعتادت الدلال والحماية المبالغ بها من جميع أفراد عائلتها، ولديها مبادئ أنها إن تنازلت مرة ستتناول أخرى.
” هو كان يزعجني و…ينظر لي بشكل سييء مولاي ”
نظر إيفان لكهرمان من أعلى عرشه وقد ارتسمت بسمة غير مصدقة على فمه، واتسعت عيونه بصدمة من حديثها :
” حقًا ؟؟”
” نعم مولاي ”
عض إيفان شفتيه بقوة يشعر برغبة عارمة في الضحك، لقد جاءت لتشتكيه لنفسه، فعلتها جديًا وجاءت تشتكيه، هي لم تكن تمزح؟؟ لم تكن تبالغ حين قالت إنها ستشتكيه للملك، وأي وقاحة تلك التي تقصدها هذه الفتاة ؟! هو تواقح عليها ؟؟
” هناك هجوم حدث البارحة على القصر وكاد سكن الجنود يحترق بأكمله، والمملكة على اعتاب حربٍ ضارية، والأوضاع غير مستقرة، وأنتِ تريدين أن أترك كل ذلك والنظر في مشاكلك مع الأبقار وذلك الشاب الوقح ؟!”
وبعدما كان وجهها منخفض ارضًا باحترام، رفعته بكل قوة وشجاعة تحدق في عيون إيفان التي ضاقت بقوة وهو يطيل النظر لتلك الفتاة، تذكره بجسد قريب من نفس طولها، يتذكره جيدًا، وكيف لا يفعل وهو ظل ليلة طويلة يتخيلها ويفكر في صاحبته التي تجرأت على مبارزته دون خوف متنكرة بزي جندي له، هل يعقل أنها هي نفسها أم الأمر مجرد تشابه في الهيئة؟؟ لكن صوتها ليس هو؟؟
أفاق إيفان على صوتها تقول بكل قوة :
” هذا واجبك كملك، أن تحقق العدالة لشعبك رغم كل شيء ”
ارتسمت بسمة جانبية على فم إيفان يقول :
” نعم معكِ حق آنسة….”
” كهرمان ..كهرمان مولاي ”
اتسعت بسمته يقول بجدية :
” حسنًا آنسة كهرمان، سأحرص بنفسي على معاقبة ذلك الشاب الوقح الذي تجرأ ورفع نظراته لكِ، لكنني للأسف لا استطيع التفاهم مع الأبقار وإيجاد حل معها ”
رفرفت كهرمان بعيونها من خلف غطاء الوجه، وهي تشعر بالخجل من بسمته الجانبية التي لا تدري أساخرة كانت أم مجرد بسمة عادية ؟؟
ابتلعت ريقها وقد شعرت بنظراته تطيل لها، لتقول بصوت خرج بصعوبة بسبب ذلك الموقف :
” لا بأس…لا بأس مولاي .. أنا… أنا سأصل لحل مع ..مع الأبقار، يكفيني أن تعاقب ذلك الوقح ”
رفع إيفان حاجبه وقد ظهرت أسنانه في بسمة غريبة :
” سأفعل آنسة كهرمان، لكِ وعدي بمعاقبة ذلك الوقح وبنفسي …”
____________________
” سيد بافل، ما الخطوة التي ستخطوها قريبًا ”
ابتسم بافل يستريح بظهره على المقعد خلفه، وعيونه تشتعل في الظلام المحيط، فيها هي واحدة من الممالك المشرقة يعمها الظلام والظلم .
رفع بافل يده يحك ذقنه بهدوء :
” ما رأيك أنت ؟؟”
ابتلع الرجل ريقه لا يدري هل يسأله رأيه حقًا، ام ذلك مجرد سؤال لا معنى له وهو يتحدث مع نفسه كالعادة، وبعد صمت طويل تحدث بافل واخيرًا رافعًا عنه مشقة التفكير في خطوته القادمة وإن كان سيجيب سؤاله أو لا .
” سفيد، أنا أريد سفيد، تلك المملكة بمن فيها اريدها لي، وحين تسقط سفيد سيسقط الباقي، آبى وسبز ”
” سيدي عفوًا، لكن لا آبى ولا سبز بهذه السهولة التي تتحدث بها، هم أيضًا يمتلكون قوى جبارة وخاصة تلك آبى، بينما سبز ملكها داهية لا تفوته شاردة ”
نظر له بافل يحدق فيه طويلًا قبل أن يتجاهله دون رد واضح، ينظر أمامه وفي عقله تدور فكرة واحدة، هو سيقتحم سفيد ويسقطها ومن ثم يحين دور باقي الممالك، فسفيد هي القلب النابض للمالك الأربعة وبتوقفها عن النبض، تموت باقي الممالك …
” من عاد من الهجوم الأخير، أخبرك بشيء قد يفيدنا ؟؟”
” سيدي هو لم يقل سوى كلمات غير مفهومة وهو الآن ما يزال يتعالج، لا أحد يدري ما حدث هناك، هو فقط يردد أن الجحيم انفتح في وجوههم حتى أنهم فقدوا البعض منهم داخل القصر وهربوا ”
ضيق بافل ما بين حاجبيه يهتف بنبرة مخيفة :
” سالار ؟؟”
” لا، لا أعتقد فهو لم يذكر وجود سالار، قال أنه رأى رجل آخر يقود الجنود، لو كان سالار لذكره فمن لا يعلم سالار منا ”
ارتسمت بسمة مرعبة على فم بافل يردد بسخرية :
” نعم من لا يعرف سالار منا ؟؟ فمن غيره يقود حملات تطهير علينا، ومن غيره يقود جيوشه دون لإبادة شعبي ؟؟ ”
في تلك اللحظة اقتحم المكان أحد رجال بافل وهو يقول بصوت مرتفع وانفاس لاهثة ورعب جلي على وجهه :
” سيدي …الشعب …لقد …ثار على الرجال …”
ابتلع ريقه يحاول أن يبلل حلقه الجاف :
” احدث أحد الرجال ثورة في سوق المدينة وهناك حشد كبير من شعب مشكى يتجه صوبنا سيدي والغضب يقودهم وقد تسلحوا بكل ما وجدوه في طريقهم من سكاكين وخناجر وغيرها والبعض يحمل حجارة يلقون بها على القصر وقد أصابوا العديد من الرجال ”
انتفض جسد بافل بقوة وقد انتفض قلبه بالتزامن مع انتفاضة جسده وهو يركض بسرعة مهولة صوب إحدى نوافذ القصر يصرخ بجنون :
” من ذلك الشجاع الاحمق الذي اشعل شعلة الثورة وايقظ الضمائر الميتة داخل صدور هؤلاء الضعفاء ؟؟”
توقف في النافذة ينظر أمامه ليرى حشد مرعب من الشعب يتحرك صوب القصر ورجاله يقفون برعب متسعي الأعين وكأن أيديهم قد شُلت، بل الادهى أن أجسادهم كانت ترتجف، رؤية هذا الشعب الأعزل يتحرك نحوهم بهذه الثقة دون خوف من الأسلحة جعلت أحد الرجال يصرخ بصوت جهوري :
” تحصنوا فلربما كانت معهم قنابل ”
وبالفعل ارتعشت قلوب رجال بافل اجمعين يركضون داخل القلعة يحتمون بها من شعب اعزل لا يحمل سلاحًا سوى الايمان والثقة، ثقتهم واندفاعهم بهذا الشكل جعلتهم يشكّون بحيازتهم لقنابل .
توقف الحشد أمام باب القلعة وصرخ أحد الشباب وهو يحمل حجارة بين كفيه :
” لعنة الله عليكم أجمعين، خارج مملكتنا يا حثالة، لعنة الله عليكم ”
وبمجرد انتهاء جملته رفع يده عاليًا وألقى الصخرة لتصيب أحد رجال بافل وقد علت الصيحات بين الجميع، لتشتعل أعين بافل بقوة ويرتجف جسده غضبًا وتشتد قبضته على إطار النافذة أمامه يقول ببسمة مرعبة وقد اشعل ما حدث شياطينه:
” تخلصوا منهم جميعًا، اريد أن تفترش أرض مشكى بجثثهم، واحضروا لي ذلك القذر الذي يقودهم، فأنا من سيتولى أمره، لا اريد منزلًا في مشكى إلا وبه قتيل أو إثنين”
_______________________
شهقة عالية رنّ صداها في المكان بأكمله بعدما جذب سالار جسد تبارك بعنف من أسفل البحيرة، فاسفل الحافة تقبع بحيرة وهي التي خففت من سقوطهم ..
تحرك سالار خارج البحيرة وهو كالعادة يسحب تبارك خلفه من حقيبتها، وهي تحرك يديها وقدميها بقوة داخل المياه وكأنها تغرق تصرخ بصعوبة بسبب المياه التي تصطدم في وجهها، وسالار لا يهتم وهو يجذبها خلفه دون حتى أن ينظر ويرى ما يحدث لها :
” براحة، براحة كده هتخلص عليا قبل ما نوصل للشط”
وبعد دقائق من السباحة لكليهما، أو السباحة لسالار وتحريك الأيدي _ كالهرة الغارقة _ لتبارك، وصل الاثنان صوب الشاطئ ليستقبلهما صامد وصمود بالاغطية تاني يحتفظون بها في مكانٍ ما هنا .
خرج سالار من المياه بثياب ملتصقة بجسده العضلي يحمل غطاء من صمود ثم وضعه على كتفه، وحمل الآخر والقاه دون أن يستدير على تبارك حتى لا يرى ثيابها وقد التصقت بجسدها بفعل المياه.
أما عن تبارك فهي للتو لمست اليابسة لتسجد لله شاكرة فهي للتو انتهت من الطيران والسباحة، والآن تود لو تسير على قدميها وتلعب دورها كإنسان..
تنهدت براحة وهي منحنية ارضًا، ثم رفعت رأسها ببطء تقول بأنفاس لاهثة رافعة إبهامها :
” أنا زي الفـل، الحمدلله عدت على خيـ ”
وقبل أن تكمل كلمتها سقط غطاء على وجهها بقوة لتغمض عيونها بغضب تهمس بحنق وشعور عارم بالسخط يملئها :
” كل ده ومعاملة ملوك، امال لو جواري هتجلدوني مع كل شهيق وزفير ”
سحبت الغطاء بعيدًا عن وجهها تسمع صوت سالار يصدح وهو يعطيها ظهره هو وصامد وصمود :
” هيا ضعي الغطاء على جسدك وتحركي معنا، ومن هذه اللحظة حري بكِ التحدث بالفصحى، فنحن لا نعتمد العامية لهجة داخل حدود مملكتنا ”
نظرت تبارك للغطاء ثواني، ثم رفعت نظرها له تقول بصوت هادئ مستنكر ساخر بعض الشيء :
” لماذا يا بُني ؟؟ العامية جميلة و خفيفة الدم ”
استدار سالار لها يراها قد وضعت الغطاء حولها وهي ترتجف، ثم تنهد بصوت مرتفع يشرح لها الأمر برمته :
” العربية هي اللغة الأولى في البلاد بالفصحى ولا يُسمح باللهجات هناك، فنحن ندرك جيدًا أن وحدة الأمة من وحدة اللغة في المقام الأول، قد تختلف بعض الممالك في اللهجات، لكن الملك يمنع ذلك في مملكتنا، لذلك حاولي التحدث بالفصحى مع الجميع ”
هزت تبارك رأسها متفهمة، تحدث نفسها باستنكار أن ما بكِ تبارك ؟؟ للتو طرتِ كالبطريق الذي نسي أنه طائر لا يستطيع الطيران، وسبحتي ككلب صغير لم يتعلم بعد كيفية السباحة، وعشتي يوم كامل في الغابة كالحيوانات البرية، وتسيرين خلف ثلاث اشخاص غريبي الأطوار من بينهم واحد متجبر وسيم اصهب، واثنان كالزجاجة والكوب .
الآن تعترضين على استخدام الفصحى ؟!
” وماله وماله، اللي تشوفه يا قائد ”
ابتسم سالار باستحسان لأنها لم تجادله :
” إذن عليكِ اعتيادها منذ الآن”
” حسنًا يا سيدي لا مشكلة لدي، فأنا كنت من أشد محبي اسبونج بوب ”
” من ؟؟”
ابتسمت تقول بفخر :
” معلمي للفصحى، تعلمت الفصحى منه ومن بسيط ”
هز سالار رأسه دون اهتمام :
” حسنًا لا بأس، والآن كفانا راحة ولنتحرك ”
وبالفعل وضع حديثه حيز التنفيذ إذ تحرك من فوره بعدما انتهى من كلماته، يسير وأمامه صامد وصمود وتبارك تسير خلفهم تقول بتمتمة بينها وبين نفسها :
” تلاقي الشنطة بتاعتي باظت من المايه”
فجأة توقف سالار فجأة في سيره واستدار صوب تبارك وجذبها من الغطاء كي تسبقه في المشي بعدما تذكر ما تفعله هي وحركاتها المفاجئة لهم :
” اسبقيني ”
نظرت تبارك لمسكته بحنق :
“حاول تعاملني بأسلوب احسن من كده، مش معاملة ملكات دي ”
رفع سالار حاجبها يدفعها أمامه بظهر سيفه وكأنه يقود اسيرًا وليس يحرس ملكته ليعيدها سالمة صوب المملكة ..
سار الجميع بين الجبال وقد كانت وجهتهم هي البركان الذي كان يخفي خلفه بوابة المملكة لهم، ابتسم يشعر بنسائم الوطن تقترب، يشعر بالراحة لقرب عودته إلى بلاده …
مر شهر تقريبا او أقل منذ خطى خارج سفيد، وها هو على اعتاب العودة لجيشه وجنوده ..
” سفيد ..ها نحن ذا ”
_____________________
كان التصميم يملئ عيونها وهي تبحث عنه بين ساحات التمرين وفي جناحه وفي كل مكان سبق وقابلته فيه صدفة، أو عندما كان يراقبها، فقط لتستعيد منه سيفها الغالي والعزيز، فهي لن تتركه له، ولن تظل عزلاء وهو آخر سلاح تملكه بعد الهرب …
أين هو عندما تحتاج له ؟! كل ثانية كان يقفز أمام وجهه، والآن اختفى وتبخر.
تنفست زمرد بصوت مرتفع وهي تدور بنظراتها حولها، وحينما خابت آمالها رجعت صوب القصر حيث الجميع يتناول طعامه في الاستراحة وهي استغلتها لتستعيد سيفها .
وقبل أن تطأ القصر سمعت صوتًا يردد خلفها كلمات خافتة، صوت لشخص وكأنه يتأوه، توقفت تحاول أن تستمتع بشكل أفضل، وقد بدأت اصوات التأوه تعلو أكثر وأكثر.
دارت زمرد بعيونها حولها تحاول معرفة مكان تلك الأصوات، لكن اصوات التوجع ازدادت وما هي إلا لحظات حينما سمعت صوتًا يقول بنبرة مرهقة :
” ليساعدني أحدكم ..لعنة الله عليهم أجمعين، هل هناك أحد في الجوار ؟؟”
تحركت زمرد بريبة صوب الصوت تبتلع ريقها وهي تردد داخل نفسها بشك :
” بالله أين الأسلحة حينما يحتاج لها المرء”
سارت ودارت حول أحد المبنى والذي تجهل وظيفته لتتفاجئ بجسد ملقى ارضًا وهناك بكرة دماء يسبح بها .
اتسعت عيونها بصدمة وهي تتعرف على صاحب ذلك الجسد، تحركت بسرعة صوبه تهمس برعب كبير :
” أنت… أنت هو … ألست صانع الأسلحة ؟؟”
رفع تميم عيونه بسرعة صوب ذلك الصوت يقول بلهفة :
” نعم نعم أنا هو، ساعديني بسرعة قبل أن ينتبه أحدهم لوجودي هنا ”
نظرت له زمرد بعدم فهم وريبة، عادت الخطوات التي سبق وتقدمتها منه وقد على الشك ملامحها :
” أحدهم ؟؟ من تقصد وما الذي يحدث هنا ؟؟”
نظر لها تميم يشعر بالمكان يدور حوله، نزف الكثير من الدماء، عض شفتيه بوجع يحاول التماسك مشيرًا لقدمه حيث كان هناك خنجرًا به :
” انزعيه، انزعي ذلك الخنجر من قدمي ”
كان يتحدث وهو يشير لها أن تخلصه من ذاك الوجع، نصل حاد مغروز داخل قدمك يقطع اجزاء من جسدك دون أن يسمح لك بالتنفس بسبب الوجع، أمر كالجحيم ..
” هييه أنت ما الذي أتى بك هنا، ومن ذا الذي فعل بك هذا ؟؟ أنا أشعر أنك تخفي الكثير ”
ابتسم تميم بسمة باردة ثم أجابها دون إهتمام لأي شيء :
” اقسم إن لم تنزعي ذلك الخنجر وتهرعي صوب مكتبة العريف لتحضري دانيار دون أن يشعر بكِ أحدهم وخاصة ذلك العجوز النحس، لاتخذنكن فأرًا لجميع قنابلي القادمة”
نظرت له زمرد بحاجب مرفوع وقد شعرت بحنق من كلماته التي لم تنل إعجابها، ورغم ذلك ابتسمت له تقول بهدوء وطاعة مصطنعة وهي تتمسك بالخنجر :
” أوامرك سيدي القائد .”
وبختامها لتلك الكلمات انتزعت زمرد الخنجر بقوة جعلت صرخة تميم تصدح في المكان قبل أن يكتمها عاضًا على شفتيه، وهي تراقبه ببسمة صغيرة، ثم نهضت تلقي الخنجر جواره تقول ساخرة :
” تستطيع التحمل حتى اعود لك بذلك دانيار أم احملك أعلى اكتافي واركض بك حيث الطبيب !!”
رمقها تميم بنظرات حمراء مخيفة هامسًا من تحت أنفاسه وقد كان العرق يغطي وجهه بأكمله :
” سأقتلك بيدي هاتين أيتها الـ ”
” لا لا سيدي القائد أنت الآن تتجاوز حدودك معي وهذا لن يكون جيدًا لأجل جرحك الذي يكاد يبرد ”
ضرب تميم الأرض بقوة صارخًا بصوت جهوري حتى أن عروقه نفرت لتصيب زمرد بالرعب :
” اذهبي واحضري دانيار يا امرأة وإلا اريتكِ مني ما لا يسرك ”
انتفضت زمرد للخلف، ثم هزت رأسها ببطء وسرعان ما استدارت تركض مهرولة صوب القصر وتحديدًا مكتبة العريف، يا الله ذلك الرجل تحول بسرعة لشخص مثير للرعب بحق ..
بحثت بعيونها عن تلك المكتبة التي تحدث معها، إذ طوال فترة إقامتها في القصر والتي تصل تقريبا لثلاث اسابيع لم تقابل يومًا المكتبة أو تقترب من الجزء الخاص بها في القصر ، والذي كان منعزلًا.
توقفت أمام باب المكتبة كما ارشدتها واحدة من الفتيات، تنفست بصوت مرتفع، ثم دفعت الباب الخاص بها تقول بصوت مرتفع تسبب للعريف بزبحة صدرية :
” أين ذلك المدعو دانيار ؟؟”
نظر لها مرجان والذي كان يحمل عدة كتب :
” القائد دانيار تقصدين ؟؟ يا فتاة هذا قائد الرماة في الجيش عليكِ بإظهار بعض الاحترام و…”
قاطعته زمرد بغضب دون اهتمام :
” للجحيم وما حاجتي لمعرفة تاريخه، أين ذلك المدعو دانيار ؟؟”
فجأة انتفض جسدها تستمع لنبرة هادئة ساخرة تأتي من أحد المقاعد الجانبية والتي كان يجلس عليها دانيار يحرك سيفها بني أنامله :
” يبدو أنه ليس سيفك فقط هو الحاد، فلسانك ينافسه حدة يا امرأة…”
استدارت زمرد صوب ذلك الصوت لتتسع عيونها بعدم تصديق، ترى الجندي المزعج يجلس وهو يحمل سيفها.
الجندي ؟؟ هو ليس بجندي أو رامي ؟؟ هي طوال هذه الفترة كانت تتحدى وتتواقح على قائد الرماة بجيش الملك ؟؟
” أنت؟؟ أنت هو دانيار ؟؟”
رفع دانيار حاجبه يقف عن مقعده متحركًا صوبها :
” القائد دانيار بالنسبة لكِ آنستي…”
ابتلعت ريقها وهي تراه يشرف عليها بطوله الفارع، لكنها فقط نظرت له وقالت بنبرة غير واعية وبصوت خافت :
” أنه ذلك الـ…صانع الأسلحة، هو ملقى هناك على وشك الموت ”
اتسعت عيون دانيار بقوة يهتف بعدم فهم :
” من تقصدين ؟! تميم ؟!”
” لا ادري، هو نفسه صانع الأسلحة الذي يكاد يسقط جدران القصر فوق رؤوس قاطنيه، هو يكاد يموت بجوار أحد المباني وارسلني لاحضارك كي تودعه ؟؟”
أطلق دانيار صرخة جنونية هزت أرجاء المكتبة وتسببت في جنون العريف بالمقابل أكثر وأكثر:
” مــــــاذا ؟؟”
_________________________
قبل ذلك بساعات كان تميم يعتلي فرسه كعادته في الصباح، ومن ثم حينما ينتهي يعود لمعمله الحبيب _الذي ما يزال تحت الانشاء _ ويقوم بعمل تجاربه على الأسلحة الجديدة .
لكن وأثناء جولته حول القلعة وفي الأماكن المحددة لهم بعيدًا عن مناطق عمل النساء، انتبه لحركات غريبة بين الأشجار، خيالات اركض بين الأشجار بشكل مريب، بالطبع هؤلاء ليسوا بمزارعين …
هبط تميم أسفل أحد الأشجار وترك فرسه كي لا ينتبه عليه أحدهم، ثم تحرك بخطى هادئة صوب ذلك الخيال الذي يركض، بدأ يركض هو الآخر خلفه حتى وصل صوب إحدى بوابات القلعة ليرى ذلك الجسد المتشح بالاسود يراقب البوابة ..
رفع حاجبه وقد تأكد أنه أحد المنبوذين الذين هاجموا القصر البارحة، ربما هرب وسط القتال واختبأ ليتحين فرصة الهرب .
اعتدل تميم في وقفته واقترب أكثر منه وقبل أن يتحدث بكلمة كي يجذب انتباهه ويهدده بسيفه شعر بسكين يشق خصره وآخر يستقر في ساقه ..
وفورًا أطلق تميم صرخة مكتومة يستدير ليرى ثلاثة آخرين من المتمردين، تمالك نفسه وتحمل ليقف دون أن يظهر أي شيء ورفع سيفه لتبدأ معركة حامية بينهم جميعًا استطاع تميم أن يسقط منهم اثنين ويهرب اثنين تاركين إياه يعاني مع اصابتيه، وهو لم ينس أن يرد لهم الضربة بعشرة .
نظر للجثث الملقية ارضًا يفكر أنه سيذهب ويرسل أحدهم لأخذهم، تحرك ببطء خلف أحد المباني كي يجلس هناك ونزع الخنجر من خصره كاتمًا تأوه، ثم أخذ يفكر في طريقة للعودة دون أن ينتبه له أحدهم ….
وهكذا وجد تلك الخادمة الوقحة والتي يقسم أن يريها الويل بمجرد أن يقف على قدميه، تنفس بصعوبة وهو يستند على المبنى جواره يحاول الرؤية من بين جفونه التي تكاد تنغلق بالكامل، لكن ثواني هي حتى سمع صوت أنثوي يطلق صرخة مرتفعة، ثم اقتربت منه صاحبة الصوت تهمس بنبرة مرتجفة:
” يالله دعوت أن ينتقم الله لي منك، لكن ليس لدرجة الموت ”
تنفس بصعوبة يحاول فتح عيونه ليرى فتاة تجلس أمامه وهي تبكي خوفًا وتتمتم بكلمات عن دعوات دعت بها عليه، تنهد تميم بصوت منخفض :
” سأقتل نساء هذا القصر كلهن ..”
ومن بعد تلك الكلمات سقطت رأسه التي كان يستند على على الجدار على كتف برلنت، لتسقط الأخيرة ارضًا بأعين متسعة وقد شعرت بدماء تميم تسيل أسفلها لتطلق صرخة مرتعبة …
____________________
توقفت فجأة وهي تشير بيدها لهم كي يتوقفوا، تحاول التقاط انفاسها بصعوبة شديدة، تستند على ركبتيها وهي تفتح فمها كي تتيح الفرصة لصدرها أن يأخذ حاجته من الهواء حولها، ووجهها متعرق بالكامل، وجسدها يأن بتعب شديد .
وبعد دقائق استغرقها جسد تبارك في الارتياح رفعت رأسها لهم تشير بيدها قائلة بأنفاس لاهثة :
” اصبروا بس أخد نفسي …”
وبالفعل أخذت نفس عميق ترفع نظرها لهم، لتجد الثلاثة ينظرون صوبها بملامح باردة دون أي ذرة ارهاق قد تعكر صلابة وجوههم، ودون ذرة عرق واحدة .
شعرت تبارك فجأة أنها هي فقط من كانت تركض وتعافر وهم … كأنهم لن يخطوا خطوة واحدة .
نظر لها سالار ثواني قبل أن يقول :
” التقطتي انفاسك ؟!”
” اصبر تبقى نفس أخير ”
جذب سالار الغطاء الذي ما تزال تضمه لها قائلًا بجدية :
” التقطيه في الوطن، فنحن قد وصلنا بالفعل ”
نظرت له تبارك دون أن تفهم تحاول سحب الغطاء من يده، وحينما نجحت رمته بنظرات حانقة غاضبة، ثم عدلت من وضعيته بهدوء تقول بحنق :
” حمدالله على السلامة يا خويا، ويا ترى هتعامل في الوطن ده زي البني ادمين، ولا كلهم نفس عينتك كده و…”
وفجأة صمتت بصدمة حينما أبصرت من فوق فوهة البركان الذي صعدوا إليه قصر يلوح لها من بعيد يبدو عليه الفخامة، بل وينطق بالثراء بذلك اللون الابيض وتلك الاحجار التي تلتمع بقوة أسفل الشمس .
ازدرت ريقها تحاول أن تستعوب ذلك المشهد أمامها :
” احنا فين ؟؟ دي الجنة ؟!”
ابتسم سالار يقول بفخر مستنشقًا رائحة الوطن بكل سعادة ولكم يود لو يهبط ويتمرغ في رمالها بحب شديد :
” هذه سفيد، موطننا ومملكتك جلالتك ….”
_______________________
ها نحن عدنا للوطن، حيث بداية كل حكاية …
وتذكر أنها حرب إما أن تنتصر أو تنتصر، لا خيار ثالث أمامك.
يتبع…
______________________
كانت ضربات قلبه تتسابق، وانفاسه تكافح للخروج من صدره، يشعر بجسده قد تصنم بمجرد سماعه لكلمات تلك الفتاة، صديقه وشقيقه هو يحتضر وارسلها لتأخذه إليه حتى يودعه ؟!
كانت صرخته التي أطلقها منذ ثواني خارجة من اعماق روحه السحيقة، صرخة جعلت المكان حوله يهتز ومرجان يرتجف رعبًا يتمسك بالكتب خوفًا أن تسقط من قوة النبرة .
بينما العريف خرج من داخل المكتبة يصرخ بجنون مساوي لجنون دانيار :
” من ذاك الذي يصرخ بين جدران مكتبتي ؟؟ هذه مكتبة يا اغبياء، مكتبة حيث لا مكان للحديث أو الصراخ، اخرجوا من هنا، اخرجوا جميعكم من هنا قبل أن أحرقها بكم ”
كان يصرخ وهو يشير للباب، لكن دانيار لم يهتم وهو يندفع صوب زمرد التي أطلقت صرخة عالية تتراجع للخلف مرتعبة من ملامحه، شاهقة بصوت مرتفع ليقول العريف بتحذير :
“كم مرة عليّ القول لا للصراخ داخل مكتبتي ؟؟”
أصبح دانيار على بعد خطوة واحدة من زمرد يهمس لها من بين أسنانه بصوت مرعب :
” إن كانت هذه إحدى الاعيبك اقسم سأ…”
” وهل تراني حمقاء كي اضيع وقتي وآتي حيث مكتبة هذا العجوز الذي يصرخ بنا ألا نصرخ، واقف أمامك لأجل لا شيء ؟؟ وكأنني اتحين الفرص لرؤيتك؟؟ أنت تحلم يا رجل ”
ختمت حديثها تنفخ بسخرية لاذعة جعلت أعين دانيار تشتد، يشير لها كي تسبقه ورعبه ازداد على تميم :
” اسبقيني وارشديني حيث هو .”
شعرت زمرد بالغصب من طريقته في الحديث معها وكأنها تعمل لديه، لذلك توقفت مكانها تأبى الحراك خطوة واحدة، تهمس من بين أسنانها بشر :
” أنا لا أعمل لديك يا سيد سأخبرك مكانه وأنت أذهب و…”
توقفت عن الحديث حينما وجدت سيفها الخائن يتوسط رقبتها، بعدما أجبرها على رفع رأسها كي لا يصيبها أذى، وصوت دانيار الذي أصبح بالقرب منها يهسهس بغضب :
” إن لم تتحركي أمامي في هذه اللحظة وارشدتيني حيث تميم، سأجعل سيفك العزيز يختتم رحلته القتالية برأسك قبل أن احرقه بنفسي ”
نظرت له زمرد بتحدي وأعين مشتعلة، لا يعجبها أن يهددها، لا يعجبها ابدًا، هي زمرد المتجبرة الداهية _ كما يسميها البعض وتفتخر هي _ يأتي ذلك الوسيم ويهددها ؟؟ حسنًا صبرًا .
” لا لا، لِم هذا الشر يا سيد، أنا فقط امزح، هيا سأخبرك أين هو صديقك عسى أن تحترقا سويًا ”
ولم تنتظر لتسمع رده إذ تحركت تسبقه بسرعة وهو خلفها يشعر بالغضب منها والرعب على تميم .
_______________
ساقطة ارضًا وهو فوقها بعدما أصبح شبه فاقد للوعي، لا يشعر بشيء حوله، يتنفس بصعوبة شديد، ثم فجأة توقفت أنفاسه لشدة الوجع الذي أصاب خصره .
ابتلعت برلنت ريقها تحاول أن تبعده وقد شعرت بارتجافة عنيفة في جسدها الذي لم يلمسه رجل سابقًا :
” أنت يا سيد .. أنهض هذا ليس صحيحًا، استغفر الله هذا ليس صحيحًا، ستموت وتحملني ذنوب لمسك لي، تحرك رجاءً وزنك ثقيل ”
لكن تميم والذي كان لا يشعر بجسده بعدما فقد دماء كثيرة وهو ما يزال متسطحًا على جسد برلنت التي رفعت رأسها تنظر له بفضول :
” هل مِت ؟؟”
وعندما لم يصل لها إجابة منه، سقطت دموعها برعب شديد وقد بدأت شهقاتها ترتفع أكثر وأكثر حتى ملئت المكان حولها وجسدها يرتجف أسفله تنادي بصوت مرتفع :
” ساعدونا …رجاءً ساعدونا، الرجل مات، يا الله لقد مات، رجاءً ليساعدني أحدكم، يا سيد ارجوك انهض عني ”
نظرت له برلنت ثواني تتأمل وجهه قبل أن تنفجر في بكاء عنيف وهي تتذكر ما كانت تفعل له :
” أنا آسفة، سيدي أنا آسفة لأنني دعوت أن أتخلص منك، لم أكن أقصد أن تموت حقًا، اقسم أنني لم اقصد ”
توقفت ثم نظرت له وقالت بصوت منخفض من بين شهقاتها :
” أنت من كنت لئيمًا معي ووقح وحقير، لكنني اسامحك، اقسم أنني اسامحك لترقد روحك في سلام فقط ”
فجأة انتفض جسد برلنت على شعورها بهواء ساخن على رقبتها وقد اخترق حجابها ليصيب بشرة رقبتها، ارتجف جسدها بقوة وهي تسمع همس خفيض وصوت رخيم يخرج من الجثة التي تعلوها :
” أنا من لن ادعك تعيشين بسلام حينما أصبح بخير، سأريكِ كيف تتفننين في سبي والدعاء عليّ ”
اتسعت أعين برلنت بقوة وهي تنظر صوب تميم الذي كان يحدق فيها من بين جفونه شبه المغلقة بشر، اطالت النظر به وقد شحب وجهها بعنف، ليبتسم تميم بسمة جانبية يقول بصوت منخفض بغرض اخافتها:
” بوو ..”
فجأة أطلقت برلنت صرخات هزت المكان حولها لشدة الرعب الذي أصابها في تلك اللحظة، ودون مقدمات انتفضت من أسفله تلقي جسده بعيدًا عنها لا تهتم بمقدار إصابته أو أي شيء آخر .
وتميم الذي اصطدم جسده بالأرض أسفله بقوة كبيرة أطلق تأوهًا قويًا، وهو يتوعد لها بوجع :
“أيتها الغبية، سأريكِ … سأطعمك قنابلي المرة القادمة ”
زحفت برلنت للخلف بسرعة كبيرة وهي ترتجف باكية :
” أرجوك ارحمني أنا مجرد عاملة هنا، ارجوك أنا أنام وحدي في غرفتي المظلمة ليلًا ”
نظر لها تميم وهو يضغط على جرحه بغضب صارخًا مستنكرًا تلك الجملة الغير مناسبة البتة للحديث :
” وما شأني بنومك وحدك ليلًا، هل احضر فراشي آتي لمشاركتك الغرفة؟؟”
” لا أنا …أنا فقط … أنت بعدما تموت ستـ ستخرج روحك لأنك مقتول، هكذا كانت تخبرني امي .. أنا فقط ارجوك يمكن لروحك الطواف في أماكن افضل من غرفتي، القصر ملئ بالغرف الجميلة، ما حاجة روحك لغرفة صغيرة ضيقة كخاصتي ؟؟”
نظر لها تميم بعدم فهم وقد علم في تلك اللحظة أنها تظنه سيرهق روحه بعد الموت ويطاردها، حقًا ؟؟
” تالله وبالله ووالله لو أنني شبح ولي انتقامٌ معكِ، سأسامحك، ليس لأن قلبي الرحيم، بل لكرهي أن اسكن جسدًا بمثل غبائي ”
نظرت له برلنت بصدمة من كلماته واستنكار شديد تلبسها، وكم شعرت بالندم لخوفها منذ ثواني أن يموت .
فتحت فمها ولم تكد تتحدث حتى سمعت صوتًا رجوليًا يصرخ بقوة :
” تميــــــم …”
________________________
كانت تقف أمام قلعة عملاقة لا تستطيع رقبتها أن تعلو أكثر لترى قمتها، شعرت بقلبها يرتجف، الأمر حقيقة، هو ليس بمجنون، حسنًا هي لم تكن أبدًا أن تتوقع نهاية هذه الرحلة بهذا الشكل، شكت وشكت أنه مجرد مخبول يتحدث بكلمات غير حقيقية ..
تتساءلون لماذا تبعته إذن ؟؟ حسنًا هو شبه خطفها وهددها وهي لم تمتلك خيارًا سوى المجئ معه بعدما فشلت مساعيها للهرب، وحينما أصبحت في منتصف الغابة خافت العودة وقررت أن تكمل تلك الرحلة المجنونة، والآن ها هي تقف أمام قلعة عملاقة تكاد تمنع أشعة الشمس .
” هذه قلعة سفيد مولاتي .”
نظرت له بدهشة تتساءل بصوت مصدوم :
” ازاي هندخلها ؟؟”
نظر لها بهدوء شديد ونبرته خرجت مريبة وكأنه يهددها :
” حدثيني بالفصحى رجاءً”
هزت رأسها بتردد، ثم نظرت مجددًا للقلعة لتكتشف وجود عدد كبير من الرجال فوقها يحملون سهام، ومدافع عديدة، يا الله هؤلاء الرجال مازالوا على عهدهم القديم ..
لحظات هي حتى انتفض جسد تبارك تتطلق صرخة مرتعبة وهي تنبطح ارضًا تضع يديها فوق رأسها حينما تفاجئت بصوت سالار الجهوري والمخيف الذي هتف بنبرة آمرة صاخبة :
” افتحــــــوا الأبـــــواب ”
نظرت له تبارك وهي مازالت منبطحة ارضًا تحمي نفسها برعب منه، وقد كاد قلبها يتوقف للتو من مفاجئته لها، مرت ثواني وسمعت صوت أحد الجنود يصيح بصوت مرتفع :
_” افتحوا الابواب للقائد ..”
رأت تبارك بأعين متسعة ابواب القلعة تُفتح وتظهر من خلقها مروج خضراء بديعة تحتوي العديدة من المباني بيضاء اللون، والكثير والكثير من الرجال الذين يحملون سيوف في كل ركن من أركان القلعة .
أشار سالار لها كي تتقدمه :
” من بعدك مولاتي .”
ماهذا الشعور الجيد الذي تشعر به في هذه اللحظة ؟؟ نعم إنه الزهو، هي مولاته والملكة، ملكة هذه القلعة ؟؟ بل هذه البلاد الشاسعة والتي منذ خطت إليها مع سالار _ بعدما تركا صامد وصمود على الحدود_ ذُهلت وشعرت بالاعجاب الشديد، مزارع كثيرة ومنازل مبهرة ومعمار خاطف للانفاس، يبدو أن الأيام القادمة تحمل لها الكثير.
وها هي بوابة القلعة تُفتح لها على مصرعيها وكأنها ترحب بها في مستقبل مجهول لا تدري جيد هو أم سييء؟!
سارت ترفع رأسها عاليًا بفخر لا تعلم له سبب، هو فقط يملئ صدرها، تسير مختالة في الممر الصخري الذي يتوسط الحدائق الخضراء وعلى جانبي الممر العديد من الجنود يستندون على سيوفهم، تأملتهم تبارك بانبهار كبير مبتسمة..
وفجأة انتفض جسدها مبتعدة عن الممر برعب بسبب صوت سالار الذي خرج جهوري بنفس الشكل السابق يأمر الجنود بحدة ودون رحمة :
” أظهروا بعض الاحترام والترحيب بملكتكم يا رجال”
وفي ثواني رفع الرجال السيوف عاليًا بشكل جعل تبارك تتراجع خلف ظهر سالار تحتمي به وهي تراهم يحركون السيوف بشكل منظم يصيحون بصوت عالٍ وفي نبرة واحدة دون شذوذ :
” أنرتي البلاد مولاتي ..”
ابتسم سالار باستحسان وهو ينظر لتبارك خلف ظهره وملامحه كانت جامدة مخيفة وحادة بشكل جعلها ترتجف، يشير لها أن تتحرك أمامه:
” من بعدك مولاتي ..”
ولم تعلم تبارك هل كانت نبرته ساخرة أم لا، لكنها على أية حال رفعت رأسها عاليًا تسير بكل كبرياء في الممر الصخري وهو خلفها يبتسم بسمة جانبية ساخرة ..
” ها قد جاءت كارثتك يا سفيد ”
_____________________
يتوسط عرشه وحوله جميع مستشاريه عدا تميم ودانيار، الجميع كان حاضرًا يشهد على تسليم ذلك الخائن من مملكة آبى والذي أحضره الملك آزار بنفسه ليمثل أمام عدالة سفيد .
رفع إيفان رأسه عاليًا ينظر لذلك الرجل الذي يرتجف أمامه نظرات غامضة ثم قال :
” إذن أنت من خنت ولاء ملكك وسمحت لهؤلاء الرجال بالدخول لمملكتي بختمه الخاص بالتجار ؟؟”
رفع الرجل رأسه وهو يرتجف بقوة، نظر صوب آزار الذي بادله النظرات بأخرى مرعبة، يحذره أن يحيد عن قول الحق وعن الاعتراف بكل ما حدث، آزار ليس بالملك الاحمق الذي يطمح لبناء عداوة شخصية مع مملكة بحجم سفيد لأجل رجل كهذا، لذلك إن كان تسليمه سيخفف غضب إيفان فللجحيم هو وعائلته اجمعين..
” أنا يا مولاي … أنا لم أعلم أنهم…”
صمت يبتلع ريقه برعب شديد :
” سامحني يا مولاي أتوسل إليك أن تعفو عني، سأعمل خادمًا لك المتبقي من عمري، اقسم أنني لن افعل ما فعلت مجددًا ..”
كان الرجل يبكي ويتوسله من بين شهقاته، ابتسم له إيفان بقسوة دون أن تهتز له شعره واحدة، هو فيما يخص مملكته لا قلب له ولا يرحم، من أخطأ يُعاقب .
” أخبرني كيف أخذت ختم الملك الخاص وادخلتهم به ؟؟ اوراق هؤلاء الرجال خُتمت بختم التجار صحيح ؟؟ كيف فعلت ذلك ؟!”
رفع الرجل عيونه باكيًا مرتجفًا يتوسل منه رحمته يعلم أنه لن ينالها، فمن نال سابقًا رحمة من آل سفيد، فكبيرهم ومؤسس سفيد كان رجل متجبر، صخرة تسير على الأرض لا يرحم من يخطأ في حقه، بل يدهسهم أسفل أقدامه دون شفقة، لقد كان ملك سفيد الاول عبارة عن قصة رعب يتم ارهاب الاطفال بها، ستأكل أم نحضر لك كبير سفيد ؟؟ ذلك الرجل ذو العين الصناعية بعدما فقد خاصته في أحد الحروب .
على الاقل إيفان كان به بعض الرحمة والعدل وهو سيستغل كل ذرة رحمة لديه ليعفو عنه :
” مولاي أنا… أنا المسؤول عن اوراق التجار وحركة التجارة بين مملكتنا ومملكتك، وامتلك الختم الخاص بمرور التجار، وأنا من ختمت لهم عليه بنفسي ليسمح جنودك لهم بالعبور”
نظر له إيفان ثواني، ثم قال بغموض :
” إذن أنت من سمحت لهم بالمرور عبر حدود مملكتي بتصريح التجارة ؟؟ ”
” نعم مولاي هذا صحيح، ارجو رحمتك مولاي ..”
ختم كلماته، ليكرر إيفان ناس جملته السابقة :
” تعني أنك من ختمت على تصاريح الخروج بختم التجار ؟؟”
نظر له الرجل ثواني بريبة، ثم نظر لآزار الذي احتدت نظراته وهو يحدق بإيفان يشعر بالغضب يملئ صدره بسببه، تنفس بصوت مرتفع يأمر الرجل أن يثبت حديث إيفان عليه .
ليهز الرجل رأسه للمرة الثانية :
” نعم مولاي أنا من ختمت لهم بختم التجار قبل دخول مملكتك مباشرة .”
اتسعت بسمة إيفان ينظر للرجال جواره، ثم نظر للرجل يقول بنبرة غامضة مرعبة :
” لكن الختم على تصاريح هؤلاء الرجال لم يكن ختم تجار يا عزيزي ”
اتسعت أعين جميع من بالقاعة وشحب وجه الرجل الذي ارتجف جسده فورًا ونظر لآزار الذي اهتز صدره لثواني، واتسعت بسمة إيفان الخبيثة وهو يقول :
” هؤلاء الرجال دخلوا مملكتي عبر مملكتك ملك آزار بتصريح زيارة وليس تصريح تجارة ”
انتفض آزار بقوة ينظر صوب إيفان قائلًا بصوت مرتفع :
” لكن أنت من قال أنه كان تصريح تجارة ملك إيفان، هل تتلاعب بي أم ماذا ؟؟”
رمش إيفان ببراءة شديدة يهز رأسه، ثم قال ببساطة شديدة :
” لقد أخطأت ملك آزار، وأنت لم تصحح لي خطأي، بل سارعت لتحضر رجلًا بريئًا يؤكده لي ”
اشتعل صدر آزار ينهض عن مقعد الذي يقع يمين عرش إيفان وهو يصرخ بجنون في وجهه وقد احتدت أعينه وعلت نبرته :
” ما الذي ترنو إليه من خلف العابك تلك ملك إيفان ؟!”
” أنا لا أرنو لشيء سوى أمان مملكتي والذي هددته مملكتك ملك آزار، ومن يتجرأ ويهدد مملكتي بقشة، سأمحيه بالسيوف ”
انتفض رجال آزار في غمضة عين يرفعون سيوفهم بقوة في وجهه إيفان وجنوده بتهديد واضح، وكأنهم كانوا يتحينون فرصة القتال، واشتعلت الأجواء داخل القاعة وقد بدت كما لو كانت الحرب ..
صرخ آزار وقد وصل غضبه للقمة :
” إن كنت تطمح لحربٍ معي إيفان فلا تبحث عن حجج واهية تبرر بها أسبابك، جميعنا نعلم أنك تبغي توسيع رقعة مملكتك، تمامًا كأجدادك الجشعين وستفعل ذلك على حساب مملكتي، ولن استبعد أن تستعين بهؤلاء المنبوذين الملاعين ليساعدوك كما ساعدوك في إسقاط مشكى سابقًا”
ختم حديثه وهو يخرج سيفه بقوة ودون مقدمات كان يضعه أمام وجهه إيفان في إعلان صريح للحرب :
” إن كنت تريدها حربًا فلك ذلك ..”
” نحن لسنا دعاة حرب ملك آزار، لكن إن دعت الحاجة فنحن أهلٌ لها، والآن إن لم ترد أن تخرج من سفيد محملًا بجثث رجالك جميعهم وتمتلئ مقابر مملكتك بجثث جنودك فأنزل سيفك ”
ولم يكن ذلك الصوت صوت إيفان أو حد رجاله، بل كان صوت من ترتعش له ابدان جميع الرجال، الرجل الذين لا يبصرونه سوى في أرض المعركة..
كان سالار يقف خلف آزار دون أن يحرك يده يأمره بكل قوة أن ينزل سيفه، وحينما أبصر ارتجاف جسد آزار _ غضبًا بالطبع _ اتسعت بسمته وهو يحرك نظراته صوب جنود مملكة آبى يصرخ في وجوههم بصوت جهوري :
” إن لم ترغبوا في رؤيتي أدق ابواب مملكتكم في الغد مع جيشي، فأنزلوا سيوفكم جميعًا”
سالار لم يكن من الحمق الذي يجعله يجهل عاقبة تهديد أحد الملوك والتي قد تؤدي لإعدامه، لكن ساعة الحروب تسقط كامل القوانين والعقوبات، وهو يتجاهل كل ذلك حين المساس ببلاده أو ملكها، وطالما أن آزار تناسى عقوبة تهديد ملك، فهو كذلك .
نظر الرجال بريبة صوب آزار في انتظار أمر منه لخفض اسلحتهم، وآزار كان فقط ينظر بأعين إيفان الذي ابتسم بسمة واسعة يرفع رأسه عاليًا بكل غرور، يزيح سيف آزار بعيدًا عنه بسهولة ..
قبض آزار على سيفه وقد شعر بالجحيم، الجحيم يبتلعه في تلك اللحظة، أن يتواقح عليه رجل بين جنوده لهو الجحيم بحد ذاته .
وحينما وجد سالار منه اعتراضًا على كلماته نزع سيفه من غمده في ثواني معدودة، ثم وضعه بتهديد واضع على رقبة آزار يهمس بفحيح :
” رقبتك مقابل كلمة، قل لهم أن يخفضوا أسلحتهم ”
نظر له آزار بسخرية، يعلم سالار جيدًا أن آزار ليس بالرجل الهين، هو لا يخاف منه وهو يعلم ذلك، لكنه لن يتوانى عن قتل كل من يعترض طريقه ويهدد ملكه ومملكته.
في تلك اللحظة التي أشهر بها الجميع سيوفهم وآخرهم سالار، انطلقت صرخة أنثوية لا تناسب بأي شكلٍ من الأشكال هذا المشهد، صرخة جذبت أنظار الجميع خاصة إيفان الذي تصلب جسده بقوة يراقب ذلك الجسد الصغير الذي يختفي خلف الرجال بأعين حريصة .
نظر آزار بهدوء صوب رجاله يأمرهم باخفاض أسلحتهم، في نفس اللحظة التي وضع بها سالار السيف داخل غمده، ليشعر فجأة بقبضة على كم ثيابه، وفجأة تذكر تبارك .
استدار ببطء مستنكرًا ما تفعل :
” حقًا ؟؟”
كان يحدق بها، ليجدها تتمسك بكم ثيابه تحتمي خلفه من الجميع، ورغم ذلك عيونها تدور في المكان بانبهار شديد، رغم رعبها وجسدها الذي يرتجف، إلا أنها لا تنكر أن كل ذلك مبهر حقًا
أطال إيفان النظر صوب سالار، يحدق في الجسد الصغير النسائي الذي يختبئ خلفه، لكنه في تلك اللحظة لم يهتم سوى لابعادها عن كل ذلك، وفورًا أشار بعيونه لجنوده نحوها بأمر صامت أن يحملوها خارج القاعة.
تحرك الجنود صوب تبارك يتحدث لها أحدهم بهدوء أن تخرج معهم، لكن تبارك وحينما رأتهم يقتربون منها ارتجفت تزيد من قوة تمسكها بسالار تقترب منه أكثر هامسة بخوف :
” لا ..لا …يا قائد، يا قائد ”
نظر لها سالار يتنفس بصوت مرتفع، ثم نظر للجنود وكاد يصرفهم كي لا يخيفونها، لكن بنظرة من إيفان اغمض عيونه، ثم همس لها بصوت منخفض وبشكل لا يظهر للجميع قربه منها :
” مولاتي اذهبي مع الجنود سيأخذونك لجناحك كي ترتاحي قليلًا حتى تنتهي تلك الجلسة ”
تمسكت به في خوف شديد، هي لا تعرف في هذا المكان سواه، وحتى إن كانت تتشاجر معه وتختلف منه كثيرًا وتكره صراخه، لكنها تثق به :
” لا أنا خايفة، خليني هنا وأنا والله مش هصرخ تاني ..”
” ماذا ؟؟ مولاتي رجاءً اذهبي مع الجنود، وفضلًا توقفي عن التحدث بهذه اللهجة، هذا غير مسموح هنا ”
نظرت له بخوف ثم رأت الجنود ينتظرونها، لذلك افلتت كم ثيابه ببطء وتحركت مع الجنود بهدوء وبريبة .
لكن وقبل أن تخرج من القاعة بشكل كامل استدارت للمرة الأخيرة ونظرت لسالار الذي كان يقف بكل جسارة بين الرجال ببنيته القوية، ومن ثم تحركت بعيونها ونظرت صوب الملك لأول مرة منذ جاءت لتُصدم به يحدق فيه وجهها بأعين ضيقة، شهقت تتحرك بسرعة خارج المكان مع الجنود، بينما إيفان عاد بنظراته لما يحدث وابتسم بسمة جانبية وقال :
” والآن ملك آزار ما رأيك أن نتحدث بكل هدوء ودون صراخ ؟؟”
_________________________
نظرت برلنت بلهفة صوب الرجل الذي ركض صوبهم بسرعة كبيرة، وفجأة أشرق وجه تميم يهمس بتعب شديد قبل أن يسقط في غيمة سوداء تبتلعه :
” دانيار …”
ركض له دانيار بلهفة وخوف شديد يتلقف جسده بين أحضانه بحنان شديد يضمه له يهمس له بهدوء :
” اخي ما بك ؟؟ من ذلك الذي ستفقده والدته وفعل بك هذا ؟!”
نظر تميم لوجهه ببسمة صغيرة يحاول الحديث، لكن الوجع قاتله في تلك اللحظة، اقترب من كتف دانيار يستند عليه حتى يصل لكتفه يهمس له بصوت منخفض يأبى أن يظهر ألمه أمام أحدٍ، لا يظهر ضعفه ولو كان تنازعه روحه للخروج من جسده :
” خذني بعيدًا عن هنا دانيار، أشعر بالوهن الشديد يا أخي، فقط خذني لمهيار ولا تجعل أحدهم يراني بهذه الحالة ”
نظر له دانيار برعب وهو يرى أجفانه تكاد تنغلق يهتف باسمه في رعب شديد ليسمع جواره صوت مرتعب يتساءل بارتجاف :
” هل رحل ؟؟”
استدار دانيار كالرصاصة صوب صاحبة الصوت ودون أن تستوعب برلنت كيف ومتى ولماذا وجدت سيف يوجه صوب رقبتها وصوته خرج مرسلًا موجات هلع لقلبها :
” من أنتِ وماذا تفعلين هنا وما علاقتك بإصابته ؟؟”
نظرت برلنت للسيف الذي كان يوجهه على رقبتها وشعرت برغبة عارمة في البكاء، تنفست تحاول أن تجد كلمات في عقلها للدفاع عن نفسها، لكن فجأة وجدت جسد يقف أمامها يستلم هو حد السيف بدلًا منها :
” أنت أيها الرجل، مالك ترفع سيفك في وجه كل من تحدث بكلمة جوار أذنك ؟؟ تحلى ببعض المروءة ولا ترفع سيفك في وجه أمرأة ”
نهض دانيار يقف مقابلًا لها يشرف عليها من الاعلى، ثم مال بعض الشيء يهمس لها بفحيح :
” أنا في حياتي لم أرفع سيفي بوجه امرأة، ولن أفعل.”
ختم حديثه يرفع جسد تميم أعلى كتفه بقوة ثم رمى برلنت بنظرات مشتعلة :
” إن علمت أن لكِ علاقة بما حدث له من بعيد حتى سأحضرك واريكِ الويل ولو عدتي لرحم والدتك ”
تحرك بسرعة يركض في القلعة بسرعة كبيرة وأعلى كتفه يقبع جسد تميم، يستغل عدم وجود الكثير من الأشخاص في هذه البقعة من القصر ويتخذ طرقًا مختصرة للوصول إلى مشفى القصر :
” تحمل يا أخي…”
نظرت زمرد لاثره بعدم فهم تهتف بجدة وهي تلوح بيدها في الهواء بحنق :
” يقول أنه في حياته لم يرفع سيفًا على امرأة، الكاذب رفعه عليّ اليوم مرتـ …. أوه”
كانت برلنت تراقب بصدمة أثر دانيار:
” نعم، أوه ”
صمتت زمرد فجأة وقد على الذهول وجهها تفهم ما يرمي إليه من خلف حديثه وقد اتسعت عيونها وابتسمت بعدم تصديق وقد جمدت من الصدمة في أرضها، تهمس من بين أسنانها:
” ذلك الـ …”
__________________
اقتحم عيادة القصر بقوة وهو يصرخ بصوت مرتفع :
” مهيار …مهيار ساعدني ”
انتفض شاب في نهاية العقد الثالث من عمره يتميز بالملامح الهادئة والمشرقة، ينظر صوب باب غرفته، لتتسع عيونه بصدمة يركض صوب دانيار يشير لها على الفراش الموضوع في أحد أركان الغرفة :
” يا الله ما به تميم ؟؟”
” لا اعلم من ذلك القذر الذي تجرأ ولمسه، لكن صبرًا اقسم أنني سأعلم منه واريه كيف يكون جحيم الأرض ”
بدأ مهيار يساعد تميم في التسطح براحة، ثم ركض يبحث عن أدواته وهو يتنفس بصوت مرتفع :
” يا ويلي دانيار الجروح ملتهبة ”
” ماذا تعني ؟؟ عالجه وإلا جعلتك تتسطح جواره ”
نظر له مهيار بحدة ولم يهتم بالرد عليه وبدأ بالعمل وتقطيع ثيابه، ومحاولة استدراك ما يحدث، ودانيار يقف فوق رأسه يراقبه بحدة مما جعل مهيار يرفع رأسه له صارخًا :
” بالله عليك تحرك يمينًا أو يسارًا أن تعيق حركتي بهذا الشكل، يا الله أي كوارث هي تلك التي تسقط على رأسي”
ابتسم دانيار بشكل مستفز يشير صوب تميم :
” عالج تميم الأن في هذه اللحظة أريده أن ينهض ويخرج معي من غرفتك العفنة مهيار ”
هز مهيار رأسه ثم رفع يده عاليًا يحركها في الهواء وهو يحمل مشرطه يردد بشكل جدي بالكامل مغمضًا عينه، يقول بنبرة عالية :
” لتُشفى جروح تميم في الحال ..”
أنهى حديثه يفتح عيونه ينظر صوب تميم الذي ما يزال مسطحًا بجروحه، رفع مهيار المشرط صوب عيونه وهو يحركه بسأم :
” ياااه ما بها عصاي السحرية لا تعمل؟!”
رفع رأسه صوب دانيار ينظر له ببسمة مستفزة وصدمة مصطنعة :
” يبدو أنها تعطلت ”
ابتسم دانيار لعمله أنه يسخر منه، سرعان ما جذبه من ثيابه نحوه بشر يهسهس من بين أسنانه وهو يكاد يبتلع مهيار بالمعنى الحرفي :
” هل تحاول السخرية مني ؟؟”
” نعم هذا بالفعل ما احاول فعله، فأنت لا تتوقع مني أن أفعل ما تطلبه مني ”
” بلى اتوقع، كيف إذن درست الطب أيها الطبيب الفاشل ؟؟”
اشتعلت أعين مهيار يهمس في المقابل بشر :
” أنا طبيب ولست ساحر ..”
” إذن عالج صديقي الآن”
” سأفعل إن تركت ثيابي ”
تدخل صوت بينهما وهو يردد بوهن شديد أثناء تسطحه على على الفراش :
” عذرًا لكما، إن انتهيتما من ذلك الشجار الذي تجريانه في هذه اللحظة، رجاءً أنقذوني قبل أن أسلم روحي لخالقها”
نظر الاثنان في نفس الوقت صوب الفراش قبل أن يترك دانيار ثياب مهيار، يرفع سيف زمرد عليه وقد فاده هذا السيف اليوم كثيرًا :
” هيا أيها الفاشل عالج ذلك الرجل والآن..”
رفع مهيار مشرط في وجه دانيار يقول بصوت متوعد :
” في انتظار ذلك اليوم الذي ستتسطح به أمامي وتكون تحت رحمتي ”
ابتسم له دانيار يقول بعناد :
” وقتها سأكون جثة، فأنا طالما هناك أنفاس بصدري لن أسمح لك بلمسي ”
امسك تميم مفرش السرير يضغط عليه بقوة صارخًا يتعب شديد ووجع كبير غير مصدقًا أنه الآن ينازع الموت في حين أنهما يجريان جدالًا :
” ياالله اقبض روحي وخلصني من كل ذلك .”
صرخ دانيار بجنون في مهيار :
” تحرك وخلص الرجل من وجعه مهيار قبل أن انتهي منك …”
___________
كانت ما تزال الساحة مشتعلة وقد بدأ آزار يزداد جنونًا مما حدث معه، نظر في أرجاء القاعة يأمر حنوده بالتحفز، ثم قال بجدية :
” إذن ملك إيفان إن كنت تعتقد الآن أنني سأجثو أسفل أقدامك أتوسل رحمتك، فأنت لا تعرفني جيدًا، إن أردت حربًا فالغد موعدنا ..”
قال إيفان بكل ذرة هدوء وتعقل يمتلكها :
” لا لا ملك آزار، أي حرب تلك استغفر الله، أنا فقط أخبرك أن التهديد والأسلحة لا تنفع في حوار معي ومع جنود، لذلك أن تأتي ومعك نصف جيشك ليس بالشيء الجيد، فإما أن تأتيني غدًا وحدك مع مستشاري مملكتك كرجل لا يهاب شيئًا، أو تأتي محتميًا خلف جيشك، مملكتي واسعة تستوعب كامل الجيش ”
هكذا كانت الأمور طوال الوقت، لا يُذكر أن هناك مواجهة انتهت بين آزار وإيفان على خير، ولو أن إيفان ترك تعقله القليل في جميع لقائاته مع آزار، لكانت الآن سفيد في حروب لا تنتهي مع آبى .
تنهد آزار بصوت مرتفع يطيل النظر في أعين إيفان بشكل حاد، قبل أن يهز رأسه ببساطة :
” لك هذا ”
وبهذه الكلمات ختم آزار حديثه وتحرك خارج القاعة دون كلمة واحدة وخلفه جميع جنوده الذين لحقوا به بسرعة وطاعة، والرجل الذي كان ما يزال جاثيًا ارضًا يرتجي منه رحمة، استغل كل ما حدث وركض بسرعة كبيرة خلف آزار.
كل ذلك وأعين إيفان مشتعلة، ينظر أمامه دون ردة فعل، ودون أي مقدمات ارتسمت بسمة جانبية على فمه، ينظر صوب سالار الذي كانت نفس البسمة تعلو وجهه لكن بشكل أكثر شراسة، بادل سالار الملك النظرات وكأنه يخبره أنه يدري جيدًا ما يريد وهو سيتولى الأمر.
هبط إيفان عن مقعده يتحرك صوب سالار يفتح له ذراعيه بترحاب شديد وامتنان كبير :
” مرحبًا بعودتك للوطن يا عزيزي، حامي حمى سفيد عاد واخيرًا”
ابتسم له سالار يبادله العناق هامسًا :
” يبدو أنك اشتقت لخسارة في ساحة النزال مولاي ”
أطلق إيفان ضحكات عالية يبتعد عن سالار، ذلك الرجل لا ينسى ابدًا، كان هو الوحيد الذي هزمه داخل الساحة، لذلك استحق وعن جدارة لقب ” وحش سفيد ” الجميع يراه وحشًا لا شعور لديه، وآه لو يعلمون أن ذلك الوحش هو أكثرهم لينًا ..
” إذن أتمنى أن تكون رحلتك في الجانب الآخر مثمرة يا صديقي .”
” آه يا مولاي لو أخبرك حجم الثمار التي جنيتها في تلك الرحلة لبكيت عليّ شفقة ”
رمقه إيفان بعدم فهم، لكن سالار ابتسم بتشفي واضح يربت على كتفه يقول كلمات مقتضبة قبل أن يتحرك من أمامه تاركًا إياه لا يفهم شيئًا :
” الله خير حافظ مولاي، لك الله جلالتك ”
” هييه ماذا تعني ؟؟”
أبتسم سالار بسمة جانبية يتحرك خارج المكان يقول ملوحًا بيديه في الهواء وهو يستدير ينظر له بغموض :
” سأدعك تكتشف بنفسك، والآن أسمح لي مولاي أن اتفقد جيشي العزيز، ثم سأرتاح قليلًا قبل أن أعود العمل مجددًا”
توقف فجأة يقول :
” وصحيح اتمنى مولاي إن احتجت لمن يتولى مهمة كالمهمة الأخيرة لي، أن تنسى امتلاكك لجندي يُدعى سالار، ربما تلجأ لدانيار أو تميم، وداعًا ”
وعلى ذكر دانيار وتميم، أين هما هذان الشابان، تاركين الملك يواجه آزار ويحضر اجتماعًا كهذا وحده .
نظر سالار حوله، ثم تحرك كي يبحث عنهما في معمل تميم ..
بينما إيفان كان يقف في القاعة وهو يلاحق سالار بنظراته في محاولة يائسة منه لمعرفة ما حدث ..
” يالله هل هي سيئة لهذه الدرجة ؟؟”
تحرك بسرعة خارج القاعة ومعطفه يرفرف خلفه بقوة، يتحرك داخل الممرات بسرعة وفي عينه نظرات تصميم لرؤيتها والتحدث معها حتى يعلم ما يقصد سالار، لكن أثناء تحركه من قاعة الاجتماعات الداخلية، توقف ثواني ودون أن يشعر أمام منطقة الحظائر ينظر لها بفضول وكأنه يبحث عنها بعيونه ليرى ما تفعل، لكن فجأة تنهد بعدم اهتمام يكمل طريقه صوب الحجرات الملكية الخاصة به وبرجاله المقربين ..
ابتسم يقترب وهو يمني نفسه بحديث طويل يفهم من خلال الملكة و..
فجأة توقف مرتعبًا حينما سمع صوت تحطم قوي مخيف وكأن هناك جبلًا من الزجاج أنهار لتوه، تحرك بأقدام حريصة سرعان ما هرول بفزع حينما سمع صوت يهتف بقوة :
” الصوت قادم من حجرة الملكة ……”
__________________
يتحرك بقوة بين طرقات القصر، وبخطوات تنهب الأرض أسفله كقرع الخيل في السباق، لم يصدق حينما أخبره أحد جنوده أنه لمح القائد دانيار يركض حاملًا القائد تميم والذي كانت الدماء تسيل منه بغزارة .
ما الذي يحدث هنا ؟؟ ترك المملكة لأسابيع ليعود ويجد كل تلك الفوضى ؟؟
اشتعلت أعين سالار بقوة وهو يتنفس بصوت مرتفع يتوعد للجميع بنيل عقابهم، الواحد تلو الآخر سينال قصاصه منهم، صبرًا .
وصل لمشفى القلعة يتحرك صوب العيادة، ثم اقتحمها دون مقدمات يفتح فمه للتعبير عن قلقه تجاه ما حدث لتميم والذي لا يعلم إن كان في هذه اللحظة ينازع الموت أم….يحاول الابعاد بين دانيار ومهيار ؟؟؟
اتسعت أعين سالار بعدم فهم وهو يرى في منتصف الغرفة قتال شرس بين دانيار قائد الرماة ومهيار الطبيب الخاص بالجنود و…شقيق دانيار الأصغر .
والمعني بالمجئ هنا لأجله يقف بينهما يحاول أن يبعدهم عن بعضهم البعض بوهن شديد وهو ينزف ..
” بالله عليكم ما الذي يحدث هنا ؟!”
تدخل سالار بينهما يحاول ابعادهما عن بعضها البعض، لكن ما نال طاعة منهما، بل كل ما جناه لكمة لا يدري مِن قبضة مَن ؟! لكمة جعلت أعين سالار تشتعل بغضب اسود وهو يرفع قبضته ويهبط بها على وجه دانيار، ثم أخرى على وجه مهيار واخيرًا تحدث بصوت قوي آمر :
” توقفوا عن تلك الأفعال الأن وحالًا ”
وكأنه ألقى بينهما قنبلة، إذ ابتعد الاثنان بسرعة منتفضين للخلف على صوت يعلمونه تمام العلم، اتسعت أعين الاثنين بصدمة وحلقت نظراتهم بصدمة على وجه سالار الذي تشدق بنبرة مرعبة :
” ما الذي يحدث هنا ؟!”
وقف دانيار باستقامة يضع يده على صدره باحترام شديد :
” قائد …لقد عدت، أنرت سفيد سيدي ”
ابتسم سالار بسخرية وهو ينظر لمهيار الذي ابتلع ريقه يقول بتوتر :
” مرحبًا بعودتك يا قائد ”
تجاهلهما سالار وهو يتحرك صوب تميم ليبتعد الاثنان من طريقه بسرعة مفسحين له مجال المرور، وهو توقف أمام تميم الذي حاول التغلب على آلامه يهتف من بين أسنانه:
” مرحبًا بك يا قائد ”
” استرح ..”
وفورًا تراخى جسد تميم يلقي بنفسه على الفراش، ثم استدار سالار ينظر لهما ولم يهمس سوى بكلمات معدودة :
” مهيار عالجه والآن.. وأنت دانيار للخارج ”
اعترض دانيار بقوة يشير صوب تميم :
” لكن يا قائد هو ..”
” قلت للخارج دانيار ”
زفر دانيار يخرج من الغرفة بحنق شديد ومهيار يبتسم بتشفي قبل أن يركض تحت نظرات سالار ليعالج تميم ويلملم له جروحه .
وسالار فقط يضم ذراعيه لصدره يراقب ما يحدث بانتباه شديد، حتى استقام مهيار بعد نصف ساعة تقريبًا يقول بهدوء :
” حسنًا أعطيته بعض السوائل المسكنة والمخدرة كي لا يشعر بوجع بسبب التهابات جروحه، سيظل تحت متابعتي لأيام ومن بعدها سيصبح بخير حال ”
هز سالار رأسه يتابع خروج مهيار، ثم اقترب من تميم يربت على خصلاته بحنان شديد :
” ارتح قليلًا يا صديقي، لك إذني بالاستراحة حتى تشفى”
خرج من الغرفة يغلق الباب بهدوء متنفسًا براحة بعدما اطمئن على حالة تميم، لكن ما إن استدار وجد دانيار يحشر مهيار في الزاوية وهو يضغط على رقبته بقوة، بينما مهيار يضع مشرطه على خصر دانيار .
رفع سالار حاجبه ليجدهم انتفضوا برعب وكلٌ منهم يخفي ما يحمل مبتسمًا بسمة عادية، حتى أن دانيار مال يقبل خصلات شعر شقيقه ثم ربت عليها مبتسمًا بسمة غبية أمام أعين سالار :
” شقيقي الحبيب يا من تبقى لي في هذه الحياة ”
ابتسم له مهيار يتقبل كلماته ببسمة مصطنعة :
” ادامك الله لي يا دانيار، أنت في مكانة والدي رحمة الله عليه بعد موته ”
ابتسم الاثنان يتعانقان أمام سالار الذي ابتسم بسمة ساخرة، ثم قال بصوت هادئ لكن مرعب :
” انتهيتما من ذلك المشهد العائلي ؟؟”
نظر له الاثنان بانتباه ليقول سالار ببساطة قبل التحرك خارج المشفى :
” خمس ساعات من التدريب الإضافية لكلٍ منكما ”
شهق مهيار واتسعت عيونه بصدمة، تدريب ؟؟ أي تدريب ؟؟ هو طبيب، كاد يفتح فمه للحديث، لكن سالار والذي كان يسير بعيدًا عنهما قال :
” كلمة واحدة واجلعهم عشر ساعات ..”
ختم حديثه يخرج بالكامل من المشفى، ثم سار كي يعود لمخدعه حتى يرتاح ويستحم بعد أيام من الإرهاق الشديد، وفي طريقه كان يلمح أجساد الجنود تشتد كالوتد حين مروره بهم، نظر لهم بهدوء يحييهم برأسه..
تحرك صوب حجرته والذي يقع في ممر كبار القصر، لكن وقبل أن يخطو للممر الفرعي الذي ينحدر من الممر الرئيسي والذي يحتوي جناحه الخاص، سمع صوتًا يصرخ ويقول :
” أنها الملكة ..”
توقفت اقدام سالار فجأة وهو ينظر خلفه بملامح باردة بعض الشيء يغير طريقه هامسًا :
” يالله نجنا من تلك الكارثة …”
__________________
قبل ذلك بنصف ساعة تقريبًا .
كانت تقف في منتصف الجناح الذي وضعها به هؤلاء الجنود ذوي الأجساد الصخمة، فكرت بجدية هل هؤلاء من يعملون مع القائد ؟؟ يا الله يتعامل كل يوم مع هؤلاء المرعبين ؟! حسنًا هو أيضًا مرعب قليلًا، أو ربما كثيرًا .
تنهدت تمرر عيونها في المكان وقد شعرت فجأة برغبة عارمة في القفز والركض بين جدران ذلك المكان الذي كان كما لو أنه خرج من قصص الاميرات والملوك القديمة، جناح فخم بجدران بيضاء واثاث في قمة الفخامة، وهناك بعض الجدران مطلية بالذهب وكذا الاثاث .
تنفست تبارك بصوت مرتفع تحاول أن تستوعب ما هي محاطة به، بالله هي في أكثر أحلامها جموحًا لم تتخيل أنها قد تشاهد هكذا مشهد عن قرب وليس تعيش به، وتكون الملكة….لحظة فقط، لحظة، هي الملكة ؟! دقائق بل ساعات لتستوعب ما يحدث حولها، هي الملكة على كل ذلك ؟؟ حقًا ؟!
فجأة شعرت بالادرينالين يرتفع ويتدافع داخل أوردتها لكامل اجزاء جسدها، حماس وسعادة وخوف، خوف من حمل مثل هذه المسؤولية الكبيرة، ابتلعت ريقها تتحرك حتى توقفت أمام مرآة مستقرة في أحد أركان الغرفة، إن كان يمكن وصف هذا القصر بغرفة.
” دول شكلهم اغنية اوي، أنا ايه اللي رميت نفسي فيه ده ؟!”
تنفست تحاول أن تهدأ نفسها، قبل أن تنجذب عيونها صوب طاولة زجاجية كبيرة موضوعة جوار نافذة بحجم الجدار وعليها مزهرية زجاجية شفافة مليئة بزهور بديعة المظهر .
ابتسمت تبارك دون شعور تقترب منها بسرعة وقد شعرت بضربات قلبها تتراقص سعادة، هي من عشاق الزهور بكافة الوانها وانواعها .
جلست ارضًا أمام الطاولة مباشرة تراقبها بأعين مندهشة، كيف تلتمع بهذا الشكل، تبدو جميلة بشكل لا يصدقه عقل، ابتلعت ريقها تتحسس الطاولة وملمسها الغريب :
” نوعه ايه الازاز ده ؟!”
أخذت تدور بعيونها حول الطاولة تدقق النظر بتفاصيله، ثم نهضت بهدوء تتحرك بعيدًا عن الطاولة وما كادت تستدير حتى أبصرت خيال شيء يتحرك خلفها بطرف عيونها لتننفض صارخة برعب ومن سوء حظها اندفعت للخلف لتسقط الطاولة، ارتجفت تحاول أن تمسك بها قبل أن تمس الأرض لكن كل ما استطاعت إنقاذه كان المزهرية الزجاجية .
اتسعت عيونها ونظرت سريعًا خلفها بخوف لترى أن ما تحرك ورأته لم يكن سوى ظل الستائر، ابتلعت ريقها تشعر بالرعب وهي تتساءل عن ثمن تلك الطاولة التي حطمتها..
فجأة سمعت صرخة عالية في الخارج بصوت جهوري :
” ما الذي تنتظرونه أيها الحمقى حطموا ذلك الباب قبل أن تتضرر الملكة .”
وما هي إلا ثواني قليلة حتى أصبحت تبارك محاصرة داخل الغرفة يحيطها الكثير من الجنود والملك الذي يقف أمامها يرمقها بملامح متعجبة وهي فقط تحتضن المزهرية :
” أنا بس..اقصد هو فقط لقد اصطدمت بالخطأ في تلك الطاولة هناك و…”
توقفت عن الحديث حينما رأت عين ذلك الملك تزداد حدة، ابتلعت ريقها تمد يدها له بالمزهرية :
” اتفضل أنا لحقت دي، و… أقصد من الأفضل أن تصنعوا الطاولات من الخشب، هذا افضل من الزجاج ”
نظر إيفان للمزهرية بين أنامله يهمس :
” هي مصنوعة من الكريستال وليس الزجاج ”
اتسعت أعين تبارك تستشعر فداحة ما فعلت، نعم لا تعلم اسعار ذلك الكريستال أو أي شيء عنه، لكنها تشعر أنها كبدتهم العديد من الخسائر .
نظرت ارضًا بخجل :
” أنا آسفة لم أقصد أن أفعل ذلك هو …”
كانت متوترة بشكل مبالغ به بسبب نظرات إيفان لها، نظرت حوله لمظهر الجنود الذين يحيطون الغرفة وكأنهم يخشون هروبها .
شعرت برغبة عارمة في البكاء خوفًا وتوترًا، يالله هي عاشت حياتها تخشى التعامل مع الناس وتتجنب شرورهم إلا القليل منهم، والآن هي في غرفة فاخرة تقف في وسط ما لا يقل عن خمسة عشر رجل مسلح وملك دولة كبيرة .
فجأة ومن وسط كل هذا أبصرت منقذها والوحيد الذي تعرف في هذا المكان، لذا بدون مقدمات ركضت بسرعة صوب سالار الذي دخل الجناح يتساءل عما حدث .
كل ذلك كان تحت أعين الجنود التي اتسعت بصدمة لاحتماء الملكة من الملك خلف ظهر قائد الجيوش الاعلى .
وسالار انتفض جسده بقوة وصدمة مما حصل، نظر لها يراها تتمسك بثيابه وهي تهمس :
” ساعدني يا قائد، قولهم اني هعوضهم والله ”
لكن هو كان لا يستوعب ما يحدث، هي تحتمي به من الملك ؟! ما هذا الذي يراه ويسمعه الآن ؟!
وفي نفس الوقت كان دانيار والذي لحق بسالار حتى يتحدث معه يراقب ما يحدث ليبتسم بصدمة واسعة يراقب بتسلية ذلك المشهد المريب والتاريخي، الملكة تحتمي من زوجها المستقبلي في القائد سالار، تخاف الملك ولا تخاف سالار ؟؟
الأمر أشبه أن تخشى ذئبًا، فتركض لتحتمي منه داخل عرين الاسد .
أطلق دانيار ضحكات مكتومة وهو يرى نظرات سالار صوب تبارك، وللعجب هي لم تبتعد وترتعب منها، حسنًا عليه الاعتراف أنها حقًا شجاعة .
ولم يدري دانيار أن الرعب كان كلمة بسيطة على ما تشعر به تبارك في هذه اللحظة بعد نظرات سالار لها، لكن الرعب من شيء تعلمه افضل من خوفها المجهول من ذلك الرجل الذي لا تعلم عنه شيء .
كان كل ذلك يحدث على مرأى ومسمع من إيفان الذي ارتسمت بسمة ساخرة على شفتيه يقول بهدوء شديد :
” عجبًا، يبدو أن ملكتي العزيزة تألفك كثيرًا قائد سالار، عكس ما توقعت تمامًا ”
رفع سالار رأسه لايفان يقول بهدوء شديد مبتعدًا من أمام تبارك :
” لا مولاي، الأمر كله أنها لا تعلم أحد هنا سواي، لذلك ارجو أن تغفر لها حتى تستأنس الجميع ”
هزت تبارك رأسها وكأنها تعلن موافقتها حديثه، فهي فعلًا إن وجدت بديلًا أقل رعبًا من سالار بالطبع ستذهب له .
هز إيفان رأسه، ثم ضيق عيونه يقول بجدية وهو يحدق بتبارك :
” اليوم بعد الغداء ملكة ….”
صمت ثم قال بهدوء وهو يقترب منها خطوات مدروسة حتى توقف أمامها يميل قليلًا هامسًا بصوت هادئ مريح :
” لم تخبريني اسمك. ”
همست تبارك بصوت منخفض :
” تبارك ”
” جميل، اليوم مساءً القاكِ ملكة تبارك، بعد الغداء أريد الجلوس معكِ، إن سمحتي لي بالطبع ”
اتسعت أعين تبارك بصدمة، ثم استدارت فجأة صوب سالار الذي كان يراقب كل ذلك بجمود وملامح مرعبة، وهي ترمقه بتعجب وكأنها تخبره ( انظر هناك رجال طبيعيين في بلادك ؟؟ ما الذي تنتظره تحرك وقم بإبادته ) .
ياالله شتان بين ذلك الهادئ ذو الملامح الوسيمة، وذلك المتحجر ذو الملامح الأوسم، وهذا ينقلنا للسؤال التالي، ما بال رجال هذه المملكة جميعهم بهذا الجمال ؟! هل هناك شيء معين لذلك ؟؟ مادة معينة في المياه لتحسين السلالات ؟؟ استغفر الله هي ستقضي حياتها داخل جدران تلك القلعة مخفضة لعيونها كي لا تُفتن بالرجال .
كانت ملامح تبارك تتغير تباعًا لتفكيرها ولم تنتبه أن هناك من ينتظر منها ردًا، حتى سمعت صوتًا خلفها يقول بنبرة تحذيرية :
” مولاتي، جلالة الملك ينتظر ردك ”
انتفضت تبارك على صوت سالار تهز رأسها بسرعة موافقة دون أن تفكر حتى، ليبتسم لها إيفان ببساطة ثم قال :
” جيد إذن، هناك من سيأتي لتنظيف كل تلك الفوضى، لذلك ارتاحي قليلًا حتى نتحدث، استأذنك”
وبمجرد أن تحرك جمدت بسمته وعادت ملامحه للجدية، يتحرك خارج الجناح وسالار يراقب رحيله، ثم نظر صوب تبارك بنظرات غامضة ومن بعدها لحق بالملك يشير بعيونه للجنود جميعهم، فانفضوا بسرعة كبيرة ..
ولم يتبق غير تبارك في منتصف الغرفة تبتسم ببلاهة :
” طلع محترم ..الملك طلع هادي ومحترم وابن ناس .”
في ذلك الوقت كان إيفان يتحرك صوب جناحه يشير لسالار أن يتبعه بعدما ينتهي من استراحته للبحث فيما حدث خلال غيابه.
لكن وأثناء ذلك لمح بعيونه العاملات يتحركن صوب جناح ملكته لتنظيفه، وواحدة فقط هي من غافلتهم وانحرفت في ممر جانبي تهرب من العمل، ابتسم بسخرية يردد :
” يبدو أن مشرفة العاملات لا تهتم بالقدر الكافي بهن، مالي أرى عاملة تتهرب من عملها كلما استدرت في هذا القصر ”
هز رأسه بحنق ينظر للخارج يسير صوب جناحه وبمجرد دخوله لا يدري ما الذي جعله يتذكر تلك الفتاة التي كانت تنافسه ذلك اليوم في حلبة القتال، ولِم راوده شعور أنه يريد لقاءً آخر معها، ونزال آخر، ترى من هي وماذا تفعل في هذه اللحظة ؟؟
تنفس يجلس على فراشه يتجاهل كل ذلك، ما شأنه بها وبما تفعل ؟؟ عليه الآن أن يفكر في مملكته وشؤنها، وملكته وامورها .
________________
أي جناح ذلك الذي سيجبرونها على تنظيفه؟! هي للتو انتهت من تنظيف الحظائر رفقة صديقاتها الأبقار، والآن كإنسانة حرة يحق لها استراحة حتى ….نهاية اليوم .
لذلك تركت كهرمان ادوات التنظيف جانبًا، نظرت حولها بريبة أن يكون هناك من يراقبها، ثم أطلقت لساقيها العنان تركض بعيدًا عن المبنى بأكمله، تتنفس براحة، بالله تشتاق لحياتها، تشتاق لدلال كانت تحيا به، تشتاق لكنف شقيقها الذي كان يحافظ عليها كما لو كانت درة مكنونة ..
عادت ذاكرتها للماضي وهي ترى الحقول الخضراء أمامها، تتذكر حقول مشابهة لها، مروج واسعة كانت تركض بها مع شقيقها..
صدى ضحكاتها يرن في الإرجاء وصرخات العزيز أرسلان تتبعها وقد بدى عليه للحظات غضب شديد تعلم جيدًا كي ستمحيه .
” كهرمان توقفي في الحال، منعتك من الركض بهذا الشكل في الأرجاء، توقفي كهرمان ”
توقفت اقدام كهرمان فجأة حينما لاحظت نبرة غاضبة وبشدة وجادة في حديث شقيقها، رفعت عيونها له لتراه يحدق بها بنظرات مرعبة، شقيقها والذي كان في نظر الجميع مرعب، لم يكن يومًا كذلك في عيونها، لكن الآن وفي هذه اللحظات كان كذلك .
ابتلعت ريقها تحاول الحديث :
” ارسلان أنا فقط لم ..لم أقصد أن أفعل معه ذلك، هو من حاول أن يتقرب مني بشكل مستفز لذلك …”
ارتفع حاجب ارسلان بقوة يقترب منها خطوات سريعة ممسكًا ذراعها وقد اشتعلت عيونه :
” التقرب لكِ ؟؟ ما الذي فعله ذلك القذر ؟؟ هل لمسك ؟؟”
” لا لا أخي لا تقلق، أنا بالطبع لن أسمح له بذلك، هو فقط …حسنًا كان يلقي نكات سخيفة ومن الواضح أنه يصطنع لطفًا، لم اتحمله لثواني، كيف بالله عليك تتطالبني بالزواج منه، غيّره فلا طاقة لي بهذا النوع من الرجال ”
تنفس ارسلان بعنف شديد يجذب رأسها له بمزاح وقد كان عازمًا على رفض ذلك الشاب على أية حال فهو ليس مستعدًا بعد ليتنازل عن شقيقته، في الوقت الحالي على الأقل :
” وأي نوع من الرجال تفضل الآنسة كهرمان ”
ابتسمت كهرمان تهتف بحب شديد :
” نوعك أخي العزيز ”
وفي ثواني تلاشت الصرامة المصطنعة وعلت نظرات حنان وجه ارسلان وهو يبتسم لها بحب، ثم مال لها كالعادة يعطيها ظهره :
” هيا إذن سأعطيك دلالًا أكثر، كي تقل فرص أي شاب يقترب لسرقتك مني، هيا اصعدي لنعود للقصر”
ابتسمت كهرمان تصعد فوق ظهره بعدما ركضت مرتعبة منه حافية القدمين لاخافتها العريس الذي تقدم لخطبتها، ابتسم أرسلان يتحرك بها وهو يحملها فوق ظهره بحنان :
” يومًا ما عزيزتي، يومًا ما سيأتي من هو أفضل مني، يعاملك كأميرة مدللة، بحنان ورقة متناهية، فلا يليق بكِ سوى الرقة، ولا تستحقين سوى السعادة والحنان اميرتي الجميلة ”
مالت كهرمان تضم رقبته بحب وهي تقبل خده :
” وإن لم يأتي أرسلان، فلا بأس أنا اكتفي بك عالمًا أخي”
” سيأتي عزيزتي، سيأتي من يستحق الأميرة كهرمان، أميرة مملكة مشكى بأكملها ”
خرجت كهرمان من ذكرياتها وهي تنظر أمامها صوب الحدائق بأعين دامعة وجسد يرتجف من الحزن، أين كانت وأين اصبحت؟! من أميرة مدللة في قصر شقيقها، لخادمة وضيعة في قصر من يحمل لشقيقها كراهية ..
هروبها لسفيد كان بطلب من أخيها، فهذه هي المملكة الوحيدة التي ستكون آمنة بها، الوحيدة التي تثق أنها يومًا لن تنحني لعاصفة، لكن معرفتها بالعداوة الأخيرة بين شقيقها والملك ارعبها، ارعبها أن تكشف هويتها كي لا ينالها ضرر، أو اسوء يسلمها بعض الخونة للمنبوذين الذي إن علموا أنها ما تزال حية لاقاموا حروبًا لأجل قتلها .
” آه يا ارسلان لو ترى ما وصل بي الحال إليه، لاقمت حروبًا، آهٍ على شبابك يا أخي، لعنة الله عليهم جميعًا، لعنة الله عليهم جميعًا، رحمك الله عزيزي ”
انهارت كهرمان بقوة ساقطة ارضًا وهي تبكي بصوت مرتفع بحسرة شديدة، تتذكر آخر كلماته وصدى صرخاته يصدح في أذنها، صوته الجهوري يصرخ بها وهو يحارب :
” غادري كهرمان، غادري لسفيد، غادري المملكة بأكملها، لا تدعي حقيرًا منهم يمسك حبيبتي، لا تدعي كافرًا منهم يمسك بكِ كهرمان، غادري وسأعود لاخذك، سأعود لاجلك حبيبتي، اذهبي لسالار هو سيساعدك ”
لكنه لم يعد ولن يفعل، فهي وقبل مغادرة البلاد بالكامل وصلت لها فاجعة قتل جميع أفراد عائلتها وعلى رأسهم شقيقها وسقوط مشكى بين أيادي المنبوذين ..
ارتجف قلبها وهي تحاول التنفس :
” كل شيء سيكون بخير كهرمان، أنتِ قوية، يومًا ما ستعود مشكى، يومًا ما ستعود بلادي …”
أخذت نفسًا عميقًا وهي تنهض تنفض ثيابها، وقد قررت خطوتها القادمة، ستفعل كما أخبرها شقيقها، ستلجأ للوحيد الذي سيساعدها في هذه المملكة، الوحيد الذي أخبرها شقيقها أن تلجأ له ليساعدها …القائد سالار .
________________________
خرجت من الجناح الخاص تود التحرك في القصر لتشاهده، حسنًا هي تشعر بالملل، حياة الملوك مملة وبشدة، ولم تدري تبارك أنها فقط في استراحة قصيرة قبل أن تبدأ حياتها الحقيقية في هذا المكان .
فتحت الباب الخاص بجناحها لينتفض الجنود من أمام الباب غير متوقعين لفتحها الباب فهم هنا من يفتحون ويغلقون الباب خلف من يريد .
ابتسمت تبارك ظنًا أنها اخافتهم، رفعت كفيها تحركهم بشكل مطمئن :
” اهدأوا هذه أنا، أنا فقط سأذهب لاتمشى قليلًا، تحتاجون لشيء أحضره معي لأجلكم ؟؟ مياه عصير او طعام ؟؟”
هل تتعامل معهم كما لو كانت والدتهم الآن ؟؟
وعندما لم يصل رد لتبارك تركتهم بكل بساطة وتحركت بعيدًا عنهم وهم ما تزال البلاهة تعلو وجوههم في محاولة واهية لفهم ما حدث منذ ثواني، الملكة غادرت غرفتها تسألهم إن كانوا يحتاجون لشيء تحضره معها لأجلهم، ثم تركتهم ورحلت بكل بساطة .
وحينما استوعب الحراس ما حدث صرخ أكبرهم في اثنين منهما :
” ما الذي تحدقون به، ألحقوا بالملكة ولا تنزعوا عيونكم عنها وإلا قطع القائد رؤوسنا ”
نعم هددهم سالار قبل الرحيل ألا ينزعوا عيونهم عنها، وهذا لأجل سلامة الملكة، حسنًا هذا ما فهموه هم، أن القائد يخشى أن يصيب الملكة شيئًا، بينما هو كان يفعل ذلك ليس خوفًا عليها، بل خوفًا منها .
سارت تبارك تنظر حولها تلوح لهذا وتبتسم لذلك، والجميع ينظر ينظر لها بأفواه مفتوحة صدمة، ليس لحركاتها الودودة بشكل مبالغ به، بل لطريقة سيرها وكلماتها الغريبة التي تلقيها .
وتبارك كانت فقط تنظر حولها ولم ينقصها إلا أن تشير لهم وتقول ( مرحبًا أنا الملكة هنا ) ..
خرجت من القصر من أحد الأبواب والتي لا تعلم إلى أين يؤدي، لكنها لم تهتم وهي تنتقل من مكان للآخر، حتى وجدت نفسها وفجأة في منطقة واسعة يحيط بها الكثير والكثير من الرجال عراة الجذع يحملون سهام ويصرخون في وجوه بعضهم البعض بعنف، ابتلعت ريقها تشعر أنها ضلت الطريق ..
عادت خطوات للخلف وهي ترى أن الجميع قد بدأ ينتبه لوجودها وبدأت الرؤوس تستدير لها والأعين تتسع بصدمة، ابتلعت ريقها تحاول التحدث تبعد عيونها عن أجسادهم بخجل كبير وقد بدأت ترتجف من الموقف المخيف بالنسبة لها :
” أنا فقط …فقط كنت أبحث عن …”
فجأة توقفت عن محاولة إيجاد تبريرات لما فعلت حينما انتفض جسدها، واجساد الجميع بسبب صرخة مرتفعة صدرت من الخلف :
” اعطوني سببًا واحدًا لتوقفكم عن التدريب ؟؟ ماذا هل أصاب اجسادكم الضعف لدرجة انكم لا تتحملون خمس سبع تمرين متواصل ؟؟”
تمتت تبارك بسخرية مما سمعت :
” والله عيب عليكم . ”
فجأة توقف دانيار عن الحديث وهو يسمع ذلك الصوت، استدار ببطء ليرى الملكة تقف وسط رجاله وهي تحدق بصدمة فيهم، وعندما انتبهت له تبارك رفعت يدها تقول ببسمة صغيرة :
” أنا كنت ..كنت فقط اطمأن أن كل شيء يسير على ما يرام هنا، احسنتم يا رجال ”
نظر لها دانيار بعدم فهم :
” ماذا ؟؟ ما الذي تفعلينه في ساحة التدريب هنا ؟؟ هل يعلم الملك بهذا ؟؟”
ابتسمت له تتراجع بقلق من نظراته الحادة تتساءل في داخلها عن رجال هذه المملكة، ما بالهم يتعاملون معها بهذه الطريقة كما لو أنها جارية هنا، لم ترى أحدهم ينحني لها ويلوح باحترام كما ترى عادة :
” لا أنا فقط ضللت الطريق، والملك لا يعلم بذلك، لذا أرجو ألا تكون من هذا النوع الذي يشبه العصافير وتخبره ”
” أي عصافير وأخبره ماذا ؟؟ ما الذي تفعلينه هنا وسط كل هؤلاء الرجال ؟؟ ”
وتبارك التي لم ترفع عيونها للرجال منذ دخلت بل فقط كانت تحدث في دانيار قالت بخجل :
” أنا فقط ضللت الطريق، سأعود من حيث جئت، آسفة”
وبالفعل استدارت بسرعة تركض بعيدًا عن المكان وقد كاد قلبها يخرج من الرعب، الموقف صعب عليها، تركض في الحديقة تحاول الخروج من تلك البقعة التي ينبت بها رجال عراة الجذع .
تنفست بصوت مرتفع تشعر بالخجل والغضب من نفسها، يالله ما الذي تفعله الآن ؟؟ تنفست كي تهدأ في اللحظة التي رأت بها ثلاثة رجال يقتربون منها محنيين الرأس باحترام، ها واخيرًا هناك من يعاملها كملكة.
” مولاتي رجاءً رافقينا، سنأخذك حيث تريدين بعيدًا عن الجزء الخاص بالجنود، فممنوع على النساء أن يطأن هذا الجزء من القصر ”
أحمّر وجه تبارك بقوة تشعر بالعار مما فعلت، عليها ألا تتصرف دون أن تعلم ما تفعل :
” أيوة ما أنا عرفت .”
نظروا لها بجهل لتهز فقط رأسها وتتحرك معهم، وفي طريقها للخروج من جزء الجنود توقفت فجأة لسماعها صوت صرخات رجولية حادة تخرج من أحد الجوانب في المكان .
نظرت للجنود بعدم فهم :
” ما الذي يحدث في هذا الجزء ؟! هل هناك غرف تعذيب ؟؟”
” لا مولاتي بل ذلك الجزء تابعٌ أيضًا لساحات التدريب، وهذه ساحة قتال والآن مولاي يبارز القائد سالار ”
اتسعت عيون تبارك بصدمة وهي تقول بعدم فهم :
” بيقتلوا بعض ؟؟”
” لا مولاتي، بل هو قتال ودي، تدريب فقط ”
ابتلعت ريقها تسمع الصرخات الحادة :
” تدريب ماذا ؟؟ أنه يقتله ”
ابتسم لها الجندي باحترام يقودها خارج المنطقة بأكملها قبل أن يعلم الملك أو حتى الملك سالار الذي يكره وجود النساء في هذه البقعة :
” لا مولاتي هم يتدربون، لكنهم عنيفون بعض الشيء في قتالهم ”
هزت رأسها تتحرك بعيدًا عن تلك الأصوات التي جعلت جسدها يقشعر رعبًا، هذا وتدريب فقط، بالله ما الذي يحدث في الحروب الحقيقية ؟؟
تنفست براحة حينما وجدت نفسها أخيرًا في حدائق غناء مليئة بأشجار الثمار وهناك العديد من النساء المنتشرين في المكان يقطفون الزهور والثمار .
” ده بقى كوكب زمردة ؟؟ ”
نظر له الجندي بجهل، لكنها لم تهتم بتوضيح مقصدها بهذه الكلمات، ابتسمت تتحرك بين الفتيات تراقب ما يفعلون بانبهار شديد، ليس وكأنها لم تر يومًا مزارعين يحصدون الفواكهه، لكن هؤلاء مزارعون في بلاد غريبة يحصدون الفواكهه .
بينما الجنود توقفوا على حدود المزارع كي لا يخطوا منطقة النساء..
” نحن سننتظرك هنا مولاتي، غير مسموح للرجال بدخول منطقة النساء ”
هزت تبارك رأسها تتحرك للداخل تتأمل المكان ببسمة، فجأة توقفت تبارك لسماعها صوت شجار عنيف يأتي من أحد الجوانب، نظرت لترى هناك فتاة تقف بين مجموعة من الفتيات، وتقبع فوق فتاة تكاد تقتلها ضربًا .
اتسعت عيون تبارك بصدمة تركض صوب ذلك الشجار وهي تتدخل بينهن بسرعة كبيرة مرددة :
” ما الذي يحدث هنا؟؟ أنتِ توقفي عن ضرب الفتاة، ابتعدي عنها ”
ارتفع وجه الفتاة بقوة والتي لم تكن سوى زمرد وهي تنظر لتبارك بشر هامسة من بين أسنانها بنبرة مرعبة :
” إن لم تبتعدي سأتركها وأمسك بكِ أنتِ، انصرفي من وجهي”
شحب وجهها من كلمات تلك الفتاة الوقحة، تهمس داخل نفسها بحنق :
” تقريبا عامة الشعب ليهم احترام عن الملكة هنا، دلوقتي عرفت ليه القائد كان مُصر يجيبني رغم اني معرفش حاجة، اكيد عشان اكون مرمطون هنا، المرمطون مش محتاج مؤهلات ”
تجاهلت تبارك ما يحدث حينما رأت سيدة كبيرة في العمر تفصل بين الفتيات موبخة إياهن بقوة شديدة متوعدة لهن بعقاب رادع، نفخت تبارك وقد شعرت بأن فقاعة انبهارها بالمكان قد تلاشت، وقررت الخروج والذهاب لغرفتها وعد حبات اللؤلؤ في الاثاث هناك، هذا سيكون أكثر متعة من كل ذلك .
لكن وقبل أن تخطي خارج المكان لاحظت بعيونها شاب يقف في أحد أركان المخازن الخاصة بالحصاد، ضيقت عيونها متسائلة :
” هو ده مش كوكب زمردة برضو ؟! الجدع ده سائب كوكب الاكشن والمغامرات وبيعمل ايه هنا ؟؟”
تحركت صوبه بفضول شديد تحاول معرفة ما يفعل، لكنها فجأة توقفت خشية أن يكون أحد رجال العمل، أو أن تتأذى، حسنًا هي ليست بالغباء الذي يجعلها تقترب من رجل في جسد ثور كهذا وتسأله ما الذي يفعله هنا، هي ستذهب وتخبر الحراس بوجود رجل في الداخل لربما يكون لغرضٍ ما، وإن لم يكن، هم سيتصرفون معه وليس هي ..
هكذا هي عقلانية بشكل مبالغ به، حينما تشعر بقرب كارثة أو شيء سييء تتصرف بكل حذر وذكاء، ربما هي غريزة البقاء التي نمت داخل صدرها طوال أعوام طويلة عاشتهم وحدها بلا حامي ..
تحركت صوب الخارج بخطوات واسعة كي تخبر الحراس بوجود رجل في الداخل وتتساءل إن كان ذلك مسموح أو لا .
لكن وقبل أن تفعل ذلك شاهدت بصدمة ذلك الرجل يسحب أمام عيونها فتاة يكمم فمها بقوة يجرها بالقوة صوب أحد المباني .
وفورًا تلاشت غريزة البقاء واندفعت طاقة غضب كبيرة لصدرها وهي تركض بسرعة جنونية صوب ذلك الرجل تصرخ بصوت مرتفع ووسط الجميع :
” أنت…توقـــــف ”
رفع الرجل عيونه بصدمة صوب صاحبة الصوت مصدوم أن أحدهم انتبه له، وحينما رأى امرأة تقترب منه صارخة، أخرج وبسرعة كبيرة حنجرًا يلوح به محذرًا :
” قفي مكانك وإلا نحرتها أمام عيونك ..”
اتسعت أعين تبارك وشعرت بصدرها يعلو وجيبه، تراجعت بريية تنظر حولها على أمل أن يكون أحد قد سمع صرختها، لكنها كانت قد ابتعدت عن المزارع وأصبحت قرب المخازن ..
حسنًا هل يمكن إعادة المشهد وتكمل خطة إحضار الحراس قبل أن تفور داخلها روح ” المرأة الخارقة ” وتتغابى ؟؟
لا، صحيح ؟!
إذن الخطة الثالثة والبديلة ” ألقي نفسك في الكارثة ولتدعو الله لتنجو من عواقبها ”
ووفقًا لتلك الخطة والتي لا تلجأ لها تبارك إلا في المصائب الخطرة، فهي الآن وفي هذه اللحظة على وشك ارتكاب فعل غبي ستندم عليه اسبوع، أو ربما اثنين ……
_____________________
الشجاعة أمر جيد، لكن احيانًا وحدها لا تكفي، وإلا ما أخبرونا أن الكثرة تغلب الشجاعة، والآن القوة البدنية ستغلب الشجاعة كذلك، حسنًا يبدو أن الشجاعة لن تنتصر في حربٍ يومًا، إلا حينما تكون في قتال مع الغباء حينها قد تنتصر الشجاعة ……
يتبع…
كان القتال مستمرًا بينهما، صوت اصطدام السيوف والانفاس العالية هو ما يمكن سماعه، وبسمات سالار وحركاته الرشيقة هي ما يمكن رؤيته في وسط كل تلك المعمعة، وربما يتفوق سالار على إيفان قليلًا، ليس لأنه اقوى منه، بل لأن سالار لم يدع سيفه من يده يومًا سوى في تلك المهمة.
بينما إيفان، والذي يحتم عليه عمله كملك يدير البلاد ويحكم بين شعبها، لا يحمل سيفه سوى لمامًا حينما يقرر أن يتدرب، ولا يخوض حروبًا سوى في الحالات الخطرة وبشدة وهذه الحالات لم تحدث منذ سنوات طويلة في حربهم الأخيرة مع المنبوذين، وحينها يكون الملك هو القائد الاول للجيوش ثم يأتي القائظ الفعلي في المرتبة الثانية بعده..
” يبدو أنك يا مولاي تحتاج لتدريبٍ مكثفٍ ”
ختم سالار حديثه يدفع بسيفه في قوة غاشمة صوب إيفان والذي تصدى له، لكن لقوة الضربة مال جسده للخلف وهو ما يزال يقاوم ويحاول دفع سالار عنه يتنفس بصوت مرتفع :
” ومن يا ترى سيكون معلمي سالار ؟؟ أنت ؟!”
ابتسم سالار بسمة جانبية يبتعد عنه مانحًا إياه فرصة كي يلتقط أنفاسه، وما كاد إيفان يفعل حتى دار سالار بجسده مباغتًا إياه بعنف :
” لا أظن ذلك، ربما في الوقت الحالي نكتفي بدنيار مدربًا لك، وحينما نرى تحسنًا في مستواك، يمكنني أنا أن أكمل معك ”
أطلق إيفان ضحكات صاخبة، يدرك جيدًا أي لعبة يلعبها سالار معه، هكذا هو سالار يحب، بل يعشق استفزازه ..
” آه إن هذا لكرم كبير منك قائد سالار، حقًا لا يسعني شكرك في هذه اللحظة ”
ابتسم له سالار، ثم في ثواني تلاشت بسمته يهجم عليه مستغلًا انشغاله في حالة السخرية الخاصة به، وقد أسقط إيفان دفاعه، ليسقط سالار سيفه ارضًا تحت صدمة إيفان مرددًا بصوت هادئ :
” عدوك لن ينتظرك حتى تنتهي من سخريتك، والافضل ألا تسخر منه قولًا، بل يمكنك أن تسخر منه فعلًا ”
صمت يبتسم بسمة جانبية :
” نعم، تمامًا كما فعلت معك مولاي ”
كان إيفان يحاول أن يستوعب ما حدث منذ ثواني، هل أسقط سالار سيفه للتو؟! هناك من غلبه للمرة الثانية في نزال ؟؟ نفسه الشخص الذي هزمه المرة الأولى ..
تنهد بصوت مرتفع، حسنًا هو يعترف أن لا أحد يستطيع أن يتغلب على سالار، ليس لأنه مقاتل شرس، بل لأن خبرته في القتال والحروب تخطت شراسته، فمهما كنت قويًا، لن تهزم رجلًا نشأ على ذكرى حروب الرسول وقصص معارك خالد ابن الوليد، وعاش سنوات في ارض المعركة .
سالار رجل كرس حياته بالكامل للدفاع عن الوطن ولرد كل الحقوق، لذا هو شاكر أن سالار في صفه وليس في صف عدوه .
لكن إيفان ليس بالخصم السهل ولن يستسلم بهذه السهولة، لذلك مال سريعًا في غفلة من سالار يحمل سيفه ثم عاد للقتال معه وحركات يده كانت سريعة بشكل جعل سالار يبتسم بسمة واسعة مستمتعة، واخيرًا خصم قوي بعد أيام من القتال مع صامد وصمود _ إن سمى ذلك قتالًا _
وبعد ساعة تقريبًا من كل ذلك وحينما لم يصل الإثنان لفائز ألقوا السيوف ارضًا مكتفين بتعادل مؤقتًا .
ليميل إيفان قليلًا وكأنه يرحب يملك يقول بصوت خافت :
” كان قتالًا رائعًا سالار، ذكرني أن نكررها ”
” حينما ترتقي لمستوى القتال معي، ربما نفعلها مجددًا ”
حدق به إيفان بسخرية شديدة وهو يجفف عرق وجهه، يفكر في كيف تحملته الملكة أثناء تلك الرحلة حقًا، فضول شديد اعتراه لمعرفة كيف مرت تلك الرحلة عليهما .
ارتشف سالار بعض رشفات من المياه يرى نظرات الملك له، والتي كانت تبدو غامضة غريبة مما جعله يسخر بمزاح :
” لو أنك امرأة مولاي لكنت قدرت نظراتك حقًا أو لحظة …لم أكن سأفعل، لكن نظراتك لي تلك لا أستسيغها، لذا رجاءً انزع عيونك عني ”
ارتسمت بسمة مخيفة على وجه ايفان الذي كان يفكر في شيء سيثير جنون سالار، وقبل أن يتحدث سمع صوت أحد الجنود يخترق الساحة :
” سيدي هنا معركة في منطقة النساء ”
نظر له إيفان بعدم فهم :
” معركة ؟؟ أليست المشرفة هناك ؟؟ دعها تفصل بين الفتيات ومن ثم ارسلهن لـ ..”
وقبل أن يكمل جملته قاطعه الجندي قائلًا بخوف :
” بل يا مولاي معركة بين أحد الرجال والملكة وفتاة أخرى”
وعند سماع تلك الجملة بصق سالار المياه ارضًا يهمس بعدم فهم :
” الملكة ؟! أي ملكة تلك ؟؟ من أخرجها من جناحها بالله عليكم ؟!”
لكن إيفان لم يتوقف ليطرح كل تلك الاسئلة فهو لن ينتظر حتى يعلم ما يحدث، ركض بسرعة كبيرة وسالار ينظر لاثره بصدمة، قبل أن يلحق به حاملًا سيفه وهو يفكر فيمن تجرأ وتعدي على حرمه نسائهم …
_____________________
كانت تواجهه وهي تحاول أن تخيفه بعدما قررت أن تتبع الخطة البديلة في خطط حياتها، وفي ثواني وقبل أن يستوعب ذلك الرجل شيئًا مالت تبارك ارضًا تحمل حجرًا تلقيه بعنف شديد على قدمه ليطلق الرجل تأوهًا عاليًا هاتفًا بكلمات غير مفهومة لها، لكن هي لم تتكبد عناء محاولة فهمها، وهي تحمل حجرًا آخر اضخم من الاول تنقض به تزيح الفتاة من بين يديه، ثم هبطت به فوق رأسه صارخة :
” لا يحق لك لمسها بهذه الطريقة .”
أطلق الرجل صرخات صاخبة أثارت الرعب في صدر تبارك التي تراجعت للخلف تستوعب ما فعلت، لتقرر الآن أن الوقت قد حان لتهرب، لكن وقبل أن تفعل جذب الرجل حجابها بقوة صارخًا :
” أيتها القذرة سأريكِ كيف تتجرأين وتفعلين ما فعلتي للتو”
وبعد هذه الكلمات شدد قبضته على حجاب تبارك ليخرج في يده، ثم أمسك خصلات شعرها بقوة يصفعها صادمًا رأسها في جدار المبنى الخشبي جوارهم، وصوت صرخات تبارك قد بدأ يعلو ويعلو، والفتاة التي نجت من يد ذلك المعتدي ركضت لتحضر الحرس ..
نظر لها الرجل يبتسم بسمة مقززة وهو يتأمل ملامح تبارك :
” سوف أريكِ الجحيم يا حقيرة ”
بصقت تبارك في وجهه تهتف باشمئزاز :
” رؤيتي للجحيم افضل من رؤيتي لوجهك عن قرب يا حقير”
اشتعلت أعين الرجل بشدة وشعر بجسدة يرتجف غضبًا وهو يرفع يده عاليًا، ولم يكد يهبط بها على وجهها للمرة الثانية حتى اتسعت عيونه بقوة وأطلق شهقة متوجعة .
نظرت له تبارك بعدم فهم، تشعر به يخفف قبضته على شعرها، ابتعدت بسرعة لترى فتاة تقف خلفه وهي تحمل خنجرًا وقد قامت بغرزه في ظهره دون أن يرجف لها جفن، ثم مالت على الرجل وهمست له بكلمات لم تصل لتبارك..
ولم تكن تلك الفتاة سوى كهرمان التي كان جسدها يرتجف، يرتجف غضبًا ورعبًا، ترى الوشم الذي يعلو رقبة ذلك الحقير القاتل، نعم هو واحد منهم، هو أحد المنبوذين الذين قتلوا عائلتها، ودمروا وطنها وحياتها .
ارتجفت يد كهرمان بقوة وهي تسحب الخنجر، ثم مجددًا غرزته وهي تصرخ :
” أوصل سلامي للقذرين امثالك، اقسم أن أجعل جميع ذريتك يلحقون بك ”
سقط الرجل ارضًا بقوة لترتعد تبارك وتعود للخلف مطلقة صرخة مرتعبة، يا الله هي شهدت مقتل رجل للتو، لقد طعنته، كانت أعين تبارك متسعة فزعًا وهي تراقب جثة الرجل ارضًا ..
وكهرمان التي لم تكتفي بعد أخذت تطعن به وهي تصرخ بقهر بكلمات غير مفهومة لتبارك التي شهقت وهي تضع يديها أعلى فمها، ترى الفتاة تنقض عليه بالطعنات وهي تصرخ باكية .
” هذه لأجل امي وأخي، لعنة الله عليكم جميعًا، لعنة الله عليكم يا كافرين، لتتعفنوا في الجحيم، لعنة الله عليكم ”
كانت تصرخ منهارة وتبارك ترتجف، ولم تشعر بشيء سوى بمن يجذبها للخلف، ومن ثم اندفع صوب الفتاة يصرخ فيها :
” كهرمان توقفي، توقفي ما الذي تفعلينه، توقفي لقد مات، لقد قتلتيه توقفي ”
ارتجفت كهرمان بقوة وهي ترفع عيونها لزمرد التي كانت مصدومة أن تتلوث يد الأميرة الناعمة والتي نشأت على حمل الاكواب الخزفية والورود، بالدماء وأي دماء ..دماء رجال بافل.
انتزعت زمرد الخنجر من يد كهرمان تتعجب حصولها عليه، في الوقت الذي وصل به حراس الملك يصرخون بهم أن يبتعدوا عن الرجل .
أبعدت زمرد كهرمان خلفها، ثم حملت هي الخنجر وجسدها يرتجف بقوة مما سيحدث، هذه جريمة قتل، ربما معرفتهم أنه من رجال بافل سيخفف العقوبة، نعم ستخبرهم، لن تدع مكروهًا يصيب كهرمان .
في تلك اللحظة كانت تبارك تحاول أن تستوعب ما يحدث، نهضت من مكانها تمسح دموعها بصعوبة ثم اقتربت من جثة الرجل تقاوم رغبتها في القيء في الوقت الذي سمعت به صوت جهوري يهتف :
” لا أحد يقترب الملكة بلا حجاب، عودوا جميعًا للخلف ..”
ارتعش جسد تبارك في تلك اللحظة تستوعب ما يحدث، تحسست شعرها بسرعة كبيرة وهي تشهق مرتعبة، تبحث بعيونها عن الحجاب حتى سمعت صوت زمرد تقول :
” أنه هناك بجوار الجدار ”
ركضت صوبه تخفي شعرها وهي ترتجف، وفكرة أنه شاهد شعرها تصيب جسدها برجفة، رجفة قوية، القائد رأى شعرها ..
كان سالار يركض خلف الملك، لكن زادت حدة ركضه وسرعته أكثر حينما سمع صرخات الملكة تعلو، اشتد غضبه والتهبت أنفاسه ينتزع سيفه مقتحمًا منطقة النساء يتحرك صوب تلك الصرخات ليبصر فتاة تطعن رجلًا بغضب شديد.
كاد يصرخ بها أن تتوقف، لكن صدمته لرؤية تبارك بلا حجاب وخصلاتها مسترسلة خلف ظهرها جعل كلماته تتوقف في حلقه بصدمة، تنفس بعنف وما كاد يبعد عيونه عنها صارخًا بها أن تغطي شعرها، حتى أبصر بطرف عيونه ركض الجنود والملك نحوهم ليصيح بغضب يعطي تبارك ظهره :
” لا أحد يقترب الملكة بلا حجاب، عودوا جميعًا للخلف ..”
توقف الجميع بمن فيهم الملك الذي اتسعت عيونه بصدمة لكلمات سالار، بينما سالار تلاشى النظر لهم جميعًا ولم يتحدث بكلمة حتى سمع صوتًا خافتًا يتحدث خلفه :
” أنا… أنا لبست الطرحة يا قائد ”
استدار سالار ببطء شديد وكأنه لا يثق في كلماتها، قبل أن يتنهد ويتأكد من الأمر، استدار مجددًا يشير للحراس بأمر :
” خذوا جثة ذلك الرجل بعيدًا، واحضروا الفتاتين والملكة، بكل هدوء صوب القاعة ليتولى الملك الحكم في شأنهم ”
ختم كلماته يترك الجميع متحركًا بعيدًا عنهم دون كلمة إضافية، بينما تبارك تحسست حجابها بخجل شديد وقد شعرت برغبة عارمة في البكاء على تفكيرها الغبي في هذه اللحظة، لكنها لم تستطع منع نفسها من الشعور بالخزي لأنها لم تمشط شعرها منذ ايام وقد كانت خصلاتها هائجة ومتشابكة بشكل …سييء، وهو رآها هكذا، هل هناك موقف آخر سييء لم يرها به القائد ؟؟
لا ينقصها سوى أن يراها نائمة يسيل لعابها حتى يكتمل البوم الصور المخزية في عقله لها ..
_____________________
لا تدري ما الذي جاء بها لهذا المكان، هي ممنوع عليها أن تخطو لمكان خارج صلاحيات عملها، وبالتأكيد مشفى الجنود ليست من ضمن تلك الصلاحيات، لكنها مرتعبة، منذ التهديد الاخير للقائد دانيار والذي أوضح به جيدًا أنه سيتخلص منها إن أثبت أن لها يدًا في إصابة رفيقه وهي مرتعبة، ونعم هي ليس لها يد، لكن ذلك المختل صانع الأسلحة هددها وبشكل مباشر قبل اغماءه أنه سيريها الويل ..
ابتلعت ريقها تتوقف في منتصف المشفى تنظر يمينًا ويسارًا بحثًا عن غرفته، لكن لا تدري أيهما كانت، لذلك فكرت في التراجع والاختفاء عن الأعين فترة و…
توقفت فجأة وهي تسمع صوت مقابض الابواب تتحرك مما جعلها تركض لتختبئ تراقب دانيار يخرج من إحدى الغرفة وهو يتحدث مع الطبيب بجدية كبيرة :
” حسنًا مهيار انتبه له وأنا في المساء سآتي لزيارته مجددًا، والآن سأرحل لاتحدث مع القائد بشأن عقابي ”
أمسك مهيار يد دانيار يردد :
” وأنا كذلك يا دانيار أخبره أن لا قِبل لي بمثل تلك الأمور يا أخي”
هز دانيار رأسه متنهدًا بحنق، قبل أن يربت على خصلات مهيار كما لو كان طفلًا وليس شابًا في الثامنة والعشرين :
” رغم علمي أن حديثي لن يغير ايًا من قراراته، لكن لا ضير في المحاولة ”
وهكذا تفرق الأثنان وابتسمت برلنت بسعادة كبيرة إذ أُتيحت لها فرصة الدخول وتوسل ذلك المختل ليتناسى ما قالته في غمرة رعبها .
دخلت الحجرة تاركة الباب مفتوح خلفها، فهي خالفت القوانين بالمجئ للمشفى، ولا تود أن تزيد من طينتهًا بلًا بالاختلاء برجل داخل حجرة مغلقة ولو كان ذلك الرجل طريح الفراش .
اقتربت منه بريبة وهي تنظر للخلف كل ثانية، ثم تكمل تقدم صوب الفراش بحرص، واخيرًا حينما أصبحت جواره مالت تجلس على ركبتها مبتعدة بشكل مناسب عن الفراش وهي تراه ساقطًا في غيبوبته، المسكين الحقير لا بد أنه يعاني من الوجع .
” سيدي مرحبًا جيتك للإعتذار، هذه أنا، أقصد، حسنًا ربما لا تعلم لي اسمًا، لكنني هي نفسها الفتاة التي ألقيت عليها قنبلة سابقًا واسقطتها عن الدرج بعدما حدت تفجرها للمرة الثانية، واسقطتها عن فرع الشجرة بكل حقارة، ثم هددتها و…”
صمتت برلنت فجأة وكأنها للتو استوعبت كل ما فعله معها، كل مرة قابلها يكون على وشك قتلها، وهي لأنها سبته فقط أثناء خروج روحه يهددها ويرعبها؟؟ ذلك الحقير .
فجأة تراجعت برلنت عن كل ما جاءت لأجله بعدما شعرت بنيران تشتعل داخل صدرها حينما أدركت كل ما فعله معها :
” أيها الحقير تهددني بالهلاك وأنت لم ترني يومًا، إلا وانتهى يومي بالخراب ؟؟ لقد كدت تقتلني في كل مرة قابلتني به، يالله للتو أدركت الأمر ”
نظرت له بتشفي كبير وهو متسطح بملامح شاحبة أعلى الفراش، لتبتسم بكره شديد وهي تقف تراقبه من الاعلى :
” ما تعانيه في تلك اللحظة هو عقاب الله لك، لتذهب إلى الجحيم لن اعتذر لك، وهذا المدعو دانيار اقسم أنني سأشتكيه للملك بسبب تهــ….”
” هل خرقتي القوانين وغامرتي بحياتك فقط لتؤرقي منامي وراحتي يا امرأة ؟؟”
أطلقت برلنت صرخة مرتفعة تتراجع خطوات للخلف، وقد بدأ جسدها يرتجف برعب شديد، وهو تنفس بحنق ينتفض عن فراشه ليس وكأنه منذ ساعات كان ينازع الموت، تحرك عن فراشه وهبط منه يراها تنظر له بأعين متسعة …
ابتسم يقول :
” والآن ما الذي كنت تهزين به وقت تسطحي على الفراش؟!”
” أنا… أنا سيدي … أنا فقط جئت كي …اعتذر ..نعم جئتك اعتذر عما بدر مني منذ ساعات أثناء احتضارك ”
رفع تميم حاجبه بسخرية وهي ابتسمت له، وحينما رأته يقترب منها خطوات مثيرة للرعب أطلقت صرخة مرتفعة جعلت أعين تميم تتسع :
” أيتها الغبية توقفي عن الصراخ سيظن الجميع بنا سوءًا وسنحاكم سويًا ”
بكت برلنت برعب تشير له أن يبتعد :
” ارجوك ارحمني أنا لست سوى فتاة يتيمة مسكينة جئت هنا للعمل لأجل ايجاد منزل يأويني، لقد عشت ليالي دون أن أتمكن من تناول كسرة خبز عفنة حتى، كنت التحف بالسماء وانام على الرمال، اكلت الحشائش و…”
كانت برلنت تسهب في سرد معاناتها عبر السنين السابقة، تبكي بحزن وقد بدأ جسدها يرتجف بقوة وهو يراقبها بملامح بلهاء لا يفهم ما تفعل تلك الغبية، ومن بين كل تلك الحوادث المأساوية أشار لها تميم يقول بعدم فهم :
” يا فتاة أوليس والدك بائع اقمشة ؟؟ ووالدتك ربة منزل ؟؟ ومنزلك يقبع في المقاطعة الشمالية ؟؟ ”
اتسعت أعين برلنت بقوة وقد ثقب تميم لتوه فقاعة البؤس التي كانت تدفع نفسها داخلها، تنظر له بصدمة. هامسة من بين دموعها بصوت مذهول :
” كيف علمت ؟؟”
” كيف علمت ماذا أيتها الحمقاء ؟؟ جميع من بالقصر يعلم الأمر فأنتِ نفسها من تشاجرتي مع فتاة منذ شهر تقريبًا وجئتِ تشتكين للملك وتقصين عليه حكايتك ”
مسحت برلنت دموعها وقد فشلت خطة الاستعطاف التي تتبعها في مواقف عدة، ثم نهضت تنفض ثيابها ومن بعدها نظرت له ببسمة صغيرة تقول بريبة وقلق :
” إذن أنت لن تكون وقحًا وتنتقم مني حينما تصبح بخير ؟؟”
رفع تميم حاجبه مبتسمًا بسخرية، وهي ابتسمت أكثر تنتظر منه إشارة أنه لن يمسها بسوء، وهو فقط أشار صوب الباب يقول بملامح جامدة :
” اخرجي من هنا ”
” هل هذا يعني أنك سترحمني لأجل عائلتي المسكينة على الأقل؟؟ ”
نظر لها بغضب وحنق شديد :
” إن لم تخرجي سأتناسى كل شيء يمنعني من الأمر واتخلص منكِ”
اتسعت بسمة برلنت أكثر وقد شعرت أنه لن يؤذيها، لذلك ركضت صوب الباب تقول بصوت مرتفع :
” حسنًا وأبعد عني ذلك الرجل المسمى بدانـ …”
ولم تكمل جملتها حتى وجدت جسد ضخم يمنعها عن الخروج من الغرفة، رفعت عيونها بصدمة لتجد أمامها الطبيب مهيار والذي أخذ يحرك نظراته بينهما، ثم ضيق حاجبيه يقول :
” امرأة بين جدران مشفايّ ؟؟”
_____________________
الأمر جاد وبشكل خطير تدرك ذلك، الملك على عرشه والفتاتين برؤوس منكوسة أمامه والجنود يحيطون بهما، والمستشارين يحدون الملك من الجانبين، حسنًا ستكون سخيفة إن قالت إن هذا المشهد اعجبها، ليس وكأنها سعيدة بالمأزق الذي سقطت به الفتيات، لكن …حسنًا هي قديمًا كانت دائمة النقد على المشاهد التافهة التي لا يتم الترتيب لها بشكل جيد، وهذا المشهد أمامها كامل متكامل، ربما لأنه ليس مشهدًا بل حقيقة …
فجأة شعرت بجسدها ينتفض حين سماع صوت الملك يتحدث بنبرة لغت في عقلها ذلك الراقي الهادئ الذي كان يتحدث معها سابقًا :
” اريد معرفة كل ما حدث داخل المزارع و…”
سارعت تبارك تبرر ما حدث بسرعة كبيرة رافضة أن يُظلم أحد وهي شهدت بعيونها ما جرى، وعند تذكرها للأمر لا إراديًا ارتجف جسدها من مشهد قتل الرجل :
“سيدي القاضـ…الملك، رجاءً لا تظلم أحدًا منهما، اللوم لا يقع على عاتقهما بل ذلك الحقير كان هو السبب فيما حدث، لقد حاول أن يتهجم على فتاة أمام مرأى ومسمع من الجميع ولم يكتفي …هي يكتفي ولا يكتف ؟؟ مجزومة صح ؟؟”
كانت تتحدث بجدية تدرك أنهم يعلمون أكثر منها في تلك الأمور إن كانت تلك لغتهم الرسمية، لكن نظرات الريبة والصدمة حولها والأعين المتسعة التي تحيط بها جعلتها تدور في مكانها وهي تفكر فيما فعلت :
” ايه مش مجزومة ؟؟ ”
كان إيفان يحدق بها في ذهول كبير، كيف تقاطع حديثه بهذه البساطة، ممنوع منعًا باتًا أن يتجرأ أحدهم ويقاطع حديث الملك دون أن يأمره هو بالحديث .
ابتلعت تبارك ريقها تحاول التفكير فيما قالت، هل أخطأت في قول شيء ليرمقها الجميع بهذا الشكل .
فجأة لمحت بطرف عيونها سالار يتقدم للمكان بكل هيبة وقوة لتنتفض وهي تهم بالركض له لتحتمي به، لكن وكأنه شعر بذلك إذ نظر لها نظرة جمدتها يأمرها بعيونها أن تلتزم مكانها جوار الملك، وهو توقف في منتصف القاعة أمام كهرمان وزمرد يقول :
” هل تسمح لي بالحديث مولاي ؟؟”
نظرت له تبارك باستنكار لما يقول، هل هم في فصل دراسي ليستأذن بالحديث، وما كادت تخبره أن يتحدث مباشرة، حتى قاطعها صوت إيفان يقول :
” لك حرية الحديث قائد سالار ”
هز سالار رأسه يقول بصوت هادئ وهو ينظر للجميع قبل أن يرى وجهها الشاحب لا يفهم ما فعلت تلك الكارثة :
” مولاي لقد اكتشفها أن ذلك الرجل الذي تم قتله بواسطة العاملة هو أحد المنبوذين وقد تسلل لمملكتنا خيفة في ذلك اليوم الذي هجموا به وهرب منهم وظل طوال ذلك الوقت هنا و…”
ومجددًا قاطعت تبارك حديثه مستنكرة لما يقول، وقد مثل جهلها بما يدور حولها كارثة ستدفع بها للهاوية :
” أرى أنه ليس من الجيد وصفه بالمنبوذ، هو الآن بين يدي الله حتى ولو أذنب، فلا يجوز لك أن تصفه بهذه الصفة العنصرية و…”
توقفت عن الحديث حينما أبصرت أعين سالار التي اسودت بشكل مرعب، لتنكمش على نفسها تسمع صوت الهادر يقول :
” ذلك الرجل كافر، مغتصب وقاتل، لا اعتقد أن امثال هذا الحقير تجوز عليهم الرحمة مولاتي ”
حسنًا هذا مفاجئ لها، بُهتت وهي تشعر أنها تلقت لتوها صفعة، هي ظنته أحد الرجال الذين راودتهم أنفسهم على ارتكاب معصية، هزت رأسها تهمس بصوت منخفض :
” أوه، هذا يفسر الكثير إذن، لعنة الله عليه ”
ابتسم سالار بسمة جانبية ساخرة، ثم نظر لايفان بنظرات أقرب للتشفي والشفقة، وإيفان المسكين نظر له نظرة المغلوب على أمره يحاول أن يضع لها حجج في رأسه كي يتغاضى عن أفعالها .
” حسنًا بالاستناد إلى حديث القائد سالار وما حدث من قِبل ذلك القذر، فلن تتحمل ايًا منكما عقابًا جراء ما حدث، بل سيتم منحكما مكافأة مالية لإغاثة رفيقة لكما، وكذلك سيتم إسقاط عقاب فتاة الحظيرة عنها ”
اتسعت عيون كهرمان التي كانت تنظر ارضًا تحاول أن تهدأ بعد ما حدث معها، لكن فجأة رفعت رأسها بصدمة تستنكر ما سمعت :
” فتاة الحظيرة ؟؟ هل تمزح معي ؟؟”
اتسعت عين إيفان بقوة وهو ينظر لها بشر بينما هي صُدمت حين سمعت صوت شهقات في المكان لتدرك أن صوتها كان أعلى مما تخيلت .
ابتلعت ريقها تهمس بصوت خافت :
” أقصد أنني شاكرة لك ولكرمك مولاي ”
ابتسمت زمرد بسمة صغيرة، ثم نظرت ارضًا تقول :
” اسمح لنا بالمغادرة مولاي ”
تنحنح إيفان يحاول تمرير ما سمع منذ ثواني، يبدو أن اليوم ليس يوم حظه مع النساء، أشار لهما بكفه أن يرحلا، ثم نظر لسالار وقال بصوت غامض :
” تعلم ما ستفعله قائد سالار ”
هز سالار رأسه بهدوء شديد، ثم غادر دون كلمة أو نظرة واحدة حتى صوب تبارك والتي كانت تلوح له بيدها في محاولة بائسة لجذب انتباهه، تريد فقط أن تخبره بشيء و…
فجأة انتبهت لنظرات الملك المستنكرة لها، وهي ابتسمت بهدوء :
” أنا.. أنا آسفة على ما حدث، لم أكن أعلم ما يدور ومن هم المنبوذون ”
تنهد إيفان بصوت مرتفع ثم قال :
” ملكة تبارك ”
ورغم تعجبها لتلك الكلمة، وصعوبة ابتلاعها لها، إلا أنها اومأت له تنتظر أن يتحدث، ليبتسم هو قائلًا:
” رجاءً تحركي مع الجنود صوب مخدعك، وخذي قسطًا من الراحة حتى موعد الطعام ومن ثم نتحدث، حسنًا ؟!”
هزت رأسها بلا اهتمام :
” وماله، انا اصلا تعبانة ”
” ماذا ؟!”
نظرت له تتذكر كلمات سالار بشأن العامية :
” أقول لا بأس أنا أشعر بالتعب الشديد حقًا و…”
الآن نفذت جميع كلماتها الفصحى، حسنًا لا بأس ستهز رأسها وينتهي الأمر، وهكذا بدأت تهز رأسها له وإيفان شعر بالريبة الشديدة وهو يعود برأسه لخلف ثم ابتسم بعدم فهم لما تفعل :
” حسنًا … امممم ..سيرشدك الجنود لمخدعك ”
وخجلت هي أن تسأل معنى كلمة ( مخدعك ) لكنها خمنت أنها غرفة، لِم لا يقول غرفتك فقط، هل يود التفاخر أمامها بلغته الفصحى ؟؟ لا وألف لا، هي من جيل شباب المستقبل ومن أبناء سبيستون، ستريه كيف تكون الفصحى، لكن حينما تستيقظ لاحقًا، الآن ستذهب لترتاح حتى تستعد للمعركة .
” طيب ”
وبهذه الكلمة تحركت عن مقعدها ترفع رأسها للأعلى تتحرك خارج القاعة دون أن تأبه بأحد حولها، أو تهتم لنظرات من يحيطها، فقط ابتسامة ثقة، ومشية مليئة بالرجولة هي كل ما صدر منها ..
تنهد الملك براحة متنفسًا الصعداء هامسًا :
” الآن فقط أدركت سبب بسمة سالار المتشفية ”
بينما تبارك خرجت من القاعة تشعر بالاختناق الشديد، لقد ملت حياة الملوك والقيود، ملتها قبل حتى أن تبدأها .
تنهدت بصوت مرتفع وهي تلمح رجل ذو شعر اسود وبشرة بيضاء وأعين ملونة يتحرك في الساحة يحمل حاوية سهام خلف ظهره لتتنهد بحنق :
” مش ده قليل الادب اللي زعق ليا الصبح ؟؟ اكيد واحد من رجالة سالار، لازم يعرف أنه قلل من احترامي”
انتبه دانيار والذي كان يتحرك صوب جناح سالار بعدما أرسل له جندي كي يحضره، لها وفجأة توقف حينما رأى الملكة تتحرك أمامه وهي ترمقه بنظرات غير مفهومة جعلته يتحدث بهدوء :
” هل يمكنني مساعدتك مولاتي ؟؟”
رمقته تبارك من أعلى لاسفل بعداء واضح وقبل أن تتحدث سمعت صوت سالار يقول بصوت جهوري :
” دانيار دعك منها وتعال بسرعة ”
راقبت تبارك المدعو دانيار يتركها ويتحرك صوب سالار الذي رمقها بشر قبل أن يختفي داخل المبنى الخاص بالغرف، وهي ما تزال تقف بذهول مما يفعل :
” ده أنا لو قاتلة ليه قتيل مش هيتعامل معايا معاملة العبيد دي، أنا مش فاهمة ملكة ايه دي اللي جايبني عشان اكونها؟؟ ده انا لو هشتغل جارية هنا اكرملي، على الأقل هقبض في الآخر، إنما أنا بتهزق من الرايح واللي جاي ببلاش ”
سارت صوب حجرتها بغضب وخطوات قوية وودت لو تركض بين الطرقات، والحنق يملئ صدرها بقوة وقد شعرت بالنقم من ذلك القائد والآخر دينار أو لا تتذكر ما اسمه، وكذا الملك الذي لا يساعد في اعطائها هيبة مستحقة لكونها الملكة هنا رغم احترامه وتقديره لها…
لعنة الله على مملكة لا تحترم ملكتها، تقسم أنها لو تعرف فقط طريق العودة لكانت عادت .
_____________________
” إذن ماذا ستفعلين ؟! ”
خلعت زمرد ثيابها المزعجة التي تقيدها في الحركة تحتفظ بسروال ضيق وثياب علوية قصيرة بعض الشيء، تتنفس براحة شديد :
” سأذهب لذلك الغبي قائد الرماة وأخبره أن يعيد لي سيفي، فبعد اهدارك لخنجري العزيز على ذلك القذر لم يعد لنا من أسلحة ندافع بها عن أنفسنا ”
نظرت لها كهرمان باعتذار شديد، لكن زمرد ابتسمت وهي تخبرها أنه لا بأس بما فعلت .
بينما برلنت والتي أصرت على أن تنتقل للمبيت في غرفتهم خوفًا أن ينتقم منها ذلك المختل تقول :
” ذلك المدعو دانيار، يا لطيف كم هو مرعب وحقير ”
” نعم برلنت هو حقير، جميع جنود الملك كذلك، وايضًا الملك نفسه حقير ”
كانت هذه جملة زمرد وهي تحرر خصلات شعرها بغضب شديد، بينما هزت كهرمان رأسها تؤيد ما قالته زمرد :
” صحيح الملك حقير، لكنني سمعت أن القائد سالار أفضل منه، دائمًا ما كان اخي يخبرني عنه وعن مروئته وقوته ”
وفورًا ارتسمت بسمة على فم برلنت تقول :
” القائد سالار ؟؟ يا فتاة هو رجل احلام أي امرأة، هو والملك، أنهما رائعان ”
رفعت زمرد حاجبها بسخرية، ثم ألقت نفسها على الفراش تنظر لبرلنت بشك :
” ما الذي حدث لكِ اليوم برلنت بعدما ذهبتي للمشفى ؟؟”
ابتلعت برلنت ريقها تتذكر امساك الطبيب بها في حجرة صانع الأسلحة لتقول بصوت خافت :
” لقد كادت كارثة تسقط أسفل رأسي لولا مساعدة القائد تميم، لا أصدق أنه فعلها لكنه ساعدني على أية حال، حسنًا هو مدين لي بالكثير لقد اخبر الطبيب أنني من وجدته وانتقذته وهو اسقط قلادته وأنا ذهبت لاعيدها ”
صمتت بعدما انتهت من حديثها، لكن بالنسبة لزمرد لم ينتهي الأمر عند تلك النقطة، فاحمرار وجه برلنت يوحي أن ما حدث أكثر من ذلك، لكنها لم تجادلها أو تتدخل أكثر، يكفيها ما تمر به هي .
تحركت صوب النافذة كي تستنشق بعض الهواء النقي وهي تفكر في القادم، ما الذي ستفعله لاحقًا، هل ستستمر حياتها بهذا الشكل الروتيني الممل ؟؟ تحيا وتموت فقط لتعمل كخادمة وتتركهم احياء يتنعمون في رغد الحياة ؟؟
لا والف لا، تقسم أنها ستريهم من الويل ما يشيب الرأس.
ومن بين أفكارها انتبهت زمرد لاجساد ترتدي الأسود بالكامل تتحرك في الظلام بحركات رشيقة، أحدهم يحمل سهامًا والآخر يسبقه بسيوف عدة، والثالث يسحب خلفه سلاسل حديدية
مالت برقبتها تحاول معرفة ما يحدث، لتجد أن هناك ثلاثة رجال صعدوا على الخيل وتحركوا خارج القلعة بسرعة كبيرة .
” ترى ما الذي يحدث هنا ؟”
_________________
هناك حيث تلك الأجساد التي اتخذت الليل ستارًا لهم واتشحوا بالسواد كي يندمجوا به .
ارتجف جسد تميم بقوة وهو يتحسس جرحه الذي ما يزال حيًا، وعيونه تحلق حول سالار بغيظ شديد، غيظ مكبوت من الصعب التعبير عنه، أو يمكن القول من المستحيل التعبير عنه .
لا يتذكر سوى أنه كأي مريض يعاني آلامًا، كان يتسطح على فراشه يفكر في تلك الفتاة التي اقتحمت غرفته، والتي ركضت تختبئ خلفه وتتحامى به من مهيار تهمس له بجزع :
” انتهى امري ”
نظر لها بعدم فهم، ثم نظر أمامه لمهيار الذي كانت عيونه تتعجب وجود امرأة في مشفى الجنود حيث لا يمكن لامرأة أن تتواجد، لكن فجأة شعر بيد تميم ترفع رأسه مبعدة إياها عن تلك الصغيرة خلفه :
” هي جاءت لرؤيتي كي تعيد لي قلادتي مهيار، فهي من وجدت جسدي غارقًا في دمائي وابصرت قلادتي ملقاه جواري، فجاءت لتعيدها ”
ورغم أن مهيار لم يقتنع، كان تميم غير مهتم البتة وهو ينظر لبرلنت خلف ظهره بجدية :
” اخرجي من هنا ولا تخطي هذه المشفى مجددًا لأي سببٍ كان ”
هزت رأسها تركض كالقذيفة ولا تصدق انها نجت، كانت ضربات صدرها تكاد تتوقف من رعبها ..
بينما تميم تابعها بعيون غامضة، ثم صرف مهيار بطريقته وتسطح على فراشه لينال قسطًا من الراحة، لكن وبعد ساعة وحينما بدأ النوم يداعب جفونه، اقتحم سالار غرفته وصفع النوم مبعدًا إياه عنه، وسحب جسده عن الفراش يهتف دون النظر له :
” هيا سنذهب لنأخذ بثأرك ”
وتميم المسكين لم يكن يعي ما يحدث، سوى أن جسده سُحب خارج الغرفة وخرج من المشفى بأكملها، ليجد دانيار ينتظرهم أمام بوابتها يلقي في وجهه ثياب القتال :
” هيا يا فتى ارتدي ثيابك كي لا نتأخر ”
نظر لهما تميم يحاول أن يعلم ما يحدث هنا، لينتبه أخيرًا لثياب سالار القتالية والتي تتألف من بنطال قماشي اسودي وسترة من نفس اللون، ودرع اسود كذلك الذي كان يستخدمه في الغارات الليلة كي لا يعكس الإضاءة كالذهبي ويفضحهم .
وعلى خصره حزام يحوي سيفين.
والعزيز دانيار كعادته يرتدي لثامه وثيابه البنية وعلى كتفه حامل سهام وبين يديه قوسه، وفي اليد الأخرى يحمل سلسلته الحديدية .
ابتسم دانيار يلقي بالسلسة صوب تميم يقول ببسمة :
” هاك سلاحك، القائد سيأتي معنا ليشرف بنفسه على أخذك لثأرك ”
نظر تميم لثيابه ولسلاحه بين ذراعيه :
” الآن؟؟ في هذا الوقت وأنا بهذه الحالة ؟!”
اقترب منه سالار يهتف من بين أسنانه وبالقرب من وجه تميم وبصوت كالفحيح :
” الثأر يفضل أكله ساخنًا، وقبل أن يبرد جرحك، فهمت ؟؟”
هز تميم رأسه بسرعة يردد :
” فهمت ..فهمت يا قائد، سأتناوله مشتعلًا”
وها هو الآن فوق صهوة حصانه يسير مع سالار ودانيار لتناول وجبة ثأره ساخنة كما يقول سالار والذي جُنّ حنونه حين علم باقتحام المنبوذون لمملكة هو بها، أخذ يصرخ حينما علم أنهم يريدون إرسال رسالة لهم ليردد ببسمة مرعبة :
” حسنًا وأنا أيضًا سأرسل لهم رسالة، أنا كذلك لدي أصابع لكتابة الرسائل، ولكن رسالتي ستكون بدمائهم ”
ساعات مرت قبل أن تتوقف الأحصنة على حدود المملكة المشتركة مع مشكى، أشار لهما سالار بالهدوء، ثم بعيونه قام بعمل إشارة لدانيار الذي ابتسم وهو يهبط عن خيله يتحرك بخفة خلف بعض الأشجار وحينما توقف امسك القوس ووضع به أربعة سهام يراقب المنبوذين على الحدود ..
وابتسم بسمة جانبية قبل أن يطلق سهامه بقوة جعلتها تخترق الأجساد مسقطة إياها ارضًا دون حتى أن يستوعب أحدهم طريقة موته .
اتسعت أعين باقي الرجال وقبل أن يطلق أحدهم كلمة واحدة لتحذير الباقيين، كانت سلسال تميم الحديدية تلتف حول رؤوسهم بقوة مرعبة وهو يجذب طرفيها حتى خنقهم جميعًا ..
ظل سالار فوق حصانه يفحص الرجال المسطحين ارضًا، ثم تحرك داخل حدود مشكى، يقول بصوت خافت :
” تناولوا وجبتكم اعزائي، ريثما اكتب لبافل رسالة شكر عن زيارة رجاله الأخيرة ”
ختم كلماته وهو يتحرك بكل هدوء داخل المملكة وقد أنزل قلنسوة رأسه يخفي ملامحه، يبصر بطرف عيونه خيالات تميم ودانيار ..
زاد سالار من سرعة حصانه يقوده صوب قصر ملك مشكى السابق والذي كان رفيقه، لا يدري ما الذي حدث ولم يستوعب حتى الآن صدمته حين اكتشف ما حدث له..
اغمض عيونه بغضب شديد وحسرة ووجع أكبر يتذكر أرسلان العزيز والذي كان صديقًا لهم جميعًا قبل خلافه الاخير مع إيفان والذي أدى لنشوب حرب باردة بين المملكتين .
وجع نخر صدر سالار وبقوة وهو يسمع صوت أرسلان حوله وكأن جدران مملكته أبت إلا أن تحتفظ بصدى صوت ملكها العادل .
” ربما يومًا ما يا صديقي أوافق على منحك جوهرتي الغالية وازوجك شقيقتي الحبيبة”
نظر سالار صوب أرسلان ببسمة جانبية حانقة:
” لا يا عزيزي فلتحتفظ بجوهرتك هنا، فما لي والجواهر أنا، لا قِبل لي بالتعامل مع النساء، فما بالك لو كن كشقيقتك ؟! أنا إن أردت امرأة، اريدها قوية شرسة ولا تخشى سوى الله”
أطلق أرسلان ضحكات مرتفعة :
” إذن علينا أن نبحث لك عن فتاة حرب وليس زوجة، ثم أنا امازحك، فأنا لن اترك شقيقتي تتزوج وتبتعد عني ”
صمت ثوان ثم قال بجدية :
” سأنتظر ذلك اليوم الذي سيأتي فيه فارسًا شجاعًا يلقي سيفه أسفل أقدامي، ثم يركع طالبًا ودّ غاليتي، وفي النهاية ارفضه ”
خرج سالار من ذكريات حينما أصبح على مشارف قلعة مشكى، المكان الذي كان يفتح له أبوابه حينما يقترب منه بأمر من أرسلان :
” رحمة الله عليك وعلى جميع أفراد عائلتك يا صديقي، سأقتص لك، اقسم أنني سأقتص لك منهم اجمعين، عشت رجلًا ومت بطلًا يا صديقي، رحلت شهيدًا فهنيئًا لك الجنة”
ختم حديثه وقلبه يرتجف تأثرًا، ليس من السهل أن يتأثر رجلٍ كسالار بالموت خاصة وهو يرى الجثث في حياته أكثر من رؤيته للأحياء، لكن أرسلان لم يكن رفيق يوم أو حتى عام، أرسلان كان صديقه منذ ثلاثين عامًا، فترة كاملة ليبكي رحيله، لكن لا وألف لا، والله لن تهبط دمعة واحدة عليه حتى يقتص له ويجد جثته التي أخفاها هؤلاء الملاعين ويدفنه وحينها يمكنه أن ينهار باكيًا على قبر صديقه ويرثيه .
تحرك سالار صوب الجزء الخلفي من القلعة، حيث تحيطه أشجار كثيفة، ابتسم يسحب أحد أفرع الشجرة جانبًا ليظهر أمامه بوابة خفية تُستخدم في حالات الطوارئ..
فتح البوابة ودخل للقلعة بكل سهولة ويسر وللعجب لم يعترض أحد طريقه، همس بسخرية لاذعة :
” آهٍ من خنازير أمنوا مكر الأسود .”
تحرك صوب المبنى الرئيسي في القصر وأعينه تلتمع بالشر وهناك بسمة مخيفة ترتسم جانب شفتيه :
” بافل أيها الحبيب، أنا قادم …”
سحب سيفيه يتحرك للداخل وحوله هالة سوداء مرعب، كان كما الموت يسير على قدمين .
توقف أمام بوابة القصر ليجد رجلين أمامه فتعجب من وجود حراس وهو الذي لم يبصر حارسًا واحدًا في طريقه :
” أوه، ما الذي تفعلانه هنا يا رجال، هل أغلقوا البوابة عليكم في الخارج ؟!”
انتفض الرجلان بسرعة كبير وتحركت أيديهم صوب السيوف الخاصة بهم ولم يكد أحدهم يسحب سيفه حتى كانت سيوف سالار تخترق أجسادهم يقول بهدوء :
” تأخرتم في الإجابة …”
سحب سيوفه يمسح دمهم القذر باشمئزاز في ثيابهم، ثم دار حول القصر ليجد ثغرة يدخل منها، وفي هذه اللحظة شكر أرسلان داخله والذي استأمنه يومًا على ثغرات بلاده .
دخل القصر واخيرًا يسير بين ممرات الغرف بكل هدوء وهو يصفر كعادته صفارة تنبأ بالموت، صفارة لا تصدر من فم سالار سوى وقت حضور شياطينه، صغير لقبه البعض في المعارك بـ ( صفير الموت ).
كانت صفارته تصدح بين جدران القصر ليسمعها رجل من رجال بافل ويرتعش جسده بقوة يختأ خلف جدار كالفأر الهارب من قط شرس، يالله هو لا يصدق أنه نجى منه في آخر حرب بينهم، بعدما قتل سالار شقيقه وكاد يقتله هو، لكنه نجى بأعجوبة .
كان صوت انفاس الرجل المرتعبة يصدح في المكان وهو ينظر للممر الرئيسي يبحث عن سالار وقد توقف صوت صفيره، تنفس الصعداء أخيرًا، لكن فجأة سمع صوتًا جوار أذنه يهمس بفحيح :
” مرحبًا …”
اتسعت اعينه ولم يكد يصرخ أو يستدير حتى، يشعر بسيف يمر على رقبته ليسقط ارضًا على ركبته وقد انبثقت الدماء منه كالنافورة، وسالار دفع جسده بقوة، ثم أكمل تحركه داخل جدران القصر وكل من يقابل من الرجال يتخلص منه، الأمر في غاية السهولة، ليس لأن سالار قاتل محترف، بل لأنهم هم من لا يفقهون شيئًا في الأسلحة سوى أنها معدن، لذلك كانوا يخسرون حروبهم بمنتهى السهولة، مشربة ماء .
تحرك حتى توقف أمام بوابة كبيرة، حجرة أرسلان القديمة، ابتسم بسمة جانبية ينظر للحراس على الباب يقول بهدوء :
” إن تركتموني أدخل سأرحمكم ”
نظر الحراس لبعضهم البعض برعب ورغم جهلهم لهوية المتحدث، والذي لم يسبق لهم أن تواجهوا معه في معركة، إلا أن هيئته وصوته وأسلحته التي تقطر دماءً رسمت له صورة مرعبة في هذه اللحظة .
رفع الرجال أسلحتهم في وجه سالار :
” تراجع للخلف واترك اسلحتك ارضًا ”
نظر لهم سالار من خلف قلنسوته، ثم نفذ لهم ما يريدون تاركًا أسلحته ارضًا، يرفع يده في الهواء وهم تقدموا صوبه متخليين عن حذرهم مهددين إياه بعيونهم، وسالار الذي يرفع يديه في الهواء في ثواني استخلص خنجرين من داخل حافظة الخناجر التي يتركها في اكمامه، ليخترق في الثانية التالية أجساد الحراس .
سقط الاثنان ارضًا وسالار حمل سيوفه وتحرك بهدوء صوب غرفة بافل فتح البوابة بكل بساطة ودخل ليراه ينام قرير العين على فراش رفيقه، ينام هانئ البال بعدما قتله بكل دم بارد وأقام مذابح بحق شعبه وجنوده .
اقترب سالار خطوات يهمس بفحيح وصوت منخفض :
” لا، لا تخف لن اقتلك بهذه السهولة، ولن اهاجمك اعزلًا هانئًا، ستكون ميتتك اسوء مئات المرات من ميتة والدك القذر ..”
صمت ثم نظر صوب الرجال الملقيين في الخارج، يبتسم بخبث :
” أنا فقط جئت أرسل لك ردًا على رسالتك التي أرسلتها لنا…”
_____________________
ماذا يفعل ذلك الذي يشعر بالجوع داخل جدران ذلك القصر الواسع ؟؟ تقسم أنها إن فكرت حتى في البحث عن المطبخ فستموت جوعًا قبل أن تجده في تلك المتاهة.
” ليه مثلا ميعملوش تلاجات في الأركان كده زي كولدير الصدقة، بحيث لو حد جاع يلاقي اكل ؟؟”
ختمت تبارك كلماتها وهي تسير بين الممرات، فهي منذ حادثة الصباح وقد سقطت في نوم عميق لم تستيقظ منه سوى منذ دقائق قليلة :
” اكيد طبعا أكلوا كلهم ومحدش فكر يصحيني عشان يسألني لو جعانة أو حاجة ”
هتفت من بين أنفاسها بغضب شديد وهي تحارب ذلك الثوب الطويل الثقيل الذي اضطرت لارتدائه بعدما صادروا ثيابها وهي نائمة :
” معقولة كل مخرجين الافلام معرفوش يجسدوا حقيقة معاملة الملكات في العصور القديمة، وقعدوا يعرضوا لينا مشاهد خادعة للناس وهي بتحترمها وتقدرها، وانا هنا ناقصني بس انضرب بالجزمة عشان تكتمل المهزلة ”
توقفت عند مفترق طرق في القصر وضيقت عيونها تنظر يمينًا ويسارًا تفكر أي الطرق تسلك، وفي النهاية اخذت نفس عميق وقررت أن تستخدم عقلها وحدسها وفورًا رفعت إصبعها تقول :
” حادي بادي كرنب زبادي ..”
وبالتزامن مع نطقها لتلك الكلمات سمعت صوتًا هادئًا يصدر من الخلف :
” اليسار يؤدي لمساكن العاملات، واليمين لباقي القصر والمخرج، أين تريدين الذهاب أنتِ ؟!”
انتفض جسد تبارك تنظر خلفها صوب صاحب الصوت والذي لم يكن سوى إيفان والذي عاد لتوه من جولة سريعة على حصانه قبل خلوده للنوم .
ابتلعت تبارك ريقها تشعر بالتوتر الشديد من وجوده في محيطها ولا تدرك السبب، ربما لما حدث في الصباح ورؤيتها لوجهه الآخر، أم لأنه الوحيد الذي يعاملها كملكة هنا ؟؟
” أنا.. أنا فقط كنت ..في الحقيقة شعرت بالملل وخرجت لاستنشاق بعض الهواء مولاي ”
ختمت جملتها تنظر ارضًا بهدوء ورقي كما فعلت تلك الفتاة صباحًا في المحكمة، لا ريب أن تقلدها قليلًا كي تتماشى مع الأمور حولها .
ابتسمت إيفان لها يقول بهدوء شديد :
” إذن لن تمانعي مرافقتي لكِ في جولة قصيرة داخل القصر ؟؟”
ودت لو تصرخ وتقول أن مخزون الطعام داخل معدتها لا يكفي لخطوتين، ومن بعدها ستفقد كل ذرة طاقة داخل جسدها، لكنها رغم ذلك ابتسمت تهز رأسها:
” بالطبع لا أمانع مولاي ”
وبحركة غبية ظنتها هي راقية أشارت له بيدها مبتسمة :
” من بعدك مولاي ”
نظر لها إيفان بتشنج وقد اتسعت عيونه وهو يراها تميل بنصف جسدها تدعوه هو أن يسبقها، أليس من المفترض له أن يفعل هو ذلك ؟؟
وتبارك التي استوعبت فجأة ما فعلت قالت :
” أنت اللي بعدي صحيح ؟؟”
نظر لها بحاجبين معقودين بعدم فهم، وهي ضمت قبضتها أمام فمها تقول بصوت منخفض :
” كنت امزح، هيا اتبعني ”
سارت تسبقه بسرعة وهو يراها تسير نفس تلك المشية الغريبة ليقلب عيونه تابعًا إياها بسرعة يدعو داخله أن يلهمه الله الصبر .
جلس الاثنان في حديقة القصر الخلفية على طاولة أسفل القمر لتشرد تبارك في هذه الحياة، يا الله هي لا تصدق أنها الآن في موعد غرامي مع ملك، ملك وهي ملكته ؟؟
أفاقت فجأة على صوت الملك يقول :
” إذن ملكة تبارك هل يمكنك أن تحكي لي عن حياتك ؟؟ ومهاراتك وكل ما تعلمينه من هذه الحياة ”
نظرت له تبارك ثواني تتعجب سؤاله :
” هكذا وبدون مقدمات ؟؟ أنت حتى لم تمنحني فرصة التعرف عليك كي امنحك ثقتي واخبرك كل شيء بخصوص حياتي ”
اتسعت عيون الملك من حديثها، هل تظنه جاء ليرافقها ؟؟ تلك الفتاة أمامه لا تستوعب أنه وخلال أيام سيتم زواجهما وتنصيبها بشكل رسمي كملكة ؟؟
وقبل أن يخبرها بكل ذلك تنهدت تبارك وهي تعود بظهرها على المقعد :
” لكن ولأنك سألت، وكما يظهر عليك أنك شخص جيد، سأخبرك، بدأ الأمر حينما ولدتني أمي في ليلة ممطرة …”
وهكذا وجد إيفان نفسه مجبرًا للجلوس وسماع قصتها بأكملها منذ كانت رضيعة، ومشاكلها مع الإبر الطبية، وأم أنور جارتها ونساء المنطقة التي كانت تقطن بها .
وبالطبع تلاشت تبارك الجزء المظلم من طفولتها وحياتها، فلا هي تحب تذكره ولا تهوى الحديث عنه .
كان يسمعها وهو يبتسم دون شعور وهي تحرك يديها تصف له كل شيء ليضحك إيفان دون شعور منه عليها
وبعد ساعات طويلة أخذت تبارك نفس عميق تختم قصتها :
” وبهذا الشكل وجدت نفسي اقف أمام ابواب القلعة مع القائد بعدما ودعنا صامد وصمود ”
ابتسم لها إيفان يتابع حركات يدها الغريبة، يقول بتسائل :
” قصة مشوقة حقًا، لكن أعتقد أن هناك شيء فاتك، أنتِ لم تذكري لي شيئًا بخصوص مهاراتك القتالية ؟!”
” أي مهارات قتالية تلك ؟! أنا ولدت في حارة وليس في ساحة حرب، أنا فتاة سلم يا سيدي ”
رفع إيفان حاجبه بعدم فهم :
” ونحن لسنا دعاة حرب مولاتي، لكن رغم ذلك نحن نستطيع القتال ونعلم من فنون القتال ما يعجز العقل عن تصوره، وبصفتك ملكة فأنتِ مكلفة أن تتعلمي فنون القتال المختلفة، وهذا ضروري ”
نظرت له تبارك بملامح حانقة رافضة، لكن رغم ذلك تنهدت بصوت مرتفع تود أن تخبره أن هذا ما تعلم وإن لم يعجبه فليعيدها إلى منزلها، لكن ما صدر من إيفان هو أنه تنهد فقط يقول وقد توقع الأمر مسبقًا
” حسنًا لا بأس أنا سأتدبر أمر كل ذلك وفي اسرع وقت قبل التتويج، والآن دعينا نعود للغرفة كي لا يصيبك برد بسبب الطقس هنا ”
تحركت معه تبارك تتمتم داخلها بتعب وإرهاق شديد وهي لم تتناول طعام حقيقي منذ بداية رحلتها التي اعتمدت خلالها على القليل فقط من الطعام المعلب كالتسالي ورقائق البطاطس .
وصلت تبارك لجناحها، ثم شكرته تدخل له، وهو تحرك صوب جناحه، وبمجرد أن أبتعد عن غرفة تبارك حتى فتحت الأخيرة الباب مبتسمة تتحرك للخارج بهدوء …
____________
بينما إيفان لم يذهب صوب جناحه بل تحرك جهة ساحة التدريب فقط كي يشغل تفكيره عن كل ما يؤرق عقله، وينتظر عودة سالار ودانيار وتميم .
حمل سيفه ينظر له ثم ابتسم فجأة بسخرية حينما تذكر كلمات سالار له، هل حقًا تضائلت قدراته القتالية أم أنه فقط يزعجه ؟؟
حرك إيفان السيف في الفراغ ببطء يستمتع بصوت اصطدامه بالهواء حوله وكأنه يقاتله، رفعه في الهواء يحركه بقوة يتخيل عدوًا وهميًا أمامه، لكن فجأة سمع صوت خطوات خلفه، هناك من يقترب منه، وفي ثواني قليلة استدار إيفان بسرعة يرفع سيفه موجهًا إياه على المتسلل لتشتد حدة عيونه وهو يرى نفس العيون التي جابهته تلك المرة دون اهتمام لكونه الملك، ابتسم إيفان بسمة واسعة غريبة :
” انظري لتدابير القدر، منذ لحظات فقط كنت أبحث عن عدو يبارزني ”
ابتسمت له كهرمان من خلف لثامها، ثم رفعت سيفها تضعه على سيفه الذي رفعه في وجهها تبعده، ومن بعدها مالت بشكل خفيف له تقول بصوت حاولت تغييره كما حدث المرة السابقة كي لا يتعرف عليها :
” لي الشرف أن تتخذني عدوًا مولاي ..”
وبهذه الكلمات أعلنت كهرمان بدء حرب أخرى بعدما ابصرته يسير صوب الساحة منذ دقائق لتشعل رغبة عميقة في اذيته داخلها، فارتدت ثياب الجنود التي احتفظت بها منذ آخر مرة وركضت له ..
آه تلك الفتاة ايًا كانت هويتها، تدفع داخل صدره متعة لا حدود لها، رفع سيفه يلوح به في قوة كبيرة، ثم أشار بأصبعه لها :
” أرني ما لديكِ يا امرأة..”
___________________________
وصل سالار حيث تميم ودانيار ليجد أن الاثنين قد أحدثا فوضى كبيرة في طرقات المملكة بعدما تخلصوا من نصف رجال بافل المنتشرين في المملكة .
ابتسم وهو يرى تميم يلف السلسلة المعدنية الخاصة به حول رقبة أحد الرجال، ليقول بهدوء :
” هذا هو تميم ؟؟”
ابتسم له تميم ورغم وجع خصره إلا أنه زاد من اشتداد الحلقات المعدنية حول رقبته يهمس له بفحيح :
” نعم هو ذلك القذر قائد ”
” إذن خذ قصاصك ولا تزد عنه ”
ترك تميم الرجل ليسقط ارضًا يلتقط أنفاسه بصعوبة وهو يحاول أن يزحف بعيدًا عنهم، بينما دانيار يستند على أحد الجدران يراقب ما يحدث باستمتاع شديد .
أخرج سالار خنجرين من ثيابه يمدهم صوب تميم :
” هيا عزيزي خذ قصاصك منه وعرفه كيف يتجرأ ويلمس أحد رجالي ”
وبمجرد انتهاء كلمات سالار انطلق خنجر يشق طريقه صوب قدم الرجل لترتفع صرخاته الموجوعة ويرن صداها في هذا الليل الهادئ، حتى أن أحد سكان المدينة فتح باب منزله برعب ينظر حوله ليبصر ذلك المشهد أمامه وتتسع عيونه .
استدار له سالار نصف استدارت يقول ببسمة صغيرة :
” مرحبًا يا عم، نعتذر على ازعاجك في هذا المساء، رجاءً عدم للنوم ولن نزعجك ”
ارتجف الرجل وكاد يصرخ رعبًا لكن حينما أبصر ثياب الرجال المتراميين ارضًا وتعرف عليهم، رفع عيونه بسرعة صوب سالار يهمس بصدمة :
” من أنتم ؟؟ أنتم لستم رجال بافل ؟!”
قال دانيار بهدوء وهو يتحرك صوب الرجل يشير له بدخول المنزل :
” بل نحن رجال سفيد يا عم، والآن عد للداخل رجاءً فلن تحب ما ستراه ”
سقطت دموع الرجل وهو ينظر للرجال، ثم تحرك خارج المنزل بسرعة يقف أمام سالار يقول بصوت خافت، صوت موجوع، صوت من فقد حيلته، اللهفة غطت على صوته حتى جعلت نبرته غير واضحة بشكل كامل :
” أنتم رجال مملكة سفيد ؟! جئتم لمساعدتنا ؟؟ رجاءً ساعدونا، لقد …لقد أحدثوا منذ يومين مذبحة ذهب ضحيتها نصف شباب المملكة و…..”
صمت يبكي بعجز شديد، أن يطالب بالمساعدة، وإن تتملكه قلة الحيلة لهو عارٌ أبت نفسه أن تحمله، لكنه أوشك على فقدان الأمل، لا يدري متى وكيف حدث كل ذلك، في يوم وليلة انقلبت الأحوال بهم، ليعيش الشعب اسوء اختبار قد يحياه انسان يومًا :
” لقد اعتدوا على نسائنا بعدما كبلونا، وقتلوا العديد من الرجال، كل هذا لأننا ثرنا، نحن لم ننيأس والله، لكن ذلك الطاغية لم يدع لنا سلاحًا ندافع به عن أنفسنا ومنازلنا سوى الايمان، لقد ابادوا العديد من رجال العاصمة وأخذوا الكثير من الأطفال دون أن نعلم غرضهم أو مصيرهم ”
اتسعت أعين سالار بقوة مما سمع وقد بدأ جسده يشتد وملامح وجهه لا تبشر بالخير، حدق دانيار لوجه سالار بصدمة مما سمع، هم لم يصل لهم ايًا مما حدث، فلا أحد يخرج من المملكة ولا رجل يدخلها .
ابتلع سالار ريقه يتماسك قدر المسطاع، مذكرًت نفسه بأهوال كثيرة رآها سابقًا، ثم مال يقبل رأس الرجل يربت عليه :
” لا تقلق يا عم موعدهم قريب، صدقني سيأتي يومٌ يشهد به رجال مشكى نهاية هذه الطاغية، وسنشفي صدروكم اجمعين، حينها سأخذك بنفسي لتقتص منهم بيديك، وهذا وعدي، وسالار لا يخلف وعده ”
شهق الرجل يردد بصدمة وهو يحدق في وجه سالار بأعين دامعة، يتذكر هذا الاسم، يعرفه جيدًا ليس لشيء سوى لقربه من ملكهم قديمًا :
” سالار … أنت القائد سالار صديق الملك أرسلان ؟؟”
هز سالار رأسه، وحتى البسمة كانت صعبة عليه في تلك اللحظة، بافل بدأ رحلته في التطهير العرقي لشعب كامل، من جانب يقتل رجالهم، ومن ناحية أخرى يعتدي على نسائهم ليزرع بذور شعبه الفاسدين داخل رحمهم ويزيد من أعدادهم، ويختطف أطفالهم لسبب لا يعلمه إلا الله، هو يحاول بناء مملكة له على اطلال مشكى وانقاض شعب مشكى .
” صبرًا يا عم …صبرًا، إن نصر الله لقريب ”
____________________
تتحرك في الساحة وتدور حوله وكأنها تبحث لها عن ثغرة تهجم منها، وهو متوقف في منتصف الساحة مبتسمًا يراقب ظلالها التي تتراقص ارضًا بفعل المشاعل خلفها .
كان يدقق النظر في عيونها الساحرة يشعر بأنها مألوفة له، مألوفة كما لو أنه عاش عمره بأكمله يراها أمامه طوال الوقت.
وقبل أن يخرج إيفان من شروده بعيونها وجد سيفها يستغل حالته تلك بكل خبث ويباغته من الاعلى، ليميل بظهره في سرعة كبيرة للخلف وهو يتصدى لسيفها بسيفه .
ثم نظر لها يراها تشرف عليه وهناك انعاكس لبسمة في عيونها، اعتدل بسرعة كبيرة متسببًا في عودتها للخلف وهو يحرك سيفه بين يديه بكل مهارة :
” لا بأس بكِ سيدتي”
سمع صوتها يصدح في المكان باعتراض وحنق شديد :
” بل مستواي أفضل من أن يوصف بـ ( لا بأس ) مولاي، أنت فقط من لا تحب الاعتراف بذلك ”
أطلق إيفان ضحكات صاخبة قبل أن يتوقف فجأة وفي ثواني كان يباغتها بسرعة كبيرة حتى أنها كادت تسقط ارضًا لولا توازنها في الثانية الأخيرة .
نظر إيفان لحالتها بسخرية لاذعة :
” لا سيدتي مازلت عند رأيي، حتى أن وصف ( لا بأس) لهو كرم مني لا أكثر”
عند هذه الكلمات اشتد غضب كهرمان لتنتفض راكضة صوبه وهي ترفع السيف ليستلم هو سيفها وتبدأ معركة بينهما، معركة يستمتع هو بها ولا يدري السبب، وتفرغ هي فيها كامل حقدها وغضبها من ذلك الملك الحقير الذي تسبب في مشاكل لشقيقها قديمًا بسبب اتهامه زورًا بتهمة شنيعة ولم يضع اعتبارًا لصداقتهم .
كان إيفان يتخذ دورًا دفاعيًا فقط دون أن يحاول الهجوم وهو يراقب حركاتها التي توحي بمقدار غضبها الشديد، ليبدأ إيفان بالشك، هذا الغضب والحنق الذي يلتمع داخل عيونها لا يمكن أن يكون طبيعيًا، حسنًا وجودها في هذا الوقت تحديدًا لمبارزته ليس طبيعيًا .
” على رسلك سيدتي فالغضب لا يليق بالنساء الرقيقات ”
استفزها إيفان بتلك الكلمات وهي ما تزال توجه له ضربات قاسية، لكن ايًا منها لم تفي بالغرض، فتعليمها المبارزة كان مجرد تعليم من باب الواجب لأنها أميرة ويومًا ما ستصبح ملكة، لكن هذا الشخص أمامها فهو محارب قبل أن يكون ملك، لذا شتان بينهما …
وحينما تعبت كهرمان من كل ذلك توقفت كي تلتقط أنفاسها وبعدها تعود للقتال .
لكن إيفان قال ببساطة :
” انتهيتي ؟؟ الآن دوري ”
وقبل أن تستوعب ما يقصد كان يهجم عليها بكامل قوته لتسارع هي في الدفاع وهي تشعر بالرعب من تحوله، كان يقاتلها وكأنه في حرب حقًا ..
وفجأة وفي غمرة انشاغلها بالدفاع لم تنتبه لذلك الحجر خلفها لتتعثر به ساقطة ارضًا بقوة تطلق صرخات مرتفعة، لكن إيفان لم يهتم وهو يسقط سيفها ارضًا مبتسمًا :
” عليكِ التفكير مئات المرات قبل تحديكِ لرجل، وآلالاف المرات إن كان هذا الرجل أنا يا صغيرة ”
تنفست كهرمان بصوت قوي وهي تنظر لعيونه بنظرات جعلته يبتسم وهو يميل جالسًا القرفصاء :
” أخبرتك أن عيون القطط تلك لا تؤثر بي مقدار شعرة واحدة ”
مد يده صوب لثامها ينتوي كشف هويتها تلك المرة ومعرفة من تلك التي تنظر له بكل ذلك الغضب والكره، لكن قبل أن يفعل كانت يد كهرمان تلقي في وجهه حفنة من الرمال ليتراجع للخلف صارخًا بغضب، وهي نهضت تمسك السيف، ثم نظرت له ثواني تهتف بصوت مرتفع :
” لنا لقاء آخر مولاي ”
وهكذا ركضت وهي تطلق ضحكات، فهي اليوم انتصرت لسماعها صوت صرخات الملك، حتى لو لم تكن تلك الصرخات جراء قتالها بل بسبب خدعتها فلا بأس .
نظرت للخلف لتراه ما يزال يقف في منتصف الساحة يراقب رحيلها دون أن يتحرك أو يحاول اللحاق بها .
ابتسم إيفان بسخرية، فمن هي ليركض خلفها، يومًا ما ستقع في يديه وحينما سيريها كيف تتجرأ وتفعل به ما فعلت .
” لنا لقاء يا صاحبة الأعين القططية..”
_____________________
وصل الجميع بعد ساعات للقصر ليذهب كلٌ لحجرته، أشار سالار لتميم صوب المشفى يقول بجدية :
” اذهب أنت للمشفى تميم، فأنت ما تزال جريحًا ”
أطلق تميم صوتًا حانقًا من حنجرته يتحرك صوب حجرته ساخرًا :
” الآن تذكرت أنني جريح ؟؟ أوتعلم، سأذهب لغرفتي ولا اريد لأحد أن يقترب منها حتى أقرر أنا الخروج ”
وبالفعل تحرك لكن صوت سالار تبعه بكل هدوء :
” طالما أنك عدت لغرفتك، إذن أنت أصبحت بخير، غدًا تكون في ساحة التدريب ”
نظر بعدها لدانيار متجاهلًا صيحات تميم المعترضة والمستنكرة :
” وأنت كذلك دانيار أذهب للراحة، فغدًا أمامنا يومًا طويلًا”
” ماذا عنك يا قائد ؟!”
تحرك سالار في اتجاه معاكس لجناحه يقول :
” أنا سأذهب للعريف، احتاجه في أمر هام..”
وهكذا رحل بساطة وهو يمسح وجهه يأبى الراحة قبل أن يضع في رأسه على الأقل حدًا لما حدث بسكان مشكى، وهذا الحد لن يحدث سوى عندما يـ…
فجأة توقف في منتصف الممر بعدم فهم، حينما أبصر جسدًا منكمشًا في ركن من أركان الممر ..
تحرك ببطء صوب ذلك الجسد والذي كان جسد امرأة مما يتضح أمامه من هيئتها وثوبها، ضيق عيونه يحاول معرفة من تلك وماذا تفعل هنا .
اقترب بريبة شديدة يلحظ غياب الحراس في هذا الممر الذي يؤدي لمكتبة العريف .
جلس القرفصاء أمامها ينظر لها جيدًا، ثم نادى بصوت منخفض مخافة أن تستيقظ فزعة، لكنها لم تتحرك، وهو بالطبع لن يلمسها، لذلك اختار اسلم الحلول وهي أن أخرج خنجرًا واستعمل جزءه الخلفي ينغز به كتفها :
” أنتِ يا امرأة ما الذي تفعلينه هنا في هذا الـ …”
وفجأة سقطت رأس تلك المرأة عليه كالجثة، واستقرت أعلى قدمه لتتسع أعين سالار وهو يتنفس بصوت مرتفع مرددًا :
” يا الله يا رحيم …”
نظر للاسفل يحاول أبعادها مستخدمًا الخنجر الخاص به، فقد بدأ يدفع رأسها عن قدمه باستخدام الخنجر :
” هييه هل أنتِ حية ؟؟ ”
وصوت انفاسها اخبره أنها كذلك، لذلك رفع الخنجر بكل غضب وود لو غرزه في ظهرها، لكنه استغفر ربه، يحاول الحديث، لكنها لم تسمع له، لذلك رفع يده في الهواء ثم ودون مقدمات ضرب رأسها بالخنجر لتسقط ارضًا بقوة وتعلو صرخات نسائية في الممر .
وهو لم يهتم بها، بل كان جُل ما يفكر به أن هذه المرة الثانية التي تتجرأ امرأة على لمسه غير والدته، الاولى كانت الملكة والثانية كانت وللعجب…….. الملكة ؟؟؟؟؟؟؟؟
________________
ربما هي بداية، وربما كان هدوءً، لكنه بالتأكيد كان هدوء ما قبل العاصفة …
دمتم سالمين
رحمة نبيل
يتبع…
وضعت لثامها تخفي وجهها قدر الإمكان، ترغب في ممارسة عادتها الليلة وتتدرب، فلا تعلم متى تصرخ الحرب باسمها لدعوتها نحو الساحة، ومتى تحين العودة للقصاص، لكن …
هي لا تمتلك سلاحًا كي تتدرب به، فسيفها الوحيد والذي فازت به بعد معركة طاحنة وعن جدارة، أخذه ذلك المسمى دانيار والآن عليها استعادته ولو كلفها الأمر حياتها، هذا السيف لن تتخلى عنه لأحد، فهو حقها هي، أخذته من فم الأسد ولن تلقي به بين مخالب ثعلب كذلك الرامي.
تحركت بخفة كبيرة وهي تتنقل بين ممرات القصر دون أن ينتبه لها أحد، تبتسم بسمة واسعة ترى جميع الحراس منتشرين في كافة أركان القلعة :
” يبدو أن الأمر هنا أصعب مما توقعت ”
أخذت زمرد حذرها، ثم بدأت تتنقل بين الممرات بشكل خفي تعلم وجهتها جيدًا …حجرة القائد دانيار .
وفي حجرة دانيار ..
كان الاخير يتحرك بنزع ثيابه ليأخذ حمامًا دافئًا بعد معركة طويلة في مملكة مشكى، نظر لثيابه التي تلوثت بالدماء بملامح حانقة :
” هذا لن يزول بسهولة، سترة أخرى ذهبت ضحية المتعة ”
خلع سترته يلقيها ارضًا بإهمال شديد، ثم سار صوب المرحاض الخاص به يغلق بابه في الوقت الذي ظهر خيال اسود أعلى نافذة الجناح بعدما اتخذت زمرد اسهل الطرق للدخول متلاشية الحراس أمام الجناح .
ابتسمت باتساع تسمع صوت المياه الجارية داخل المرحاض، قفزت داخل الغرفة بخفة شديد، ثم ركضت تتحرك في كل مكان باحثة عن سيفها، بدأت بخزانة الثياب الخاصة به .
تبحث بسرعة وهي تنظر خلفها كل ثانية والأخرى، تبتلع ريقها بريبة شديد خشية أن يخرج أثناء بحثها .
وحينما فشلت في إيجاده داخل الخزانة، ركضت بسرعة تبحث في كل مكان، أسفل الارائك وفي حافظة الأحذية الخاصة به، حتى شعرت باليأس من إيجاده، رغبة عارمة بالصراخ أصابتها، يالله ليس سيفها العزيز، ليس ذلك السيف، هل …هل يمنكها العودة لحجرتها وغدًا تطالبه به بكل ود وبالطرق السلمية العادية ؟! أم أنه سيكون من الغلظة ليرفض؟!
وبحسبة سريعة ومرور سريع على تصرفات دانيار معها، رجح عقلها الخيار الثاني، هو لن يعيد لها شيئًا، خاصة وأن القوانين تمنع حمل الأسلحة الحادة للعاملين من غير الجنود .
زفرت تحاول ايجاد حل، حتى شعرت باليأس لتقرر الخروج بسرعة قبل خروجه هو من المرحاض .
لكن بالإستماع لصوت تحريك مقبض الباب شعرت بقلبها يكاد يتوقف، ودون حتى أن تستوعب ما يفعل جسدها كانت تلقي نفسها ارضًا تتدحرج لاسفل الفراش بسرعة كبيرة تكتم نفسها .
خرج دانيار من المحرض يلف منشفة حول خصره يتعجب تلك البرودة التي ملئت حجرته، لمح النافذة المفتوحة ليضيق ما بين حاجبيه بتعجب، تحرك صوبها كي يغلقها لكن فجأة توقفت يده عما يفعل ثواني وتحركت عيونه في المكان، ثم أغلق النافذة ببساطة شديدة …
تحرك دانيار حول الفراش يميل بنصف جسده العلوي كي يلتقط سترته الملوثة ليلقيها في سلة الملابس، بينما أنفاس زمرد كادت تتوقف، حاولت أن تعود بجسدها للخلف كي لا يلمح خيالها أسفل الفراش .
و دانيار التقط السترة بهدوء شديد يبتسم بسمة صغيرة، ثم تحرك يلقيها في السلة الخاصة بها، وقف أمام الخزانة يخلع المنشفة، يرتدي بنطال قماشي، ثم سترة أخرى منزلية مريحة، وما كاد يبتعد حتى أبصر المنشفة ارضًا ليميل يلتقطها بهدوء، وزمرد تكاد تسقط في اغماءه من شدة رعبها وضربات قلبها مع كل مرة يميل ارضًا ..
” يالله رحمتك ”
وبمجرد أن التقط دانيار المنشفة تنفست الصعداء، لكن لسوء حظها سقطت من يده بالخطأ مجددًا، ليميل مرة أخرى وتكتم أنفاسها برعب :
” أيها الحقير، قلبي سيتوقف رعبًا، ألن ينتهي هذا ؟؟”
ألقى دانيار المنشفة في سلة الثياب، وبعدها تحرك صوب المرآة التي تتوسط الجدار يمسك عبوة من الدهان الخاص بالجروح ..
وبدأ يمرر إصبعه على جروحه التي أُصيب بها خلال المعركة، لكن سقطت العلبة منه لتتدحرج بسرعة كبيرة صوب الفراش … أو هو من أسقطها عمدًا .
ابتسم دانيار بخبث شديد يتحرك صوب الفراش متظاهرًا بالبراءة في افعاله، يميل بنصف جسده يبحث عن العلبة والتي كانت بالتحديد جوار جسد زمرد، وزمرد في تلك اللحظة كانت ترتجف من الرعب .
مدت أصابعها الطويلة تدفع العلبة بخفة صوب يد دانيار كي لا يضطر للنظر أسفل الفراش، وحينما امسكها تنفست الصعداء وهو ابتسم يقول بهدوء معتدلًا :
” شكرًا لكِ ”
ابتسمت زمرد براحة تلقي رأسها ارضًا كي تتنفس واخيرًا براحة :
” العفو ”
لكن ما كادت تستوعب ما حدث، وقد اتسعت عيونها بشدة، حتى سمعت صوتًا جوارها يهمس بصوت خافت :
” مرحبًا ”
انطلقت صرخة مرتفعة من فم زمرد التي انتفض جسدها برعب وصدمة لتصطدم رأسها في الفراش، ولم تعطي لنفسها حتى حق التألم لتلك الضربة، إذ بدأت تزحف للخلف وهي ترى جسد دانيار يشاركها أسفل الفراش وعيونه تلتمع بسواد مخيف .
حاولت أن تتنفس، لكن رؤيته بذلك الشكل وتلك الهيئة جعلتها تسارع للخروج من أسفل الفراش، ودون أن تتوقف لحظة تحركت صوب النافذة راكضة، مدت يدها تفتحها، لكن شعرت بسيف يوضع على ظهرها وصوت دانيار يردد :
” يبدو أنكِ لن تتوقفي حتى تسيل دمائك على سيفك العزيز ”
تنفست بصوت مرتفع وهي تغمض عيونها بقوة، ثم استدارت صوبه ببطء ترفع يديها في الهواء، وفي ثواني كانت يدها تمتد لتختطف السيف من يد دانيار، لكن دانيار لم يكن بالابله، إذ تدارك سريعًا ما تريد فابتعد عنها بسرعة كبيرة ليتهاوى جسد زمرد ارضًا وتعلو صرخاتها في المكان بأكمله، تنفست بعنف وهي ساقطة ارضًا والسيف على ظهرها وصوت دانيار يقول :
” كلمة أخيرة ؟؟؟”
__________________________
هل كُتب عليه أن يكون هو مرمى جسد تلك المرأة في كل مرة تسقط ؟؟ تنفس سالار بصوت مرتفع يحاول أن يرى إن كانت بخير باكثر الطرق لطفًا، مذكرًا نفسه أنها وللأسف الشديد الملكة هنا، مهلًا للمرة الكم يذكر نفسه بهذا الشيء ؟!
كانت تلك الأفكار تدور داخل رأس سالار بقوة وكأنها تتنافس على من يتسيد تفكير، بينما تبارك تضع رأسها على الأرض تتألم من السقطة، بل وبدأت تخرج اصوات حانقة وسبات لا تصل له .
مسح سالار وجهه، ثم مرر يده في خصلاته الصهباء يبعدها عن عيونه ليرى ما حدث لها، زفر يحمل خنجره يضعه أسفل رأسها، ثم ببطء رفعه واعلاه رأسها يبعد رأسها عن الأرض بكل هدوء وبمجرد أن
رفعها نظر لها بريبة أن تكون قد تأذت بسببه خاصة أنها لم تنطق بكلمة حتى الآن، وحينما اطمئن أنها بخير سحب الخنجر ليسقط رأس تبارك مجددًا ارضًا بخفة لصغر المسافة بينه وبين الأرض .
لكن تلك السقطة كانت أكثر من كافية لينتفض جسد تبارك وتعود للخلف بسرعة تتحدث بغضب شديد :
” ايه يا اخي، فيه ايه ؟؟ مستكتر عليا لحظات الوجع اللي بعيشها ؟!”
كانت تتحدث وهي تمسح فمها في عادة منها بعد استيقاظها مخافة أن يكون لعابها خرج دون وعي ..
وسالار يراقب كل ذلك بأعين حانقة مغتاظة:
” ما الذي تفعلينه في هذا الوقت ؟! خارج غرفتك وفي هذه الممرات ؟!”
نظرت تبارك حولها تتأكد من حجابها وقد تحقق كابوسها وهو أن يراها نائمة بشكل فوضوي غبي، هذا الرجل لا يراها سوى في اسوء اسوء حالاتها.
نظرت له تقول محاولة تذكر ما تريد :
” أنا كنت …كنت جعانة ولما خرجت معرفتش اوصل المطبخ، وتوهت وبعدين معرفتش اروح فين، دورت على حد لكن مفيش جنود هنا خالص تقريبًا راحوا يناموا، بعدين ملقتش حل غير اني اقعد استنى حد يعدي يرجعني الاوضة بتاعتي، وشكلي كده سقطت في النوم ”
ختمت حديثها بكلمات خجلة وهي تمسح عن وجهها أي علامات نعاس أو نوم، تشعر بالخجل من حالتها أمامه.
وسالار الذي كان يستمع لكل تلك الكلمات المتدفقة من فمها، لا يصدق حقًا مقدار البساطة التي تتحدث بها، الملكة تنام بين ممرات القصر لأنها لم تستطع العودة لجناحها، حادثة فريدة من نوعها .
تنفس بصوت مرتفع ثم قال :
” هل أنتِ بلهاء ؟؟”
ولم يكن من تبارك سوى الإجابة بكلمات بسيطة :
” الله يسامحك ”
” أيتها الغبية تنامين في مكان مكشوف لأي حقير قد تسول له نفسه قتل الملكة، تنامين في الممرات دون أن تعبأي لأي شيء ؟؟ أنتِ الملكة .. الملكة، هل من الصعب عليكِ فهم ذلك ؟!”
” لا من الصعب عليك أنت مش عليا، بدل ما تفضل تقول اني الملكة قول لنفسك وللي شغالين معاك، أنا محدش بيحترمني في المكان ده غير الملك الله يباركله ويعمر بيته، قعد معايا وكان زي البلسم، إنما أنت اللهِ لا تكسب ولا تربح دايمًا تطلع فيا القطط الفطسانة كده ”
كان حديثها جديًا غاضبًا منه، ابتسم سالار بعدم تصديق، هل تقارنه الآن بالملك ومعاملته لها؟؟ هل هي حانقة لأنه يتعامل معها بشكل طبيعي كما يتعامل مع باقي البشر ؟!
كاد يتحدث ليبرر لها الأمر، لكن فجأة توقف يقول بعدما استوعب ما قالت :
” هل قمتي بالدعاء عليّ للتو ؟؟”
نظرت له تبارك دون أن تهتم بالرد عليه، تنهض عن الأرض تنفض ذلك الفستان الغبي الذي ترتديه :
” قوم رجعني الاوضة بتاعتي عايزة انام ”
نظر لها سالار وهو ما يزال جالسًا ارضًا، بينما هي تنظر لها من علوها بتكبر لا تهتم لنظرات سالار المصدومة وهو يحاول أن يستوعب أنها للتو أمرته بكل تكبر، وهو الذي حتى الملك يتحدث معه بكل الاحترام لفرق العمر بينهما والذي يصل لثلاثة أعوام ..
وتبارك لا تهتم بكل ذلك فقط تضع يديها في خصرها تنتظر منه أن ينهض لينفذ أوامرها :
” ايه هفضل مستنية كتير ؟؟ ”
نهض سالار بقوة وبسرعة كبيرة، مما جعل جسد تبارك يتراجع بسرعة كبيرة للخلف بردة فعل طبيعية تضع يديها أمام وجهها بخوف منه، وهو أصبح بضعف حجمها ويرمقها من علوه وهي تنظر له مبتلعة ريقها برعب .
” هل أخبرك أحدهم أنني أعمل خادمًا لسيادتك مولاتي ؟؟”
نفت تبارك برأسها وهي تبتلع ريقها بريبة من نظراتها، مال سالار بعض الشيء مع الاحتفاظ بمسافة مناسبة بينهما؛ كي يوصل كلماته لاذنها إذ يبدو أن سمع تلك المرأة به خطأ :
” أنا لستُ خادمًا لكِ مولاتي، لذلك تحركي وجدي من يدلك على الطريق غيري، لستُ متفرغًا لتصرفاتك الصبيانية ”
كان يتحدث بينما تبارك تخفي وجهها خلف يديها برعب من همساته ونظراته :
” حاضر، حاضر ”
ابتسم لها سالار بسمة واسعة، ثم قال برضى :
” جيد، والآن اعذريني مولاتي فأنا مشغول بعض الشيء”
تركها يتحرك بكل بساطة مبتعدًا عنها، وهي وقفت مصدومة مكانها، هل يمزح معها ؟؟ أخبرته أنها ضلت الطريق بسبب جوعها، ولم يهتم بحالتها أو حتى جوعها .
شعرت بالقهر يندفع داخل صدرها وقد عادت لها ذكريات الملجأ قديمًا حينما كانت تبيت ليلتها جائعة وتسكن معدتها ببعض المياه :
” على فكرة أنت لو استمريت تعاملني بالشكل ده انا هسيب ليكم القصر ده واطفش ومحدش هيعرفلي طريق”
توقف سالار فجأة لتبتسم وهي تمسح الدمعة الوحيدة التي كادت تفلت لحسرتها وقهرها، وهو استدار نصف استدارة ونظر لها ثواني ثم قال ببسمة :
” جيد، احرصي ألا تضلي الطريق أثناء هروبك، حتى لا نجدك وقد عدتي لجناحك بالخطأ ”
ختم حديثه يميل قليلًا باحترام شديدة :
” بالتوفيق مولاتي ”
اتسعت عيون تبارك بقوة من حديثه، وشعرت بالكره يمليء صدرها لذلك الرجل، هو أكثر لئمًا من عاملة الملجأ حتى .
استدار سالار يكمل طريقه، لكن فجأة توقف حين شعر بشيء يصم في ظهره بقوة شديدة .
ضيق ما بين حاجبيه يستدير ببطء ليبصر أحد المزهريات النحاسية أسفل قدمه بعدما ضربته بها، الملكة ألقته بمزهرية، حقًا ؟؟ امرأة ضربته مجددًا ؟؟ وهذا يذكره يوم ضربته في المشفى بمزهرية كذلك
رفع سالار رأسه صوبها ببطء مرعب جعل تبارك تعود للخلف ودموعها تسقط بقهر :
” أنت اللي اضطرتني اعمل كده ”
مال سالار برأسه في حركة معتادة منه، لترتسم بسمة مرعبة على فمه، وهي ابتسمت له بسمة صغيرة سخيفة ظنًا أنه يبتسم لها، لكن في ثواني كان صدى صرخاتها يرن في الممر بأكمله وهي ترى سالار يستل سيفه من غمده صارخًا بجنون :
” ترميني بقطعة حادة ؟! الويل لكِ ”
ومن بعد تلك الكلمات لم تكن تبارك ترى أمامها سوى ممرات تتحرك بسرعة وطرق تدخل بها، وهي تركض صارخة بجنون، تبكي رعب جلي وقد شعرت أن قلبها سيتوقف :
” أنا آسفة ..والله العظيم أنت اللي عصبتني، أنا آسفة”
كانت تركض دون أن تبصر حتى أن سالار لم يتحرك خطوة من موضعه بعدما نزع السيف، بل فقط اخافها كي لا تكرر فعلتها ونجحت خطته وبامتياز .
ابتسم يضع السيف في الغمد مجددًا، يتجاهلها متحركًا صوب مكتبة العريف كيف يعلم منه ما جاء لاجله، لكن فجأة توقف وصوتها يرن في أذنه وهي تخبره أنها جائعة وضلت الطريق.
نظر صوب طريق المكتبة ثواني، قبل أن يتراجع لنفس الطريق الذي ركضت به تبارك، يلحق بها بخطوات سريعة وهو يهمس بضيق :
” أنا لا أحب هذا …لا أحب كل هذا ”
____________________
دخلت الغرفة بسرعة وصوت انفاسها المرتفعة أيقظت تلك النائمة من أحلام اليقظة الخاصة بها، لتنتفض عن فراشها بأعين شبه مغلقة وصوت ناعس :
” من ؟؟ ماذا يحدث هنا ؟!”
فجأة أبصرت برلنت جندي يتقدم من فراشها يشير لها أن تصمت، شعرت بجسدها يتيبس رعبًا من خطواته تلك، هزت رأسها بخوف :
” أنا… أنا لم اؤذيه، أقسم أنه هو من كان ساقطًا في دمائه قبل أن أراه حتى، ارحمني، لقد اعتذرت منه ووافق على مسامحتي و..”
وقبل أن تسترسل في المزيد من التوسل نزعت كهرمان لثامها تقول بغيظ من كلام برلنت :
” هذه أنا برلنت ما بكِ ؟!”
اتسعت أعين برلنت بعدم فهم لما ترى، هي عندما خرجت لم تكن بهذه الهيئة، ولا تدري إلى أين ذهبت، لكنها خرجت فتاة وعادت جندي .
” كهرمان ؟! ما الذي ترتدينه ؟! هل تحاولين افتعال كارثة هنا ؟؟ إن رآكِ أحد جنود الملك ستكون نهايتك يا حمقاء ”
خلعت كهرمان ثوبها وهي تنظر صوب برلنت تقول ببسمة بسيطة :
” لا تقلقي عزيزتي لم يرني أحد جنود الملك ”
” حمدًا لله ”
” بل الملك بنفسه من فعل ”
اتسعت أعين برلنت بصدمة وهي ترى بسمات كهرمان الغريبة التي تعلو وجهها، والأخيرة كانت فقط شاردة به، ذلك الرجل الذي تشعر كما لو أنه شخصين داخل شخص واحد ..
الملك الهادئ والحكيم الذي يتعامل معها ومع الجميع بحكمة، وذلك الحقير الذي يكاد يقتلها داخل ساحة التدريب رغم معرفته أنها فتاة، لكنه لا يهتم بذلك، بل يعاملها كعدو حقيقي .
في تلك اللحظة انتبه الجميع لصوت فتح الباب واندفاع جسد زمرد منه تنزع عنها لثامها، تخطو صوب فراشها بوجه شاحب، ثم تسطحت عليه تنظر للسقف بشكل غريب وصدرها يعلو في وجيب منتظم بفعل أنفاسها .
نجت ..هي نجت منه، هي حية، لقد خرجت من أسفل يده بأعجوبة، ومن بين كل كلمات برلنت وكهرمان اللتين حاولتا معرفة ما يحدث، جذبت الغطاء بكل بساطة ووضعته على عيونها، وصوت همس دانيار يرن في أذنها :
” لولا أنني لم أعتد يوم محاربة النساء أو ضربهن، لكنت فعلت الآن، لكن ولأنني شخص نبيل سأمنحك فرصة الهروب من أمام وجهي ولتحاولي أن تتلاشي مقابلتي في الأيام القادمة ”
رفعت زمرد عيونها له تنظر له بشر كبير لتتسع بسمة دانيار أكثر هامسًا :
” عندما تحاولين التسلل والاختباء في المرة القادمة، احرصي على تجنب جميع الأماكن القريب من أي سطح عاكس ”
رمقته بعدم فهم ليشير بعيونه صوب زجاج النافذة والذي يعكس كل ما أسفل الفراش، لتشهق هي بصدمة كبيرة، لكنه لم يهتم يشير للسيف الخاص بها :
” جئتي لأجله صحيح ؟!”
رفعت حاجبها :
” هو لي .”
” لم يعد كذلك، غير مصرح لكِ بحمل الأسلحة أسفل قصر الملك ”
وبعد هذه الكلمة لا تعلم كيف نهضت تتحرك صوب النافذة بسرعة وكأنها هربت منه وليس هو من تنحى جانبًا سامحًا لها بذلك، ولا يدري حقًا السبب، لكنه فقط تركها تتحرك صوب النافذة وقبل أن تفكر في الهرب استدارت له تقول بصوت متوعد :
” لنا لقاء يا سيد .”
منحها دانيار ابتسامة ساخرة بعض الشيء :
” في الانتظار يا سيدة ”
ضمت زمرد غطاء الفراش لصدرها تعضه بغيظ مكبوت بعدما تذكرت ما حدث لها، تشعر بنيران تشتعل داخل صدرها من ذلك الرجل الغير معقول، يالله لو أنها فقط تـ ..
” زمرد ما بكِ؟؟ منذ اقتحمتي الغرفة وأنتِ شاردة تتعاركين مع الغطاء، ماذا حدث لكِ، ثم أين كنتِ ؟!”
استدارت زمرد على جنبها تراقب الفتاتين على الفراش أمامها ينتظرون منها كلمة تطمئنهم :
” لا تقلقا أنا بخير، فقط كنت أسير كي استشنق بعض الهواء النقي ”
” وما الذي أصابك ؟؟”
كان هذا سؤال برلنت المتعجب، لتتنهد زمرد تقول بصوت حانق مرهق بعض الشيء :
” لا شيء، فقط تذكرت أمرًا مزعجًا، والآن لننم قبل حلول الصباح، فلدينا بعض ايام الراحة لننعم بها ”
ختمت حديثها مبتسمة، ثم استدارت تغمض عيونها بقوة حتى تبعد كل الأفكار عنها، لكن تلك الافكار أبت إلا أن تصاحبها تلك الليلة …
__________________
بحث عنها في جميع الممرات وهو يتمنى أن تكون قد وجدت غرفتها ليريح ضميره ويعود لما كان سيفعل، لكن فجأة وجدها تقف عن مفترق طريق وهي تحرك أصابعها في الهواء وتقول كلمات غير مفهومة .
اقترب سالار بريبة منها يرهف السمع وقد وصل لمسامعه كلمات عجيبة :
” حادي بادي كرنب زبادي، شالو وحطوا وكالوا على دي، يا كتكـ …”
وقبل حتى أن تضيف كلمة واحدة على تلك الكلمات الغريبة التي غالبًا ما يستعملها المصريون حين حيرتهم في شيء بغرض الاستقرار على أمرٍ ما، وجدت تبارك جسدها يصطدم في الجدار جوارها حتى شعرت بعظامها تستغيث، وقبل أن تصرخ أبصرته يقترب منها هامسًا بصوت مرعب وسيفه قد استقر على رقبتها يتساءل بهدوء شديد وتعجب :
” ما تلك التعاويذ أيتها المشعوذة ؟! هل أنتِ من نسل سحرة ؟!”
تحركت عيون تبارك المصدومة من السيف لعيون سالار الذي كان يقف أمامها بهيئته الضخمة، قالت بصوت خافت خرج بصعوبة بسبب رعبها :
” أنا بس كنت …كنت عايزة أكل وانام ”
لكن سالار تجاهل كل ذلك يقول بصوت محذر :
” ما تلك الكلمات التي كنتِ تلقينها محركة بيديكِ في الهواء ؟؟ أنتِ ساحرة ؟؟”
لم يكن سالار يمزح أو يبالغ، فالسحر أمر مرفوض في البلاد وقد عوقب العديد من الأشخاص على ارتكابهم لذنب كممارسة السحر واذية غيرهم، وقد سمع يومًا بعض تعاويذهم والتي لم تكن مفهومة، تمامًا ككلمات الملكة .
جاهدت تبارك للتحدث وعيونه تكاد تحرقها حية وهي فقط تنظر للسيف بخوف لا تنزع عيونها عنه تحاول ابعاد رقبتها عنه :
” على حسب أنت قصدك ساحرة اللي هي جميلة، ولا الساحرة بتاعة المكنسة الطايرة ؟!”
رمقها سالار بعدم فهم :
” ماذا ؟؟”
لكنها لم تهتم وهي تكمل :
” هفترض حسن نيتك واقولك الله يكرمك، بس معلش ممكن بس تبعد السيف شوية لاحسن ..أنا بس عندي حساسية من المعدن بتاعه ”
كانت تتحدث وهي تدفع السيف بطرف إصبعها محاولة أن تتلاشى حافته الحادة، لكن سالار بنظرة واحدة جعلها تتراجع أكثر حتى كاد تطبع جسدها على الجدار خلفها تقول بخفوت :
” كل ده عشان ضربتك بالفازة النحاس ؟؟ امال لو ضربتك بالنار هتعمل فيا ايه ؟!”
نظر لها سالار ثواني، ثم فجأة شعر بالصدمة حينما تذكر أنها بالفعل ضربته، وها هو سبب آخر كي يقتلها دون تأنيب ضمير، لكن كمحاولة أخيرة لاستخدام كرمه وعدله :
” والآن اعطيني سببًا واحدًا يمنعني من قتلك ”
ابتلعت ريقها تقول بكل ذرة براءة كانت تختزنها داخلها طوال تلك السنوات :
” عشان أنا الملكة ؟؟”
لكن يبدو أن طول فترة تخزينها لبرائتها أصابها الصدأ وتضررت، فما ظهر على ملامحها وهي تتحدث بتلك الكلمات لم تكن براءة بأي شكل من الأشكال، بل كانت بلاهة ورعب .
ارتسمت بسمة جانبية على فم سالار يقول :
” حتى إن كان الملك نفسه ساحر فسيُعدم ”
” بس …بس أنا مش ساحرة، أنا…بالله عليك بص لوشي، ده وش ساحرة ؟؟ أنا يعني لو كنت ساحرة كان ده هيبقى حالي ولا كنت سكتلك على اللي بتعمله معايا ؟؟ اقسم بالله كنت وقتها سخطتك و…”
صمتت تكتم صرخة بيدها وهي تراه ينزع السيف عن رقبتها مانحًا إياها نظرة تحذيرية مخيفة، ثم قال بصوت خافت :
” نعم أنتِ محقة، لا يمكن لفتاة غبية مثلك أن تكون ساحرة ”
ختم حديثه تاركًا إياها بعدما أشار لها دون كلمة واحدة أن تتبعه، وهي فقط نظرت له تتنفس بصوت مرتفع ورعب، لا تدري أتسعد لأنها حية، أم تغضب لأنه وصفها بالغبية ؟؟
سارت خلفه محاولة أن تجاري خطواته السريعة والواسعة، ولم تتحدث بكلمة واحدة منذ رمى في وجهها أنها غبية دون وضع اعتبار أنه يتحدث للملكة ورحل هكذا بكل بساطة .
زادت من خطواتها حتى تلحق به وهي تردد ببسمة متناسية كل ما قاله منذ ثواني وأنه كاد يقتلها جديًا، وأن سيفه كاد ينحر رقبتها إن ابتلعت ريقها بالخطأ، هي فقط لا تحب ذلك الصمت الخانق، كما أن ذلك الرجل أمامها غامض بشكل مستفز بالنسبة لشخص فضول مثلها فأرادت التعرف عليه :
” صحيح مقولتليش، هو أنت تبقى قريب الملك ؟!”
استدار لها سالار يرمقها بحيرة لا يعلم سبب طرحها هذا السؤال الغريب، لتبرر تبارك الأمر ببعض الحجج الواهية :
” اصل يعني اخدت بالي من عشم كبير بينكم وأنت بتكلمه ولا كأنه الملك بتاعك، ولا أنت كده مش بتحترم حد ولا حد مالي عينك في البلد دي زي ما بتعمل معايا ؟؟”
ورغم جهل سالار بمقصدها خلف بعض المصطلحات والكلمات، إلا أنه صمت ولم يجب وهي زادت من سرعة خطواتها تكمل ذلك الحوار الشيق من طرفها :
” هو اشمعنا أنت الوحيد اللي شعرك كده ؟؟ يعني كلهم هنا شعرهم اسود وساعات بني واصفر، ليه أنت اللي شعرك لونه احمر كده ؟؟”
ابتسم سالار ولن يتحدث بكلمة واحدة يجيب على كل تلك الاستفسارات الغبية _ من وجهة نظره_ لكن ذلك لم يمنع تبارك من استكمال ذلك الحوار بينهما :
” أنت شبه والدك ولا والدتك ؟! يعني الشعر ده وراثة ولا خلقة ؟! اصل أنا طول عمري نفسي في شعر زي ده ؟! أنت بتستخدم نوع كريمات معينة ؟؟ دي صبغة ولا بجد”
توقف سالار فجأة وبشكل جعلها تتراجع للخلف بريبة وهو فقط نظر لها ثواني يراها تتنفس بسرعة وكأنها كانت في سباق ركض :
” هل كلفك الملك بعمل دراسة حول ألوان شعر الشعب ؟؟”
نظرت له وهي تحاول أن تجد ردًا على حديثه، هي لم تكن تريد الحديث بأمور عشوائية كتلك ابدًا، لكن الأمر وما فيه أنها تشعر بالرهبة حين السير جواره وحديثها حتى لو مع نفسها يقلل من ذلك الصمت الخانق والمرعب .
تنفست بصوت مرتفع :
” لا، أنا بس ….بسأل عادي، لو مش حابب تجاوب أنت حر”
نظر لها يقول باستنكار :
” بالطبع أنا حر، وهل أخبرك أحدهم أنني عبد ؟؟”
رمقته ببلاهة شديد لا تفهم ما دخل العبد بحديثها، وهو فقط زفر بصوت مرتفع يكمل طريقه صوب مطبخ القصر وهي خلفه، لا يعلم ما الذي يفعله، في حياته كلها لم يحدث وأن خطى ذلك الجزء من القصر، والآن يفعل ليطعم الملكة، هل يلعب الان دور والدها ؟! ام يلعب دوره كمرشد للقصر ؟!
زفر بغضب وهو يتجاهل صوت خطواتها الراكضة خلفه، وهي لم تتوقف عن الحديث أبدًا :
” هو اشمعنا أنا اللي ابقى الملكة ؟؟”
” عقاب من الله ”
” يعني من بين كل بنات المملكة مكانش فيه ملكة مناسبة غيري، ليه انا بذات اللي اختارتوني؟ ”
صمتت ثم ركضت كي تسبقه تقف في وجهه وهي تواجهه بذلك السؤال الذي فكرت به مئات المرات دون أن تصل لرد محدد :
” أنت المفروض وحسب ما عرفت أنك واحد ليك مركز هنا والناس كلها ماشاء الله بتخاف منك ”
رفع سالار حاجبه يبتسم بسمة جانبية هامسًا :
” وأنتِ لا تفعلين؟؟”
نظرت له تبارك مطولًا، هي لا تخاف منه، هو لن يؤذيها، إذن ما الداعي للخوف ممن لا يضمر لها أذى، فتحت فمها للحديث وأخباره أنها لا تفعل :
” لا واخاف منك ليـ ”
وقبل أن تكمل كلماتها وجدت يده ترتفع في لتشهق وهي تتراجع بعيدًا عنه بخوف تخفي وجهها، وهو فقط كان يبعد خصلات شعره عن عيونه، لكن بعد حركتها تلك ابتسم بسخرية لاذعة :
” نعم أنتِ لا تفعلين ”
زفر باستهزاء وقبل التحرك تحدثت هي بما كانت تريد قوله :
” نسيتني كنت هقولك ايه، المهم بما أنك واحد يعني ليك مكانتك وكده يعني، وجيت مخصوص كل المشوار وعديت كل المخاطر دي عشان بس تجيبني لهنا، هل أنا فعلا مهمة اوي كده ولا ايه بالضبط ؟؟”
رمقها سالار مطولًا حتى ظنت أنه لن يجيب كعادته وسيكتفي بالتحرك بعيدًا عنها وتجاهلها كما جرت العادة، لكنه خيب ظنها _ ويا ليته لم يفعل _ واجابها بكل بساطة :
” أنا لم أفعل ذلك بكامل إرادتي، لقد اجبروني على الذهاب واحضارك ”
ختم حديثه وهو يتحرك بعيدًا عنها وهي ما تزال في طور صدمتها، تحاول أن تخرج منها، نظرت لظهره وهو يسير بكل هدوء، ابتسمت لا تصدق ما يحدث، ما الذي تبقى ولم يحدث حتى يثبت أنها هنا لا أهمية تذكر لها .
وصل الاثنان صوب حجرة كبيرة يقف على أبوابها بعض الحراس الذين بمجرد أن لمحوا سالار انحنوا له ليتحدث بهدوء :
” اخبروا العاملات بالداخل أن يحضروا وجبة للملكة، ثم خذوها لجناحها، وأنت أرشد الملكة للجناح حتى يتجهز الطعام لها ”
ختم حديثه يتحرك بكل بساطة تاركًا تبارك تنظر في أثره ببلاهة وهي تقف أمام حجرة الطعام، لا تفهم ما حدث وما فعل، هكذا فقط ؟! احضرها ليأمرهم بإعداد الطعام لها وكأنها صغيرة لم تكن لتستطيع قول ذلك ؟؟
نظرت لاثره وهو يرحل ببساطة شديدة وهي فقط تقف وتراقبه ببسمة غير مصدقة، ألقاها لهم ليطعموها ثم رحل .
حقًا ؟؟؟
____________________
اصوات صاخبة جعلت جسده يتقلب على فراشه الذي كان دنسه بجسده بعدما سلبه من أصحابه، تأفف مرتفع خرج من فمه حانقًا كارهًا لكل ذلك الازعاج بعد حفلة رائعة قضاها رفقة جنوده، ثم اكملها رفقة فتاة، والآن يستيقظ على تلك الضجة التي تسبب له انزعاج شديد وتفسد مزاجه الصباحي .
فتح بافل عيونه ببطء يستقبل شمس الصباح بتأفف، لكن تلك الرائحة التي اخترقت أنفه وتلك الاصوات والصرخات جعلت جسده ينتفض بقوة وقد شعر بصاعقة كهرباء تصيب جسده يلمح الكثير من الجثث ملقاه حوله في جناحه الخاص، رجاله قُتلوا ووضعوا داخل غرفته .
انتفض عن فراشه بسرعة كبيرة يصرخ بصوت جهوري :
” ما الذي يحدث هنا أيها الـ ”
وشعوره بشيء لزج أسفل اقدامه جعله يتراجع بسرعة ليسقط على الفراش مجددًا وهو يرى الدماء متناثرة على كل خطوة من ارضية حجرته .
تنفس بعنف يشعر أنه في كابوس، ما الذي يحدث هنا، من فعل هذا؟!!
فجأة وجد أحد رجاله يقتحم عليه الجناح وخلفه العديد من الرجال وهو يصرخ بجنون :
” سيدي حراس الحدود جميعهم قتلوا والعديد من الجنود داخل القصر حدث بهم المثل، لقد تعرضنا لهجوم البارحة ”
كانت أعين بافل معلقة على الأجساد ارضًا وهو متسع الأعين:
” تعرضنا لماذا ؟؟ هل تمزح معي ؟؟ تعرضنا لهجوم دون أن يشعر أحد ؟؟ ”
رفع رأسها يهبط عن فراشه يصرخ في وجه الجميع بصوت مرعب ونبرة هزت جدران القصر :
” من ذلك الحقير الذي تجرأ وفعل هذا بجنودي، هل هم رجال تلك المملكة القذرين ؟؟ أجمعهم كلهم، واعدمهم أمام نسائهم وأطفالهم، لا اريد ترك رجل واحد فقط حي فوق هذه الأرض القذرة، لقد انتهينا، انهوا سلالة مشكى ولا تتركوا لي رجلًا واحدًا، سأريهم كيف يتسللون و يـ ”
توقف عن الحديث حين وقعت عيونه على الجدار المقابل لفراشه والذي نقشت عليه كلمات بالدماء، دماء جنوده كانت تزين جدار غرفته بكلمات جعلت جسده يهتز بقوة ويرتعش بجنون .
” تجرأت ودنست رمال سفيد الطاهرة بأقدام جنودك النجسة، واردت إيصال رسالة، وبالفعل حدث ووصلت، وهذا ردي، إن ظننت نفسك قد انتصرت لدخولك مملكتي، فها أنا وفي عقر دارك، وفي حجرتك بعدما تخلصت من جنودك دون أن تشعر حتى بوجود شيء، تمامًا كخنزير انتهى لتوه من وجبة وحّل دسمة، كان يمكنني قتلك، لكنني لست بهذا الكرم لاقتلك بسهولة، معادنا ارض المعركة يا سليل القذرين، قائد جيوش سفيد ….”
اشتعل صدر بافل، شعر بالنيران تصيبه، غضب مخيف انتشر داخل جسده بأكمله، كان وجه محمرًا بشكل مخيف وأعين من شدة الغضب كادت تخرج من وجهه، حتى أن جنوده عادوا للخلف خوفًا أن يطال أحدهم سوءً أثناء غضبه .
وفجأة اهتز القصر بأكمله بصرخة بافل الغاضبة كالجحيم :
” ســــــــــــــأريـــكم الجحـــيــم ….”
_________________________
تتحرك يمينًا ويسارًا كي تنتهي واخيرًا من تنظيف المعمل الخاص بصانع الأسلحة والقنابل، يا الله هل ينقصها أن تشرف هي على تنظيفه، من بين الآلاف العاملات وقع الاختيار عليها هي لتتولى تنظيفه دون مساعدة وكأنه يتم معاقبتها بفعل ما لا تحب .
توقفت برلنت في منتصف المعمل تدور فيه برضى تام، أيام قليلة فقط وانتهت من تنظيفه بعد تجديد ما تدمر به، والآن انتهى العمل الذي كان ثقيلًا ثقل الجبال على صدرها .
وبنظرة في المكان أطلقت تأوهًا وهي ترفع حجابها عن وجهها تهتف بسخرية لاذعة وأعين مستنكرة لما تحاول زرعه داخل عقلها بالقوة .
” من تخدعين برلنت ؟!”
أشارت حولها على المعمل وصوتها خرج محملًا بمشاعر عديدة :
” أنتِ من توسلتي المشرفة لتمنحك شرف تنظيف مكان به رائحته ”
حقيقة مرعبة تعترف بها لنفسها، حقيقة تحاول إنكارها حتى بينها وبين نفسها، حقيقة عشقها المرضي لصانع الأسلحة، الشعور اللذيذ والمؤلم الذي تتعايش معه منذ سنوات طويلة توقفت عن عدها من بعد العاشرة .
” تقفزين له بكل مكان، تخترعين صدفًا غبية فقط لـ…لتسمعي صوته، أنتِ أكثر شخص مثير للشفقة برلنت، أنتِ مثيرة للشفقة ”
تنهدت بصوت مرتفع تحاول أن تتماسك، تغمض عيونها وأمام عيونها تستحضر صورة تميم، حبيبها الوحيد منذ سنوات، ط سنوات عاشت بجحيم حب غير منطوق من طرفها، غير محسوس من جهته، هو حتى لم يعلم أنها حية إلا يوم ألقى عليها قنبلته ..
وذلك اليوم حين كانت تراقبه ووجدت مضجرًا في دمائه، ارتجف جسدها بقوة تتذكر هلعها وارتجافة جسدها، وشحوبها القوي والذي لم ينتبه له تميم في غمرة وجعه .
ولولا شعورها بنبضات قلبه وقتها لماتت قبله من الخوف فقط، وذهابها للمشفى فقط كي تطمئن عليه، كانت من البأس الذي يجعلها تلقي بنفسها في جحيم مستعر لأجلها .
فجأة سمعت برلنت صوت خطوات يقترب من المعمل لتعيد الحجاب على وجهها بسرعة كبيرة تخفي خلفه حبها المخزي لمن يفوقها مكانة وقدرًا، لمن لا يشعر حتى بوجودها في هذه الحياة .
ثواني حتى وصل صوت تميم لها :
” معذرة لم أدرك أن هناك من يعمل هنا، سأرحل الآن وحينما تناهيت سأ…”
قاطعته هي بسرعة تميل بحرص ورقة تلتقط ما يقبع أسفل قدمها من أدوات تنظيف وكامل مشاعرها ترتجف شوقًا له :
” لا، لقد انتهيت بالفعل، يمكنك العودة لمعملك، وإن حدث شيء ارسل للمشرفة، المعذرة منك سيدي ”
ولم تكد تخرج من المكان بأكمله حتى توقفت على صوت تميم الذي قال بتعجب :
” هذه أنتِ ؟!”
استدارت نصف استدارة تقول بصوت متحفز :
” عفوًا ؟؟”
” أنتِ هي نفسها تلك الفتاة التي جاءت لي المشفى والتي ألقيت عليها قنبلتي صحيح ؟!”
ابتلعت برلنت ريقها تخرج صوتها متأففًا حانقًا :
” نعم هذه أنا، ماذا هل هناك قنبلة أخرى تود تجربتها عليّ ؟!”
ضحك تميم ضحكة صغيرة يتحرك في أرجاء المعمل يتفحصه بأعين مدققة :
” لا أنا فقط متعجب من قدومك لمعملي، أوليس أنتِ من اقسم ألا يطأ معملي ذلك اليوم ؟؟ ”
تنفست بصوت مرتفع ظنه هو غضبًا، لكنه كان ابعد ما يكون عن غضب، كان محاولة بائسة منها لتخرج صوتها عاديًا :
” حسنًا، هذه مشرفة العاملات أجبرتني على المجئ وتنظيف هذه الخرابة التي تسميها ظلمًا بالمعمل، لذلك رجاءً حين تود أن تحضر من ينظف ذلك القبر الذي تقضي به اوقاتك، جد عاملة غيري .”
رفع تميم حاجبه وقد تشنج جسده بضيق من نبرتها لي الحديث معه :
” أنتِ تتخطين حدودك بالحديث معي، أنا أحد قادة الجيوش هنا، لذلك أنا يمكنني …”
” ماذا ؟؟ ستأمرهم بقتلي أو سجني ؟؟ بأي تهمة ؟؟ بتهمة ازعاج سيادتك واستفزازك بالحديث بعدما كدت تقتلني عدة مرات ؟!”
كانت برلنت تصرخ في وجهه وهي ترفع اصبعها محذرة إياه أن يتمادى معها في الحديث، ولم تكتف بذلك، بل أكملت صارخة :
” اقسم إن حاولت أن تزعجني أو تهددني سأكون أنا أول من يركض للملك وأخبره أنك يا سيد حاولت قتلي ”
أشار تميم لنفسه بصدمة :
” حاولت قتلك ؟! ”
” نعم، وسأحضر من يشهد على كلامك، والآن يا قائد اعذرني فأنا لست متفرغة مثلك لمثل تلك التُراهات ”
رفعت رأسها بكل كبرياء تحمل اشيائها ترحل منتصرة في معركة من طرفها هي فقط، وكأنها بكل ذلك الحديث تثبت لنفسها أنها ليست بتلك الضعيفة، هي ليست بمعدومة الكرامة التي تنتظر منه نظرة حب أو حتى كلمة، هي تحبه، لكنها أبدًا لن تسمح له بتخطي الحدود وتهديدها .
وبينما هي تسير برأس مرفوعة تشكر ذاتها لتلك الكلمات التي اراحتها، سمعت صرخة تميم وهو يندفع صوبها :
” انتبهي يا عمياء ..”
اشتعلت عيونها بغضب تستدير بسرعة له ولم تنتبه لذلك السلاح المعلق في السقف :
” من تلك الحمقاء يا سيـ ”
وقبل أن تتم كلمتها شعرت بشيء قوي يصطدم في رأسها ليندفع جسدها للخلف بسرعة مرتعبة متوجعة، لكن ما استقبلها هو الجدار فاصطدمت به كذلك وقد ارتفعت أصوات صرخاتها في المكان .
بينما تميم يراقب كل ذلك بأعين متسعة مصدومة، هو لم يكد يستوعب اصطدامها الاول لتكمله بالثاني، وبينما هي ملقاة ارضًا تتأوه شاعرة أن رأسها قد انشقت نصفين تبكي بوجع، سمعت صوت ضحكات تصدح في المكان .
استدرات ببطء لتبصر وجه تميم الذي غرق في موجه ضحك صاخبة جعلت غضبها يتضاعف وهي تنهض من مكانها تصرخ في وجهه بجنون :
” صه، كيف تتجرأ وتضحك على آلامي وأنا من كدت أموت رعبًا حين رأيك مضجرًا في دمائك، وكنت ابكي بخوف، أيا ليتك مت أيها الحقير عديم الشعور ”
ختمت حديثها بنبرة تحمل من البكاء ما كاد يجعلها تنهار ارضًا، حملت أدواتها تخرج من المكان بسرعة وتميم يقف ينظر لاثرها بعدم فهم، هل غضبت منه لأنه لم يبكي عليها كما فعلت معه ؟؟
مهلاً هل شبهت إصابته بخنجرين، بإصابتها بكدمتين ؟!
خرج من شروده بها على صوت دانيار الذي اقتحم المعمل يقول بجدية :
” تميم، هناك اجتماع مع الملك والجميع ونحتاجك هناك ….”
تحرك تميم بسرعة وشبه هرولة خلف دانيار يخرجون من معمله وهو يخمن في رأسه سبب ذلك الاجتماع، يا الله لتمر هذه الأيام بخير عليهم وعلى الممالك، يبدو أن أحدهم فتح أبواب الجحيم ونسي غلقها ….
_______________________
” قتل نصف الرجال، وإعدام النصف الآخر في مذابح غير آدمية، ثم اغتصاب النساء وزرع بذور فاسدة من قاتلي رجالهم داخل ارحامهم، خطة تطهير عرقية لشعب مشكى يتبعها المنبوذين، وقد نجحوا في النصف الأول منها، والنصف الثاني ما يزال في طور التمهيد، وهذا الطور سيكتمل في حالة واحدة …..حينما يعبرون على جثتي ”
كانت تلك كلمات سالار التي وصلت لمسامع كلٍ من تميم ودانيار بمجرد دخولهم القاعة، إذ كان سالار يقف في منتصف القاعة يصف للجميع ما علمه في الأمس من الشيخ الذي قابلوه في مشكى .
كانت ملامح إيفان باردة جامدة بشكل محير، فقط يستند على المقعد وهو يراقب حركات سالار الغاضبة، فلطالما كان سالار رجل غاضب ثائر ومتوحش فيما يخص القتل والحروب، بينما إيفان رجل حكمة وهدوء وإدارة …
نظر سالار للجميع ثم ضرب الطاولة بيده وهو ينظر لعيون إيفان يقول بحدة وصوت حاسم :
” هناك خائن في أراضينا، خائن ساعد المنبوذين في دخول مشكى وفرض سيطرتهم عليها، فلا يقنعني أحدكم أن رجال لا يحسنون حمل السيوف ويرتجفون أمام شفرة حادة ولا يعلمون عن الحروب سوى طبولها، يستطيعون التغلب على جيش بحجم جيش مشكى، وبقيادة ارسلان كذلك، هذا شبه مستحيل ”
وافقه دانيار كل ما يقول في صمت يهز رأسه، وهو الذي علم كل ذلك سابقًا وبمجرد وصول خبر سقوط مشكى بيد المنبوذين، فجميع الجالسين يعلمون أن رجال بافل ليسوا مقاتلين ولا يفقهون بالقتال شيئًا، لذلك قتلهم البارحة كان أيسر من شربة ماء .
تنفس سالار بعنف ثم دار بعيونه على الجميع وقال ببسمة جانبية :
” ما رأيك ملك إيفان أنني رأيت أحدهم يحمل سلاحًا من اسلحتنا البارحة ؟؟”
ارتفع حاجب إيفان وكأنه يقول له حقًا ؟؟ لكن تلك البسمة التي ارتسمت على فمه أخبرت سالار أنه يعلم ذلك جيدًا، حسنًا إيفان ليس بالغبي أبدًا .
اعتدل إيفان يميل على الطاولة يضم قبضتيه متسائلًا بجدية :
” تميم ..”
” أمرك مولاي ؟؟ ”
ابتسم إيفان بسمة جانبية وهو ما يزال يحدق بأعين سالار في تواصل بصري قوي :
” هل سبق وأخذت منك مملكة مشكى أسلحة من صنعنا ؟؟”
نفى تميم بقوة وهو يجيب بنبرة عملية جادة دون أن يغفل عن تفصيلة واحدة :
” لم يحدث منذ سنوات مولاي ومنذ أمرت أنت بمنع ضخ اسلحتنا لهم، فعلنا ذلك، ومنذ ذلك الحين لم يخرج خنجر واحد من سفيد لمشكى ”
قال إيفان ببساطة :
” اذًا هذا يلغي الاحتمال الأول، وهو أن بافل استولى على أسلحة مشكى والتي هي في الأصل من صنع مملكتنا، وهنا نأتي للاحتمال الثاني ”
نظر له الجميع ودون أن يتحدث علموا الإحتمال الثاني والذي كانوا يرجحونه ..
تحسس العريف بومته التي تعلو كتفه وهو يرمق الجميع بنظرات غامضة وكأنه يعلم شيئًا ويخفيه، ونظراته تلك لم تخفى عن سالار الذي ابتسم له متوعدًا بساعات طويلة من الاستجواب .
قال إيفان بإقرار :
” هناك مملكة تأخذ من اسلحتنا وتدعم بها هؤلاء المنبوذين ”
احترق صدر سالار بقوة صارخًا بجنون وهو يضرب الطاولة مجددًا وصوته يخرج هادرًا مرعبًا لبعض الرجال حوله، والذي ابتعدوا عن عيونه متجنبين حالة هياجه وأولهم مرجان :
” هم يقتلون اخواننا باسلحتلنا، نحن نمدهم بالسكين الذي يذبحونهم به ”
صمت يتنفس بصوت مرتفع ليسمع صوت إيفان يقول بتقرير بصوت جامد بعض الشيء :
” تميم، امنع ضخ الأسلحة لجميع الممالك دون استثناء لا آبى ولا سبز ستأخذ إبرة واحدة من اسلحتنا ”
نظر تميم حوله ثم قال بصوت خافت :
” لكن مولاي، نحن بالفعل تعاقدنا مع الملك بارق على صفقة أسلحة كبيرة و…”
نظر لها إيفان بنظرات مشتعلة :
” حتى الإبرة لن تخرج من مملكتي لايًا كان تميم، واضح حديثي ؟؟”
ابتلع تميم ريقه ثم هز رأسه:
” واضح مولاي ”
نظر إيفان صوب سالار الذي كان شارد بشكل مخيف، ثم قال :
” بعد يومين سأجتمع مع الملك بارق والملك آزار وحينها تحين مهمتك سالار، اريد معرفة من منهما قد تورط في مثل تلك الجريمة، رغم أنني اشك…”
ارتسمت بسمة مخيفة على فم سالار يتخيل رأس ذلك الخائن تحت قبضته، ودماؤه تسيل من بين أصابعه :
” سيحدث مولاي، سيحدث .”
______________________
غرفة جميلة من اللون الابيض، واسعة ومتلألئة بشكل جعلها تغمض عيونها مخافة أن تصاب بالعمى إن أطالت النظر بها، تحركت في الغرفة تحاول البحث عن مخرج لها وشعور بعدم الراحة يملئ صدرها، لكن لا مخرج، جميع الجدران مصمتة لا باب بها ..
فجأة ومن لا تدري وجدت أحدهم يتقدم منها، جسد تعلمه جيدًا، جسد كان ملازمًا لها في أحلامها سابقًا، حتى أبصرته في الحقيقة ..
تنفست بصوت مرتفع تشعر بقلبها يكاد يتوقف عن الخفقان، ولا تدري لمشاعرها من سبب سوى أنها ترهب اقتراب ذلك الرجل منها، ورغم كل رهبتها تلك لم يتوقف عن التقدم، ولم تتوقف هي عن التحديق بملامحه غير الواضحة .
وحين أصبح على مقربة منه مال وضمها لصدره بحنان شديد هامسًا بكلماته التي باتت تحفظها عن ظهر قلب وتستطيع أن ترددها دون توقف إن أراد، لكن منه كانت تلك الكلمات مميزة وبشدة لها، بنبرته الدافئة الاجشة التي أصبحت تحاصرها في صحوتها وأحلامها :
” دلم برات تنگ شده ”
ودون أن تشعر هي وكأنها مسيرة وليست مخيرة، لفت ذراعيها حول خصره تستمع بدفء صدره وقد بدأ وجيب قلبها يعلو ويعلو، تنطق دون شعور منها :
” منم دلم برات تنگ شده ”
ابتسم لها ولا تعلم كيف علمت ذلك وهي لا ترى ملامح وجهه، وتدفن رأسها داخل صدره، لكنها تعلم أنه ابتسم وقد ظهر ذلك واضحًا في صوته يتحدث لها واخيرًا بالعربية بنبرة تعلمها وميزتها في ثواني:
” إذن موعدنا قريبًا أميرتي، قريبًا أكثر مما تتخيلين مولاتي ”
اهتز قلب تبارك في موضعه لتلك الكلمات الرقيقة، رفعت رأسها عن صدره تحاول أن ترى ملامحه، لكنه لم يمنحها الفرصة، فقط مال عليها يمنح وجنتها قبلة دافئة، ثم همس لها بصوته المميز :
” قريبًا حبيبتي …”
” مولاتي …مولاتي هل أنتِ بخير ؟؟ ”
انتفض جسد تبارك بقوة عن الفراش عند سماعها صوت أنثوي يناديها ويد تهزها برفق، تنفست بصوت مرتفع وجسدها قد بدأ يرتعش وكأن حمى أصابتها تستغفر ربها، تستغفر وجسدها يترجف بعنف :
” أنا فين ؟؟ ”
نظرت لها الخادمة بأعين متعجبة :
” هل أنتِ بخير مولاتي، هل استدعي الطبيبة ؟؟”
نظرت لها تبارك ثواني وعقلها يعيد لها صور متتابعة مما حدث لها في الأيام السابقة :
” لا لا، اشكرك أنا بخير حال، فقط رأيت حلمًا غريبًا ”
نظرت لها الفتاة ببسمة لطيفة :
” حسنًا مولاتي هناك فستان احضرته لأجلك، وجهزت كذلك المرحاض لأجلك، رجاءً تجهزي فالملك ينتظرك لاخذك في جولة حول القصر ”
رفعت تبارك عيونها للخادمة بلهفة وحماس كبير :
” حقًا ؟؟”
هزت الخادمة رأسها مبتسمة :
” نعم، هيا كي لا تتأخري فهو ينتظرك ”
انتفضت تبارك عن فراشها، ثم تحركت بسرعة صوب المرحاض، والخادمة تركتها ورحلت بهدوء شديد، وقبل أن تخطو تبارك المرحاض توقفت تقول بدهشة :
” لحظة هي مجابتش سيرة الفطار ليه، ولا سألت هفطر ايه ؟؟ هما مش بيفتكروني على الاكل ليه هو أنا مش المفروض الملكة، واتعامل معاملة ملوك، ولا هما اساسا مش بياكلوا في العالم ده ؟!”
نظرت صوب الباب المغلق بعدما اغلقته الخادمة ورحلت وهي تنفست بصوت مرتفع :
” فرقت إيه عيشتي هنا عن عيشتي في الشقة بتاعتي والحارة ؟؟ والله نفس الشي اياكش الكام نفر اللي بيحترموني في المكان ده شوية، والسرير المريح ”
زفرت تدخل الحمام وهي تتمتم بحنق شديد وغيظ مما يحدث معها، ثم فجأة تذكرت الحلم والذي لم تستطع أن تتناقش به مع نفسها لوجود الخادمة، تذكرت تجاوبها به مع ذلك الرجل :
” والله عال يا تبارك، بقيتي تحضني وتتكلمي زيه ولا كأنه جوزك، مش بعيد الحلم الجاي تستنيه على الباب بطبق مايه دافي وفوطة وتغسلي ليه رجله ”
تحركت صوب ذلك المسبح المصغر الذي يتوسط المرحاض، تحدق به في راحة شديدة مرددة :
” لحظات قليلة من النعيم والتمتع كملكة في هذا المكان، وليس كشخص ثانوي …”
________________________
تحرر من قيد رجاله بعدما قرر أن يتفرغ بعض الوقت للجلوس مع الملكة ووضع النقاط على الاحرف، عليه أخبارها بالقرار الذي اتخذه مساء الأمس لأجل تأهيلها لتصبح ملكة .
جلس في الحديقة حيث مكانه المميز خلف القصر ينتظر أن يحضر جنوده الملكة، لكن بدلًا من ذلك لمح امرأة تقترب منه بخطوات متمهلة وهي تقول بصوت منخفض :
” اعتذر لازعاجك مولاي ”
شعر إيفان بأن صوتها مألوف له، ليخطر في رأسه صوت تلك الفتاة الخاصة بالحظيرة، نظر لها وهي تنظر له مباشرة من خلف حجابها دون أن تنظر ارضًا أو تبعد عيونها عنه، وكأن تلك المرأة لا تنحني لأحد ولا تخشاه حتى .
تجاوز إيفان تلك النقطة وهو ينظر لها نظرات عادية :
” نعم، كيف اساعدك ؟؟”
” حسنًا الأمر أنني أردت مساعدتك في مشكلة تواجه جميع العاملات هنا، ولم أجد واحدة منهن تتحدث عنها، ربما يخشون الحديث أو الاقتراب منك ”
اتسعت عين إيفان باستنكار لحديثها :
” وهل أخبرك أحدهم أنني اعض ؟؟ لماذا يخشوف الاقتراب مني ؟!”
” لا ادري ربما لأنك لست ملكًا عادلًا، أو أنك لا تهتم لأمور العاملين لديك، هناك احتمالات كثيرة ”
كان إيفان مصدومًا وهو يستمع لمقدار الظلم الذي يمارسه على العاملين في قصره من فم فتاة الحظيرة، هو ليس بعادل ولا يهتم بهم ؟! هل تمزح معه .
” يبدو أن المشكلة في غاية الخطورة آنستي لتستدعي كل هذا التقريع لي وأنا الملك هنا ”
ضغط إيفان على كلماته الأخيرة في انتظار أن تفاجئه تلك الفتاة المريبة أمامه بأنه وعن طريق الخطأ تسبب في حدوث زلزال في قسم العاملين، أو أنه مثلًا كان السبب الرئيسي في تفشي وباء قاتل بينهم جميعًا .
لكن كل ما خرج منها هو :
” مراحيض العاملين لديك مولاي تفتقر لكافة المقومات الآدمية، لا زيوت عطرية ولا سوائل تنظيف جيدة، مجرد زجاجات لا رائحة لها ولا فوائد، وهذا تعسف منك مولاي إذ أن المراحيض الخاصة بكم تزخر بكل ذلك ”
كانت تتحدث بنبرة جادة وبشدة وقد اتضح في صوتها الغضب دون أن تشعر، وهو فقط كان ينتظر سماع الكارثة التي تسبب بها، ليتضح في النهاية أنه لم يدلل العاملين لديه .
وعلى غير المتوقع انفجر إيفان في موجة ضحك صاخبة لم يستطع التحكم بها، أخفى وجهه بين كفيه وصوت ضحكاته رنّ في الاجواء حوله مما أثار صدمة كهرمان التي نظرت حولها لترى أن أنظار الجنود بدأت تنجذب صوب ضحكاته.
وهو لا يتوقف عن الضحك، يحاول الحديث من بين ضحكاته، لكنه لم يستطع :
” أوه، أنا آسف حقًا، كيف كنت ملكًا لئيمًا لهذه الدرجة ولم ادلل العاملين لدي ؟؟ عارٌ عليّ”
شعرت كهرمان بالحرج من كلماته تلك واستهانته بمصيبتها، هي لا تبالغ إن وصفتها بالمصيبة، فجسدها الذي اعتاد الدلال قد عزف عن استخدام كل أدوات التنظيف الرخيصة واصيبت بطفوح جلدية مريعة .
” أنا لا امزح مولاي أنا حقًا …”
ولم تكمل كلماتها بسبب اصوات ضحكات إيفان الذي وجد صعوبة كبيرة في التنفس بسبب كثرة الضحك :
” أنا أعلم، الكارثة أنكِ لا تمزحين، هذه هي الكارثة صدقيني ”
اعتدل في وقفته بصعوبة شديدة بعدما تمكن من تمالك نفسه حين شعر بأنه لا يجوز عليه الضحك بهذا الشكل جراء شكوى امرأة مقهورة ..
تنحنح بصوت جاهد لجعله متماسكًا :
” معذرة آنستي، لكن فقط شعرت بـ …حسنًا لنتجاوز هذه النقطة، ما الذي تقترحين عليّ فعله كي انال رضى العاملين لديّ ”
شمخت كهرمان برأسها تقول بقوة شديد وكلمات منتقاه وصوت واثق تمنى للحظات وبشكل غبي أن تكون تبارك تمتلك مثلهم، فها هي مجرد عاملة أمامه تتصرف كأميرة، وملكته تتصرف بشكل ….حسنًا تتصرف كتبارك، فهو لم ير يومًا من تتصرف مثلها، لكنه لا يبتأس حقًا ولا يشعر بالخجل أو ما شابه .
” اقترح مولاي أن تضع في مراحيض العاملين كل ما تضعه في مراحيض الطبقة العليا في البلاد ”
نظر لها إيفان ثواني نظرات جعلتها تشعر برغبة في التراجع وانزال رأسها، لكنها لم تعتد أن تنحني يومًا لأحد غير الله، هكذا أخبرها ارسلان .
” حسنًا آنستي، لكِ كامل الدلال أنتِ وجميع العاملين في قصري ”
نظرت لعيونه من خلف حجابها واطالت النظر به تحمد الله أنه لا يراها، ثم همست بصوت منخفض :
” شكرًا لك مولاي، والآن أئذن لي بالرحيل ”
” يمكنك ذلك ”
تحركت كهرمان بخطوات رشيقة هادئة وبشكل جعله ودون إرادته يشرد، ضاقت عيونه وشعور غريب يراوده تجاه تلك الفتاة .
توقفت كهرمان في مشيتها، ثم استدارت ببطء للخلف لتتفاجئ أن الملك يراقبها، هزت رأسها له، وهو ابتسم بسمة جانبية يهز رأسه لترحل ببطء وهدوء وثقة ورشاقة منقطعة النظير.
في المقابل وبمجرد اختفاء جسد كهرمان خرجت تبارك من المبنى نفسه وهي تسير بلا مبالاة، وبشكل متعجل وكأن لديها حرب ستفوتها، تسير وهي تنظر يمينًا ويسارًا بفضول شديد، حتى تعرقلت في حجر أسفل قدمها لينتفض جسد إيفان يهتف بهلع وهو يمد كفه وكأنه سيلحق بها من مكانه :
” يا ويلتي..”
لكن تبارك تمالكت نفسها بسرعة كبيرة تنفض ثيابها ببسمة خجلة من الموقف برمته :
” أنا بخير لا تقلق ”
تنهد إيفان بصوت مرتفع :
” لدينا طريق طويل… أطول مما تخيلت .”
______________________
بعدما انتهت من حديثها مع الملك سارت في القصر وهي تبحث بعيونها عنه وقد قررت أن تذهب للبحث عنه في جناحه دون أن يشعر أحد بها .
لكن ما كادت تخطو كهرمان للجزء المخصص لكبار القادة، حتى سمعت صوت رجل يهتف :
” نعم هو يحتجز العريف داخل المكتبة الآن مصرًا أنه يخفي عنهم شيئًا ”
ابتسم دانيار على كلمات تميم وقد أعجبته فكرة أن يقع العريف تحت رحمة سالار :
” هذا رائع، ليته يتخلص من ذلك الرجل وننتهي منه ”
كانت كهرمان تستمع لكل تلك الكلمات وهي تراقب رحيل تميم ودانيار صوب المكتبة، تستوعب أنهم يتحدثون عن سالار ..
ابتسمت بسمة واسعة وهي تتحرك بسرعة خلفهم خشية أن تضل في الطريق وفي نفسها قد عقدت العزم على التحدث مع القائد اليوم وإن كلفها ذلك حياتها .
____________________
كانت الكتب تتطاير في كل مكان داخل وكر العريف إلى جانب البومة التي كانت تحاول الهرب من ذلك الاعصار الذي ضرب المكتبة، فأصبحت وكأنها في سباق والكتب الطائرة تمثل لها عوائق ..
وصوت العريف الذي يصدح خلفها كجرس الانذار قبل الكوارث .
توقف سالار في منتصف المكتبة وهو يجذب له العريف مرددًا بصوت محذر :
” أنا لست حليم أو حكيم لاصبر على أفعالك يا عريف، أخبرني ما الذي تعلمه وتخفيه عني ؟؟”
نظر له العريف مبتسمًا وهو يحاول الفكاك من قبضته :
” أوه، كل هذا لأجل أنني ابتسمت لك خلال الاجتماع ؟؟ لِم لم تفكر أنني كنت آخذ صدقة لتبسمي في وجهك ها ؟!”
ابتسم سالار يميل عليه أكثر بشكل مثير للرعب :
” هذا لأنك وببساطة لا تطيق أي شخص في محيطك، ولا تحب البشر حتى توزع ابتسامتك على من حولك، والآن تحدث بما تعلم ”
” أنت الآن تتخطى صلاحياتك التي تمنع ايًا كان من اذيتي، حتى الملك بنفسه لا يستطيع فعل ما تفعله الآن بي، أنت لا تحترم سن أو حتى مكانة ”
ابتسم سالار يترك ثيابه، ثم أخذ ينفضها له وكأنه يزيل غبارًا وهميًا عن ثيابه :
” آه، نعم تذكرت أنا من المفترض أن احترمك، الأمر وما فيه أيها العريف أنك تستفزني بشكل يجعلني انسى من أنت وماذا تفعل وكيف يجب أن اعاملك، والآن تحدث بما تعلم كي لا أنسى كل ما نطقت به منذ ثواني ”
فتح العريف فمه ولم يكد يتحدث بكلمة حتى قاطعهم صوت أنثوي خجل من الخلف يهتف بصوت منخفض :
” سيدي القائد سالار احتاج للتحدث معك …”
استدار سالار بدهشة للخلف ليبصر تميم ودانيار وخلفهم، جوار باب المكتبة كانت تقف هي، فتاة لا يعلم من هي، لكن صوتها مألوف وبشدة له .
نظر لها بفضول لتتقدم كهرمان صوبه متجاهلة نظرات الجميع حولها لهم، ومن ثم توقفت في وجه سالار تقول :
” احتاج مساعدتك …رجاءً ”
نظر سالار حوله للجميع، ثم عاد بنظره لها يقول :
” هل اعرفك !!”
” لا لكنني اعرفك جيدًا …….”
______________________
المستقبل بدأ يتغير، وتاريخ المملكة بدأ يُدون، لكن هل سيتم تدوينه كما خُطط سابقًا، أم أن صفحة من كتاب التاريخ ستغير كامل احداث الكتاب ؟؟
يتبع…
حسنًا كان محرجًا أن تسقط أمامه بهذا الشكل المخزي، وليس أمامه فقط، بل أمام دزرينة من الحراس، إلا أن الثقة تلغي الأخطاء السابقة، هذا ما تعلمته وستنفذه .
مررت تبارك يدها على ثوبها تتحرك ببطء صوب الملك وهي تبتسم بسمة صغيرة تحاول بها أن تهدأ من روعها هي .
وبمجرد أن وصلت له منحها إيفان بسمة هادئة مسالمة يقول بصوت حريص :
” أنتِ بخير ؟؟”
” نعم، نعم لا تقلق، في أحسن حال، فقط اعتقد أن هناك بعض المشاكل في الأرضية الخاصة بالقصر ”
حجة جيدة خرجت بها لتحفظ ما تبقى من ماء وجهها، وايفان نظر صوب تلك البقعة التي سقطت بها يقول بحاجب مرفوع :
” آه، نعم ربما نصلحها لاحقًا، والآن مولاتي اسمحي لي بالاعتذار لازعاجك منذ الصباح لكن هناك ما نحتاج للتحدث بشأنه ”
رمقته تبارك باهتمام شديد ليعتبر هو صمتها موافقة، وبدأ في الحديث بصوت هادئ متعقل :
” بالطبع أنتِ لا تعلمين الكثير عن عالمنا ومملكتنا، ولا أعتقد أن سالار كان من الصبر ليخبرك أكثر من مجرد كلمات معدودة ”
انقبضت ملامح تبارك بمجرد سماعها لاسم ذلك الرجل والذي لا تدري سبب كرهه لها وعداوته معها :
” بل هو لم يكن من الصبر ليسمح لي بأخذ انفاسي، كلما توقفت للراحة يصرخ في وجه أن تكمل طريقنا ”
أطلق إيفان ضحكات صاخبة :
” حسنًا ربما هذا خطاي أن أرسلته هو تحديدًا، فهو لا يحب الحديث في مهامه أو يحب التأخر، لكن كان ذلك في صالحي إذ أن سالار هو أفضل من ينجز مهامي الخاصة وفي اسرع وقت ”
هزت تبارك رأسها توافقه الأمر، فهي وخلال تلك الرحلة رأت بعيونها ما يتحدث عنه، ذلك الرجل جاد بشكل خانق، لكنه رغم ذلك محترف فيما يفعل، وهي تقدر وتحترم ذلك .
” نعم لاحظت ذلك ”
” جيد إذن، اتمنى ألا تحملي له ضيقًا، فهو في النهاية أحد رجالي المخلصين والمقربين ”
ابتسمت له تبارك بسمة صغيرة تحاول بها تمرير الأمر، بينما إيفان تنحنح يتحدث فيما جاء بها لأجله :
” حسنًا، هنا في سفيد أو في الممالك المجاورة، لن تجدي امرأة تحمل سيفًا أو تركب فرسًا، باستنثاء الاميرات، فهن ومنذ الطفولة يتم إعدادهن ليصبحن ملكات، والملكة عليها أن تعلم بعض الاشياء الأساسية عن الحروب وغيرها، ولا ..اقصد أنني لا اعتقد أنكِ تعلمين هذه الأمور، أم تفعلين ؟؟”
نفت تبارك برأسها تتذكر تذمر سالار من جهلها لتلك الأمور، يا وانقلبت ملامحه بغيظ وكأنها عُرض عليها الأمر وهي من رفضت .
” لا أنا لا افهم ايًا من ذلك ”
ابتسم إيفان يحاول ألا يشعرها بالنقص أو بشعور سييء حيال الأمر، لكن تبارك كانت ابعد ما يكون عن تجربة ذلك الشعور، بل هي كانت لا تهتم لتلك النقطة :
” ورغم ذلك نجوتي في عالم ملئ بالمفسدين، هذا شيء يُحسب لكِ احسنتِ حقًا ”
كانت تبارك تهز رأسها بانصات شديد قبل أن تُصدم وترفع رأسها له وقد تشجنت ملامحها بقوة تحاول فهم ما يرنو له، عمن يتحدث بالتحديد ؟!
” مفسدين ؟؟ مين دول اللي مفسدين لا مؤاخذة ؟!”
” ماذا ؟؟”
” ماذا أنت، هل وصفت للتو عالمي بعالم المفسدين ؟! ليس لأن به أم أنور وابنها وحسنية والعم متولي ونساء حارتي وعبير وسميرة ومدير المشفى التي اعمل بها، وسائق التوكتوك سيد، وبائع الخضروات، وصاحب عربة الفول أمام المشفى، تطلق عليه عالم مفسدين ”
حركت اصبعها السبابة في الهواء ترفض تلك التسمية بكامل دواخلها :
” لا لا يا سيد، ليس لأنك الملك هنا سأسمح لك بالإساءة لعالمي، ثم تسخر من عالمي أنه ملئ بالمفسدين وأنت تأوي أسفل قصرك أكبر الفاسدين ؟؟”
اتسعت أعين إيفان بصدمة من حديثها وكل تلك الأسماء التي تلقيها على مسامعه، هو لا يدرك ما تقصد بكل ذلك، وتبارك انتفضت عن مقعدها تقول بحنق شديد :
” هل تريد القول أن عالمك العزيز يخلو من الفاسدين ؟! جميعكم ملائكة هنا ؟؟ لا اعتقد، فالنفس الامارة بالسوء تسكن جميع الأجساد مولاي ”
رفع إيفان حاجبه من كل تلك الخطبة التي تلقي بها في وجهه، يشير لها بالجلوس كي يكمل حديثه وملامحه هادئة لا توحي بأي شيء داخله :
” حسنًا اجلسي رجاءً فمحظور على النساء رفع اصواتهن هنا حيث ينتشر الرجال، وبالطبع محظور عليهن رفعها في وجه الملك ”
حسنًا يبدو أنها تمادت حتى حولت الراقي والهادئ لنسخة أخرى من ذلك المتوحش سالار، فملامح الملك في تلك اللحظة جعلتها تتراجع خوفًا أن ينفجر في وجهها، لولا الهدوء الذي يخفي خلفه كامل انفعالاته .
” اولًا نحن لسنا في المدينة الفاضلة، لكن بلادي تخلو من كل المفاسد، ليست لأن جميع النفوس طيبة، بل لأنه يتم القضاء على أي فساد بمجرد أن يظهر، ليس كعالم يعيش به السارق والقاتل في سلام لأنه يمتلك اموالًا أكثر، والظالم يتنعم برغد العيش لأن له اليد العليا، والقوي يدهس الضعيف استغالالًا لحياته، هنا تُدفن المفاسد وتُردم أسفل تلال الصلاح، نحن لا نقمعهم بالقوة، بل بالنصح والإرشاد ”
صمتت تبارك وشعرت أنها تمادت في الحديث معه، بينما إيفان اكمل :
” هنا لا فرق بين فقير وغني ولا قوي وضعيف، الجميع أمام القانون سواء، حتى الملك تتم معاقبته إن اخطأ، وهذا كل شيء ”
صمتت تتنهد وهي ترتشف بعض قطرات المياه تقول :
” حسنًا ربما بالغت، لكن العالم الخاص بي ليس مرعبًا بهذا الشكل، أنت فقط تحتاج لقلب قوي ولسان لاذع ويد سريعة لتستطيع النجاة به، وهذا لا يمنع أن عالمي ملئ بالصالحين كذلك”
ابتسم إيفان يقول بهدوء :
” ولهذا استطعتي النجاة منه رغم جهلك لأي فنون قتالية؟!”
” لا بل نجوت بدعاء الوالدين، وقيام الليل ”
نظر لها بعدم فهم لتبتسم وتجيب :
” كنت أدعو عليهم كل يوم واتجنب أي احتكاك مع أي شخص قد يصيبني بأذى.”
ابتسم إيفان بسمة واسعة يقول :
” جيد إذن أنا سأدبر لكِ معلمين لهذه الأمور، المبارزة ورمي السهام والفروسية، ولسوء الحظ لا يوجد العديد من النساء هنا يبرعن في تلك الأمور فلا شقيقات لي، لكن يمكن لأمي أن تساعدنا ”
ومجددًا كان الرد من تبارك هو هزة رأس بسيطة منها، وكأنها لا تعي ما يحدث، فقط مستمرة في هز رأسها دون تردد، وهو يراقبها ليبتسم لها بهدوء :
” هذا كل شيء، أنا سأتحدث مع الملكة الأم لتساعدك في هذه الأمور، كما يجب عليكِ الإلتزام بغطاء الوجه خارج حجرتك مولاتي و….”
قاطعته تبارك دون تفكير، وهي حقًا مجبرة على قول ذلك في هذه اللحظة لكن جسدها هامد ضعيف تحتاج طعامًا لأجل حالتها الصحية، لذا تغلبت على خجلها القوي منه وقالت :
” أنا جائعة متى سأتناول الفطور ؟!”
بُهت وجه إيفان قليلًا يحاول أن يستوعب ما قالت، وهي لم تتغير ملامحها، بل أصرت تقول :
” لم يسألني أحدهم عما احتاج للفطور، أنتم لا تتناولونه هنا ؟؟ ”
رمش إيفان ثواني يحاول أن يجد ردًا في رأسه يناسب ما تقول، وما كاد يجيبها حتى سمع صوت الحارس يردد بصوت خافت :
” مولاي هناك امرأة لجأت لعدالتك وهي تنتظر في القاعة الآن”
نظر له إيفان ثواني قبل أن يصرفه بيده، ثم عاد بنظره لتبارك التي كانت تنتظر أن يخبرها متى تتناول طعامها، لكن هو لم يفعل، بل فقط ابتسم يشير لها أن تسبقه في السير :
” إذن تريدين مشاركتي في جلسات الحكم ؟! ربما يكون ذلك جيدًا كبداية لك لمعرفة ما نقوم به في المملكة ”
تنهدت تبارك بصوت مرتفع، ثم اشارت له كي يسبقها في السير وهي تمتم داخل نفسها بصوت منخفض حانق :
” أنا مالي باللي بتعملوه في المملكة، أنا جعانة عايزة أكل هو الناس دي عايشة على الطاقة الشمسية ولا ايه، ألا ما شوفت واحد بياكل ولا بينأنأ في حاجة من وقت ما جيت”
نظر لها إيفان بتسائل لتبتسم له وهي تهز رأسها، ثم زادت من سرعة سيرها وهو يلحق بها لا يدري ما تتحدث به مع نفسها، لكنه يدرك أنه ليس بشيء يود معرفته حقًا.
_____________________
ارتفع حاجب سالار قليلًا يحاول معرفة ما تريد تلك المرأة منه، ورغم أنه لا يحبذ الاختلاط بالنساء أو محادثتهن، إلا أنه أومأ موافقًا يشير لها صوب أحد مقاعد المكتبة وهي سارت أمامه تفرك يديها تفكر فيما ستفعل .
وبمجرد أن وصلت لأحد الأركان بادرت سريعًا دون أن تفقد شجاعتها بالقول :
” احتاج لمساعدتك، أخبرني اخي أن الجأ لك حين أصل للملكة هنا ومن سوء حظي في اليوم الذي تلى وصولي كان هو نفسه يوم رحيلك لاحضارك الملكة ”
تعجب سالار حديثها، ضيق ما بين حاجبيه متسائلًا :
” هل اعرفك ؟؟ وما الذي تريدين مني فعله تحديدًا ومن هذا شقيقك ؟!”
هزت كهرمان رأسها وهي تقول بصوت منخفض ومازال حجابها يخفي كامل ملامحها تردد بهدوء شديد :
” لا اعتقد أنك تعرفني شخصيًا، لكنك تعرفني لأخي ..”
فرك سالار رأسه وهو حقًا لا صبر له لمثل تلك الأحاديث التي يشوبها الغموض، هو يحب أن يلقي محدثه كل ما يريده في وجهه دون مقدمات كثيرة.
” نعم، إذن هل ستخبريني من أنتِ وكيف اعرفك، وماذا تريدين مني ؟؟ فأنا حقًا لست متفرغًا للحديث الطويل ”
بلعت كهرمان ريقها وهي تحاول أن تتماسك وتتحدث بصوت ثابت :
” قبل أن أخبرك من أنا أريد كلمتك سيدي ”
” كلمتي ؟!”
” نعم، رجاءً عدني ألا يعلم الملك شيئًا عني ”
ارتاب سالار أكثر من ذلك الطلب وشعور بوجود خطب خلف تلك الكلمات، شيئًا لن يسره .
” لم أعتد أن أعطي كلمة على ما لا علم لي به، لذا سيدتي إما أن تتحدثي بما جئتي لأجله، أو توفري وقتي ووقتك وترحلي ”
قاسي ؟؟ نعم ومتى لم يكن، أو ربما يمكننا تخفيف وقع تلك الكلمة والقول أنه جاد ولا يعترف بالحديث الكثير، هو رجل حرب لا يعترف سوى بالحديث المباشر، اما نعم او لا، لا يوجد في قاموسه كلمة ربما .
شعرت كهرمان أنها لن تفوز عليه، كما قال شقيقها، سالار لا يحب المزاح ولا يعجبه أن يملي عليه أحد شيئًا أو يجبره عليه، مثله كالملك، لكن ربما الملك متفهم ويستمع ومن ثم يتحدث ويحكم .
وفورًا رفعت حجابها تنظر له بجدية وهي تقول بصوت فاقد الحياة والأمل ونبرة ميتة :
” أنا الأميرة كهرمان، أميرة مشكى و….الوحيدة المتبقية من سلالة ملوك مشكى، شقيقة الملك أرسلان ”
اتسعت عيون سالار بقوة وهو يبصر أمامه شقيقه أرسلان، نعم يعرفها خين لمحها مرات قليلة داخل قصر ارسلان في بعض الزيارات الخاصة به، لمحات قليلة لم يهتم حقًا ليطيلها أكثر من ثواني، لكنها لمحات تكفي ليعلم أنها تقول الصدق .
سقطت دموع كهرمان وهي تقول بصوت قوي وحقد قاتل :
” اريد منك مساعدة في إعادة ارضي وارض أجدادي قائد سالار، اريد منك مساعدتي للقصاص، اريد أخذ قصاص شقيقي وامي، لكن دون معرفة من الملك أو حتى مساعدة منه، لا أريده أن يعلم بأمري ”
شرد سالار بعض الشيء في الفراغ في الوقت التي اطالت هي التحديق بملامحه، ملامح لم تر مثلها كثيرًا، رجل جسور قوي، وكذلك كان الملك يشبه سالار في الطباع مع اختلاف بعض الصفات والتصرفات بينهما و….مهلًا ما شأنها والملك الان ؟! هي فقط تريد مساعدة سالار وفقط، لن تطلب مساعدة بمن سعى لعداوة شقيقها .
” حسنًا ”
كانت كلمة واحدة، واحدة فقط نطق بها سالار قبل أن يتركها ويتحرك من أمامها يشير لدانيار وتميم باللحاق به وخرج من المكان بأكمله .
و تلك المسكينة ما تزال تقف مكانها تحاول أن تستوعب ما يقصد ذلك الرجل بكلمة ( حسنًا).. ماهذا حسنًا ؟؟ هكذا فقط ؟؟ أين الدراما والبكاء والتوعد والصراخ أنه سيجلب لها حق شقيقها ؟؟ أين كل ذلك ؟؟ ما هذا الجبل الذي عبر أمامها وكأنها لم تتحدث بشيء ؟! هل أخطأت حين لجئت له؟!
يا الله تشعر باحتراق داخلها، هي حقًا لا تصدق ردة فعل تلك، كلمة واحدة وتحرك بعيدًا عنها .
ونيران صدرها من يطفئها ؟؟ كرهها من يخففه، من سيتوعد بإعادة حق شقيقها ووالدتها ؟؟
ومن بين صدمتها تلك سمعت صوتًا جوارها بنبرة خبيثة :
” اول مرة تتعاملين مع ذلك المتجبر صحيح ؟!”
استدارت كهرمان بسرعة صوب العريف الذي كان يجلس على مقعده يحمل كتابًا وهو ينظر لها من خلفه ببسمة خبيثة، وفوق كتفه تقبع بومة تنظر لها بـ….بسمة ؟؟
هل تبتسم لها تلك البومة بخبث ؟؟
أعادت كهرمان الحجاب الخاص بها على وجهها بسرعة تخفي وجهها ليسارع العراف يقول بهدوء شديد ونبرة غامضة وهو تحسس ريش بومته :
” لا لا سموك لا تقلقي ما يخرج هنا في مكتبتي لا يعبر جدرانها ”
تنفست كهرمان بصوت مرتفع بعدما أدركت أن ذلك الرجل علم عنها ماتخفيه بالفعل :
” لا اريد لأحد أن يعلم ذلك رجاءً ”
ابتسم العريف يردد بنبرة هادئة:
” لن يعلم أحد مني شيء صدقيني، لكن الاسرار لن تبقى اسرار للابد يا فتاة، وخاصة إن كان ذلك السر هو مفتاح العديد من العقد كخاصتك ”
نظرت له بعدم فهم ليبتسم متحركًا عن مقعده يردد انشودة بصوت مرتفع بعض الشيء، ثم قال لها يحرك يديه في الهواء والبومة تتطاير حوله وكأنها تشاركه تلك الانشودة :
” لا اسرار تختبئ عن الحب، الحب يكره الغموض يا صغيرة، فلا تجديهما يجتمعان سويًا في قصة واحدة، وبالطبع قصتك ليست باستثناء، فإما أن يكشف الحب غموضك، أو أن يقتل غموضك الحب ”
اشتعلت الحيرة بملامح كهرمان التي لم تفهم من ذلك الرجل شيئًا، نظرت أمامها صوب مرجان الذي كان يحدق في العريف بتفكير يحاول أن يحل الغازه، وحينما أبصر نظرات كهرمان له هز كتفيه بعدم معرفة يقول :
” لا أعلم ما يقصد صدقيني، هو هكذا يحب لعب دور الغامض مع الجميع، وانا أجهل ما يريد، ربما تعلم البومة ما يقصد، لكن لسوء الحظ هي لا تتحدث كما تعلمين ”
ابتسمت كهرمان بعدم تصديق لما يحدث حولها :
” ما الذي يحدث أسفل سقف ذلك القصر ؟؟”
___________________
تقف في منتصف الساحة وهي تتمايل بكل دلال تمتلكه، له وحده تفعل ذلك علها تنال رضاه، أو نظرة واحدة منه .
لكن ذلك الذي الذي تكاد تقبل قدمه ليمنحها نظرة رضى واحدة، كان شاردًا لا يشعر بشيء حوله سوى تلك النيران التي تشتعل داخل صدره، حتى لمساتها له لم تؤثر به، ليس لأنه _ معاذ الله _ تقي أو ورع، بل لأن الصفعة التي نالها على وجهه من سالار ما يزال صداها يرن في أنحاء مشكى بأكملها .
تنفس بصوت مرتفع ينظر جوراه لتلك الفتاة ذات الملامح الملائكية التي تتنافى بالكامل مع أفعالها الشيطانية ..
” أنا لست في مزاج يسمح لي بالاندماج معك، لذلك اذهبي من أمامي كي لا انفجر بكِ، وستكونين الضحية الوحيدة هنا ”
انتفضت الفتاة متراجعة عنه، تتنفس بخوف من نظراته السوداوية، ليس وكأنها عاشقة له أو ماشابه، فمن سيحب رجل بوجه نصف مشوه وقلب اسود كبافل ؟! هي فقط شأنها كشأن جميع نسائه، تريد السلطة والثراء المرتبط باسمه .
تحركت الفتاة للخارج تزامنًا مع دخول رجل المكان يقول بصوت مرتفع :
” ارسلت لي سيد بافل ؟؟”
ابتسم بافل ينظر في وجه ذلك الرجل، واحد من شياطين الانس الذين اتحدوا معه لأجل إسقاط مشكى، قائد جيوشها الاول والذي باع مملكته لقاء سلطة اكبر من سلطته المقيدة ..
” نعم، لقد حان الوقت ”
نظر له الرجل بعدم فهم :
” وقت ماذا سيدي لا افهم ؟!”
” وقت إسقاط سفيد يا رجل ”
اتسعت عيون الرجل بصدمة كبيرة لا يصدق ما يسمع، سفيد ؟؟ الآن وقبل أن تتجهز جيوشهم ويستعيدوا حيويتهم بعد هجوم الامس ؟!
” لكن سيدي نحن لسنا مستعدين في هذه اللحظة لسفيد البتة، الأمر صعب، لا سفيد ولا آبى ولا سبز، نحن الآن في أضعف حالاتنا بعد قتل العديد من رجالنا و…”
قاطع كلماته رؤيته لخنجر يمر جوار وجهه وصوت بافل يصرخ بجنون :
” أنا لا آخذ رأيك يا هذا، ستنفذ ما أخبرك به، وإلا لحقت بملكك وجنودك ”
ابتلع الرجل الإهانة التي ألقاها بافل في وجهه وقال بصوت خانع :
” كما تريد سيدي، أخبرني ما يجب عليّ فعله وسأفعل ”
استند بافل إلى سيفه يشرد في المكان أمامه محاولًا التفكير في القادم، هو حقًا يحتاج لكل ذرة تفكير داخل عقله :
” نحن لن نعلنها حربًا صريحة، أريد اولًا أن أرد على هجومه، وسنفعل … ”
___________________
يجلس الثلاثة داخل معمل تميم الذي كان يعمل بجد على سلاحه العزيز والذي أوشك على الانتهاء منه :
” إذن أنت ستساعدها ؟؟”
هز سالار رأسه بهدوء :
” سأفعل، إن لم يكن لأجلها فلأجل أرسلان ”
تنفس دانيار بقوة وهو يفكر في شيء لم يفصح عنه، إن كانت تلك الفتاة والتي ادعت الخائنة _ كذبًا _ أنها شقيقتها وقد هربتا من قرية في غرب سفيد بعد هجوم المنبوذين، والآن اكتشف أن التي تدعي أنها شقيقتها، هي نفسها الشقيقة الوحيدة لملك مشكى السابق، إذن من تلك الفتاة ؟؟
انتفض جسد دانيار، أمام سالار الذي ضيق عيونه بعدم فهم لشروده العجيب ذلك :
” ما بك دانيار ؟؟ بم أنت شارد ؟!”
” لا أنا فقط …كنت أفكر إن كنا سنخبر الملك بشأن الأميرة أم لا، في النهاية هي تجلس أسفل سقف قصره ”
شرد سالار قليلًا قبل أن يقول بتقرير :
” لن نفعل، ليس الآن على الأقل، حينما أتأكد من شيء في رأسي أنا بنفسي ساخبره بأمرها ”
هز دانيار رأسه ولم يتناقش معه في شيء لمعرفته أنه يعلم ما يقرر جيدًا .
وبعد دقائق من الحديث تحرك دانيار بحجة رؤية شقيقه لأمر هام، وخرج من المعمل بسرعة تحت نظرات متعجبة من تميم و غامضة من سالار الذي أدرك أن دانيار يخفي شيئًا ما ..
بينما دانيار تحرك خارج المعمل يعيد خصلاته للخلف وهو يتمسك بحاملة سهامه جيدًا، يحيي جميع من يقابله برأسه، يسير في الممرات وهو يعلم أين سيجد تلك الخائنة .
خرج من القصر بأكمله وسار للجزء الخلفي من القلعة حيث الباب الخلفي المؤدي للخارج وهو يبتسم بخبث، خرج يضع قلنسوة أعلى رأسه صاعدًا أعلى فرسه، ثم اندفع به للسوق الشعبي حيث تلهو تلك المخادعة في مثل هذا الوقت من كل أسبوع .
نعم يراقبها داخل القصر ويعلم كل ما تفعله، وها هي مراقبته تؤتي ثمارها .
وفي السوق كانت هي تسير بحرية بلثام الوجه، و حجاب بسيط أعلى فستان اسود بحزام جلدي به بعض الخناجر تسير متفاخرة بهم، وكأنها تتحدى أن يقترب منها أحدهم .
وأصوات الباعة ترن حولها بشكل متداخل لم تهتم لهم، إلا أن جذب مسامعها صوت رجل يصيح بصوت هادئ رزين بعض الشيء :
” الحرير سيدتي ؟! اشتروا مني أفخر انواع الحرير في جميع الممالك”
حرير ؟؟ هذا مثير للاهتمام، منذ متى لم تشتر لنفسها شيئًا كهذا من باب الدلال ؟؟ تحركت زمرد صوب ذلك الرجل وهي تنظر صوب انواع والوان الحرير أمامه مبتسمة بسمة صغيرة .
بدأت تتلمس بأطراف أصابعها الحرير تقول بصوت خافت :
” مرحبًا يا عم بكم القطة لديك ؟!”
ابتسم لها الرجل بوقار واحترام شديد :
” بخمس قطع ذهبية آنستي، وصدقيني لن تجدي بهذا السوق ولا أي سوق بالمملكة اجمع من ينافس جودة وسعر حريري ”
ابتسمت زمرد وقد نال ذلك الحرير إعجابها ووقعت عيونها على قطعة من اللون البرونزي اللامع، لتلتمع عيونها تباعًا للأمر، تتحسسه بوله شديد :
” يبدو هذا مناسبًا لي، إذن سآخذ قطعتين، هذه و…”
وقبل أن تكمل كلمتها شعرت بيد تجذب الحجاب الذي تلفه حوله رقبتها، ويقوم بلفه حول وجهها بسرعة مخيفة، ثم سحبها من ذلك الحجاب، وزمرد ودون تفكير للحظة واحدة تحركت يدها صوب الخناجر الخاصة بها، لكن تلك اليد التي سحبتها بعنف أجبرها صاحبها على دخول زقاق ضيق لا أحد به، يدفعها صوب أحد الأركان هامسًا بصوت مخيف :
” مرحبًا بالخائنة الكاذبة والمخادعة ”
اتسعت عيون زمرد حينما رأت عيون تعرفها تمام المعرفة، رفعت حاجبها تتنفس بصوت مرتفع :
” كل هذا ؟؟ يا ويلي يبدو أنني اسوء مما توقعت ”
ابتسم لها دانيار بشكل مرعب ينزع القلنسوة عنه، ثم في ثواني كانت أنامله تنتزع جميع خناجرها ملقية إياها ارضًا، وبعدها ابتعد عنها يقول بصوت مهدد :
” والآن ايتها المخادعة تحدثي وأخبريني من أنتِ ومن ارسلك للقصر وبأي حجة ؟؟”
نظرت له زمرد بغضب شديد وعيونها تتحرك صوب الخناجر خاثتها بغضب شديد، تحركت بسرعة بغية امساكهم، لكنه نزع سهمًا من حافظة سهامه يضعه داخل القوس وموجهًا إياه عليها :
” أنتِ لا تريدين أن تصبحي هدفًا حيًا لسهامي صحيح ؟؟”
رمقت زمرد عيونه بغضب شديد لتميل بكل عناد صوب الخناجر الخاصة به وكأنها تخبره أن يفعل ما يريد، لكن كل ما فعل دانيار أنه امسك سهم آخر ووجهه لها، وهي رفعت حاجبها بسخرية وكأنها تخبره ( حقًا ؟؟)
وهو ابتسم بسمة أوسع ينتزع سهمين آخرين لتكون الحصيلة أربعة سهام في قوسه وجميعهم موجهين لرأسها :
” يمكنني الاستمرار حتى الصباح، وصدقيني سأزيد من سهامي حتى يمتلئ جسدك بأكمله.”
استقامت زمرد في وقفتها تقول ببسمة ساخرة :
” يبدو أنني أرهق تفكيرك لدرجة أن تأتي خصيصًا خلفي وتقف الأن امامي تبذر سهامك على جسدي ”
نظرت له بخبث شديد، ثم اقتربت منه خطوات صغيرة تقول بصوت هامس:
” هل حلمت بي لتقفز أمام وجههي منذ الصباح ؟؟”
ابتسم لها دانيار بسمة واسعة قبل أن تتحول تلك البسمة لضحكات مرتفعة، يميل قليلًا كي يصل لطولها :
” تتمنين، لكن عقلي لديه أمور أكثر أهمية منك ليفكر بها في نومي على هيئة احلام ”
رفعت زمرد حاجبها بسخرية :
” بل انت من تتمنى، لم يتبقى غير رامي السهام لارهق نفسي في أحلامه ”
فجأة شعرت بسهم يخترق الحاملة الخشبية خلفها لتشهق بصوت مرتفع وهي تتحرك بعيدًا عن كل ذلك، استدارت صوب دانيار الذي ابتسم لها ببساطة :
” سيدهشك ما يستطيع رامي السهام فعله، هيا لا تضيعي وقتي وأخبريني من أنتِ ومن أي مملكة جئتِ ”
صمت ثم سارع يلغي خطتها التي تلوح في عيونها :
” ولا تقولي أنكِ هربتي مع شقيقتك من الحدود الغربية حتى هنا، فكلانا يعلم أن شقيقتك هي نفسها أميرة مشكى،”
شهقت زمرد بصدمة مما قال، كيف علم الأمر ؟!
وقبل أن تبادر بطرح سؤالهم قاطعها شعورها بحد السهم يكاد يخترق رقبتها وصوت دانيار يهمس بتحذير :
” من أنتِ وما قصتك ؟؟”
ابتلعت زمرد ريقها تقول وهي ترفع يديها في الهواء تدعي استسلامًا :
” أنا…أنا الخادمة الخاصة بالاميرة، هربت معها ليلة اقتحام المنبوذين لقصر مشكى وقتلك الملك، وجئنا هنا للاحتماء بسفيد، ولم أتحدث بكلمة بناءً على أوامر الأميرة ”
مقنعة وجدًا، ومنطقية كذلك، كان يدرك أن هذا سيكون ردها، لكنه أراد التأكد، أو أنه فقط أراد حجة كي يتحدث معها ؟؟
” وكل تلك المهارات التي تستطيعين فعلها ؟؟”
” الأميرة علمتني كل ذلك، كنت اراقبها طوال فترة تدريبها وتعلمت معها ”
نظر لها دانيار بشك وهي فقط ابتسمت تبعد عنها حد السهم تقول :
” هذا كل ما اعرف سيدي صدقني ”
نظر لها دانيار قبل أن ينزع السهم يقول :
” أنا لا أستطيع تصديقك حقًا ”
” أوه اعلم هذه المشكلة فملامح وجهي لا تساعد في الأمر، لكن يمكنك المحاولة وستنجح يومًا ما ”
راقب دانيار عيونها السوداء التي كانت في تلك اللحظة ملتمعة، وابتسم بسمة جانبية يقول :
” نعم، ربما يومًا ما أستطيع تصديقك ”
أخفى سهامه مجددًا في حافظتها، ثم نظر لها من أعلى لأسفل يقول :
” يجب أن تتوقفي عن الهروب من العمل وإلا عوقبتي ”
عدلت زمرد من وضعية لثامها تقول بجدية :
” لقد منحني الملك إجازة لأجل ما فعلت بذلك المنبوذ الـ ”
صمتت تحت نظراته المتعجبة وكأنه يسألها عما تقصده، وهي قلبت عيونها بملل تراه يخرج سهامه مجددًا يضعها في القوس يوجهها لها .
” أي منبوذ وما الذي فعلته يا امرأة ؟؟”
نفخت زمرد بحنق شديد ترفع يدها تدعي استسلامًا :
” أوه ليس مجددًا ”
_________________________
كان هذا أشبه بالمحكمة في عالمها، لكن الأمر والمتعة كانت تتمثل أنها تجلس كما القاضي تستمع وتحكم، حسنًا الملك هو من كان يحكم بين الجميع، وهي كانت تشاهد بصمت، ربما يمكن القول أنها كانت تتخذ دور المستشار ؟؟ نعم يعجبها هذا اللقب .
وأثناء طريقها خارج القاعة بعدما تركت الملك يهتم بشؤونه، اصطدمت في امرأة جعلتها تتراجع للخلف بسرعة :
” اعتذر لكِ سيدتي لم …”
وقبل أن تكمل كلماتها وجدت تلك المرأة تنبذها وترحل بعدما ألقتها بنظرات غير مهتمة، فتحت تبارك عيونها بعدم فهم مما حدث .
أبصرت في تلك اللحظة سالار الذي كان يتحرك صوب القاعة وتوقف ليرى الام بينها وبين الملكة الأم، ويبدو أن الملكة لم تتعرف على هوية تبارك .
أشارت تبارك على المرأة التي رحلت وهي تقول :
” هي الست دي مالها زعلانة كده ؟!”
رفع سالار حاجبه ينظر لها من أعلى لأسفل متعجبًا ما ترتديه، إذ لم تعتد عينه بعد على رؤيتها بثياب نساء مملكته، وفجأة توقف على وجهها يقول :
” أين غطاء وجهك ؟!”
حملقت به تبارك بعدم فهم تتحسس وجهها :
” يعني ايه ؟! هو ده جزء من اللبس بتاعكم ؟! ”
” ماذا ؟؟ ما هذا الذي تقولينه ؟؟ هناك غطاء للوجه عليكِ وضعه قبل خروجك من جناحك …مولاتي ”
قال كلمته الأخيرة ضاغطًا على أسنانه بغضب، وهي نظرت له تقول بهدوء مستفز :
” محدش قالي حاجة، بعدين أنت مالك ؟؟”
ضغط سالار على أسنانه بغضب وهو يحدجها بتحذير أن تلتزم حدودها معه، وتبارك التي كانت منذ الصباح غاضبة في الأساس لم تخضع لنظراته تقول بجدية :
” وإن ظننت أن نظراتك هذه ستخيفني، فأنت محق أنا بالفعل اخافك، لكنني الأن في مقام الملكة؛ لذلك أنت مجبر على احترامي، والآن يا فتى أخبرني كيف أجد فطوري ”
تشنج وجه سالار بقوة يردد بعدم فهم :
” فتى ؟؟ حقًا ؟؟”
اطال النظر لها ثم اقترب منها يقول بتشنج وملامح مخيفة :
” من تظنيني يا امرأة ؟؟”
” البودي جارد بتاع الملك ”
رفع حاجبه يحاول ترجمة تلك الكلمات في عقله، هو يعلم بعض اللغات القديمة والقليل فقط من اللغات الجديدة، وهذه الكلمات يعلمها لكن لا يتذكر لها معنى :
” اسمعي جيدًا إليّ، هل ترين ذلك الشيء المعلق في خصري ؟؟”
اشاحت تبارك عيونها عنه صوب حزام خصره، ثم قالت :
” أتقصد ذلك السيف ؟!”
” نعم هو، لا تحاولي استفزازه فهو لن يفرق بين ملكة وعاملة ”
هزت تبارك رأسها بهدوء شديد تحاول أن تتجنب الجدال في هذه اللحظة ولم تقل سوى :
” الله يسامحك، أنا اساسا يعني مش ميتة على شوفتك، ده أنا مُنى عيني مشوفش وشك قدامي تاني ”
ابتسم سالار يردد ببسمة باردة مرعبة يهمس لها :
” ابشري..”
نظرت له بخوف متراجعة تردد رغم ذلك بعناد :
” قبلت البشرى ”
ابتسم لها وهو ينظر بشر صوبها :
” جيد، والآن مولاتي اسمحي لي بالمغادرة رجاءً، استأذنك الرحيل ”
أشارت له تبارك تتنحى عن الطريق ساخرة :
” تصحبكم السلامة ”
راقبت أثره ثم غمغمت بسخرية لاذعة :
” ناصح أنت آخر ثانية من الحوار تقول مولاتي وتحترم نفسك بعد ما تقل من قيمتي طول المناقشة”
تنهدت بصوت مرتفع تنظر في أرجاء القصر بتعب :
” ودول بياكلوا فين دول ؟؟”
_______________________
زفر بضيق شديد وهو يتابع مهيار بعيونه، يُجلسه هنا منذ ساعة تقريبًا كي يفحص جروحه التي حصل عليها سابقًا .
” مهيار بالله عليك ألم تنتهي ؟! أشعر أنني اجلس هنا منذ سنوات ”
نزع مهيار تلك اللاصقة يتذمر من تذمر تميم والذي كان لا يحتمل الجلوس على الفراش أمامه كالجالس على جمر، جمع كل أدواته يقول عقب تنهيدة صغيرة :
” انتهينا تميم، وربما يفيدك أن تهتم بجرحك فهو على وشك أن يلتهب مجددًا، وصدقني لن يعجبك ما ستلاقيه حين يحدث ذلك .”
التوت ملامح تميم يعيد ثيابه مجددًا وهو يهبط عن الفراش، ثم تحرك صوب باب الغرفة يردد بجدية كبيرة :
” نعم ربما حين انتهي من عملي، سوف اهتم به وارعاه”
ابتسم له مهيار بسخرية تفوق خاصته :
” حري بك هذا وإلا لا تلومن إلا نفسك ”
لوح تميم بيده يقول مبتسمًا :
” الوداع سيدي الطبيب ”
تحرك تميم خارج المشفى يتحسس جرحه بتعجب شديد، ثم بدأ يضغط عليه مجددًا وهو يردد بصوت مستنكر :
” هي من الأساس لا تؤلمني، لِم عليّ أن انتبه عليها إن كانت لا تفعل ؟؟ هراء، أنا في النهاية لن أخضع لكلمات مهيـ”
اصمتت دفعة من إحدى النساء حديث تميم لنفسه، إذ تراجع الأخير للخلف بسرعة كبيرة رافعًا يديه في الهواء معتذرًا :
” آسف لم ارك آنستي، اعتذر منك .”
ابتسمت الفتاة خلف غطاء الوجه تتحدث بصوت رقيق وقد وجدت أخيرًا فرصتها في الحديث معه، أو بالأحرى هي من صنعت تلك الفرصة إذ تحينت الوقت المناسب لتصطدم به .
” لا بأس سيدي أنا أيضًا لم انتبه لك ”
هز تميم رأسه يبتعد عن طريقها، ثم أكمل طريقه بكل بساطة، والفتاة تقف بصدمة أنه لم يزد كلمة واحدة على حديثها، فقط هز رأسه ورحل، ما الذي يعنيه ذلك ؟؟ ربما عذوبة صوتها لم تكن كافية ؟؟
وتميم كان يتحرك صوب معمله ليباشر عمله قبل أن يطرأ له ما يعطله، لكن فجأة سمع صوتًا خلفه يصرخ بوجع كبير .
استدار نصف استدارة ليجد الفتاة نفسها ساقطة ارضًا تبكي بصوت مرتفع متألم وكأنها للتو دهست لغمًا وانفجر بها، وتميم يقف ولا يدري ما يحدث لها، هو منذ ثواني تركها واقفة على قدمها دون أي مشاكل .
نظر حوله وكأنه يبحث عمن يساعدها، ولم يكد يتحرك حتى شعر بجسد يندفع من خلفه، جسد لفتاة طويلة القامة بعض الشيء يظن أنه يعرفه .
ولم يكن ذلك الجسد سوى برلنت التي كانت شاردة به من مسافة بعيدة لتبصر ما يحدث وتدرك نية تلك الفتاة الخبيثة التي تطمح للتلاعب بصانع الأسلحة خاصتها، حتى وإن لم يكن يعلم أنه خاصتها، فهذا لا ينفي الأمر من جهتها على الأقل.
حدق تميم في برلنت التي انحنت تقول بصوت مرتعب _ كما ظهر له _ وهي تساعد الفتاة :
” اه كيف حدث ذلك يا فتاة، هيا دعيني اساعدك، هيا هيا انهضي معي”
نظرت الفتاة صوب برلنت بنظرات لم تظهر لها من أسفل الغطاء، تشعر بالغضب يتلبس جسدها بينما وقف تميم لا يدرك ما يجب فعله .
تحرك لهما بتردد :
” هل ارسل للطبيب ؟؟”
التفتت له برلنت بحدة وغضب وكأنه للتو عرض الزواج على الفتاة وليس أن يحضر لهما الطبيب، لتنفجر بلا مقدمات في وجهه :
” نشكرك سيدي، نحن نستطيع الذهاب بأنفسنا له، لا نحتاج مساعدة من أحد، وفر مروءتك لمن يحتاجها حقًا”
رمقتها الفتاة بغضب تحاول نزع يدها من بين انامل برلنت :
” من أنتِ يا فتاة دعيني ”
اتسعت أعين تميم بصدمة من هجومها عليه بهذا الشكل، نعم هي بالتأكيد نفسها صاحبة اللسان السليط، وهي نفسها القردة التي رآها سابقًا حينما كان يسير بخيله .
ابتسم لها بسمة مغتاظة :
” حسنًا أنتِ محقة، فهناك من يستحق أن أظهر مروءتي له أفضل منكِ، لا اعتقد أنكِ بحاجة لها، لا أنتِ أو حتى رفيقتك ”
اعترضت الفتاة بقوة على هذا الحديث رافضة أن يشملها في غضبه من تلك المجهولة التي قفزت لها من حيث لا تعلم :
” هييه أنا لست رفيقتها سيدي أنا حتى لا اعلم من أين جاءت تلك الفتاة ”
لكن لا برلنت ولا حتى تميم اهتم لحديثها، فهو لم ينزع عيونه عنها بشر، وهي لم تبعد نظراتها _المختفية خلف غطاء الوجه _ عنه، تشعر بالغضب منه، من نفسها قبله، يالله فكرة أن يقترب من أمرأة أخرى تقتلها وهو من أخذ يضحك عليها حين أُصيبت، الآن يسارع لعرض خدماته على امرأة اخرى؟؟ الويل لك تميم :
” جيد، إذن ابحث لك عمن تساعده بعيدًا عن النساء، فلا أظن أنك تحسن مساعدتهم، بل أنت في الحقيقة تورطهم أكثر وأكثر ”
ضحك تميم بعدم تصديق، هي ترمي لذلك اليوم الذي حملها لينقذها من الانفجار وحينما أنقذها من فروع الشجرة، كل ذلك نسيته وتذكرت طريقة إنقاذه فقط .
” آه نعم وكأنني اتشوق بالفعل لمساعدة النساء، عزيزتي أنا من ترتمي النساء عليّ وليس العكس، واسألي رفيقتك”
ختم حديثه بنبرة صارمة وملامح حادة بعيدة كل البعد عن المزاح، ثم استدار للفتاة التي تناست تمثيلها السابق وقال بتحذير :
” وأنتِ التزمي حدودك وتوقفي عن هذه الالاعيب كي لا يتم معقابتك، عدن للعمل ”
أنهى جملته يستدير متحركًا بعيدًا عن عنهما بملامح صخرية وجمود معروف به بين الجميع، تاركًا برلنت تراقبه بحسرة، حسرة كبيرة داخل قلبها، رؤيته يرحل هكذا ذكرتها بأكثر أيامها تعاسة حينما تركها وحيدة قديمًا ..
ولم تشعر برلنت في خضم قهرها وحسرتها بتلك الفتاة التي أخذت تتذمر وتتمتم بضيق منها، ثم ضربتها بكتفها ورحلت، وبرلنت ما تزال تنظر لظهر تميم بأعين دامعة وقد عادت لها ذكرى بعيدة لمراهق يرحل عنها غاضبًا بعدما أفرغ في وجهها كرهه وجنونه …
كانت برلنت الصغيرة تتمسك بعضد تميم البالغ من العمر سبعة عشر عامًا وهي تبكي بحرقة وجنون، تأبى تركه يرحل، ليس بعد كل تلك الأعوام يتركها وهو رفيقها الوحيد :
” لا لا تميم، ارجوك أنا ارجوك سامحني، اقسم أنني كنت مجبرة على فعل ذلك، اقسم لك اجبروني على ذلك تميم، لا تتركني ”
انتزع تميم ذراعه من بين يديها صارخًا بغضب وقد شعر بالنيران تحرق صدره مما علم عنها تحول كامل الحب لها لبعض شديد ومقت :
” لا تدعيني أرى وجهك مجددًا وإلا اقسم أنني لن ارحمك”
لكن برلنت صاحبة الثانية عشر عامًا، امسكت يده تبكي برجاء :
” ارجوك أنا آسفة، أنا آسفة تميم، صدقني لن تتكرر، ارجوك فقط هذه المرة، تميم هذه المرة الاخير اقسم بالله العظيم ستكون المرة الأخيرة ”
لكن تميم انتزع يده منها بقوة وهو يميل بجسده للأرض حيث سقط جسدها يقول بشر ونبرة مرعبة وتهديد واضح في جميع حروفه رغم عيونه الحمراء الدامعة :
” نعم ستكون الأخيرة برلنت، ستكون الاخيرة، لأنني لن أراكِ مرة ثانية، وإلا قتلتك حينها وتخلصت منكِ ”
صمت يتنفس بصوت مرتفع وقد التمعت عيونه بالدموع وقد بدا صوته كأنه يتوسلها :
” لا تدعيني أراكِ مجددًا ارجوكِ، لا تجبريني على قتل الشيء الوحيد الجيد في حياتي بيرلي، لا اريد معرفتك بعد اليوم ”
ختم حديثه بصراخ جنوني، ثم انتفض تاركًا إياها مبتعدًا بملامح صخرية متألمة وجسد جامد وهي تتابع خطواته بجسد مرتجف ودموع مستمرة، خسرت رفيقها الوحيد، بل الشخص الوحيد الذي كان يشاركها بؤسها وكله بسببها هي وبسبب غبائها .
نظرت برلنت حولها بأعين ضبابية بسبب دموعها تتساءل إن كانت أربعة عشر عامًا فترة كافية لتلتئم جروح تميم، هل تكون فترة كافية لينسى ما فعلته كما نساها هي ونسى حتى اسمها ؟؟
______________________
يقف في نافذة شرفته، أو بالأحرى نافذة الشرفة التي أخذها بالقوة، بل بالمعنى الأدق سلبها من بين أنامل أصحابها، اخذ منهم ما حرموه منه قديمًا، حاز واخيرًا وطنًا له ولشعبه بعدما نبذهم الجميع.
الآن من يضحك ؟؟ من انتصر الآن ؟؟
كان صدر بافل ينتفخ بقوة وهو يحدق بمشكى وفي عيونه نظرات تلتمع بالقوة، ولم يكتفي، ليس بعد، لن يكتفي الآن ولا غدًا ولا بعد غد، لن يكتفي إلا حينما ينال مراده، سيأخذ جميع الممالك ويجعل له ولشعبٍ نُبذ قديمًا أكبر مملكة عرفها التاريخ .
سمع صوتًا خلفه ينبأه بمقاطعة أحدهم لطموحاته الكبير ليستدير نصف استدارة :
” هل فعلت ما طلبت منك ؟؟”
هز مساعده رأسه بطاعة، ليبتسم بافل ويعود ببصره مرة أخرى صوب مشكى يتأمل بها غير مصدقًا أنه فاز وجميع شعبه بها، لكن أخرجه من كل ذلك ومجددًا صوت الرجل خلفه .
” سيدي …هل .. ألا تظن أن ما فعلته كان مبالغًا به ؟ أعني أن تمنع عنهم الطعام والشراب وجميع متطلبات الحياة، أشعر أنه بهذه الطريقة لن ندفعهم للرضوخ، بل سندفعهم إما للموت أو الانتفاض مجددًا ”
قست أعين بافل بقوة، وعلى فمه ارتسمت بسمة جانبية واثقة :
” إن لم تأتي القوة بنتيجة معهم، فلا بأس أن نلجأ لطرق اخرى، لا اريد أن تتركوا بين ممرات المملكة غلة أو طعام سوى القليل، القليل فقط والذي يجعلهم ينشغلون بالصراع عليه عما أفعل، اتركهم يقاتلون بعضهم على الطعام بدلًا من التفكير في القتال معي ”
استدار لرجله الذي علت نظرة من الانبهار وجهه وقال بجدية :
” اشغلهم بحاضرهم، ليتناسوا مستقبلهم”
اتسعت بسمة الرجل وود لو صفق لبافل، لكن بافل لم ينتظر منه تحية أو تصفيق بل فقط أشار بيده في هدوء شديد، لكن ليس قبل أن يقول :
” افعل ما أخبرتك به وأعلن بين المملكة أن كل من ينضم لجيوشي سينال ذهبًا وطعامًا وفيرًا يكفيه ويكفي عائلته، فإن لم يهزمهم الموت، سيهزهم رؤية صغارهم يموتون جوعًا، وبعدها سأقتص لنفسي من سفيد وجميع الممالك، وبأيدي شعب مشكى ”
___________________________
نظر العريف للسيف الموجه لرقبته يشعر بالحنق يملئ صدره، يا الله متى تفنى تلك المملكة بمن فيها وينتهي من كل ذلك ؟!
زفر يحرك عيونه عن السيف صوب صاحبه الذي كان مبتسمًا ببرود شديد يجلس أمامه على أحد المقاعد واضعًا قدم فوق الأخرى وسيفه على رقبة العريف .
” لقد مللت من العمل في هذا القصر، سوف استقيل ”
ابتسم إيفان بسمة مستفزة :
” لا بأس يمكنك الاستقالة كما تريد وسأقوم بتعيين مساعدك بدلًا عنك ”
ابتسم مرجان بسعادة كبيرة وهو يقف جوارهم وقد استقرت البومة فوق كتفه بعدما رأت سيف إيفان :
” مرجان يا مولاي ”
هز إيفان رأسه دون أن يبعد عيونه عن العريف ونفس البسمة ما تزال مستقرة أعلى وجهه :
” نعم سأعين مرجان بدلًا عنك ”
انتشرت السعادة والأمل بمستقبل مبهر داخل أعين مرجان في لحظات صغيرة، يالله واخيرًا سيصبح العريف، سيكون اصغر عريف في جميع الممالك، هذا حلم يتحقق :
” إن هذا لشرفٍ لي مولاي ”
وحينما فرغ من الحديث شعر بجناح البومة يصطدم في وجهه وكأنها تنتقم منه لأنه يود أخذ مكان مالكها في المملكة .
كانت أنظار العريف ما تزال موجهه على وجه إيفان الذي ينتظر منه كلمات بعينها جاء لأجلها فقط بعدما أخبره سالار أن العريف يخفي شيئًا .
” هيا أيها العريف تحدث بما تعلم ولا تصعب الأمور عليّ وعليك، سالار أخبرني أنك تخفي شيئًا تأبى الاعتراف به، وهو بالطبع لا يمكنه تخطي صلاحياته ويمس عريف المملكة بسوء وإلا تعرض للعقاب الشديد ”
رفع العريف حاجبه بسخرية، ليبتسم له إيفان يقرب منه السيف أكثر وهو يهمس باستفزاز :
” لكن أنا الملك وأستطيع فعل ذلك بسهولة ”
زفر العريف يدفع السيف عن رقبته صارخًا بغضب جنوني :
” ليرحمني الله من اربعتكم، لقد احلتم آخر سنوات عمري لجحيم، انظر إليّ، بدلًا من العيش في راحة ورغد واحترام كما يحيا أي عريف، اعيش في تعاسة لأن حظي كان من السوء لاعاصركم أنتم الأربعة ”
ابتسم له إيفان يقول بشفقة مصطنعة :
” أثرت شفقتي عليك أيها العريف، لا بأس ربما بعدما تخبرني بما تعرفه عن أمر الخيانة أتركك لتعيش بسلام ”
ابتسم له العريف بسمة جانبية يقول :
” أنا لا اعلم شيء بخصوص أمر الخيانة مولاي وما اعرفه أنت تعرفه جيدًا، فشكوكك التي تدور داخل رأسك هي الحقيقة، لذا فأنت لا تحتاج مني لسماع ما تشك به بقدر ما تحتاج لتأكيده، وهذا ما لن تجده لدي ”
أنزل إيفان سيفه ينظر صوب وجه العريف بشرود كبير، يحاول أن يفكر فيما يقصد، الآن العريف يؤكد له شكوكه التي بدأت تتحرك صوب منطقة اليقين، ومن بين افكاره سمع صوتًا خبيثًا للعريف يتساءل دون مقدمات وهو يميل على الطاولة :
” إذن ماحال ملكتنا يا مولاي ؟!”
رفع إيفان نظراته للعريف الذي رمقه بنظرات غامضة جعله يشك بوجود أمرٍ ما :
” هي بخير، لِم تتساءل ؟؟”
هز العريف كتفه بهدوء شديد ينتزع كتابه الذي كان يطالعه قبل أن يهجم إيفان على المكتبه يقول بهدوء شديد :
” لا شيء فقط أردت الاطمئنان أن امورك تسير على ما يرام معها، هذا مستقبل سفيد كما تعلم ”
ضيق ايفان عيونه على العريف يميل على الطاولة التي تفصل بينما يستند عليها بذراعيه يهمس بصوت منخفض :
” ما الذي تخفيه أيها العريف، هل هناك ما يدور حول الملكة وأنا لا اعرفه ؟!”
نظر له العريف بجدية تخفي خلفها تلال مكر وصوت هادئ برئ خرج منه :
” لا العفو مولاي، الملكة بخير، وكل الامور بخير معها”
صمت ثواني يدور بإصبعه على الطاولة متظاهرًا بعدم الإهتمام، قبل أن يرفع عيونه لايفان متشفيًا به :
” فقط لو تتوقف عن التعامل معها كرجل حرب وتعاملها كأميرة ستكون الأمور افضل وستنقشع غيومها وتلين لأجلك، تحدث معها بلسانك ودعك من حديث السيوف هذا ، فملكتنا أبية لا تخضع لمثل هذه الأحاديث، ورقيقة تستطيع سلب لُبها بكلمة واحدة، فقط ألقي بسيفك وحدثها بلسانك .”
رمقه إيفان بعدم فهم، ما الذي يقصده ذلك الرجل؟؟ العريف لا يقول أبدًا حديثًا غير مقصود، بل لطالما تحدث بما يراه في رؤياه، أو ما يعلمه، وهو لطالما تحققت جميع رؤياه ..
تنفس يفكر فيما يقصد، هو لم يتعامل مع الملكة يومًا كرجل حرب، هو بالفعل يعاملها كأميرة، ما الذي يقصده ذلك الرجل ؟؟
العريف كعادته لن ينطق بكلمة أو يزيد بحرف واحد ولو نحرت رأسه، فهو هكذا يعشق الالغاز ويهوى الغموض .
نهض إيفان من مقعده يتحرك بسرعة خارج المكتبة، يسير بين ممرات قصره وعقله يدور في دوائر مفرغة، تنفس بصوت مرتفع وهو يفكر في مقصد العريف، هل يعامل الملكة بتصلب ؟؟ لكن هو لم يسبق وأن عاملها كما الآخرين.
توقف فجأة وقد عاد رأسه ليفكر فيما ذهب للعريف خصيصًا لأجله، هو ذهب ليتأكد مما قاله سالار بخصوص معرفته بأمرٍ ما يخص حادثة مشكى، والعريف أخبره أن شكوكه بخصوص الأمر صحيحة .
اسودت نظراته وهو يتحرك بقوة يبحث بعيونه عن سالار، وهو يعلم جيدًا أين سيجده .
سار بسرعة كبيرة صوب منطقة تدريب الجنود مرورًا بساحة النزال حيث كان تميم يقاتل وكأن لا غد له إن خسر، لكن لم يجذب اهتمامه تميم بقدر المكان نفسه، صوت السيوف والحركات داخل الساحة ذكره بنزال قريب، جسد رشيق يقفز في المكان وصوت اصطدام سيفه بخاصتها يرن داخل أذنه، خصلات شعرها التي كانت تفلت دون قصد من قبعتها ..
ودون شعور رنّ داخل أذنه صوت العريف مجددًا بتلك الكلمات الغريبة وعيونه التمعت بقوة وانتفض قلبه ..
“فقط لو تتوقف عن التعامل معها كرجل حرب وتعاملها كأميرة ستكون الأمور افضل وستنقشع غيومها وتلين لأجلك، تحدث معها بلسانك ودعك من حديث السيوف ”
اهتز صدر إيفان من تلك الخاطرة ولا يعلم سبب ربط كلام العريف بها، نفض كل ذلك عن رأسه، فملكته هي تبارك وهي من جاء بها لأجل أن تشاركه الحكم، وتلك الفتاة التي لا يعلم لها من هوية ما هي إلا خادمة تهوى إثارة استفزازه، وهو سيعلم هويتها، سيفعل وحينها سينظر في أمرها.
تحرك بسرعة صوب سالار وقد تناسى متعمدًا كل ذلك وتعهد على الانتهاء من تعليم الملكة كل شيء قبل أن تتقلد الحكم وتشاركه العرش ويعلنها رسميًا ملكة سفيد .
________________
وعند تلك الخادمة التي تهوى استفزازه ..
وفي حجرة اجتماع وراحة العاملات، كانت كهرمان تتوسط دائرة مع زمرد وهما تغنيان بصوت متناغم واجسادهما تتمايل على ضرب الدف من باقي الفتيات حولهما، رقصة تقليدية بحتة معروفة منذ القدم في جميع الممالك، لكن القليلات فقط يتقن تلك الرقصات بمرونة كما النساء قديمًا .
كهرمان تغلق عيونها وترقص بكل قوة وهي تتخيل أمامها والدتها تصفق لها وتشجعها لتكمل، وصوت ارسلان يضحك حولها وهو يردد بصوت مرتفع :
” حسنًا لا أدري سبب تعلمك لتلك الرقصات السخيفة حبيبتي، فلا أحد سيراكِ ترقصين على أية حال ”
توقفت كهرمان عن الرقص تقول بدلال فطري :
” لكنها تشعرني بأنوثتي التي تدفنها في القتال جلالة الملك، فكلما شعرت أن عضلات يدي تشتد، ألنت خصري”
ختمت كلماتها بغمزة تعالى على إثرها صوت ضحكات ارسلان، وبدأت هي تدور حوله وفستانها قد تفتح كزهرة في موسم ربيعها وصوت ضحكات ارسلان مع ضرب الدف من والدتها مثلا لها معزوفة في غاية التناغم .
وعند زمرد كانت سابحة كذلك في ذكرياتها المتعلقة بتلك الرقصة كذلك، لكنها لم تكن وردية بقدر كهرمان، بل كانت سوداء وهي ترى الأجساد تحيط بها والجميع يهتف باسمها لتزيد من رقصاتها وهي ترقص كأن لا غد لها، ترقص بقوة وكأنها في قتال، ترفع يديها وتحرك كتفها، ثم تميل بخصرها وعيونها تطلق سهامًا على من يحيط بها وفجأة يرتفع التصفيق في المكان معلنًا عن تحررها من كل ذلك ..
توقف جسد زمرد فجأة عن الدوران وهي تتنفس بصوت مرتفع، ثم انتبهت أن أصوات التصفيق صادرة من الفتيات حولها وليست نابعة من عقلها.
ابتسمت لهن بسمة صغيرة وهي تنظر لكهرمان جوارها والتي كانت تمسك أطراف فستانها برقة وتهبط بجسدها قليلًا تشكرهم برقي، تلك الغبية لن تنسى أنها ليست أميرة هنا، فلا تنفك تتصرف كالاميرات .
تحركت كهرمان مع زمرد خارج الحلقة لتعلو اصوات النساء مجددًا في حديث وإنشاد بعد الاناشيد القديمة على قرع الدف وكل ذلك بالفعل في غرفة مخصصة وفي أبعد نقطة في القصر حيث لا تصل اصوات غنائهن أو ضحكاتهن للرجال، فلا يُفتن بهن أحد.
انتبهت كهرمان من بين بسماتها لبرلنت التي كانت تجلس في أحد الأركان تشاهد العروض بأعين تكاد تقسم أنها لا ترى ما يحدث أمامها.
ضيقت ما بين حاجبيها تتساءل عن خطبها، لتقرر لاحقًا أن تعلم منها وأن تساعدها إن اضطرت .
عادت بنظراتها للنساء لتجد أن احداهن تتظاهر بمبارزة الأخرى في أحاديث مضحكة ويقلدن الجنود، لتبتسم هي بسمة صغيرة سرعان ما تلاشت دون وعي وهي تتذكر قتالها مع الملك، خفق قلبها بقوة لمروره بخاطرها، ربما اشتاقت لقتال معه آخر، لكن متى يحين موعد ذلك القتال ؟! ربما قريبًا ؟
_______________
” هل أخبرك أحدهم أنني أعمل خادمًا لكِ في هذا القصر …مولاتي ؟؟”
كان ذلك هتاف سالار بعدما خرج من جناحه وتفاجئ بتبارك تدور في المكان والممرات تائهة كالعادة، وحينما أبصرت ركضت صوبه كالغريق المتلهف لطوق نجاة، وقبل أن يتساءل عما تفعل خارج جناحها هكذا، قاطعته قائلة :
” أنا جائعة، هلّا أحضرت لي بعض الطعام رجاءً هناك أدوية احتاج لتناولها وقد تأخر وقتها ”
نظر لها سالار بعدم فهم وفضول وكاد يتساءل عن تلك الأدوية التي تتحدث عنها، لكنها قاطعت أفكاره تقول بتسلط :
” بسرعة أريد طعامًا، واخبرهم أن يكثروا من وضع الملح به ”
حقًا الآن أصبح خادمًا، بل مربيًا للملكة، كلما شعرت بالجوع ركضت صوبه تطالبه بوجبة ؟!
لكن تبارك والتي صمتت بعدما ألقى تلك الجملة الحانقة في وجهها لم تعلم ما يجب قوله سوى :
” أنا… أنا معرفش غيرك هنا، و…محدش بيسأل على اكلي وانا مش عارفة أنتم جايبني هنا تجوعوني ولا ايه ؟!”
زفر سالا، ثم نظر لوجهها يتحدث بجدية :
” اسمعي، مواعيد الطعام هنا مقدسة، الفطور يكون بعد الشروق، والغداء يكون بعد صلاة الظهر، والعشاء بعد صلاة المغرب، لا نقدم دقيقة ولا نأخر دقيقة، وإن فاتك ايًا من تلك الوجبات، تتحركين صوب المطبخ وتسألينهم أن يحضروا لك طعامًا، ويا حبذا لو أنك ناديتي أي عاملة في الممرات واخبرتيها ما تريدين، فلا يجب أن تخرجي بين الحراس كل دقيقة بهذا الشكل دون غطاء وجه أو حتى لثام، أنتِ ملكة تأمرين فتطاعين ”
سخرت من جملته الأخيرة، زودت لو تضحك لكن هو منعها يقول بجدية :
” أدرك أن الملك يتعامل معك بهدوء وصبر لأنك تجهلين قوانينا، لكن هناك أمور لا يجب تجاوزها كغطاء الوجه ”
ختم جملته بنبرة غاضبة وعيونه تدور حوله باحثًا عن أي رجل قد يكون انتبه لها وينظر صوبها، وهي تنظر له فقط بجهل لسبب غضبه، تدرك أنها تخرق العديد من قوانين مملكته، لكن السبب كان وببساطة أن أحدهم لم يخبرها تلك القوانين .
تنهدت تقول بصوت هادئ :
” حسنًا اسمع، اولًا أنت لا يحق لك أن تصرخ في وجهي بهذا الشكل، سواء أن كنتُ ملكة أو حتى جارية، لا حق لك في الصراخ بوجهي فقط لأنك تفوقني طولًا وتسير حاملًا سيفًا في حزامك، أنا أيضًا سأتعلم القتال وسأتفوق عليك وسترى ذلك يومًا ما، ثانيًا طلبت منك مساعدة كان يمكنك الرفض دون الحاجة لكل تلك المحاضرة، فلن أموت جوعًا إن لم تتكرم سيادتك واطعمتني ”
نظر لها سالار بهدوء شديد ونظرات غامضة تعلو عيونه، لا تفهم ما يفكر به خلف قناعه الحديدي ذلك، لكن ومن حيث لا تعلم شقت بسمة غريبة دخيلة ملامح وجهه التي لطالما كانت صامدة في وجه أي علامة سعادة، وصوته خرج هادئًا يقول :
” أولًا، تهاني الحارة لكِ مولاتي لتعلمك المبارزة، لكن صدقيني حتى وإن اصبحتي محاربة فلن يأتي عليكِ يوم وتهزميني، فلا تحاولي المقارنة بين صقرٍ يحفظ السموات السبع ويحلق بهن بمهارة، وبطريق علمتيه الطيران بعد نضجه، لا يستوون ”
بُهت وجه تبارك حينما التقطت ما يرنو إليه من خلف كلماته تلك، وشعرت بصدرها يمتلئ عزيمة على إسقاط كبرياءه ودهسه أسفل أقدامها، وسالار يكمل حديثه ببسمة أكثر أتساعًا :
” ثانيًا، لا تتحدثي بكل ثقة هكذا، فأنتِ ستفنى اعوامك المتبقية حتى تصلي فقط لمكان المطبخ وليس لتتناولي طعامك ”
رفعت تبارك رأسها بكبرياء كبير تتحداه أن يزيد كلمة أخرى، تقاطع تلك المحاضرة التي ضرب بها سالار كبرياءها بها عرض الحائط .
ودون كلمة استدارت للرحيل، ليس لأنها غاضبة بالفعل وستعاقبه بالصمت وتجاهله، بل لأنها لا تجد ردًا ملائمًا عليه .
تحدث بصوت ساخر :
” إلى أين مولاتي ؟؟”
قالت تبارك دون أن تهتم حتى بالاستدارة والنظر له :
” للجحيم”
ابتسم بسمة متسعة أكثر يقول :
” أوه، هكذا إذن، هذه مرتك الاولى التي تختارين الطريق الصحيح مولاتي، فهذا بالفعل طريق الجحيم ”
ولم تهتم تبارك لمعرفة ما يقصد بل أكملت طريقها في تلك المغارة التي تشبه المتاهة، لِم على طرقات القصر أن تكون متشابهة؟؟ ربما لو كانوا استخدموا دهان مختلف لكل ممر لاستطاعت حفظ طريقها ..
زفرت وهي تفكر في سالار وكلماته ، أخذت تتمتم بصوت منخفض وحنق تقلد صوته :
” أنتِ ستفني اعوامك المتبقية حتى تصلي للمطبخ .. وكأن مفيش بشر اسألهم عن الطريق غير، اللي يسأل ميتوهش ”
توقفت في منتصف ممر غريب مختلف عن غيره مظلم أكثر لا حجرات به سوى درج يقبع في نهايته، نظرت حولها تبحث عمن تسأله عن الطريق وهي تفكر أين هي وماذا تفعل هنا .
” هيحصل حاجة لو حطوا بجد في كل ركن تلاجة ؟! لازم اقترح الاقتراح ده على الملك بكل جدية ”
وقبل أن تستدير للعودة من ذلك الطريق وتجنب الدخول لذلك الدرج المظلم، فهي ليست من الغباء والفضول الذي يجعلها تخوض في المجهول وتخاطر بنفسها .
تذكري تبارك خطة السلامة الجسدية التي وضعتها لذاتك، نفسك، ثم نفسك، ثم ….ما هذا ؟؟ هل هذه اصوات صرخات متألمة ؟! هناك من يستغيث ويصرخ .
انتفض جسد تبارك بقوة وهي تنظر حولها مبتلعة ريقها، ولم تستطع أن تخطو خطوة أخرى خارج الممر، وواجبها يحتم عليها الذهاب ورؤية ما يحدث، هناك من يتألم وهي …هي ممرضة تستطيع أن تساعده إن كان بحاجة للمساعدة .
اقتربت من ذلك الدرج تخطو للاسفل بتمهل شديد ورعب وصوت الصرخات يقترب أكثر، والخوف يعلو .
” مرحبًا، هل هناك أحد هنا ؟؟ أنا…أنا يمكنني المساعدة ”
لكن كل ما وصل لها في المقابل صوت صرخات أعلى، ومن العدم خرج رجلان يحملان سيفين في وجهها واعينهما تقدح شرارًا ليهتف أحدهما في وجهها بصوت جهوري قوي :
” ما الذي تفعلينه هنا ؟؟ وكيف وصلتي لهذا المكان ؟؟”
شحب وجه تبارك تتراجع بخوف للخلف تحاول أن تجد كلمات تجيب بها عليه :
” أنا فقط …سمعت صرخات تستغيث و…فكرت أن هناك من يحتاج مسا….”
وقبل أن تكمل كلماتها أطلقت صرخة مرتعبة رنت في الإرجاء حولها حين رفع أحد الرجلين سيفًا في وجهها بقوة وبسرعة كبيرة لم تستوعبها حتى، وسقطت هي ارضًا تخفي وجهها مرتجفة …
وقبل أن يصدر أحد الرجلين أي كلمة إضافية أبصرا جيدًا يمنع الضوء الصغير الذي يتسرب من الطابق العلوي، وقد تعرفا إلى ذلك الجسد جيدًا، ابتلع الرجل ريقه بريبة حين سمع صوت القائد يهدر في المكان بقوة :
” سيفك للاسفل ولا تتجرأ وترفعه في وجهها مجددًا ”
وفي ثواني اخفض الجنديان سيوفهما، ونظرات سالار ما تزال محتدة، تحرك بعيونه صوب تلك المجنونة التي لم يتخيل أن تغامر وتلقي نفسها في هذا المكان المخيف حيث السجون الأكثر خطورة في المملكة .
تنفس بصوت مرتفع يحاول أن يهدأ يرى نظراتها المترجفة صوبه وكأنه والدها وجاء لينقذها من بعض المتنمرين، رفع سالار عيونه للجنود وقال باحترام شديد لها بقصد أن يعلمهم هويتها :
” اعتذر هما بدر من الجنود مولاتي فهم لا يعرفونك بعد ”
تراجع الرجال للخلف برعب من تلك الكلمات وارتابوا من معانيها، وقد أجاب سالار قائلًا بتأكيد عما وصل لهما :
” هذه هي الملكة، اظهروا بعض الاحترام لها ”
اخفض الرجال رؤوسهم ارضًا واضعين ايديهم جانبًا مخفيين سيوفهم للخلف متحدثين بنبرة طاعة عمياء :
” نعتذر عما بدر منا مولاتي لم نتعرف عليكِ”
تراجعت تبارك للخلف دون رد وهي تنهض بتعثر تستند على الجدار، ثم نظرت لهم ولسالار وبعدها تحركت بسرعة خارج هذا المكان تتجنب كل تلك الصرخات، وبمجرد أن وصلت الممر الخاص بالطابق العلوي حتى أطلقت لساقيها الريح تبكي بخوف شديد مما رأت، وسالار الذي خرج خلفها بسرعة كبيرة يتنفس بصوت مرتفع، يتحرك خلفها يحاول اللحاق بها، وكذلك فعل حينما وصل لمفترق الطرق يراها تنظر لهما بريبة أن يقودها أحدهما لحتفها هذه المرة .
صدر صوته من الخلف يقول بهدوء وصوت بارد بعض الشيء :
” هذا كان سجن القصر ”
استدارت له تبارك بحدة، ليكمل بهدوء شديد :
” غير مسموح لأحد أن يطأ تلك الممرات اطلاقًا .”
تجاهلته تقول بصوت منخفض :
” اريد العودة لغرفتي إذا سمحت ”
نظر لها ثواني قبل أن يسبقها بهدوء شديد وهي تسير خلفه دون كلمة ومازالت يدها ترتجف كلما تذكرت ذلك السيف الذي كاد يخترق رقبتها، أولم يهددها سالار من قبل مئات المرات، لِم لم تخف منه وتلك كانت المرة الوحيدة التي ترتعب لتهديد.
دقائق قليلة وسمعت صوت سالار يقول بهدوء :
” وصلنا ”
رفعت عيونها له بغرض شكره، لكنها تعجبت حين وجدت نفسها تقف في شرفة واسعة بها طاولة كذلك تطل على الحديقة، نظرت له تبارك بعدم فهم ليقول سالار بهدوء وبنبرة جادة لا حياة بها بعدما أخفض عيونه ارضًا يميل لها باحترام مستخدمًا رأسه :
” سأرسل لك العاملات بالفطور هنا ..”
وبهذه الكلمات غادر، غادر تاركًا تبارك تنظر لاثره بصدمة كبيرة تحاول أن تستوعب ما فعل، لقد احضرها لتتناول فطورها، هو اهتم بها رغم كل شيء ..
هو إنسان جيد رغم كل تلك القشور الصلبة التي تحيط به…
وسالار الذي تحرك بعيدًا عنها بعدما أخبر العاملات بكل شيء تريده ونبه عليهن أن تسألنها كل وجبة إن كانت جائعة ويحضرن لها الطعام تجنبًا لكل ما يحدث حين تفوت الطعام .
توقف سالار في الممر حين أبصر جسد تميم يتحرك له بسرعة وبلهفة شديد وهو يقول من بين أنفاسه المبعثرة وقد كان واضحًا أنه يركض :
” قائد، جيد أنني وجدتك، نحتاجك وبسرعة، هناك حرب قد اشتعلت في قاعة العرش في تلك اللحظة ….”
_______________________________
«فإما أن يكشف الحب غموضك، أو أن يقتل غموضك الحب »
يتبع…
مستقر أعلى عرشه بكل كبرياء يرفض حتى أن يخفض نظراته صوب الجميع وبسمة جانبية ترتسم على فمه بعد كلمات الملك آزار الذي يقف مع جنوده في منتصف قاعة عرشه، وجواره يقف الملك بارق ( ملك سبز) وهو يطيل النظر به ينتظر منه إجابة على اتهام آزار له .
” إذن ملك إيفان، لا رد لك على ما قيل في حقك منذ دقائق؟!”
نظر إيفان بهدوء شديد صوب بارق يجيب بمنتهى البساطة وبملامح عادية :
” وما الذي قيل في حقي منذ دقائق ملك بارق ؟!”
” تلك الرسالة التي وصلت لمملكة الملك آزار من بافل تفيد أنك الشخص الذي عاونه لدخول مشكى منذ البداية ”
هبط إيفان عن عرشه يتجرد من تاجه، ومن ثم نزع ثوب الملك الذي يتطاير خلفه ليظل فقط بثيابه العادية ويقف أمامهم بهدوء يقول :
” أوه نعم، بخصوص هذا ..لا أنا لا أملك رد على مثل هذه التُرّاهات ”
ضحك آزار بشراسة صارخًا في وجه إيفان وقد اشتعلت اوداجه بالغضب مما يقال :
” وما الذي سيقوله ملك بارق ؟! سيخبرك أنه تعاون مع هؤلاء الشياطين لإسقاط مملكة مشكى ؟؟ هل سيعترف على نفسه ؟؟ سيحبرك أن حقده وكرهه للملك ارسلان تحكما به لدرجة أن يتناسى صداقتهما التي استمرت عقود ويبيعه للشيطان بافل ؟!”
تحركت أعين إيفان ببطء شديد صوب آزار يجيب ببرود لم يتخلى عنه منذ بداية الحوار فإن فعل لن يضمن أن تظل جدران القاعة مكانها :
” جيد أنك تعلم أن الخائن لن يأتي ويعترف على نفسه، ومن افضل منك ليعلم ملك آزار ؟؟”
بُهت وجه آزار وشعر بالصدمة من تلميحات إيفان له، في الوقت الذي دخل به سالار بقوة يتحرك صوب الجميع وقبضته تحسست سيفه يتجهز لأي هجوم، لكن نظرة من إيفان أوقفت كامل تحفزه .
هدأ جسد سالار قليلًا، لكنه لم يُسقط كامل دفاعاته في انتظار إشارة صغيرة منه، و عيونه تدور على آزار الذي همس بدفاع عن نفسه :
” ما الذي ترنو إليه ملك إيفان، تلك الرسالة التي وصلت لقصري تخبرني بوضوح أنك أنت من ….”
قاطع إيفان كلماته وهو ينظر له نظرات قوية مخيفة :
” يبدو أن هناك علاقة طيبة بينك وبين بافل لتتبادلا الرسائل ملك آزار، علاقة طيبة لدرجة أن يصل مرسولة حتى قصرك، حسنًا أخبرني لِم ارسل لك أنت بالتحديد رسالة يدينني بها ؟؟”
صمت ثم أضاف بسخرية لاذعة وهو يميل له برأسه : هل أنت الوصي عليّ؟؟ أم هل يظنك ستوقفني عند حدي إن كنتُ بالفعل خائنًا، والسؤال الأهم هو، هل بافل من الغباء الذي يدفعه لكشف حليفة بهذه البساطة ؟؟ لا تخبرني أنه اكتفى بمشكى وقرر أن يكشف مساعده لكم لتتخلصوا منه ”
صمت ثم دار بعيونه بين الجميع يقول بهدوء شديد يضم يديه خلف ظهره وصدره العريض بارز أسفل ثيابه البيضاء :
” حينما تأتي بإجابة لهذه الأسئلة ملك آزار يمكنك وقتها أن تأتي وتحقق معي في مملكتي وقتها ربما أسمح لك بفعل ذلك، ربما … ”
ابتلع آزار ريقه ولا يفهم حقًا ما يحدث حوله، بينما بارق والذي يثق في إيفان ثقة عمياء ولم يصدق ما قيل له، تقدم يقول بهدوء :
” اعتقد أن بافل بدأ يحاول اللعب على تفرقة الممالك الثلاثة المتبقية ليسهل له كسرنا إيفان، يتلاعب بنا ويحاول إسقاطنا واحد تلو الآخر، وربما أراد البدء بمملكتك لذلك ارسل تلك الرسالة لمملكة آبى ”
رفع سالار حاجبه وهو ينظر للجميع بهدوء وعقله يدرس كل ما يدور حوله من أمور، المشاكل تتفاقم والخيوط تتشابك والقطع تسقط واحدة تلو الأخرى .
هنا وقرر سالار التدخل بهدوء كبير وبكلمات مقتضبة كعادته :
” شخص كبافل لن يكتفي بمشكى ولن يتوقف عند حدود سفيد، وشيئًا فشيء ستتفاقم طموحاته وتصل لآبى وسبز، وصدقني أنت لا تود أن ترى ما فعل بمشكى ”
نظر له بارق باهتمام شديد يثق بعقلية سالار الحربية والذي كان يدرك جيدًا ما يقول، فلا تخرج منه كلمة دون تفكير طويل :
” ما الذي تراه إذن سالار ؟؟”
وكلمة واحدة أصدرها سالار بعدما نظر لايفان يستأذن منه الحديث وايفان منحه بسمة خبيثة وكأنه يعلم جيدًا ما سيقول سالار، وقد كانت كلمة واحدة هي التي أخرجها وهي أكثر الكلمات التي يألف لسانه حروفها :
” الحرب ”
ابتسم إيفان يضم ذراعيه لصدره يوافق سالار بقوة :
” نعم يبدو هذا خيارًا ملائمًا لي ولمملكتي ”
اعترض آزار بقوة على تلك الفكرة في هذا الوقت تحديدًا :
” لكن ملك إيفان الأمر ليس بهذه البساطة التي تتحدث بها أنت وقائد جيوشك، نحن نتحدث عن حرب مع المنبوذين والذين أصبحت أعدادهم منذ آخر مواجهة معهم مرعبة، نتحدث عن مجموعة تغلبت على الملك ارسلان وجيشه وهزمته شر هزيمة ”
ولأول مرة لا يطلب إذن إيفان للحديث، بل دفعه الغضب للدفاع عن صديقه واسمه بعد وفاته، صديقه الذي كان جندي جسور شريف إذ قال بقوة لم يكتبها إيفان الذي ترك له حرية الدفاع عن رفيقهم :
” ملك آزار، الملك أرسلان لم يُهزم شر هزيمة، بل غُدر به، لقد هجموا عليهم وقت صلاة الفجر، قتلوا الجنود وهم ساجدون لربهم، واستغلوا عنصر المفاجأة وقتلوهم، وارسلان أنا متأكد حتى وإن لم أكن معه، أنه مات محاربًا شامخًا ولم ينحني لهم ولو قطعوه اربًا، أنت تتحدث عن ملك مشكى الذي استلم بلاده خرابًا بعد وفاة والده ونهض بها لتصبح من أقوى الممالك ”
ابتسم إيفان يؤيد كل كلمة نطق بها سالار في حق أرسلان والذي رغم عداوته الأخيرة معه، إلا أنه لا ينسى رفيقه ومدى قوته وتجبره وتكبره :
“الجميع هنا يعلم مدى تعنت وعناد وتكبر أرسلان، وأنه يومًا لم يكن ليقبل بأقل من ميتة تليق ببطل مثله، وأنه ما رفّ له جفن واحد لحظة قتله، أرسلان لم يُهزم بل أُجلت حربه ليوم تجتمع به الخصوم”
شعر آزار بالغضب الشديد يشعل صدره وهو يسمع تلك الكلمات من سالار ليسارع ويدافع عن مكانة مملكته :
” ها اقوى الممالك ؟؟ يبدو أن الأمر كان في عقلك فقط يا قائد، فعندما أراد بافل أخذ مملكة لم يجد اضغف منها ليفعل، فالجميع يبدأ بالاسهل ”
أجابه سالار دون أن يرف له جفن وبكلمات قاطعة :
” بل بالاقوى، إن أردت إنهاء لعبة ما فأنت لن تبدأ بالجنود، بل ستستهدف الملك…مولاي ”
كانت كلمات سالار هادئة سلسلة بسيطة وكأنه يخبرهم بحالة الطقس، فقد كانت ملامحه عادية ساكنة لا يظهر أي شيء جديد .
وللحق الملك بارق لم يبتأس أو يعترض فهو يومًا لم يُصنف مملكته مملكة قتالية أو قوية، بل مملكته كانت مملكة مسالمة من الدرجة الأولى تبتعد عن كافة المشاكل، ورغم ذلك لديه جيش لا يُستهان به، لكنه لم يسبق وأن خاض معارك سوى تلك التي خاضتها جميع الممالك سابقًا على والد بافل .
لكن آزار لم يكن بمثل تفهم وتعقل بارق، فاشتعل صدرة غضبًا وامتلئ كرهًا، وضمر في نفسه ضغينة لن ينساها، متوعدًا بأن يثبت للجميع وليس سالار فقط من تكون مملكته وما هو موقعها بين الممالك الأربعة .
” حسنًا إذن، إن كنتم تريدون الحرب، فاستعدوا أنتم لها، وجميع تباعيات الحرب أنتم من سيتحملها ملك إيفان .”
ابتسم له إيفان بسمة جانبية وهو يرى النيران تكاد تخرج على الجميع من أعين آزار، ولولا ثقته في قوى آزار الحربية التي تنافس خاصة سالار لكان أنهى الحوار معه منذ سنوات واعلنها قطيعة بينهما، لكن هو ليس بذلك الغر الذي يتخذ قرارات في لحظات غضب عاطفية كأرسلان الذي أضاع حياته بسبب تجبره وتكبره وغضبه الجحيمي الذي يقوده، هو فقط ابتسم وهز رأسه هزة بسيطة يقول بكامل الهدوء والدبلوماسية:
” لك ذلك ملك آزار ..”
_________________
يسير بين طرقات المملكة وهو يلقي التحية على هذا وذاك وهناك بسمة واسعة لطيفة ترتسم على فمه، والجميع يرحب به ترحاب كبير، فمن لا يعرفه وهو الزائر الدائم لهم جميعًا..
تحرك داخل بعض الأزقة ينحرف يمينًا ويسارًا حتى توقف في النهاية أمام محل يبدو عليه القدم فهو من أوائل الأماكن التي وضعت بالمملكة .
دفع الباب الخاص بالمكان بخفة شديدة يميل بعض الشيء متفاديًا تلك النباتات التي تزين مدخل المحل، وفي الحقيقة لم تكن تلك النباتات هي الوحيدة في المكان فها هو يقف في أكثر محلات النباتات شعبية داخل أرجاء مملكته، ابتسم يحرك عيونه في الإرجاء، حتى وقعت عليها تقف هناك خلف الحاجز الخشبي الذي يفصل بين الزبائن والبائع تخط بعض الكلمات في ورق أمامها .
” أسعد الله صباحك آنستي ”
رفعت الفتاة عيونها ببسمة مشرقة ترحب بالزائر :
” صباح الخير سيدي كيف اسـ…. سيد مهيار ؟!”
ابتسم مهيار لها بسمة واسعة أبرزت غمازتيه يرحب بها برأسه ترحيبًا بسيطًا :
” مرحبًا بكِ آنسة ليلا، كيف هو حالك ؟!”
تنفست ليلا بصعوبة وهي تنظر له، لقد جاء لم يخب رجاؤها أن تراه اليوم في فترة توليها لمحل والدها، شعرت بالتوتر لتدور بعيونها في المكان تتفقد النباتات وكأنها ستطير من المكان :
” أنا… أنا بخير سيدي اشكرك، إذن كيف اساعدك ”
اقترب مهيار قليلًا من الحاجز يقول بهدوء وبسمة راقية لطيفة جعلت ضربات قلب ليلا تزداد حتى كادت تركض خارج المحل هاربة من عيونه التي تحدق بها في نظرات بريئة لا تمت لمشاعرها بصلة :
” نعم رجاءً، احتاج لمساعدتك في إيجاد بعض النباتات الطبية، لقد اوصيت بها والدك منذ اسبوع وهو أخبرني أن آتي اليوم لأجلها ”
نعم فعل، ولهذا هي هنا الآن..
” أه نعم صحيح، لقد أخبرني أنك ستأتي لأجل نبات المخدر لحظة واحدة أحضره لك من المخزن في الداخل ”
هز مهيار رأسه بلطف :
” خذي وقتك ”
ابتسمت له بسمة صغيرة، ثم تحركت بسرعة بعيدًا عنه تحاول أن تتنفس بشكل طبيعي، يالله متى يُكتب لحبها أن يرى النور، إلى متى ستكتمه في صدرها، مهيار العزيز والذي كان دعوتها في كل صلاة .
بينما في الخارج كان مهيار ينظر صوب الباب الذي دخلت منه يبتسم بسمة صغيرة، ثم دار بعيونه في المكان بأكمله ينتظر عودتها .
وما هي إلا دقائق حتى عادت له ليلا تحمل العديد من العبوات الزجاجية والتي تحوي نباتات عديدة، تسير صوبه بهدوء وعلى استحياء، وما كادت تعبر صوب مكانها حتى اهتزت عبوة وكادت تسقط ليركض لها مهيار يمسكها بسرعة، يرفع عيونه لها يقول بلهفة :
” انتبهي لخطواتك آنستي ”
ابتلعت ريقها تهز رأسها بهدوء شديد، ثم وضعت العبوات أعلى طاولة تقول بصوت مكتوم لشدة مشاعرها :
” اشكرك سيد مهيار، هذه هي جميع العبوات التي تركها ابي لأجلك سيدي ”
ابتسم لها مهيار، ثم اقترب ليتفحصها لتنتفض هي بعيدًا وكأنها للتو أمسكت بقطعة جمر، وهو حدق بها في تعجب شديد لتطيل النظر داخل عيونه البنية تتنفس بصوت مرتفع تحاول أن تجد مبرر لحركتها الملحوظة الغبية، فهو حتى لم يقترب منها بشكل ملحوظ .
ابتلعت ريقها تقول بصوت منخفض :
” لقد …شعرت بـ …هو ”
قاطع حديثهم صوت صراخ خارج المحل لامرأة تستغيث بالجميع، وصوت بكاء يصاحب صراخ المرأة تلك .
ترك مهيار العبوات يتحرك خارج المحل وهي لحقت به بسرعة لتجد أن هناك سيدة كبيرة في العمر ملقية ارضًا وهناك فتاة تجلس جوارها تبكي بخوف، نظرت لها ليلا بشفقة تقترب للمساعدة، لكن كان مهيار قد سبقها يجلس القرفصاء جوار السيدة يتفحص نبضها وابنتها ما تزال تبكي بخوف .
اقتربت منها ليلا بغية تهدأتها، لكن الفتاة في تلك اللحظة لم تكن واعية سوى بالنظر صوب مهيار بحب وقد شردت فيه بشكل جعل جسد ليلا يتصنم بملامح شاحبة .
وفي الحقيقة الفتاة حتى لم تنظر بنظرة سيئة واحدة لمهيار، بل فقط كانت تنظر له برجاء أن يطمئنها على والدتها، لكن ليلا العاشقة التي ذابت في حب مهيار الصامت طوال سنوات طويلة، كانت من اليأس الذي يجعلها تتحسس لأي نظرة انثى بريئة ولا تراها سوى نظرات اعجاب .
شعرت ليلا بالوجع والغيرة تشتغل بها، تنتظر أن ينتهي مهيار من فحص تلك المرأة، وبعد دقائق استطاع مهيار إنقاذ السيدة، ثم ساعدها مع ابنتها لتنهض .
ربتت السيدة أعلى كتفه تقول بشكر وامتنان :
” بارك الله بك يا ولدي، لا أراك الله مكروهًا في حبيب يا عزيزي ”
قبل مهيار يدها بحب، ثم شكرها يودعها، وبالطبع لم تتوقف الفتاة الشابة عن شكره تحت أعين ليلا التي كانت تراقب بصمت ما يحدث.
فجأة استدار لها مهيار لتتوتر بسرعة وتنظر بعيدًا عنه تخفي نظرات التحسر والوجع عنه، وهو ابتسم لها يقول :
” دعينا نعود لأخذ اشيائي ”
وبالفعل دخلت ليلا المحل تتحرك صوب مكانها حيث كان تقف تدون ما اخذ مهيار، وهو بدأ يتأكد من اشيائه، ثم نظر لها يقول بجدية :
” ليلا ..”
توقفت دقات ليلا لثواني قليلة فقط شعرت أنها لا تستطيع التنفس، رفعت عيونها له بتردد ليقول ببسمة بعدما وضع كل العبوات في حقيبته الجلدية :
” بلغي والدك تحياتي واخبريه أنني سآتي بعد يومين لأخذ الباقي، أراكِ لاحقًا يا صغيرة ”
ختم حديثه يخرج من المحل بهدوء شديد آخذًا معه ما نجى من ضربات قلبها بعد نطقه اسمها مجردًا، وهي كانت تقف مكانها تحاول أن تتنفس بشكل طبيعي :
” أراك لاحقًا … مهيار ”
_________________________
استغلت كهرمان استراحة الطعام تتحرك صوب برلنت التي كانت تعمل كعادتها بحرية وانطلاق، لكن وللمرة الأولى تبصر نظرة حزن دفينة داخل عيونها .
اقتربت منها تجذبها معها دون كلمة خارج المكان بأكمله صوب الحديقة الخلفية، وبرلنت تنظر لها بعدم فهم، بينما زمرد لحقت بهم دون كلمة فهي لا تضمن أن تتصرف واحدة منهن بشكل قد يتسبب في كارثة .
” والآن أخبريني جيدًا ما يحدث معكِ برلنت ؟! ما هذه النظرات التي تعلو عيونك طوال الوقت و…”
توقف كهرمان عن الحديث حينما وجدت أعين برلنت تجحظ بقوة تبصر فتاة تقترب منها بسرعة تنتوي لها شرًا، ولم تستوعب ما يحدث إلا وهي ساقطة ارضًا بفعل ضربة تلك الفتاة التي لم تكتفي بصفعة واحدة بل هبطت فوق وجه برلنت بالضربات تحت أعين كهرمان المصدومة.
وفي ثواني كان أول ما استوعب ما يحدث هي زمرد التي ركضت تسحب الفتاة من حجابها بقوة مرعبة للخلف، بينما برلنت ظلت ملقية ارضًا تحاول التنفس تنظر لعيون الفتاة التي كانت تهجم عليها والتي كانت نفسها تلك التي حاولت التقرب من تميم .
تحركت الفتاة بين يدي زمرد بحدة تصرخ بجنون :
” سأُريك الجحيم أيتها الحقيرة، أنتِ من وشيتي بي لدى المشرفة، أعلم أنكِ فعلتي هذا عمدًا لأجل ما حدث ”
كانت تحاول التحرك بين يديّ زمرد والتي شددت قبضتها تنظر لها بعدم فهم ولا تعلم ما تقصد لكنها هزتها بغضب :
” توقفي عن الحركة قبل أن افصل عظام رقبتك عن جسدك يا ابنتي ”
نظرت لها الفتاة بسخرية شديدة ولم تهتم بكل ذلك تقول بتعمد مستفزة كل ذرات هدوء برلنت التي كانت كهرمان تساعدها في النهوض :
” اعلم أنكِ فعلتي هذا لأجل تقربي من صانع الأسلحة، ماذا هل أنتِ مغرمة به لهذه الدرجة ؟؟ هو لن ينظر لكِ حتى ولو نظرة عابرة، وفي النهاية سيكون لـ ”
وقبل أن تكمل كلماتها اندفعت برلنت بشكل مرعب لدرجة أن كهرمان والتي كانت تساعدها سقطت ارضًا على ظهرها، تراقب برلنت قد اندفعت تجذب الفتاة من يد زمرد تخنق رقبتها بشكل مرعب وهي تهمس لها بصوت مخيف :
” إن فكرتي فقط مجرد تفكير أن تقتربي منه، سأتخلص منك ولن اهتم، لن اهتم لا بكِ ولا بأحد، سمعتي ؟! ابتعدي عنه ”
حدقت الفتاة في أعين برلنت برعب مما تقول تحاول الحديث :
” أنتِ مجنونة ”
” نعم ونصيحة مجانية مني، تجنبي تلك المجنونة ”
ختمت حديثها تترك الفتاة والتي أخذت تسعل بقوة، ثم ابتعدت عنها وهي بهيئة مدمرة سواء كان بسبب امساك زمرد لها، أو بسبب ما فعلته برلنت، تراجعت للخلف ترمق الثلاثة برعب، ثم هرولت بعيدًا عنهم تصرخ برعب :
” أنتن مختلات ”
ابتسم كهرمان التي كانت ما تزال مسطحة ارضًا :
” مرحى اصبحنا مسجلات خطر ”
رفعت زمرد حاجبها مبتسمة باستمتاع لما يحدث :
” هل ستخبرينا سبب ما حدث منذ ثواني أم لا ؟”
نظرت لهن برلنت قبل أن تنهار ارضًا تدفن رأسها بين يديها تهمس بصوت مختنق :
” لقد تعبت من كل هذا، تعبت واوشكت على الاستسلام”
اقتربت منها كهرمان بتعجب تحاول رفع رأسها لتعرف ما يحدث، لكن برلنت لم تسمح لها بذلك وجسدها ينتفض بشكل بسيط، اتسعت عيون زمرد بتعجب تدرك أنها تبكي .
جلست ارضًا جوار الاثنتين على الأرض العشبية :
” هييه برلنت ما بكِ يا فتاة، كل هذا لأجل صانع الأسلحة أم ماذا ؟! أوليس هذا من كنتِ تسبينه مرتين قبل النوم ومترين بعد الاستيقاظ وتخصصين له دعوات في صلاتك، هل اسقطك في عشقه بهذه السهولة؟!”
انفجرت برلنت في البكاء أكثر تهتف من بين شهقاتها :
” بل تخطيت هذه المرحلة زمرد، تخطيت العشق منذ سنوات، أنا أهيم بتميم ”
اتسعت أعين كهرمان بقوة لما سمعت تستنكر أن تنمو كل تلك المشاعر داخل صدرها في اسابيع فقط، الحب لا يُبنى في أيام، ولا يتأسس في ساعات، بل يحتاج سنوات كي يتأسس ويُبنى ويشيد بشكل صحيح فيصبح صعب الهدم .
اقتربت منها زمرد تقول بجدية :
” ما الذي تهزين به برلنت، لقد كنتِ تسبين الرجل منذ أيام قليلة، متى أحببته لهذه الدرجة ؟؟”
نظرت لهما برلنت تقول من بين دموعها :
” منذ سنوات طويلة، أنا… أنا أعرف تميم منذ سنوات طويلة ”
نظر الإثنان لها بجهل لتقول برلنت بصوت منخفض وكأنها عادت سنوات طويلة للخلف :
” تميم اعرفه منذ كان طفلًا، كان …كان جاري وصديق طفولتي وكل ما املك في هذه الحياة، اعرفه قبل أن يصبح صانع أسلحة أو يأتي لقصر الملك، كنت اعرفه منذ كان مجرد صانع فخار مع والده ”
اتسعت عيون كهرمان بصدمة مما سمعت ويبدو أن برلنت كانت تخفي الكثير خلف تلال مرحها المعهودة :
” كيف ذلك ؟؟ هل يعلم أنكِ هي نفسها تلك صديقته ويتعامل معكِ بهذا الشكل ؟؟”
اختض جسد برلنت برعب شديد تقول :
” لا لا، لا يعلم ولا أريده أن يفعل رجاءً، لا اريد أن يعلم أنني أنا نفسها برلنت تلك، هو …هو تركني منذ كنت في الثالثة عشر ولم يتعرف عليّ الان، ولا أريده أن يفعل ”
” لماذا ؟؟”
كانت كلمة واحدة من زمرد أعادت سيل الذكريات الذي بنت برلنت امامه اسوارًا منذ سنوات طويلة، ذكريات سوداء عادت لرأسها وصرخات وبكاء، لكن من بين كل هذا تسرب صوت خافت لتميم وهو يهمس بكلمات خافتة حنونة ..
” لا تنبذيني يومًا وأنت المَسكن بيرلي”
قالت برلنت بصوت موجوع وهي تنظر أمامها بشرود :
” لقد ..لقد حطمته لاشلاء دون أن أدرك حتى، اذيته في أكثر شيء احبه في حياته، دمرته دون أن أعي، وهو كان من الكرم ليرحمني ويتركني حية، أو هكذا اعتقد هو، أياليته احرقني يومها واحرق معي عذابي هذا …..”
______________________
كانت القاعة ما تزال مشتعلة بالنظرات رغم أن الكلمات توقفت، هدأ الجميع وجلسوا على مقاعدهم، لكن الملك آزار ما يزال يوجه اتهامات صامتة صوب إيفان والذي كان يقابلها ببسمة مستفزة باردة لا يهتم بكل ذلك .
بسمة كانت قادرة على إشعال غضب آزار مجددًا، لينتفض عن مقعده يصرخ بجنون لم يخمد بعد :
” ملك إيفان…”
نظر له إيفان بهدوء ونظرات احترام :
” نعم ملك آزار ؟!”
تنفس آزار بقوة يهتف بهسيس مخيف :
” إن كنت تود أن تنتهي هذه الحرب بين طرفين فقط فتحكم بنظراتك، فحتى إن لم تنطقها أو تتحدث بكلمة فنظراتك تقول الكثير ”
ابتسم له إيفان يقول باحترام أكبر يعلم جيدًا أن آزار لا يمرر أي همسة تسيء له أو تقلل منه ومن مملكته، فهو لطالما كان مريضًا بداء العظمة، لا يرى من هو أفضل منه، يتجاهل الجميع حوله بدعوى أنهم حتى لا يستحقون اهتمامه .
” اعتذاري لك مولاي، يبدو أن نظراتي تسبب لك ازعاجًا شديدًا، اعذرني مولاي ”
ابتسم بارق يحدق في الاثنين وهو يدرك جيدًا أن هذه الجلسة لن تنتهي بسلام كعادتهم حين يجتمعون، فإما أن تنتهي بانسحاب آزار غاضبًا، أو بانتفاضة إيفان وخروجه عن هدوء .
ومن بين كل تلك النظرات الغاضبة والحرب الباردة، اقتحمت هي المكان بكل هدوء وبسمة واسعة ترتسم على فمها، تتحرك صوب الملك دون أن تنتبه لما يحدث حولها .
والحميع يحدق فيها باستنكار شديد، فقد كانت أشبه بفراشة ملونه ربيعية تتطاير داخل أرض بور محترقة عقب حربٍ طاحنة، كانت لا تلائم المشهد بأي شكلٍ من الأشكال .
على التشنج ملامح سالار يراقب تبارك تخطو للقاعة بكل بساطة وبالطبع لم يوقفها الحرس لمعرفتهم بهويتها، ابتسم بعدم تصديق يراها تنظر صوبه مبتسمة وكأنها ترسل تحيتها لرفيقها في الروضة ..
وضع سالار قبضته على فمه يكتم ضحكته على ملامح إيفان المسكين والذي تلقى لتوه طعنة أخرى في منتصف صدره حين رأى ما تفعل ملكته، ورغم غضبه الشديد لاقتحامها الاجتماع الخاص بهم، إلا أنه لا ينكر تشفيه في إيفان الذي تنحنح يتململ في مقعده وقد أفسدت تبارك كامل الثبات الذي لم يستطع آزار بكل بطشه أن يهزه بمقدار شعرة .
” ملكة تبارك ”
نظرت له تبارك مبتسمة بهدوء بعدما كانت تنظر لبارق بابتسامة وكأنها ترحب به :
” نعم ؟؟”
أشار لها إيفان على المقعد جواره كي تتحرك لتجلس معه، رافضًا التقليل من شأنها أمام الجميع ومطالبتها بالرحيل، لكن سالار لم يكن بمثل ذلك الرقي ليفعل فقال بهدوء وجدية كبيرة هامسًا في أذن إيفان:
” مولاي هي لا يمكنها حضور هذا الاجتماع ”
نظر له إيفان بحنق، وكأنه لا يعرف، لكن هو فقط لا يريد أن يخجلها ويجبرها على الرحيل وهو في الأساس من أرسل لها لتأتي لكنها تأخرت كثيرًا لتصل :
” أعلم، لكن لا يمكنني طردها من القاعة والتقليل منها سالار، وأمام الجميع ”
قال سالار ببساطة شديدة يرفع عن ملكه هذا الحرج أمام الملكة، هو من الأساس لا تجمعه علاقة طيبة بها، فما الضير من تشويه صورته أكثر بعض الشيء :
” يمكنني فعل ذلك إن أردت”
اتسعت أعين إيفان بصدمة من بساطة حديثه، لكن سالار لم يهتم سوى بتبارك التي جلست على المقعد بتوتر شديد هي فقط جاءت له بناءً على طلبه، فقد أرسل لها منذ ساعتين تقريبًا يخبرها بحاجته للتحدث معها، وبعد أن تاهت وتناولت طعامها جاءته، لكن يبدو أنها اختارت وقتًا غير مناسب .
همست بخفوت وهدوء شديد :
” مولاي، لقد طلبتني وتأخرت، معذرة منك، ربما جئت في وقت غير مناسب، يمكنني الذهاب الآن والعودة لاحقًا”
قال سالار بهدوء شديد يرفع عن الملك حرج الرد عليها :
” خيرًا ما ستفعلين ”
رمقه إيفان بتحذير، لكن سالار في هذا الوضع هو اليد العليا، فهذه حرب وهو رجل الحرب، وهو المسؤول في هذه اللحظة عن كل ما يجدث داخل هذه القاعة، هنا تعلو صلاحياته فوق صلاحيات الملك :
“رجاءً دعي أحد الحراس يرشدك حيث تريدين، كي لا ينتهي بكِ الأمر تتناولين العشاء مع زوجة الملك بارق في سبز ”
رمقته تبارك بغيظ شديد تشعر بصدرها يتآكل غضبًا منه، تحدق في عيونه بغضب شديد، هذا الرجل يستهين بها بشكل مبالغ، وسالار لا يهتم حقًا بنظراتها تلك يمنحها بسمة صغيرة محترمة، فقط لأن الملك جالس، ولأنها الملكة بالطبع ولها منه كامل الاحترام .
تدخل إيفان في المنتصف يحاول أن يتحدث :
” مولاتي، اعتذر عن حديث سالار، هو فقط لا يستطيع انتقاء كلماته طالما لم يكن الأمر متعلق بالقتال، اسمحي لي أن اوصلك بنفسي للخارج حيث تريدين ”
نظرت له تبارك ببسمة واسعة، ولا تصدق أن هناك من يتعامل معها بهذا الرقي، حركت عيونها صوب سالار الذي كان يحدق بها بحاجب مرفوع مستنكرًا ما يحدث .
استأذن إيفان من الجميع :
” دقائق واعود، سالار تولى الأمر ”
تركهم يشير لتبارك أن تسبقه في السير، وهي بالفعل تحركت معه خارج القاعة تقول بصوت منخفض :
” مولاي حقًا لا يجب عليك ذلك، رجاءً عد للاجتماع، استطيع طلب مساعدة أي فتاة هنا او حتى الحراس ”
لكن إيفان كان مصرًا على فعل ذلك، فهو لا يجلس معها كثيرًا وقد كان مقصرًا في حقها وبشدة، لذلك أراد تعويضها ولو بلفتة صغيرة.
لكن أثناء ذلك أبصر من الشرفة جسد نحيف لشخص يرتدي ثياب الجنود يراقبه قبل أن يهرول بعيدًا، جسد جعله يتناسى رغبته في تعويض الملكة عن غيابه ويندفع بسرعة صوب الدرج يركض للساحة تاركًا تبارك تقف مكانها بعدم فهم، وصدمة.
وإيفان لا يدري ما يحدث، هو فقط يريد وبشدة أن يراها ويعلم من هي .
كان يركض بشكل جعل الحراس يتحفزون بشكل مخيف مستعدين لصرخة هجوم، وقد ظن البعض منهم أنهم يتعرضون لهجوم .
في هذه اللحظة خرج سالار من القاعة تاركًا الجميع خلفه لينادي الملك لأمر ضروري، لكنه فجأة وجد جسد إيفان ينتفض راكضًا للاسفل .
اتسعت أعين سالار بعدم فهم ينظر لتبارك بلوم وريبة :
” ما الذي فعلتيه ليهرب منك الملك بهذا الشكل ؟!”
رمقتت تبارك باستنكار :
” ماذا ؟!”
” ماذا ماذا ؟؟ الرجل يركض وكأن موته يلاحقه، هل أدرك الآن أن وجودك جواره بمثابة كارثة له وللبلاد؟! بالله أخبرته أن إحضارك هنا لهو الفساد بعينه ”
كانت تستمتع له بصدمة ولا تصدق ما يقول ولم تجد ردًا عليه سوى كلمة واحدة :
” أنت عبيط ؟!”
اقترب منها سالار بشكل مثير للرعب وهي تراجعت للخلف حيث سور الشرفة :
” هل هذه سبة ؟؟”
ازدرت تبارك ريقها تحاول الحديث بكلمات متوترة من نظراته لها بهذا الشر :
” أنا بدافع …بدافع عن نفسي مش اكتر ”
” تدافعين عن نفسك بلسانك ؟! لو كانت يدك بمهارة لسانك، لكنتِ الآن محاربة عظيمة مولاتي ”
نظرت له تبارك بخوف تحاول الحديث لا ترى النافذة خلفها، لكن نظراته لها جعلتها تعود للخلف مرتعبة :
” أنا الملكة هنا، وحديثك هذا يعد إهانة لـ ..”
توقف قلبها عن الخفقان وتوقفت أنفاسها فجأة، وهي تشعر بيد سالار تقبض على تلابيب ثيابها يجذبها بقوة مخيفة صوبه بسرعة مهولة، وقبل أن تصطدم بصدره ابتعد هو عن مرمى سقوطها كي يتلاشى مصيبة لمسها .
سقطت تبارك ارضًا بقوة تتنفس بصوت مرتفع وكأنها للتو خرجت من أسفل قاع المحيط، رفعت عيونها له ولم تكد تصرخ في وجهه ليقاطعها هو بهدوء وببساطة مشيرًا للنافذة :
” كدتي تسقطين من النافذة ”
تحركت تبارك عيونها بسرعة صوب النافذة لتتسارع ضربات قلبها، بينما سالار انحنى يجلس القرفصاء أمامها هامسًا بصوت منخفض :
” في هذه الحياة عليكِ الإنتباه لشيئين، الأول لسانك ماذا يقول، والثاني قدمك أين تخطو، فلن أكون متواجدًا طوال الوقت لاتدارك الاول، وانتبه للثاني، حسنًا؟؟”
نظرت له تبارك تهز رأسها بنعم فتحرك هو من أمامها بهدوء شديد وينهض بقوة يتجه صوب القاعة تاركًا تبارك تجلس في الركن تحاول أن تتنفس بشكل جيد، تدفن رأسها بين قدميها لا تستطيع أن تستوعب شدة ضربات قلبه حينما ينظر لها بهذه الطريقة المخيفة و…الغريبة .
____________________
عند إيفان وبمجرد أن وصل الطابق الأرضي ركض كالرصاصة ولا يدري تلك الطاقة التي اندفعت داخل صدره حين أبصر ذلك الجسد يراقبه ثم يتحرك أمامه.
وفي تلك اللحظة كانت الثلاث فتيات يتحركن لداخل القصر بكل هدوء مخفضين الرؤوس ارضًا بعدما انتهت برلنت من قص ما حدث معها في الماضي وانتهت فترة الراحة لهن.
لكن فجأة وعلى حين غرة أبصرت كهرمان جسد الملك يندفع لهم بشكل جعلها تطلق صرخة وهي تعود للخلف بقوة مرتعبة أن يكون قد اكتشف ما فعلت، ولم تكد تتحدث بكلمة حتى شعرت باصطدام كتف الملك بها جاعلًا إياها تتراجع للخلف .
شهقت كهرمان بقوة تتمسك بكتفها تراقب الملك يركض في الساحة بشكل مخيف، ولم تفق سوى على صوت زمرد تقول :
” ما به الملك ؟! هل أبصر سارقًا أم ماذا ؟!”
لكن كهرمان لم تكن تستمتع جيدًا لما تقول، بل فقط
اردفت بسرعة وهي تلحق بالملك تتحسس يديها بشكل مصدوم :
” يبدو أنني…نسيت اسورتي في الحديقة، سأذهب لاراها قبل أن أفقدها ”
وقبل أن تتحدث واحدة منهن ركضت كهرمان بسرعة خلف الملك وبفضول كبير تريد معرفة ما يحدث معه، بينما زمرد ترمقها بشك شديد وبرلنت تردد بعدم فهم :
” أي اسورة تلك التي تقصدها ؟؟”
ابتسمت زمرد بخبث :
” اسورة ثمينة …ملكية ”
ركضت كهرمان بسرعة خلف الملك ولا تدري سبب ذلك، لكن نظراته التي رأتها في عيونه وهو ينظر صوب مكان الجنود أثارت ريبتها.
لحقت بخطواته مهرولة والملك يزيد من سرعة أقدامه كي يلحق بها، وبمجرد أن أصبح على مقربة منها نادى بصوت مرتفع :
” توقفي مكانك …”
توقفت كهرمان بسرعة كبيرة وكأنه أمرها هي بالتوقف، شعرت بجسدها قد تصنم تبتلع ريقها بريبة تنظر أمامها لظهر الملك الذي كان يخفي بجسده جسد آخر نحيف أمامه .
وإيفان اقترب من ذلك الجسد الذي توقف فجأة على صرخته وقد ظهرت ارتجافته واضحة، زاد من خطواته الواسعة حتى تحرك وأصبح أمام ذلك الجسد فأعطى لكهرمان حرية الرؤية لتتعجب ذلك الجسد الذي يقف في منتصف الحديقة، جسد نحيف صغير لا يمكن أن يكون لجندي بأي شكل من الأشكال .
اتسعت عيونها تختفي خلف أحد الأشجار تراقب ما يحدث بانتباه شديد لترى الملك ينظر لذلك الجسد بأعين غامضة قبل أن يمد يده وينتزع لثامه .
ولولا المسافة بينهما لسمع إيفان صوت شهقات تبارك العالية والتي صُدمت لرؤيتها وجه امرأة تختفي خلف اللثام تمامًا كما تفعل هي .
ضيقت عيونها تحاول معرفة من هذه الفتاة التي تتبع أسلوبها في التنكر ولماذا تفعل ذلك حتى ؟!
نظر إيفان للوجه أمامه بتعجب، وجه غريب، وجه لا يشعر به مألوفًا، فهو ورغم أنه لم ير يومًا وجه الفتاة يومًا إلا أن عقله ودون إرادة منه رسم باقي تفاصيله بناءً على عيونها .
حتى هذه العيون ورغم تشابهها في اللون بعض الشيء مع ملثمته إلا أن بها لمعة غريبة، ومختلفة تمامًا .
اخفضت الفتاة رأسها بسرعة تقول بصوت خافت مرتجفة :
” مولاي ..”
” ما الذي تفعلينه بثياب جنودي هذه ؟؟ تنتحلين شخصية جندي للفرار من شيء ما ؟؟ أم أن هذا الأمر معتاد لكِ ؟؟”
كانت كلماته ترمي لتلك النزالات التي يخوضها مع الفتاة، لكن من أمامه لم تنفي أو تؤكد، بل فقط اخفضت رأسها أكثر تهمس بتردد :
” ارجوك مولاي، سامحني أنا فقط كنت أود الخروج والعودة سريعًا دون أن يوفقني أحد أو يصل الأمر للمشرفة”
شعرت كهرمان بالحنق مما تسمع ولم تقتنع، ورغم ذلك لم تتكلم كلمة واحدة حتى، وكيف تفعل وبأي وجه تتدخل وتتحدث ؟؟
رفع إيفان حاجبه يقول ببسمة جانبية ساخرة وشعور خانق داخله أنه لم يعثر عن تلك الملثمة اكتنفه :
” إذن أنتِ تعترفين أنكِ تتهربين من عملك وتتنكرين في ثياب رجل ؟؟ هذا لن يمر مرور الكرام ”
رفعت الفتاة عيونها له تقول بصوت منخفض ونظرات غريبة له :
” أنا مستعدة لأي عقاب تفرضه عليّ مولاي ”
تراجع إيفان للخلف يشعر بوجود خطبٍ ما في الأمر وتلك النظرات الغريبة يشعر أنها تحمل شيئًا داخلها، لذا اقترب يهمس بصوت منخفض متسائلًا :
” هذه ليست مرتك الأولى التي تتنكرين فيها صحيح ؟؟”
نظرت الفتاة لعيون إيفان ثواني قبل أن تخفض نظراتها وتقول بصوت منخفض :
” نعم مولاي، سامحني لأجل هذا أنا هي الفتاة نفسها …”
اتسعت أعين إيفان بشكل مثير للشك، ينظر لها جيدًا يحاول اكتشاف ما الذي دفعها لكل ذلك، بينما الفتاة مستمرة في النظر ارضًا .
وعلى بعد كانت كهرمان تقف تحدق بهم بعدم فهم ولا يصل لها أي كلمة مما تقال بينهما بسبب تهامسهما المفاجئ، لكن اتسعت عيونها حين شعرت برأس الملك ترتفع دون مقدمات صوبها ليختض جسدها مستديرة عنه بسرعة كبيرة جعلت أعين إيفان تحتد يقول بصوت مرتفع :
” من أنتِ، و ما الذي تفعلينه هنا ؟!”
وما كاد يتحرك خطوة واحد صوبها حتى شعرت كهرمان بصوت خبيث يتسلل لعقلها يحثها على الهرب، الهرب وباسرع ما تملك.
وهي استمعت لهذا الصوت، صوت نجاتها، تدعي أنها مجرد خادمة فضولية كانت تستمع لما يحدث، ودون تفكير هرولت بشكل مثير للدهشة من أمام إيفان الذي توقف يعقد حاجبيه بعدم فهم لخوفها وركضها بسرعة، والتي من المفترض أن تهرب لم تفعل، ما الذي يحدث في هذا القصر العجيب ؟؟
استدار صوب الفتاة في الخلف ليجدها تقف مكانها وكأنها تنتظره أن يعود لها، حسنًا هذا محير، تنتظر معاقبتها بفارغ الصبر .
ابتسم بسمة مخيفة يهتف بصوت مرتفع وهو يحدق بعيونها المترقبة :
” حراس ..”
اتسعت عيون الفتاة بفزع وقد بدأ قلبها ينبض بشكل مخيف، هي لم تتوقع أن تكون تلك ردة فعله، ارتفع وجيب قلبها وقبل أن تفكر في الهرب المتأخر وجدت لفيف من الحراس يحيطها وصوت الملك يهمس بصوت مرعب :
” خذوها للسجن حتى تُعرض عليّ لاحقًا للبث في أمرها”
شهقت الفتاة تصرخ بصوت فزع :
” ماذا فعلت أنا ؟؟ مولاي أنا لم اقصد اقسم لك، صدقني أنا لستُ….”
توقفت عن الحديث حينما نبذها إيفان وتحرك من أمامها برأس مرتفعة غير مهتم بما تقول أو حتى لصرخاتها المستغيثة، والفتاة تحاول أن توضح له ما فعلته وما حدث في الواقع، لكن من يستمع لها ؟؟
__________________________
دخل مخبأه المفضل ومكانه الأقرب لقلبه بعدما تأكد من وصول القائد سالار للاجتماع، ومن ثم رحل هو ليتولى أمر تفحص مصانع الأسلحة .
تنهد بتعب يلقي جسده على ذلك الفراش الصغير الذي يحتل ركن صغير من معمله، نظر حوله بأعين ناعسة مرهقة، فكان النعاس شعور خارجي، بينما الإرهاق شعور عميق نابع من أبعد نقطة في صدره، إرهاق نفسي وليس جسدي .
ها هو كلما وضع رأسه على الفراش يهتز قلبه معلنًا أنه استفاق من سباته ليحطم راحته الوهمية التي يحاول إقناع جسده بها .
” ربما يمكنني الراحة حين امطي فرسي، أم أشعر براحة حين افجر القصر ؟؟”
خرجت تنهيدة غير إرادية منه وعقله يخبره بكلمات موبخة، أنه يعلم بالتحديد أين يجد راحته، ومع من سيجدها .
” وكأنني امتلك رفاهية إيجادها ولم أفعل، وكأن الحياة تعاتبني على نبذي لها قديمًا لتأتي الأرض وتبتلعها الآن، تخفيها عني مخافة أن أنفذ تهديدي القديم ”
ابتسم بسمة موجوعة وهو ينظر للسقف قبل أن تسقط دموعه فجأة يشعر بالوجع يملء صدره، كيف استطاع تهديدها ذلك التهديد السخيف، وكيف صدقت هي أنه قد يؤذيها، لِم تركته ورحلت، كل تلك السنوات يعيش على أمل أن يجدها، لكن تناثرت ذرات الامل فوق بحيرة فشله، فشل في إيجادها، وفشل في الحياة بشكل طبيعي بعدها.
شعر تميم بيد تمسح دموعه وصوت يهمس له بلطف :
” هل عدت لحزنك مجددًا تميم؟! ظننت أنك تخطيت كل ذلك منذ سنوات ”
تقلب تميم يدفن وجهه في الوسادة رافضًا أن يظهر دموعه أمام أحد، حتى إن كانت أمام دانيار، رفيقه القديم والذي يعلم كل شيء عنه .
” اشتاقها يا أخي، اشتاقها، اخشى أن تكون قد تأذت، لقد كانت مجرد مراهقة صغيرة وأنا نبذتها، كنت اعلم جيدًا أن لا أحد لها غيري ورغم ذلك تركتها وحيدة تواجه عواصف الحياة بكل خِسة، تجاهلت كونها فتاة لم تر الحياة سوى من خلال عيوني، فتركتها عمياء تتخبط بين طرقها ”
ابتسم دانيار يميل عليه يهمس بحنان وهو يربت على ظهره :
” بيرلي ليست ضعيفة تميم، أنسيت أنها ربيبة يدك ؟؟”
وهذا ما يقتله، أنها ربيبته ورغم ذلك صدق حديثهم عنها، صدق أنها قد تخون ثقته وتطعنه بهذا الشكل، سقطت دموعه في صمت يغمض عيونه متخيلًا وجهها المستدير البرئ وملامحها الطفولية الجميلة وهي تهمس له بخجل :
” شكرًا لك تميم على الحلوى، لقد أعجبتني، وأيضًا، اشكرك على مساعدتي جمع حصاد اليوم، أنت الافضل، وانا حقًا أشعر أنني أثقل عليك حياتك، لكن ماذا أفعل وانا لا استطيع الانتهاء من شيء وحدي ؟؟”
تنهد تميم ينتفض عن وسادته مبتعدًا عن دانيار وهو يتنفس بصوت مرتفع، تحرك في المكان يمسح خصلاته بقوة، ثم مرر كفيه على وجهه يقول بهدوء وصوت طبيعي وكأن ما حدث لم يكن :
” إذن ما الذي حدث في الاجتماع ؟؟”
ابتسم دانيار يسايره في الحديث :
” لهذا جئت كي اناديك، لقد أرسلني القائد لاحضارك كي يخبرك بالتعليمات الجديدة ”
رمقه تميم بحنق شديد يتحرك صوب الطاولة يلتقط منها قطعة حديدية صغيرة يضعها داخل جيب سترته :
” ارسلك القائد لاحضاري وجئت لتجلس جواري؟؟ هل تمزح دانيار، أتود أن يقتلع القائد رؤوسنا ؟! ”
ضحك دانيار يتبعه مرددًا بجدية :
” لن يفعل فالقائد يحبنا يا رجل ”
” حقًا ومن أخبرك ذلك ؟؟”
أشار دانيار لصدره في نبرة مؤثرة خافتة :
” قلبي ..”
لوى تميم شفتيه يقول بجدية :
” لا عجب أنه غبي مثلك، هيا تحرك قبل أن ينتزع القائد بيديه العاريتين ذلك الغبي في صدرك ”
أطلق دانيار ضحكات مرتفعة تسببت في رسم بسمة على وجه تميم، الذي عاد لمشاكسته متحركين بين ممرات القصر صوب سالار .
وفي أحد الأركان كانت تقف برلنت تراقب رحيله ببسمة واسعة، سعيدة لسعادته، حتى وإن كانت تلك السعادة في بعدها، فستبتعد لاجله .
انتفض جسدها برعب حين شعرت بقبضة أعلى كتفها :
” ما الذي تفعلينه هنا أيتها العاشقة ؟! أمسكت بكِ تحدقين بصانع الأسلحة، ام كنتِ تحدقين بقائد الرماة ؟؟”
انقبض صدر برلنت لثواني قبل أن ينفرج وهي تنظر في وجه كهرمان بغيظ :
” ما بكِ كهرمان اخفتني، ثم ألم تركضي خلف الملك، ما الذي عاد بكِ الان؟!”
سمعت صوت زمرد يهمس من خلف كهرمان :
” يبدو أن الملك كشر عن أنيابه لها لتعود راكضة بملامح شاحبة ”
زفرت كهرمان بغيظ تتحرك بعيدًا عنهما :
” لا لم يفعل، وتوقفي عن ازعاجك ذاك زمرد، فأنا لم أتحدث عن مقابالاتك الكثيرة والغير مبررة لقائد الرماة ”
اتسعت عيون زمرد بصدمة تركض خلف كهرمان صارخة :
” هيييه أنتِ توقفي هنا، ما الذي ترمين له ها ؟؟ أنا وذلك الرجل لا شيء بيننا هو المزعج من يستمر في القفز امامي”
نظرت لهما برلنت ثواني قبل أن تبتسم وتركض بسرعة كبيرة تردد :
” يبدو أن الليل سيكون مليئًا بالأحاديث الشيقة ”
________________________
وفي المساء ..
يجلس في حديقة القصر وهو يحاول التفكير في طريقة يفتتح بها الحديث معهم، أي مدخل يخبرهم بحقيقة تجمعهم، تنحنح حين طال صمته وطالت نظرات الجميع له .
شعر إيفان أنه بالغ في صمته لذلك اعتدل يقول ضاممًا قبضيته أمامه بجدية كبيرة متنسايًا أن من أمامه رفاقه قبل أن يصبحوا المقربين له في الحكم ..
” لا احد منكم يعلم سبب تجميعي لكم في هذه الساعة من الليل، في الحقيقة فعلت ذلك حتى اتلاشى ساعات عملي كملك واتحدث معكم كرفاق وأصدقاء و ..”
قاطعه العريف بملل من كل ذلك يقول بحنق :
” أنا لستُ صديقك يا صغير ”
رفع إيفان عيونه بشر للعريف وقد اشتعل جسده بالغضب، لكن العريف ابتسم بسمة صغيرة يرفع إصبعه مذكرًا إياه بجملته :
” أنت الآن خارج ساعات عملك كملك، لذا لا تنظر لي بهذا الشكل ”
نظر مرجان صوب الجميع ولايدري حقًا سبب وجوده في هذا المكان، هو أشبه بسمكة صغيرة سقطت في حوض حيتان، انكمش في مقعده الذي كان يتوسط مقعد العريف ودانيار .
تجاهل إيفان كل ما يقول العريف يكمل حديثه بعناد شديد وعدم اهتمام بكل ذلك، فهو سينفذ ما عزم عليه :
” أردت الحديث معكم كأصدقاء ورفاق، لكن بالتفكير فيما يمكن أن ينتج عن هذا القرار المتهور، وما سيحدث إن تركت لكم حق التصرف معي كرفيق بعد اخباركم بما قررت، فأنا الآن أتحدث معكم كملككم لا كصديق أو حتى رفيق وما سأقوله سيتم تنفذه دون نقاش ”
ارتاب الجميع مما يرنو إليه إيفان من خلف ذلك الحديث، ليتحدث تميم بشك فيما يمكن أن يكون سبب تجمعهم :
” ماذا ؟! هل قررت نفينا جميعًا أم ماذا ؟!”
رفع العريف كفه يقول بجدية كبيرة وملامح مسترخية :
” اوافق على هذا الاقتراح ”
رفعت البومة كذلك جناحها تصدر صوتًا خافتًا وكأنها توافق العريف، واضاف العريف مشيرًا صوب مرجان :
” نعم ومرجان كذلك يوافق، اصبحنا ثلاثة، أنا والبومة ومرجان ”
نظر له الجميع بحنق ليتعالى صوت مرجان المستنكر والرافض تمامًا لما يقال :
” مهلًا أنا حتى لم أرفع اصبعًا، أنا ما تزال الحياة طويلة أمامي حتى يتم نفيي الآن، أنا حتى لم أكمل قراءة مليون كتاب بعد ”
رمقه العريف بغيظ شديد إذ شعر أن ذلك المرجان يقف حائلًا أمام خطته في الانعزال عن البشرية، فأمسك يده ورفعها بالقوة يقول :
” بل انت توافق، ثم يا فتى أنت حتى لا تدري ما تتحرك صوبه، كونك عريفًا في هذه المملكة يعني أن تتعامل مع هؤلاء الأربعة المزعجين، ستشكرني لاحقًا على تخليصك منهم …نعم مرجان أيضًا موافق ”
تنفس إيفان يمرر يده على وجهه بملل شديد من أفعال العريف الذي لا يوفر أي فرصة ليؤكد له أنه لا يتحمله لا هو ولا أي إنسان حوله .
كانت نظرات الاستنكار تعلو وجوه الثلاثة ليقول سالار بعد زفرة طويلة :
” أيها العريف، صدقني لا أحد يهتم إن نفيت نفسك بنفسك فلا أحد يزور مكتبتك ويخرج منها سعيد مرتاح البال، بل لطالما خرجوا مسودي الوجوه عامرين بالهموم بعدما تخبرهم مصائب حياتهم القادمة على هيئة الغاز ”
ابتسم العريف ينظر صوب سالار يقول بخبث :
” وهذا يذكرني أنك لم تحصل على رؤيتك الخاصة، لقد حلمت بك منذ أيام وقـ ”
اصمته دانيار جاذبًا سالار له يهمس :
” اسكت هذا العجوز سيدي فهو الآن على وشك قول مصيبة ستحيل حياتك لجحيم ”
نظر سالار صوب العريف الذي كان على وشك إلقاء كارثة في وجهه، وتميم في المنتصف يتمم بغضب :
” نعم ذلك العريف العجوز جالب المصائب .”
كل ذلك يحدث تحت مرأى ومسمع من إيفان الذي ضرب الطاولة بغضب وقد نفذ صبره بما يحدث :
” توقفوا جميعًا ”
توقف الجميع بالفعل بعد صرخة إيفان، ليتنفس الأخير بصوت مرتفع يحاول أن يتجاوز عن كل هذا الهراء، لتقع فجأة عيونه على مهيار والذي نسي وجوده بسبب صمته الطويل :
” وأنت مهيار ما الذي تنتظره للمشاركة في هذا الهراء ؟!”
نظر مهيار للجميع يقول بهدوء شديد وهو ينحني على الطاولة يضم كفيه أمامه:
” لا شيء أنا لم احصل بعد على رؤيتي من العريف حتى اشترك معهم ”
نظر له العريف يقول بعد تفكير وبهدوء وبسمة :
” أنت الوحيد الذي ستكون حياتك مليئة بالرغد والسعادة يا بني، أما هؤلاء الأربعة الحمقى اقسم أنهم سيرون من الويل الوانًا ”
ابتسم له مهيار شاكرًا بينما تدخل دانيار يضرب الطاولة باعتراض :
” مهلًا، لِم هو من بين الجميع ؟؟ أنت أيها العريف هل تخدعنا وتزيف احلامك ؟! حرام عليك ”
ابتسم له العريف بتشفي كبير :
” هذا لأنه الوحيد الذي أحبه من بينكم أنتم الخمسة ”
فتح إيفان فمه بقوة يقول صارخًا :
” وماذا فعلنا بك نحن ؟؟ أنت لم يقترب منك أحدنا”
رفع العريف حاجبه بسخرية ليتراجع إيفان قائلًا بتذكر :
” عدا تحطيم مكتبتك عدة مرات فقط لكن كل هذا فعله سالار وليس نحن ”
هز الجميع رأسه يشيرون صوب سالار وكأنهم يحاولون دفع اقدارهم السيئة كلها صوبه ليحملها هو وحده، بينما سالار نظر لهم نظرات غريبة وكأنه يتساءل ما الذي فعله الآن هو يجلس هادئًا .
ابتسم العريف بمكر :
” لا بأس فهو أكثر من سينال مصائب بينكم اجمعين”
نظر له سالار متسائلًا :
” نصائب من أي نوع ؟! حروب ؟؟”
” بل القلوب يا فتى، مصائب القلوب اقوى واعنف من حروبك التي تخوضها تلك ”
شرد به سالار ليقاطع إيفان كل ذلك بملل :
” حسنًا دعونا من مصائب العريف، ولننظر في مصيبتي أنا”
نظر له الجميع بفضول ولا احد يدري مقصده، حتى نطق إيفان وهو يحاول ايجاد كلماته :
” الملكة …”
____________________
فرغت من صلاتها ترتكن للفراش الخاص بها تتنهد بصوت مرتفع، أخذت تسبح على أصابعها وهي تفكر في القادم من حياتها، جاءت ورأت الحياة هنا، ليست بذلك الرغد الذي يتخيله الجميع حين يسمعون كلمة ملكة، لكنه ليس كذلك بنفس سوء حياتها السابقة، على الأقل هنا تُعامل باحترام من الجميع _ احيانًا _ وهذا ما يجعلها تحمد الله على كل شيء .
نهضت تبارك عن موضعها تتحرك صوب النافذة تراقب السماء الصافية المليئة بالنجوم، لتشعر برغبة عارمة في التحرك والتأمل بها من الاسفل حيث النافورة التي سقطت في عشقها منذ اللحظة الأولى .
تحركت خارج الجناح دون أن يوقفها أحدهم بالفعل، وفي هذه اللحظة استحضرت تبارك كل ذرة تفكير في عقلها لتتذكر طريق الخروج .
ها …ها هي خرجت وحدها دون مرشدها المعتاد، وعلى ذكر المرشد ارتسمت بسمة على فم تبارك حين تذكرها سالار، مساعدته لها طوال الوقت رغم تذمره منها، فجأة تلاشت البسمة حين تذكرت كلماته لها صباح اليوم حين خرجت من قاعة الاجتماعات…
توقفت تراقب النافورة بأعين ملتمعة، لا تعلم السبب لكنها تستشعر راحة كبيرة في هذا المكان تحديدًا من القصر .
جلست تبارك ارضًا، ثم استندت على النافورة تغمض عيونها براحة مستمتعة برذاذ المياه اللطيف الذي يصطدم بوجهها كل ثانية والأخرى بالإضافة للهواء الذي يزور ملامحها من حينٍ لآخر، جلسة أعادت لها لحظات جميلة في طفولتها، لحظات ما عاشت سواها.
تلك الأيام حين تبنتها أسرة لشهور وهي بعمر الخامسة، قبل أن تقرر التخلي عنها بعدما علمت الأم بحملها …
نعم ربما يظهر الأمر للبعض لئيمًا ومحزنًا، لكن تبارك لم تكن حزينة أو ناقمة أو حتى غاضبة على تلك الأسرة، بل كانت للحق شاكرة لهم، ممتنة لمنحهم إياها _ وبكل الكرم _ ايامًا قليلة تجعلها تبتسم لتذكر طفولتها.
منحوها بسخاء ذكرى بيضاء في ظُلمة طفولتها، هي شاكرة لهم، ولو قابلتهم الآن ستقول لهم أنها في غاية الامتنان وأنها…احبتهم، احبتهم حتى أنها كانت تناديهم ( بابا وماما ) لكن، ربما ذلك اللقب منها لم يكن كافيًا ليحتفظوا بها بعدما حصلوا على صغير من صلبهم .
مسحت تبارك عيونها تبتسم وهي تهمس بهدوء شديد :
” الحمدلله على كل حاجة، على الأقل عشت كام شهر أكل كويس والبس كويس، غيري مكانش متاح ليه كل ده ”
تنفست بصوت مرتفع تنظر للسماء براحة تسبح الله مستغلة تلك اللحظات، قبل أن تسمع صوت رجولي صاخب يهدر من إحدى الجهات، تجاهلت الأمر فهي لا تحب التدخل فيما لا يعنيها .
لكن ها هو ما يعنيها يصدح في الأجواء، سمعت من بين كل ذلك الهدير كلمة ( ملكة ) هم يتحدثون عنها إذن.
نهضت من مكانها تنفض ذلك الفستان الطويل، تتمسك باطرافه بين اناملها متحركة صوب مصدر الصوت وقد استقرت خلف أحد الأشجار لتبصر طاولة تجمع عدة رجال لم تميز منهم سوى الملك الذي يعطيها ظهره وعرفته من صوته، وسالار …
وعند الملك كان الجميع في صدمة كبيرة مما سمعوا، فهو أخبرهم للتو أن كل واحدٍ منهم مطالب بتعليم الملكة مهارة معينة لتسريع عملية الإعداد كي يتم تنصيبها في اسرع وقت وخلال الحفل الوطني بعد شهور قليلة .
وإن استنكر الجميع طلبه، إلا أن أحدًا لم يعترض، بل كان كل الاعتراض من نصيب العريف و….سالار .
” مولاي رجاءً يمكن لأي شخص في هذا القصر تعليمها المبارزة، ثم هي لن تحارب معنا، لذا المهارات الأساسية تكفي ”
نظر إيفان لسالار يدرك سبب رفضه، فهو لا يحب التعامل مع النساء وهو بالطبع لا يحب أن تتعامل الملكة مع الرجال، لكن ماذا يفعل وهو لا يمتلك شقيقات في القصر، ووالدته في القصر الجنوبي معتزلة الجميع غاضبة على أمر زواجه من الملكة ؟؟
” سالار أنا أعلم أنك لا تريد ذلك، لكن أنا بالفعل قررت تقسيم كل شيء عليكم، أنت ستدربها على المبارزة، وتميم سيعلمها الفروسة ودانيار سيعلمها الرماية، ومن ثم يمكنها قضاء بعض الوقت مع العريف لمنحها بعض الثقافة الخاصة بشعبنا، وانا سأعلمها أمور إدارة المملكة ”
فتح سالار فمه يأبى الموافقة :
” يمكنك أنت أن تعلمها المبارزة إيفان، أنت لست هاويًا، كما أن تميم وكذلك دانيار يستطيعان فعل الأمر ذاته، لكن أنا لن افعل ولو منحتني ملء الأرض ذهبًا ”
فجأة وخلال حديثه أبصر جسدًا على بُعد صغير منهم يحدق بهم متعجبًا، ثم ثبتت عيونها عليه مستنكرة ما يقول، وهو رفع حاجبه وقد أصر أكثر على أمره ينظر لعيونها بقوة لا يحيد عن خاصتها :
” سامحني مولاي، ستكون المرة الأولى التي ارفض فيها أمرًا لك، لكنني لستُ متفرغًا لتدريب النساء ”
فتحت تبارك فمها بصدمة وهي تنظر له بقوة تجابه قوته، بينما إيفان قال ببساطة شديدة يعرض الأمر أمامهم :
” سالار نحن في هذا الوقت لسنا متفرغين بالكامل، لدينا حرب على وشك النشوب، ولدينا تنصيب للملكة عليه أن يتم قبل الحرب، وكل من على هذه الطاولة لديهم من المسؤوليات ما يرهق كاهلهم، لذا أوكلت لكل واحد منكم مهمة واحدة كي يستطيع تدبر أعماله جوارها، فأنا لن اجعل تميم مثلا يدربها على الفروسية والمبارزة ويهمل شئون مصانع الأسلحة وتطويرها وكذلك دانيار، أما العريف فهو ورغم تفرغه لن يفيدنا سوى فيما يعلم ”
التوى ثغر العريف مستاءً :
” حتى لو كنت أعلم أكثر من هذا فأنا لستُ موافقًا، أنا لا أريد أن احتك بالبشر وخاصة النساء منهم لوقت يتعدى الدقيقة ”
تنفس سالار بقوة وما تزال عيونه معلقة بتبارك التي كانت ترميه بنظرات غاضبة، ليس لأنه يرفض تدريبها، بل لأنه يعترض بقوة وكأنها قد تقتله خلال تلك الفترة .
وعند تلك الفكرة ارتسمت بسمة مخيفة على جانب فم تبارك، جعلت أعين سالار تتسع بقوة متعجبًا أن تبتسم فتاة مثلها بسمة كتلك، كانت بسمة من انتصر على عدوه، ولم يعلم أنه الآن داخل عقل تبارك قد قُتل ودُفن وهي في هذه اللحظة تلقي على مسامع الجميع كلمات الوداع له ليست آسفة على قتله خطئًا خلال تدريباتها .
أفاق سالار يبعد عيونه عنها بسرعة رافضًا أن يطيل النظر لها أكثر، ثم حدق بعيون الملك يقول :
” مولاي يمكنني اختيار جندي ماهر وخبير لتعليمها ”
” لا أحد أفضل منك فيما يخص المبارزة سالار، فإن كان ذلك الجندي سيستغرق الأمر معه اسبوعًا فستنهيه أنت في أيام قليلة، كما أنني لا اريد للملكة أن تحتك برجالٍ لا اعرفهم ولا أثق بهم بمقداركم ”
تنفس سالار بقوة وقد كان إيفان عنيدًا بشكل تسبب له في غضب شديد، رفع عيونه صوب تبارك ليجدها تحدجه بتحدي وقوة، ثم تحركت بعيدًا عنهم قبل أن تسمع حتى رده والذي خرج منه بعد فترة من العناد :
” كما تريد مولاي …”
ابتسم إيفان يتنفس الصعداء بعدما وافق سالار، ثم حاد بأعينه صوب دانيار الذي لم يكن يظهر عليه الرضا التام.
وتميم الذي كان غير مهتمًا بالأمر حتى، فماذا سيفعل هو ؟! يربطها فوق الفرس ثم يطلقه في المروج، هذا سهل .
بينما مهيار يراقب كل هذا بهدوء وسلام نفسي كبير، وهو فقط جاء ليستمتع بالهواء العليل والمشروب الذي يقدمونه لهم ليس إلا.
ابتسم يقول إيفان :
” إذن نحن اتفقنا ؟! ”
لم يجب أحد بكلمة واحدة وكانت جميع الوجوه حانقة غاضبة، لتتسع بسمة إيفان أكثر:
” جيد جدًا، علمت أنه يمكننا الاتفاق بهدوء شديد ودون أي اعتراضات، والآن يا رجال اسمحوا لي بالمغادرة، ليلة سعيدة لكم جميعًا”
تحرك إيفان عن مقعده تاركًا الجميع يرمق ظهره بغضب شديد، لحظة يشكر إيفان فيها رتبته التي تمنع هؤلاء الذئاب خلفه من الانقضاض عليه في أي لحظة ليقطعونه بأسنانهم ..
” انتهت الليلة دون إصابات، جيد ”
_______________________
في الصباح التالي كانت تتحرك مع سرب من العاملات صوب الحقول كي تنتهي من عملها بأسرع وقت، ثم تخرج كعادتها للتسكع في الأسواق دون علم أحد كما اعتادت .
ابتسمت لهذه الفكرة وهي تخفض غطاء وجهها عكس عادتها، فهي اعتادت أن تضع لثامًا يظهر عيونها، لكن هذه المرة غطت وجهها بالكامل .
وأثناء مرورها بالحديقة الأمامية أبصرت العديد من الجنود يتوسطون الساحة وهو هناك يهتف بهم بصوته الصاخب وتعليماته القوية، سالار، ذلك الرجل الذي لطالما سمعت اسمه يتردد مصحوبًا بنبرة مرتجفة أو كارهه أو معظمة، رجل تمنت لو تصبح رجلًا فقط كي تتتلمذ على يده خصيصًا .
ولم تدرك زمرد أنها بوقفتها تلك وتأملها في سالار قد تخلفت عن الفتيات، انتفض جسدها بقوة حين سمعت صرخة صادرة من فم سالار وهو يعنف الرجال أمامه.
” أنتم لا تربحون معارككم لأنكم جيش قوي لا يُقهر، بل تفعلون لتوفيق الله لكم، فلا تغرنكم انفسكم، ولا تراودكم النفس الامارة بالسوء للبطش بمن هم أضعف منكم، الله منحكم قوة لأجل نصرة الضعيف لا للتجبر عليه، أنتم رجال حق لا باطل ”
ختم حديثه ينظر جوراه لسيدة كبيرة في العمر بظهر منحني تمسك فتاة مراهقة بيدها تساندها، وهي تنظر لسالار بانبهار شديد، وسالار كان يتنفس بقوة يقول بصوت جهوري :
” ايًا من كان منكم، تطاول على هذه السيدة البارحة بدعوى أنه من جنود الملك فليتقدم ويكفي نفسه شر غضبي إن أخرجته أنا”
كان يتحدث بقوة شديد وصدره يعلو ويهبط والسيدة جواره تراقب وجوه الجنود بشفقة دفعتها للتدخل مدافعة عن ذلك الشاب الذي أساء لها في سوق المدينة مساء أمس .
” لا بأس يا سيدي، أنا اسامحه فقط ا….”
نظر لها سالار بقوة ورغم أنه لم يقصد اخافتها إلا أنه فعل، إذ تراجعت السيدة تستند على يد حفيدتها ليدرك سالار أنه أمام سيدة طاعنة بالعمر، لتلين ملامحه قائلًا :
” معذرة لكِ امي، رجاءً نحن هنا لا نمرر للمخطأ خطأه، وإلا عم الفساد، فإن آمنت العقاب اسئت الأدب”
استدار صوب الجنود يقول بصوت مرتفع :
” أن تدعوك نفسك لاستغلال قوتك في المفاسد لهو أكبر جرم قد يمسك كجندي في الجيش، إذا دعتك قدرتك على ظلم الناس فتذكر قدرة الله عليك، إذا زاد بطشك وتجبرك وظننت أنك أكبر من غيرك، فالله أكبر من الجميع، والآن ليتقدم من فعل كل هذا ..”
ثواني شعرت فيهم زمرد بضربات قلبها تزداد وكأنها هي من قامت بهذه الفعلة، ومن بين تحديقها فيما يحدث ابصرته يأتي من بعيد بثوب جلدي يظهر ذراعيه وبنطال وحذاء طويل، يلف حول جذعه حاملة السهام يقترب من ذلك التجمع بملامح جادة جعلتها تشرد به ثواني قبل أن تنتفض على هدير قادم من جهة سالار يصرخ في الجميع :
” تتجبر على سيدة من عمر والدتك وتدفعها مسقطًا إياها ارضًا ارضًا متفاخرًا برتبتك ومكانتك في الجيش، ولا تمتلك القوة والشجاعة لتعترف بخطأك ؟؟ آخر فرصة سأمنحها للمخطأ كي يتقدم ”
عم صمت كبير بين الجميع، ويبدو أن زمرد لم تكن المتفرج الوحيد، بل كانت تبارك والتي جاءت لتقابل دانيار كي يبدأ معها دروس الرماية، هي أحد المتفرجين ..والمرتعبين من سالار في هذه اللحظة .
فجأة سمع سالار زفرات عدة تنطلق من الافواة المحيطة به حين تقدم رجلٌ الصفوف يخفض رأسه ارضًا بخجل وخزي، يضم قبضتيه أمامه في اعتراف صامت على جرمه الذي كان في نظر سالار كارثة، فإن ترك للجنود حرية السير خلف نفوسهم الإمارة بالسوء لتفرق جيشه وغلبته اهواءه، وعلى هدير المنكرات فوق صوت الحق .
اطال سالار النظر بالرجل ثم قال بهدوء دون أن يرف جفنه أو يبعد عيونه عن الرجل :
” تحركي سيدتي واصفعيه …”
شهقت تبارك بصدمة وهي ترى الجنود جميعهم مخفضي رؤوسهم دون أن يتجرأ على قول كلمة واحدة، وسالار أعاد حديثه مجددًا قائلًا :
” تقدمي واصفعيه ”
نظرت له السيدة برفض، ترفض القيام بذلك، فهذه الصفعة تدرك أنها لن تترك اثرًا على وجهه، كما ستفعل على روحه وكبرياءه بين جميع من يعرف.
” ارجوك يا بني أنا فقط جئت اشكو لك لمعرفتي بعدلك من بعد الملك، ووالله لو علمت أن عقابك سيكون بهذا الشكل ما كنت فعلتها وأتيت، فلا استطيع أن أفعل ذلك بشاب في عمر احفادي وعلى مرأى ومسمع من الجميع”
نظر لها سالار يقول بقوة وتجبر، وقد شعرت تبارك في هذه اللحظة بالخوف منه أكثر وأكثر :
” وهو لم يفكر بكل هذا وهو يطرحك ارضًا، لم يخجل وهو يصرخ في وجه سيدة من عمر جدته ويسقطها ارضًا، اقتربي واصفعيه وإلا فعلت أنا، وحينها صدقيني ستتمنين لو أن الصفعة كانت من كفك ”
ارتجف جسد الرجل لكنه حاول الثبات يتلقى عقابه بكل قوة، يدرك في هذه اللحظة خطأه، وتعهد بينه وبين نفسه أنه يومًا لن يفعلها مجددًا .
ظهر الاعتراض على وجه السيدة وقد اشفقت أن ترفع يدها عليه، ليهز سالار رأسه يتحرك هو بخطوات قوية صوب الجندي يقف أمامه يقول بصوت خافت :
” أنظر لها اشفقت أن تجرحك ولو بكلمة، وأنت ماذا فعلت لها ؟!”
لم يرفع الشاب نظره عن الأرض ولم يتحدث بكلمة، ينتظر عقابه وسيتقبله رغم كل شيء، يلعن شيطانه الذي سول له أن يرفع يده عليها في لحظة غضب، يسب نفسه التي زينت له التجبر .
أبصر الرجل يد سالار تعلو في الهواء ليرفع رأسه ينتظر أن تحط كفه على صدغه بكل شجاعة، لكن ما كادت يد سالار تهوى على وجنته حتى سمع صرخة تعلو في المكان تقول :
” توقف ”
استدار سالار ببطء ينظر خلفه صوب صاحب الصوت والذي لم يكن سوى العجوز التي سبقت صرختها صرخة تبارك والتي كانت على وشك الخروج دون وعي منها .
وضعت تبارك يدها على فمها تحمد الله أن العجوز سبقتها قبل أن تخاطر هي بحياتها وتواجه ذلك الوحش في هذه اللحظة، تنفست بصعوبة لترى أن السيدة تقدمت بتعب شديد تستند على حفيدتها، ثم نظرت للشاب ثواني ترفع يدها وتصفعه صفعة صغيرة لم يشعر بها الشاب على وجهه، بل شعر بها تسقط على روحه، اخفض وجهه ارضًا بخزي يحاول التماسك، بينما السيدة رمقته باعتذار صامت ليعلو صوت سالار يقول له بتحذير :
” هذه الصفعة ستلازمك لوقتٍ طويل، وقت كافي لتدرك أن ما فعلته وصمة عار في حقك كجندي تحمل راية تحمل اسم الله، وليست شيء يمكنك التفاخر به، والآن للساحة جميعًا لدينا تدريب ”
ختم حديثه يتحرك من أمام الجميع بخطوات مهيبة ومظهر قوي، فسالار كان رجل حرب بامتياز صارم قوي لا يرحم ولا يسامح المخطأ، يتحكم بالجيش بيد من نار، لذلك كان هو افضل من يقود جميع الكتائب دون تهاون، وأسفل يده يقود دانيار جيش الرماة، ويتحكم تميم بكتيبة الدفاع الثانية في الجيش .
وأثناء تحرك صوب ساحة القتال أبصر تبارك التي كانت ترمقه بنظرات مصدومة مما فعل، لكن سرعان ما تحولت تلك النظرات لأخرى قوية متحدية وكأنها تخبره أنها لم تنس ما قاله البارحة، ابتسم سالار بسمة جانبية يتوقف جوار تبارك يقول بجدية :
” أرى أنكِ تسيرن بخطى جيدة لتصبحي امرأة يُعتمد عليها في الجلوس على عرش سفيد، كل هذا وأنا فقط وافقت على تدريبك، تخيلي عندما أبدا التدريب الفعلي ؟؟”
ختم حديثه يتحرك بعيدًا عنها وهي تقف مكانها مصدومة، هي نظرت له بقوة ليعلم أنها ليست بحاجة له، ليقلب هو الطاولة عليها في ثواني .
استدارت بسرعة تحدق في ظهره هامسة بغضب شديد :
” مستفز ومغرور …”
” مولاتي ”
استدارت صوب الصوت لتبصر دانيار الذي نظر لها باحترام يشير بيده :
” الحقي بي رجاءً.”
تنفست بصوت مرتفع تسير خلف دانيار وكل ذلك تحت أعين زمرد التي نست عملها وكل شيء وهي تشاهد ذلك العرض الذي اختتمه دانيار بأخذ الملكة والرحيل .
ابتسم بسمة جانبية ساخرة :
” ها، انظروا من يتعامل كالبشر الطبعيين الآن؟؟ أيتعين عليّ أن أصبح ملكة حتى يعاملني بهذا الشكل ولا يتصرف كحقير معي فقط لأنني أطالب بما لي؟؟ حسنًا نفذ صبري أنا سأستعيد منه سيفي وبالقوة إن اضطررت لذلك”
وبهذه الكلمات إتخذت زمرد قرارها تتحرك بقوة بعيدًا عن المكان تلحقها شياطين الأرض اجمعين، وجميعهم ستسلطهم على شخص واحد …دانيار .
_____________________
سار في الممرات المظلمة والتي كانت أكثر آدمية من منطقة السجون الأخرى التي يطلقون عليها جحيم سفيد، هذه السجون التي يتحرك بها هي لمن ارتكب جرمًا هينًا مقارنة بأفعال قذرة تشيب لها الرؤوس ..
توقف إيفان أمام الزنزانة التي تجلس بها ملثمته، أو من ادعت أنها ملثمته، يراقبها جيدًا بأعين ضيقة قبل أن يضرب الحديد متسببًا في انتفاضة جسدها لتنظر الفتاة حيث يقف ..
” سيدي …سيدي رجاءً اسمعني، أنا آسفة صدقني لم تكن نيتي شرًا حين فعلت كل ذلك، بل فقط …”
قاطعها إيفان بيده التي ارتفعت في وجهها :
” هل ارسلك أحدهم لفعل ذلك ؟! هل تعملين لحساب أحدهم ؟!”
اتسعت أعين الفتاة مما وصلت له الأمور، هل لم تفعل كل ذلك سوى لظنها الغبي أنه يبحث عن تلك الفتاة لأنه يريدها له، سقطت دموعها بندم :
” لا لا اقسم لك أنني ما فعلت ذلك لشر، لم يرسلني أحدهم ابدًا، أنا … أنا لستُ كما تظن أنا …”
لكن إيفان مجددًا أوقفها يطيل النظر في عيونها ثواني، ثم هز رأسه يتحرك صوب الخارج دون كلمة إضافية، ولا تعلم الفتاة سبب مجيئه ورحيله دون مقدمات .
سقطت ارضًا ترثي حالتها البائسة وهي تحاول التفكير في حل لأجل الفرار من هنا :
” يا ليتني لم استمع لتلك الفتاة ولم افعل كل ذلك، يا الله فقط لو يعود بي الزمن فاصفع نفسي على تلك الفكرة ”
ختمت حديثها وهي تنفجر في بكاء حاد ترتكن لأحد الجدران تصيح بهم أن يطلقوا سراحها ..
بينما سار إيفان خارج السجن يفكر في كل شيء متعلق بهذه الفتاة، صوتها الذي جاء خصيصًا ليسمعه مجددًا، وعيونها، قامتها وهيئة جسدها، يشعر أن هناك شيء خاطئ، هذه لا تشبه بأي شكل من الاشكال الفتاة التي تبارزه، إذا لم تكن هي فكيف علمت بأمرها وتنكرت بهيئتها، ما الذي يحدث حوله ؟
لا يدري ما يحدث لكنه يعلم أنها ليست هي، لا شيء بها حتى العيون والتي يختلف حتى وميضها عن وميض ملثمته ..
رفع رأسه يتحرك صوب ساحة التدريب التي اخلاها خصيصًا لأجل تدريب الملكة، ليتفقد الأمر قبل أن يعود لإدارة مملكته ..
خرج يمر بالساحة الخاصة بالجنود حيث يتبارز عادة مع الفتاة التي حتى لا يعرف لها اسمًا، أبعد عيونه عن الساحة ولا يدري ما يشغل باله بها، هل هي كلمات العريف ؟! أم اشتياقه لقتال معها دون قيود؟؟
” هل تبحث عني ؟؟”
استدارت رأس إيفان كالرصاصة صوب أحد الأشجار بسرعة كبيرة ليبصرها تستند على الشجرة ببرود شديد تتلاعب بالسيف بين قبضتها وعيونها تحدق به …….
______________________
ضربة سيف …وبداية حرب .
اشارات ليست بالسارة للكثيرين، لكن لهم، هي شرارة البداية .
يتبع…
توقف بخيله على حدود المملكة بعدما انتهى من أمور جنوده داخل القصر وجاء لتفقد الحدود المشتركة مع مشكى، الحدود التي أصبحت حدود شائكة بعدما كانت مجرد حدود بالاسم فقط، نظر بأعينه صوب مشكى يرى جنود بافل يدورون على بعد صغير منه، يتمخترون على رمال مملكة ما كان لهم أن يطئوها يومًا سوى بوجوههم حينما تدفن فيها .
رفع عيونه بقوة يبصر قصر مشكى الملكي الذي يعلو أحد الجبال، وعيونه تنير بضوء مختلف وصوت داخل عقله يهمس بكلمات رفيقه :
” أنظر يا سالار، هذه مشكى ارضي وارض أبائي جميلة بكل ما فيها، وإن مت يومًا، اتمنى أن أكون شهيدًا مدافعًا عنها ”
ابتسم سالار بسمة صغيرة يحرك عيونه صوب الجنود الذي يتضاحكون أمامه بصوت صاخب ينظرون صوبه بنظرات ساخرة وكأنه مجرد مهرج يسليهم، وهو منحهم بسمة لطيفة يرفع كفه لأجلهم، لتبهت وجوه الجميع وتعلو نظرات التعجب وجوههم .
هبط سالار عن خيله يتقدم صوب الحدود بينهم يراقب أنهم تداركوا فاجعة ما فعل هو ودانيار وتميم واحضروا جنود كثر، وهذا متوقع فهم يمتلكون عداد ضخم، كالحشرات تمامًا يتكاثرون بشكل مخيف .
توقف سالار بينما جنوده كانوا مستنفرين جواره ظنًا أنه سيشن هجومًا أو ما شابه، لكن سالار فقط نظر لهم نظرات يقول بصوت هادئ وكأنه عابر سبيل مر بهم بالصدفة :
” السلام عليكم ..سمعت أنكم أتيتم لمشكى منذ فترة وجيزة، ولستم من شعبها صحيح ؟!”
نظر له الرجال بجهل، يتعجبون أن يقترب أحد رجال الممالك الأخرى والتحدث معهم بهذا الود، نظر له أحد الرجال يقول ببسمة ويبدو أنه لم يتواجه يومًا لا هو ولا أي واحد منهم مع سالار في ساحة الحرب ليجهلون محدثهم :
” نعم صحيح، ومن أنت ؟؟”
حركّ سالار رأسه وعيونه ينظر لمحيطه بهدوء :
” عبدٌ فقيرٌ إلى الله، دعكم مني واخبروني ما الذي تفعلونه في بلاد ليست لكم، ووطن ليس وطنكم ياقوم؟؟ ما بالكم استحللتم الدماء والأرض والعرض؟؟ لا يعقل أنكم ولدتم منبوذين، أعلم أنكم كنتم قبل ذلك مسلمين، لكن نبذتم أنفسكم عن دينكم وتركتم ارضكم واتبعتم أنفسكم فاصبحتوا منبوذين ”
على الغضب ملامح الرجال وغلت المراجل في صدورهم وانتفض أحدهم بقوة يدافع عن تلك الأرض التي لا يعلم عنها شيئًا على أية حال :
” من قال أنها ليست لنا يا هذا، نحن اخذناها وفزنا بها، إذن نحن الآن أهل هذه البلاد وهذه أرضنا ووطننا ”
ابتسم لهم سالار بسمة خفيفة، وجنوده حوله ينظرون له بصدمة وعدم فهم لسبب هذا الحوار، لكن سالار لم يهتم وهو يقول بهدوء شديد ونبرة تشع بالسلام :
” إذن، إن أخبرتك أنني قائد جيوش سفيد وعلى استعداد لمنحك منزل داخل بلادي، وأعطيك من الأموال حتى تكتفي واضمن لك ألا تجرفك امواج الحرب العاتية وأحفاظ على حياتك، هل تنضم لجيشي وتساعدني ؟؟”
اتسعت أعين الجميع وعلت نظرات متفاوتة أعينهم، لا يصدق أحدهم أنهم أمام قائد جيوش سفيد الذي كان بافل منذ أيام على وشك إحراق المكان لأجل ما فعل بهم، تبادل الجميع النظرات وقد بدأ الطمع يعلو عيونهم، والتردد يزين ملامحهم، وسالار منحهم بسمة واثقة ينتظر منهم ردة فعل وقد كانت حين تقدم أحدهم يقول بريبة :
” أنت تحاول خداعنا أليس كذلك ؟؟”
” لا عزيزي أنا لا اتبع نفس أساليب قائدك، فأنا لا اتحايل أو اخدع أحد ”
لمع الاستحسان على ملامح الجميع وقد بدت فكرة الانضمام لسفيد وتأمين حياتهم في مملكة آمنة مستقرة فكرة جيدة، لكن مستعبدة فهم ما كان لهم أن ينسلخوا عن حقيقة كونهم منبوذين، الأمر صعب، وهذا الرجل أمامهم لا بد أنه يسخر منهم فقط، وإن كان جادًا ما كان ليعرض أمر كهذا بهذه النبرة الساخرة وهذه البساطة، وقبل أن يحسم أحدهم تردده ويبدي رأيه بشأن عرض سالار، اعتدل سالار في وقفته يقول بجدية :
” حسنًا هذا ما كنت انتظره، إن كنتم على استعداد بالتفكير فقط مجرد تفكير في عرض لترك تلك الأرض التي تقفون عليها مقابل امتيازات أكثر مما تقدمها لكم، فهذا يعني أنها ما كانت يومًا وطنًا لكم، أصحاب هذا الوطن هم أنفسهم من يعانون ويُقتلون ويُعذبون على أيديكم ولم يفكروا لحظة في التخلي عنها لأجل شيء، وانتم تعيشون مرفهين ورضيتم تركها لأجل رفاهية أكبر، لا يستوون ..”
ختم حديثه يتحرك بعيدًا عنهم ساخرًا وقد زرع داخلهم ما كان يرنو إليه من حواره ليسمع صوت رجل مرتفع :
” لكن هذا يعني أنك خدعتنا، مثلك مثل بافل ”
ابتسم سالار بسمة جانبية وعيونه قد ألتمعت بسواد قاتم وهو يقول دون أن يستدير لهم :
” جيد أنك تعلم ما يفعله بكم بافل، وفيما يخصني فأنا لم أكن اخدعكم بشيء، بل كنت أظهر لكم أنكم مجموعة مرتزقة لا وطن لكم ولا أرض ولا ذمة، أنتم حمقى تبيعون أنفسكم لمن يدفع أكثر، وأنا يومًا لن أقبل امثالكم داخل أرض سفيد، ولن أسمح أن يمس أحدهم ذرة رمال منها ”
ابتسم أحدهم بسخرية يتقدم الجميع صوب الحدود الفاصلة بينهم والتي كانت عبارة عن قطع حديدية كبيرة، تخطى ذلك الجندي الحدود يتحدث بصوت ساخر متحدٍ :
” ها أنا لمست رمال سفيد وإن أردت أن اتمرغ بها سأفعل”
استدار سالار ببطء يرمق قدم ذلك الرجل الذي يحركها على الأرض أسفله كما لو كان يدهس حشرة، ثم رفع عيونه صوب وجهه بهدوء شديد :
” حسنًا أمر التمرغ لا جدال عليه، فأمثالك من الخنازير اعتادوا التمرغ بالوحل، لكن نسيت أن هذه سفيد وليست بركة الوحل خاصتك، والآن امنحك ثلاث ثواني لتعود حيث كنت وإلا اعتبرت وجودك على ارضي تهديدًا ”
” وإن لم افعل ؟؟”
نظر له سالار ثواني ثم قال بملامح جامدة :
” لا انصحك ”
ضحك الرجل وتبعه أصدقاؤه بصوت صاخب وهم يراقبون ما يحدث وقد رنّ صدى ضحكاتهم في الأجواء، لكن فجأة تلاشت تلك الضحكات وعلت صرخات حادة عند تناثرت الدماء عليهم وقد شق سيف سالار معدة صديقهم دون أن يرف له جفن ..
سحب سالار السيف من معدته يرى جسده يتهاوى ارضًا، ثم رفع عيونه لباقي الرجال الذين شحبت ملامحهم بقوة وقال بهدوء شديد موجهًا حديثه لرجاله :
” ألقوا جسده لهم ولا تدعوا أحدهم يطأ رمال سفيد وإلا الحقتموه بصديقهم… وأنتم لديكم عشرون دقيقة لللحاق به، فإن كان محظوظًا لن يموت بسرعة ”
تركهم سالار يتحرك بهدوء شديد بعدما ألقى لهم نظرة مشتعلة يلوح بيده في الهواء :
” تحياتي لبافل وملاعينه ”
صعد سالار حصانه يرمق جنوده يحملون جسد الرجل يلقون به في مشكى ثم عادوا وتمركزوا في أماكنهم بملامح قدت من صخر، هز رأسه بهدوء يتحرك صوب القصر ليكمل عمليات التدريب التي تركها .
” لعنة الله على الكافرين”
_________________________
طالت نظرات إيفان صوبها وهي تتكأ بهذا الشكل على الشجرة، تنظر له بتحدي وكأنها تدعوه أن يتجرأ ويقترب لنزع اللثام عن وجهها .
رفع حاجبه لها لترفع هي خاصتها وكأنها تخبره ( ماذا ؟؟)، لكن إيفان ابتسم لها بسمة ساخرة يتقدم منها خطوات معدودة لتعود هي نفس عدد خطواته التي تقدمها، أطلق ضحكات مستنكرة :
” أنظروا من خرج صباحًا في تحدي سافر لي، لكنه يخشى اقترابي منه ”
” ومن قال أنني اخشاك ؟؟”
نظر لها إيفان ثواني قبل أن يشير بعيونه صوب كفها الذي يحمل السيف :
” لا أدري، ربما أصابعك التي تتحرك على قبضة السيف بشكل متوتر، أو ارتجافة يدك نفسها، أخبريني أنتِ يا ترى ما الذي يجعلكِ تخشينني ؟؟ ”
” أنا لا أفعل ”
هز رأسه باستهزاء :
” نعم صدقتك، إذن يا ….أنتِ لم تخبريني اسمك صحيح ؟؟”
نظرت له بشك لتحدثه معها بهذه البساطة، هذا الأمر جعلها تخشاه أكثر من تعامله معها بحذر أو صرامة، هذ الرجل كل ما به يخيفها ويستفزها وبشدة .
” لا بأس سنتجاهل الاسم وادعوكِ الملثمة الغبية”
اتسعت عيون كهرمان بقوة وشعرت بالغضب يندفع بين أوردتها بعد كلماته وهو تجاهل كل ذلك يقول ببسمة :
” يليق بكِ الغباء، فأي امرأة تلك التي ترتدي ثياب جندي وتحمل سيفًا وتأتي الملك لتقاتله دون سبب وهي تعلم أنها في أي لحظة ستسقط أسفل قبضته وحينها سيسقيها من المر كؤوسًا ”
ابتسمت كهرمان بسمة انعكست في عيونها وهي تتخلى عن مكانها تتحرك صوبه بخطوات حذرة بغرض إثبات أنها لا تخشاه :
” ومن أخبرك أنني افعل ذلك دون سبب ؟؟”
” حسنًا لا أجد سببًا لتلك الأفعال الرعناء، ولا مبرر لها سوى الغباء ومحاولات يائسة لإثبات شيء في نفسك، أو ربما …تحاولين لفت انتباهي لكِ ”
ختم حديثه ببسمة عابثة في قمة السخرية، لكنها بدل الغضب أو الانتفاضة محاولة الدفاع على نفسها أطلقت ضحكة فلتت منها دون وعي ولم تغير صوتها كما المعتاد، لتعلو نظرات غامضة عيون إيفان الذي اطال النظر بها يسمعها تردد بنبرة غريبة :
” ولِمَ لا تقول أنه ربما الدافع وراء كل هذا هو الكره، والعداوة ”
صمت إيفان ثواني ثم قال بصدمة كبيرة :
” أوه، كره وعداوة من امرأة ؟؟ ؟”
ثواني قبل أن ترتسم بسمة واسعة فخورة على فمه يقول بشكل مستفز لكل خلية داخل جسد كهرمان :
” هذا رائع يبدو أن نجاحي لم يصب الرجال فقط بالحقد والكره بل امتد ليشمل النساء كذلك الأمر، هذا أمر يُحسب لي”
نظرت له كهرمان بصدمة وقد أصابها إيفان للتو بخرس، لقد جاءت كي تثير استفزازه وتخبره أنه ليس صالحًا كما يظن وأنه مجرد حقير ظلم شقيقها، لكنه ببساطة اصمتها، بالله هل هناك من يرى نفسه بمثل ذلك الشكل مثله !؟
وإيفان تلقى صدمتها ببسمة وسعادة يهنئ نفسه على هدفه، ثم قال يفرك ذقنه بتفكير :
” إذن أنتِ تكنين لي كرهًا وحقدًا، وكأي امرأة طبيعية نالها ظلمٌ من رجلٍ ما، ارتديتي ثياب رجل وجئتِ لمبارزتي، أمر تقليدي معروف صحيح ؟؟ جميع النساء الكارهات يفعلن هذا بالطبع ”
نظرت له بعدم فهم لكنه بصق في وجهها كلماته حانقة :
” ألم يخطر بعقلك أن تأتي لقاعة العرش وتشتكي لي من أي ظلم تعرضتي له ؟؟ ”
” ومن أخبرك أنك ظلمتني أنا ؟؟”
نظر لها بعدم فهم يبصر اشتعال عيونها بغضب شديد :
” من ظلمته بين يديّ الله الآن، وأنا لن آتي واتذلل لك أسفل عرشك لاحصل على حقه، وأنا لا اريد أخذ حقه منك، بل سأترك عقابك لرب العالمين، أما عما افعله أنا فربما يمكننا تسميته وسيلة لتفريغ كرهي وغضبي منك، أن أراك امامي وسيفي بين قبضتي، يمنحني نشوة وأمل أنني قد أتخلص منك يومًا ”
كانت تتحدث وهي تنظر لعيونه بعيون بدأ اللون الابيض بها يتحول للأحمر من الغضب أو ربما من كبتها لدموعها، بينما إيفان في تلك اللحظة شعر بالصدمة لمقدار الكره الذي يقطر من بين حروفها، هل بالفعل ظلم إنسانًا في حياته ولم يرد عنه مظلمته حتى مات ؟؟ هو لا يتذكر أنه ظلم يومًا أحد.
اطال النظر في وجه كهرمان التي كانت دموعها متلألئة بالدموع، ثم تراجعت ببطء للخلف تقول :
” ربما لا تتذكره، لكن أخي كان يحترمك يومًا ما، كان يقدرك ويراك شخصًا عظيمًا، لكنك …لكنك خيبت أمله وظلمته، مات دون أن يسامحك، وأنا هنا مضطرة أن أراك تتمختر أمامي كل يوم تتباهى بعدلك أمام الجميع وأنت الظالم، تتغنى بصلاحك وأنت الفاسد ”
سقطت دموعها تتنفس بعنف وإيفان ما يزال صامتًا دون كلمة واحدة، الذهول هو كل ما يمكن أن تراه أعلى ملامحه، تنفس بصعوبة يحاول معرفة ما فعله، لكنها لم تسمح له تمسح دموعها ببساطة :
” ربما تكون تلك المبارزة لك نوع من أنواع الترفيه، لكنها تعني لي الكثير، من يدري ربما يحالفني الحظ وتنتهي المبارزة بموتك ”
راقبها إيفان تبتعد عنه ببطء ولم يتحرك أو يركض ليعلم من هي عكس ما كان يخطط، تركها تتحرك بعيدًا عنه ببطء شديد ولم يصدر منه سوى قول :
” لكِ ما تريدين ”
توقفت كهرمان بتعجب ليقول ببسمة لا معنى لها :
” ستستمر المبارزة بيننا حتى يسقط أحدنا، إما أنا أو …أنتِ ”
ابتسم كهرمان له بسمة صغيرة تنحني نصف انحناءة له :
” يبدو هذا عادلًا …مولاي .”
ختمت كهرمان حديثها تمنحه بسمة صغيرة ثم تحركت بعيدًا عنه وهي ما تزال تراقبه وحينما أصبحت على بعد منه استدارت وركضت بسرعة وإيفان ما يزال يحدق في ظهره وقد اضحت تلك المبارزة مع هذه الملثمة أكثر من مجرد لعبة، سيعلم من هي ومن هذا الذي ظلمه لتأتي هي وتبغضه بهذا المقدار، سيصل له، وحينها سيقف أمامها ينتزع اللثام ويخبرها بكل قوة أنه لم يظلم أحدًا ولن يفعل …
وفيما يخص الظلم عليه الآن ترك تلك المدعية تخرج من أسوار سجنه مع وطردها خارج أسوار قصره بالكامل، هذا يبدو عادلًا له .
_______________________
تقف جواره في منتصف الساحة حيث يتدرب دانيار عادة، وأمامه على أحد الأشجار هناك رسومات لدوائر تمثل هدفًا له، تنهد دانيار بصوت هادئ قبل أن ينظر لتبارك والتي كانت تضع لثامًا تخفي به جزء ليس بالهين من وجهها، وتقف بثياب محتشمة وحجاب طويل بعض الشيء تحمل بيدها سهم وبالأخر قوس، تنتظر تعليمات دانيار لها .
” حسنًا مولاتي، الأمر في غاية البساطة، كل ما عليكِ فعله هو تثبيت قدميكِ في الأرض، تشديد قبضتيك حول القوس والسهم، ضعي كامل قوتك في ذراعيكِ وكتفك، ركزي على هدفك واتركي السهم ليصيبه، واضح ؟؟”
هزت تبارك رأسها وقد حفظت تعليماته بالكامل تركز عيونها أمامها صوب الهدف تشعر بالخوف أن تصاب أثناء استخدام السهام، لذلك رفعت رأسها لدانيار تتساءل :
” هذا لن يؤذيني ؟؟”
” ماذا ؟؟ لا لا بالطبع لن تتأذي، فقط نفذي كل ما أخبرتك به، وسترين أن الأمر ابسط بكثير مما تعتقدين ”
هزت تبارك رأسها تتنفس، ثم شرعت تسمي الله قبل البدء في أي شيء، أمسكت القوس ووضعت به السهم، ثم رفعته وهي تحاول أن تتحكم بهما، لكن ما كادت يدها تستقر في الهواء حتى سقط منها السهم يسبب مسكتها الخاطئة، ابتسمت له بسمة صغيرة خجلة :
” اعتذر لك، أنا … أنا لا اعلم كل تلك الأمور ”
ورغم أنه لم يكن من النوع الهين في التدريب أو الصبور، إلا أنه لم يغضب أو يصرخ، بل نظر لها باحترام يقدر محاولاتها للنجاح في الأمر :
” لا بأس، دعيني اساعدك ”
ختم حديثه يميل ارضًا ليأخذ السهم، ثم نزع منها القوس يريها كيفية حمله وهي تراقبه باهتمام شديد وانبهار أكبر، ثواني حتى وجدت دانيار يعطيها القوس موضوعًا به السهم مشيرًا للهدف :
” والآن حاولي مجددًا ”
هزت رأسها تنظر للهدف تحاول أن تصيبه بدقة، ركزت وركزت حتى شعرت أنها على أتم الاستعداد لترك السهم، جذبته أكثر لتكون الضربة قوية، وما هي إلا ثواني حتى تركت السهم لينطلق في الهواء، ثم وضعت يدها أعلى رأسها لتخفي الشمس عن عيونها تراقب السهم، لكن للعجب لم يكن هنا شيء في الهواء ولا في الهدف، ضيقت ما بين حاجبيها بعدم فهم وهي تدور حولها..
ودانيار ينظر لها بصدمة وهو يقول :
” إلاما تنظرين ؟!”
” السهم لا أدري أين اختفى ؟!”
رفعت رأسها للسماء تبحث عنه لربما كانت قوتها مبالغ بها وقذفته بعيدًا، لكن صوت دانيار جذب انتباهها وهو يقول بصوت به غضب مكتوم :
” أين تنظرين مولاتي، السهم لم يتحرك خطوة بعيدًا عنكِ”
نظرت له بعدم فهم ليشير هو على السهم الذي سقط من يدها أسفل أقدامها بدلًا أن تقذفه، نظرت له بصدمة ثم رفعت عيونها لدانيار الذي كانت ملامحه مزهولة، ابتسمت له تحاول ايجاد شيء لقوله وهي تنحني لتحضر السهم :
” أوه ها هو ذا، يبدو أنه أفلت مني بالخطأ، سأعيد رميه”
صمت تحاول وضعه داخل القوس، لكن حينما فشلت مدته إلى دانيار تقول بهدوء وبسمة صغيرة :
” هل يمكنك وضعه لأجلي ؟؟”
جذب منها دانيار القوس والسهم يضعه بشكل معين، ثم مده لها :
” حسنًا ضعي كامل قوتك في ذراعيكِ، وركزي وإياكِ وافلاته بضعف، كما جذبتيه بقوة اتركيه بقوة ”
هزت رأسها تستمع لحديثه ثم جذبت السهام بقوة شديدة، ومن بعدها تركته بسرعة كبيرة كما قال، لتشعر أن جسدها اندفع مع السهم للإمام بشكل جعل دانيار يصرخ برعب وهو يمد يديه وكأنه سيتدارك الأمر :
” يا ويلتي”
سقطت تبارك ارضًا بقوة تشعر بوجع شديد في أكتافها وذراعها بسبب السقطة، لكنها لم تهتم لذلك، بل كل ما اهتمت به هو السهم :
” هل أصبته ؟؟”
نظر دانيار للسهم الذي أصاب فرع الشجرة بعيدًا جدًا عن الهدف فإن كانت مثلا تصوب على رأس رجل، بهذه الطريقة قد تصيب أنف رجل آخر خلفه :
” لا بل اصبتني أنا باليأس، انهضي مولاتي رجاءً، دعينا ننظر للجانب المشرق، لقد تحرك السهم بعيدًا عن محيط قدميك ”
ابتسمت تبارك تنهض تنفض ثيابها، ثم نظرت بحماس صوب الشجرة تبحث عن سهمها :
” أين هو ؟؟ أين اصبته ؟؟”
” هناك بجوار عش ذلك العصفور المسكين ”
رفعت تبارك عيونها أكثر لا تبصر ما يشير عليه لكنها لم تهتم، بل نظرت له تقول ببسمة :
” إذن هل سيأتي يومًا وأصبح رامية سهام بارعة!!”
تنحنح دانيار لا يود أن يحبط من عزيمتها :
” حسنًا لتصبحي رامية سهام اولًا، ثم نفكر في أمر بارعة، والآن لنكمل نحن نتقدم بشكل جيد ”
ابتسمت تبارك وقد شعرت بالأمل، هذا الرجل جوارها هادئ ومتفهم، يبدو أنها ستستمتع بالتعلم معه، أمسكت القوس والسهم ومدتهم له كي يجهزه لأجلها وهو امسكهم يقول ببسمة باردة :
” أوه يبدو أنني نسيت اخبارك، أن وضع السهم في القوس من مهام الرامي، فلن تأتي لي كي أضعه لكِ كلما اردتي استخدام سهم، تخيلي أن نكون في حرب وتركضين صوبي كلما اردتي وضع سهم، وقتها ستموتين قبل تبديل السهم الاول ”
نظرت له تبارك بتسائل ليضع لها السهم وهي امسكته منه تقول بجدية :
” هل تقول أنني ربما اشترك في حرب ما ؟؟”
” من يعلم ؟؟ لربما تحدث غارة على المملكة وقتها ستكونين في حاجة لتأمين نفسك ”
شعرت تبارك بالرعب من التفكير في الأمر، هي لم تأت هنا كي تفقد حياتها بطرق غريبة كأن تقع أسيرة أو تصاب بضربة سيفًا أو يخترقها سهمٌ، هي توقعت ميتة أكثر تطورًا كأن تضربها سيارة حديثة يرفض صاحبها التنازل وانقاذها فتموت على الطرقات، أو أن يتم اغتيالها في المشفى حينما تكتشف أن عبير وسميرة يعملون بشكل غير قانوني، أو تذهب ضحية أهالي حارتها حين تبلغ عنهم الشرطة لتسببهم لها في امراض نفسية عديدة، اسباب كثيرى لم تكن الحرب أحدهم..
تنفست بصوت مرتفع وهي تكمل تدريبها مع دانيار والذي لم يستمر صبره معها طويلًا، فبعد نصف ساعة كاملة من الفشل في الاقتراب حتى من الهدف صرخ دانيار بجنون :
” بالله عليكِ أين تنظرين؟؟ ها هو الهدف في منتصف الشجرة، ليس في الفروع ولا في الأرض ولا في الأوراق وبالطبع ليس في السماء، الهدف أمام عينيكِ مباشرة، أين تصوبين أنتِ يا امرأة ؟؟”
نظرت له تبارك بغضب شديد من صراخه :
” أنت لا تصرخ في وجهي بهذا الشكل، أنا الملكة في هذا المكان ”
تنفس دانيار بقوة وهو يتحرك صوب الهدف يشير له بيده :
” معذرة مولاتي، هيا انظري هذا هو الهدف، هذا هو، داخل تلك الدائرة الصغيرة و…”
فجأة توقف بصدمة حينما رأى السهم يصيب الشجرة جوار رأسه تحديدًا وعلى بُعد صغير من الدائرة الأكبر في الهدف.
رفع دانيار عيونه بصدمة صوب تبارك يرمقها بتشنج وكأنه يسألها ( الآن رأيتيه ؟؟) حينما كدتي تجزين عنقي؟؟ وتبارك لم تهتم لكل ذلك، بل ابتسمت بسمة واسعة تقول بسعادة وهي تضم القوس لصدرها :
” ها أنظر لقد فعلتها، يبدو أنني بالفعل امتلك قدرات داخلية جيدة ”
نظر لها دانيار بصدمة، لكن رغم ذلك تنهد يقول بجدية :
” حسنًا سنعتبر هذا انتصارًا كبداية، رغم أنني أتعجب أنكِ حتى الآن لم تصيبي الهدف مرة واحدة ولو بالصدفة، الأمر ليس صعبًا لهذه الدرجة، فقط تخيلي أن المكان حولك مظلم ولا بصيص ضوء واحد سوى الهدف فقط ”
نظرت له تبارك ثواني ثم قالت ببسمة :
” هذا يبدو سهلًا، لكنني لم احضر نظارتي الطبية، في المرة القادمة ربما استخدمها فهذا قد يساعدني لارى الهدف من الأساس ”
نظر لها دانيار بعدم فهم :
” عفوًا ؟؟”
ابتسمت له تبارك تقول بجدية وهي ما تزال تحدق في سهمها الاخير بفخر كبير تخبره متأخرًا بعض الشيء :
” أنا أعاني قِصر نظر ”
صمتت ثم أضاف :
” يعني أنني لا أرى بعد بُعدٍ معين، تصبح الأمور البعيدة نسبيًا مشوشة لعيني، لذلك لا أرى أي علامات واضحة على الشجرة ”
نظر لها دانيار بصدمة كبيرة، هل قضى كل ذلك الوقت يحاول تعليمها التصويب على شيء لا تراه ؟؟ هل تمزح معه ؟؟ يحتاج الآن لإخفاء تلك المرأة من أمام عيونه بسرعة كبيرة قبل أن يتخلص منها في فورة غضبه .
” أه صحيح هذا رائع، احسنتي مولاتي، والآن انتهى التدريب ”
” إذن هل بدايتي جيدة ؟؟”
” بل رائعة، يوم اضافي وتأخذين مكاني في الجيش ”
ويبدو أن ذلك الأمر اعجب تبارك التي ضحكت بخفة تدرك مجاملته لها وهي تسير بعيدًا عن الساحة :
” حسنًا لا تقلق، فلن افعل، والآن اسمح لي بالذهاب ..”
وبمجرد أن رحلت تنهد دانيار متنفسًا الصعداء يلقي جسدها ارضًا وهو يرمق السهم بحنق :
” احيانًا اكره كوني ذو فائدة في شيء …”
_______________________
وعدتُكَ
أن أتجاهَلَ عَينَيكَ مهما دعاني الحنين
وحينَ رأيتُهُما تُمطرانِ نجومًا
شَهَقت
وعدتُكَ
أنْ لا أوجِّهَ أيَّ رسالة حبٍ إليكَ
ولكنني رغم أنفي
كتبت…….
«مقتبس»
وعودًا قطعتها في لحظة يأسٍ بيني وبين نفسي، بنود خططتها كي اوقف الحرب بين قلبي وعقلي على حبك، تعهدت أن أتوقف عن تتبعك، لكنني اخلفت، وها هي بعدما أخبرته مئات المرات أنها لن تطأ معمله عادت إليه مجددًا، لا ليست دون كرامة، بل هي دون إرادة، عاشقة بائسة سقيمة وما لها من دواء سوى رؤيته .
ابتلعت برلنت ريقها تدور بعيونها في المكان تطمئن أنه خرج اتتنفس الصعداء حينما وجدت المكان خالي منه، لكن ليس من رائحته .
بدأت تنظف المكان رافضة أن تمس امرأة أخرى شيئًا يمسكه هو، تأتي يوميًا منذ جاءت للعمل بالقصر كي تنظف معمله بنفسها حتى وإن لم يعلم ذلك .
بائسة ؟؟ قليلة الصفة في حقها، هي في غاية البؤس واليأس أن تعود له مجددًا.
أن يركض صوبها يفتح ذراعيه لها مبتسمًا أن تسمع لقب دلالها من بين شفتيه .
” بيــــرلــــي ”
استدارت برلنت الصغيرة بفزع حين أبصرت جسد تميم الذي يحدق فيها بشر واعين متسعة، وفجأة اشتد غضب عيونه وهو يركض صوبها صارخًا :
” أيتها المجنونة ما الذي فعلتيه ؟! ابتعدي، ابتعدي ”
جذب تميم جسدها بسرعة بعيدًا عن العربة الخشبية الخاصة بوالدها وهو يحاول أن ينقذ ما يمكن إنقاذه، وهي كعادتها وقفت جواره تنكس رأسها ارضًا وهي تبكي بصوت مرتفع :
” آسفة، أنا آسفة اقسم لم أقصد، لقد هربت الدجاجات من القفص وارتعبت من أن يشردوا بعيدًا، وبالخطأ اصطدمت بالسيارة لتنفلت عجلاتها وتصطدم بالجدار وتتحطم ”
نظرت للسيارة التي فسد جزء لا يُستهان به منها بسبب حيوانات والدتها التي تربيهم خلف المنزل، قبل أن تنفجر باكية بصوت مرتفع تقول بفزع ورعب استبد بها :
” أبي سيقتلني، يا ويلتي تميم سيقتلني، اقسم أنه سيقتلني ”
كانت مفزوعة بشكل كبير وهي تبكي تنكب على السيارة تحاول جمع القطع الخشبية وتصليحها مجددًا بشكل هستيري يائس، جعل تميم يجذبها بسرعة بين أحضانه وهو يحاول تهدأته :
” اهدأي بيرلي، لن يحدث لكِ شيء صغيرتي، لن يمسك العم بسوء اهدأي لا تبكي، لا تبكي ”
لكن برلنت لم تتوقف عن البكاء مرتعبة وزاد بكائها عنفًا حين سمعت صوت والدها الذي تلقى صدمته الكبرى حين رأى ما حدث لمزروعاته :
” ما الذي حدث هنا؟! ما الذي حدث لعربتي ؟!”
ابتعدت برلنت بسرعة عن احضان تميم تبكي بخوف شديد تحاول الحديث وهي تفرك يديها بتوتر في فستانها :
” أبي أنا…”
” هذا أنا عمي، لقد، لقد هرب حصاني من الاسطبل واقتحم ارضك بالخطأ وتسبب في كل هذا حتى أنه حطم الفخار الخاص بنا ودمر كل شيء و… أنا آسف حقًا ”
نظرت له برلنت بامتنان ولم تكد تتحدث بكلمة حتى أطلقت صرخة مرتعبة بسبب ضربة والدها التي أصابت تميم وهو يصرخ به أنه حطم مصدر رزقه بسبب طيشه وحصانه الأخرق .
ذلك اليوم تتذكر ما حدث، هرج أصاب المكان وشجار نشب بين العائلتين انتهى بتدخل تميم وقوله أنه سيتحمل خطأه وينقل ما يريده والدها بنفسه و بلا مقابل ليعوضه عن خسارته إلى جانب عمله مع والده، تحمل خطأ لم يرتكبه لأجلها ولم ينطق بكلمة واحدة يذكر فيها اسم برلنت ..
وفي النهاية وبعدما هدأت الأمور، لم يوجه لها سوى كلمات قليلة مصحوبة ببسمة لطيفة وهو يعطيها بعض الفواكه كي لا يبيكها :
” افديكِ بحياتي كلها بيرلي، وليس فقط مجرد أيام من العمل مع والدك صغيرتي، لا بأس طالما أن سوءًا لم يمسك ”
رفعت برلنت عيونها الباكية له بعدما اعتزلت الجميع في حديقة الحي بعيدًا عن الأعين وليس عنه بالطبع :
” شكرًا لك تميم ”
” عفوًا بيرلي …”
استفاقت برلنت فجأة من رحلة ذكرياتها التي تتمنى لو تُسجن داخلها بالقوة، أن يأبى الزمن إخلاء سبيلها، أو أن ترفض الحياة ابتعادها عن تلك النقطة …
تنهدت تعود بعيونها للمعمل، صوب حاضرها الذي يكفيها وجود تميم به لتبتسم وتسعد .
وأثناء تنظيفها انتبهت برلنت لشيء يلتمع أعلى الطاولة الخاصة بأدواته، اقتربت ببطء تحاول تبين هويته، وحينما لمسته انتفض جسدها بقوة تطلق شهقة مرتفعة :
” ما هذا الشيء ؟؟ ما الذي يحدث هنا ؟؟”
” مزعجة اقتحمت معملي وتحاول سرقة حجر الطاقة الذي عثرت عليه بعد عمل مكثف، هذا ما يحدث هنا ”
حدقت برلنت بالحجر دون أن تستوعب أن الصوت الذي خرج منذ ثواني لم يكن صوت أفكارها :
” حجر طاقة ؟؟ وماذا يحمل داخله ذلك الحجر ؟؟”
” طاقة كهربائية تولدت لحركة ذراته واحتكاكها الدائم، ومن المفترض أن من يلمسه دون عازل كما فعلتي يُصاب بشحنة كهربائية مميتة، لكن يبدو أن كامل الأسلحة تفشل امامك يا امرأة ”
” هكذا إذن ؟؟”
” نعم هكذا إذن ”
استقامت برلنت بعدما انتهت من فقرة تحديقها بالحجر تستدير صوب تميم تقول ببسمة صغيرة :
” يبدو مثيرًا للـ ….”
صمتت فجأة بصدمة حينما استعوبت واخيرًا ما يحدث في المكان ليزداد قرع قلبها داخل صدرها، وهي تتنفس بصعوبة محاولة الحديث .
ابتسم تميم يقول :
” مثيرة للشفقة ”
تحرك صوب الطاولة يرتدي قفاز عازل، ثم حمل الحجر يضعه في مكان مخصص له، وبرلنت شعرت بالصدمة مما سمعت، حسنًا ربما لم يتعرف عليها على أية حال، فهي تضع غطاء أعلى وجهها طوال الوقت و…
” إذن أيتها القردة ما الذي ألقى بكِ في معملي ؟؟ أولستِ أنتِ من اقسم على ألا يطأ المكان ؟؟”
فتحت فمها للحديث لكنه قاطعها يسبقها بحجها :
” نعم نعم أنتِ جئتِ مجبرة ولا تطيقين رؤيتي صحيح ؟!”
هزت راسها بنعم وهي ما تزال تحدق فيه بصدمة كبيرة، ليبتسم لها قائلًا :
” إذن ما رأيك أن اريحك واطلب من المشرفة بنفسي أن تغيرك وتضع فتاة أخرى تتولى أمر تنظيف معملي ؟؟”
” ماذا ؟؟ لااا”
كانت صرخة برلنت مقهورة مفزوعة أن يفسد ذلك الاحمق ما سعت له طوال تلك السنوات، هو لا يدرك ما احتاجت لفعله كي تتفرد بتنظيف معمله، يا الله ذلك الرجل لا يدرك شيئًا .
رفع تميم حاجبه متعجبًا ما قالت لتسارع القول :
” اقصد أنني لااا اهتم، جد عاملة أخرى أو لا تفعل فلا اهتم، من يريد أن يدفن نفسه وشبابه في تنظيف هذا المكان القذر؟؟ ”
” ماذا ماذا ؟؟ أي قذر هذا يا امرأة ؟؟ انظري حولك، انظري”
نظرت برلنت حولها بأعين ساخرة لتقع عيونها على بعضٍ من قشر الموز أسفل قدمه ليزيحه هو بسرعة أسفل الطاولة يقول بجدية :
” أنا أكثر رجال المملكة نظافة، أوتعلمين أنا لا أريد عاملة نظافة من الأساس، سوف اتكفل بالأمر بنفسي”
شعرت برلنت أن ما سعت له وما تعيش لأجله يتسرب من بين أصابعه، لذلك سارعت بالاعتراض :
” اسمع يا هذا …اقصد يا سيد، هذا المكان تحت إشرافي الخاص لذلك لا تعطلني عن العمل، هيا ابتعد عن طريقي لانتهي من العمل رجاءً ”
وبهذه الكلمات تخطته تاركة إياه ينظر في أثرها بصدمة كبيرة، ثم اخذت تنظف المعمل وهو يقف مكانه يحدق فيما تفعل بجهل، ليقرر في النهاية أن يتحرك وينتهي من عمله بدلًا من التحديق بما تفعل تلك العاملة ذات اللسان الطويل .
اندمج تميم في عمله وبرلنت كانت تتحرك في المكان تنظفه لأجله، لكن كل ثانية كانت تنظر إليه شاكرة غطاء الوجه الذي لا يوضع أين تحدق هي .
كان تميم يمسك تلك الكرة واضعًا إياها أمامه محاولًا التفكير في السلاح الجديد الذي يعتمد عليها، وفجأة نظر صوب برلنت يتساءل بجدية :
” أخبريني شيئًا، هل يزعجك أن تصابي بشحنة كهربائية تسري بين اوردتك كما لو أنكِ اشعلتي شرايينك ؟؟ هل تظنين أن ذلك الألم جيد ؟!”
نظرت له برلنت دون فهم لما يقول وهو يفكر في ذلك السلاح الذي سيخاطره به يحاول أن يشرح لها الأمر بعدما لم يجد غيرها في المكان، ليستبدل الحديث مع نفسه بها، على الأقل هي ستجيبه ردود تختلف عن ردود عقله :
” اعني تخيلي لدقيقة أنني اصبتك بسلاح تسبب في إصابتك بشلل مؤقت مع شعور حارق يسير في اوردتك، هل تظنين أن هذا قد يكون جيدًا كسلاح ؟!”
حدقت به برلنت في صدمة كبيرة تفتح فمها، وهو حمل الكرة يتحرك صوبها يقول بجدية :
” حسنًا سأشرح لك الأمر بشكل اوضح و…”
لم تسمح له برلنت بإكمال الحديث إذ سارعت ومنعته من الاقتراب بريبة شديدة :
” مهلًا توقف مكانك ولا تتقدم خطوة مني، ما بك كلما رأيت وجههي اكتشفت أنك تود فجأة تفجير قنبلة، هل تغريك فكرة رؤية جسدي يتناثر حولك أم ماذا ؟!”
رمقها تميم بعدم فهم، ما الذي تظنه تلك البلهاء، هل تعتقد أنه سيجرب بها سلاحه ؟؟ هو فقط يود أن يجد أمامه شخص يتحدث معه بأفكاره عله يصل لاجابة عما يدور بخلده، اقترب منها يحاول توضيح ما يريده :
” لا لا ما الذي فهمتيه أنا فقط اريد أن أسألك عن …”
لم تمنحه برلنت فرصة توضيح شيء، بل كانت عيونها تتحرك مع يده التي تحمل تلك الكرة الغريبة المؤلمة، تشعر بجسدها يرتعش خوفًا، وقد تخيلت للحظات أن تميم سينتقم من كل أفعالها معه سابقًا في هذه اللحظة، لذلك غطت وجهها بسرعة تصرخ مرتعبة :
” لا لا بالله عليك لا تؤذني، اقسم أنني لم اقصد فعل كل ذلك، لم اقصد تميم أنا آسفة، ارجوك أنا آسفة، ارجوك تميم”
توقفت يد تميم في الهواء فجأة يشعر بصاعقة ضربت جسده بأكمله في لحظات وصوت صرخات آخر بنبرة يعشقها يتردد في أذنه لمراهقة تبكي وهي تركض خلفه تتمسك بيده :
” أنا آسفة تميم، لم اقصد، ارجوك تميم سامحني، أنا آسفة اقسم لك لن يتكرر ذلك مجددًا ”
ارتعشت يد تميم الممسكة بالكرة لتسقط ارضًا بقوة وهو ابعد وجهه عنها بسرعة يعيد خصلات شعره للخلف يتنفس بصوت مرتفع :
” اخرجي من هنا ..”
ثواني مرت قبل أن تستوعب برلنت ما يحدث وترفع رأسها له، وتستوعب أنها للتو ترجته لأجل لا شيء، بل ونادته باسمه وكأنه ما يزال رفيقها، لكن يبدو أن تميم نفسه لم يستوعب أنها نادته باسمه، بل فقط صرخ بصوت مرتفع :
” اخرجي من هنا ألم تسمعيني ؟؟؟”
انتفض جسد برلنت برعب تجمع اشيائها وهي تهرول للخارج حتى أنها كانت تسقط على الدرج الداخلي، لكنها تماسكت تبكي بصوت مرتفع وصل لتميم الذي تقهقر جسده شيئًا فشيء يدفن رأسه بين ذراعيه يردد بتعب شديد :
” سامحيني بيرلي ..سامحيني، أين أنتِ ؟؟ لِمَ تركتني ورحلتي ؟؟”
______________________
تقف بعيدًا وهي تراقب النساء يعملن وهي بالطبع لم تتدخل وتقاطعهن، بل تركتهم ينتهون من عملها وعملهن، هي بالتأكيد لن تعمل معهن، ليس تكبرًا منها بقدر جهلها بكل ذلك فهي يومًا لم تفقه بتلك الأمور، هي عاشت وكبرت وترعرعت على القتال والصراخ والتألم، شربت من الوجع كؤوسًا حتى اكتفت ..
تنهدت تغمض عيونها بقوة تستند على الشجرة خلفها وقد عادت بذاكرتها لحياتها السابقة، حينما كانت تحيا حياة أقل من حياة أي بهيم، على الأقل لم تكن الحيوانات مضطرة يوميًا للتعرض لكافة الوان الذل واللمسات القذرة، كانت تحيا في بؤرة الفساد .
تحركت بقوة ترتدي ثياب تشبه ثياب الرجال وخصلات شعرها حرة خلفها، تحمل خنجرًا تتجاهل النظرات التي يوجهها لها رجال قبيلتها، تشعر بالغضب يكاد يقتلها وهي تبحث عنه بعيونها .
واخيرًا وجدته لتركض بجنون لا ترى أمامها سواه وهو يضرب والدتها، وفي غفلة منه ومن رجاله انقضت عليه تغرز حنجرًا في وجهه صارخة :
” اللعنة عليك يا سليل الشياطين، تبًا لك ولوالديك يا حقير، إلا أمي بافل، إلا والدتي يا قذر ”
وفي تلك اللحظة لم تهتم للرجال اللذين أسقطوا رأسها ارضًا حتى جرحت بشرتها بحبيبات الرمال، ولا بذراعيها اللذين كادا يُكسران بين اناملهم، بل فقط ابتسمت بسمة واسعة وهي ترى الدماء تسيل من وجه بافل، وصرخاته ترن في الأجواء .
أطلقت ضحكات متشفية تراه ينتفض صارخًا بجنون :
” سأقتلك …سأقتلك ايتها السافلة ”
ختم حديثه يتجاهل محاولة الجميع إبعاده عن زمرد التي لم تهتم وهي تراه يسحب شعرها بقوة متحركًا بها لساحة القبيلة وهي تصرخ محاولة الإفلات منه :
” ماذا ستفعل يا سيد الرجال ؟؟ ستقتلني ؟؟ ستضربني؟؟ لا بأس، لكنك ستحيا حياتك بأكملها تتذكرني كلما قررت تلويث نظرك ورؤية وجهك في المرآة ”
ألقاها بافل في الأرض بقوة لتطلق صرخة قوية حين انثنت ذراعها أسفل جسدها، ارتجف جسدها بقوة حين سمعت صرخة تعلمها جيدها، صرخة والدتها الحبيبة، اطهر نساء هذه القبيلة، بل اطهر نساء العالم ..
نظرت للرجال يمسكون والدتها مانعين إياها من التقدم وهي شعرت برجلين كلٌ يسحب ذراع لها جاعلين إياها تقف أمامهم، تراقب والدتها تصرخ بهم أن يرحموها، لكن أي رحمة ترتجي وهم لم يسبق وأن رحموها هي حين تكالبوا على تعذيبها، أي رحمة تأمل من شعب نبذوا وطنهم ودينهم وفطرتهم .
أطلقت زمرد صرخة مرتفعة حين شعرت بالسوط يسقط أعلى ظهرها وقد بدأ بافل رحلة الجلد التي لا تنتهي إلا حينما تسقط مضجرة في دمائها، ارتفعت صرخاتها باكية، كانت لسعات السوط تقتلها، تكرههم، تكره رجال هذه القبيلة ونسائها، تكرههم وتمقتهم جميعهم، ستقتلتهم، ستتخلص منهم جميعًا، ستنتقم لأجلها ولأجل والدتها، تقسم أنها ستنتقم منهم جميعًا ..
تنفست زمرد بصوت مرتفع تبعد عن وجهها غطاء الوجه وهي تمسح وجهها مزيلة دموعها بكفها وهي تحاول تهدئة قلبها الذي كان يرتجف وجعًا .
” مصيرك كان أن تولدي بينهم وتسير دماؤهم القذرة في اوردتك وتحملين صفاتهم، لكن رحمة الله أنكِ ولدتي من امرأة شريفة، امرأة ماتت تدافع عنك وعن نفسها، امرأة سيقف العالم يومًا وينحني لها احترامًا، سيفعلون ”
نهضت من مكانها وقد ملت الأمر، هي ستذهب الآن وتبحث عن سيفها وتعيده، لن تترك له آخر ذكرى من والدتها، سيفها الذي حُفر به اسمها، وخاض معها معارك لا عدد لها بينها وبين رجال بافل حين كانت تدافع عنها، لن تسمح له أو لأيًا كان أن يسلبها آخر ذكرى حسنة في حياتها البائسة.
في ذلك الوقت كان دانيار وبعدما انتهى من رحلته الشاقة في تعليم الملكة مبادئ الرماية، يجلس أسفل شجرة الأهداف يعمل على تنظيف سهامة وصقلها، عليه أن يعترف أن الملكة من ذلك النوع الذي يمتلك عزيمة وإصرار لتعلم أي شيء وهذه بداية مبشرة، لكنها متعبة .
تنهد بصوت مرتفع يترك السهم ويحمل آخر لتنظيفه مذكرًا نفسه أنه يحتاج لتفقد جيش الرماة واختبار الدفعة الجديدة منهم .
فجأة ومن بين افكار شعر دانيار بشيء يتحرك بسرعة كبيرة، رفع عيونه ليرى خنجر يتحرك بسرعة كبيرة صوب منتصف الهدف تحديدًا، مال برأسه يراقبه :
” ليت الملكة هي من أصابته بهذه الدقة ”
رفع عيونه صوب جسد يقف في منتصف الساحة الفارغة التي يحدها أشجار كثيرة، ويبدو أن الغضب كان رفيق له في هذه اللحظة، ابتسم دانيار بسمة صغيرة يقول ببساطة شديدة :
” كانت رمية جيدة بالمناسبة ”
ختم كلماته يعود لما كان يفعل دون يعبأ بشحنة الغضب التي ملئت الأجواء، وزمرد التي اكتفت مما يحدث تحركت صوب صارخة بغضب جحيمي تحمل خنجر آخر:
” أين سيفي يا هذا ؟! هل تظن أنني في مزاج يسمح لي باللعب معك ؟؟ اعطني سيفي قبل أن آخذه بالقوة ”
رفع دانيار عيونه ليرى أنها توجه الخنجر بالتحديد أمام رأسه، نظر لعيونها التي كانت تشتعل في تلك اللحظة، يفكر أن هذا السيف يمثل لها الكثير، لكن شيء في صدره يخبره أن يحتفظ به، لا يود إعادته لها، ولا يدري السبب .
” وإلا ؟؟”
ابتسمت زمرد بسمة أبعد ما تكون عن السعادة أو المزاح، تميل بعض الشيء تمركز خنجرها على رقبته :
” إن لم آخذه بالحسنى أخذته بالقتال يا هذا ”
ابتسم دانيار بسمة جانبية، ثم في ثواني قليلة كانت يده تمتد مسقطة خنجرها ارضًا وقبل أن تستوعب ما حدث كان جسدها كذلك يتبع الخنجر لتتأوه من الاصطدام القوي، رفعت عيونها له تراه ينهض بهدوء يتحرك بخطوات متأنية صوب الخنجر يلتقطة وهناك بسمة جانبية ترتسم على شفتيه، التقط الخنجر وبعدها مال يجلس القرفصاء وجسد زمرد ملقى ارضًا تحاول أن تنهض، لكن فجأة شعرت بحافة الخنجر تُثبت على رقبتها وصوت دانيار يصدح بهدوء :
” وأنا ما اعتدت يومًا الحسنى مع امثالك يا هذه، لذلك اختار القتال ”
استندت زمرد على مرفقيها تعتدل بنصفها العلوي تحدق في عيونه بشر كبير وصدرها يعلو ويهبط :
” لك ذلك، يسعدني أن آخذ منك سيفي ملوثًا بدمائك ”
” سنرى بدماء من سيتلوث ”
ختم حديثه يلقي الخنجر عليها، ثم نهض يتحرك صوب الشجرة يلملم سهامه ثم قال بجدية :
” غدًا مساءً في هذه الساحة موعدنا ”
تحرك ببساطة تاركًا إياها وهي ترمق أثره بقوة وتحدي :
” لكنني لا امتلك سيفًا، أنا من الأساس افعل كل هذا لأجل سيفي ”
تحدث وهو يحمل سهامه أعلى كتفه متحركًا خارج الساحة :
” سأحضر لكِ سيفًا فأنا لا اقاتل اعزلًا ”
توقف في سيره يستدير لها، ثم ابتسم ينحني لها بلطف شديد محركًا يديه وكأنه يرحب بأميرة :
” أراكِ غدًا سيدتي ”
ختم حديثه غامزًا، ثم تحرك خارج الساحة بكل بساطة تاركًا زمرد تراقبه بصدر يعلو ويهبط بغضب شديد، تشعر بالغضب ما يزال يغلي داخل قلبها، لكن صبرًا فالغد موعدهم وحينها لن تخرج سوى بسيفها …
_________________________
ها هي تجلس منذ ساعات داخل المكتبة تنتظر أن يشفق عليها العريف ويجلس ليشرح لها درسها لليوم، هي حقًا لا تدري أي درس هذا ولا تعلم لِمَ هي مضطرة لكل ذلك، لكن لا بأس هي ستكتسب ثقافة تفيدها في هذا المكان المريب .
لكن يبدو أن العريف والذي كان يقف أعلى درج خشبي ينظم بعد الكتب لا يهتم حتى لوجود تبارك منذ خمسة عشر دقيقة .
تنحنحت تبارك بصوت مسموع بغية أن ينتبه لها، لكن العريف لم يفعل، ارتفع صوت سعالها لينظر لها العريف من فوق الدرج الخشبي باستنكار مشيرًا على فمه بإصبعه مصدرًا صوتًا يأمرها بالصمت .
” اهدأي أنتِ في مكتبة، اذهبي وعالجي سعالك في المشفى ”
” لا، أنا فقط احاول أن…”
قاطعها العريف بنظرة محذرة :
” احتاج للهدوء هنا ”
شعرت تبارك أنها تثقل عليه، لكنه حتى لا يحاول المساعدة، هي فقط تضيع وقتها عليه، انتفضت عن الطاولة تعترض على كل هذا، وقد ذكرها هذا العريف بالعم متولي.
هل كل من يمتلك مكتبة يكون بهذا الازعاج ؟؟ كل من يتثقف يكون بهذا الشكل ؟!
تحركت صوب الدرج الخشبي وهي تنظر للعريف فوق بغيظ شديد، لكن ولأنها تنظر للأعلى ولا ترى أسفل قدمها، فجأة تعرقلت في شيء ما لتسقط بقوة على الدرج الخشبي الذي حاولت الاستناد عليه ليتحرك بقوة وأعلاه العريف .
أطلق العريف صرخة تزامنت مع انطلاق صرخات مرجان الذي تعرقلت به تبارك وهو يفترش الكتب حوله كالعادة .
” النجدة، ابعدي قدمك عن وجهي ”
صرخ العريف أعلى الدرج وهو يحاول التمسك بأرفف الكتب :
” النجدة، ستقتلني، تلك الفتاة ستقتلني، سالار أيها المتجبر تحرك وساعدني ”
تأفف سالار بصوت مرتفع والذي كان يختفي بين أرفف الكتب بعيدًا عن كل هذه الضوضاء، ترك الكتاب الذي يحمل جانبًا، يتحرك من مكانه بكسل شديد لا يريد حقًا أن يقدم معروفًا لهذا العريف بعد كل ما قاله وفعله به .
وحينما وصل حيث العريف أبصر تبارك التي كانت ساقطة ارضًا تحدق بجسد العريف المتحرك في صدمة كبيرة وشحوب تفرد أمامها ذراعيها وكأنه إن سقط ستلتقطه هي .
مال سالار برأسه يتنهد بتعب شديد :
” متى يرتاح الإنسان في هذه المملكة يا ترى ؟!”
تحدث العريف والذي كان ما يزال معلقًا يحاول التمسك بالارفف والنجاة من السقوط :
” أوه صدقني سألت هذا السؤال منذ سنوات وحتى الآن لم أصل لإجابة، والآن اترك اسئلتك الوجودية تلك وساعدني ”
نظر سالار صوب تبارك مشيرًا بكفه للعريف مستنكرًا:
” انظري الآن سنكون مضطرين للتعامل مع هذا الرجل بعدما يهبط ويكون مزاجه عكرًا، وكل ذلك بفضلك مولاتي”
” أنا… أنا لم أفعل، هو من سقط دون أن امسه ”
رفع سالار حاجبه يقول بحنق :
” حقًا أتقصدين أن هناك كارثة في محيطك لستِ السبب فيها ؟؟ هناك منافس قوي لكِ إذن ”
التوى ثغر تبارك كارهة لنظراته لها أنها مجرد متسببة في الكوارث، بالله كل ذلك يحدث دون إرادتها، صدف غريبة تدفع المشاكل لاحضانها:
” حسنًا أنت تتجاوز حديثك معي حقًا، انتبه فأنت لا تريد أن تُعدم لحديثك ذاك ”
اقترب سالار يحدث بعيونها الظاهرة من اللثام ساخرًا وبشدة :
” اوه حقًا ومن سيتسبب في اعدامي ؟؟”
نظرت له تبارك بقوة :
” أنا ”
تبادل الإثنان نظرات شرسة جعلت العريف يصرخ من الاعلى بجنون وقد كادت يده تنزلق عن الأرفف، يشعر برغبة عارمة في القتل، حسنًا هو يشعر بتلك الرغبة دائمًا، لكنها الآن اكبر من كل مرة .
” أنتم في الاسفل توقفوا عن هذا الهراء وانقذوني، سأموت بسبب شجاركم ”
وسالار لم ينزع عيونه عن تبارك قائلًا بقوة :
” لا تتفوهي بأحاديث لا قِبل لكِ بتنفيذها، ولا تنطقي بتهديدات لا قوة لكِ لفعلها وهذه نصيحة إضافية لكِ ”
” ومن أخبرك أنني انطق بما لا اقدر ؟؟”
” أنا لن انتظر ليخبرني أحدهم بذلك فأنا أعلم جيدًا بنفسي أي نوع من الأشخاص أنتِ …مولاتي ”
ضحكت تبارك بسخرية لاذعة :
” حقًا بعدما تنتهي من تقريعي واستفزازي تختم حديثك بمولاتي ؟؟ لكم أنت لبق وراقي! ”
ابتسم لها سالار يقدر حقًا قدرتها وشجاعتها على الحديث معه بهذه الثقة دون أن يرف لها جفن، هي تتحرك بخطى سريعة في طريق تعليمها .
صرخ العريف وقد ضعفت يده عن التمسك بالمكتبة يشير لمرجان الذي يراقب ما يحدث بصدمة، لا يستطيع استيعاب كل الامور، والبومة تتحرك فوق رأس العريف تصدر صوتًا مزعجًا جعل الاخير يردد :
” ابتعدي أيتها الحمقاء تتسببين في صداعي، وأنت مرجان احضر السلم بسرعة قبل أن أسقط من هنا واذهب لتحضر الملك ليشهد محاولة اغتيالي على يد الملكة وقائد الجيش”
ركض مرجان يمسك الدرج الخشبي الذي سقط على الارفف المقابلة يحاول تحريكه بحرص ووضعه عند الجزء الذي يتمسك به العريف، لكن ولكبر حجمه وضعف بنية مرجان سقط الدرج مجددًا منه وكاد يحطم جمجمة تبارك لولا يد سالار التي جذبتها بسرعة كبيرة :
” انتبهي ”
صرخت تبارك برعب تراقب الدرج وقد امسكه سالار يحركه صوب العريف ممسكًا إياه، بينما الاخير بدأ يهبط الدرج ببطء وخوف وحينما اصبع على الارض رفع عيونه لهما يصرخ بجنون :
” خارج مكتبتي، أنتم جميعًا للخارج، لا اريد أن أرى كائن حي واحد هنا ”
أشار سالار على مكان جلوسه بهدوء :
” لكن أنا لم انتهي من قراءتي بعد ..”
وكذلك اعترضت تبارك :
” وأنا لم اتعلم ما جئت لأجله ”
لكن العريف لم يسمح لهما بالاعتراض بكلمة إضافية يدفع بهما صوب الخارج بغضب :
” للجحيم، لا اهتم بكل ذلك، لتحترق المملكة بكم أجمعين ايها الحمقى ”
كانت تبارك مصدومة من تصرفات العريف وهي من ظنت أنه رجل مسالم هادئ حكيم بمظهره هذا، لكنه لا يمت لكل خيالاتها بصفة .
استطاع الحكيم دفعها للخارج، وسالار حمل الكتاب يتحرك هو بعدما فشل العريف في دفعه، تبعهم مرجان الذي يحمل عدة كتب وهو يتحدث بملل وحنق :
” والآن أين سأجد هدوءًا للقراءة ؟؟”
تحرك بعيدًا عنهما بحثًا عن مكان للقراءة، وبمجرد أن خرج الجميع سمعوا اصوات غلق الباب العنيفة، شهقت تبارك متراجعة للخلف بصدمة مما حدث، لقد طردها هي وقائد الجيوش منذ ثواني .
فُتح الباب فجأة وخرجت البومة يتبعها صوت العريف :
” وأنتِ أيضًا للخارج ولا تعودي الآن”
اغلق الباب مجددًا ليعلو صوت البومة التي قررت التحليق حتى ينسى العريف ما حدث وتعود، كل ذلك وما تزال تبارك في صدمتها :
” طب …طب اعمل ايه ؟! المفروض أنه يساعدني ”
رفع سالار حاجبه يضع الكتاب الذي يحمله بيدها، ثم تحرك بهدوء شديد ودون كلمة بعيدًا عنها، وهي تراقبه باستنكار شديد :
” أنت معقد نفسيًا على فكرة، مش سليم ”
نظرت أيدها التي تحمل الكتاب لتجد احرف فارسية وكلمات غريبة تعلو غلافه لتتشنج بحنق شديد :
” وده اعمل بيه ايه ده ؟؟ احضر عفريت ؟؟”
زفرت بغضب تتحرك خلفه بسرعة كي تلحق به، ليس لشيء سوى كي يقودها خارج تلك الممرات، على الأقل تصل لجزء تألفه في القصر ومن هناك تكمل وحدها ..
شعر سالار بخطواتها تتبعه ليبتسم ساخرًا، يتمنى فقط أن تتوقف عن تتبعه في كل مكان كالفرخ الصغير خلف والدته، لكن على الأقل هي صامتة، مهلًا هل هي صامتة بالفعل ؟!
استدار سالار برعب خلفه متعجبًا صمت تبارك وعدم ثرثرتها معه كالمعتاد، ليتخيل أنه ربما أصابها مكروهًا ما، وتبارك التي كانت صامتة فقط كي لا يشعر بها تسير خلفه انتفضت للخلف برعب حين استدار فجأة لتتوتر وهي تضم الكتاب لها :
” أنا …أنا هروح للملك و…”
” بالفصحى ”
” سوف اذهب لتفقد ما سأفعل باقي اليوم ”
رفع حاجبه يتنهد بتعب، ثم استدار يكمل طريقه وقد أدرك أن صمتها ناتج من ظنها الغبي أنه لا يشعر بها، وكيف لا يفعل وهي تحك قدمها في الأرض كل ثانية والأخرى، والآن بما أنه اكتشف وجودها فهي ستتحدث خلال ثانية…اثنتان …
” هو الكتاب ده بيتكلم عن ايه ؟؟”
لم يجبها سالار لتتحرك خلفه بأقدام تحاول أن تتدارك خطواته وهو يتجاهل كل ذلك :
” هل يمكنك تعليمي تلك اللغة، وما تلك اللغة من الأساس ؟!”
اجاب بهدوء شديد وهو يتحرك صوب حجرته لتبديل ثيابه :
” الفارسية ”
توترت ترفع عيونها له وهي تشعر بارتجافة تمر في جسدها تسأل سؤالًا تدرك إجابته قبل طرحه :
” أنت بتعرف تتكلم فارسي ؟؟”
” غالبية سكان الممالك الأربعة يستطيعون، فهي لغتنا الأم قبل التعريب، لكننا نتخذ الفصحى لغة رسمية ونهتم بتعليمها في المدارس لأجل سهولة قراءة القرآن الكريم ”
هزت تبارك رأسها وقد شردت فجأة في تلك الأحلام التي لم تزورها منذ جاءت للمملكة إلا مرة واحدة، تنهدت تنظر لذلك الكتاب بين يديها تحاول تهجئة الاحرف عليه، مستغلة تشابهها مع العربية رغم اختلاف نطق البعض منها، لكن وللصدمة وجدت نفسها تكرر الكلمات بمهارة شديدة :
” فتوحات پیامبر “. ( الفتوحات في عهد الرسول )
توقف سالار فجأة في سيره يضيق ما بين عيونه، ثم استدار لها ببطء ليراها احدث في الكتاب بانتباه شديد وتقرأ بعيونها ما خُط عليه .
” كيف استطعتي قراءته ؟!”
” هو ايه ؟؟ اه الكلمات دي ؟! فيهم شبه من العربي ”
” نعم لكن نطقك كان جيدًا أكثر من اللازم ”
قلبت الكتاب بين أناملها تقول بصوت خافت :
” ربما لسماعي تلك اللغة كثيرًا ”
نظر لها سالار ثواني، ثم استدار يكمل طريقه صوب حجرته وهو يفكر في الكثير حول ما يحدث معهم هذه الأيام، وتبارك سارت خلفه بصمت تحاول قراءة الكتاب مندمجة به دون أن تعي أين تذهب هي فقط تسير خلف طيفه حتى فجأة شعرت به يتوقف، رفعت عيونها له تتساءل عن سبب توقفه ليشير هو على باب حجرته :
” هذه غرفتي الخاصة ”
نظرت له ثواني دون فهم قبل أن تنتفض للخلف ترى نفسها تقف على اعتاب حجرته وكأنها ستحطم الباب وتقتحمها، تراجعت بخجل شديد تغلق الكتاب بسرعة :
” أنا فقط …اندمجت في محاولة الـ…حسنًا إذن شكرًا لك و…”
توقفت عن الحديث بتوتر قبل أن تتحرك دون مقدمات راكضة من أمامه وهو يتباعها ببسمة ساخرة يدخل جناحه بهدوء، وهناك بسمة صغيرة تسكن فمه دون شعور ..
______________________
تضم لصدرها حاوية من القش مغطاة بقطعة قماشية بيضاء اللون، وهناك بعض الدخان يخرج منها وهي تسير مبتسمة بسمتها اللطيفة، تتحرك في طريقها بكل هدوء دون أن تتوقف في مكانٍ محدد، تود إيصال ما جاءت لأجله وربما فازت أثناء ذلك بنظرة صغيرة منه، لا تدري ما الذي سيجعل المكتبة جوار المشفى، لكنها فقط تتمسك بأي محاولة صغيرة لرؤيته .
وأثناء طريقها سمعت صوت صرخات متوجعة تأتي من أحد الاتجاهات ركضت بسرعة صوب ذلك الصوت تبحث بعيونها عن صاحبه لتبصر سيدة ساقطة ارضًا وهناك صخرة مدببة تشبه قطعة الزجاج مغروزة في قدمها والجميع حولها يستعجل بوصول الطبيبة الخاصة بالنساء في القصر ..
وضعت لِيلا وعاء الطعام جانبًا تنبطح جوار تلك الفتاة بسرعة، تحاول كتم جروحها بغطاء وجهها الساقط، ضغطت على قدمها بقوة ثم انتزعت الصخرة لتنطلق صرخة الفتاة، وليلا بدأت تضمد جرحها بسرعة :
” تحتاج للتقطيب بسرعة كبيرة، أين الطبيبة هنا ؟؟”
” الطبيبة ذهبت لرؤية مريضة لها، أنا سأتولى الأمر من هنا”
ولم يكن ذلك صوت واحدة من الفتيات المتجمعين حول ليلا، بل كان صوته هو، من جاءت خصيصًا كي تراه ولو صدفة الآن تسمع صوته وتراه قريبًا منها و….يحمل امرأة أخرى ؟!
انتفض جسد ليلا بعيدًا عنه حينما وجدته يحملها ويتحرك بها بسرعة صوب المشفى كي يتحكم بكل تلك الدماء التي نزفتها، مخافة أن تسبب لها تلك الصخرة صدأ قد يؤدي لتأزم الحالة، وليلا مكانها تشعر بالصدمة مما رأت، بالوجع الكبير .
نهضت من مكانها تعدل من فستانها، ثم حملت الطعام الذي أحضرته لشقيقها تفكر أتسير خلفهم أم تنتهي مما جاءت لأجله وترحل ؟! وعقلها رجح الاختيار الثاني، بينما قلبها فضّل الاول لترمي بقرار العقل جانبًا وتسير خلف قلبها تركض بخطوات شبه مهرولة تحاول أن تهدأ فهو طبيب بالفعل وهذا عمله، لا داعي لكل ذلك الحقد ليلا، كفي غباءً.
لكن ومن يستمع ؟؟ لا العقل ولا القلب استوعبوا الأمر، دخلت المشفى بأقدام شبه مهرولة تبحث عنهم، وحينما فشلت مساعيها في الوصول إليه سمعت صوت صراخ عالي ينطلق من أحد الحجرات لتركض لها تقتحمها بقوة وكأنها جاءت للأمساك بهما متلبسين بجريمة نكراء .
انتفض مهيار ونظر صوب الباب بدهشة والسيدة لوهلة توقفت عن الصراخ هي ومن معها من صديقاتها ونظروا لها بعدم فهم، وهي تنحنحت تقول بجدية كبيرة :
” جئت اطمئن عليها، قد لا أستطيع النوم ليلًا بسبب شعوري بالذنب أنني لم اطمئن عليها ”
ابتسم لها مهيار بلطف، ثم بدأ ينظر لوجه المرأة والتي يبدو أن النبات المخدر قد أتى بمفعوله ليشرع في تقطيب الجرح، وهي تركز معه باهتمام شديد .
” لا تقلقي أنسة ليلا هي بخير، الحمدلله لم تكن الصخرة من ذلك النوع الذي يحتوي العديد من الملوثات، طهرت لها الجرح وسيتم تقطيبة ”
نظرت له بحنق طفيف وهي تتحدث بصوت مغتاظ :
” سلمت دكتور أتعبناك معنا ”
رمقها مهيار بتعجب ثواني قبل أن يبتسم لها :
” هذا واجبي آنسة ليلا ”
هزت رأسها تبعد عيونها عنه تقف في منتصف الغرفة بلا سبب لا تفعل شيئًا، هي فقط تعوق عمله وهي تقف كعمود الإنارة هكذا، كادت تتحرك للخارج حينما شعرت بسخافة وقفتها، لكنه فقط قال :
” رجاءً آنسة ليلا اعطني الاعشاب الخافضة للحرارة ”
ابتسمت ليلا بسمة واسعة تترك طعام شقيقها جانبًا، ثم تحركت تساعده وهو ابتسم يأخذ منها ما تعطيه، ومن ثم أخذ يجبرها شيئًا فشيء على مساعدته وذلك لخبرتها الكبيرة في الاعشاب الطبية والعلاج به .
دقائق حتى انتهوا من الأمر، فنهضت السيدة تستند على رفيقاتها وهي تسير بصعوبة على قدمها السليمة، تتحرك خارج العيادة شاكرة مهيار .
ومن ثم تحركت خارج المشفى والتي كانت خاصة بالنساء وجاء بها مهيار لهنا كي لا يخالف قوانين المملكة بأخذها لعيادته هو .
استدار مهيار صوب ليلا التي كانت تراقب الفتاة بخوف أن تستخدم قدمها وتتألم مجددًا، لتستفيق على صوت مهيار الذي أخذ يجمع ادواته وينظف المكان :
” احسنتي ليلا، لكِ مستقبلٌ باهر في العلاج، هل فكرتي يومًا في التخصص في الطب ؟!”
استدارت له ليلا تطيل النظر له، تبتسم له بسمة صغيرة خجلة :
” لا لم افكر في الأمر فأنا تخصصت في علم النباتات لأجل ابي وعمله، لكنني اقرأ بعض الكتب عن الطب ”
” أنتِ حقًا بارعة في كل ما تفعلينه ليلا، محظوظ بكِ والديكِ ”
ابتسمت له بسمة واسعة تشعر بالاطراء الشديد وقد كانت كلماته أكبر مكافأة قد تنالها يومًا من أحد:
” أوه اشكرك سيد مهيار، هكذا يخبرني أبي طوال الوقت، دائمًا ما يقول لي، ليلا يا ابنتي محظوظٌ ذلك الرجل الذي سيظفر بكِ بعد كل شيء ”
توقفت يد مهيار عن العمل، ثم استدار لها يراقب ملامحها وقد كانت تتحدث بعفوية شديد ليبتسم لها بسمة صغيرة :
” نعم ليلا، محظوظ وبشدة ”
توترت ليلا من نظراته تتحرك لحمل ما جاءت به وقد شعرت أن الطعام أصبح باردًا، نظرت له تقول بصوت منخفض :
” إذن أنا سأرحل الآن و… أراك لاحقًا سيدي الطبيب ”
ختمت حديثها تميل برأسها ميلة صغيرة، ثم نظرت له بلطف ورحلت بكل هدوء من المكان تاركة مهيار يتبعها بعيونه وهناك نظرات غريبة تلتمع بها، قبل أن يتنهد ويستدير يكمل ما كان يفعل .
بينما ليلا سارت خارج المشفى بأكملها تبتسم بسمات غريبة تشعر أن قلبها يقفز سعادة، تحركت صوب وجهتها كي تعطي شقيقها الطعام، لكن في طريقها للقصر أبصرت جسدًا يجلس في الحديقة، جسد تعرفه ولو على بعد كيلومترات.
اقتربت من ذلك الجسد ليتبين لها أنه شقيقها العزيز ومن غيره يجلس هذه الجلسة وهو منحني على الكتب، ابتسمت تقترب منه بهدوء شديد تطبع قبلة حنونة على وجنته :
” مرحبًا مرجان، جئتك بالطعام يا أخي…… ”
____________________
كلماتها لا تغادر رأسه، الوجع الذي استشعره في حديثها قتله ببساطة، هو ظالم في أعين احدهم؟؟ هو الذي تعهد منذ وضعوا تاجه أعلى رأسه أنه يومًا لن يُظلم شخص أسفل سماء مملكته، سيحيا فقط ليحقق للجميع عدلًا يستحقونه، سيكون كأجداده ومن سبقوه، لكنه الآن أخفق، هناك من يُكن له كرهًا وحقدًا لأنه ظلمه، لكن من هو يا ترى ؟؟
في تلك اللحظة سمع صوت الحراس يستأذنون دخول سالار لجناحه الخاص، رفع إيفان رأسه صوب باب جناحه يقول بهدوء :
” دعوه يدخل ”
فُتح الباب ليخطو سالار صوب إيفان الذي لغى كامل ما يفكر به وتلاشى كل شيء وهو يطيل النظر بسالار الذي جلس على أحد المقاعد بهدوء يقول :
” مولاي ..”
ابتسم له إيفان بسمة غامضة يقول بصوت خرج مخيفًا كأنه انبثق من قعر الجحيم :
” أرسل لي ملوك الممالك الأخرى رسائل منذ ساعة تقريبًا، الملك بارق أخبرني أن هناك هجوم حدث على مملكته مساء أمس استنزف قوى جيشه الذي يجهزه منذ سنوات وسقط رجال كثيرون، ولذلك هو يعتذر عن المجئ، بينما الملك آزار رفض المجئ ودخول مملكتنا مدعيًا أن مملكته تعاني الآن من ازمات كثيرة تمنعه الالتزام بكلمته في الحرب ”
صمت ينظر لعيون سالار جيدًا :
” اخبرني أن مخازن أسلحته تدمرت البارحة، رفض مساعدتنا بدعوى أنه لن يقحم جيشه بلا أسلحة في كل ذلك ”
اشتدت نظرات إيفان قسوة وهو يشعر بالغضب يشتعل داخل صبره وكلمات ذلك الجندي من يوم الهجوم على سكن الجنود تتكرر في أذنه مرات ومرات وكأن صداها أبى أن يغادر جدران قصره قبل أن يثبت له صحة كل كلمة .
” ومن سيفعل ذلك ؟! الممالك التي تتصارع لأجل مصالحها، ام تلك المملكة التي تصارع الحياة لتحيا ؟؟ أم مملكتكم ستتكفل بالقتال وحدها ؟؟ تصفوننا بالشرذمة والخنازير وأنتم كالاغصان المتناثرة كسركم أسهل من فرقعة إصبع ”
رفع سالار حاجبه ينتظر كلمات إيفان القادمة :
” إذن…”
” إما أن ننحني جانبًا نحن كذلك ونترك لهم مشكى خاصة وقد سقطت وانتهى الأمر، ونسير مطأطئ الرؤوس أو …”
أطال النظر في عيون سالار الذي كان يفكر في تلك اللحظة في كلمات ذلك الرجل الذي بكى وكاد يقبل كفه يترجاه أن يساعدوهم، هل جاء الوقت لينحنوا لمثل هؤلاء القوم ؟!
خرجت كلمات إيفان بوجه جامد واعين تصف الكثير :
” أو نكمل ما بدأناه.”
نظر له سالار ينتظرها صراحة منه، كلمة واحدة ينطقها ملكه ليتحرك، قبل أن ينقلب هو بالجيش ويتحرك دون كلمة منه ويُصنف خائنًا وليحدث ما يحدث .
هل يضع إيفان خلافاته السابقة بينه وبين أرسلان أمامه، ويتناسى أن من يُباد الآن ليسوا شعب صديق قديم تحول لعدو، بل بشر تنطق أفواههم بالله أكبر، اطفال ونساء وشعب كامل يُباد عن بكرة أبيه ؟؟
أم تنتصر نفسه العادلة والتي لم تتخلى يومًا عن محتاج، أن يسير نفس طريق ملك سفيد الاول وينتزع الحق من فم الباطل ؟؟
نطق إيفان بأعين غامضة تحكي أهوالًا قادمة وجسده قد ارتجف غضبًا والسواد احتل كامل أحرف كلماته والخيبة تقطر من فمه مصحوبة بجملة أدركها سالار منذ اللحظة الأولى لهذه الحرب :
” نحن في هذه الحرب وحدنا يا صديقي…..”
_____________________
جملة لا تتكون من مجرد أحرف، بل هي تحتوي حسرة وكسرة وقهر، فما بال شعبٍ أُنتزع منه سلاحه وجردوه من مطالبه والقوا به في ساحة الحرب واخبروهم أن يتولوا أنفسهم ؟؟
أما من معين ؟؟ ألا من حليف ؟؟
والإجابة كانت «نحن في هذه الحرب وحدنا يا صديقي»
يتبع…
ارتفع صوت المآذن في البلاد وتحركَ كلٌ صوب اقرب مسجدٍ له، تدافع الجميع رغبة في الاحتماء من مصائب الحياة ببيت الله، وكأنهم ينتظرون نداء الصلاة كي يفرغوا همومهم، منهم من فقد عزيزٍ ومنهم من على وشك فقدانه بسبب الظروف التي تتعرض لها البلاد في الآونة الأخيرة بعد نكبتهم الكبرى .
استند شيخ عجوز على يد حفيده الشاب وهو يسير به صوب المسجد وقد كانت نبرة الشاب يائسة متوجعة :
” وماذا بعد يا جدي، هل سنعيش المتبقي من عمرنا في هذا الخراب ؟؟ إن لم نمت مما يفعلونه بنا، متنا جوعًا، ما عاد الطعام يكفينا وما بقى لنا من مغيث ”
ربت الشيخ على يده بحنان رغم عيونه الملتمعة بالدموع :
” لنا الله يا عزيزي، لنا الله، هو نعم الوكيل ”
تمتم الشاب بصوت خافت بـ ” ونعم بالله ”
وصل الاثنان صوب المسجد ودخلوا لهم، والعديد من الرجال يهرعون لللحاق بالصلاة، اطفال يركضون في المسجد خلف ذويهم، والجميع يلتجأ ببيت الله .
لكن حتى هذا كان في نظرهم كثيرًا عليهم، حتى لحظات الطمأنينة المؤقتة تلك كانت كثيرة عليهم.
فمع ارتفاع صوت الإمام بالله أكبر، تبعته اصوات صرخات تردد ” اشهد أن لا إله إلا الله “، تناثرت الجثث وتعالت الصرخات وتوحدت الألسنة بذكر الله والنيران أمسكت في أجساد من نجوا من الانفجار .
الأمر تم بسرعة أكبر من استيعاب أحد من الموجودين .
ركض الشيخ بين أجساد المصلين الذين سلموا أرواحهم لربهم وهو يصرخ باسم حفيده، يبكي بضعف وجسده يرتجف من هول الصدمة يشعر أنه على وشك السقوط رغم اعتماده على عكازه، لكن أي عكاز يسند جسده الضعيف بعدما فقد سنده وعكازه في الحياة :
” معتصم، أين أنت يا بني، معتصم يا ولدي ”
لكن لم يصل له رد من معتصم، كل ما سمعه هو صوت بكاء الصغار الذين كان من حسن حظهم أنهم يصلون في مؤخرة المسجد خلف الكبار ليتحرك لهم الشيخ متكئًا على عكازه يدفعهم للخارج بسرعة وخوف :
” للخارج يا صغار، اخرجوا بسرعة، هيا للخارج ”
لكن من بين هؤلاء الصغار، كان هناك صغير شخصت أبصاره بشكل مخيف وهو يأبى التحرك يرى أمام عيونه جسد والده متناثر الأشلاء في أحد أركان المسجد، لكن الشيخ لم يدعه يجبره على الخروج وهو يصرخ به :
” هيا يا بني أخرج من هنا قبل أن تطالك النيران ”
وصوته خرج مغيبًا وكأنه لم يعي بعد أن والده قد سلم روحه لبارئه منذ ثواني :
” لكن ابي …”
” عند الله يا صغيري والدك قد رحمه الله من هذا كله واختاره شهيدًا، هيا للخارج ”
وبالفعل ساعده بعض الرجال في إخراج الصغار والجرحى وقد تحولت المنطقة لخرابة بعدما ألقى بعض المنبوذين قنابل عدة على أماكن عشوائية، قنابل صُنعت لقتل أعداء الله…
لكن لسوء الحظ سقطت في يد أعداء الله، لتكون جحيمًا عليهم جميعًا .
كان جميع سكان المدينة يرمقون بقايا المسجد المتهدم واعينهم تحكي اهوالًا، بعدما كانت المملكة آمنة مطمئنة أضحت بين ليلة وضحاها على شفا جرفٍ من الانهيار .
سمع الشيخ صوت امرأة تركض صوبهم وهي تصرخ بجنون وصوت خلع القلوب من الأفئدة:
” ابنائي، صغاري جميعهم، جميعهم ذهبوا للصلاة ”
امسكتها إحدى النساء تجذبها بعيدًا وقد اجتمع الجميع حولها لمواساتها، وكلٌ له مصابه، لم ينجو قلبٌ مما حدث في المسجد والمنطقة، نفذ بافل تهديده وجعل في كل منزل شهيد وفي كل قلب جرحٌ….
كان الصغار الذين أخرجهم الشيخ يراقبون ما يحدث من بعيد وعيونهم تحكي الكثير، رأوا من المصير ما لا يستوعب عقلهم الصغير في هذا الوقت، نضجوا قبل آوانهم، اصوات الصرخات والتكبير حولهم تسببت في انتفاضة أجسادهم .
اقترب أحد الرجال من الشيخ والذي كان بمثابة كبير للمنطقة :
” ما العمل الآن يا عم، ماذا سنفعل لهم ؟؟ ”
طالت نظرات الشيخ للمسجد وهو يرى البعض ينادي قريبه، والبعض يبكي على اطلاله، والبعض الآخر يجلس جانبًا يضع رأسه بين يديه مقهورًا .
” هم لا خوف عليهم يا بني، الخوف ليس على الموتى الآن وقد ارتقوا جوار ربهم شهداء ”
نظر حوله للجميع يتحدث بصوت مثقل ونبرة بكاء :
” الخوف كل الخوف على من نجى وكُتب له العيش أيام إضافية في هذه الحياة ”
صمت ثم نظر حوله يحاول التفكير في شيء ما والتعب بلغ منه مبلغه :
” اليوم سأتحرك مع بعض الرجال صوب سفيد، سأتحدث للملك إيفان وليقدم الله الخير ”
ختم حديثه يتحرك محني الظهر صوب الأنقاض يبحث عنه بعيونه يكاد يسقط ارضًا، وقد سلبوا منه عكازه الوحيد، حفيده العزيز وآخر من تبقى له في هذه الحياة يستند عليه، سقطت دموعه وهو يفكر أن الكفن الذي اشتراه لنفسه، هو ما سيضع به حفيده.
كان يخطط لأن ينثر هو الرمال على جسده، لتنقلب الأقدار ويكون هو من يفعل ذلك، فقط في حالة إن وجد أشلاء حفيده .
تمتم بصوت موجوع من بين دموعه :
” لله الامر من قبل ومن بعد، الله خير حافظ، الله خير حافظ ”
________________________
تمسك كتابًا احضرته بصعوبة من المكتبة _بعدما طردها العريف _ وذلك بمساعدة من مرجان الذي تقبل بصدر رحب أن يتلقى التقريع ويخاطر باقتحام كهف العريف وإحضار كتاب بالعربية يتحدث عن حياة الاميرات .
وها هي الآن تحاول دراسة كافة تصرفات الملكة في هذا المكان .
” لبقة… هادئة …عاقلة …حكيمة …رقيقة..راقية ”
كلها صفات تتوفر وبكثرة في تبارك التي نفخت باستهزاء وكأن كل ذلك أمر سهل لها، قلبت الصفحات وهي تضع طرف اصبعها على لسانها كي تسطيع ذلك في حركة قد تؤدي لانتحار العريف إن رآها .
” كل ده أمره سهل، ايه تاني ؟! ”
أخذت عيونها تمر على الاحرف عاقدة العزم على أن تندمج في تلك الحياة البائسة التي أُلقيت هي بها، فإن لم تستطع العودة فلتحيا كما قُدر لها .
” على الأمير أن ترفع أطراف فستانها بكل لباقة وتنحني نصف انحناءة حين تقابل الملك أو أي شخص كنوع من أنواع الرقي، كما عليها التحدث بصوت لطيف ورقيق وأن تسبل اهدابها بلطف ولا تكيل النظر في أعين محدثيها، فهذه تعتبر وقاحة”
التوى ثغر تبارك بحنق من كل تلك الكلمات :
” اتسهوك يعني ولا ايه ؟؟ على العموم المصريات ملكات بالفطرة، مش محتاجين كتب عشان تعلمنا الامور دي ”
ولأجل تلك الكلمات ألقت تبارك الكتاب على الفراش تتحرك لتبديل ثيابها ومغادرة المكان بعدما أتقنت دورها مملكة في عشر دقائق .
ارتدت فستان ذو طبقات عديدة خانقة طويل تحدق لنفسها في المرآة وهي تتحدث بصوت منخفض :
” الفستان ده عايز يروح لخياطة شاطرة تاخده تلات أو أربع قراريط من تحت ”
انتهت من حديثها تعدل من وضعية الحجاب تخفي أسفله خصلاتها المزعجة التي يبدو أنها تعترض على حياة الملوك وتستنكر الزيوت الغالية التي أضحت تغتسل بها .
ابتسمت لهيئتها في المرآة وقد كان فستانها من لون السماء بورود بيضاء منتشرة في أماكن عشوائية وحجاب من اللون ذاته، أعطت تبارك نفسها تقييم عشرة من عشرة على إطلالتها، ثم تحركت لموعد الملك الذي ابلغها به أحد الحراس .
خرجت من الجناح تمسك أطراف الفستان وقد بدأت رحلة المتاهة كالعادة، تسير وهي تنظر في الأرض تتحدث مع نفسها حتى استوقفت إحدى العاملات تقول :
” بقولك الله يكرمك اروح قاعة العرش منين ؟!”
توقفت الفتاة ترمق تبارك من خلف غطاء وجهها بنظرات لم ترها تبارك، وتبارك فقط تنتظر ردها حتى انتفضت فجأة تستوعب أنها للتو تحدثت معها بعشوائية وبالعامية :
” اممم اقصد كيف أصل لقاعة العرش رجاءً ”
ابتسمت الفتاة بهدوء واحترام، ثم أخبرتها بالمكان مشيرة صوبه، لتشكرها تبارك وتتحرك وهي تحمل طرف الفستان على ذراعها بشكل مضحك حتى وصلت أخيرًا لقاعة العرش لتترك طرف الفستان وتعتدل في وقفتها .
تحركت داخل البلاط الملكي تبصر اعتلاء الملك لعرشه معه سالار وبعض الجنود يتحدثون بجدية كبيرة وكأن هناك حرب وشيكة .
شعرت أنها مجددًا جاءت في وقت غير ملائم، رغم أن الملك هو من ارسل لها، لكن نظرات سالار لها تخبرها أنها فعلت شيئًا خاطئًا، وهي حتى لم تفتح فمها بكلمة، أيعقل أنها تنفست كفتاة عادية وليست كملكة ؟؟
وضعت تبارك يدها أمام فمها وأخذت تحاول معرفة كيف تتنفس، ثم نظرت له بعيونها وكأنها تخبره بريبة ماذا فعلت أنا ؟!
قبل أن تنتفض على صوت إيفان يقول ببسمة :
” مرحبًا مولاتي ”
رفعت عيونها له تبتسم بسمة صغيرة متوترة لا تدري ما التالي، هل تفعل كما تفعل اميرات ” ديزني ” في العادة ؟؟ مهلًا هل هي الآن تتعلم التصرفات الملكية من افلام الكرتون ؟!
ابتسم إيفان يرى ملامح الحيرة تعلو وجهها ليقول بهدوء يرفع عنها أي حرج أو توتر :
” تقدمي جلالتك ”
نظرت تبارك للجميع قبل أن تتثبت عيونها على سالار الذي كان يركز في بعض الأوراق أمامه، لتحمد الله أنه لا ينظر إليها فهي لا ينقصها توتر كي يفعل هو بنظراته .
ابتلعت ريقها تتحرك بحرية كبيرة ومشية عادية، لكنها بالطبع كانت ابعد ما يكون عن سير الملكات، تتحرك بقوة وسرعة أدت لتحرك فستانها الواسع والطويل في أنحاء القاعة بشكل عشوائي .
وحين وصلت للعرش الخاص بإيفان وقبل أن تجلس تذكرت تعليمات الكتاب بخصوص رفع أطراف الفستان بلطف، ثم انحناءة بسيطة وبعدها كلمات خافتة وتسبيل اهداب، تعليمات ذكرت بها تبارك نفسها .
وهي تتمسك باطراف فستانها الواسع ترفعه بقوة مبالغ بها، إذ اصطدمت أطرافه بالاوراق التي يحملها سالار لتصيب عيونه بقوة سالبة من فمه تأوهًا مصدومًا أكثر منه متوجعًا .
رفع عيونه بصدمة صوب تبارك التي لم تنتبه لما فعلت منذ ثواني والتي انحنت كما يقول الكتاب، ثم نظرت ارضًا بهدوء تقول بصوت خافت :
” اشكرك مولاي ”
تشنج وجه سالار وهو يضع يده على عينه اليمنى التي كادت تذهب ضحية الملكة منذ ثواني، يميل برأسه ينظر لها بعدم فهم، بينما إيفان لم يستوعب ما حدث، نظر بريبة صوب سالار ليراه متشنجًا بشكل جعله ينفجر ضحكًا على ملامحه لا على أفعال تبارك التي لم تخطأ في الحقيقة بل حظها هو من أخطأ.
استقامت تبارك بتعجب تتساءل عن سبب ضحكات الملك الذي صرف الجميع بإشارة من يده يحاول التماسك :
” اعذريني مولاتي لوقاحتي، فقط تذكرت أمرًا ما، رجاءً استريحي”
ابتسمت له تبارك تتحرك بتوتر صوب العرش ترفع أطراف الفستان ليس لأجل كلمات الكتاب، بل لأنها تخشى السقوط بسببه .
وبمجرد أن جلست خرجت زفرة عالية من فمها بالتزامن مع خروج زفرة أخرى من سالار والذي لم يصدق أنها جلست قبل التسبب في المزيد من الكوارث .
نظرت له تبارك بعدم فهم، لكنه لم يهتم بأي شيء، بل استقام يقول بهدوء شديد وهو ينظر للملك باحترام :
” مولاي اسمح لي بالذهاب لتفقد الجيش وسأخبرك بكل شيء حينما انتهي من فحصه ”
هز إيفان رأسه يسمح له بالرحيل، ثم استدار لتبارك التي كانت تراقب رحيل سالار، لتسمع صوت إيفان يردد بهدوء :
” أتمنى أن تكون إقامتك معنا مريحة ”
” أوه نعم مولاي، جيدة جدًا اشكرك ”
ابتسم لها بلطف يتساءل :
” إذن ما نتائج دروسك الاولى مع دانيار والعريف ”
” اعتقد أنني ابلي بلاءً حسنًا في السهام، لكن ذلك العريف لا استطيع إعطاء حكم على درسه الذي لم اتلقاه إذ طردني من المكتبة قبل البدء ”
ختمت حديثها بحنق شديد لما تعرضت له، فانفجر إيفان بالضحك على كلماتها :
” حسنًا هذا متوقع لا تقلقي ”
” هل من الطبيعي أن يطردني العريف من المكتبة وانا لم افعل له شيئًا ؟؟”
صمت إيفان يهز رأسه بجدية متنحنحًا :
” حسنًا أنا الملك ولطالما طردني من مكتبته كذلك، لا أحد أعلى من أن يُطرد من مكتبة العريف، جميعنا سبق وطُردنا منها مرة أو اثنتين ”
صُدمت تبارك من حديثه :
” هل مكانته أكبر منك هنا ؟؟”
” لا بل عمره أكبر مني، وأنا تعلمت ألا أقلل ممن هو أكبر مني في العمر، والعريف كذلك، لذلك احترمه أنا وجميع سكان القصر ”
باستثناء تهديدي له بالقتل مئات المرات، وتحطيم سالار لمكتبته، وشجاره مع تميم ودانيار، فنعم الجميع هنا يحترم العريف ولا يقللون منه البتة .
كبت إيفان تلك الكلمات داخل صدره، قبل أن يقول بهدوء :
” إذن جاهزة لدروسي ؟؟”
نظرت له بفضول لينهض عن عرشه يشير لها أن تهبط هي كذلك، متحركين صوب الخارج يقول بجدية كبيرة :
” سوف آخذك في جولة داخل القصر لتفقد شؤنه واعرفك على كل ما به ”
ابتسمت له تبارك بسمة واسعة ردها هو ببسمة أخرى يدعوها للتحرك معه، وبالفعل سارت معه تبارك تستمع لحديثه بانتباه شديد وقد استمتعت كثيرًا لنبرة الحب التي تنبثق من بين كلماته حين الحديث عن بلاده، وأدركت أنه ملك ذكي، بل في غاية الذكاء .
توقفت تبارك تتساءل بتعجب حين وصل بهم الحديث لنقطة ما مجهولة لها :
” المنبوذون ؟؟ من هم المنبوذون، سمعت عنهم الكثير منذ جئت ”
نظر لها إيفان ثواني قبل أن يشرد أمامه يقول بهدوء محاولًا قدر الإمكان تبسيط كل شيء لها :
” حسنًا هم جماعة من الأشخاص الذين نبذتهم الممالك سابقًا، أو هربوا من أحكام حاسمة كالاعدام أو ما شابه، شكلوا معًا جماعة سُميت بالمنبوذين لا هوية لهم ولا دين ولا وطن كذلك، تجمعوا من أماكن متفرقة لتأسيس مملكة مزعومة لهم وقد عملوا قطاع طرق في بداية ظهورهم، قدنا حملات تطهير عليهم لكنهم يزدادون بمعدلات خطيرة”
صمت ينظر لها وهو يتحرك لتسير خلفه باهتمام شديد منصته لكل كلمة تخرج منه :
” سبق وأن خطفوا العديد من النساء وإجبارهن على الزواج منهم لأجل استمرار سلالتهم، واستمروا سنوات طويلة يحاولون بناء وطن مزعوم، حتى حدث لهم ما تمنوا واحتلوا مملكة مشكى، مملكة من أقوى الممالك أخذوها وقتلوا العائلة الحاكمة بها وقاموا بمذابح في حق جيشها الخاص وشعبها، واغتصبوا النساء ودمروا المملكة بأكملها والآن يسعون لاحتلال باقي الممالك لتوسيع رقعتهم وصناعة وطن لهم بعدما نبذهم الجميع ”
انتهى من حديثها لينتبه أن جسد تبارك تصنم وقد شعرت أن هذه القصة مألوفة، مألوفة وبشدة لها، كافة التفاصيل وكأن ما يحدث هنا هو مجرد عالم موازي لما يحدث في عالمها .
سقطت دموعها تقول بصوت خافت دون شعور :
” أوه، أشعر أنني سمعت مثل هذه القصة سابقًا ”
نظرت للملك تقول ببسمة موجوعة :
” دعني أخمن، هناك من ساعدهم لاحتلال مشكى، ومدهم بالأسلحة والذخيرة لأجل فعل كل هذا ؟؟”
نظر لها إيفان بفضول يقترب منها بعض الخطوات :
” وكيف استنتجتي هذا ؟!”
رفعت يدها تشرح له ما سيحدث وكأنه ترى المستقبل والمرارة تصاحب حروفها :
” هذا سهل استنتاجه، فما تخبرني به ليس غريبًا على مسامعي، الآن ستتحول مشكى لمقبرة جماعية، ومجرد منازل مهدمة، سيتشرد الاطفال وتُغتصب النساء، ويستشهد الرجال، وتتحطم المنازل، وتدفن الاحلام أسفل ركامها ”
شعر إيفان بوجع كبير يسكن صوتها، لا يعقل أنها تعاطفت بهذا الشكل مع مشكى لدرجة أن تتحدث بهذه النبرة المقهورة .
بينما تبارك تنفست بصوت مرتفع ساخرة :
” اكيد فيه امريكا تانية هنا، هي اللي بتساعد الصهاينة بالسلاح، ما هو جماعة زي دول عمرهم ما يقدروا يعملوا وطن من لا شيء ؟؟”
ورغم تحدثها بالعامية أمامه إلا أنه فهم كل شيء قالته عدا تلك الكلمات الغريبة :
” ما معنى ( امريكا )؟!”
ابتسمت تقول وهي تحرك كتفها ببساطة :
” هذا لقب نطلقه نحن على حاويات القمامة في عالمنا ”
” والصهاينة ؟!”
” هذه القمامة نفسها ”
هز رأسه ليقول بهدوء شديد رغم عدم اقتناعه من تلك الإجابة بشكل تام :
” حسنًا ردًا على سؤالك السابق مولاتي، فنعم أصبتي هناك مملكة تدعمهم بالأسلحة وكل شيء ”
” ولا بد أن هذه المملكة هي أولى الممالك التي تصرخ وتنادي بالحقوق والحرية لهم ؟! دولة قوية لها جيش قوي، قادرة على إمدادهم بأسلحة بشكل مستمر ؟؟”
ابتسم إيفان بسمة غامضة وشعر كما لو أنه يتحدث مع سالار، نفس التفكير ونفس الكلمات .
” نعم احسنتِ، هي كذلك ”
” إذن نهاية المنبوذين لن تبدأ إلا حين تضع بنفسك نهاية لتلك المملكة ”
مازحها إيفان وبين طيات حديثه ظهر تقديره واعجابه بطريقتها :
” بالضبط، أنتِ صاحبة عقلية حربية ممتازة ملكة تبارك، أرى أنكِ تمتلكين خبرة كبيرة في الحروب، ربما تشاركين في وضع مخططات حروب مع سالار في المستقبل”
ابتسمت تبارك بسمة مقهورة :
” نعم أصبت، أنا امتلك خبرة كبيرة في الحروب، فمتابعتك لحروب امتدت لعقود كفيلة بجعلك خبير حروب ”
ختمت حديثها تمسح وجهها وهي تشعر بقلبها يرتجف، تريد الخروج من تلك النقطة، وهي تنظر بإيفان مبتسمة :
” إذن مولاي لم تخبرني عن قوانين القصر هنا، هل هناك ما يجب تلاشيه ؟؟”
” باستثناء سالار والرجال عامة والأمور المحرمة، فلا، تصرفي براحتك مولاتي ”
نعم سالار بالطبع، ذلك الرجل الغريب المريب الذي منذ رأته وهي تشعر أنه يتحول كل ثانية لشخصية غير التي سبقتها، ربما عليها بالفعل أن تتلاشاه.
استفاقت على صوت إيفان يدعوها لتتبعه :
” هيا سأريكِ الحدائق الخلفية أثق أنكِ ستحبينها ”
ابتسمت تبارك تتحرك خلفه بسعادة وهي تنظر له بإعجاب شديد، شخص هادئ لبق وسيم به صفات غير متوافرة في عالمها إلا نادرًا، وهي من كانت معجبة بعلي فقط لأنه وسيم، بالله أين علي من إيفان ورجال مملكته ؟؟
_____________________
يسيرن بين الممرات بعدما هربت زمرد من عملها بلا اهتمام، ونفرت كهرمان من كل شيء، وفرت برلنت من المعمل وتميم .
كانت الثلاث فتيات بملامح مقتضبة، كلٌ يبكي على ليلاه، كهرمان تفكر في حديثها مع الملك، لا تدري أقست عليه أم بالغت في حديثها لا تزال تتذكر ملامحه المصدومة من كلماتها وكأنها أخبرته بحدوث معجزة صعبة التصديق .
وزمرد تفكر في المبارزة التي ستخوضها مقابل دانيار وإن كانت تسرعت أم لا، هي فقط تود استعادة سيف والدتها الغالي، وإن كان القتال هو الحل الوحيد، فليكن إذن.
أما برلنت فهي تسير وصوت صراخ تميم بها يتردد في أذنها، اخطأت ورأت به تميم القديم، وهو صرخ في وجهها بأن تخرج، ترى ما القادم في هذه الحكاية المعقدة ؟!
فجأة توقف الجميع بسبب توقف كهرمان المفاجئ حين تعلقت أنظارها بنقطة معينة، تحركت أعين الجميع صوب تلك النقطة ليبصرن الملك يسير مع فتاة بملامح رقيقة هادئة .
قالت برلنت متسائلة:
” هل هذه هي الملكة ؟؟ لا تبدو لي فاسدة ”
نظرت لها زمرد بتشنج تضرب رأسها حانقة :
” تالله أن عقلك هو الفاسد، كونها من عالم المفسدين لا يعني أنها فاسدة ”
نظرت لها برلنت بغيظ شديد وهي تقول معترضة :
” معاشرتك لقوم فترة طويلة قد تؤثر على قلبك وتجعلك مثلهم ”
رفعت زمرد حاجبها تتحرك يدها صوب خنجرها بسرعة كبيرة لتتراجع برلنت مبتسمة وهي تقول تحاول تلاشيها :
” هييه لِمَ الغضب عزيزتي ؟؟ هل هي شقيقتك وأنا لا أعلم ؟!”
ودت زمرد أن تخبرها لا، بل لأنها ضغطت دون شعور على جرح داخلها ورعب يتملك صدرها، تخشى أن تكون منهم، مثلهم دون شعور منها، أن تكون واحدة من المنبوذين .
أبعدت برلنت عيونها عن زمرد وهي تحدق بتبارك وكأنها تفحصها لترى إن كانت تليق بمكانة الملكة هنا :
” حسنًا هي تبدو جميلة وطيبة، ما رأيك كهرمان هل تليق لتكون ملكة باعتبارك أميرة ؟؟”
لكن كهرمان كانت في عالم اخر وهي تحدق في ملامح إيفان، تطيل النظر به تتذكر افتتانها الأول بقتاله في أول لقاء لها به حين مبارزته دانيار ذلك اليوم، ولم تعي أن برلنت طرحت سؤالًا تنتظر إجابة له .
وكانت الإجابة من زمرد التي نغزت كتف برلنت بحنق :
” أيتها الحمقاء لِمَ لا تذهبين وتخبري الجميع أنها أميرة مشكى الهاربة ؟؟”
تأوهت برلنت بحنق شديد وهي تترفع عن التحدث لزمرد، ثم نظرت لكهرمان التي كانت شاردة في نقطة بعيدة عن الجميع :
” هييه كهرمان، ما بكِ يا فتاة ؟؟ ”
صمتت ثواني تنظر حيث الملك قبل أن تشهق بصوت مرتفع وهي تقول بهمس شديد جعل جسد كهرمان ينتفض :
” لا تخبريني أنك معجبة بالملك ؟!”
استدارت لها كهرمان بصدمة رافضة ذلك الحديث من جذوره :
” ماذا ؟! هل تمزحين معي ؟؟ مستحيل أنا فقط …فقط أشفق على تلك المسكينة التي ستتزوجه لهذا الملك ”
التوى ثغر برلنت بحنق ويبدو أن تلك الكلمات لم تعجبها :
” ماذا تقولين أنتِ، بل محظوظة هي لتنال الملك إيفان، يا فتاة الرجل لا عيب به تبارك الرحمن، ما كامل إلا وجهه سبحانه وتعالى، لكن الرجل لا يشكو شيئًا ”
نظرت لها كهرمان بشر يلتمع في حدقتيها لتتراجع برلنت للخلف :
” ما بكِ، أنا أقول الحقيقة، حسنًا حسنًا هو سييء فقط اهدأي ”
تنفست كهرمان بحنق وهي ترفع عيونها لزمرد التي كانت تنظر لها ببسمة خبيثة جانبية جعلتها تشهق :
” إياكِ زمرد ”
” وماذا قلت أنا بالله عليكِ أنتِ …”
وقبل أن تكمل زمرد كلماتها سمعت جميع الفتيات صوت امرأة تصيح بصوت مرتفع وهي تشير عليهن :
” ها هي ذا سيدتي ”
ضمت برلنت شفتيها تنظر بصدمة لكهرمان، تحاول استيعاب سرعة ما حدث :
” يا ويلي هل سمعوكِ ؟؟ اهربي كهرمان ”
تحفز جسد زمرد وهي تقف أمام كهرمان بريبة خائفة أن يكون أحد اكتشف شيء ما عنها أو عن كهرمان أو افعالهما، كان وجيب قلبها يهدر بقوة ويدها تتحسس الخنجر في انتظار اقتراب النساء منهما، وبرلنت تنظر لهما بشفقة كبيرة .
لكن ما حدث كان أن النساء أمسكت وللصدمة ببرلنت التي اتسعت عيونها بصدمة تقول :
” ماذا ؟؟ ما هذا ؟!”
علت البلاهة نظرات زمرد وكهرمان، وبرلنت لا تفهم ما يحدث :
” ماذا تفعلون، ابعدوا ايديكم عني..ياا، ما هذا ؟؟”
وقبل أن تعترض وجدت فتاة تظهر من خلف النساء تجاور مشرفة العاملات وهي تشير صوب برلنت وهناك نظرات تشفي تعلو وجهها :
” ها هي سيدتي، هذه هي الخادمة التي رأيتها تخرج من معمل صانع الأسلحة ركضًا، لا بد أنها هي من سرقت خاتمه”
اتسعت أعين زمرد وهي تنظر لبرلنت وكهرمان شعرت بالصدمة كبيرة، بينما برلنت فغرت قاهها ببلاهة :
” ماذا ؟! أي سرقة تلك وأي خاتم هذا الذي سآخذه من ذلك صانع الأسلحة ؟! بالله ما وطئت يومًا معمله وخرجت بخير، هل تعتقدون أنني امتلك الرفاهية داخلة لاسرق”
تحدثت المشرفة بهدوء شديد وهي تنظر لها تقول بصوت عميق :
” سنقوم بتفتيش أغراضك وإذا ثبتت التهمة سينفذ بكِ الحكم بعد قرار الملك، والآن ألحقن بي صوب حجرتها ”
اتسعت أعين برلنت تنظر للفتاة التي وشت بها والتي كانت نفسها من تشاجرت معها، وقد كانت ترمقها بتشفي وسعادة كبيرة، سحبتها النساء صوب حجرتها، لكنها وحين مرت بالفتاة توقفت وضربتها بقدمها مسقطة إياها ارضًا :
” سأعود يا حقيرة ”
صرخت الفتاة تسقط ارضًا وهي ترى الجميع يسحب برلنت خلفهم لتتأوه، ولم تكد تصرخ وتعترض على ما فعلته حتى شعرت بجسدها يرفع بقوة، نظرت برعب صوب زمرد التي همست لها :
” ما الذي فعلتيه يا ابنتي ؟؟ ألم تتعلمي أن الكذب حباله قصيرة ؟؟”
نظرت لها الفتاة تحاول ابعاد قبضة زمرد عن ثيابها لتقول زمرد بتحذير :
” إن علمت أن لكِ يد في هذه المكيدة، سأقوم بلف حبال الكذب حول رقبتك واخنقك، وأنا أعني ذلك …حرفيًا ”
تركتها لتسقط ارضًا، بينما كهرمان حدقت فيها بنظرات غامضة، ثم منحتها بسمة مخيفة :
” سأجدك إن حدث شيء لرفيقتي، والآن اعذريني ”
ختمت حديثها تسير خلف النساء بكل هدوء وهي تفكر في المصائب التي تُلقى على رؤوس الجميع .
_______________________
” تميم إن لم تتوقف عن الدوران بهذا الشكل سأنهض وأحشر سهامي في فمك ”
كانت تلك الكلمات الغاضبة صادرة من فم دانيار الذي ملّ حركات تميم في المعمل بهذا الشكل مزعج، وسالار يراقب ما يحدث بهدوء شديد وهو مضجع على مقعده براحة شديدة .
توقف تميم عن الدوران يصرخ ضاربًا الطاولة أمام الاثنين بحنق، ليغمض سالار عيونه بحنق :
” هل تمزح معي ؟! هذا الخاتم يعني لي الكثير و…”
نفخ دانيار مقاطعًا إياه:
” نعم نعم وهو آخر ذكرى لك من بيرلي …”
أشار له تميم بإصبعه محذرًا :
” برلنت بالنسبة لك، أو آنسة برلنت ”
رمقه دانيار بحنق شديد ليبتسم سالار مما يرى ويسمع :
” جيد أن هناك حبًا في قلبك ينافس الأسلحة ”
نظر له تميم وكبت بصعوبة كلماته التي كان سيخرجها بكامل عفويته ويخبر قائده أنها هي أيضًا سلاح، بل السلاح الأخطر والذي استطاع هزيمته، لكنه كبت كل ذلك وهو يقول مشيرًا بإصبعه في وجوه الاثنين :
” سأنتظر حتى تسقطا أنتما الإثنان في العشق وتأتيان لي تبكيان من مرارته ”
رفع سالار عيونه لتميم وقد التوى ثغره بسخرية ضاربًا إصبعه:
” أحلم كما شئت ”
” ستفعل يا قائد، فإن كان كامل جسدك من الصخر فقلبك ليس كذلك، وهذا الذي يجلس جانبك ويتبجح أنني أبالغك، يضم كل ليلة سيف تلك الفتاة بين أحضانه مخافة أن يتبخر ”
انتفض دانيار في جلسته بعدما كان متكئًا براحة على المقعد، ينظر لتميم بحنق شديد واعتراض على كل ما قال يرى نظرات سالار قد انتبهت له باهتمام شديد يتساءل بفضول عما يعنيه تميم .
لكن دانيار سارع للدفاع عن نفسه :
” أيها الكاذب، ما أدراك أنت والسيف ها ؟! هذا جزائي لأنني أخبرت واشيًا مثلك ”
استدار صوب سالار يقول بتبرير وسالار يستمع ببسمة خبيثة :
” لا تسمع له يا قائد هو احمق كاذب، كل ما في الأمر أنني أخشى سرقته للسيف ”
لكن تميم لم يتركه قبل أن ينال منه بالكامل، بل سارع بسحب المقعد المجاور لسالار من الجهة الأخرى يجلس عليه بلهفة يقص عليه بتشفي :
” بلى يا قائد هو الكاذب، انظر إليه بالله عليك نظرات الحب واضحة في عيونه ”
وضع دانيار يده أعلى عيونه بصدمة متسائلًا أي حب هذا بالله ما شعر ولو بدقة قلب تنبئه بالأمر.
” أنت توقف، هو يكذب يا قائد، بل هو العاشق الغبي الذي يندب حياته ومصيره منذ سنوات حينما نبذته بيرلي تلك الصغيرة، اقسم أن ما فعلته بتركك كان أكثر أفعالها الحمقاء حكمة، فمن تلك التي تتحمل العيش معك مدى الحياة ؟؟”
” بل السؤال هو، من تلك التي قد تتحملك أنت مدى الحياة”
ابتسم سالار يقول بهدوء وبرود شديد وهو يبعد وجه الاثنين بعضهما البعض قائلًا بجدية :
” بل السؤال هو بالله كيف اتحملكما أنا كل تلك الحياة ؟!”
ابتعد الاثنان عنه وقد شعرا بالحنق من بعضهما البعض وسالار زفر بحنق :
” يااه جئتكم لنتناقش في حروبنا، فتحولت الجلسة للندب والتحسر على الفتاة التي ستقع في حبكما ؟؟ اقسم أنني اشفق على نفسي لأنني اتحملكما، هيا انهضا من أمامي ”
انتفض الاثنان بسرعة يؤديان التحية له بعد صرخته الأخيرة :
” أوامرك يا قائد ”
نهض سالار يتنفس بصوت مرتفع ثم نظر لهما جيدًا وما كاد يتحدث حتى سمع صوت أحد الحراس يستأذن للدخول وهو يقول بجدية :
” سيدي لقد ارسلت المشرفة لك تخبرك أنها عثرت على الخاتم والسارقة، وسيدي القائد أرسل لك الملك يبلغك أن الملكة في انتظارك لأجل التدريب داخل الساحة”
ابتسم دانيار ينظر لهما وهو يتمطأ براحة :
” إذن بما أن لا شيء أفعله هنا، فسوف اذهب للراحة حتى يحتاج لي أحد و…”
أوقفه سالار يقول بهدوء شديد واستفزاز شديد لنظراته المتشفية تلك :
” إذهب وتفقد الجيش دانيار ”
” لكن سيدي أنا بالفعل تـ ”
قاطعه بأمر شديد اللهجة :
” تفقده مرة أخرى ”
ختم حديثه يبتسم له باستفزاز، ثم تحرك خارج معمل تميم الذي هرول بسرعة ليحضر خاتمه تاركين دانيار يكاد يتميز من الغيظ ..
” الله يرحيني من كل هذا، ماذا كان سيحدث لو أنني أطعت والدي رحمة الله عليه وعملت برعاية الأغنام ؟؟”
________________________
تقف في ساحة التدريب بعدما تم افراغها لأجلها خصيصًا، تنظر حولها بتوتر شديد، ياالله مالها ومال القتال والحروب وتلك الأمور التي لم تسمع عنها سوى في الافلام التاريخية قديمًا .
ابتلعت ريقها ترى من سيدربها يخطو للمكان، ولحظها السييء كان نفسه العزيز الذي يفضل رؤية موته يسير على قدمين ويتمختر أمامه، ولا يراها هي .
تحرك سالار داخل المكان بملامح جامدة قوية لا يظهر عليها أي شيء، حانق نقم مما يحدث، تقدم ليراها تقف وترمقه برعب وكأنه وحش سينقض عليها، وهذا ما كان يفكر فيه بالفعل .
ابتسم بسمة جانبية لم تزد الأمور إلا سوءًا، يتحرك صوب حاملة السيوف، ينتزع واحدًا، ثم تقدم من منتصف الساحة يشير بعيونه صوب السيوف في إشارة واضحة منه لها أن تتحرك وتحمل خاصتها.
لكنها فقط نظرت له بعدم فهم، ثم نظرت صوب ما يشير وقالت بغباء :
” ماذا ؟؟”
ابتسم بسمة حسرة على ما وصل له، يضم قبضته لفمه، ثم قال ساخرًا :
” ماذا برأيك ؟؟ اذهبي واحضري سيفك ”
انتفضت تبارك على صوته، لتركض بسرعة كبيرة صوب حاملة السيوف، تتجنب غضبه المشتعل، ما بال هذا الرجل كل شيء به مشتعل، خصلات شعره ولحيته ومزاجيته ؟
توقفت أمام حاملة السيوف تقول بصوت حانق غاضب وتمتمات لا تتوقف تسخر منه :
” اذهبي واحضري سيفك …الله يلعن دي عـ ”
فجأة أطلقت صرخة عالية تزامنت مع سماعها لصوته الغاضب الصارخ وقد نسي أنه لا يدرب جنديًا صلبًا كالصخر، بل هو أمام فتاة رخوة كالحلزون من الداخل :
” توقفي عن اللعن، واحضري سيفك ”
نظرت له تبارك بشر كبير وقد بدأ صدرها يزدحم بالعديد من المشاعر السلبية تود لو تنقض عليه، تكبت دموع كادت تخرج منها صارخة في وجهه بالمقابل :
” لا تصرخ بي هكذا أنا الملكة هنا ”
حسنًا يحق لها استغلال مميزات منصبها، إن كان ذلك الرجل لا يتحدث إلا بلغة المقامات والمناصب..
منحها سالار بسمة غريبة ونظرة مريبة وهو يميل برأسه قليلًا، يقول بصوت خافت ملئ بالاحترام، وربما السخرية :
” معذرة لمولاتي، رجاءً سموك احملي سيفك وشرفيني بالتحرك لمنتصف الساحة ”
هزت تبارك رأسها تتجاهل الصوت في داخلها والذي يخبرها حانقًا أنه يسخر منها، مدت يدها تحاول سحب السيف وهي تقول :
” هذا افضل و…”
توقفت حينما شعرت بالسيف عالق، مدت كفيها الاثنين تحاول سحبه بكل قوة، حاولت مرات ومرات حتى بدأت تشعر بوجود خطب ..
اقتربت أكثر وقد بدأ وجهها يتعرق وهي فقط تحاول اخراج السيف وحمله، بينما سالار في منتصف الساحة يستند على سيفه الخاص بملل شديد يراقبها تحاول وتحاول، صفق لها من الخلف :
” بداية موفقة سموكِ، يبدو أننا اليوم سنتعلم كيفية استخلاص السيف من حاملة السيوف ”
نظرت له تبارك بسرعة كبيرة غاضبة من سخريته الدائمة منها تصرخ في وجهه:
” هذا ليس خطأي السيف عالق، جميع السيوف كذلك ”
تحرك صوبها سالار يزفر بحنق شديد، وبمجرد أن توقف أمامها تراجعت تبارك للخلف مبتلعة ريقها وهو نظر لها بنظرات غريبة، وأطال النظر في وجهها، ثم ودون كلمة مد يده ينتزع السيف بكل سهولة وهي نظرت بريبة وخجل لما فعل :
” هو ..هو كان مش راضي يطلع على فكرة ”
ابتسم لها سالار بسمة خفيفة، ثم وضع السيف بين يديها لتمسكه منه تقول بجدية تحاول أن تعدل من صورتها في نظره :
” على فكرة أنا بس مـ ”
وفجأة وحينما ترك السيف بين ذراعيها سقطت به ارضًا وبقوة بسبب تفاجئها من وزنه، ليس بسبب ثقله الكبير، بل بسبب عنصر المفاجأة فهي توقعت أن تستلم شيئًا بسيط، لكن فجأة شعرت بثقل مروع بين ذراعيها يأخذها ويهبط بها للاسفل كمرسى السفن .
مال سالار برأسه يحدق بها من علياه مبتسمًا :
” نعم سنستمتع كثيرًا بالأمر ”
ابتلعت تبارك ريقها وهي تحاول النهوض متحدثة بنبرة جادة :
” هو … الأمر كان مفاجئًا لي، والآن أنا مستعدة، هيا ..هيا علمني كيف ابارز ”
كانت تتحدث وهي تحمل السيف جيدًا رغم وزنه الغير معتاد ليدها، إلا لم يكن بالثقيل كي لا تتحمله، أو بالخفيف كي لا تشعر به، حسنًا هو مقبول .
كانت تبارك تفكر في كل ذلك وهي تحدق في السيف، وسالار ينظر لها ينتظر أن تنتهي من التحديق به وتبدأ، مال برأسه قليلًا وقد طال انتظاره، ربما منذ ثواني وهو يقف بهذا الشكل .
” هل هناك مشكلة ؟!”
رفعت رأسها بسرعة تتساءل عن مقصده :
” ها ماذا ؟؟”
” السيف، أراكِ تحدقين به كحبيب بعد غياب، ألن نبدأ ؟؟”
نظرت له بجهل ليزفر رافعًا سيفه دون مقدمات في وجهها، لتنتفض للخلف تضم سيفها الخاص بين أحضانها وكأنها تخشى أن يرتعب حين يرى ما يفعل سالار بسيفه، وسالار رفع سيفه يشير لها بحمل خاصتها :
” احمليه كما أفعل ”
” طب ..طب براحة عليا طيب عشان أنا أول مرة اشيل سيف، اتعامل معايا معاملة المبتدئين عادي ”
ابتسم لها بسمة صغيرة يقول بنبرة هادئة قدر الإمكان :
” ابشري ”
ابتسمت له أخرى مرتجفة :
” قبلت البشرى ”
نظر لها مراقبًا، لتبتلع ريقها تقول بصوت خافت :
” ليس الأمر وكأنني ولدت في ساحة المعركة ”
بدأت تحاول رفع السيف لتنجح وهي توجهه له ممسكه به بين قبضتيها بقوة وبشكل مثير للضحك .
نفخ سالار يحاول تهدئة نفسه مذكرًا إياها أن تلك ملكته، وهي لا تفقه شيئًا في حياتهم، وهو معلمها الآن، وهي مهمته وهو لم يفشل يومًا في مهمة، ولن يفعل بسببها .
ألقى سيفه ارضًا ليحدث صوتًا مدويًا جعل تبارك تطلق صرخة خائفًه وهي تعود للخلف بسرعة تضم سيفها لها بصدمة، بينما سالار اقترب منها يسحب سيفها :
” حسنًا لنبدأ بالاساسيات و…”
فجأة توقف عن الحديث حينما وجدها تضم السيف لها بقوة رافضة أن تتركه، حدق في وجهها بعدم فهم يقول :
” اتركي السيف ”
” لا لا هذا وسيلتي للدفاع عن نفسي ”
تشنج وجه سالار بحنق :
” الوسيلة التي تجهلين استخدامها لن تكون للدفاع عن نفسك، بل ستكون وسيلة انتحار لكِ، والآن اتركي ….هذا السيف ..حالًا”
كانت يتحدث من بين أسنانه بكلمات متقطعه حتى استطاع واخيرًا جذبه منها، زفر يلقيه ارضًا، ثم نظر لها وفجأة ابتسم بسمة لم تساهم في طمئنة تبارك، بل أدت لتراجعها للخلف مرتعبة منه .
” ايه ؟! بتبصلي كده ليه ؟؟”
ابتسم لها بسمة متسعة أكثر :
” لتتفق اتفاق، حسنًا ؟!”
نظرت له بريبة ليكمل هو بهدوء شديد :
” أنا أحاول أن التماسك وعدم قتلك مقابل أن تنتبهي لما أقوله وتتبعي تعليماتي، هل الأمر سهل ؟؟”
هزت رأسها بنعم ليتنهد واخيرًا :
” إذن مولاتي قبل البدء تحتاجين لمعرفة اساسيات هامة، اولًا لا تعاملي سيفك كما لو أنه قطعة حديد تحملينها، بل عامليه كما لو أنه أحد أطراف جسدك، قطعة منكِ كي تستطيعين التحكم به جيدًا”
رفع إصبعه الثاني وهي فقط تركز مع أصابعه :
” ثانيًا، عليكِ معرفة كيفية الوقفة الصحيحة أثناء حمل السيف، وكيفية القتال به بشكلٍ لا يؤذي جسدك، ثالثًا عليكِ معرفة متى تدافعين ومتى تهاجمين، واضح حديثي ؟؟”
هزت رأسها بلا ولم تكن تمزح، هي بالفعل تشعر بالتوتر الشديد من الأسلحة ومن الموقف ومن سالار نفسه .
ابتسم سالار يقول بهدوء شديد، يدرك مقدار خوفها ويقدره :
” هذه بداية مبشرة، الآن مولاتي سنتعلم معًا، كيف تحملين سيفًا دون أن تظهري كبلهاء أمام عدوك فيجز عنقك ”
نظرت له تبارك تقول بسخرية :
” كل ده عنوان للدرس ؟!”
انخفض سالار يحمل سيفه مبتسمًا بسمة لا تبشر بالخير هاتفًا بصوتٍ خافت :
” بل أمنية …”
نظر لها يقول بجدية :
” امسكي سيفك كما أفعل الآن ؟؟”
نظرت له بريبة وهي تتخيل أن تنحني لامساك السيف فينقض عليها ويجز عنقها، لذلك مالت تلتقطه دون أن تبعد عيونها عنه، وحينما استقامت راقبت يده تحاول أن تحمل السيف بشكل جيد وحينما تمكنت واخيرًا ابتسمت سالار يقول بتشجيع :
” هذا جيد، أنتِ تتعلمين بسرعة ”
وتبارك تلك المسكينة التي كانت ترتعب من الأسلحة وتخاف حدّ السكين كانت تحاول دفن خوفها، السهام لم تكن مخيفة بهذا المقدار، أو أن خوفها نابع من كوّن سالار معلمها .
رفع سالار سيفه يقول :
” والآن دافعي، ارفعي سيفك بزاوية وصدي ضرباتي بخفة”
كان يتحدث وهو يحرك سيفه ببطء شديد صوبها، فقط يود أن تتعلم وضعية الدفاع بشكل عملي، لكن تبارك اعماها الخوف ولم تبصر من كل ذلك سوى أن السيف يقترب منها لترتجف وتصرخ ملقية سيفها ارضًا وهي تصرخ وتخفي وجهها بين ذراعيها .
ومن سوء حظها اصطدم السيف بثقله في قدم سالار الذي اغمض عيونه منتفضًا للخلف يحاول كتمان صرخة وهدير قوي، اغمض عيونه أكثر وأكثر وفجأة فتح فمه يقول بصوت زلزل المكان بأكمله :
” لعنة الله على الكافرين…. ”
__________________
كانت تضم ذراعيها لصدرها وهي تحدق في تلك الفتاة بشر كبير ولولا أنها مقيدة بواسطة فتاتين لكانت الآن انقضت عليها ولن تتركها إلا حينما تخفي معالم وجهها .
زفرت بضيق تراقب النساء اللواتي بعثرن كل شيء داخل غرفتها المشتركة مع رفيقتيها، وفجأة انتفض جسدها حين سمعت صوتًا يقول بلهفة :
” وجدته سيدتي، لقد وجدت الخاتم ”
اتسعت أعين برلنت تستدير صوب الفتاة بصدمة كبيرة لا تصدق ما تسمعه، أي خاتم ذلك وما الذي جاء به لغرفتها ؟؟
اقتربت المشرفة تنتزع الخاتم من يد العاملة وهي تحركه بين أنامله بهدوء، ثم رفعته في وجه برلنت تقول بجدية كبيرة :
” ما الذي يفعله هذا هنا ؟؟”
” لا اعلم اسألي من أحضره والذي بالطبع ليس أنا ”
كان ردًا باردًا حادًا وهي لا تهتم بأي شيء سوى بكيفية وصول هذا الخاتم لغرفتها وبين ثيابها و…لحظة هذه ليست ثيابها التي استخرجوا منها الخاتم، بل ثياب …كهرمان ؟؟
شعرت برلنت بالدهشة مما يحدث، كيف له أن يصل لثياب كهرمان وهي لا تعمل داخل القصر من الأساس، أو هي لا تعمل عامة ؟؟
فجأة نست كل ذلك وتلاشت كل أفكارها حين رأت ذلك الخاتم بين أصابع السيدة، هي تعرفه جيدًا ذلك الخاتم لا يمكنها أن تنساه يومًا وكيف تفعل وهو …خاتمها هي ؟؟
عند هذه الفكرة وجدت صوتًا رجوليًا يقتحم غرفتها الصغيرة التي شعرت بها تضيق فجأة لوجوده بها وهو يقول بصوت متلهف :
” هل وجدتم خاتمي ؟!”
استدارت له المشرفة وهي تعطيه الخاتم تقول بجدية :
” نعم سيدتي وجدنا الخاتم، والسارقة أيضًا ”
ختمت حديثها تشير صوب برلنت التي كانت ما تزال محبوسة داخلة صدمتها أنه ما يزال يحتفظ بخاتمها بعد كل تلك السنوات، استدارت ببطء ترمقه من خلف غطاء وجهها لترى اشتعال عيونه وهو يقترب منها هامسًا :
” كي تجرأتي وسرقتي شيئًا من معملي ها ؟؟ ألا تعلمين عقوبة السارق هنا ؟؟”
رفعت وجهها له وهي تقول بوقاحة ودفاع :
” نعم اعلمها وماذا في ذلك ؟؟ أنا لم أسرق منك شيئًا لتهددني بهذا الشكل، ثم حتى وإن فعلت فهل تظن أنني سأغامر بحياتي لأجل خاتم سخيف كـ ”
قاطعها صراخ تميم بصوت مرتفع جعلها تعود للخلف بسرعة تختبئ خلف المشرفة التي انتفض جسدها من صراخه :
” سخيف ؟؟ خاتمي الغالي سخيف ؟؟ هذا الخاتم بحياتك”
نظرت له برلنت وقد تراقص قلبها فرحًا وهي ترى تمسكه بخاتمها العزيز :
” لماذا هل هو خاتم سليمان يا هذا ؟!”
” بل خاتم تميم، خاتمي الخاص ”
نظرت له بحنق تنفخ بصوت مرتفع :
” حسنًا وها هو خاتمك العزيز عاد إليك، خذه واتركني وشأني ”
اقترب منها تميم بشكل مثير برعب لتتراجع أكثر وهو يقترب منها مجبرًا إياها على إبعاد رأسها بشكل مثير للضحك وهو يهمس لها :
” لم تخمني يا قردة ”
اتسعت أعين برلنت أنه علم هويتها، وهو ابتسم بسمة جانبية يقول بشر :
” سأريكِ كم هو ثمين هذا الخاتم.”
ابتلعت ريقها من تهديده لها بهذا الشكل، وفي النهاية هو خاتمها الخاص، أو بالأحرى خاتمها الذي أهداه لها سابقًا لتعطيه إياه قبل رحيله :
” لا تتعب نفسك سيدي وتريني، فأنا للتو انتبهت أنه غالي وبشدة ”
ابتسم تميم بسمة جانبية :
” لا بأس بتأكيد .”
تنفست بصوت مرتفع تشعر بتهديد يختفي بين كلماته، كل هذا لأجل خاتم قديم تملكه هي من الأساس ولم تسرقه، لكنها خشيت أن تخبرهم أن تلك الثياب التي اخرجوا منها الختم تعود لكهرمان، فقط صمتت وقالت :
” إذن ما الذي تريده ؟! هل ستجلدني عقابًا على فعلتي ؟!”
اتسعت أعين تميم بقوة هامسًا دون أن يهتم بمن حولهم من الأشخاص، فقط يتعجب مقدار وقاحتها وعدم خجلها من الاعتراف بجرمها :
” أنتِ وقحة ”
” أشكرك ليس بالجديد عليّ، لكن الجديد عليّ هو أن يتم اتهامي بالسرقة، وبرائتي لن أثبتها أمامك أو أمام غيرك بل سأفعل أمام الملك وحينها ستأتي وتعتذر لي وتذكر هذا ”
ابتسم تميم ساخرًا يرفع يده التي تحمل الخاتم، لتنتفض هي للخلف صارخة، وهو فقط أعاد خصلات شعره يقول بسخرية :
” لكِ هذا .”
نظر لها ثواني ثم مال بعض الشيء مع الاحتفاظ بمسافة مناسبة بينهما، فقط كي تصل كلماته لها دون غيرها :
” أخبريني يا قردة، أوليس أنتِ من كنتِ تبحثين عن روايات رومانسية داخل مكتبة العريف كل نهاية اسبوع وتخترعين حكايات رومانسية لكِ ولفارسك ؟!”
نظرت له برلنت بصدمة تحاول أن تتنفس بسبب خجلها منه، ليبتسم وهو يقول :
” إذن دوني ما يحدث معكِ في فصل المآسي الخاص بكِ، حتى يأتي فارسك ويخلصك من تميم الشرير، احداث مشوقة ومثيرة للاهتمام تضيفينها لقصصك بدلًا من تلك المشاهد السخيفة، هذا فقط لأجل متعة القارئ ”
نظرت برلنت بأعينه تحاول أن تتجاوز كل ذلك وتجيبه بكلمات تصمته :
” ياا..وهل تظن أنك بتلك الأهمية كي تشغل صفحات من روايتي الخاصة، أو أذكر حتى اسمك ؟؟ ربما أشير إليك بأحدهم أو بمجهول ”
ابتسم تميم لها بسمة واسعة يجيب على كلماتها :
” بل أعدك أن اسحب منكِ تلك الرواية السخيفة واقتلك في منتصفها واكملها أنا بقصة أكثر إثارة من خاصتك، صبرًا يا سليطة اللسان ”
ابتسمت له برلنت بسمة لم تظهر من خلف غطاء الوجه، تقول بتحدي :
” إذن الفائز يضع النهاية يا …سيدي صانع الأسلحة ”
” اتفقنا يا …آنستي الافعى السامة ”
ختم حديثه ينظر للمشرفة نظرة جعلتها تأمر الفتيات بسحبها خارج الغرفة صوب السجون حتى تُعرض على الملك للمحاكمة في أمر سرقتها، وأثناء خروجها قابلت كهرمان وزمرد اللاتين ركضتا صوبها بقلق، أزاحت برلنت يد الفتاة عنها :
” ياا…اريد أن اودع صديقاتي ”
وحينما ضمت زمرد همست لها :
” لقد وجدوا الخاتم في ثياب كهرمان، تلك الفتاة الحقيرة ربما هي من وضعته ظنًا منها أنها ثيابي، أعلم أنكِ لا تخشين أحدًا، اقتليها لاجلي واصنع لكِ كعك التوت الذي تحبينه ”
ابتعدت تحت نظرات زمرد المتشنجة، ثم اقتربت من كهرمان تضمها وهي تهمس :
” أنتِ نظفي مكان الجريمة، حسنًا كهرمان، اعتمد عليكن يا فتيات ”
ابتعدت ثم سارت مع النساء تمر بتميم الذي نظر لها نظرات غامضة وهي تمنت لو تنزع الغطاء وترميه بنظرة غاضبة حانقة، لكنها فقط سارت بهدوء وهي تهمس :
” ليحترق القصر بمن فيه، لعنة الله على الفاسدين”
________________________
ترك إيفان تبارك داخل حلبة التدريب في انتظار سالار بعدما ارسل له أحد الجنود، ولولا انشغاله، وطول ساعات التدريب مع سالار معها لكان جلس يشاهدها .
تنهد يمر بساحة القتال التي اعتاد مبارزة فارسته بها، ابتسم بسخرية دون وعي قبل أن تنمحي بسمته شيئًا فشيء يتذكر كلماتها ليعود عقله مجددًا يذكره أن هناك تاريخًا عليه البحث به لإيجاد ذلك الشخص الذي تسبب في ظلمه .
تحرك داخل الحلبة ينظر حوله وهناك رغبة تدعوه للمبارزة الآن، أن يراها تخرج كل غضبها في القتال معه، لكن كيف يستدعيها وما الذي يخبرها أنه سيبدأ مبارزة لتقفز له ؟!
نظر حوله وهو يفكر في طريقة لاحضارها، قبل أن يبتسم بسمة جانبية ويتحرك لمنتصف الساحة ينتزع سيفًا من حاملة السيوف، ثم نزع معطفه الملكي ووضعه على السيف في إشارة منه أنه هنا وسيقاتل .
ثم اتبعد يجلس في مكان يظهر الساحة منتظرًا أن تأتي وداخله صوتٌ يخبره أنها ستفعل .
” نعم ستفعل، لننتظر ونرى المنتقمة الغاضبة والثائرة وما ستفعله معي ”
وهكذا جلس إيفان براحة شديدة على أحد المقاعد يتنهد بصوت مرتفع مشمرًا عن اكمامه وعيونه مثبتة على الساحة، لكن عقله يسبح بعيدًا، في أمور الممالك ومشاكله الخاصة، والملكة، والملثمة التي تأتيه كلما وطئت قدمه الساحة كل ذلك يثير داخله زوبعة من الاضطرابات .
طال جلوسه حتى شعر أن ساعات طويلة مرت، رغم تأكده أنه لم يمر سوى بضع دقائق، نهض عن مكانه يتقدم من ساحة القتال ينتزع المعطف الخاص به، والسيف يرفع في الهواء وهو يميل برأسه محدقًا به، وفجأة ارتسمت بسمة جانبية على فمه يلقي المعطف دون اهتمام أمامه يقول بصوت خافت :
” أتيتي ؟؟ ظننتك لن تفهمي اشارتي ”
” العفو مولاي وكيف أفوت موعدًا معك ؟!”
ابتسم إيفان جانبية يستشعر سيفها الذي وجهته لظهره منذ وصولها، تنفس يقول بصوت مرتفع يشرد في السماء فوق :
” يقولون أن الحقد نيران تتغذى على صاحبها ”
” وكذلك يقولون أن الظلم ظلمات يقضي على صاحبه ”
ابتسم بسمة جانبية :
” هذا إن ظلمت، أوليس من الوارد أن يكون شقيقك هو من ظلمني بادعائه أنني ظلمته ؟؟”
اشتعلت عيون كهرمان بشدة تدفع السيف أكثر في ظهره وقد أشتدت قبضتها عليه، ليشعر إيفان بحد السيف يصيبه فابتسم بسمة صغيرة قبل أن يستدير فجأة ضاربًا سيفها بكل مهارة مسقطًا إياه ارضًا قبل بدء القتال حتى، ثم رفعه بقدمه بسرعة يلتقطه وبعدها وجه السيفين عليها يقول بصوت خافت :
” لاعترف أنكِ أكثر إمرأة شجاعة قابلتها ”
شعر أن عيونها تبتسم وهي تنظر للسيفين دون أن تهتز هزة بسيطة حتى :
” هذا فخرٌ لي مولاي، أن تشهد وبنفسك على ذلك لهو فخر لي ولاخي، فهو من علمني أن الشجاعة هي سبيل النجاة”
اتسعت بسمة إيفان يقول بصوت خبيث :
” ولم يعلمك أنه جوار الشجاعة عليكِ التحلي بالذكاء ؟؟ فالشجاعة ليست سبيل النجاة الوحيد، فطوق النجاة وحده لن يفيدك إن لم تزوديه بالهواء، يظل قطعة مطاط لا فائدة ترجى منها، وهكذا هو الذكاء، إن لم تقترن شجاعتك به، فستكون سبب دمارك بدل نجاتك ”
اطالت كهرمان النظر في عيونه وهي تدور معه بعدما بدأ بالدوران حولها والسيوف ما تزال أمامها، وفي ثواني ألقى لها بالسيف لتمسكه بسرعة وتتخذ وضعية الهجوم رافعة إياه في الهواء ليزداد الإعجاب في عيون إيفان وهو يتخذ وضعية الدفاع يقول بصوت خافت :
” اريني ما لديكِ يا امرأة”
ومن بعد كلماته لم يبصر إيفان سوى سيل هجمات ضارية عليه من سيف كهرمان التي ظلت تسقط فوق رأسه وتوجه له ضربات متتالية بسرعة كبيرة، تفاداها هو بسرعة أكبر والبسمة لم تفارق وجهه، بسمة مستفزة جعلت كهرمان تصرخ بصوت مرتفع وهي تزيد من حدة ضرباتها .
أطلق إيفان ضحكة مرتفعة :
” الغضب هو ذلك المسمار الذي سيثقب طوق نجاتك يا فتاة، عليكِ بالهدوء وعدم الاظهار للخصم أنه تمكن منكِ”
صرخت في وجهه وهي تبتعد تحاول التنفس :
” أنت لم تتمكن مني ”
” صراخك هذا يعني أنني أصبت الهدف ”
صرخت كهرمان أكثر وهي تهجم عليه بجنون :
” لا تعطني دروسًا يا هذا ..”
ابتسم يصد ضرباتها بمهارة كبيرة مانحًا إياها فرصة اخراج كل الغضب الذي تكنه داخلها تجاهه :
” يا هذا ؟؟ لا تناديني بهذا يا هذه، أنا الملك هنا ”
توقفت كهرمان تنظر له بقوة وغضب :
” ملك ؟؟ حقًا أرني ما لديك ”
ابتسم لها إيفان بسمة مخيفة :
” أنت لن تحبي رؤية ما أملك بالفعل ”
رفعت حاجبها ليحرك هو سيفه في الهواء بمهارة عالية، ثم تقدم منها خطوات بطيئة لعبت على اوتار ثباتها بمهارة عازف محترف :
” أنا حتى الآن ألعب دور المدافع معكِ، رأفة مني بحالتك يا امرأة، صدقيني لن تحبي رؤيتي اهاجم ”
نظرت له ساخرة بقوة :
” أنا لا أحب رؤيتك على أية حال ”
تأوه إيفان بسخرية :
” هذا جارح ”
ابتسمت كهرمان بسخرية تنافس خاصته :
” لا بأس تقبل الحقيقة ”
وفي ثواني قبل حتى أن تستوعب أو يعطيها هو إشارة وجدته يهجم عليها دون مقدمات وبسرعة كبيرة جعلتها تعود للخلف وهي ترفع سيفها تدافع عن نفسها قبل أن يقطعها اربًا وصوت إيفان صدح من بين اصوات اصطدام السيوف :
” إذن بما انها لحظة الحقيقة، فدعيني أخبرك أنكِ اسوء مبارزة سيوف رأتها عيناي يومًا ”
كانت كهرمان تصد ضرباته بقوة وسرعة وهي تقول :
” وهذه السيئة لم تهزمها في مبارزة واحدة ”
” نعم، لأنني أشفق عليكِ، لكن منذ الآن لا شفقة ولا رحمة”
ختم حديثه وقد حاصرها بسيفه في الجدار وهي تضع سيفها أمام خاصته تطيل النظر بعيونه تتنفس بصوت مرتفع، وفي تلك اللحظة فتح إيفان فمه ونطق باكثر شيء غريب قد يأتي على رأسه في مثل هذه اللحظة :
” عيناكِ تشبه عيون أعرفها جيدًا، هل اعرفك ؟!”
نظرت له وقالت بصوت ساخر هادئ بعض الشيء :
” ربما ”
ومن بعد تلك الكلمة استغلت شروده في كلمتها ودفعته بقوة للخلف وهي ترفع سيفها في الهواء تقول :
” لا يهم إن كنت تعرفني أو لا، يكفي معرفتي أنا بك والتي ليست بالشيء الجيد صدقني ”
ابتسم لها يرفع سيفه وقد عادت المنافسة بينهما مرة أخرى :
” صدقيني لستُ متلهفًا لمعرفتك ”
بعد هذه الكلمات زادت حدة اصطدام السيوف بينهما وكأنهما في حرب لا ناجي فيها إلا واحد، إما يكون هو أو تكون هي، وهكذا كانت بالفعل، معركة بينهما، لا رابح فيها…..
ابتسمت كهرمان باتساع حينما أبصرت نظرات إيفان تشتد بعدما أصابت يده بجرح بسيط صغير، وهو تراجع للخلف يتوعد لها متناسيًا أنها امرأة .
” تريدنها حربًا …فلتكن ”
وها هو قتال يبدو أنه سيستمر لساعات وساعات دون معرفة من الرابح فيهما، فهي لا تستسلم وهو لا يمل .
___________________
وفي المقابل كان هناك مبارزة ثالثة لهذا اليوم …
يقف في ساحة الرماية ينتظر أن تحضر هي، ابتسم يحرك السيوف في يده، وعليه الاعتراف أنه يستطيع إعطاءها السيف دون أن يضطر لكل ذلك، لكنه يحب أن يشعل غضبها .
والآن مرت ساعة عن موعدهما المحدد وهي لم تحضر، اعتدل في وقفته يتحرك لخارج الساحة حتى يتفقدها، لكن ما كاد يخطو حتى رآها تتحرك له وهي ترتدي ثياب تشبه ثياب القتال بلثامها المميز، ابتسم بسمة جانبية يرفع السيف في يده، ثم ألقاه في الهواء لتتلقفه هي بكل سهولة تحركه بشكل مثير للاعجاب، ومن بعدها رفعته فوق رأسها تتخذ وضعية القتال :
” هيا يا عزيزي أرني ما لديك ”
ابتسم دانيار يرفع لثامه على ونصف وجهه يقول بعد غمزة صغيرة :
” هذا لأجل الغموض، والآن سيدتي ..بارزيني ”
ومن بعد تلك الكلمة لم يُسمع في المكان سوى صوت اصطدام السيوف، ودانيار يقاتل واللثام يخفي خلفه بسمات ما استطاعت العيون إخفائها، لا يدري السبب حقًا لكن غضبها ذلك يسعده وبشدة .
حركت زمرد السيف بين قبضتها بسرعة كبيرة تلقيه من اليد اليمنى لليسرى بسرعة كبيرة وهي تتذكر صوت والدتها التي تهتف لها :
” السيف رفيق لكِ تعرفي عليه وانشأي معه علاقة طيبة، كي يساندك في جميع محنك ”
رفعت زمرد سيفها في الهواء تقفز بقوة وفي نيتها أن تنقض عليه بضربة تقسمه نصفين، لكن دانيار ابتعد في اللحظة الأخيرة يصفر بصوت مرتفع :
” يا ويلي أنتِ جادة في أمر التخلص مني ”
نظرت له زمرد بأعين مشتعلة وهو ابتسم لها :
” نعم تلك النظرات تعجبني وبشدة ”
وبعد هذه الكلمات هجم عليها بشكل مرعب جعلها تعود للخلف بسرعة كبيرة ترفع سيفها للتصدي له، وهي تحاول أن تتمالك نفسها وألا تنحني .
” صدقني لن يعجبك القادم ”
ابتسمت توجه له ضربة قوية في خصره، لكنه تفادها بسرعة كبيرة :
” أنتِ يا فتاة هل تدربتي على يد قطاع طرق ؟! ما هذه الحركات الغادرة ؟؟؟ عليكِ بمواجهة عدوك في وجهه، وتوقفي عن توجيه ضربات له بشكل متوارى، هذا ليس مقبولًا في القتالات النزيه ”
ابتسمت زمرد :
” نعم، معك حق ”
وكانت كلماتها تخص سؤاله الاول عن قطاع الطرق، لكن دانيار ظنها تؤكد عبارته الأخيرة .
وقبل أن ينجرف في التفكير أكثر حول هذه النقطة، هاجمته بضربة متوارية بشكل جعله ينفخ :
” أوه تريدين اللعب بدناءة إذن ؟؟ لكِ هذا ”
ومن بعد تلك الكلمات لم تستوعب زمرد من أين تأتيها الضربات وقد كان دانيار في هذه اللحظة أشبه بجيش كامل يوجه لها الضربات، أمر لم تتوقعه وهي تعرف المبارزة كراحة اليد، لطالما تغلبت على جميع رجال قبيلتها، حسنًا هم حمقى لا يفقهون شيئًا في القتال لكنها ماهرة وهذا بفضل والدتها و…بافل .
وعند ذكر اسمه عادت لها ذكرى إجبارها في طفولتها على التدرب مع جميع الأطفال على يد بافل الشاب، وقتها لا تعلم ما حدث سوى أنهم وضعوا سيفًا داخل قبضتها والقوا بها في الحلبة أمام بافل الذي منحها بسمة مرعبة وكأنه يرحب بها في جحيمها..
فجأة شعرت بضربة قوية من سيف دانيار سقط على إثرها سيفها ارضًا، لتتسع عيونها وتنظر له بصدمة، ثم تحركت عيونها صوب دانيار الذي ابتسمت عيونه بسمة خبيثة، وهي لم تستسلم بل اخذت تقفز للخلف بحركات رشيقة ترفع يديها في الهواء في دعوة منها لقتال باليد .
تنهد دانيار يقول بجدية :
” أوه متعددة المواهب إذن ؟؟ مبهرة ”
ألقى السيف ارضًا، ثم رفع طرف اكمامه يشير لها بالاقتراب :
” اريني ما لديكِ يا امرأة..”
اندمج الإثنان في قتال شرس أثمر عن سقوط زمرد في نهايته ارضًا لتزحف للخلف ارضًا وهي تحدق في وجه دانيار بقوة، بينما هو جلس القرفصاء يستند على ركبتيه قائلًا بهدوء :
” في النهاية، أنا انتصرت ”
نظرت له زمرد بغضب شديد اشعل صدرها، حتى أنها لم تستوعب يدها التي انقبضت على حفنة من الرمال، ثم رمته بها في وجهه بقوة جعلت دانيار يتراجع للخلف صارخًا بجنون .
وهي نهضت بسرعة تود الركض وإمساك سيفها الملقي ارضًا، لكن دانيار كان يفرك عيونه بيد ويحاول امساكها بالاخرى، لكن يده لم تمسك سوى بلثامها ينتزعه بقوة صارخًا، وهي نظرت له برعب من نظراته الحمراء قبل أن تقرر الهرب في تلك اللحظة .
ومن بين عيونه الضبابية والغبار حوله أبصر وجهها مجددًا ملامحها التي فتنته سابقًا، لكنها فجأة تلاشت كما تلاشى الغبار أمامه، مسح عينه بقوة يهمس :
” تلك الفتاة، تتبع أساليب قذرة في القتال تمامًا كقطاع الطرق والمجرمين ”
زفر يمسك سيفها العزيز يبتسم بسمة جانبية :
” لا بأس، الآن هربت وغدًا تعود لاجلك …”
______________________
تتحرك في القصر بسرعة تود إيصال الطعام لمرجان قبل العودة لمحلها، تنفست بصوت مرتفع فاليوم والدها لديه العديد من رحلات التنقيب عن النباتات واستعجلها للعودة باكرًا، مما يعني لا فرصة للتأخر ومحاولة رؤية الطبيب .
تنهدت بصوت مرتفع وهي تسير صوب المكتبة حيث مرجان كالعادة، لكن وأثناء تحركها صوبها توقفت حين سمعت صوت غريب يصدر في جزء نائي من القصر حيث المكتبة، فالعريف هو من طلب بعزل المكتبة عن القصر ووضعها في مكان بعيد عن البشر.
ويبدو أن ذلك كان مناسبًا لأيًا كان حتى يخفي مصائبه في ذلك الجزء من القصر .
تحركت ليلا ببطء صوب ذلك الصوت الذي يبدو كغريق يحاول التنفس أسفل المياه، همست برعب :
” يالله ما بال هذا القصر كلما خطوت له سمعت صوت تأوهات وأوجاع ؟؟”
تنفست بصوت مرتفع تقترب منه لتختبئ خلف الجدار تنظر صوب تلك النقطة المظلمة، ترى فتاة تقف وهي تحاول خنق فتاة أخرى، اتسعت عيونها بصدمة، خاصة حين سمعت صوتًا يقول :
” هذا فقط تحذير لكِ، كي لا تمدين عينيكِ لأشياء الآخرين .”
أطلقت ليلا شهقة مرتفعة جعلت الفتاة تنتفض بفزع وهي تنظر حولها بريبة، كادت ليلا تتراجع بخوف من نظرات تلك المرأة التي كان يبدو على وجهها الشر، لكن رعبها على تلك المرأة الممدة ارضًا، وضعفها مقارنة بتلك المرأة المرعبة ويقينها أنها إن دخلت معها بقتال ستخسره وتخسره حياتها، جعلها تركض بسرعة شديدة تطلق صرخات كي يسمعها الجنود :
” هناك محاولة قتل في القصر، هناك فتاة تحاول قتل فتاة أخرى، النجدة”
لكن فجأة توقف جسدها حين شعرت بارتطامها في جسد ضخم جعلها تتراجع للخلف بسرعة شاهقة بصوت مرتفع ورعب، لكن سرعان ما خفت كل ذلك تقول بلهفة :
” سيدي ….سيدي القائد هناك ..هناك امرأة تحاول قتل أخرى بالقرب من المكتبة ”
تعجب سالار كلماتها وهو يتحرك بسرعة كبيرة صوب المكتبة وخلفه ليلا التي كانت ترتجف بخوف تدعو الله ألا تكون تلك المرأة قد تخلصت من الأخرى، وبمجرد أن وصلوا كان الممر فارغًا من أي أحد، نظر سالار صوب ليلا التي اتسعت عيونها بعدم فهم ..
” كانت هنا، اقسم أنها كانت هنا و…”
توقفت عن الحديث حين أبصرت نظرات سالار لها، لتشهق بقوة :
” أيعقل أنها قتلتها وسحبتها بعيدًا ؟؟ لقد ..لقد كانت تحذرها وهي تخبرها كلمات غير مفهومة و..لا أعرف حقًا أنا…”
نظر لها سالار ثواني ولتوترها، كل هذا الخوف لا يمكن أن يكون لأجل لا شيء، رفع حاجبه وهو يفكر أنه منذ نصف ساعة انتهى من تدريب الملكة لتخبره أنها آتية للعريف و…
فجأة توقف عن التفكير حين خطرت له فكرة جعلت جسده ينتفض وهو يركض بسرعة مرعبة صوب مكتبة العريف يقتحمها دون سابق إنذار متجاهلًا نزق وضيق العريف وهو يصرخ بجنون :
” هل جاءت الملكة لهنا ؟؟”
نظر له العريف بحنق شديد لكنه لم يتذمر بسبب نظراته المرعبة تلك وقال :
” لا لم تأتي منذ طردتها ذلك اليوم من هنا، حسنًا هذه المرأة كارثة بكل المقاييس، النساء عامة، بل البشر سائرهم”
صمت يرى ملامح سالار المرعبة وهو يفكر في شيء خطر له، شعور جعل جسده ينتفض بقوة وهو يستدير بشكل مرعب وهو يردد بصوت خافت لليلا :
” تلك المرأة هناك…التي كانت تُقتل ..هل ..هل هي نفسها الملكة ؟؟؟”
_________________________
هي فقط تحتاج لنظرة …ودع الباقي للقلب هو يتولى باقي الأمور، أوليس لهذا حُرمت تلك النظرات ؟؟
فهي وببساطة بداية كل إثم….
دمتم سالمين
يتبع…
تحرك بعيدًا عن ساحة القتال بعدما انتهى من مبارزته المعتادة مع الملثمة الكارهة له، أمر مثير للسخرية حقًا، فتاة تكن له حقدًا وكرهًا كبيرًا، فتأتي لمبارزته على أمل أن تتخلص منه في إحدى ضرباتها له .
نفخ إيفان بحنق يعيد خصلاته للخلف وهو يتحرك صوب قاعة العرش كي ينتهي من أمور مملكته ومن بعدها يتفرغ مساءً مع رجال جيشه بوضع خطط الهجوم على مشكى .
لكن فجأة وأثناء عبوره من أمام أحد مباني الغلال أبصر فتاة تندفع بسرعة خارج المبنى بشكل مثير للريبة، تنظر حولها كما لو كانت تسرق أو ما شابه، رفع حاجبه يقول بهدوء ولهجة قوية مرتابة :
” تبحثين عن شيء آنستي ؟!”
تصنم جسد الفتاة بقوة وكأنها سمعت صوت الموت خلفها، استدارت ببطء تحمد ربها أنها لم تنس وضع الغطاء فوق وجهها، نظرت بطرف عيونها صوب الحقيبة التي كانت تتركها جوار الباب الخاص بالمبنى تتأكد اولًا من أن الطريق خالي، ثم تعود لأخذها .
لاحظ إيفان حركات جسدها المتوترة وهي تتحرك صوب باب المبنى مجددًا، تشعر بجسدها يرتجف خوفًا .
” هل هناك مشكلة تواجهك ؟؟”
رفعت الفتاة عيونها له وودت لو تقول، نعم نعم هناك مشكلة تواجهني، وهي أنك الان تقف هنا وعلى بُعد صغير منك تقبع حقيبة ثياب الجندي التي اتنكر بها لمبارزتك والتي بغبائي تركتها هنا بعد المبارزة وجئت لابدل ثيابي وأخذها لتقفز في وجهي دون مقدمات .
” لا، لا مولاي بالطبع لا يوجد أي مشاكل أنا فقط كنت، الأمر أنني احتجت لـ ”
تعرف إيفان على صوتها بسرعة كبيرة ليدرك أنها هي نفسها فتاة الحظيرة، ماذا كان اسمها ؟! آه كهرمان صحيح .
اعتدل يقول بجدية كبيرة وهو يلاحظ ردة فعل جسدها ليتجاهل كل ذلك متحدثًا برسمية كبيرة :
” حسنًا آنستي لا اقصد ازعاجك، لكن وجودك جوار مخازن الغلال مرفوض تمامًا ”
رفعت كهرمان عيونها له بسرعة، لكن بالطبع لم يبصرها من خلف غطائها، ابتلعت ريقها تقول بصوت منخفض رقيق :
” معذرة لك مولاي، لكنني احتجت لتعديل وضعية حجابي بعدما كاد يسقط عن رأسي ولم أجد غير هذا المكان لفعل ذلك ”
أمسكت طرف ثيابها تميل ببطء شديد وهي تردد بلطف :
” ارجو المعذرة منك مولاي ”
راقب إيفان حركاتها ليبتسم لها بسمة جامدة بعض الشيء، وهو يضع يده على صدره يميل لها برأسه قليلًا كأي ملك او رجل نبيل أمام فتاة :
” لا بأس آنستي حقًا، يومًا سعيدًا لكِ، والآن اعذريني عليّ الرحيل ”
وبهذا الكلمات ختم إيفان الحديث القصير مع كهرمان، ورحل بهدوء شديد تاركًا إياها تتابعه بعيونها قبل أن تتحرك داخل مخزن الغلال تمسك الحقيبة بين أناملها، تشرد بها وهي لا تعلم نهاية كل هذا، هي لا تتقدم ولا تفعل شيء لأجل مملكتها فقط اكتفت بطلب مساعدة سالار ومن ثم ماذا ؟؟ هل يعيد لها سالار بلادها ؟؟
تنهدت تستدير لترى إيفان قبل أن يختفي داخل مبنى الإدارة، تشعر بضربات قلبها تعترض عما تفعل معه، لا تصدق أنها ألقت بكرهها في وجه الملك، أخبرته أنها تكرهه وبشدة، لكن هل تفعل حقًا ؟؟
بينما …
إيفان تحرك بهدوء صوب قاعة العرش ولم يكد يخطو لها حتى سمع صوت خطوات تأتيه من اخر الممر جعلته يستدير ببطء ليلمحها وقد عادت أخيرًا، ارتسمت بسمة أعلى فمه يستقبلها بعيون حنونة واضعًا يده على صدره يميل بعض الشيء قائلًا :
” مرحبًا بعودتك مولاتي ”
ابتسمت الملكة الأم وهي تراقب ابنها، ثم قالت بهدوء شديد :
” مرحبًا بك بني، اتمنى أن تكون اشتقت لي خلال فترة غيابي ”
” فعلت مولاتي ”
ختم حديثه وهو يمسك كف والدته يقبله باحترام، ثم امسكها منه، يسير بها صوب جناحها يرافقها له بهدوء شديد بعدما رأى في عيونها حديث مؤجل، وهو يعلم أن ذلك الحديث لن يكون بالمسالم، لذلك بكل هدوء دخل بها لحجرتها يقودها صوب أحد المقاعد يردد بجدية :
” كيف كانت رحلتك امي ؟؟”
” بخير مولاي، كانت جيدة، أخبرني أنت كيف هي أمور المملكة ؟!”
ابتسم لها بسمة صغيرة يردد بكلمات قصيرة مقتضبة :
” الحمدلله مولاتي كل شيء بخير ”
” والملكة ؟؟”
نعم ها هي وصلت للنقطة التي ينتظر إيفان أن تتطرق لها حتى يضع النقاط على الاحرف قبل لقاء والدته بتبارك، ابتسم لها بخبث :
” بخير كذلك، إن كنتِ تسألين عن حالتها ”
” لا عزيزي أنت تعلم أنني لا أفعل ”
نظر لها إيفان بهدوء شديد وقد حوت كلماته تحذيرات خفية يهدف منها لإعلام والدته أن أي محاولة للاقتراب من الملكة ستكون بمثابة محاولة للمساس به شخصيًا :
” وأنا سأتظاهر أنك تفعلين أمي، وتهتمين بصحة الملكة ”
نهضت والدته عن المقعد منتفضة من كلماته تلك :
” هل هذا تهديد منك ؟؟ تهدد والدتك لأجل فتاة …”
” لاجل الملكة أمي، ولا، معاذ الله أن اهددك لأجل أحد حتى وإن كان لأجلي شخصيًا، لكنني أمي أخبرك من البداية أن احترام الملكة من احترامي، لذلك رجاءً عليكِ أن تعامليها كملكة، وأنا أثق أنكِ عندما تقابلينها ستحبينها ”
نظرت والدته لعيونه بنظرات لم تطمئنه، لكنه لم يهتم وهو يقابلها بنظرات أشد ثباتًا وكأنه يفرض عليها أن تتقبل الأمر الواقع وأنها أصبحت الملكة وخلال أيام قليلة ونصبح زوجته .
” لك ذلك بني ”
هز لها إيفان رأسه ثم مالك يقبل يدها باحترام :
” اشكرك أمي، سوف اذهب لانهي بعض الأمور وبعد ساعات قليلة سوف ارسل لكِ لمقابلة الملكة ”
” واين هي ؟؟ لم أرها حين وصولي ”
نظر لها بهدوء :
” هي تتدرب الآن”
ختم حديثه يستأذن منها بهدوء، ثم تحرك خارج الجناح بقوة كبيرة تحت عيون والدته التي شعرت بالغضب يملئ صدرها، ولدها سيكون كالشوكة في خاصرتها، هي تعلم أنه ينفذ ما يريد دون أن يعطي الفرصة لأحدهم بالتدخل، لكن ليس هذا، ليس في أمر كهذا …
لكن لا بأس لترى الملكة أولاً ومن ثم تقرر ما تفعل، لربما خيبت ظنونها …
_______________________
كان سالار على وشك الجنون، أين اختفت تلك الفتاة، تركها دقائق قليلة، دقائق فقط تركها بها مخبرًا إياها أنه سيتبعها ليختار لها كتابًا يتحدث عن أساليب المبارزة و…اختفت .
اختفت بالتزامن مع اخبار فتاة له أن هناك من كان يحاول قتل فتاة في نفس ممر المكتبة، شعر بقلبه يتآكل من الرعب يزيح خصلاته بعصبية كبيرة وهو يتحرك في الممرات وقد كانت الأجواء مشتعلة وجميع الجنود منتشرين حوله وهو يكاد ينفجر بهم :
” جدوها لي ولو أسفل الأرض السابعة، سمعتم ؟! أحضروا الملكة، أريدها سالمة في دقائق معدودة ”
ختم حديثه يتحرك هو بين الممرات يتوعد لايًا كانت تلك التي حاولت أن تؤذي ملكتهم أسفل سقف قصرها .
صدره يشتعل بغضب شديد يتجاهل دانيار الذي كان يتحرك صوبه بتعجب :
” ما الذي يحدث سـ ”
لكنه لم يتوقف وهو يتجاوزه يبحث عنها بعيونه في الأرجاء ليقرر الذهاب والعودة حيث ساحة التدريب لعلها عادت هناك بعدما رحل هو، أو هكذا يأمل .
توقف تميم جوار دانيار يتعجب ما يحدث :
” ماذا تفعلون ؟! لِمَ الجميع مستنفر بهذا الشكل ؟! هل نتعرض لهجوم ؟؟”
هز دانيار كتفه بجهل شديد :
” لا اعلم حقًا، لكن غضب القائد هذا لا تراه إلا حينما يخطأ أحدهم في شيء كبير ”
” جيد إذن أنني لم التق به في هذه الحالة ”
نظر له دانيار يقول بجدية :
” أنت أخبرني ما الذي فعلته مع تلك اللصة؟!”
على الغضب ملامح تميم الذي تذكر كلمات برلنت له يقول بغضب شديد :
” آه بالله عليك لا تذكرني بتلك الفتاة، إنها حتمًا أكثر لصة وقحة قد يراها الشخص يومًا ”
ابتسم دانيار يفرك عيونه وكأنه للتو تلقى حقنة رمال داخلها، يشعر بالغضب يتلبس كامل أنحاء جسده، تحسس دون شعور السيف الذي يضعه في غمده يقول بصوت قاسي غاضب :
” نعم وقحة وبشدة ”
وعند سالار ..
ذهب للساحة يبحث عنها في المكان والذي كان فارغًا تمامًا، ليشعر باليأس يكاد يدب في صدره، وقد بدأ يصدق حقًا أن تلك التي تحدثت عنها شقيقة مرجان هي نفسها الملكة .
شعر بالاحباط وهو يفكر في الذهاب واخبار الملك بالأمر، تحرك يتنفس بصوت مرتفع وهو يفرك وجهه ويبعد خصلاته التي تدلت على وجهه بسبب الركض كثيرًا.
كاد يؤمن الآن أن فشله الاول سيُكتب جوار اسمها، ستكون هي السبب الوحيد الذي يزين دفتره الابيض بنقطة سوداء، وهذه النقطة سيكون اسمها ( تبارك )
هو فقط يأمل ألا يكون شيء قد أصابها، أو تكون تعرضت لـ..
” واوا ؟؟”
لا ليس واوا بل تعرضت لخطر و…مهلًا ما معنى ” واوا ” تلك ومن أين جاء ذلك الصوت الذي يكاد يجزم أنه يعلم صاحبته، ويتمنى، فقط يتمنى ألا تكون هي من تصدر تلك الكلمات الاعجمية التي لا يعلم عنها المعجم العربي أو الفارسي شيئًا، فقط لنأمل أن تكون الآن مضجرة في دمها أو تعاني إصابة قاتلة هي من منعتها الذهاب للمكتبة، أو ربما تكون تلك المرأة قد إصابتها بجروح صعبة الشفاء، هذا لسلامة قلبه وسلامة جسدها فقط .
لكن كل آماله ذهبت أدراج الرياح وهو يراها تجلس في الحديقة أسفل شجرة وحولها العديد من الأطفال تتحدث لهم بكلمات يصعب فهمها عليه هو، لا عليهم .
اقترب خطوات بطيئة منهم وهو يردد بصوت خافت :
” ليتكِ رحلتي وانتهيت منكِ، أيتها المزعجة ”
بينما تبارك والتي كانت تجمع حولها أبناء العاملين حينما أبصرت أحدهم مصابًا بجرح في ركبته أثناء ذهابها للمكتبة، لتجلس معهم وتعالجه وتندمج في اللعب بينهم وتنسى ما كان من المفترض فعله.
وكأنها واخيرًا وجدت نفسها في مكان هادئ لطيف بين أشخاص في غاية النقاء .
راقبها سالار باهتمام شديد وهي تلقي تعاويذها على الأطفال الصغار بكلمات غامضة لا يعلمها سوى المشعوذين أمثالها :
” سوسة ..سوسة سوسة ..سوسة كف عروسة، سوسة واللي يسقف ..يستاهل مني بوسة ”
ومن ثم وبعدما فرغت من إلقاء تلك التعاويذ المجهولة، انقضت على الأطفال في محاولة لتناولهم من وجنتهم، وسالار يتابع كل ذلك بانتباه كبير متسع الأعين، ولم يكد يتدخل لينقذ الاطفال من تلك الساحرة الضاحكة، حتى سمع صوت ضحكات صاخبة تخرج من الجميع ومن بينهم تبارك التي كانت بينهم كالطفلة .
ابتسم دون وعي يقول :
” أظن أن هذه الفئة الوحيدة التي تستطيع ملكتنا حكمها، الاطفال ”
زفر يقترب منهم بخطوات قوية وهو يخفي سيفه كي لا يرهب الاطفال :
” مولاتي ..”
رفعت تبارك عيونها بسرعة صوب سالار لتنتبه أنه يشرف عليهم بنظراته الغاضبة، حسنًا هذا ليس جيدًا، ابتلعت ريقها وقد تذكرت فجأة أنها تخلفت عن الذهاب للمكتبة، لكن ذلك الأمر السخيف لا يستحق كل هذا الغضب الذي يعلو وجه سالار في هذه اللحظة صحيح ؟!
ابتسمت له بسخافة ترفع يدها ترحب به :
” اهلًا…تـ…تحب تقعد معانا ؟؟”
رفع سالار حاجبه لتقول ببسمة غبية :
” احنا بنغني و…”
” تحركي معي مولاتي رجاءً ”
شعرت تبارك أنه يدعوها لموعد إعدامها الآن، لتهز رأسها رافضة وهي تجذب أحد الأطفال لاحضانها وكأنها تحتمي خلفه من سالار :
” لا لا، أنا … أنا لسه …لسه بلعب مع صحابي ”
ابتسم لها سالار بسمة مخيفة يعيد نفس جملته السابقة :
” تحركي معي مولاتي رجاءً”
ابتلعت ريقها وهي تبعد الصبي عنها تنهض من مكانها تحاول نفض ثيابها وهي تبرر له ما حدث :
” أنا هفهمك اصل وانا رايحة المكتبة فجأة ….فجأة لقيت منذر بيعيط، الولد المسكين وقع وهو بيلعب مع صحابه، وانا ….أنا عشان واجبي كممرضة وانسانة بحس قولت لازم ااا”
رفع سالار يده لتتراجع للخلف كعادتها مطلقة صرخة مرتفعة وهو فقط رفع يده ليشير لها أن تتحرك خلفه مبتسمًا بسمة جانبية :
” من بعد مولاتي ”
تنفست تبارك بصوت مرتفع تضم يديها لصدرها بريبة منه، ثم هزت رأسها تتحرك بسرعة أمامه وهي تحاول أن تزيد من خطواتها لتهرب منه، لكنه كان يلحق بها بخطوات قوية .
دخلت القصر وهو يسير خلفها بقوة وملامح جامدة وقد ابصرهم الجنود ليتنفسوا الصعداء أن القائد انقذ الملكة واحضرها، معتقدين أنها كانت في خطر محدق .
كانت تبارك تسير في الممرات وهي ترى نظراته الجميع لها تتعجب كل ذلك، هل طالت غيبتها لهذه الدرجة ؟! هي فقط تأخرت قليلًا .
فجأة وجدت نفسها أمام الجناح الخاص بها لتستدير متعجبة صوب سالار تسأله :
” احنا مش هنروح المكـ ”
قاطع كل ذلك يمد يده ليفتح باب الجناح الخاص بها يقول بملامح جامدة وصوت ثابت لا مشاعر به :
” تفضلي لترتاحي مولاتي ”
نظرت له تبارك ثواني وكادت تتحدث، لكنه قاطعها بصوت أكثر حدة رغم أن ملامحها لم تتغير :
” تفضلي مولاتي ”
ابتلعت تبارك ريقها تتحرك صوب الغرفة الخاصة بها تهز رأسها بهدوء وبمجرد أن دخلت سمعت صوت غلق الباب بقوة لدرجة انتفاضة جسدها ومن ثم سمعت صوت سالار من الخارج يقول بقوة :
” إياكم أن تغيب عن أعينكم ثانية واحدة، وإلا لن أجد أمامي سواكم لمعاقبتكم إن أصاب الملكة سوء ”
التوى ثغر تبارك بقوة معترضة على كل ذلك، مهلًا هل هي صغيرة ليضع من يراقبها ؟! حتى الملك لا يراقبها بهذا الشكل و…مهلًا مهلًا، الملك لا يعاملها من الأساس بهذه الطريقة الغبية والصارمة، من هذا السالار ليصدر أوامره لها ؟؟
وعند هذه النقطة اشتعل صدر تبارك لتتحرك بسرعة صوب الباب وقد شحنت نفسها بالغضب في لحظات نادرة، فتحت الباب بقوة تصرخ :
” من أنت لـتصدر أوامر تسير عليّ ؟؟”
لكن سالار والذي كان قد أنهى حديثه مع الجنود نظر لها نظرة صغيرة، ثم هز رأسه باحترام شديد.
وغادر بكل بساطة وهي تقف مكانها بصدمة :
” ايه دي ؟! يعني ايه الهزة دي ؟؟ أنت بتهددني ولا ايه ؟! لا بقولك ايه مش عليا ؟! مش عشان سكت على معاملة العبيد دي هتسوقوا فيها و…”
كانت تتحدث وهي تتحرك خارج الجناح بغضب شديد لا تدرك من هذا الذي أعطى لنفسه صلاحية التحكم بها وهي من كانت تعيش حرة طليقة، لكن فجأة وجدت الحراس يتحركون خلفها لتتوقف وتنظر لهم بغيظ شديد، ثم عادت إدراجها بسرعة تغلق الباب بقوة خلفها وصوت زفراتها يعلو في الإرجاء.
___________________
تجلس في مكتبة العريف باكية بخوف مما رأت وما حدث وجوارها مرجان يضمها لصدره بحنان شديد وهو يربت أعلى ظهرها ملاطفًا لها :
” هيا ليلا، توقفي عن البكاء عزيزتي، فهو لا يليق بجميلة مثلك ”
نظرت له ليلا تقول بخوف شديد :
” لقد كانت تقتلها أمام عيوني مرجان، وأنا كنت جبانة بالقدر الكافي كي لا استطيع إنقاذها
” لا حبيبتي أنتِ لستِ بالجبانة أبدًا ليلو الجميلة، أنتِ اقوى امرأة في هذا العالم، يكفي أنكِ لم تتواري خيفة، بل ركضتي لتحضري المساعدة ”
نظرت له ليلا بأعين دامعة وخوف شديد :
” نعم، لكننا لم نعلم بعد مصير تلك الفتاة المسكينة، وإن كانت تلك الشريرة قد تخلصت منها أم لا ”
ربت مرجان أعلى رأسها يقول بهدوء شديد وتعقل :
” لا تقلقي حبيبتي الله معها، وانا متأكد انها بخير ”
هزت رأسها وهي تضم شقيقها أكثر بحب شديد، بينما العريف يجلس أمامهم وهو يقرأ في كتابه يرمقهم من خلفه بحنق شديد، ثم اعتدل في جلسته يقول :
” أنتِ ايتها الشابة تعلمين جيدًا أنني أكره أصوات بكاء النساء خاصة داخل جدران مكتبتي، لذلك إما أن تتوقفي عن البكاء أو اطردك أنتِ وشقيقك للخارج و….”
توقف فجأة عن الحديث حين رأى مهيار يتقدم منهم بهدوء ملقيًا السلام عليهم قائلًا :
” ارسلت لي أيها العريف ؟!”
ابتسم العريف بسمة واسعة خبيثة :
” أوه مهيار العزيز، نعم لقد ارسلت لك كي ترى تلك الفتاة البكاءة فهي منذ دقائق قليلة فقط كانت قد اغشي عليها، لكن لا بأس ها هي أضحت كالقردة ”
استدار مهيار بعدم فهم متحدثًا :
” فتاة ؟! لماذا لم ترسل للطبيبة إذن و…”
فجأة توقف بصدمة حينما أبصر تلك الفتاة البكاءة وهي تسكن احضان مرجان، هتف بصدمة كبيرة لرؤيتها بهذا الانهيار :
” آنسة ليلا ؟!”
رفعت ليلا عيونها لمهيار لا تود رؤيته في هذه اللحظة تحاول أن تتحدث بصوت منخفض :
” مرحبًا سيدي الطبيب ”
اعتدلت بين ذراعي مرجان الذي لم يحررها لحظة واحدة وهو ينظر بتحفز لمهيار الذي جعل شقيقته ترتجف بين ذراعيه .
تحرك مهيار صوبها بهدوء شديد ودون أن يشعر جلس القرفصاء جوار مقعدها على بعد معين وهو يقول بهدوء شديد وخوف :
” ما بكِ ليلا ؟! ما سبب بكائك ؟؟”
نظرت له ليلا بصدمة وهي تراه يرمقها بأكثر النظرات حنانًا في العالم، بل وكأنها العالم، أو هكذا تمنت هي في هذه اللحظة، ابتسمت دون شعور ليبتسم هو لها بلطف يردد كلماته بخوف واضح :
” أنتِ بخير ليلا ؟!”
وفي تلك اللحظة تمنت ليلا لو تخبره أنها ليست بخير، إن كانت سترى نظرات الخوف والحنان تلك في عيونه فهي على استعداد ألا تكون، بالله هي بائسة من هذا الحب لهذه الدرجة .
” تريدين مني إحضار الطبيبة لفحصك ؟؟ أو اصنع لكِ مشروبًا مهدئًا ؟؟”
جذبها له مرجان يقول بهدوء وقد شعر بالغيرة الشديدة على شقيقته التي يعلم مقدار حبها لذلك الرجل، ومن غيره يعلم ذلك هو والعريف الذي يشهد نقاشاتهما الطويلة حوله :
” لا شيء سيد مهيار هي فقط تشعر بالتعب وسوف أذهب معها للمنزل، لا تقلق هي بخير حال لتقلق عليها بهذا الشكل ”
نظرت ليلا لمرجان بتعجب، ثم نظرت لمهيار الذي استوعب فجأة ما يفعل، نهض عن الأرض يعدل وضعية سترته البنية، ثم نظر لها بهدوء يقول بجدية كبيرة محتفظًا ببسمته :
” نعم، اعتذر أنا فقط خشيت أن يكون سوء قد أصابها”
ابتسم له مرجان بشكل مستفز جعل ليلا تتدخل قائلة :
” أنا بخير سيدي الطبيب لا تقلق ”
ولم تكد تتحرك سنتيمترًا واحدًا بعيدًا عن احضان مرجان، حتى جذبها الاخير له يقول بغيظ :
” نعم سيدي الطبيب هي بخير ”
رفع مهيار حاجبه يبتسم بسخرية :
” أرى ذلك مرجان، لكن ترى ما سبب امساكك لها بهذه الطريقة هل تخشى أن تطير بعيدًا عنك ؟!”
اتسعت عيون ليلا تبتعد عن يد مرجان بسرعة بينما مرجان التوى ثغره حانقًا لا يريد أن يقترب مهيار من شقيقته، يكفي أن الأخيرة حمقاء بالقدر الكافي لتذوب بكلمة واحدة منه .
” لا أنا فقط أخشى أن تسقط ارضًا إن تركتها ”
ختم حديثه يجذب له ليلا مجددًا يضمها له بقوة معاندًة إياها، بينما ليلا نظرت له بغيظ شديد لينظر هو لها بغيظ اكبر يقول بصوت مرتفع :
” ماذا ؟!”
” مرجان أيها السخيف دعني ”
همس لها مرجان بصوت منخفض معاند :
” لا لن أفعل، سوف اقيدك بهذا الشكل كي اتحكم في تلك القلوب التي تتطاير صوب هذا الرجل يا حمقاء ”
أجابته ليلا وهي تضرب قدمه في الاسفل بقوة :
” دعها تتطاير صوبه بدلًا أن تتطاير صوبك أنت وتصطدم في وجهك مصيبة إياك بالعمى أيها الأحمق ”
صرخ مرجان بصوت متألم يحاول أن يتحمل وجع قدمه دون أن يفك يديه عنها :
” ابدًا لن افعل ايتها الغبية، الرجل لا يراكِ، أين كرامتك يا بلهاء ؟!”
شعرت ليلا بالغضب يشتد داخل صدرها وهي تناظر مرجان بعصبية ترتفع على اطراف قدمها، ثم عادت برأسها للخلف ودون مقدمات اندفعت بها صوب خاصة مرجان متسببة في ارتجاج لهما هما الاثنين وصوت صرخات الاثنين يعلو في المكان .
تركها مرجان يصرخ وهو يضع يده أعلى رأسه :
” أيتها الغبية كل هذا لأنني اساعدك لإنقاذ كرامتك ”
كانت ليلا كذلك تضع يدها بوجع أعلى رأسها صارخة :
” يا الله أشعر أن عقلي تحرك من مكانه ”
كان مهيار يراقب كل ذلك بأعين مرتابة يضع يده أعلى فمه يشاهد ما يحدث أمامه، يشعر أنه يقف أمام طفلين، وكلما أصاب ليلا شيئًا انتفض جسده انتفاضة غير ملحوظة وهو يتحرك صوبها ليرى أنها ردت الضربة له بالمثل، فيعود مكانه يراقبها بأعين خائفة بعض الشيء .
بينما العريف يراقب ما يحدث بغيظ وتشنج :
” أيها الاحمقين، كلما حاولت التقريب بينهما، افسدتما الأمر ، أنا محاط بالعديد من الاغبياء هنا، لقد ارسلت للرجل خصيصًا كي أتخلص منهما و…”
توقف العريف حين أدرك نظرات مهيار المصدومة له ليبتسم بسمة صغيرة وهو يقول :
” حسنًا، ربما تحتاج للذهاب الآن بني، كي لا نعطلك كثيرًا بمشاكل هذين الغبيين ”
ارتفع حاجب مهيار وهو يحرك عيونه صوب مرجان وليلا اللذين كانا يمسكنا ببعضها البعض وكلٌ منهما يهدد الآخر بتركه اولًا قبل أن يتركه هو، نعم الآن تأكد أنهما شقيقان .
” إذن آنسة ليلا تبدين بخير حال، لذلك استأذنك بالرحيل ”
اعتدلت ليلا بسرعة كبيرة تنظر له بلهفة وهي تقول :
” ماذا ؟؟ نعم نعم أنا بخير حال وهذا ما حدث كان فقط مجرد مزاح و …”
فجأة شعرت بضربة من مرجان الذي قال بغيظ شديد :
” توقفي عن التحدث بهذه الرقة معه، هكذا سيطمع بكِ ”
نظرت له ليلا بشر تصرخ بجنون أن أفسد لقاءها مع الطبيب تنقض عليه دون تفكير :
” سأقتلك يا رأس الكتاب أنت”
وفي ثواني كانت تجذب شعره بجنون وهو يصرخ محاولًا أبعادها عنه مبررًا كل ذلك :
” أنا أفعل هذا لمصلحتك ايتها الناكرة للجميل ”
نظر لهما مهيار ثواني قبل أن يتنهد بصوت مرتفع راحلًا من المكان تاركًا العريف يكاد يصاب بالقلب مما يحدث بين هذين الغبيين .
” ليخلصني الله منكم اجمعين ”
_____________________
تسير في الممرات مع زمرد متحركة صوب السجن لزيارة برلنت بعدما علمت ما فعلته زمرد في تلك الفتاة التي اتهمت برلنت بالسرقة .
زفرت زمرد بحنق شديد :
” ماذا، لا تنظري لي بهذا الشكل، هي حية اقسم لكِ ”
صرخت بها كهرمان بصوت مرتفع سرعان ما تداركته حين لاحظت وجود الكثير حولها :
” كدتي تخنقين الفتاة ؟! يا امرأة ما به عقلك ؟! لقد …لقد شاهدتك إحدى الفتيات ماذا لو ابلغتهم بصفاتك ؟!”
نفخت زمرد بعدم اهتمام :
” لن افعل فقد كانت الإضاءة خافتة في الممرات القريبة من مكتبة ذلك العجوز، ثم أنا لم انزع لثامي ”
صمتت تتذكر تلك اللحظات التي أمسكت بها الفتاة بالقرب من المكتبة لتهددها، لكن الفتاة لم تصمت وهي تزيد من استفزاز زمرد التي جن جنونها ومدت يدها لتخنقها كتهديد لها فقط، لكن فجأة سمعت صوت صراخ فتاة تستنجد بالجميع أن هناك قاتلة حقيرة في القصر .
نعم هي القاتلة الحقيرة .
كانت تفكر زمرد وهناك بسمة واسعة ترتسم على وجهها، هي ليست مجرمة مختلة أو تحب القتل والعياذ بالله، لكنها فقط تكره، بل تمقت أن يتحداها أحدهم أو يستفزها، وربما هذا سبب كل مشاكلها مع قائد الرماة، أنه يتحداها ويستفزها، ذلك الوسيم .
فجأة شعرت زمرد بتوقف جسد كهرمان مثير للريبة، نظرت جوارها بتعجب وهي تقول :
” ما بكِ ؟؟ تحـ ”
وقبل أن تكمل كلماتها انتفضت كهرمان من جوارها بشكل مرعب وهي تركض في الممرات صارخة بصوت ملهوف كالتائه في الصحراء الذي أبصر بئر مياه :
” يا عم …يا عم …يا عم ”
كانت تركض بجنون وهي تبصر في نهاية الممر أمام قاعة العرش رجلًا تعرفت عليه بلمحة واحدة، العم محمد الذي كان يخطب في مسجد العاصمة في مشكى، نعم هو بالله هو، لا يمكن أن تخطأه ولو بعد سنوات فهو كان مقرب من شقيقها وهو …هو من حفظهما القرآن في طفولتهما .
نست كهرمان أين هي وماذا تفعل وأنها هنا خادمة، وأنها في نظر الجميع ميتة، فقط رأت أحد يحمل رائحة وطنها، شخص يحمل ملامح أبناء بلادها، سقطت دموعها بقوة وهي تركض بلهفة شديد :
” يا عم انتظر، يا عم هذه أنا..أنا هي الامـ ”
وقبل أن تكمل كلماتها شعرت بمن يدفعها بشيء صلب بسرعة لممر جانبي مانعًا إياها من الحديث، قبل أن تنطق بكلمة، وعلى بعد صغير منهم كانت زمرد تتابع كل ذلك بصدمة، صديقتها ركضت كالمجنونة بين الممرات تنادي لشخص لا تعرفه هي، ثم فجأة دفعها القائد سالار لممر جانبي بسيفه .
انتفضت تركض بسرعة صوب ذلك الممر تتحسس خنجرها، خنجر تعلم أنه لن يساعدها إن قررت الهجوم على القائد إن قرر أذية رفيقتها …
لكن حينما اقتربت من الممر رأت جسد كهرمان منهارًا ارضًا والقائد يقف أمامها بجمود وكأن لا شيء يحدث حوله قد يثير تعاطفه .
” توقفي عن البكاء، ما كان أرسلان ليفتخر أنه يمتلك شقيقه ضعيفة مثلك ”
رفعت كهرمان عيونها له تشعر بالانهيار والقهر، الذل يقتلها، بعدما كانت أميرة بلاد، أضحت خادمة في قصر آخر..
” أردت أن أعلم منه ما حدث، ارجوك، أنا ارجوك يا قائد إن كان شقيقي يمتلك لديك ولو ذرة صداقة صغيرة دعني أرى العم محمد، اريد الحديث معه، اريد معرفة سبب وجوده هنا، أن اطمئن على بلادي، أتوسل إليك ”
كان هذا كثيرًا عليها، أن تتوسل أحدهم لهو أمر ظنته يومًا محال، لكن لأجل وطنها ستفعل وستفعل أكثر.
تنهد سالار وشعر بالشفقة عليها وعلى ما وصل له حالها، وازدادت نيرانه نيرانًا وأقسم في نفسه أن يعيد لها مكانتها كأميرة لمشكى ويعيد لها وطنها وهذا أقل ما يقدمه لصديقه الحبيب .
” انهضي سأساعدك لمعرفة ما جاء لأجله ”
رفعت كهرمان رأسها لها بصدمة ليتحرك هو بهدوء شديد خارج ذلك الممر، لكنه وجد جسد يقف في مقدمته يناظره بفضول كبير، رفع عيونه لزمرد التي عادت للخلف بصدمة من نظراته تتلاشى التحديق بعيونه وهي تتحرك لتساعد كهرمان .
وهو سار صوب القاعة ليقابل أثناء ذلك الملكة والتي كانت تتجه حيث يتجه هو حسب أوامر الملك لها .
توقفت تبارك ترمقه بغيظ شديد وغضب وقبل أن تتحدث بكلمة واحدة توقفت متعجبة خروج فتاتين من الممر الذي خرج منه للتو، واحدة منهما منهار بشكل مثير للشك، رفعت تبارك عيونها له ليتنفس هو رامقًا إياها بنظرة غامضة، ثم هز رأسه في تحية صغيرة للملكة، وبعدها تحرك مشيرًا بعيونه للفتاتين..
وتبارك ما تزال تقف مكانها تجهل ما يحدث، لكنها رغم ذلك حاولت تجاهل الأمر تتقدم صوب القاعة بكل هدوء لتبصر الملك يجلس على مقعد غير عرشه وقد تخلى عنه هذه المرة يشير لها بالجلوس جواره وقد قرر أن يشركها في كافة أمور المملكة كتحضير لها .
بينما سالار ادخل كهرمان وزمرد لغرفة جانبية بها نافذة تطل على القاعة بكل وضوح، ثم تركهما وتحرك هو الآخر صوب القاعة، يقابل دانيار وتميم اللذين نهضا بمجرد رؤيته ليشير لهما بالجلوس، وبعدها جلس هو يسمع صوت إيفان يتحدث بصوت هادئ مبتسم :
” ارتح يا عم رجاءً، أجلس ”
نظر له العم محمد وهو يستند على عكازه وقد كان جسده يرتجف بقوة ليس ضعفًا أو بسبب عمره، بل كان يرتجف قهرًا وحسرة، وكأن جميع اهوال الحياة تجمعت الآن لتستقر أعلى أكتافه.
” ما جئت لارتاح أنا مولاي، بل جئت لاطلب منك راحة لمشكى وشعبها ”
نظر له إيفان بهدوء وقد شعرت تبارك فجأة بقلبها ينتفض هذه هي نفسها المملكة التي تحدث عنها الملك سابقًا .
ابتلعت ريقها وهي تسمع صوته يقطر وجعًا :
” أدرك مشكى يا مولاي، أدرك شعبها، والله الذي لا إله إلا هو لو أن جميع السبل لم تنغلق في وجوهنا، ولو أننا لم نحاول بكامل جهدنا أن نقاوم، ما جئتك وتوسلتك أن تساعدنا، لكن فاض بنا الكيل، ما يئسنا حاشا لله، لكننا نطلب منكم العون، أدرك شعب تجرع ظلمًا حتى فاضت كؤوسه ”
كانت كهرمان في تلك اللحظة تراقب ما يحدث بملامح معذبة وهي تشعر بنفس القهر في صوت الشيخ، وكيف لا والمصاب واحد والوجع واحد، سقطت دموعها بقوة تشعر بقلبها يكاد يتوقف وجعًا.
تنفس الشيخ بصوت مرتفع وقد تهدمت كامل جدران تماسكه وسقطت دموعه تحكي قصة معاناة شعب ذنبه الوحيد أنه وقع ضحية مؤامرات بعض الخنازير، شعب طُحن أسفل اقدام الحروب، وحطمت ويلات الحرب أحلامه بمستقبل مشرق .
تهدج صوت الشيخ يقص عليه ما يعانيه شعبه باكيًا بصوت موجوع :
” لقد منعوا الطعام عنا، منعوا عنا كل اساسيات الحياة، لكن والله لم نيأس ولم نبتأس بل صبرنا ولم نقل سوى الحمدلله، لكن يا مولاي قتلونا، قتلوا الصغار الكبار، اضحوا يستخدمون شعب مشكى كأهداف لقنابلهم، يتلاعبون بحياتنا ”
عند هذه النقطة تقهقرت كهرمان تسقط ارضًا وهي تدفن وجهها بين كفيها تكتم صوت صرخاتها المقهورة، بينما زمرد جوارها تشعر بالوجع، والخزي، الخزي أنها واحدة منهم، واحدة من هؤلاء الوحوش حتى وإن كرهت هذه الحقيقة ونفرتها، لن تنكر أن دماءهم تسير بين أوردتها، حقيقة اشعرتها بالكره لذاتها، سقطت دموعها بقوة .
وسالار كانت عيونه حمراء بشكل مخيف، شكل حكى اهوال، يتنفس بشكل ملحوظ، صوت تنفسه عالي بشكل واضح ..
ودانيار جواره يراقب الشيخ واضعًا يده أعلى فمه يكتم صرخة غاضبة، بينما تميم في هذه اللحظة كان يعلم، يعلم أن قنابله هي التي يُقتل بها إخوته، استخدموها لغير هدفها، استخدموا أسلحتهم ضدهم ..
اصوات بكاء الشيخ …
صوت تنفس سالار ..
وضربات تميم على الطاولة دون شعور ..
اصوات كثيرة يمكن سماعها لكن أكثر ما يمكنك سماعه في هذه الغرفة كان صوت بكاء تبارك المنهارة وهي تسمع ما يحدث وقد تداخل صوت الشيخ مع اصوات أخرى، اصوات لازمت أذنها ليالي طويلة، اصوات صرخات وبكاء وانفجارات، كل ذلك تداخل ليصنع لها سيمفونية عذاب خالصة .
بعدما انتهى الشيخ من الحديث شعر بالضعف يتمكن منه وكأنه للتو استوعب عمره الكبير وعدم قدرته على التحمل، تهاوى بقوة بعدما سقط عكازه وكأن الرسالة التي كان يحملها كانت جبلًا يحمله وبمجرد أن أبعده عنه تهاوى بضعف ..
لكن في ثواني كان إيفان هو أول من يلتقط جسده يضمه له يقول بصوت خرج هادئًا في ظاهره مرعبًا في باطنه :
” بسم الله عليك وعلى شعب مشكى يا عم ”
اقترب منه سالار يمسك اليد الأخرى للشيخ وهو يساعده مع إيفان الذي أشار لأحد حراسه بإحضار مقعد، ليجلس الشيخ عليه وهو يرفع يده يمسح دموعه :
” ساعدهم مولاي، لقد فاض بنا، أتوسل إليك ساعدهم ”
جلس إيفان أمامه يقول بصوت منخفض حنون والتوعد يقطر من احرفه :
” أتوصيني بأخوتي يا عم ؟! ”
رفع الشيخ عيونه لإيفان ليبتسم له إيفان يربت على كفه، ثم نظر لسالار يقول بهدوء :
” إذن سالار ما رأيك أن توصل شيخنا لمشكى وتأخذ معك بعض الهدايا لهم ؟؟”
رفع سالار حاجبه ليقول إيفان ببسمة صغيرة يفهمها سالار جيدًا :
” أنت تعلم جيدًا كيف تقنع هؤلاء الحثالة بدخول هديتنا صحيح ؟؟ اعتقد أن لغة الحوار بينك وبينهم جيدة لتدبر الأمور ؟”
اتسعت بسمة سالار بشكل مخيف :
” نعم مولاي، هم لن يعترضوا، وإن فعلوا لا بأس فأنا امتلك طرق كثيرة لإقناعهم ”
صمت ثم قال بصوت صارم :
” دانيار …”
انتفض دانيار بسرعة :
” سيدي .”
” جهز لي الكتيبة الاولى في الجيش وتجهز معهم بوحدة الرماة الاولى لديك ”
هز دانيار رأسه، ثم تحرك بسرعة للخارج وتبقى تميم الذي قال له سالار بصوت يقطر جحيمًا :
” وأنت تميم جهز لي اسلحتك، سنذيقهم طعم القنابل من أيدينا، ونريهم شعور أن يلقيك أحدهم بقنبلة فوق رأسك”
ابتسم تميم بسمة واسعة تبدو للرائي سعيدة، لكنها في باطنها كانت غاضبة، هز رأسه يخرج من المكان ..
بينما كهرمان تراقب كل ذلك بأعين ملتمعة وهي تشكرهم، حتى وإن لم يصل لهم شكرها، لكنها تشكرهم، نظرت صوب الملك الذي كان شاردًا بشكل غريب، لكنها فقط ابتسمت تقول بصوت خافت وهي تميل برأسها وكأنه يراها مغمضة عيونها لتسقط بعض الدموع منها ممتنة ولا تنكر ذلك :
” اشكرك …مولاي ”
____________________________
خرجت كهرمان بعد ساعة من الغرفة التي ادخلها بها سالار وهي تشعر بقلبها مُثقل بمشاعر عديدة، مشاعر مختلطة غريبة، تشعر بالاختناق .
وخلفها زمرد تسير بخطوات متباطئة بعض الشيء عنها، تتنفس بصوت منخفض وكأن أنفاسها تأبى الخروج، هل عليها العيش في لعنة المنبوذين للأبد ؟؟ أسيطاردها ذلك الهاجس طوال الحياة ؟؟
فجأة انتبهت لتوقف كهرمان حين توقف القائد أمامها لترفع عيونها لهم وتشعر أنه يود الانفراد بها، لتسير في هدوء شديد بعيدًا عنهم دون حتى أن تتحدث بكلمة واحدة، ستذهب لتفقد برلنت والاطمئنان عليها .
قال سالار بهدوء شديد لكهرمان :
” الشيخ مُحمد سيغادر غدًا رفقتي، أي أنه سيبيت ليلته في ضيافة الملك هنا، لذلك أردت تحذير من محاولة التحدث معه ”
رفعت كهرمان عيونها بسرعة له ليوضح سالار كلماته بهدوء شديد :
” ليس من مصلحتك أن يعلم أحدهم أنك حية، فلن يرحمك بافل أو رجاله ”
” لكن العم ….”
” أعلم أن العم لن يخبر أحد، لكن لنفترض أنه بالخطأ علم الجميع ؟؟ نحن لن نعيش على الافتراضات، في هذه الحياة لا يمكننا الاعتماد سوى على أنفسنا، ولا نثق سوى بأنفسنا بعد الله عز وجل ”
هزت كهرمان رأسها ليتحرك سالار من أمامها دون كلمة واحدة، لكنه فجأة توقف يقول :
” ولا تحزني، كل هذا اختبار لمشكى واهلها، ثقي بشعبك وإيمانهم، لو أنهم ليسوا قادرين على تخطي هذا البلاء ما اختبرهم الله به( لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها ) ملكة كهرمان ”
ختم حديثه يتحرك من أمامها، تاركًا إياها ترمق أثره بصدمة، هي ملكة ؟! مهلًا هي ملكة بالفعل، الآن لم يعد من الأسرة الحاكمة سواها، وكم اوجعتها تلك الحقيقة، وضعت يدها أعلى صدرها ترثي والدتها وشقيقها بقهر :
” رحمة الله عليكما، ستعود مشكى واحتفظ بذكراكم فيها”
ومن بعد هذه الكلمات شعرت بالاختناق لتقرر التحرك والخروج من هذا المكان ودون أن تشعر قادتها قدمها صوب البحيرة جوار الحظيرة تستند على الشجرة التي كان يقف جوارها الوقح ذلك اليوم، تنفست بصوت مرتفع تمنح نفسها راحة مؤقتة من كل تلك الصراعات ..
________________
” كيف جئتي هنا يا فتاة ؟؟”
” بكيت للحارس في الخارج وأخبرته أن والدتنا امرأة عجوز مريضة تريد الاطمئنان على طفلتها التي سرقت خاتم صانع الأسلحة لأجل علاجها ”
شهقت برلنت تتمسك في القضبان وهي تقول بحنق :
“يا حمقاء أنتِ هكذا تثبتين التهمة عليّ ”
” نعم، لكنني استطعت مقابل ذلك الدخول لكِ ”
رمقتها برلنت بشر لتطلق زمرد ضحكات صاخبة وهي تخرج من جيب فستانها ثمرة فاكهة تلقيها لها من بين القضبان :
” امسكي يا ابنتي احضرت لكِ هذه، لا داعي للشكر ”
أمسكت برلنت ثمرة الفاكهة تمسحها في ثيابها، ثم قضمتها بغيظ شديد تردد :
” لم أكن سأشكرك فأنتِ لم تحضري لي وليمة في النهاية، والآن أخبريني كيف ستخرجيني من هنا ؟؟”
رمقتها زمرد قليلًا وكأنها تفكر، ثم هزت كتفها صعودًا وهبوطًا :
” لا ادري حقًا، لكنني كنت سأقتل الفتاة لاجلك ”
ابتلعت برلنت ما تأكل بسعادة وهي تلتصق بالقضبان مرددة :
” حقًا ؟! ستفعلين لأجلي ؟؟”
” لا ليس تمامًا، كنت اتحدث معها بكل هدوء، لكنها استفزتني بشكل جعلني أخرج عن طور هدوئي فكدت اقتلها، لكن حمدًا لله انقذتها فتاة من يدي ”
” يعني لم تفعلي ؟؟
كان الإحباط وخيبة الامل واضحين في صوت برلنت بعدما عادت تكمل أكل الثمرة، وزمرد رفعت حاجبها بحنق :
” أنتِ تريدين مني أن اقتلها لآتي واجلس جوارك في هذا السجن ؟؟ ”
نفت برلنت بسرعة وهي تقول تنتهي من آخر قضمة في الثمرة :
” لا لن تأتي جواري هنا، فهذه سجون الجرائم البسيطة كسرقة خاتم أو عصيان أوامر، أما القتل فله سجون أخرى حيث سيقودونك لتعدمي ”
كانت برلنت تتحدث ببساطة شديدة وهي تحدق بملامح زمرد عن قرب، لكن فجأة أطلقت صرخة مرتفعة وهي تعود للخلف ترى زمرد تمد يدها من بين القضبان صارخة بجنون :
” أنتِ أيتها الـ .. تريدين مني أن أُعدم، تبًا لمن يساعدك، سأتركِ لتتعفنين بسبب ذلك الغبي الذي تحبينه ”
اشتدت ملامح برلنت برفض لكلماتها الأخيرة :
” إياكِ زمرد، إياكِ أن تتحدثي بالسوء عن تميم سمعتي ؟!”
” هذا التميم هو من سجنك هنا”
ابتسمت لها برلنت تقول بهدوء وبساطة كبيرة :
” لا بأس سأسامحه لأنني احبه ”
وفجأة صرخت مجددًا تتراجع عن القضبان تراقب وجه زمرد التي التصقت بالقضبان وهي تكاد تدخل وجهها من بينهم، تقول بهسيس مرعب :
” أنتِ يا امرأة لا كرامة لكِ، الرجل ابعدك عنه قديمًا بعدما هددك، والآن سجنك بعدما هددك مجددًا، وأنتِ لا كرامة لكِ ها ؟؟ لم يتبق سوى أن يعلقكِ من خصلات شعرك ويجلدك ”
تشنجت برلنت لكل ذلك الهجوم على تميم وهي المخطأة قديمًا وتميم كان من الصبر والكرم كي لا يقتلها بسبب ما فعلت به، والآن…حسنًا هو يظنها سرقته :
” هو برئ ولطيف حبيب قلبي لا يخطأ، بل هو أكثر الرجال لطفًا ”
مدت زمرد يدها من القضبان وهي تحاول الإمساك بها صارخة :
” أنتِ …تعالي هنا سأقتلكِ ”
في تلك اللحظة دخل الحارس كي يخبرهم أن وقت الزيارة انتهى، لتسارع برلنت وتقول بخوف :
” نعم أخرجها من هنا يا سيد، ولا تدع تلك المتوحشة تدخل لي مجددًا ”
نظرت لها زمرد بشر وهي تردد ممسكة القضبان بتهديد :
” سأخرجكِ من هنا برلنت، سأفعل ليس لأجلك، بل لتأديبك”
ختمت حديثها تخرج من المكان بغيظ شديد وهي تنفخ بصوت مرتفع، بينما برلنت راقبتها تطلق ضحكات صاخبة عليها :
” حسنًا لا بأس طالما أنكِ ستخرجيني في النهاية ”
______________________
كانت تتحرك صوب الحجرة الخاصة به، تعلم أن هذا خطأ كبير، عليها ألا تقترب منه وأن تتلاشى التواجد جواره، على الأقل لتنقذ حياتها، لكن هي لا تستطيع النوم كلمة تذكرت كلمات ذلك الشيخ، مسحت دموعها بيد مرتجفة تتذكر كلماته المقهورة لشعبه، شعب عاش شهر وبضعة أيام في تلك الحالة، بالله ما حال من عاش عقود طويلة بها واسوء ؟!
كانت ستذهب للملك، لكنهم أخبروها أنه مشغول مع الشيخ، فقررت أن تأتي له هو، الرجل الثاني بعد الملك والذي يمتلك كلمات قد تبرد نيرانها .
عند هذه الفكرة توقفت أمام حجرته ترفع يدها لتطرق الباب ودموعها لم تتوقف، لكن لم تكد تفعل حتى وجدت الباب يُفتح بقوة لتتراجع هي للخلف .
صُدم سالار من رؤيتها تقف أمام غرفته بهذه الحالة الـ يُرثى لها :
” مولاتي ؟؟”
رفعت تبارك عيونها له تقول بصوت منخفض :
” آسفة لقدومي في هذا الوقت، لكن أنا فقط …فقط لا استطيع النوم حتى … أنا لا أستطيع ”
توقفت تبتلع غصتها تحت نظرات سالار المتعجبة والذي كان على وشك الصراخ بها ألا تقترب من غرفته، لكن رؤيتها بتلك الهيئة صدمته :
” أنا لا أفهم شيئًا، مولاتي ما الذي تسبب في ازعاجك، هل حدث شيء ما ؟؟ أخبريني إن كان هناك ما يمكنني تقديمه لجلالتك ”
رفعت تبارك عيونها له تحاول الحديث، لكن ودون مقدمات وجدت نفسها تنفجر في بكاء قوي أمامه بشكل جعل أعين سالار تتسع بصدمة وهو ينظر حوله بفزع وكأنه يخبر الهواء في المكان أنه برئ من بكائها ذلك.
وتبارك وضعت يدها على وجهها تقول بصوت مرتفع باكي :
” الراجل اللي جه من مشكى ده، الراجل ده … أنت هتساعدهم صح ؟! هما هيكونوا بخير ؟؟ مش عارفة أنام، مش قادرة أنام صورهم كلهم مش راضية تطلع من عقلي، أصواتهم مستقرة جوا وانا… أنا مش قادرة اتنفس، مش قادرة استريح، هو ليه في كل مكان فيه ظلم كده ”
كان سالار يستمع لحديثها يحاول تجميع كلمات مفهومة منها، لا يفهم سوى أنها حزينة لأجل أهل مشكى، لكن عن اصوات من تتحدث وصور من ؟؟ هل رأت ما يحدث هناك ؟! مستحيل .
وتبارك في تلك اللحظة كانت منهارة تحاول أن تسمع منه كلمة مفادها أنه سيساعدهم، تسمع منه كلمات ولو كاذبة تطمئنها أنه هناك أمل، ستتحرر مشكى ويتحررون هم، سيتحررون جميعًا .
راقبها سالار يتنفس بصوت مرتفع وهو يحاول البحث عن كلمات في رأسه لمواساتها، هيا سالار لا بد أن هناك كلمات داخل عقلك تصلح لمواساة امرأة، أو حتى رجل، هيا ابحث، لكن لا شيء، النتيجة كانت بضع أوامر وتوبيخات لجنوده وبعض الكلمات الحماسية للقتال، لا شيء آخر .
تنهد بصوت مرتفع :
” مولاتي الامـ ”
وقبل أن يكمل كلمته صُدم حينما أبصر جسد تبارك ينحشر في أحد أركان الممر وهي تدفن رأسها بين قدمها تكمل بكاء وهو لا يصدق ما تفعل، نظر حوله بسرعة وصوت بكائها يعلو أكثر وأكثر وهو يشعر أنه تورط وعليه الآن أن يتعامل بهدوء :
” هييه أنا … أنا…ماذا افعل ؟؟ أنا…هيا لا بأس هم أقوياء جميعًا، سيكونون بخير مولاتي، هيا انهضي من هنا، يمكننك البكاء في غرفتك افضل، هيا ”
رفعت تبارك عيونها له تقول بصوت مرتفع باكي :
” مش عارفة أنام، أنت هتساعدهم صح ؟!”
” نعم نعم، اقسم لكِ سأفعل، تريدين مني الذهاب الآن وقتلهم جميعًا وإخراجهم من مشكى ؟؟”
نظرت له تبارك بلهفة :
” تستطيع ؟!”
ابتسم لها بسمة صغيرة على كلمتها البريئة تلك :
” نعم، لكن هيا انهضي من هنا رجاءً سيظن الجميع أنني أنا من ابكيتك ”
نهضت تبارك وهي تنفض ثيابها، ثم مسحت دموعها تنظر لوجهه :
” أنت شخص جيد سيدي القائد ”
شعر سالار بالريبة منها وهو يتراجع للخلف قليلًا :
” شكرًا لكِ مولاتي، والآن غادري المكان رجاءً، لا يمكنك البقاء هنا ”
” وكذلك وقح، أنت حقًا كذلك ”
عض سالار شفاهه بقوة يحاول أن يمرر الحديث معها قبل أن ينتبه لها أحدهم تقف هنا معه وتتحدث بكل تلك الحرية وكأنه رفيق قديم لها.
وهذا ما كانت تراه هي، تبارك تراه رفيق، الشخص الوحيد الذي يساعدها هنا بعد الملك، أو قبل الملك، لا تدري فهي لم تتعرض لمشكلة على مرأى الملك لترى ردة فعله، كما حدث مئات المرات مع سالار الذي لم يتوانى عن مساعدتها ثم توبيخها، تمامًا كالام حين تعثر على صغيرها بعدما ضل عنها، تضمه ثم تصرخ به موبخة، فإن كان يتعجب أنها تتعامل معه كصديق قديم .
فهو في الحقيقة كان كذلك على الأقل بالنسبة لتبارك، كان سالار بمثابة صديق قديم ومرشد لها في هذا القصر وهي تقدر له مساعدته لها رغم كل ما تسببه له من متاعب و…لحظة أوليس سالار هذا هو نفسه من صرخ بها ذلك اليوم أمام قاعة الاجتماعات، وهو نفسه من كان يوبخها في التدريبات ؟؟
نعم ها هي ملامحها تتغير من الراحة للامتنان، ثم الاستنكار واخيرًا الكره والغضب، هي الآن غاضبة، غاضبة وبشدة منه على كل تصرفاته اللئيمة معها .
وسالار ذلك الرجل المسكين الذي لم يكن يدرك كل ما يدور في عقل تلك المرأة أمامه تنهد بصوت مرتفع يخفض رأسه لها مرددًا بهدوء :
” مولاتي اسمعي جيدًا، أنتِ لا تستطيعين إيقاف أي رجل في القصر بهذا الشكل والتحدث معه بهذه البساطة، وبالتأكيد لا يمكنك البكاء بهذا الشكل و…”
قاطع حديثه صوت تبارك التي قالت بغضب:
” أنت واحد لئيم، واحد لئيم ومستفز ”
رفع سالار عيونه لها بصدمة من كلماتها تلك التي ألقتها في وجهه دون مقدمات وبلا سبب، لكن فجأة تلاشت صدمته ليحل محلها الغضب وهو يهمس من أسفل أسنانه:
” ليس لأنني مضطر لاحترامك تسيئين لي ؟؟ سمعتي ؟؟”
ورغم أن صوته كان منخفضًا إلا أنه اخافها وبحق خاصة بنظراته تلك التي تكاد تحرقها حية، عادت للخلف خطوات قليلة :
” لا، عشان أنت اللي على طول بتـ ….ااه”
كانت تتحدث بقوة وهمية تحاول أن تخبره أنها لا تخشاه، لكن حينما رأته يرفع سيفه من غمده أطلقت صرخة مرتعبة وهي تعود للخلف تنظر حولها تتساءل عن الجنود، أين هم عندما تحتاجهم .
حركت عيونها له تقول مدعية القوة :
” أنا لا اخافك سيدي القائد ”
” نعم أخبرتني هذه الكلمات سابقًا قبل أن تنخرطي في بكاء عنيف مرتعبة مني ”
حسنًا هذا لم يكن لطيفًا البتة، تشعر الآن بحاجتها للاختفاء:
” في الأساس هذا خطأي لأنني قررت أن الجأ لك ظنًا أنك شخص ذو مشاعر كالبشر و..”
” لا، لست كذلك ”
” أيوة اخدت بالي، على العموم أنا كنت جاية عشان شيء معين وتم، ودلوقتي اعذرني سيدي القائد مضطرة امشي عشان مشغولة في أمور المملكة ”
ختمت حديثها ترفع طرفي الفستان بقوة لتضربه به في وجهه وهو أطلق سبة من فمه خافتة ضاربًا طرف الفستان يراقبها ترحل بعيدًا عنه وهو ينفخ بغيظ شديد :
” أمور مملكة ؟؟ نعم كدت اصدقك مولاتي ”
تحرك خلفها كي يخرج لجلسته مع رفاقه، لكن وحينما سار خارج الممر خلفها وجدها تستدير فجأة له بفزع وهي تقول :
” أنت جاي ورايا ليه ؟؟ مش قولتلك خلاص مش هـ”
لكن سالار لم يتوقف حتى لمعرفة ما تقول، بل تجاهلها كليًا يسير خارج هذا المكان بأكمله ليتنفس بعيدًا عن هذه الفتاة المستفزة، وتبارك استوعبت ما قالت لتشعر بالاحراج الشديد لكل ما فعلت وقالت، حقًا تريد الاختفاء من هذا العالم، فقررت أن تخرج للحديقة الآن كي تجلد ذاتها على كل أفعالها …
____________________
كانت تجلس في السجن بعدما أخبرها الحارس أنها ستُعرض على الملك غدًا، تنهدت بصوت مرتفع وهي تفرك وجهها بتعب شديد، يالله متى ستبتسم لها الحياة ؟؟
شردت بعيدًا في ذكريات كانت هي الأنيس الوحيد لها من بين أكوام الاوجاع التي تحياها تلك .
كان يجلس أمام المنزل الخاص به يعمل على الفخار الذي يحمله والده فيما بعد ليبيعه في الأسواق، لكن فجأة وجد ظل يمنع عنه ضوء الشمس .
رفع تميم عيونه بانزعاج شديد، لكن سرعان ما ابتسم حين ابصرها، حبيبة قلبه الصغير وصديقته الأقرب في هذه الحياة .
” مرحبًا تميم، لم تنتهي بعد لأخذي إلى السوق ؟؟”
ابتسم تميم وهو يشير للفخار أمامه :
” صبرًا بيرلي، كدت انتهي، اجلسي جواري هنا ”
وبالفعل تحركت بيرلنت تجلس جواره وهي تتنهد بصوت مرتفع، ثم تجاهلت كل شيء حولها تشرد بملامحه التي بدأت تودع المراهقة في طريقها للشباب، ابتسمت على حظها، من بين جميع الفتيات نالت برلنت الصغيرة قلب تميم الذي يشهد له الجميع بمستقبل مبهر سواء بعمل الفخار كوالده، أو في تصليح الأجهزة، فقد كان يمتلك أصابع ماهرة في كل صناعة وتصليح أي شيء يضع تعلمه نصب عينيه .
من بين شرودها به سمعت صوته يقول بحنان وبالقرب من أذنها :
” تعجبكِ ملامحي بيرلي ؟!”
رفعت برلنت عيونها له بصدمة وخجل شديد من اقترابه هذا، وابتلعت ريقها تحاول الهرب من عيونه تتحدث بكلمات خافتة لطالما كانت ترددها لها منذ طفولتهم ببراءة شديدة، لكن تلك البراءة تحولت لاعجاب حين بدأت تخطو المراهقة :
” أنت وسيم ”
” شكرًا لكِ ”
ولم تكن تلك الكلمات صادرة من تميم المراهق البرئ الحنون، بل كانت صادرة من جهة القضبان من فم تميم ايضًا، لكن تميم لئيم مستفز .
اعتدلت برلنت بقوة تستوعب الآن أنها نطقت كلمة ” وسيم” بصوت مرتفع وصل لمسامع تميم الذي يقف بتكاسل شديد متكئًا على القضبان واضعًا يديه في جيب سترته الجلدية رمادية اللون، وهناك بسمة جانبية ساخرة ترتسم على فمه .
” عفوًا، لكن هذه الكلمة لم تكن موجهة لك على أية حال ”
نظر لها تميم بحزن شديد مصطنع :
” أوه، لا بأس إذن سأتظاهر أنها كانت لي كي لا ينكسر قلبي ”
” لتنكسر رقبتك أيها المزعج ”
وقلبها أجاب عليها بسرعة كبيرة وكأنه يتحالف مع تميم ضدها هي وعقلها ( بل لتنكسر رقبتك أنتِ )، تنهدت تخرج من فقاعة حب ذلك الاحمق الذي لا يفقه لشيء حوله .
نفخت تقول بانزعاج من وقوفه بهذا الشكل وتحديقه بها :
” ماذا ؟؟ ستقضي ليلتك تتأمل بي ؟!”
” لا لا معاذ الله أن أفعل فأنا أنام ليلتي وحيدًا وأخشى أن تخرجي لي في ظلام الليل وتفسدي عليّ نومتي ”
ضحكت برلنت بشكل سخيف ساخرة من كلماته التي خرجت مستفزة لها بشكل مثير للغيظ :
” أنت خفيف الظل ”
ابتسم لها تميم بلطف مصطنع :
” اشكرك، أنتِ اول من يخبرني بذلك ”
هزت رأسها ببساطة تقول :
” نعم، فأنا كاذبة منذ الطفولة ”
رمقها ثواني قبل أن ينفجر في موجة ضحك لا يستطيع التحمل، بينما هي شردت في ضحكاته بإعجاب خفي وحب ينبض من كل نظرة لها، لكن سرعان ما أخفت كل ذلك خلف ملامح متأففة مصطنعة حينما نظر لها يقول بجدية وكأنه ليس الضاحك منذ ثواني .
” إذن هل أنتِ من سرق حقًا خاتمي !!”
رفعت حاجبها تقول وهي تحاوره بجدية مصطنعة :
” أوه ومنذ متى ترتدي خاتمًا نسائيًا سيدي صانع الأسلحة؟!”
رفع تميم حاجبها وهو يرفع يده دون شعور يتحسس القلادة التي يحمل بها خاتمها والتي تختفي أسفل سترته يقول :
” لا شأن لكِ به، أخبريني فقط إن كنتِ الفاعلة أو لا، وإن فعلتيها هل هناك ما دفعك لذلك ؟؟ أنا أبحث عن حجة لاساعدك صدقيني ”
تنفست بصوت مرتفع ولا تدري سبب ما فعلته لكنها وبكل غباء قالت :
” لا ليس لدي اسباب، ثم أليس سؤالك متأخرًا بعض الشيء، لقد سبق واتهمني الجميع بسرقته، وغدًا سأُعرض على الملك وربما يحكم على بحد السرقة، الآن استيقظ ضميرك ؟!”
شعر تميم بالغضب ولا يدري عليها أم منها، هو فقط يشعر أنها ليست الفاعلة، فهو لم يرها يومًا تمد عينيها لشيء يخصه طوال لقائاتهم، ولا تبدو من ذلك النوع الجشع أبدًا .
” أنا أحاول مساعدتك، لذلك إن كنتِ تعلمين شيئًا، أخبريني به لاساعدك يا امرأة وتوقفي عن الجدال ”
تنفست برلنت وهي تستدير له بملل :
” لا اعلم، هل تحتاج حقًا لدليل كي تخرجني من هنا ؟! ألا يمكنك فعل هذا فقط لأنني لطيفة رقيقة القلب ؟؟”
أطال تميم النظر لها ولملامحها المختفية خلف الظلام في السجن، وقال بهدوء :
” لا ”
هزت رأسها وكأنها كانت تأمل فعلًا أن يساعدها لأجل ذلك، لكن تميم اكمل ببساطة :
” لا لستِ كذلك، ولو كنتِ كذلك لكنتُ ساعدتك، لكنك للأسف لستِ لطيفة، وحتمًا لستِ رقيقة القلب، وبما أنني ارحت ضميري، سأذهب الآن للنوم في غرفتي الدافئة أسفل فراشي واترككِ تقضين ليلة ممتعة مع فارسك الوهمي ”
ختم حديثه يبتسم لها أكثر بسماته المستفزة، ثم رحل وهي ركضت للقضبان تمسك بها بغضب شديد وكأنها كانت تتمنى لو لحقت به قبل أن يرحل تصرخ بغضب شديد :
” أنت أيها الفاشل المزعج، تبًا لخاتمك النسائي، أنا لم أسرق شيئًا، لكن حينما أخرج سأفعل يا فاشل ”
توقفت عن الصراخ وهي تتنفس بصوت مرتفع ليرن اصوات ضحكات تميم في المكان بعدما سمع صوتها، وهي لشدة غضبها ضربا القضبان بضيق :
” مستفز ..”
زفرت بصوت مرتفع تنهار ارضًا تقول بصوت منخفض :
” الآن الامل الوحيد في يد زمرد ….”
___________________
انضم تميم لجميع الرجال في الحديقة حيث يجتمعون عادة، ومعهم العريف ومرجان، ورغم أن العريف لا يطيق وجودهم في مكتبته لأن الأمر ينتهي بتدميرها، إلا أنه لا ينكر حبه لتلك الجلسات الهادئة التي غالبًا ما ينهيها هو بتعكير صفو الجميع .
” والآن أين هو ذلك الملك المدلل ؟!”
رفع سالار عيونه للعريف يقول بهدوء شديد :
” الملك لن يعجبه أن تصفه بذلك أيها العريف ”
نفخ العريف دون اهتمام وهو يتحسس بومته الحبيبة :
” وكأنني اهتم ”
صمت ثم نظر لسالار بخبث يتساءل وهناك نبرة مرح تظهر في حديثه فقط يشاكسه :
” إذن سالار العزيز كيف تسير حياتك هذه الايام، رأيت حلمًا البارحة عسى أن يجعله الله من نصيبك و…”
” لا أريد معرفته، صدقًا لا أريد ”
” اسمع يا ولد هذا حلم جيد ”
رفع سالار كفه في وجهه العريف يسكته عن التحدث :
” لا شكرًا لك، أحب عنصر المفاجأة، أرغب في التفاجئ بأحداث حياتي بدلًا من سماعها منك مقدمًا ”
التوى ثغر العريف يستدير صوب دانيار الذي كان شاردًا في السيف الذي يحمله أسفل الطاولة، لكن فجأة انتفض على صوت العريف يقول :
” دانيار يا بني تعال لاخبرك ما …”
اجابه دانيار بحنق وعدم اهتمام بكل ما يقول :
” اششش أعلم أنني سأموت في نهاية قصتي الممتلئة بالتشويق على يد قرصان ”
ابتسم له العريف يقول بخبث :
” بل قرصانة..”
أطال دانيار النظر لوجهه بحنق شديد، لكن فجأة انتفض على صوت شقيقه يقول بسخرية :
” أي قرصانة تلك؟! هل ستبحر يا دانيار ؟؟”
” لا يا عزيزي، بل العريف هو من يجبرني على الإبحار في محيطات لا علم لي بها ”
قال العريف بهدوء :
” بل انت من تعاند مصيرك وتقاتله كالجميع هنا، لا رجل منكم تعامل مع ما يخصه بلطف كرجل حنون، جرب أن تجلس معه جلسة ودية وتتعرف عليه دون قتال ”
نظر له دانيار بعدم فهم :
” من تقصد ؟!”
ضحك العريف بصوت صاخب :
” مصيرك ”
صمت ثم استدار لتميم الذي ابتسم له وهو يضم ذراعيه لصدره :
” هات ما لديك يا عريف، أطرب اذني بمصائبك الجديدة لي فما عدت اتأثر ”
هز العريف كتفه بهدوء شديد :
” لا الأمر فقط أنك تستمر في تجاهل جميع الإشارات حولك وهذا ليس جيدًا لاجلك يا فتى ”
تدخل مهيار يقول بجدية وهو يستند على الطاولة :
” وأنا أيها العريف، ألم ترى رؤية لأجلي ؟؟”
تنهد العريف وهو يربت على كتفه :
” أنت يا بني مصيرك مشرق إن شاء الله، لكن فقط اتبع قلبك ودعك من كل هؤلاء الرجال حولك ”
نظر مهيار للثلاثة الحانقين، وهو يفكر في حديث العريف، ليتفاجئ بضربة من يد دانيار الذي قال بحنق :
” وتفكر أيضًا ؟؟ هل ستعتزل شقيقك لأجل تخاريف هذا العجوز مهيار ؟؟”
” ما بك أنا حتى لم أتحدث بكلمة واحدة يا رجل، توقف عن ضربي بهذا الشكل كي لا انسى أنك شقيقي الأكبر ”
نهض دانيار يستعد لقتال بينه وبين مهيار وهو يردد بصوت مشحون بغضب شديد :
” وماذا ستفعل أنت ها ؟!”
واجهه مهيار ببنية جسدية لا تقل قوة عن خاصته :
” سأريك ما سأفعل ”
نهض تميم يتدخل كالعادة بين الإثنين وهو يردد بصوت مغتاظ :
” ما بكما يا احمقين توقفا عن تصرفات الصغار هذه ”
لكن الاوان كان قد فات واشتبك الاثنان في قتال راح ضحيته تميم الذي كان يطاله منهم ضربات متفرقة، ليقرر أن يكون طرفًا ثالثًا في القتال، وكل ذلك تحت أنظار العريف الذي تأتأ بعدم رضا :
” يا ويلي منكم، كالصغار ”
وسالار يراقب كل ذلك بملامح جامدة وهو يضم يده لصدره وكأنه يستمتع بمشاهدة ما يحدث مرددًا :
” يا فرحتي بكم، أين الملك ليشاركني فخري بجنوده ؟؟”
__________________
أما عنه كان يتحرك بخيله بعد جولة مسائية هدف منها لاستتشاف بعض الهواء الصافي يحاول التنفس بحرية بعد تلك المقابلة المشحونة مع الشيخ، هو كذلك كلما شعر بالاختناق يتصعد لجولة بخيله تخفف عنه، ثم ينتهي للذهاب صوب الشجرة الخاصة به قرب المزارع ..
لكن بالنظر لذلك الجسد الذي احتل مكانه، علم أنه ليس الوحيد المهموم في هذه الليلة .
تحرك بالخيل يبطئ حركته صوب الشجرة يحاول تبين هوية ذلك الجسد والذي أدرك أنه يعود لامرأة حين اقترب ولمح تكوينه، لكن الوجه لم يكن واضحًا رغم أنها لم تكن تضع غطاء له، وكأن الظلام كان خير عونٍ لها حتى تخفي ملامحها عنه وخاصة …عيونها .
كانت كهرمان تجلس في المكان تضم قدمها لصدرها بتعب شديد وقد استعادت العديد من الذكريات في تلك الساعات التي قضتها هنا دون أن تهتم بجوعها أو برودة الأجواء، لكن انتفض جسدها حين سمعت صوتًا يهدر جوارها .
” من أنتِ آنستي وماذا تفعلين هنا في هذا الوقت من الليل ؟!”
نهضت كهرمان بسرعة تضع غطاء الوجه دون تفكير وبحركة سريعة حين علمت الصوت، استدارت ببطء ترى ملامح الملك التي انعكست عليها اضواء المزرعة، اطالت النظر به تقول بصوت منخفض رقيق، وعيونها التي كانت ترمقه بكل الحقد والكره، باتت في هذه اللحظة ترسل له رسائل امتنان وهي تتذكر كلماته للشيخ ومساعدته لمملكتها :
” عفوًا منك مولاي، كنت أشعر بالاختناق وخرجت لاستنشاق بعد الهواء ويبدو أنني لم أعي للوقت ”
تسألون إن كان تعرف على هويتها ؟! بالطبع فعل، فمن ينسى تلك الحركات الراقية وذلك الصوت الرقيق الذي لا يصدر من الكثير هنا .
أفاق على حركتها المعتادة وهي تمسك أطراف فستانها بكل رقي تميل بعض الشيء له وتخفض رأسها بهدوء واحترام شديد :
” اعذرني مولاي، سوف ارحل الآن ”
هي أميرة، يقسم أن كل التصرفات وهذا الحذر في إخراج الكلمات وتلك الحركات والانامل الرشيقة التي تعمل متى تحمل أطراف ثوبها برقي ومتى تميل ومتى تبعد أطراف الثوب عن طريقها لا يمكن أن تكون لفتاة تربت وترعرت في منازل الأشخاص البسطاء .
تنفر مراحيض العامة، وتشكو قلة الرعاية والزيوت العطرية، تنبذ حياة من المفترض أنها تنحدر منها .
كهرمان …كهرمان نعم يتذكرها، يستطيع تمييزها من بين المئات، ابتسم يقول لها بهدوء وبكل بساطة تخفي خلفها خبثه ونبرة غامضة :
” إذن من أي مملكة تنحدرين .. أميرة كهرمان ؟!”
________________________
الأسرار لا تظل اسرار طوال الحياة، بل هي تستمر في غموضها حتى تصل لنقطة يتلاشى عندها الغموض، وتظهر الحقيقة .
فأي حقيقة تلك التي حانت لحظة كشفها ؟؟
دمتم سالمين
يتبع…
ورغم أن الفراغ حولهم في هذا الوقت لم يكن يساعد على حدوث صدى صوت أو ما شابه، لكن هي شعرت وكأن كلماته التي نطق بها منذ ثواني رنت في أذنها مرات متتالية وكأنها تتعمد اخبارها أنها كُشفت .
اتسعت أعين كهرمان وقد شعرت أن قلبها توقف لثواني معدودة، ثواني قليلة فقط حتى تمالكت نفسها واستطاعت التنفس وهي تقول بصوت خافت وما تزال تخفض رأسها باحترام شديد :
” عفوًا مولاي لا افهم ما تقصد ”
ابتسم وكأنه يقول حقًا :
” بلى تفعلين، أليس من العجيب أن تسكن أميرة أسفل سقف قصري، وتعمل به ؟؟ هل تحبين تجربة الحياة العادية، أم أن مملكتك ارسلتك جاسوسة على مملكتي ؟؟”
تنفست كهرمان بصوت منخفض كي لا ينتبه لتوترها، ثم رفعت رأسها ببطء تقول بنبرة جادة هادئة:
” في الحقيقة مولاي أنا لا اعلم سبب استنتاجك لأمر كوني أميرة، لكنني أؤكد لك أنك مخطئ جلالتك ”
رفع إيفان حاجبه وهناك بسمة جانبية قد ارتسمت على فمه ثم قال ببساطة شديد :
” أوه حقًا ؟؟”
” نعم ”
كلمة صغيرة نطقت بها وهي تشحن عقلها بمائة سبب وحجة تثبت بهم أنها ليست أميرة وأنها مجرد فتاة عادية، تنتظر منه رفضًا لكلمتها كي تنطلق في الدفاع عن هويتها المزيفة، لكن كل ما خرج من إيفان هو هزة كتف بسيطة وكلمات أبسط :
” حسنًا، كنت امزح فحسب ”
كلمات بسيطة جعلت أعين كهرمان تتسع بشكل قوي وهي ترفع وجهها لها، بهذه البساطة ؟؟ كان يمزح ؟؟ كان سيتسبب في توقف ضربات قلبها لأنه فقط …يمزح ؟؟
لكن مهلًا ما سبب تلك البسمة التي ارتسمت على فمه، هل كان يمزح حقًا أم فقط يسخر منها أم ماذا !! ذلك الرجل داهية كما وصفه أرسلان سابقًا، ما تزال تتذكر كل أحاديثه عن إيفان في اجتماعه مع والدته أثناء وجودها .
” إيفان هادئ ؟؟ أشفق على من يعتقد ذلك، إيفان داهية ماكر وتفكيره مرعب، صمته يرعب أكثر من حديثه، لذا لا إن سألتني رأيي فلا أنا لا اطمئن لبسماته ونظراته بمقدار حبة خردل، ذلك الرجل ورث عن والده وأجداده عقل سام”
كلمات كانت تتردد على مسامعها، لكنها لم تكن تهتم بها كثيرًا، فما حاجتها لتعلم صفات كل ملك من الملوك؟! كان يكفيها أن تعلم صفات ملك واحد، وهو شقيقها، أفضل رجال العالم في عيونها، ذكي وقوي وحنون، رجل بكل ما للكلمة من معنى .
خرجت من شرودها بشقيقها وإيفان على صوت إيفان وهو يردد :
” إذن اعتقد أنكِ مضطرة الآن لتعودي إلى القصر آنستي، فبقائك في هذا الوقت خارجًا مرفوض تمامًا ”
نظرت له كهرمان من خلف غطاء وجهها، تحمد الله أنه لا يرى ردات فعلها ولا شرودها به ولا ملامحها التي تتغير مع كل كلمة منه .
تنهدت بصوت مرتفع، ثم أمسكت أطراف ثوبها :
” اعتذر منك مولاي، سأعود حالًا للسكن الخاص بي”
كانت أعين إيفان تراقب أناملها تلك وبسمته ما تزال ثابته أعلى فمه، انحنى لها برأسه في خفة شديد، ثم تنحى جانبًا يسمح لها بالمرور، وهي سارت بهدوء مبتعدة عنه بخطوات حريصة وطريقة سير يعلمها هو تمام العلم ..
وثقت بجهله، وهذا أكبر خطأ ارتكبته .
وأثناء مراقبته لها وهي ترحل، وقبل أن يقرر صعود حصانه للذهاب حيث الرجال ليجلس معهم كعادته، سمع صوتًا جعل جسده يتحفز بشكل غريب، صوت يعلمه جيدًا .
ارتفعت أعينه بسرعة صوب السماء يبصر قذائف عديدة تتطاير في الأجواء مبددة سكون الليل لتتسع عيونه بقوة ينظر صوب كهرمان التي كانت تتحرك ببطء شديد والقذائف تتطاير في المكان .
فجأة أطلقت كهرمان صرخة اخترقت سكون الليل حين شعرت بيد إيفان تجذبها بعنف صوبه، اتسعت عيونها برعب وكادت تصرخ، لكنها تفاجئت حين حملها دون مقدمات يلقي جسدها على حصانه يقول بصوت مرتفع :
” لغرفتك ولا تخرجي منه ”
نظر للحصان يضربه بخفة صارخًا :
” تحرك بسرعة، هيا ”
وفي ثواني وكأنه فهم ما يريده إيفان هرول الحصان بسرعة كبيرة بكهرمان التي اطلقت صرخات مرتفعة وهي لم تستوعب بعد ما يحدث، لكن وبردة فعل غير إرادية من يدها امسكت لجام الفرس تتحكم بجسدها أعلى الفرس بكل براعة وقد أبصرت للتو القذائف لتضرب خصر الحصان بقدمها وهي تصرخ برعب :
” اسرع ”
راقب إيفان بأعين مذهولة سرعة تداركها للموقف وجلستها أعلى ظهر حصانه وكأنها وُلدت فارسة، ابتسم بسمة غريبة غير مصدقة ساخرًا :
” نعم فتاة عادية بالكامل ..”
تجاهل الأمر وهو يركض في المروج بسرعة يصرخ بصوت مرتفع جهوري يستل سيفه من غمده :
” هجوم على المملكة، هجوم على المملكة ”
وعلى صوت الملك انطلقت أبواق الانذار بشكل مثير للفزع وقد انتفضت قوات الجيش بأكمله..
وعند الرجال كان أول من انتبه لصوت القذائف هو سالار الذي اتسعت عيونه، ينهض عن مقعده يركض بسرعة كبيرة وخلفه جميع الرجال في حالة استنفار كبيرة وصوت سالار هز جدران المملكة القصر بأكمله :
” كلٌ يحمل سلاحه، احملوا اسلحتكم ”
قال وهو يركض بسرعة صوب المبنى الرئيسي للقصر الرئيسي :
” دانيار اذهب لتفقد الرماة واستعد، تميم تفقد المجموعة الثانية من الجيش، مهيار للمشفى بسرعة ولا تتحرك فكل ثانية قد تحدث فارقًا في حياة جندي ما ”
أنهى التعليقات يركض وهو يرفع سيفه صارخًا في جنوده الذين يركضون من حوله بشكل مرعب وكأنها نهاية العالم :
” لا أريد تهاونًا، لا اريد رحمة من ترونه تخلصوا منه”
________________________
خرجت تبارك منذ دقائق لتتنفس بعض الهواء النقي علها تهدأ من اضطرابات صدرها .
وفي ظلام الليل تسير، تناجي السماء وتشكو للنجوم، لكن مهلًا ما هذا الصوت، هل هناك من جاء ليشكو غيرها، هكذا ستزدحم السماء بالشكوى وتمتلئ الأجواء بالتذمرات، نظرت حولها تحاول البحث عن صاحب الصوت، لكن فجأة اتسعت عيونها حينما رأت ذلك الجسد الضخم يحمل سيفه ويركض بشكل مخيف صوب أسوار القصر، نظرت حولها بخوف ولم تكد تفقه ما يحدث حولها حتى سمعت صوتًا جهوري يصدر من برج المراقبة الخاص بالقلعة :
” هجـــوم من مملكــة مشــكى، كلٌ يحمل سلاحه، توجهوا صوب البوابات وجهزوا المدافع، حاملي السهام استعدوا ”
وبعد تلك الكلمات شعرت بصفاء السماء يختفي خلفة سحابة من الدخان، والنجوم تحترق بتلك النيران التي بدأت تتطاير في الجو من خارج أسوار القلعة صوب …صوبها .
أطلقت تبارك صرخة مرتفعة تركض بجنون في ساحة القلعة، تصيح باسم من تعرف، تصرخ باسمه في جنون وهي تركض بين الجنود المستنفرين :
” يا قائد…يا قائد ”
وحينما كادت تخطو لبوابة القلعة شعرت بمن يجذب جسدها بقوة أطلقت على إثرها صرخة رنت بين جدران المكان ليعلو صوت منادي بين صفوف الجنود صارخًا بجنون :
” الملكـــة …أمّنوا الملكـــة ”
وعند تلك المسكينة التي منحوها لقب ملكة التي لا تعلم له معنى سوى أنه نوع من أنواع المعكرونة التي كانت تقتات عليها طوال فترة حياتها السلمية والتي كانت تسوءها قديمًا..
سخر منها عقلها _ وهي محمولة بين ذراع ضخمة قوية كالدجاجة التي كادت تفر من صاحبها فامسكها من قدمها يجرها خلفه عقابًا لها_ الآن أضحت حياتك سلمية رائعة ؟؟ ألم تكن هي نفسها من كنتِ تقنطين منها وتصرخين أنكِ تتمنين لو تتغير، لكِ ما تمنيتي إذن.
سقطت دموعها تحاول أن تفلت من تلك اليد التي تكاد تحطم قفصها الصدري وعظام جسدها من قوة جذبه، وصيحات الجنود حولها تزداد بشكل جنوني يبحثون عنها .
حاولت الصراخ ولم تستطع وفجأة وجدت الاصوات تتلاشى ورائحة الدخان تختفي شيئًا فشيء، والصيحات تخفت، ولم يتبقى في المكان سوى رائحة البخور التي تتميز بها أجواء القصر، وصوت انفاس ذلك الوحش الخاطف خلفها .
فجأة شعرت به يدفعها داخل غرفة صغيرة لا تدري مخزنًا كان أم قبرًا، لكنها فقط تأوهت وسبت ولعنت حتى شعرت بالراحة، وقبل أن تستدير وتعتدل سمعت صوته المميز خلفه يهمس بصوت حانق غاضب كعادته :
” ألم أخبرك أن تتوقفي عن اللعن ؟؟ ”
اتسعت عيونها تستدير بسرعة مخيفة صوبه تتبين ملامحه أسفل اضواء المكان الخافتة، نفس الهيئة الساحرة والملامح الـ…مرعبة وبحق، سيفه مستقر في غمده، وسهامه تستريح على ظهره..
فتحت فمها للحديث، لكن قاطع كل ذلك ينحني صوبها قائلًا بتحذير :
” إن سقطت السماء على الأرض، اياكِ …اياكِ أن تتحركِ خارج هذا المكان، سمعتي يا فتاة ؟؟”
نظرت له تخاف تحذيراته وترهب نبرة صوته، ابتلعت ريقها تحاول أن تقول له نعم، تخبره أنها ستنفذ ما يقول فقط ليتركها وشأنها، لكن كل ما خرج منها هو :
” أنا ….عايزة اروح الحمام ”
اتسعت عينه ببلاهة يقول :
” ماذا ؟؟”
وقبل أن تعيد كلمتها سمعت صوت انفجار قوي في المكان لتطلق صرخات عالية وهي ترى الجدار الجانبي للقبو يتحطم ويظهر لها ممر القصر المعروف وصوت الصرخات تعلو، لعن سالار بصوت مرتفع مخيف :
” لعنة الله على الكافرين ”
في هذه اللحظة انفجرت دموع تبارك برعب وجسدها يرتجف بقوة تخفي الاصوات عن أذنها:
” فيه ايه ؟؟ فيه ايه ؟؟ أنا خايفة ”
انحنى سالار يجلس القرفصاء أمامها وهو يخرج خنجرًا من حاملة أسلحته يضعه في كفها ينظر لعيونها بقوة :
” اسمعيني جيدًا مولاتي ”
” لا لا أنا مش عايزة اسمع حاجة، أنا عايزة امشي مشيني من هنا زي ما جبتني ”
قال بصوت قوي كي يصمت بكاءها :
” اسمعيني …أنتِ لستِ بضعيفة لتجلسي هنا باكية دافنة رأسك أسفل أقدامك، الله اصطفاكِ من بين نساء هذا الكوكب لتكوني ملكة سفيدة، لذلك حتى وإن كان الجميع واولهم أنا نراكِ مجرد فتاة باكية ضعيفة، فعليكِ إثبات العكس ”
نظرت لعيونه ثم حدقت بالخنجر في يدها ومازال ارتجافها قائمًا :
” أنا.. أنا مش ..مش بعرف اعمل أي حاجة من دي، أنا مش كده ولا بفهم في كل ده ”
” بلى أنتِ تفعلين ”
صرخت في وجهه غاضبة حانقة من إصراره :
” أنت هتعرفني اكتر مني ؟! أنا بقولك اني مش هعرف ”
نظر لعيونها بقوة يتجاهل صوت الصرخات في الخارج، يعلم أن الجنود يتولون الأمر الآن، لكن هذه أمامه تكاد تنهار رعبًا، وهو يعلم بأن لها كامل الحق في ذلك، تنهد وهو يهمس بكلمات متلهفة كي ينتهي من ذلك ويخرج :
” نعم اعلمك أكثر مما تفعلين أنتِ، انظري إليّ أنا لستُ غرًا أو ساذجًا كي أخطأ في وجهة نظري، أنا لطالما علمت الشخص من نظرة واحدة، وأنتِ مولاتي قوية أنا أثق بكِ، خلف كل تلال الضعف وبحار الدموع تلك هناك جبار قوة وأمواج عزيمة عاتية ”
مسحت دموعها تستحسن كلماته :
” أيوة بس أنت كنت بتقول عليا ضعيفة على طول ”
قال وهو ينظر للخارج بسرعة ثم عاد بنظره لها :
” نعم وما زلت عند رأيي، أنتِ ضعيفة حتى الآن ”
نهض يخرج سيفه من غمده يقول بقوة :
” وأنا سأعمل على التخلص من ضعفك هذا، فقط ننتهي من كل هذا، والآن اصمدي حتى تسمعين صيحات الجنود تهلل بالنصر، إن اقترب منكِ أحدهم اغرزي خنجرك في قلبه ولا تأخذك بالكافرين رحمة ”
نظرت تبارك له وهي ترتجف من مجرد التخيل :
” الأمر… الأمر صعب، أنا لن استطيع ”
نظر لعيونها بقوة يقول وكأنه يأمر جنديًا له :
” بلى تستطيعين والأمر سهل، فقط ارفعي يدكِ حاملة الخنجرؤ ثم اهبطي بها عليه”
صمت ثم مال بجسده يقول ببسمة يحاول بها تخفيف رعبها :
” اعتقد أن عملك يؤهلك لمعرفة مكان القلب صحيح ؟!”
هزت رأسها بنعم ليقول هو بجدية :
” جيد اجعليه هدفًا لخنجرك إذن”
ختم كلماته وهو يستيقم، ثم نظر لها نظرة أخيرة يهتف :
” أثق بكِ …”
ورحل بسرعة كبيرة تاركًا إياها تنظر لاثره وصوت أنفسها يعلو وقد ارتفع معه وجيب قلبها، تضم نفسها برعب وهي تهمس كل ما تحفظ من آيات الله، كي تطمئن وتستكين ..
” ألا بذكر الله تطمئن القلوب”
___________________________
ها هي مرة من تلك المرات القليلة التي يتخلى فيها عن عرشه ويهبط لساحة القتال بنفسه، وكم أسعده هذا وبقوة .
كان إيفان يهرول بسرعة كبيرة صوب بوابة القلعة وخلفه العديد من الجنود يهجمون على هؤلاء المعتدين الذين كانوا يرتدون ثياب الجيش الخاص بمشكى، لكنهم كانوا من رجال بافل .
توغل إيفان بين الجميع يسقط من يسقط دون رحمة، وقد أصبح وجهه ملوثًا بالدماء وصوته الجهوري يصرخ في الجنود حوله، فجأة أبصر جسد سالار يخترق الجمع حاملًا سيفين وقد كان كالجزار يجز عنق كل من يمر بهم وصوته يرشد الجنود :
” لا تدعو قدم حقيرٍ منهم تطأ ارض القصر، الكتيبة الثانية تتحرك للقصر لحمايته ولا تسمحوا لأحد بالخروج أو الدخول له ”
ختم حديثه يصرخ بصوت مرتفع :
” أنتم أصحاب الحق يا رجال، فلا تخشونهم، إن متم كنتم شهداء وإن عشتم اصبحتم أبطال، الله أكبر ”
تبع صوت سالار صوت تكبير قذف في قلوب جنود بافل الرعب وهم يرون سيل من الرجال يندفع صوبهم بشكل معين .
واعلى القصر كان يقف دانيار يراقب ما يحدث وخلفه عدد مهول من حاملي السهام، ضيق عيونه وهو ينظر خارج ابواب القصر ليرى تدفق آخر من رجال بافل يتحرك صوب البوابة .
رفع يده وهو يقول :
” مع ثلاثة ….”
صمت يراقب اقتراب الرجال أكثر وأكثر حتى أصبحوا في مرمى السهام ليصرخ بصوت جهوري قوي :
” ثلاثة ”
وبعد هذه الصرخة لم يبصر أحدهم سوى امطار من السهام تتساقط بقوة على أجساد الرجال مسقطة إياهم ارضًا بقوة، وقد أخرج دانيار سهامه يضع ثلاثة سهامل في قوسه وهو يسقط المزيد من الأجساد :
” لعنة الله عليكم اجمعين ”
وفي الأرض وبنظرة من سالار وحركة إصبع معروفة، تحرك تميم بكتيبة من الجيش في شكل خفي صوب الابواب الجانبية للقصر كي يخرجوا منها ويلتفوا حول رجال بافل محاصرين إياهم من الخارج، فيصبحوا بينهم وبين جيش سالار .
تسألونها ما فائدة التمارين المسائية الخاصة بها ؟! تخبركم أنها فرصة جميلة لرؤية كل تلك المتع أمام عيونها، اتسعت بسمة زمرد وهي تراقب ذلك القتال بين رجال سفيد وبافل، صدرها يعلو ويهبط، ولولا أن سيفها مع ذلك الرامي المستفز لكانت الآن تشارك في قتالًا على عشيرتها، تساهم في تقليل اعداد سلالتها القذرة..
وعلى عكس زمرد، هي لم يكن لديها ما يمنعها من المشاركة في هذه الحرب، السيف معها، وزي الجندي كذلك معها، وها هي تتحرك بين الجنود وهي تقتل رجال بافل بكل الغضب الكامن في صدرها، ترى أمامها حرب شبيهه بهذه، يوم سقوط مملكتها ومقتل شقيقتها .
مشاهد جعلت غضب كهرمان يشتعل وهي تركض بشكل جنوني تلقي بنفسها بين القتال وقد اعماها الغضب والحقد في صدرها .
لا يهم إن قُتلت الآن فستلحق بأخيها ووالدتها، وإن عاشت فستنتقم لهم .
اثناء قتال إيفان للجنود فجأة ابصرها، شعر لثواني أنه يتخيل، لكنه لا يفعل فهو لا يخطأ طريقة القتال تلك ولا هذه الحركات أو هذا الجسد، شعر بالصدمة وهو يراها قد انضمت للقتال ليتحرك بسرعة كبيرة صوبها كي يأمنها لتلك الغبية .
وما كاد يفعل حتى وجد سيف يتحرك صوبه، لكنه مال بسرعة في اللحظة الأخيرة يتلاشى ذلك السيف الذي مر من فوق جسده، مدّ إيفان قدمه يسقط الرجل ارضًا، ثم غرز سيفه في صدره وهو يضغط على أسنانه بغضب، وقبل أن يستدير شعر بجسد يصطدم به في قوة كبيرة، استدار بسرعة ليبصر جسد قتيل يسقط عليه ويبدو أنه كان يحاول التخلص منه، لولا أنها انقذته .
رفع إيفان حاجبه لها بريبة لتبتسم عيونها غامزة له :
” لا شكر على واجب ”
تنفس إيفان بصوت مرتفع يقول :
” ظننت أنكِ تكرهينني ؟؟”
” نعم، لكنني اكرههم أكثر منك ”
ختمت حديثه وهي ترفع سيفه تضرب به أحد الرجال بغضب شديد، ثم استدارت لايفان الذي ابتسم عليها بسمة جانبية يسمعها تقول :
” يمكننا أخذ هدنة إلى أن تنتهي الحرب ”
ورغم عبيثة تلك الكلمات، فما كانت للهدنة أن تجتمع بالحرب، لكن غرابة الجملة لم تكن تضاهي غرابة العلاقة بينهما، إذ ابتسم لها إيفان بسخرية يطيل النظر في عيونها بشكل غريب، ينحني نصف انحناءه :
” لكِ ذلك أنستي ”
وبمجرد أن استقام رفع سيفه بسرعة يضرب به رجلًا جاء بسرعة من خلف كهرمان مسقطًا إياه ارضًا وهو يردد ببسمة :
” هكذا نحن متعادلان ..”
صمت ثم أشار لها يقول :
” إذن أريني إن كانت دروسي الأخيرة لكِ أتت ثمارها أم لا”
رفعت كهرمان سيفها أمامه تقول بنبرة هادئة :
” بل أنا من سيعطيك دروسًا الآن، شاهد وتعلم ..مولاي ”
وفي ثواني استدار الإثنان بسرعة كبيرة يقاتلان وكلٌ منهما يحمي ظهر الآخر في لفتة غريبة ولحظات استثنائية لاثنين كانا في الامس متنافسين، واليوم حلفاء …
_________________________
كانت تجلس في ذلك المخبأ الذي تركها به سالار وهي ترتجف، تخشى أن يحدث ويباغتها أحد المعتدين هنا وهي لا تملك من أمرها شيئًا .
تنفست بصوت مرتفع تكمل تلاوة بعض الآيات، والرعب تلبسها بالكامل، ربما في هذه اللحظة يكون أحدهم قد قُتل، أو أُصيب وهي هنا تختبأ دون أن تقدم شيئًا لهم، وماذا تستطيع التقديم هي ؟؟
تناهى لمسامعها صوت صياح مرتفع يأتي من الخارج لتتنفس بصوت عالٍ مرتعبة وبقوة منا يحدث، تحاول أن تتمالك نفسها وهي تردد :
” قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ”
ثواني حتى ازدادت تلك الصرخات وسمعت صوت امرأة تقول برعب شديد :
” ليساعدنا أحدكم ستموت الفتاة، ليحضر أحدكم الطبيبة بسرعة ”
نظرت تبارك للباب بريبة وقد كان هذا الصوت كمئات الاصوات التي كانت معتادة على سماعها في فترة المشفى، لماذا إذن أضحى مرعبًا أكثر الآن؟!
ازدادت الصرخات والبكاء والعويل، حتى جعل جسدها يتحرك دون إرادة منها للخارج تشدد قبضتها على الخنجر، تخرج من ذلك النفق المظلم بعض الشيء وهي تتلمس الجدار بحذر .
وحينما وصلت للممرات المعروفة ركضت بسرعة كبيرة دون أن تدرك سبب ذلك، كانت تركض بكل قوتها صوب مصدر الصرخات، وحينما وصلت وجدت العديد من الفتيات يلتففن حول فتاة أخرى مصابة بسهم في ذراعها .
اتسعت عيونها بقوة تقترب منهم بخطوات مترددة، هي ليست طبيبة، لكنها عاصرت العديد من الحالات أثناء خدمتها في طوارئ المشفى، وهي ستتعامل مع هذا، فإن لم تستطع المساعدة في الحرب فعلى الأقل تكون ذات فائدة .
” ابتعدن، دعوني أمر رجاءً، أنا استطيع مساعدتها ”
وفورًا انفض الجميع من حول تبارك التي جلست ارضًا جوار جسد الفتاة ونظرت لها ثم قالت بسرعة :
” احتاج أربطة نظيفة ومطهر للجروح ولاصقة طبية وبعض الأدوية الخاصة بالحمى ”
نظر لها الجميع ولم تتحرك منهم فتاة لتقول لهم تبارك بغيظ :
” ماذا بكن لتتحرك واحدة وتحضر ما طلبت ”
” لكن …لكن كل ما طلبته خارج القصر بالفعل، أنه في المشفى ولا أحد يستطيع الخروج الآن وسط تلك المعركة في الخارج ”
نظرت لهم تبارك بملامح لا تُفسر تسمع صوت تأوهات الفتاة وصرخاتها التي تخرج كل ثانية والأخرى، لتقرر فجأة أن تنهض وهي تتمسك بخنجرها :
” أنا سأذهب لإحضار ما احتاجه، يحب عليّ اسعافها قبل أن تسوء حالة الجروح ونضطر لفعل ما لا نريده، احملنها صوب أي غرفة حتى اعود ”
اتسعت أعين الفتيات بقوة وهن يبصرن ركض تبارك بقوة في الممرات وواحدة تصرخ بفزع :
” لا مولاتي غير مسموح لأحد بالخروج ”
لكن تبارك لم تسمع لأحد ولا تعلم سبب إصرارها على معالجة الفتيات، لكن ربما هذا بدافع الواجب الإنساني قبل واجبها المهني .
أو لشعور داخلها أن ترى فائدة لها، أن تشعر أنها ذات قيمة هنا، ليست مجرد عالة على الجميع، أو اسم يكملون به اللوحة الملكية .
وصلت لباب القصر لتبصره مغلقًا، تنفست بصوت مرتفع وهي تفكر في سبيل للخروج من هنا، وفورًا خطرت لها فكرة القفز من الشرفة فهي قريبة من الأرض على أي حال، وبالفعل ركضت صوب الشرفة بسرعة كبيرة وحينما وصلت لها وضعت الخنجر في فمها، ثم تعلقت في الشرفة كي تهبط ..
وفي الاسفل حيث الرجال .
حاصر سالار ورجاله جيش بافل من داخل القلعة، بينما حاصرهم تميم ومن معه من الخارج فأصبحوا بين المطرقة والسندان .
تقدم سالار جميع رجاله وهو يرى جيش بافل يتقدمهم رجل يعلمه جيدًا، كان جميع الرجال متحفزين وقد أدركوا أنهم خسروا هذه المرة، ابتسم لهم سالار وهو يتوقف أمامهم متقدمًا عن رجاله .
الصمت المميت الذي عم الأجواء كان غريبًا على مثل تلك المعارك، وكأن الجميع ينتظر أن يصرخ أحدهم ليلحقه في الصراخ .
وفي ثواني كان صوت صفعة عنيفة هو ما قطع هذا الصمت، صفعة هبطت على وجه قائد رجال بافل لتسقطه ارضًا من شدته، صفحة جعلت وجهه يدمى وهو يتنفس بصوت مرتفع .
وسالار يراقبه باحتقار شديد، ثم رفع قدمه يضعه يضرب معدته يقول بشر :
” لقد كان يثق بك أيها القذر، وثق بك وقلدك أمور جيشه ”
رفع الرجل عيونه بصعوبة ينظر لوجه سالار الذي صرخ بجنون فيه :
” خنت ارسلان وبعته لبافل ؟؟ كان أنت، كان أنت من خانه داخل قصره ليسقطه في شِرك بافل ”
تنفس الرجل بصوت مرتفع ولم يتحدث بكلمة واحدة، ورجال بافل جميعهم ينظرون لما يحدث والرعب قد ملئ صدورهم، في هذه اللحظة أدركوا أنهم ألقوا أنفسهم في الجحيم .
بينما وبين صفوف جيش سفيد كانت تقف هي تراقب كل ذلك بأعين كارهة، كانت تراقب ما يحدث بشر، هذا الحقير قائد جيوش مشكى، كان هو الخائن، هو من باع شقيقها وتسبب في مقتله ؟؟
شعرت بطاقة كره قوية وغضب اقوى يكاد ينفجر في جميع المحيطين بها، وعيونها أضحت حمراء وهي ترى أمامها شقيقها يقاتل وهو يصرخ باسم القائد ليحمي النساء، ويؤمن ظهره .
وبدلًا من حماية ظهره، طعنه به …
ابتسم إيفان بسمة واسعة وهو يراقب ما يفعل سالار باستمتاع شديد، فإن كان يحب شيء غير رؤية أعدائه راكعين يرتجون منه رحمة، هو أن يرى نفس الأعداء يرتجون من سالار رحمة يعلم أنهم لن ينالوها .
قال سالار بصوت جهوري كي يسمع جميع من بالجيشين:
” بافل ارسلكم هنا لاحتلال سفيد صحيح ؟؟ لماذا لم يأت معكم إن كان الأمر كذلك ؟!”
قال إيفان بصوت خبيث :
” ربما لأنه لا يحب أن يقضي المتبقي من عمره في سجون مملكتي، خسارة فنحن نعامل أسرانا معاملة افضل من معاملته لرجاله ”
قال قائد جنود مشكى بصوت مرتفع يحاول إيجاد مبرر لما يحدث :
” بل هو سيلحق بنا بجيش الدعم، لا بد أنه الأن في طريقه لهنا وسيفتح الجحيم على سفيد ومن بها ”
قال تميم بصوت ساخر وهو ما يزال يقف خلفهم من جهة خارج القلعة :
” يا ويلي جسدي ارتجف للتو …اشمئزازًا ”
ختم حديثه يبتسم للرجل، ثم قال بهدوء :
” لا بد أن عزيزك بافل الان نائم قرير الأعين وأنتم هنا القيتم أنفسكم بكل حمق بين الظلمات ”
ابتسم له سالار يقول بهدوء :
” وبما أننا لسنا مثلكم فها أنا امنحكم الفرصة للاستسلام والقاء سيوفكم ارضًا، وسنعاملكم معاملة الأسرى، أو أن نستأنف القتال ونفترش أرضية سفيد بأجسادكم كما فعلتم بأهل مشكى، أي الخيارين تفضلون ؟؟”
نظر الجميع لقائدهم الملقي ارضًا والذي اخفض رأسه بخزي ينتزع سيفه ملقيًا إياه ارضًا، فهو يدرك أنه يفضل أن يلقى منهم معاملة الأسرى على أن يتلقى معاملة الأعداء .
نظر الجميع لبعضهم البعض ليبدأوا واحدًا تلو الآخر في إلقاء سيوفهم ارضًا وسالار يراقب ذلك ببسمة واسعة، ثم تراجع للخلف وقد انتهى دوره كقائد جيش، والآن حان دور الملك كقائد للملكة بأكملها .
راقب إيفان ما يحدث أمامه برضى، ثم ضم يديه لصدره يقول بأمر نافذ وصوت جاد :
” خذوا الجميع للسجون وكثفوا الحراسة عليهم، حتى نودعهم ”
وبالطبع لم يفهم أحدهم شيئًا، بل فقط قادوا الرجال صوب القصر، وفي ثواني ارتفعت التهليلات والأصوات السعيدة .
ومن أعلى القصر أنزل دانيار سهامه التي كان يجهزها متحفزًا لأي شيء يبتسم بسمة واسعة :
” كان هذا اسهل مما اتوقع ”
نظر لجيشه خلفه يقول :
” تكبير يا رجال …”
بدأ رجاله يكبرون ليبتسم لهم، وقبل أن يتحرك ليهبط عن السطح أبصر جسدًا في مكان خلف القصر جعله يرفع حاجبه متعرفًا على صاحبته :
” آه من تلك المرأة التي لا تعترف بالغرفة مسكنًا ليلًا”
_________________
وعند تبارك وبعدما هبطت عن النافذة ركضت بسرعة كبيرة تبحث بين المباني عن المشفى متجنبة النظر صوب مكان المعركة كي لا تضعف وتخاف، وحينما رأت بعض الرجال يحملون اجسادًا ويتحركون بها صوب مبنى ما خمنت أنه المشفى لتعدو له بسرعة أكبر مبتسمة .
وصلت له ودخلت صُدمت من عدد الرجال المترامين ارضًا وهناك طبيب واحد يشرف عليهم ومعه بعض الرجال يساعدونه.
فتحت تبارك عيونها تقول بصوت مرتفع دون شعور :
” يا الله يا مغيث …”
استدار مهيار بسرعة صوب الصوت الأنثوي ليطيل النظر في وجه تلك الفتاة يحاول معرفة متى رآها سابقًا، بينما تبارك سارعت له تقول بسرعة :
” بسرعة أريد ادوية مخدرة وأخرى مطهرة وغيرها لعلاج الحمى، ولاصقة طبية وابرة لخياطة الجروح ”
نظر لها ميهار بصدمة يحاول فهم ما تريد، لكنه فجأة استوعب الآن من تكون يهمس بعدم تصديق :
” الملكة ؟؟”
” بسرعة أريد تلك الأشياء هناك فتاة أُصيبت بسهم في القصر ”
فتح عيونه بتحفز، ثم أشار لبعض المساعدين يقول بسرعة :
” اذهبوا بسرعة مع الملكة واحضروا تلك الفتاة هنا لعلاجها بسرعة ”
قالت تبارك وهي تراقب بعض الحراس يقتربون منها :
” لا أنا استطيع فعل ذلك بنفسي، يكفيك ما أنت به ”
” تستطيعين ؟؟”
” أنا ممرضة، اساعد الأطباء و…حسنًا هذا ليس وقت لشرح وظيفتي، أين تلك الأدوات ”
نظر لها مهيار ثواني قبل أن يصرخ بصوت مرتفع :
” ليحضر أحدكم ما تطلبه الملكة من اعشاب وأدوات بسرعة ”
وبالفعل ما هي إلا دقائق لتحمل تبارك ما جاءت لأجله، ثم شكرت مهيار وهي تركض بسرعة للخارج، لكن فجأة سمعت صوت مهيار يناديها :
” جلالتك ..”
استدارت ترمقه بتسائل ليقول بجدية مشيرًا لما يحدث :
” إذا انتهيتي من الفتاة واردتي تقديم المساعدة لنا هنا سأكون شاكرًا لكِ ”
ابتسمت تبارك بسمة واسعة تستشعر واخيرًا أهميتها هنا، تهز رأسها له، ثم هرولت بسرعة كبيرة صوب القصر تفكر في طريقة لدخوله، لكن بمجرد خروجها من المشفى وركضها صوب البوابة أبصرت استسلام الجيش الآخر لتتسع بسمتها بفخر شديد تشعر بجسدها يرتجف تأثرًا، فجأة ودون شعور وجدت نفسها تتجاهل الجميع وتركز معه هو فقط، الوحيد الذي جعلها تطيل النظر له وهي تركز في كل كلمة يتحدث بها، كان قويًا مهيبًا …
وأثناء شرودها وجدت الجنود يقودون بعض الرجال صوب القصر لتختبأ حتى يتحركوا مخافة أن يراها أحدهم وتتعرض لأي مشكلة .
وحين وجدت الفرصة مناسبة ركضت بسرعة كبيرة صوب القصر وهي تتنفس بصوت مرتفع كي تنقذ الفتاة، لكن أثناء الركض اصطدمت فجأة في جندي لتسقط معه وتتناثر الأشياء ارضًا، شهقت تبارك بصوت مرتفع وهي تنهض بعيدًا عنه كي تعتذر، لكن الصدمة الحقيقية كانت حين سقط لثام ذلك الجندي لتبصر ..
” بنت ؟؟”
ارتعشت كهرمان وهي تضع لثامها، ثم ركضت بسرعة بعيدًا عن تبارك التي كانت تتحدث مع نفسها بصدمة :
” هما بيجندوا بنات ؟؟”
______________________
تحرك صوب الخارج بعدما هبط من منطقة الرماة، يتنهد بصوت مرتفع محركًا ذراعيه في عدة اتجاهات كي يريحه، ومن ثم حرّك رقبته بارهاق شديد، فشيء كالسهام ليس بالأمر الهين أبدًا .
فجأة انتفض قبل أن يطأ داخل القصر يسمع صفيرًا يأتي من خلف أحد الأشجار، نظر يتبين ما يحدث ليتفاجئ بجسد يقف في الظلام هناك وصوت يقول بنبرة خافتة :
” مرحبًا أيها اللص، ألن تعيد لي سيفي ؟!”
ابتسم دانيار بسمة جانبية وقد تعرف عليها بسهولة شديد، ليتركها ويتحرك ببساطة شديدة داخل القصر مجيبًا ببساطة :
” لا لن أفعل، إن أردته اذهبي واشكيني للملك ”
ختم حديثه تاركًا إياها تغلي غصبًا وهي تتحرك بسرعة خلفه وهو يعلم جيدًا بلحاقها به، لكنه لم يهتم وهو يكمل طريقه بكل برود .
وحينما شعر أنها مستمرة في السير خلفه انحرف صوب باب الحديقة الخلفية وهي سارت صوبه وفي عيونها التصميم على أخذ سيف والدتها العزيزة، لكن بمجرد أن وطئت الحديقة وجدت سيف يوضع على رقبتها وصوت يهمس لها :
” تخيلي أن تُعرضي في الغد على الملك بتهمة تتبعك لقائد الرماة و محاولتك الإطاحة به ؟؟”
نظرت زمرد للسيف الذي يضعه أمامها وهو يقف في الخلف، تردد بنبرة ساخرة وصوت خافت :
” وهل قائد الرماة بهذا الضعف ليسقط على يد امرأة سيدي ؟؟”
” قلت محاولة ولم أقل نجحت، فلا أنتِ ولا جيش من امثالك تستطيعون الاقتراب مني مقدار خطوة إلا إذا سمحت أنا، والآن كفتاة جيدة سوف تخبرينني ما هذه الرموز المنقوشة على السيف ولِمَ هي مكتوبة بلغة غريبة ؟؟”
تنفست زمرد بصوت مرتفع ولم تكد تفتح فمها للحديث قبل أن يقاطعها هو ويقول :
” ولا تحاولي العبث معي واخباري تلك القصص الدرامية حول المنبوذين الذين احتلوا مدينتك وشردوكِ مع شقيقتك التي ليست شقيقتك، ولا تخدعيني بأمر هروبك مع الأميرة، فأنتِ لستِ من أهالي مشكى، صحيح ؟؟”
وعلى حين غفلة منه أبعدت زمرد يده التي تحمل سيفها من أمامها وهي تبتعد تقول بصوت حاد :
” أتساءل عن سبب اهتمامك الكبير بمتابعة قصصي الدرامية والبحث خلفها سيد دانيار؟؟”
ابتسمت بخبث وهي تقترب منه بخطوات ماكرة وكأنها حية تسعى لتخديره حتى تلتف حول جسده وتخنقه، وحينما أصبحت على مسافة مناسبة منه مالت قليلًا عليه تهمس :
” هل اسمي هذا اهتمام من نوع خاص ؟؟”
” هذا ما تتمنينه أنتِ عزيزتي ”
” بل ما تحاول إخفاءه أنت عزيزي، ولكي اريحك، فنعم أنا لست من سكان سفيد ولا من سكان مشكى، أنا انتمي لنفسي وفقط ”
رفع حاجبه يبتسم بسمة جانبية ساخرة، لتكمل هي حديثها بكل بساطة :
” والآن إن كنت اشبعت فضولك هلّا تعيد لي سيفي رجاءً ؟؟”
نظر لها دانيار قليلًا وكأنه يفكر فيما قالته، واطال النظر بعيونها وهي بادلته النظرات بالمثل وكأنها تأبى أن يرف جفنها أمام عيونه فيظنها استسلمت، التحدي كان يملئ عيونها، ليتلاشى كل ذلك حين نطق دانيار :
” عذرًا سيدتي، لكن العاملات ممنوعات من حمل الأسلحة داخل القصر، وبالتأكيد أنتِ لستِ استثناءً ”
ختم حديثه يستدير للرحيل وهي ظلت واقفة مكانها تحدق في ظهره بحقد شديد وغضب كبير، ثم ودون مقدمات صرخت بصوت مرتفع :
” بلى، بلى أنا استثناء، أنا استنثاء على جميع قوانين مملكتك التي لا تعنيني ولو بمقدار شعرة، أنا استثناء على كل ما تحاولون فرضه هنا على الجميع، ما تقولونه لا يسير عليّ، تبًا لمملكتك اللعينة وللممالك الأربعة وقوانينها، للجحيم جميعًا لا أحد يتحكم بي، سأكون استثناءً على كل ما لا يروقني”
صمتت تتنفس بعنف وكأنها كانت تقاتل، وهي بالفعل كانت تقاتل اشباحها تصرخ بوجع وكأنها تتحدث مع قبيلتها، تقاتل كل ما قهرها قديمًا بسرعة كي تقف أمام دانيار تقول بأعين حمراء تكبت دموعها ترفع اصبعها في وجهه وهي تقول بهسيس :
” وإن عهدت من جميع النساء اللواتي تعرفهن ضعفًا فلا تظن أنني سأسير على نهجهن، وسأكون استثناءً عليهن وعلى حياتك كذلك ”
ختمت حديثها تتراجع بظهرها وهي ما تزال تتحدث له وهي تفرد ذراعيها :
” لا أحد يتحداني ويربح، لا تظن أنك انتصرت عليّ، كل ما في الأمر أنني أحب اللعب معك لا أكثر، آخر شخص وقف نفس وقفتك تلك وتحداني فقد نصف وجهه، فلا تجبرني على الحاقك به ”
ختمت حديثها وهي تستدير كي ترحل بقوة وقد بدأ الغضب يملئ جسدها بالكامل، لكن وقبل أن تخرج من الحديقة سمعت صوتًا يوقف سيرها لتستدير وتواجه بسمة دانيار الغريبة وهو يهمس لها :
” وأنا كذلك احبه ..”
نظرت له بعدم فهم ليقول ببسمة جانبية :
” اللعب معك، احب تلك الألعاب السخيفة التي تلعبينها معي، لذلك أنتِ حية حتى الآن، ولا تظني أنني مستمر في هذه اللعبة لأنكِ لاعبة محترفة، بل لأنني لاعب صبور فقط”
ختم حديثه يتقدم فتراجعت زمرد للخلف وكادت أن تسقط لولا أن استندت على أحد الأشجار وهو رمقها بحدة، تنفست زمرد بصوت مرتفع تشعر بالقهر يرتفع داخل حلقها، وهي ما اعتادت يومًا كتمان ما تضمره، لذلك فتحت فمها للصراخ في وجهه، لكن فجأة ابتلعت كلماتها وهي تتراجع للخلف بوجه مرتعب حين رأته فجأة يميل صوبها .
لكن دانيار كل ما فعله هو أنه ابتسم بسمة صغيرة راقية يضع يده على صدره قائلًا باحترام شديد :
” والآن آنستي اسمحي لي بالرحيل فأنا للحق متعب بعد هذه الحرب الطاحنة، استأذنك ..”
هكذا فقط، هكذا فقط تحدث ثم رحل تاركًا إياها ترمقه بصدمة كبير، تشعر أنها ستظل تدور في دائرة مفرغة طوال الحياة حتى تصل لسيفها، وكل ذلك لأنها تركته له ذلك اليوم، ليتها غرزته في صدره وله تتركه له…..
ودانيار لم يمنحها اهتمامًا وهو يسير مستمتعًا للخارج، وقد ختم ليلته بشيء جيد، بل أكثر من جيد في الحقيقة .
تنهدت زمرد وهي تخرج من الحديقة وقد فشلت في الحصول على سيفها، فها هي المرة الأولى التي تفكر فيها بالاستسلام، حسنًا لا بأس لتتجاهل كل ذلك وتتفرغ للأمر المهم …مشكلة برلنت .
_________________
تحرك صوب المشفى كي يطمأن على المصابين من جنوده قبل أن يذهب لاجتماع الملك، يشعر بالنشاط الشديد بعدما أفرغ القليل من غضبه في تلك المعركة الصغيرة، معركة يدرك جيدًا أنها مجرد محاولات واهية لاستنزاف قوى جيشه قبل الحرب، لكن ليس هو من ينحني لمثل تلك الخطط الدنيئة ..
خرج من شروده وهو يفرك وجهه، و بمجرد أن خطى ارض المشفى تصنم بصدمة وهو يرى الملكة تعالج أحد الجنود، والمشفى حالة فوضى رغم أن عدد الجرحى ليس بالكبير، والرجال متناثرين حولها في شكل جعل قلبه يهدر بقوة وهو يصرخ بصوت جهوري :
” ما الذي يحدث هنا ؟! ”
وفي ثواني توقفت الحياة داخل المشفى وكأن ما بها إلا صخور، الجميع توقف حتى اصوات التأوهات تلاشت وكأنها لم تكن، أو وكأن الجروح والاوجاع اختفت فجأة .
نظر الجميع صوب سالار بريبة وهو لم يكن يبصر من كل هؤلاء سوى الملكة التي تركت مخبأها في حين أمر هو بعدم إخراج أي امرأة من القصر، وتجلس بين مئات الرجال تعالجهم .
” ما الذي تفعلينه هنا؟! من الذي سمح لكِ بالخروج ؟؟”
رفعت تبارك حاجبها بعدم فهم :
” هذه وظيفتي ”
” لا ليست كذلك، أنتِ الملكة هنا ”
تشنج وجه تبارك ترفض كل ما يقول وكأنها لا ترضى عن ذلك اللقب الذي لم تحصل من خلفه سوى على الكوارث والمشاكل فقط :
” لا، افضل أن أكون ممرضة واعالج المرضى افضل من كوني مجرد ملكة لا فائدة تُرجى منها ”
شعر سالار بصدره يشتعل غضبًا لمعارضتها له، يرفض أن تفعل ما تفعل الآن، تنفس بصوت مرتفع وهو ينظر للجنود حولها بشر لينتفض الجميع مبتعدين عن تبارك التي فتحت عيونها بصدمة :
” ماذا ؟؟ لا تتحركوا أنتم مصابين ”
لكن في هذه اللحظة إن كانوا مخيرين بين الاستماع للقائد وطاعة الملكة، فسيختارون القائد بالفعل، فالملكة إن عصوها لن تجبرهم على ساعات من التدريب الشاقة أو البقاء في العراء دون ثانية للراحة .
” مهلًا، ما بكم أنتم لا تستمعوا له، توقف يا رجل جرحك ما يزال حيًا ”
ابتسم سالار بتشفي على ملامح تبارك التي كانت تراقب ما يحدث متسعة الأعين لا تصدق ما فعل، يمنعها واجبها ؟؟
” أنت، أنت تخيف المرضى هيا أخرج من هنا الأن، إلا إن كنت جريحًا فانتظر دورك حتى يتفرغ أحدهم لعلاجك ”
ختمت حديثها وهي تنهض عن مقعدها تتحرك صوب فراش أحد الجنود كي تتفقده، وسالار يلاحقها بعيونه حتى وقعت على الجندي الذي يتسطح على الفراش فابتسم له يضم يده لصدره لينتفض الرجل بسرعة ساقطًا عن الفراش وهو يطلق صرخة متوجعة، لكنه تحمل كل ذلك وهو يتحرك بعيدًا عن تبارك، تحركت خلفه تبارك مساعدته، لكن حينما اقتربت من تجمع المرضى تفرقوا من حولها وكأنها تحمل مرضًا معديًا لتضحك بعدم تصديق :
” هل تمزحون معي ؟؟ أنتم مرضى بالله عليكم لا تستمعوا لهذا المتجبر ”
لكن لا أحد استمع لها هي لتستدير بسرعة صوب سالار وعيونها تطلع نيرانًا تتحرك تجاهه بأقدام سريعة غاضبة وهي تصرخ :
” أنت أخبرهم أن يعودوا للفراش الخاص بهم كي اعالجهم أيها الطاغية، ألا ترى حالتهم، ألا رحمة في قلبك يا عديم القلب أنت؟؟ ما بك ؟؟؟”
كانت تصرخ في وجهه بقوة جعلت أعين الجنود تتسع بصدمة، وسالار لم يصدر منه سوى كلمة واحدة فقط :
” للخارج ”
وكان دور تبارك هذه المرة لتتسع عيونها وهي تصرخ ببسمة غير مصدقة :
” أنت تمزح ؟؟ ااا”
” للخارج ولا تزيدي حرفًا واحدًا ”
نظرت خلفها بقهر شديد، ثم عادت ونظرت له قبل أن تطلق صرخة مقهورة غاضبة، وهو ما يزال يحدق في جنوده ببرود شديد وحينما شعر بها تخرج بالكامل من المشفى صاح بصوت جهوري :
” مهيــــار ”
دقيقة حتى لمح مهيار يخرج من أحد الغرفة منتفضًا بفزع :
” اوامرك يا قائد ”
قال سالار دون نقاش أو توضيح لحديثه :
” يومين من التدريب الإضافي لك وانا من سيشرف بنفسه على تدريبك وصدقني لن تحب ما سيحدث، والآن اطلب المزيد من الجنود كي يساعدونك وانتهي من كل ذلك والحقني صوب قاعة الاجتماعات ”
راقب مهيار رحيله بعدم فهم وهو يفغر فاهه يحاول أن يعلم ما يقصده، ما الذي يرنو إليه سالار ؟! ولِم عاقبه بهذا الشكل، هل هناك من تأذى من الجرحى ليفعل به ذلك ؟!
نظر حوله للجنود يتساءل بجنون :
” ماذا فعلت أنا الآن؟؟”
وعند سالار الذي تحرك خارج المشفى يفكر فيما حدث، مهيار تجاوز حدوده بالسماح للملكة أن تعالج الجنود وأن تجلس بين هذا العدد من الرجال بهذا الشكل، منذ متى سمحوا للنساء بفعل هذا ؟!
زفر بقوة يتحرك صوب القاعة حيث الملك لتقرير ما سيحدث، لكن وقبل أن يفعل سمع صوتًا يأتي من حوله، صوت لتمتمات مرتفعة باكية .
نظر حوله يحاول تبين صاحب الصوت ليبصر جسد تبارك التي كانت تتحرك بعرج بسيط صوب القصر وهي تتمتم بكلمات غير مفهومة وحين اقترب منها سمع صوتها يخرج من بين شهقاتها :
” حسبي الله ونعم الوكيل فيكم كلكم، حتى الشيء الوحيد اللي فرحني جه اخده مني، كنت سعيدة لاول مرة بعد أيام، واخدوا مني فرحتي دي بالشيء اللي بحبه، البومة اللي اسمه سالار، انسان مستفز و…”
” أنتِ يا امرأة لقد كدت اتعاطف معكِ في نصف جملتك الاولى، تعلمي أن تتحكمي في لسانك هذا ”
توقف جسد تبارك بصدمة تتنفس بصوت مرتفع، ثم دون أن تتكلم كلمة أو تستدير له، أكملت طريقها بغضب شديد وهي تكمل باقي تمتماتها التي تحولت لكلمات عالية ناقمة :
” انسان مستفز ومتجبر وطاغية .”
كانت تتحدث دون أن تمتلك الجرأة لترى نتيجة كلماتها تهرول بأقدام متعجلة صوب غرفتها وسالار يرمقها بشر شديد ووجه مشتعل وهو يراها تغيب عن عيونه :
” ها انظروا لتلك الهرة التي نبت لها أظافر”
زفر ثم قال يتوعد :
” تغضب لأنني اخرجتها من بين الرجال، هذا المرأة الـ …حسنًا حسنًا لنرى كم من الوقت ستتحمل قبل أن تأتي لي بكارثة، أنا في غاية الامتنان للحرب التي ستبعدني عن القصر لأيام حقًا، على الأقل سأعود لحياتي قبل هذه الزوبعة ”
صمت ثم قال بغضب من نفسه قبلها :
” أشعر أنني اتحمل مسؤولية طفلة صغيرة، لكنني اكتفيت من كل ذلك حقًا ”
صمت يتحرك صوب حجرته وحينما دخلها ألقى جسده على الفراش كي يرتاح وقد تناسى تمامًا أمر اجتماع الملك، يشعر بالتعب الشديد وهو يفكر في رحلته غدًا إلى مشكى، تنهد بصوت مرتفع يغمض عيونه مقررًا أن يتنفس لدقائق، ثم يذهب للملك، لكن فجأة انتفض عن الفراش حين تذكره لأمر ما :
” مهلًا هل كانت تعرج ؟؟ هي مصابة ؟؟؟؟”
_________________
يجلس أعلى عرشه الذي حازه بحد السيف والدماء، العرش الذي تشرب دماء ملكه السابق قبل أن يجلس عليه صاحبه الحالي، عرش شاهد بعيونه دماء تُراق لأجله ولأجل الفوز به، وقد حدث وخرج فائزًا من هذه المعركة وظفر به، لكن هل حدث وفاز به بالفعل ؟!
تلقى خبر فشل الزحف صوب سفيد بملامح باردة وكأنه كان يتوقع الأمر، ابتسم بسمة مريبة وكأنه كان ينتظر الخبر، الأمر غريب، فبافل كان من الغرابة التي تجعله ينتظر خبر هزيمته في كل مرة يرسل بها رجال لسفيد، وكأنه سعيد لقتل المزيد والمزيد من رجاله على يد سفيد، ولا أحد حتى هذه اللحظة يفهم ما يفكر فيه .
” إذن سيدي …ما العمل الآن ؟!”
حرّك بأقل عيونه صوب ذلك الرجل الذي حتى لا يتذكر اسمه فهو عيّنه منذ ثواني مساعد له بعدما ارسل مساعده السابق للحرب ويبدو أنه قتل أو أُسر، نفخ بهدوء :
” سأذهب للنوم ”
وتبع حديثه بنهوضه عن عرش ” أرسلان” الذي تلوث بعدما احتله بافل، تحرك بافل بهدوء صوب الخارج وهو يتمطأ بكسل تحت نظرات المساعد المصدومة، هو جاء يرتجف كي يخبره أن التوغل لسفيد واحتلالها فشل، وهو فقط يخبره أنه سيذهب للنوم .
تحدث بافل بهدوء :
” أخبر أخي أن يجمع من تبقى من قادة الجيش صباحًا لاخبرهم كامل ترتيباتنا ”
” لكن سيدي، شقيقك ذهب في تلك الغارة وهو الآن ربما …ربما قُتل أو…”
ولم يكد يكمل كلماته التي خرجت منه مترددة، حينما وجدت بافل يستدير له بجنون وهو يندفع صوبه كالمختل يصرخ ممسكًا برقبته :
” ما الذي قلته أنت؟؟ اخي ذهب معهم ؟؟ من ذلك الذي سمح له بالذهاب أيها الحمقى؟ هل تتصرفون دون العودة لي ؟؟”
حاول الرجل التحدث وفشل بسبب ضغط بافل على رقبته، وبافل يصرخ به وعيونه حمراء مخيفة :
” إن مسّ أخي سوء سأقتلكم جميعًا، جميعًا ..”
تركه ليسقط ارضًا يسعل بقوة وهو يزحف للخلف برعب شديد :
” اقسم …اقسم أنني لا أعلم شيئًا سيدي، هو فقط اقتحم الصفوف وأخبرهم أنك سمحت له بالذهاب ”
شعر بافل بالجنون يكاد يصيبه، شقيقه الوحيد والمتبقي له من عائلته، آخر من تسري دماؤه داخله يكاد يفقده، شعر بنبضه يضطرب وهو يجن لفكرة أن أحدهم قد أصاب صغيره وربيب يده بالسوء، ليس هو، من بين إخوته العشرة ليس هو ..
تحرك صوب غرفته وهو يكاد ينفجر من كثرة الضغط الذي يكتمه داخل جسده في هذه اللحظات، شقيقه الوحيد من والديه يكاد يفقده في خطته التي وضعها، من بين عشرة إخوة كان هو الوحيد من والديه، و الباقيين من والده فقط، لعنة الله عليهم أجمعين لقد عمل طوال حياته على قتلهم كي لا تحرضهم شياطينهم على التخلص منه هو وشقيقه حتى يحصلوا على مكانة والدهم ..
دخل الحجرة وهو يشعر بأوردته تكاد تنفجر من الجنون، الغضب تحكم به، بدأ يحطم كل ما تقع عيونه عليه، وهو يتوعد للجميع بالويل وصور إخوته التسعة الآخرين تُعرض أمام عيونه، كأنهم يسخرون منه ومن أعماله التي رِدت في شقيقه العزيز .
مشاهد التخلص منهم تمر أمامه في تلك اللحظة، منهم من قتله بخنجر ومنهم من حرقه حيًا، ومنهم من القاه من فوق جبل غدرًا .
ابتسم بسمة مخيفة وهو يشعر بالفخر من نفسه، رغم أنه ليس الأكبر بين أبناء والده إلا أنه كان الأذكى والاكثر مكرًا من بينهم، وحين قُتل والده رأى نظرات الطمع تشتعل في عيون الجميع، فبدأ مجزرة التخلص منهم جميعًا ولم يدع سوى شقيقه الوحيد والذي كان وقتها ما يزال في طور شبابه، وهي ……
الوحيدة التي هربت منه من بين جميع إخوته، والوحيدة التي هزمته شر هزيمة يومًا ما .
كان يقف في منتصف الحلبة والجميع يصرخ ويصيح حوله سعداء بالقتال الودي بين أبناء زعيمهم، قتال بين الشقيقة الأصغر والابن الثاني، قتال معروف الفائز به، فأين لفتاة ضعيفة مثلها بالقوة للتغلب على ذلك الطاغية بافل ؟؟ لكن والدهم هو من حكم بهذا النزال فقط ليجبر ابنته صاحبة الثالثة عشر عامًا على حمل سيف كالجميع، رغم أنهم في الحقيقة لا يفقهون عن القتال شيئًا .
وتلك المراهقة المسكينة تقف في منتصف الحلبة وهي تحمل سيفها ترتعش بخوف شديد تبحث بين الوجوه عن والدتها التي حينما ابصرتها بكت برعب تصرخ :
” أمي ساعديني رجاءً”
وما كادت والدتها تتخطى حدود الحلبة حتى امسكها رجال والدها، وصوت الاخير يصرخ بها :
” تحركي أيتها الحمقاء وقاتلي، كفاكِ جبنًا وضعفًا ألا يكفي أنكِ فتاة وايضًا ضعيفة ؟؟”
انتفضت الفتاة وهي تبكي ولم تكد تدافع عن نفسها حتى استلم جسدها ضربة قوية من قدم بافل الذي جعل جسدها يتطاير داخل الحلبة وهي تصرخ بصوت يمزق القلوب وقد شعرت بأن امعائها طُحنت أسفل اقدامه.
سقطت ارضًا تبكي وتصرخ وهي تتمسك بمعدتها :
” أمي ساعديني، ليساعدني أحدكم، ساعدوني ”
لكن وقبل أن تكمل كلماتها شعرت به يجذبها من شعرها يجبرها على الوقوف وهو يهمس أمام وجهها بشر شديد :
” أيتها القذرة الصغيرة، ألم تكتفي من حماية والدتك لكِ ؟؟ ألم تملي الضعف عزيزتي ؟؟ حاولي مرة واحدة التصرف كابنة زعيم وليس ابنة خادمة وضيعة ألقت جسدها على رب عملها لتغويه وتسرقه من زوجته ”
وبعد هذه الكلمات شعرت بطاقة غضب قوية تتملك منها وهي تنظر لعيونه تقول من بين دموعها :
” بل والدك هو الحقير الذي أجبر والدتي على الزواج منه أيها الفاسق القذر، وليس والدتي من اغوته ”
نظر لها بافل ثواني قبل أن يطلق ضحكات صاخبة جعلت جسده يهتز وهو يتركها يقول من بين أنفاسه:
” أنتِ بريئة جدًا حبيبتي الصغيرة، بريئة للغاية ووالدتك القذرة تلك لم تخبرك الحقيقة، أيتها المسكينة افيقي والدتك تلك مجرد عا….”
وقبل أن يكمل كلمته سمع شهقات الجميع مرتفعة تبعها شعور مظلم من الألم وهو ينظر لاسفل ليرى سيف غُرز في قدمه، فتح عيونه بصدمة ليراها تقف أمامه وهي تقول بقوة وصراخ أمام الجميع دون خوف :
” بل والدك هو القذر الذي أجبرها على ذلك يا حقير، تبًا لك وله ولقومك العفنين ”
ومن بعد تلك الكلمات سمعت همسات مرتفعة لتستدير تعلن عصيانها الاول في المكان تصرخ بجنون :
” نعم ..نعم أنتم قذرين عفنين، أنتم قمامة الممالك التي ألقوا بها ونبذوها، أنتم منبوذون حقيرون، جميعكم بلا استثناء لعنة الله عليكم اجمعين يا كلاب و…”
ولم تكمل كلمتها بعد هذه الكلمة بسبب صرخة والدهم الذي صدح صدر صوته بشكل مخيف وهو يصرخ بها :
” زمــــــرد ”
استدارت زمرد صوبه وهي تتنفس بصوت مرتفع وملامحها ازدادت شراسة :
” ماذا ؟! الحقيقة مؤلمة أليس كذلك .. يا أبي ؟!”
نظرت جوارها صوب بافل تقول ببسمة جانبية وقد بصقت جميع كلمات والدتها التي ترددها دائمًا أمامهم دون خوف :
” لا تخف يا أخي سيلتأم جرحك قريبًا، لنعتبر هذا انتصار للصغيرة الحمقاء التي تسخر منها أنت وجميع أبناء شعبك”
ختمت حديثها تقف في وجه الجميع بلا خوف وبسمتها تزين وجهها، حتى حينما تحرك رجال والدها لجذبها صوب الساحة لجلدها عقابًا لتجاوزها الحدود مع الملك، كانت ما تزال تبتسم في وجوههم بقوة وكأنها تخبرهم أنها لا تخافهم.
أفاق بافل يتحسس نصف وجهه وهو يردد :
” ربما انتهت معركة، لكن الحرب لم تنتهي بعد اختي …”
__________________________
تنفست بصوت مرتفع وهي تتحرك خارج المحزن تحمل بين أناملها الرقيقة العديد والعديد من حاويات النباتات التي يجمعهم والدها .
تنفست بصوت مرتفع تلقي تذمرها في وجه والدها دون أن ترى أمامها من تلك العبوات التي تغطي رؤيتها :
” انظر يا أبي، هربت من المنزل كي لا أعمل مع أمي في التنظيف، وأنت احضرتني هنا لأفعل ما هربت منه، هل تنتقم لشريكة حياتك ؟! هذا لئيم لعلمك .”
ختمت حديثها تتحرك صوب الطاولة جواره الباب وهي ما تزال ترغد وتزبد بلا توقف متذمرة من هذا الوضع المزري الذي تعيشه في هذه اللحظة :
” حسنًا ربما افضل العمل مع والدتي في نفض الستائر والمفروشات، أكثر من تقليم النباتات وتنضيفها ”
وضعت الاشياء على الطاولة أمامها تتنفس واخيرًا براحة بعدما كانت تلك الأشياء كالجبل أعلى صدرها، لكن لم تكد تخرج ذلك النفس المرتاح الذي سحبته منذ ثواني حتى سمعت صوتًا ضاحكًا خلفها، صوت جعلها تستدير بسرعة وبفزع كبير لتبصر والدها يجلس خلف مكتبه في ركن المحل، وأمامه يجلس هو، جارها الوسيم الذي يعمل في جيش الملك راميًا للسهام، أمر محرج تتمنى لو يُمحى من عقلها تمامًا .
ابتسمت بسمة صغيرة وهي تنفض ثيابها وتعدل من حجابها :
” مرحبًا، مرحبًا بك يا…مرحبًا بك ”
ابتسم لها الشاب بسمة هادئة جميلة يرد عليها التحية بالمثل، لكن المشاعر التي خرجت من تحيته لم تكن مثل خاصتها البتة .
” مرحبًا بك ليلا، مر وقت طويل منذ رأيتك”
ابتسمت له تقول بصوت خافت خجل منه :
” نعم، أنا كنت مشغولة بعض الشيء، وأنت، أنت تعمل في القصر ولا تعود كثيرًا لذلك لم نتقابل ”
منحها الشاب بسمة صغيرة يقول بجدية وتلميح واضح لها :
” لا بأس ربما يكتب الله لنا لقاء دائم بإذنه ”
رفعت حاجبها لا تفقه من حديثه شيئًا، لكنها لم تهتم كثيرًا وهي تتحدث بهدوء شديد تنسحب من المكان بأكمله يعد نظرات الشاب لها:
” إن شاء الله، اعذرني عليّ الرحيل الآن لمساعدة امي في العمل، أتحتاج لشيء آخر أبي قبل رحيلي ؟!”
نظر لها والدها ببسمة واسعة يقول وهو يغلق الدفتر أمامه:
” لا عزيزتي يمكنك الرحيل الآن”
هزت رأسها تنظر ارضًا وهي تتحرك بخطوات هادئة صوب الباب، وقبل أن تفتحه سمعت صوت الشاب خلفها يردد بصوت مسموع لها، بل واضح للجميع :
” لِمَ لا تعرض عليها الآن يا عم، أنا أريد معرفة رأيها ”
نظر له والدها وهو يحاول الاعتدال في جلسته للتحدث، لكن ليلا استدارت بسرعة تقول بعدم فهم :
” يعرض عليّ ماذا ؟!”
رأت ليلا نظرات لوم وعتاب تلوح في عيون والدها للشاب أن تحدث بمثل تلك الأمور هكذا وعلى غير المتعارف عليه، تنهد ينظر لابنته :
” هو يا ابنتي جائني لـ …”
” جئت لطلبك للزواج ليلا، ما رأيك ؟؟”
وبالتزامن مع انتهاء جملته صدح صوت فتح الباب خلف ليلا، لكنها لن تسمع خطوات قدم أو صوت شخص، استدارت ببطء لتُصدم بهيئة مهيار الذي استقر جوار الباب بوجه مصدوم واعين متسعة يحدق في وجهها وكأنها هي من قالت للتو أنها ترغب في التقدم لخطبة شاب وليس العكس .
قال مهيار يحاول الاستيعاب وهو ما يزال يحدق بوجه ليلا :
” ماذا ؟؟؟”
رفعت ليلا يدها بسرعة وكأنه يوجه لها تهمة شنيعة :
” ليس أنا من تحدث اقسم ”
لكن مهيار لم يكن يستوعب ما يحدث حوله، هو فقط بمجرد فتحه للباب وجد تلك الجملة تصطدم في وجهه، حرك عيونه صوب المكتب حيث والد ليلا والشاب ليعيد نفس سؤاله :
” ماذا ؟؟”
لفت ليلا رأسها صوب والدها تقول بجدية :
” نعم، ماذا ؟!”
وهكذا أصبحت تقف جوار مهيار والاثنان ينظران صوب والد ليلا بملامح مستنكرة فضولية مشدوهة ومتعجبة لما سمعوا، والشاب لا يفهم ما يحدث أو ما أخطأ به؛ لذلك أعاد نطق جملته :
” لقد كنت اقول أنني اود الزواج بليلا .”
قاطعه والد ليلا بجدية :
” اسمع يا بني هذه الأمور لا تُعرض ولا تُناقش بهذا الشكل هنا، ولا نأخذ آراء فتياتنا بهذه الطريقة، لذلك يمكنك إحضار والدك اليوم والتقدم بشكل مناسب، ما رأيك ؟!”
نظر لهم الشاب ثواني قبل أن يبتسم ويصافح والدها ثم نهض يقول :
” حسنًا يا عم، اليوم مساءً سأكون مع والدي في منزلكم ”
نظر لعيون ليلا المصدومة وعيون مهيار المماثلة وملامحه الشاحبة وكأنه تلقى موعد موته للتو، وتم تحديده ليكون بالتزامن مع تقدم الشاب لخطبة ليلا .
لم يفق مهيار سوى على صوت الباب الذي ارتد للجدار بعد رحيل الشاب، تحرك بعيونه صوب ليلا التي أنزلت عيونها ترفض النظر له في هذه اللحظة تحديدًا، ابتسمت لوالدها بسمة صغيرة وهي تقول :
” إذن يا أبي أنا سأرحل لارى إن كانت أمي تحتاج مساعدة ما ”
ابتسم لها والدها يودعها، وهي نظرت لمهيار نظرة صغيرة تقول بصوت منخفض :
” السلام عليكم سيد مهيار ”
ختمت حديثها ترحل بسرعة من أمامه وهو ما يزال شاحب الوجه لا يعلم ما يحدث حوله، وصوت والدها يتحدث دون أن يجد استجابة منه، واخيرًا استفاق يقول دون مقدمات :
” اريد بعض الأعشاب التي أُستهلكت البارحة في المشفى”
تعجبه الرجل وهو يهز رأسه:
” حسنًا يا بني استرح وأخبرني ما تريد ”
اخرج مهيار ورقة من يده يعطيها له، ليبتسم له الرجل ثم تحرك لداخل المحب حيث مخزنه :
” حسنًا اجلس ريثما انتهي من جمع ما تريد ”
تركه ودخل لمخزن المحل، بينما مهيار جلس على المقعد أمام المكتب يشعر بالصدمة ما تزال تحلق فوقه، ليلا الصغيرة ؟؟ الصغيرة نضجت وبدأ الشباب يتوافدون لخطبتها ؟؟؟
________________________
جُرت بواسطة بعض النساء صوب قاعة العرش حيث ينتظرها جلسة حكم عليها من الملك والذي إذا أثبت أنها بالفعل سارقة، فعليها توديع حياتها داخل القصر وتميم كذلك، وربما تلتف حوله انثى مزعجة تسرقه منها وهذا ما لن تسمح هي به ولو على جثتها ..
أبصرت قبل الدخول للقاعة زمرد التي كانت تتحرك صوبها وهي ترفع ابهامها في الهواء مخبرة إياها أن كل شيء على ما يرام، وهي قررت أن تثق بهذه الفتاة وتبتسم غامزة لها بشكل لم يظهر بسبب غطاء رأسها.
ثم تحركت داخل القاعة تخفض وجهها ارضًا مخفية إياه خلف غطائه، لكن ذلك لم يمنعها من الدوران بنظرها بين الجميع وهي تبحث عنه تحديدًا، لكن لا شيء، كانت القاعة بها المستشارين والملك وبعض الحراس فقط .
ابتلعت ريقها تسمع صوت الملك يتحدث بهدوء شديد :
” أخبروني أنكِ سرقتي خاتمًا ثمينًا من غرفة القائد تميم، هل يمكنك التفسير لي، وإن كنتِ تمتلكين شيئًا للدفاع به عن نفسك فهاتهِ”
رفعت برلنت رأسها قليلًا صوب الملك، ثم دارت بعيونها تبحث عن زمرد أو كهرمان، قبل أن تعود له مجددًا :
” لا املك دليلًا مولاي ولا شاهدًا، الله وحده يعلم أنني لم ألمس شيئًا يخص أحد داخل هذا القصر طوال سنوات عملي هنا ”
نظر لها إيفان بهدوء قبل أن يقول :
” ونعم بالله، لكن باعتباري ملك لا يجب أن يستند حكمي لادلة معنوية آنستي، احتاج لدليل مادي يثبت برائتك ”
زفرت برلنت تبحث بعيونها عن زمرد والتي طمئنتها أن الأمر تحت السيطرة، لكن أين هي الآن، رفعت عيونها للملك ولم تكد تقول كلمة حتى توقفت على صوته وهو يقتحم المكان بهيبة كعادته يقول :
” اعذرني للتدخل مولاي لكنني جئت لاخبارك أنني اتنازل عن حقي واسامحها ”
ابتسمت برلنت بسمة واسعة خلف غطائها وهي تستدير له تنظر في وجهه ببسمة عاشقة كأنها توجه له رسالات شكر عديدة خفية، لكن كل تلك البسمة اختفت فجأة حين اكمل هو حديثه :
” لذا ارجو العفو عنها ولتكتفي بمغادرة القصر ”
اتسعت عيون برلنت بصدمة تطلق شهقة مرتفعة وكأن قرار إعدامها صدر منذ ثواني، وحقًا كان الأمر كذلك لبرلنت، فهي لم تكن تخشى عقاب الملك بقدر خوفها أن يجبرها على الرحيل، والآن جاء هذا الغبي يصدر بنفسه قرار إعدامها.
لذا ودون تفكير اعترضت بسرعة وبصوت مرتفع متناسية مكان وجودها وهي تصرخ بجنون :
” لااا ما الذي تفعله أنت الآن ؟! مولاي أنا لا اقبل سماحه، رجاءً عاقبني، عاقبني أي عقاب تراه مناسبًا لي، ما رأيك بعام من العمل في الحظيرة ؟!”
اتسعت عيون إيفان بعدم فهم، لكن صدمته كانت أكبر وهو يجد تميم يستدير صوب الفتاة وهو يصيح في وجهها بعدم فهم :
” أي حمقاء وبلهاء أنتِ ؟! هل جننتي ؟! أنا الآن احاول مساعدتك يا امرأة ؟؟ أنتِ تثبتين التهمة على ذاتك ”
” نعم أنا أفعل، رجاءً لا تتدخل بحكم الملك ”
استدارت بسرعة صوب إيفان تتحدث بغباء ولهفة شديد وهي تدرك أنها إن خرجت من القصر الآن فلن يحدث وتعود له ولو كانت وصيتها الأخير أن تُدفن به :
” هيا مولاي أنا جاهزة لتحمل أي عقاب تمنحني إياه، لكن رجاءً لا تستمع لذلك الرجل ”
ابتسم إيفان بعدم تصديق يهمس بجنون :
” تالله وبالله ووالله ما رأيت في حياتي من هو بمثل حمقك، أيتها الغبية أنتِ بسرقتك تلك لن تعاقبي بمجرد تنظيف للحظيرة يا غبية سوف يقطعون يدك ”
استدارت له برلنت بسرعة وهو كان يتنفس بقوة وغضب لا يفهم سبب قتاله لأجل برائتها وهي من خدعته وسرقته وازعجته في حياته، لقد استأذن من سالار خصيصًا قبل الرحيل مع الشيخ لمشكى فقط كي يأتي ويخبرهم أنه متنازل عن حقه .
وبرلنت التي سمعت كلماته شحب وجهها على الفور وهي تفكر هل بقائها جواره يستحق أن تعيش مبتورة الأيدي ؟! وهل يستحق خاتم كهذا عقوبة كبتر يدها ؟!
كل ذلك يحدث وإيفان يراقبه بأعين هادئة وصمت تعجبه الجميع، لكن هو فقط كان مستمتع، مستمتع وهو يرى حديث الاثنين معًا ونظرات تميم المدافعة .
تنفس تميم بصوت مرتفع :
” رجاءً مولاي أنا اتنازل عن حقي، لذا ارجو منك تخفيف الحكم الخاص بك ”
استدارت برلنت بسرعة صوب عرش إيفان الذي كان يراقب كل ذلك بابتسامة باردة مستمتعة يشوبها بعض السخرية مما يحدث أمامه:
” نعم مولاي رجاءً خفف من حكمي وقل ما شئت لكن رجاءً كله إلا اخراجي من القصر وايضًا أمر البتر ”
في تلك اللحظة سمع الجميع صوت نسائي يتدخل بسرعة وبأنفاس لاهثة تحدث :
” مهلًا مولاي، مهلًا”
استدارت عيون الجميع صوب ذلك الصوت والذي لم يكن سوى كهرمان التي اقتحمت المكان فقط لتقاطع الجلسة حتى تصل زمرد مع الفتاة التي ستبرأ برلنت .
تنفست برلنت الصعداء، بينما الحيرة علت وجه إيفان الذي استطاع التعرف على هوية الفتاة التي اقتحمت المكان دون استئذان .
” اعتذر لكم مولاي على المقاطعة، لكن …لكن برلنت صديقتي وانا املك دليلًا على برائتها ”
رفع إيفان حاجبه وقد شعر أن هذه المحاكمة قد تحولت لمهزلة حقًا :
” ترى ما هو ذلك الدليل آنسة ؟؟”
تنفست كهرمان وهي تتحرك مقتربة من عرش إيفان متحدثة صوب برلنت بجدية :
” مولاي، برلنت تم الإيقاع بها في فخ إحدى العاملات اللواتي يحقدن عليها، لقد اوقعتها في مكيدة بعدما دست بالخاتم داخل ثيابها، وفي الحقيقة هي لم تعلم ثياب من تلك، لكنها فعلت وبالصدفة دست الخاتم داخل ثيابي أنا، والعاملات اللواتي اخرجن الخاتم يمكنهن الشهادة حين نعرض عليهم اماكن خزانات الملابس دون تغيير مكان قطعة واحدة، فهم وجدوه في أحد فساتين الخاصة ويمكنني إحضاره هنا ”
تنفست بصوت مرتفع تحاول أن تهدأ وإيفان يراقبها مضيقًا عينه، وهي حركت يدها أمام وجهها لتتنفس بشكل طبيعي :
” وأنا يا مولاي لم اطأ يومًا معمل القائد تميم كي أكون المذنبة والجميع يشهد ”
ابتسم لها إيفان يرد بصوت هادئ :
” ولماذا لا نقول أن رفيقتك هي من فعلتها واخفت الخاتم داخل ثيابك ؟!”
رفعت كهرمان عيونها صوب العرش ولولا الغطاء الذي يحيل بين الملك ورؤيتها لابصر تحدي وعناد في نظراتها :
” هذا لأن الفتاة بنفسها اعترفت أنها هي من دبرت كل ذلك للأنتقام من برلنت، فاسمح لها بالمجئ للاعتراف مولاي ”
أطال إيفان النظر في جسدها، ثم ابتسم بسمة جانبية يقول :
” يمكنها المجئ والتحدث ”
فجأة أبصر الجميع جسد، أو بقايا جسد مدمر يتحرك داخل القاعة وخلفه فتاة ملثمة تدفع ذلك الجسد بحدة وكأنها تقودها للمذبح أو ما شابه .
اتسعت أعين إيفان بقوة وشر حين رأى ذلك المشهد، بينما برلنت فتحت عيونها بصدمة وهي تهمس داخل نفسها :
” يا ويلك يا برلنت لم تجدي سوى زمرد لتعتمدي عليها ؟؟، لقد ضعت وضاع مستقبلي، الآن بدلًا من تهمة لسرقة هاتم، ستصبح محاولة قتل ”
انتفض جسد إيفان عن العرش بقوة يراقب جسد تلك الفتاة التي يبدو أنها تعرض للضربت يصرخ بصوت هز المكان بأكمله:
” ما الذي يحدث هنا؟؟ من ذا الذي تجرأ ورفع اصبعًا عليها ؟؟”
صمت الجميع برعب من ملامح إيفان الذي استنكر كل ما يحدث أمامه، وقد على الاستنفار في المكان واستقامت الاجساد بترقب، والجميع شعر بالخوف من إيفان وخاصة كهرمان التي انتفضت للخلف تطلق شهقات مرتعبة .
كل ذلك حدث وهو الوحيد الذي لم يعي به، كان الجميع حوله يتحرك بينما هو الوحيد الساكن، العالم توقف حوله، الحياة بأسرها بهتت ألوانها فجأة حين سمع كلمات تلك الفتاة التي لم تخترق ايًا منها أذنه سوى اسم وحيد .
« برلنت » اسم تسبب في انتفاضة جسده ليستدير تميم بسرعة مخيفة ويحدق بها واعينه متسعة، لا يعي بكل ما حدث حوله ولا للكوارث الآتية، أو لأنه تخلف عن غارة القائد لدقائق انتهت، لا يعي لشيء سوى اسمها .
برلنت ؟؟؟ هل هذه هي برلنت نفسها ؟؟؟
ودون شعور منه نطق تميم اسمها بهمسة مصدومة مثخنة بالجراح القديمة :
” برلنت ؟؟؟؟؟؟”
______________________
همسة قد توقف حياتك، وهمسة أخرى قد تعيدها .
يتبع…
حابة أوضح شيء البعض معتقد أنه ليه لغاية دلوقتي الابطال محبوش بعض، يعني بقالنا ١٦ فصل ولسه محبوش بعض؟!
حابة اقول إن لو فعلا حبوا بعض بسرعة ومن نظرة واحدة يا جماعة هيكون شيء غير منطقي، يعني تخيلوا في الحياة الواقعية وفي الظروف العادية اساسا الإنسان عشان يميل لإنسان بياخد وقت قد ايه، وبعدين عشان يحبه بياخد وقت اكبر، فما بالكم بيهم هما في ظروف اقوى وأشد، يعني مفيش حد هيحب حد بالسرعة دي وبالدرجة اللي تخليه يحارب عالم كامل عشانه، اصبروا لأن الأحداث مش بالشكل ده، مقدرة لهفتكم إن تشوفوا الابطال وتفرحوا بيهم فرحة الأم بعيالها، لكن بمنطقية يا شباب، خلي الأمور تسير بمنطقية، لأن لو عملت اللي أنتم عايزينه ببساطة هكون كروتت تفاصيل كتير اوي هحتاجها قدام …
كل همسة في الرواية لسبب .
ومتنسوش أن الرواية مش اعتمادها الاول على قصص الثنائيات في حروب وقصص أخرى جنب القصص دي .
فكل اللي أقدر اقوله، إن كل شيء متخطط ليه وكل شيء له وقته، وصبرًا لأن القادم باذن الله هيبهركم، فقط استمتعوا .
صلوا على نبي الرحمة….
___________________
كانت صرخة إيفان هي الكلمة الناهية لأي احاديث جانبية داخل القاعة، كلٌ ابتلع كلمته التي كانت على وشك مغادرة فمه، حينما ابصروا غصب الملك وانتفاضة جسده على العرش، ومن يعلم الملك جيدًا يدرك مقدار كرهه لأي تجاوز داخل أسوار مملكته، وخاصة قاعة عرشه، وتحديدًا أمامه .
وهذا ما يراه أمامه تجاوز ليس فقط داخل مملكته، بل وايضًا أسفل سقف قصره، وهذا ما لن يسمح بحدوثه طالما هناك انفاس داخل صدره .
” أن تتجرأي و تمسي فردًا من أفراد شعبي لهو تجاوز، لن أسمح به ما دمتُ حيًا، والآن آنستي امنحك دقائق قليلة تجدين فيها حجة قوية يمكنها أن تخفف من عقابي لكِ ”
نظرت له زمرد بحنق شديد حاولت قدر الإمكان ألا تظهره على ملامحها، لكنها فشلت ، ولم تكتفي بذلك بل قررت أن تزيد الطين بلة وتفتح فمها لتجادل الملك :
” أنت يا …”
” مولاي .”
كانت تلك الكلمة الأخيرة الخافتة والرقيقة صادرة من كهرمان التي رأت أن تتدخل في الحال لحقن الدماء، فهي تدرك كيف ستتصرف زمرد في مثل هذه الحالات ولن تفرق بين ملكٍ وجندي .
تحركت أعين إيفان من زمرد حتى استقرت نظراته على كهرمان التي اقتربت من عرشه بمنتهى الهدوء تقول :
” مولاي، اسمح لي بالحديث رجاءً ”
رمقتها زمرد بسخرية تكتم صيحة حانقة كادت تخرج منها، يبدو أن حياتها الفوضوية وسط المنبوذين _ حيث لا قوة تعلو فوق صاحب الصوت الاعلى _ أثرت عليها إذ أضحت نافرة لكل القوانين والتقاليد وهذه الأشياء الروتينية المملة.
هي ورغم أنها تنبذ وتنفر أصلها وانتمائها لهذه الفئة من الأشخاص، إلا أنها لا تستطيع أن تنبذ عادات وتصرفات تربت عليها .
وكهرمان النقيض لزمرد، والتي تربت بين طرقات القصر على يد ملكة كوالدتها، وتعلمت على يد ملكٍ عظيم كشقيقها، كانت تدرك جيدًا التصرف الصحيح في هذه اللحظات، أن تعاند الملك وتصرخ في وجهه، تصرف قد يودي بك لحتفك، هذا ما لم ولن تدركه زمرد التي كانت معتادة على الصراخ في وجه والدها ” زعيم المنبوذين” بل والتقليل منه أمام الجميع ومقاتلة اخوتها .
” مولاي عذرًا منك على تصرف صديقتي، لكن جلالتك هذه الفتاة امامك ليست البريئة التي تعتقدها، لقد جاءت لرفيقتي برلنت يومًا وهددتها أمامنا بالاذية فقط لأن برلنت منعتها من إثارة المتاعب، ولم تكتفي بذلك بل تجرأت وضربتها على مرأى ومسمع من الجميع، ثم هذه الجروح التي تراها على جسدها لم تكن رفيقتي هي المتسببة بها على الاطلاق ”
وعند هذه النقطة وجدت زمرد مدخلها تقتحم الحديث بجدية كبيرة :
” نعم يا مولاي هذا صحيح، أنا عندما اكتشفت فعلتها وذهبت لاصارحها وجدتها بهذه الهيئة ولا اعلم حتى من فعل بها هذا، حتى أنها هي من هاجمتني واصابتني بجرح غائر في يدي ”
ختمت حديثها تشير صوب خدشٍ صغير يتوسط ظاهر كفها والذي لم يكن واضحًا حتى لايفان الذي رفع حاجبه لا يقتنع ولو بمقدار شعرة بما سمع .
ويبدو أن إيفان لم يكن الوحيد الذي لم يقتنع بحديث زمرد، فدانيار والذي جاء يستدعي الملك كي يتفقد القافلة الراحلة صوب مشكى، وكي يحضر تميم للتحرك، صُدم بمجرد دخوله وسماعه حديث تلك الحرباء المتلونة، يا ويلي لو أنه يجهلها لكان الآن صدق أنها الضحية، يدرك جيدًا أنها هي من فعلت هذا بالفتاة .
” تلك الكاذبة كدت أصدقها، مسكينة أُصيبت بخدشٍ أثناء محاولتها التخلص من الفتاة .”
استند بكتفه على الجدار خلفه يراقب ما يحدث بسخرية لاذعة وكأنه يشاهد عرضًا أو ما شابه، ينتظر أن تنتهي هذه الحرباء من دورها ليصفق لها .
نظر إيفان صوب الفتاة الملقاة ارضًا يقول بقوة :
” هل ما تقوله هذه الفتاة صحيحًا؟! لم تكن هي من ضربتك وهددتك ؟؟”
نظرت الفتاة صوب زمرد التي ضيقت عيونها وكأنها تحذرها التحدث بكلمة، أو تتحداها لقول شيء :
” لا …لا أدري، لقد …لقد كان المكان مظلمًا ولم أبصر شيئًا، كان جسدًا يرتدي الاسود هو من هجم عليّ مولاي وابرحني ضربًا، ثم اختفى كالضباب وبعدها بثواني معدودة هجمت تلك الفتاة على غرفتي تجرني مجبرة إياي على المجئ هنا والاعتراف بما فعلت ”
صاحت زمرد بانتصار :
” ها رأيت، أخبرتك أنا لم أمس منها شعرة واحدة حتى مولاي ”
ختمت حديثها ترفرف برموشها في شكل جعل دانيار يعتدل في وقفته وهو يضع يده أعلى فمه يكتم ضحكة كادت تفلت منه وهو يراقبها بإعجاب وفخر، رغم عدم معرفته لما يحدث هنا، لكنه فخور بها فخر الأب بصغاره وهو يراها تقترف المصيبة وتهرب من العقاب .
صدح صوت إيفان في القاعة يتجاوز عن تلك النقطة رغم شكه الكبير أن تلك الفتاة هي المتسببة فيما يحدث :
” إذن هل ما قالته العاملة صحيح ؟! أنتِ من دسستي الخاتم في ثيابها لأجل توريط الفتاة ؟!”
انتفض جسد كهرمان لثواني انتفاضة لطيفة بعد سماعها له يخصها بالحديث وكأنها خشيت أن يكتشف شيئًا من مجرد الإشارة لها، رفعت عيونها له تحدق به من خلف غطاء وجهها بأعين مراقبة لكل لفتة تصدر منه، رجل ملئ بالهيئة والذكاء، هو كتلة متنقلة من كل الصفات التي تجذب أي امرأة صوبه .
بكت الفتاة حين تذكرت همس زمرد لها بالقتل، أقسمت لها أنها ستقتلها إن كذبت بكلمة واحدة ولن يستطيع أحد حمايتها ولو عادت لرحم والدها فستخرجها بيدها وتتخلص منها بنفسها، لذا دون شعور تحدثت بما حدث فعقاب للملك سيكون أخف من تلك المختلة .
وهاجس صغير وسوس لها الاحتماء بالملك منها، لكن نظرات زمرد لها ارعبتها وبحق .
وزمرد تلك المسكينة التي لم تكن تتحدث بصدق فهي بالطبع لن تقتلها، لكن يبدو أن نبرتها وملامحها كانوا مقنعين وبشدة للفتاة .
أفاقت زمرد من شرودها على صوت برلنت :
” اقسم أنني لم أرفع اصبعًا على شيء لا يخصني مولاي، وهذه الفتاة هي من أوقعت بي ”
كانت تتحدث وهي تشير صوب الفتاة المتهمة، غير واعية بنظرات تميم الذي لم ينزع عيونه عنها منذ سمع باسمها، هل …هل يعقل أنها هي نفسها برلنت خاصته؟؟ برلنت الحبيبة ؟؟ هل هي نفسها من جاب الأرض من شرقها لغربها فقط ليبحث عنها ليكتشف الآن أنها تقبع أسفل القصر الذي يسكن به .
شعر بقلبه يرتجف لتلك الفكرة، ياالله هل تكون هي ويرتاح أخيرًا ؟؟ لكن إن كانت هي كيف لم تتعرف عليه ؟؟ وهو رآها مرات قليلة لكن مظهرها لا …صمت عن تلك الأفكار وهو يسمع صوت الملك يصرخ بصوت جهوري :
” تلك الألاعيب لا تُمارس في مملكتي وبالطبع ليس في قصري، ولأنه خطأك الأول فسأكون رحيمًا بكِ واكتفي بنفيك خارج أسوار قصري، اذهبي وابحثي عن رزقك في مكان آخر يا امرأة ”
ماذا ؟؟ هل سيبعدها ؟؟ هو لم يتأكد بعد إن كانت برلنت نفسها أو لا، لا لن يسمح للملك بأبعادها قبل أن يتأكد، انتفض تميم وهو يفتح فمه ليعترض، لكن فجأة توقف حين سمع بكاء الفتاة وهي تتوسل الملك بالسماح قبل أن تسحبها العاملات للخارج .
حرك عيونه صوب برلنت التي كانت تقف مرفوعة الرأس تسمع حديث الملك لها :
” ولأن ظلمًا نالك داخل قصري وقضيتي ليلة داخل جدران سجني دون ذنب، وتعويضًا عن كل ذلك سوف امنحك خمسة أيام من الراحة، ومبلغًا ماليًا، ولكِ كامل الحرية بالخروج من القصر في أيام العمل ولمدة شهر كامل ”
ختم حديثه يهبط عن عرشه مستأذنًا من الجميع يتحرك خارج القاعة بكل هدوء كي يتفقد الجيش المتحرك لمشكى، بينما تميم ظلت أعينه معلقة بها يبحث فيها عن رائحة من عزيزته بيرلي، لكن لا شيء ..
تحرك خلف الملك بهدوء شديد وقد أخذ وعدًا على نفسه بمعرفة كل ما يخص تلك الفتاة، فلا يعقل أن يتشابها باسم هو اختاره بنفسه مميزًا نادرًا لأجل صغيرته .
ولحق بهم دانيار الذي ابتسم لزمرد حينما التقت عيونه بخاصتها التي تظهر من اللثام، غمز لها غمزة صغيرة، ثم تحرك خلف الملك وتميم وهي ظلت تنظر لاثره بصدمة كبيرة تحاول معرفة ما يقصد من تلك الغمزة .
___________________
” هؤلاء أعداء الله استحلوا دماء إخوانكم مرات ومرات، قتلوا منهم الكثيرين، وعذبوا فيهم الباقيين، وإن اعطاكم الله قوة عجزتم عن مساعدتهم بها فالعار لكم ما حييتم، والخزي مصيركم ومصير ابنائكم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ”
صمت سالار يحرك عيونه بين رجاله، يرى وجوه بلا ملامح أو تعبيرات، فقط جمود وسواد غطى الوجوه، وكأن كلماته لهم تخترق افئدتهم ويخزنوها داخلهم لتشحنهم بطاقة تنتظر يوم تنفجر في وجوههم .
” نحن لم نكن يومًا دعاة حربٍ، ولا متفاخرين بقوتنا، ولم ننتصر يومًا سوى بتوفيق من الله، والآن نحن لسنا ذاهبون لحربٍ، ليس الآن، لم تقرع طبول الحرب بعد، لكن إن اضطررنا لها، فنحن أهلٌ بها، سوف نسير خلف قوافل المملكة ونحميها، حتى تصل لشعب مشكى، إن اعترضت حشرة طريقكم ادهسوها أسفل اقدامكم، فهمتم ؟؟”
ارتفعت صيحات الجميع بصوت واحد :
” فهمنا سيدي ”
ابتسم لهم سالار بسمة صغيرة يهز رأسه هزة خفيفة، يستدير خلفه ليرى إن عاد دانيار مع الملك وتميم أم لا، لكن ما حدث هو أنه رآها تقف على بُعد صغير منهم تراقبه بأعين غريبة جعلته يرفع حاجبه، وهي فقط ابتسمت له بسمة صغيرة خفيفة تهز رأسها له في تحية صامتة، وسالار رفع حاجبه بتعجب شديد .
لكنه وبعد ثواني لم يملك سوى أن وضع يده على قلبه يميل بعض الشيء برأسه وفي احترام شديد يؤدي تحيته للملكة، ثم استقام يبتسم لها يهز رأسه له .
بينما عند تبارك والتي خرجت منذ الصباح صوب الحديقة حيث ابلغها العريف أنها ستكون مكان درسهم بعدما استبعد فكرة دخول تلك الفتاة لمكتبته، أو أي إنسان حتى لمكتبته العزيزة .
خرجت تسير بملل وهي تنتظر حضوره، قبل أن ينتفض جسدها لسماع صوت جهوري جعلها تهرع ظنًا أن حربًا أخرى ستندلع، لكن ما رأته وسمعته جمدها بأرضها وهي ترى ما يحدث أمامها.
سالار يتقدم الجيش ويهتف بهم بكلمات جعلتها ترتجف وتتمنى، فقط تتمنى بكل ذرة داخل قلبها أن يحصل عالمها على سالار خاص به ..
فجأة وجدته يستدير وهو يدور بنظراته حوله، قبل أن تلتقي نظراتهما، فلم تملك سوى أن تبتسم له بتقدير وهي تهز رأسها له باحترام وتحية، ولصدمتها رأته ينحني بعض الشيء مؤديًا لها تحية هزت جوانب قلبها وجعلت بسمة لا إرادية ترتسم على فمها :
” في رعاية الله وحفظه ”
أبصرت تبارك الملك يقترب بكامل هيبته من سالار وخلفه رجلين تعلم أنهما من رجال سالار، راقبتهم من بعيد لا تسمع ما يقال بينهم، وحين قررت أن تقترب أكثر بفضول، تصنم جسدها في ارضها حين سمعت صوتًا خلفها يقول :
” لطالما كان سالار محط أنظار الفتيات داخل القصر، لكن يومًا لم تتجرأ فتاة على النظر له علنًا مخافة أن يزجرها هو بنظرة ترديها ارضًا، لكن ها هو يحدث، فتاة تنظر له بإعجاب شديد على مرأى ومسمع من الجميع وهذه الفتاة ليست سوى الملكة، مثير للاعجاب ها ؟؟”
استدارت تبارك ببطء صوب الخلف تحاول تبين صاحبة الصوت لتبصر امرأة في متوسط عمرها ترتدي تاجًا وثياب مرصعة بالاحجار الكريمة وتقف أمامها بكبرياء شديد، لكن عيونها كانت تلقي لها نظرات غريبة جعلت تبارك تقول بصوت خافت :
” عفواً ؟؟”
وعلى بُعدٍ منهم كان الملك يتفقد أمور الجيش ويطمئن عليه، ثم توقف أمام سالار يربت أعلى كتفه بهدوء وبسمة صغيرة :
” أثق أنك ستعود مرفوع الرأس يا صديقي، اوصل سلامي لبافل ورجاله ”
ابتسم له سالار يهز رأسه هزة صغيرة :
” سأفعل مولاي، اطمئن، والآن اسمح لنا بالتحرك ”
” يمكنك ذلك ”
وتلك الكلمة من إيفان كانت بمثابة رصاصة السباق التي منحت الجميع الإشارة الخضراء للتحرك فانتطلق جيش المقاتلين بقيادة يتقدم الجميع، ثم خلفهم سارت قوافل الملك ومن بعدهم تحركت كتيبة آخرى بقيادة تميم، ومن ثم كتيبة الرماة التي تحمي ظهورهم .
ابتسم سالار الذي جلس على صهوة جواده ينظر لجيشه يأمرهم بصوت جهوري :
” تقدموا يا رجال ”
وبالفعل تحرك الجميع بسرعة كبيرة، وسالار يسبقهم، لكن وقبل الخروج بالكامل من باب القصر أبصر بطرف عيونه مشهد جعل عيونه تتسع بصدمة وهو يرى الملكة الأم تسقط تبارك ارضًا ليتوقف خيله فجأة بقوة جعلت جميع أفراد الجيش يتوقفون بسرعة كبيرة وريبة .
وقبل أن يتحدث سالار بكلمة واحدة أو يتحرك خطوة أبصر الملك يتحرك بقوة مرعبة صوب الملكة وكأن الشياطين تتبعه، ليتنفس هو بقوة يغمض عيونه، قبل أن يقول بصوت هادئ :
” لنكمل طريقنا ”
وبالفعل سبق الجميع بجواده، تقدم كتيبته بهيبة والكل خلفه، وقد أصبحت ملامحه صخرية بشكل مخيف وكأنه للتو ألغى تفعيل الإنسان داخله، وأصبح في هذه اللحظة رجل حرب وآلة قتل ..
وكذلك الجميع منذ خطوا خارج القصر تناسوا كل ما يرهقهم ويشغل عقولهم ولم يتذكروا سوى شيئًا واحدًا فقط…القصاص .
______________________
انتهى من تفقد جميع الجنود المصابين، وأخيرًا حانت لحظة راحته التي يرجوها كل ثانية، ألقى بجسده على الأريكة يغمض عيونه فقط لينال قسطًا صغيرًا من الهدوء، لكن ذلك لم يتحقق مع كل تلك الضوضاء داخل عقله.
هل هي الآن جالسة تفكر في ذلك الشاب الذي تقدم لخطبتها، هل تعرفه جيدًا وستوافق عليه ؟! ليلا الصغيرة تقدم لخطبتها أحدهم ؟!
تنفس يشعر بالفوضى تعم عقله، هو لم يحسب حسابًا لهذا اليوم، متى نضجت الفتاة وأصبحت مقصد كل شابٍ يبحث عن الاستقرار ؟؟
” سيدي الطبيب نحتاجك في غرفة خمسة بسرعة ”
انتفض مهيار عن مقعده يركض سريعًا صوب الغرفة التي نطق بها مساعده، يشكر الله أن أرسل له هذه المهنة كي تشغل عقله قبل أن يُصاب بالجنون، والآن في هذه اللحظة ولأول مرة يشعر بامتنان شديد لعمله الذي جعله يصرف انتباهه عن كل ما يشغله .
لكن وبعد ساعة تقريبًا فرغ من كل ذلك فقرر أن يجد شيئًا يصرف انتباهه عن التفكير بليلا، ألا وهو الذهاب لها بنفسه .
هل هناك طريقة أفضل من ذلك ؟
وبالفعل وضع مهيار خطته قيد التنفيذ وهو يتحرك خارج المشفى مستغلًا فترة راحته ووجود مساعديه في المكان .
خرج من القصر ومنه تحرك صوب محل النباتات والأعشاب الخاص بوالد مرجان وليلا، لكن وحينما اقترب منه وجده مغلقًا.
حسنًا الآن هذه إشارة له كي يتراجع عن جنونه المفاجئ ويعود كأي شخص عاقل صوب عيادته ويرى عمله .
لكنه في هذه اللحظة لم يكن عاقلًا البتة وهو يغير طريقه صوب منزل ليلا :
” نعم هذه إشارة، وُضعت فقط لاتجاهلها ”
وبعد دقائق كان يقف أمام منزلها ولا يدري مبرر وجوده هنا، ليعود، فقط تراجع مهيار وعد صوب عيادتك الدافئة الآمنة و….
قاطع كل تلك الأفكار داخل عقل مهيار سماعه لصوت طرق على الباب أمامه، طرقه هو للباب، حيث ارتفعت قبضته دون شعور وضرب الباب في انتظار الرد والذي جاءه سريعًا.
فتحت ليلا الباب :
” تفضـ….”
توقفت عن الحديث فجأة بصدمة كبيرة حين أبصرت مهيار أمام الباب، ليبتسم لها الاخير بسمة صغيرة يبحث داخل عقله عن مبرر :
” مرحبًا، ذهبت للمحل ووجدت أنه مغلق، وقد كنت في حاجة ماسة لبعض الاعشاب الضرورية للمشفى ”
وليلا التي لم تخرج بعد من صدمتها ابتعدت عن الباب دون شعور :
” نعم هو أبي اغلقه لأجل تناول الطعام وسيعود بعد قليل و…تفضل ..تفضل للداخل ”
نظر لها مهيار بهدوء يشعر بمقدار تسرعه :
” لا شكرًا لكِ أنا فقط جئت لإحضار بعض الاعشاب الضرورية، يمكنني العودة بعد ساعة ريثما ينتهي العم من طعامه ”
ولم يكد يتحرك هاربًا منها ومن نظراتها التي جعلته يشعر كما لو أنه نبت له قرنين، حتى سمع صوتها تقول بسرعة كبيرة :
” لحظة ”
توقف مهيار يستدير لها بتعجب لتقول هي بعجلة من أمرها :
” لحظات قليلة سأحضر مفتاح المحل واعود لاعطيك ما تريد ”
” ماذا ؟؟ لا لا، سوف اعود بعض دقائق لا ترهقي نفسك ولا تشغلي رأسك بالأمر حقًا و…”
قاطعته ليلا بجدية وهي تركض للداخل :
” اعطني لحظات قليلة واعود ”
وبالفعل اختفت داخل المنزل تاركة إياه ينظر لاثرها وهو يوبخ نفسه بقوة، يشعر برغبة عارمة في الصراخ وجلد ذاته على كل تلك الأفعال الطفولية الغبية التي ما عرفها قبل هذا اليوم، لكن خرجت ليلا ورحمته من كل ذلك وهي تقول مبتسمة .
” هيا ”
” نعم لنتحرك ”
تحرك خلفها صوب المحل الذي لا يبعد عن منزلها الخاص سوى بشارع واحد فقط، وبمجرد أن توقفوا أمامه أخرجت المفتاح لتفتح الباب، قاطع كل ذلك صوتًا خلفهم تعرفه هي ويألفه هو .
” ليلا جيد أنك أتيتِ، كنت على وشك الذهاب لمنزل ”
استدار مهيار ببطء صوب الصوت ليبصر الشاب نفسه أمامه يبتسم تلك البسمة المستفزة له :
” لقد نسيت حقيبة مشتريات خاصة بي جوار مكتب العم حينما جئت للحديث معه ”
هزت له ليلا رأسها مبتسمة بسمة صغيرة :
” أوه، حسنًا ثواني سأحضرها لك ”
وبالفعل فتحت المحل تدخل وقبل أن يتحرك خلفها مهيار دفعه الشاب دون انتباه يلحق بها بسرعة كبيرة، ومهيار ظل واقفًا في الخارج يراقب ما يحدث أمامه ببسمة جانبية قبل أن يدخل المحل بكل هدوء .
يرى ليلا وقد بدأت تدور في المكان بحثًا عن الحقيبة التي يتحدث عنها ذلك الشاب حتى قالت :
” يبدو أن ابي حفظها في الداخل حين وجدها، لحظة أبحث لك عنها ”
نظرت صوب مهيار الذي كان يعبث بأنامله في بعض النباتات لا يعطيهم أي اهتمام :
” اعذرني سيد مهيار لن أتأخر”
ابتسم لها مهيار بسمة صغيرة يهز رأسه هزة خفيفة يراقبها تتحرك صوب المخزن بحثًا عن تلك الحقيبة، تاركة الاثنين في الخارج .
راقبها مهيار بأعين غير مهتمة حتى اختفت من أمامه، ولن يكد يستوعب الشاب ما يحدث، فبمجرد أن غابت ليلا عن عيونه حتى وجد جسده يلتصق بالجدار خلفه وهناك حسد يحاصره وصوت يخرج كالفحيح :
” ستخرج من هنا ولن تعود لا الآن ولا لاحقًا، لا بمفردك أو حتى بوالديك، وفكرة الزواج من ليلا ستتخلى عنها نهائيًا سمعت ؟!”
اتسعت أعين الشاب بقوة وهو يحدق في وجه مهيار الذي كان محمرًا بغضب وبشكل مخيف، وعيونه تنطق بشر جعله يبتلع ريقه :
” أنت الآن ترتكب خطأ سيكلفك حياتك، فمن هددته للتو هو أحد جنود الملك وفرد من جيش الرماة الملكي ”
ابتسم له مهيار له بسمة أظهرت أسنانه التي كان يضغط عليها بقوة مخيفة :
” ومن هددك هو الطبيب الملكي الذي لن يجعل في جسدك جزء صغير دون أن يحطمه إن لم تبتعد عن ليلا ”
صمت ثم قال بتهديد وبصوت خافت يستغل لمرة في حياته مرتبة أخيه داخل الجيش، لمرة واحدة يتفاخر بمكانة دانيار :
” أو سأخبر اخي العزيز عنك واوصيه بك خيرًا ”
” اخوك ؟؟”
” القائد دانيار ”
اتسعت أعين الشاب بصدمة كبيرة وهو يحدق في مهيار الذي لم يكن يمزح البتة بأي كلمة نطق بها، وشعر بجسده ينتفض وهو يرى الجدية تعلو وجهه، لذلك ابتلع ريقه يهز رأسه:
” أنا فقط أردت أن أطلب…..”
” مرفوض، طلبك مرفوض، فهذه التي وضعت عيونك عليها هي امرأتي، ولي منذ نضجت، والآن أخرج واختفي من أمام عيوني قبل أن يعلم أخي أنك وضعت عيونك على زوجة شقيقه المستقبلية ”
ولشدة خوفه لم ينتبه الشاب لشيء سوى الهروب من بين قبضة مهيار، لم ينتبه أن لا أحد ذكر أمر زواج ليلا من مهيار، وأن والد ليلا ما كان ليوافق على مقابلته إن كانت بالفعل له .
” اسف سيدي، لم يخبرني أحد، اعتذر لك ”
تركه مهيار وهو يمنحه بسمة صغيرة اخذها الشاب وهرول خارج المكان تاركًا ما جاء لأجله يتنفس الصعداء بمجرد أن هرب منه .
دقائق قليلة وخرجت ليلا تقول بجدية :
” لم اجد شيئًا في الداخل ربما ابي ا….ماذا ؟؟ أين رحل ؟؟”
استدار مهيار بملامح هادئة مبتسمًا بسمة صغيرة كعادته :
” لا ادري حقًا، فجأة انتفض وكأنه تذكر لتوه شيئًا مهمًا ”
هزت رأسها بعدم فهم وهي تتحرك في المكان تنير جميع اضوائه :
” اوه لا بأس إذًا، أخبرني سيدي الطبيب ما الذي تحتاجه”
«أنتِ » كلمة صغيرة كادت تفلت من بين شفاهه إلا أنه تداركها يقول ببسمة صغيرة وهو يجلس على المقعد أمام المكتب يطيل النظر لها بلطف كعادته :
” أرجو فقط أنني لا اعطلك عن اعمالك ”
” لا سيدي أنت لا تفعل، لا تقلق ”
ابتسم لها بسمة واسعة وقد عقد العزم أنه حان الوقت لأخذ خطوة جدية فعلية بعد ترقب لسنوات لحين يشتد عود آنسته الصغيرة :
” إذن، اريد الكثير من الأشياء، دعيني آخذ من وقتك الكثير آنستي فأنا طلباتي عديدة …”
___________________________
شعرت تبارك برائحة الخبث تفوح من تلك المرأة أمامها، فربما تكون هي مجرد فتاة منعزلة انطوائية، لكنها تكتشف الخبث والمكر على بُعد أميال، وربما ما زاد من هذه الموهبة لديها هي عيشها في جُحر الأفاعي حيث نساء حارتها، وهذه السيدة أمامها بهذه النظرات التي تخبرك أنك اصغر من أن تنظر في عيونك مباشرة، ما هي إلا امرأة كنساء حارتها، لكن الفرق بينها وبين ” أم عيد ” جارتها أن هذه ترتدي ثياب ثمينة ولا تحمل نعلها في يمناها، وترتدي تاجًا على رأسها، عدا ذلك فهي تشبه أم عيد، بل إن أم عيد تمتلك نظرات أكثر براءة من تلك المرأة .
” اعتقد أنكِ بالفعل سمعتني ”
” نعم، وسأتظاهر أنني لم افعل، لذا رجاءً اعذريني عليّ الرحيل ”
نعم تهرب كعادتها كما تفعل مع نساء الحارة في أي مواجهة، تركض صوب شقتها لتحتمي بها، لكن تلك المرأة أمسكت بمرفقها قبل أن تهرب كعادتها.
ألم تخبركم أنها أشد مكرًا من أم عيد ؟؟
جذبت الملكة تبارك أمامها تنظر لعيونها وهي تردد بنبرة خافتة :
” لا يبدو هذا استقابلًا مناسبًا لوالدة الملك وزوجك المستقبلي ”
والدته إذن ؟؟ هذا يفسر وجود تاج أعلى رأسها، كيف أنجبت هذه المرأة شخصًا كالملك ؟؟ هل يوجد حموات سيئات هنا كعالمها ؟؟
” أوه، اعذريني مولاتي لم أقصد أن أكون وقحة و ..”
حسنًا نفذت كل كلماتها المجاملة ولم تستطع نطق واحدة إضافية ويبدو أن الملكة أدركت ذلك لتقول ببسمة :
” واخيرًا التقينا، جئت البارحة وطلبت رؤيتك، لكن يبدو أن الملك نسي اخبارك بالأمر وحدثت تلك المعركة وانشغل عن الأمر”
تمتمت تبارك بسخرية شديدة :
” قدمك خير علينا ”
” عفواً”
تنحنحت تبارك بهدوء ترفع طرف فستانها كما اعتادت في الآونة الأخيرة تميل بعض الشيء تحت أعين الملكة المتفحصة لكل حركة تفعلها :
” انرتي المملكة مولاتي ”
ابتسمت الملكة بسمة جانبية ساخرة ثم قالت بلا مقدمات :
” لا تليق بكِ أفعال الملكات ”
نظرت تبارك لعيونها بصدمة من صراحتها المبالغ بها، ويبدو أن الملكة التقطت تلك النظرات لتقول :
” أخبرت الملك سابقًا أنكِ لا تصلحين ملك لمملكة بحجم سفيد، لكنه تمسك بكِ على أمل أن تكوني مناسبة، لكن مما أراه يبدو أن أمله قد خاب ”
ختمت حديثها تشمل تبارك بنظرات مستاءة، أو مستحقرة بعض الشيء، لا تعلم لكن كل ما تعلمه أنها لم تحب أبدًا نظرات تلك المرأة؛ لذلك فضلت الانسحاب مكتفية بهذا الحديث بينهما :
” حسنًا لا اعتقد أن الملك يشاركك الأمر نفسه مولاتي، والآن اعذريني عليّ الرحيل لأن العريف ينتظرني ”
لكن وقبل أن تخطو تبارك خطوة واحدة بعيدًا عنها جذبتها الملكة بقوة كبيرة جعلتها تتراجع بعنف شديد ولم تتمالك تبارك نفسها وهي تحاول البحث عن شيء صلب تتمسك به، لكن خابت مساعيها حينما لم تجد سوى الهواء خلفها وسقطت ارضًا بقوة كبيرة مطلقة شهقة مرتفعة .
تتذكر الآن أن قدمها المصابة تؤلمها وبحق، قدمها التي وجدت الطبيبة أمام جناحها في الامس كي تعالجها، ولم تدرك حتى كيف علمت بإصابتها هي فقط تركت لها حرية علاجها .
رمقتها الملكة بنظرات ساخرة وهي تميل بعض الشيء :
” لا اعتقد أن الأمر سيستمر طويلًا، سرعان ما سيدرك إيفان أنكِ لا تصلحين لتكون مجرد خادمة في قصره وليس ملكة على عرش مملكته، وحينها أنا بنفسي سألقيكِ خارج هذا القصر ”
رفعت تبارك عيونها للملكة ترمقها بنظرات مرعبة وقد نجحت تلك المرأة في استحضار شياطينها وهي تقول بصوت مرتفع وقد جن جنونها في نادرة من النوادر التي تحصل معها تتناسى كامل قواعد هذا المكان، وقد لغى غضبها الفصحى التي تتحدث بها ونست كل شيء لشدة غيظها :
“لو اتجرأتي ورفعتي ايدك دي عليا مرة تانية أو لمستني مجرد لمسة تاني ولو بحسن نية أنا هنسى عمرك وهوريكِ الويل سامعة ؟؟”
انتفضت تبارك تنفض ثيابها وقد كان جسدها يرتجف غضبًا بعدما فقدت التحكم في أعصابها، ثم رفعت وجهها صوب الملكة التي كانت مصدومة مما سمعت وتبارك قالت بغضب جحيمي :
” لعب دور الشريرة في هذه الحكاية لا يليق بعجوزٍ مثلك، اقترح أن تعتزلي كل ذلك وتجلسي في حجرتك تتضرعين لله وتستغفريه فلا أظن أن امرأة مثلك تمتلك ما يكفيها من الأعمال الصالحة لتقابل ربها، مجرد ظن فقط والعلم عند الله ”
ختمت حديثها وهي تطيل النظر داخل أعين الملكة التي أصابتها صاعقة مما سمعت، وتبارك التي لم يخرجها غضبها سوى مرات معدودة على نساء حارتها كتلك المرة التي تحدثوا بها عن فارس أحلامها، والآن على هذه العجوز، لحظات نادرة لا تشعر بنفسها فيهم .
في هذه اللحظة سمعت صوت الملك يهتف بصوت قوي :
” جلالة الملكة ..”
استدارت تبارك لترى الملك يقترب منهم بملامح غاضبة عاصفة وقد اعتقدت للحظات أنه أبصر ما حدث، لكن وحينما أصبح على خطوات منهم قال بصوت جامد :
” يبدو أنكِ قابلتي الملكة …مولاتي ؟؟”
نظرت له والدته وما تزال ملامح الصدمة مرسومة على وجهها، لم تجبه بكلمة وهو ابتسم يقول بهدوء :
” كنت اتمنى أن يكون اللقاء أكثر رسمية ومناسبًا أكثر، لكن لا بأس”
أشار إيفان صوب والدته يعرف تبارك عليها :
” جلالة الملكة شهرزاد…. أمي، وهذه مولاتي هي جلالة الملكة تبارك …ملكة سفيد المستقبلية”
حدقت تبارك بالملكة ثواني قبل أن تبتسم بلطف شديد وكأن ما حدث منذ ثواني كانت مجرد أوهام من عقل شهرزاد، رفعت طرف فستانها تميل قليلًا :
” مرحبًا مولاتي تشرفت بمعرفتك ”
هزت شهرزاد رأسها دون كلمة ليبتسم إيفان بسمة صغيرة :
” مولاتي اعتقد أن الآن لديكِ دروس مع العريف صحيح ؟؟”
” آه صحيح، لقد تأخرت كثيرًا، عفواً اعذرني مولاي، عن اذنك مولاتي ”
ختمت حديثها تركض بعيدًا عنهما بسرعة كبيرة تهرب من تلك المرأة ونظراتها التي تكاد تحيلها رمادًا في وقفتها، بينما وبمجرد رحيلها استدار إيفان صوب والدته يقول بهدوء :
” سأتظاهر أن ما حدث منذ ثواني ورأيته لم يكن، لكن مولاتي حذاري وأن تمسي الملكة بسوء ”
” هل تهددني إيفان ؟؟”
اتسعت أعين إيفان بقوة يقول بنبرة عادية بعض الشيء :
” أوه لا العفو مولاتي، أخبرتك مئات المرات وسأعيدها لست أنا من يتطاول أو يهدد والدته، أنا فقط أخبرك أن الخطأ في حق الملكة والتجاوز في حقها هو تجاوز في حقي كذلك، وأنتِ خير من يعلم هذا، والآن اعذريني فأنا مشغول بالعديد من الأمور ”
وبهذه الكلمات اختتم إيفان حديثه مع والدته، وكذلك اختتم صبرها الذي حاولت حشده كي تهدأ وحوش غضبها .
ابتلعت ريقها وهي تراقب أثر رحيل ابنها وتبارك تفكر في القادم، الملكة ليست كما تخيلت بلهاء، بل هي حقيرة تجرأت ورفعت صوتها في وجهها وهددتها بشكل غير مباشر، وهذا اسوء مما تخيلت …..
_______________________
يقفون أعلى اسوار قلاع مشكى يتضاحكون ويتلاعبون، لا يعنيهم ما يحدث حولهم وقد اغرتهم اسوارهم واوهمتهم أن الاقتراب منهم محظور، احتموا بالقلاع والقصور وخلف المدافع آمنين مكر الجميع، جعلوا أسلحتهم تجيب على كل تسائل يوجه لهم، حتى إن مر بهم شخصٌ ما وألقى عليهم التحية لانتفضوا فزعين يصرخون ويلولون حاملين أسلحتهم مرتعبين .
فأين لهم من أمنٍ وقد اختاروا الغدر سبيلًا، ومالهم من سكينة وقد حازوا نصرًا بالخديعة ؟!
ومن بين أمنهم المزعوم، سمع أحدهم صوت خطوات تنهب الأرض، وشعروا جميعهم بالحصى تهتز أسفل أقدامهم .
تقدم أحد الرجال صوب سور القلعة يحمل منظارًا متواضعًا لا يذكر حتى مِن مَن سرقه يرفعه أمام عيونه يحاول رؤية المتسبب في تلك الأصوات، وفجأة اتسعت عيونه بقوة حينما أبصر جسدًا يعرفه تمام المعرفة يظهر أمامه، جسد لا يود تذكر آخر مرة قابله بها .
كان جسد سالار الذي يركض بحصانه يتقدم الجميع هو ما يظهر لذلك الشاب والذي سرعان ما شهق حين ظهرت له باقي الرجال الذين ظهروا دون سابق إنذار خلف سالار ليشعر بقلبه يكاد يتوقف رعبًا وهو يتراجع دون أن ينزع المنظار عن عيونه :
” أنه هو …لقد جاء ينتقم هجوم البارحة، لقد جاء ”
كان يصرخ وهو يتراجع بسرعة كبيرة مما جعله يتعثر بأحد رفاقه مسقطًا إياه ارضًا فدفعه رفيقه صارخًا :
” ما بك أيها الاحمق كدت تحطم عظامي أسفل جسدك الـ”
ولم يكد يكمل جملته حتى أبصر اهتزاز حدقتي الشاب وارتجافه :
” لقد جاء ينتقم منا هجوم البارحة، لقد جاء وأحضر معه جيشه لقد رأيته”
نظر له رفيقه دون فهم :
” من هذا الذي جاء ؟؟ ”
صرخ الشاب يشير بيده لأطراف القلعة :
” سالار …سالار لقد رأيته يقود جيشًا صوب القلعة، سنهلك أجمعين ”
وبنهاية حديثه انطلق جميع الرجال صوب السور بسرعة كبيرة يشهدون صدق حديث رفيقهم متسعي الأعين شاخصي الأبصار مضطربي القلوب، جزعين مرتعبين وأنى لهم من أمنٍ وهم أهل الغدر ؟!
فجأة انطلقت أبواق وصرخ رجل بصوت جهوري هز أرجاء القلعة :
” هجوم من سفيد ..هجوم من سفيد ”
وفي الاسفل وبمجرد أن أضحى سالار على مشارف مشكى توقف يرفع يده في الهواء يأمر رجاله بالتوقف وهو يبتسم لسماع صوت الأبواق والصراخ الذي انتشر داخل قلاع الحدود الخاصة بمشكى، ردد باستمتاع وهو ينظر بطرف عيونه لرجاله :
” يبدو أن صدى خطواتنا وصل لهم اسرع مما توقعت يا رجال ”
رفع سالار أنظاره صوب القلعة يبحث عن رجلٍ واحد فقط كي يحدثه بهدوء للدخول دون قتال، لكن ما رأى منهم ظلًا حتى، كل ما أبصره هو خيالات تركض يمينًا ويسارًا .
اتسعت بسمة سالار أكثر وهو يترك جيشه بعدما رفع لهم كفه يأمرهم بالثبات اماكنهم، يتقدم صوب القلعة بجواده رافعًا رأسه يصرخ بصوت جهوري :
” السلام على شعبٍ لا يعلمون عن السلام سوى أحرفه، أما بعد جئتكم من سفيد بجنودٍ مستعدين لخوض معركة تستمر حتى تتمنوا الموت لانتهائها، فإما أن تدعونا ندخل في سلام ونرحل في سلام، أو ندخل بالقوة ونخرج بدمار، أحضروا لي أحدكم أتحدث معه رجلٌ لذكرٍ، وإن كان قائدكم يخشى مواجهتي فأي صبي منكم يستطيع أن يحل مكانه لا فرق ”
صمت سالار ينظر صوب القلعة وقد جعله الزمان يشهد لتوه مقدار سخريته، فالقلعة التي كانت تستقبله قديمًا بالورود، تأبى اليوم فتح أبوابها، والبلاد التي كان شعبها يستقبلونه بالبسمات أمس، الآن يجهزون له الاسلحة ليستقبلوه .
مرت دقائق في صمت كان جيش سالار بها على أهبة الاستعداد لتحطيم بوابات القلعة واقتحام البلاد وتوزيع المعونات على أهالي مشكى، ورغم معرفة سالار لثغرات كثيرة في البلاد يستطيع الدخول منها دون شعور، إلا أنه أراد أن يمنحهم مرارة الذل حين يطأ مشكى ويوزع الطعام على شعبها أمام أعينهم دون أن يمتلكوا القدرة على البث بكلمة واحدة اعتراضًا على الأمر .
فجأة شعر سالار بظل يخيم عليهم من الاعلى وجسد يمنع أشعة الشمس، رفع عيونه ببطء يبصر جسدًا ضخمًا يعلق سيفًا في حزامه واعين تراقبه بشر وبسمة مخيفة ترتسم على فم ذلك الشخص .
اتسعت بسمة سالار يبادله البسمة بالمثل وهو يهتف بصوت ساخر :
” مرحبًا ببافل العزيز، مرت أيام منذ رأيتك آخر مرة، تحديدًا حينما كنت تغط في نومة هنيئة أعلى فراش صديقي وأنا كنت انحر رجالك في الخارج ”
امسك بافل بالسور في غضب شديد وكأنه يحتاج لشيء يتمسك به ليمنع ذاته من القفز والانقضاض عليهم :
” ما الذي جاء بك لمملكتي سالار ؟؟ لا تظن أنني سأمرر لك هجومك ذلك، بل انتظر مني ردًا في غاية القسوة ”
ابتسم سالار بسمة هادئة يجيبه :
” القائد سالار بالنسبة لك بافل، فمتى تساوت مكانتي مع الحثالة امثالك لينعتوني باسمي دون لقب ؟!”
صمت ثم قال بأعين خبيثة يدرك جيدًا كيف يتحدث مع أمثاله وله سابق خبرة مع والد بافل في ذلك :
” وفيما يخص ردك، فالبارحة رأيت كيف هو واحضرت لك ما تبقى منه ”
ختم حديثه وهو يشير صوب دانيار الذي هبط عن حصانه يتحرك لمؤخرة الجيش يجر أحدهم، ثم تقدم من سالار وهو يدفع شاب في العشرين من عمره ثم القاه ارضًا جوار اقدام حصان سالار ليبتسم سالار وهو ينظر بطرف عيونه صوب بافل الذي اشتدت عيونه وقال :
” إذن نتحدث بهدوء أم نأخذ بقايا ردك ونعامله نفس معاملتك لشعب مشكى ؟!”
وفي ثواني صرخ بافل بصوت جهوري مرتفع :
” ســـــــالار، ايــــــاك ”
ابتسم سالار بسخرية :
” أوه لهذه الدرجة معاملتك سيئة لهم ؟؟ لا تقلق فنحن نحسن معاملة الأسرى لسنا أمثالكم ”
صمت ثم قال بحسم :
” والآن إما أن تفتح ابواب مشكى لنا وتدعنا ندخل دون ترويع ساكنيها، أو نأخذ شقيقك اسيرًا لنا المتبقي من عمره ونقتحم أبواب مشكى ونروع جنودك ”
نظر لهم بافل من الأعلى والنيران الملتهبة حوله زادت من حدة الأجواء، لا يوجد غيره في مرمى بصر سالار وهذا بعدما اختبأ جنوده خلفه في انتظار أمرٍ منه، ولم يتأخر في ذلك إذ قال :
” افتحوا الابواب ”
تنفس سالار بصوت مرتفع، ثم أشار بإصبعه لدانيار الذي تقدم ينتزع شقيق بافل عن الأرض يجره صوب الخلف، وما هي إلا دقيقة وارتفع صوت فتح اقفال بوابات مشكى أمام جيش سالار، وهذه المرة لم تكن زيارة ودية كالمعتاد، بل كانت زيارة على صفيح ساخن .
نظر سالار لما خلف الأبواب بأعين متفحصة، فاشخاص كبافل ورجاله ليسوا ذلك النوع الذي قد تأمن غدره، وبعدما تيقن أن لا خدعة أو غيره تقدم سالار جيشه مرفوع الرأس وخلفه الجميع .
ليستقبله بافل الذي قال بمجرد أن أصبحوا داخل مشكى :
” اتركوا أخي وارحلوا بهدوء ولن نمسكم بسوء ”
أطلق سالار ضحكة صاخبة ساخرة جعلت أعين البعض تتسع، بينما هو توقف يقول بهدوء :
” وهل ترانا تكبدنا عناء المجئ هنا وجهزنا كل تلك القوافل، فقط لنزف لك شقيقك الصغير ؟! هيا بافل أنت اذكى من هذا حسب اعتقادي ”
” ما الذي تريده سالار ؟!”
قال سالار بصوت قوي جاد :
” للمرة الثانية سأصحح لك خطأك وأخبرك أنني القائد سالار، وما أريده انتزعه لا اطلبه، لذا فالسؤال الحقيقي هو ما الذي ستفعله قائد سالار ”
ابتسم له بافل بسمة جانبية :
” وما الذي ستفعله قائد سالار ؟!”
” جئنا بهدية من سفيد لشعب مشكى، هناك قوافل ستتوزع على الجميع هنا ”
” ومن سيسمح لتلك القوافل بالمرور !؟”
” ومن سيمنع تلك القوافل من المرور ؟! فحسب معرفتي أن ملك هذه البلاد توفاه الله، لذا نحن سندخل ونوزع ما نريد على شعب مشكى وأنت لن تتفوه بكلمة أو تعترض طريق الرجال أو حتى تفكر في نزع كسرة خبز من يد طفل من أطفال مشكى ”
رمقه بافل بأعين ضيقة وقد شعر بالغضب يستحوذ على كامل أرجاء جسده :
” وإلا ؟؟!”
رفع سالار رأسه يهتف بين رجاله دون أن يتردد لحظة :
” وإلا فلتجهز كفن شقيقك العزيز.”
كان الحوار الدائر بين سالار وبافل ما هو إلا ستار لتتم باقي خطة سالار التي وضعها مع الملك، إذ خرج من بين قافلته عدد من الرجال بثياب العامة وتحركوا داخل البلاد والأسواق بكل هدوء وانغمسوا بين شعب مشكى وذابوا فيهم وكأنهم منهم .
ابتسم دانيار يراقب ما حدث، ثم أشار بعيونه للجزء الآخر من الرجال والذين تحركوا بكل هدوء خارج القافلة يحملون حقائب أعلى ظهورهم، وساروا بعيدًا عنهم رفقة الشيخ محمد ومرافقه .
كل ذلك وبافل لا يشغل باله سوى بسالار وشقيقه .
وبعد نظرات متبادلة بين الجميع قال بافل بأعين غامضة يظهر خضوعًا وهميًا لهم ونظرات لينة وحديث مسالم كان لينجح في خداع سالار لولا مئات المعارك التي خاضها ضدهم :
” انتصرت سا ..قائد سالار، انتصرت عليّ واستغليت نقطة ضعفي الوحيدة، يمكنك العبور مع جيشك وقوافلك وفعل ما تريد داخل مملكتـــي وبـــلادي، فقط لتعلم أنني ما لجأت يومًا للعنف سوى لادافع عن نفسي وشعبي، نحن شعب مسالم لم نطمح يومًا للحرب، أنتم من طاردتمونا من مشارق الأرض لمغاربها ”
ابتسم سالار بسمة جانبية يردد بسخرية يدحض بجميع حججه للأرض السابعة :
” وشعب مشكى الأعزل ؟؟ ”
” نحن لم نمسهم بسوء ولم نؤذهم أو نرفع عليهم سلاحًا إلا حينما هاجمونا هم، كانوا هم من بدأوا بعدما قررنا أن نتعايش في سلام معًا، وجدتهم يحتشدون محطمين فقاعة السلام ”
” أي سلام هذا وأنت من سلبت أرضهم بافل ؟!”
” بل ارضي وارض أجدادي، أنا انحدر من مشكى وهذه مملكتي وحقي أنا وشعبي أم نسيت ”
الاصرار في عيونه والكلمات التي انبثقت منه كانت مرعبة وبحق، مرعب أن يكون لص كبافل مقتنع تمام الاقتناع أن تلك البلاد هي بلاده وبلاد أجداده بعدما نبذوها هم قديمًا وفروا منهم هاربين، لم يتحدث سالار بكلمة ولم يناقشهم فامثاله، لا نقاش له معهم ولا مودة تجمعهم.
هز رأسه هزة صغيرة ثم قال بصوت مرتفع :
” تأكدوا أن تصل الغلال والأطعمة لكل فم في مشكى يا رجال …”
أطلق رجاله صيحات مرتفعة مستجيبة وهم يندفعون بسرعة مخيفة داخل البلاد وبافل يراقبهم بأعينه مبتسمًا بسمة تظهر رضى غريب على ملامحه، رضى يدرك سالار أنه يخفي خلفه أمواج عاتية من الغضب، فبافل ليس بالمسكين الذي يفعل ما لا يحب مجبرًا، وإن كان سمح لهم الآن بتنفيذ ما يرغبون فهو الآن لا بد وأنه يفكر في عقله لضربات يرد بها ما حدث، وسالار ابتسم له بسمة أخرى تشبه خاصته، لكنها كانت ابعد ما يكون عن الرضى .
وما بين هذه البسمة وتلك، اندلعت شرارة صغيرة تتحرك في طريقها صوب كومة قش لتشعل بها حروبًا بين الجانبين.
_________________________
في المساء وداخل حديقة القصر وبعد الانتهاء من تناول العشاء، كان يجلس معها بهدوء مبتسمًا وقد انتهى لتوه من اخبارها بعض الأمور التي قد تفيدها في حكم البلاد .
” إذن أرى أنكِ تمتلكين خبرة لا بأس بها في التفكير الإداري ”
ابتسمت له تبارك ثواني قبل أن تطلق ضحكة صغيرة تقول بجدية :
” أنا مصرية مولاي، حيث الجميع خبراء حروب وإدارة، حسنًا لأكون صادقة معك، نحن نعرف كل شيء في هذه الحياة، لا تجد مصريًا يخبرك أنه لا يعلم شيئًا، بل سيسارع ليخرج لك بإجابة ”
ختمت حديثها بضحكة خافتة، ثم أضافت بجدية :
” للحق، نحن لسنا بذلك الشعب الذي يعيش يومه ليستيقظ ويحيا غيره، بل على مدار اليوم نعاصر من الاخبار ما يكسبنا خبرات كبيرة، بل ونسارع لتحليلها دون أن يطلب منا ”
ابتسم لها إيفان بتقدير ولم يدرك المعاني التي تخفيها كلمات تبارك البسيطة :
” حسنًا أنا معجب كبير الآن لكم مولاتي ”
ابتسمت تبارك بخجل كبير تنظر ارضًا، ثم رفعت عيونها تتنفس بصوت مرتفع وهي تقول :
” هل تظن أن الجيش نجح فيما ذهب لأجله ؟!”
نظر لها إيفان ثواني بتفكير قبل أن يدرك ما ترمي إليه:
” اطمئني مولاتي أنا أثق أنهم الآن في طريقهم للعودة منتصرين، أنا لم ارسل جميع قادة جيوشي لأجل لا شيء”
ابتسمت له تبارك تدرك ثقته الكبيرة في قادة جيوشه، تتمنى الآن في نفسها أن يا ليت لو كان وكان …
فجأة سمعت صوت إيفان يردد بجدية :
” إذن مولاتي أنا لم تسنح لي الفرصة لاعتذر منكِ عما حدث صبيحة اليوم من والدتي و…”
” لا لا ارجوك، لا تعتذر، صدقني لم يحدث شيء يستحق اعتذارك مولاي، والدتك لم تخطأ بشيء ”
تنهد إيفان بتعب شديد يفرك وجهه وعيونه تتحرك في المكان بأكمله يفكر في القادم والذي لأول مرة يجهل كيف سيكون، لطالما كان هو المتحكم الاول في مجرى حياته، لكن الآن أصبح متفرج فقط يشاهد حياته تسير دون أن يتمكن من التحكم بها .
” أمي امرأة حازمة بعض الشيء، لكنها تظل والدتي التي ساندتني حين أمسكت حكم البلاد في مراهقتي”
ابتسمت له تبارك ولم تعلق بكلمة، فهي لم تعش يومًا أو تجرب كيف تكون الأم؛ لذا لا يحق لها الاعتراض عما يصدر من تلك المرأة، تنهدت وهي تتحدث بجدية متسائلة :
” حكمت البلاد وأنت مراهق ؟!”
ابتسم لها يهز رأسه :
” صحيح، وقتها حتى تاج والدي كان أكبر من رأسي، سمعت كلمات مترامية حولي ساخرة أن العرش والتاج اكبر من مجرد مراهق في الخامسة عشر من عمره، وقتها كان الوحيد الذي ساندني دون والدتي هو سالار، كان جنديًا في جيش والدي في الثامنة عشر من عمره، وقد كان رفيقي منذ الطفولة، أنا وسالار و… أرسلان ”
ويبدو أن الاسم الاخير يحمل للملك ذكريات ليست بالسارة أبدًا، فحين ذكر اسمه تغضنت ملامح إيفان واسودت بقوة وقد تعكر مزاجه مما جعل تبارك تتلاشى الحديث له وتصمت تقدر لحظاته مع نفسه .
وإيفان لم يكن يعي لكل ذلك وهو لأول مرة ينطق اسم رفيقه منذ سنوات، فدائمًا ما كان يشير له بملك مشكى أو الملك فقط متجنبًا ذكر اسم أرسلان، لكن في لحظة انتفض جسد إيفان يقول دون مقدمات :
” اعذريني مولاتي هناك أمر هام عليّ رؤيته ”
ختم حديثه يشير لأحد الجنود يقول بجدية كبيرة :
” رافق الملكة حيث تريد وتأكد أن أمورها بخير ”
هزت له تبارك رأسها تراه يرحل بسرعة كبيرة من أمامها وهي متسعة الأعين لا تفهم ما حدث، أرادت أن تبتعد بالحديث عن والدته كي لا تتألم هي، فدفعته بالخطأ صوب منطقة تؤلمه هو كما يبدو، أرسلان …من هذا أرسلان هي سمعت اسمه سابقًا لكن أين ؟؟
سمعت تبارك صوت الحارس جوارها يقول بصوت منخفض :
” مولاتي هل تريدين الذهاب لحجرتك أم تفضلين البقاء هنا ؟!”
نظرت له تبارك تشعر بالحيرة، هي لا تريد العودة في هذه اللحظة صوب حجرتها وتظل بها وحدها، لذا قررت أن تستغل الفراغ الذي تحيا به وقالت :
” ما رأيك أن تأخذني للمشفى أود الحديث مع الطبيب هناك ؟!!”
ورغم صدمة الحارس من الأمر إلا أن أوامر الملك كانت أن يأخذ الملكة حيث تريد، وهو فقط هز رأسه بطاعة كبيرة يتحرك معها صوب المشفى ……
______________________
خلع ثيابه يلقيها في سلة الثياب التي تقبع في ركن حجرة الملابس، تنفس بصوت مرتفع وهو يتحرك صوب نافذة حجرته ينظر لجميع أرجاء مملكته، يمنح لنفسه أخيرًا فرصة ليرثي ذاته، يعطي ذاته الفرصة ليرثي صداقة استمرت سنوات وسنوات وحطمتها فتنة .
عند هذه الفكرة سقطت دمعة غادرة من عيون إيفان وهو يراقب بأعين ضبابية المملكة أمامه يهمس بصوت موجوع :
” هكذا كنت دائمًا أرسلان، قليل الصبر ومتسرع، لم تصبر حتى اسامحك ونتصالح، رحلت قبل أن اضمك للمرة الأخيرة، كنت متكبرًا عنيدًا كما عهدتك، تكبرت عن الاعتراف بخطأك وعاندت قدرك، رحلت أبيًا يا صديقي ”
ودون أن يشعر سقطت دموع إيفان أكثر يهمس من بين أسنانه والنيران المشتعلة داخل صدره تزيد من حدة دموعه :
” والله لانتقمن لك بيدي أرسلان، سأنتقم لأجلك ولأجل شعبك، لن تنساك مشكى ولا سفيد، سأحيي ذكراك يا أخي، غدًا ننتصر لأجلك وسيعلم الجميع أنهم إن قتلوا أرسلان فهو حي داخلنا ”
ختم حديثه ينهار ارضًا سامحًا لنفسه وأخيرًا بلحظة رثاء، مصاب إيفان بارسلان، كان أكبر من مصاب سالار بارسلان، فسالار رغم العداء الذي نشب بين الاثنين إلا أنه لم يكن يهتم به ويود أرسلان ويراه، وكانت آخر زيارة له قبل سقوط مشكى باسبوع تقريبًا، بينما إيفان حُرم منذ سنوات من رؤية صديقه لأجل تعنت أرسلان وعناده وتكبره .
اغمض عيونه والوجع يأكل صدره ودموعه تزداد وهو بدفن وجهه بين كفيه وكأنه استوعب للتو أن أرسلان لم يعد له وجود .
كتم شهقاته بصعوبة وعقله يعيد عليه لقطات بعيدة لهما سويًا في فترة شبابهما، لقطات حاكت وجعه الآن كما لو كان يشعر بمستقبله …..
” أنت أكثر إنسان متكبر في هذه الحياة أرسلان، يومًا ما سأدفن أنفك هذه بالوحل ”
هز أرسلان كتفه دون اهتمام :
لا بأس وقتها سأدفن انفك جواري لتشاركني نفس الوحل”
اغتاظ إيفان وشعر بالغضب يملئ صدره وهو يركض بعنف صوب أرسلان صارخًا يندفع بجسديهما ارضًا وقد تمرغ الاثنان بوحل الساحة التي يتدربان بها بعد ليلة مطيرة، الاثنان يتشاجران ويصرخان في وجوه بعضهما البعض .
” كل هذا بسببك أيها الغبي العنيد ”
صرخ أرسلان بالمقابل :
” بسببي أنا ايها المتسلط ؟؟ اقسم أننا كدنا نخسر لأجل عقلك الصخري هذا ”
لكمه إيفان بقوة متسببًا في ارتطام وجه أرسلان ارضًا بقوة وقبل أن يفكر بالنهوض انقض يجلس على صدره يجذب تلابيبه صارخًا :
” كدت تُقتل أيها الحقير فقط لأنك أبيت التظاهر بالخسارة ؟؟”
ابتسم أرسلان بسمة باردة يقول بقوة :
” تبًا لهم أجمعين، ما كنت لاخسر يومًا حتى لو كذبًا ”
شعر إيفان برغبة عارمة في قتله في تلك اللحظة، لكن رؤيته لنظرات أرسلان تلك جعلته يترك ثيابه وهو يربت على خصلات شعره يقول بضيق :
” أنا لا تعجبني تصرفاتك تلك أرسلان، إما أن تتوقف عن أفعالك تلك أو ستجبرني على خسارتك ”
جلس أرسلان يزفر بقوة وهو يمسح وجهه وصوته خرج غاضبًا بعض الشيء :
” أموت رجلًا في المعركة أكرم لي من ميتة ذل واستسلام يا صديقي، أنا لن أخضع يومًا لمنبوذٍ ولو كان سيفه على رقبتي ”
نظر له إيفان ثواني يقول :
” احيانًا مناطحتك للرياح قد تكسر عودك أرسلان، عليك أن تكون لينًا تعلم متى تلين ومتى تتصلب، لا تدعني اجرب مر خسارتك، فمالي من الدنيا سواك وسالار، لا تجبرني على الشعور بمرارة خسارتك ”
ابتسم له أرسلان يضم كتفه وهو يهمس :
” الله خير حافظ يا صديقي، وإن حدث وخسرتني يومًا فتأكد أن صديقك مات رجلًا ومحاربًا و…”
صمت ثواني ثم قال ببسمة صغيرة مغتاظة :
” من أخبرك أنني سأموت قبلك ها ؟؟ ربما تموت أنت اولًا وأنا من سيجلس ويبكي مـ…أوه لا أنا لا ابكي، لكن ربما أحزن عليك، صدقني سيتألم قلبي لموتك يا إيفان”
ورغم كلماته التي خرجت ممازحة إلا أن إيفان أبصر نظرات أرسلان الخاوية والسوداء، ابتسم يضمه له يهمس وهو يربت على ظهره :
” لا بأس إذن، ليجعل الله نهايتي قبلك ولا أرى بك سوءًا أرسلان”
ضمه أرسلان بقوة وخوف شديد نابع من حديثه وما عاشه معه منذ ثواني وقد انتهوا لتوهم من حرب ضارية :
” لا تقل هذا إيفان ليطيل الله في عمرك يا أخي، الله وحده يعلم مكانتك في قلبي، وإن حدث ومت يومًا تأكد أنني ما كرهتك لحظة ولا عاملتك ثانية معاملة رسمية كملك، وأنك ما كنت يومًا سوى إيفان صديق الطفولة ورفيق الشباب ”
« ما كنت يومًا سوى إيفان صديق الطفولة ورفيق الشباب»
كلمات ما يزال صداها يرن داخل حجرة إيفان الذي كان يرثي ذاته وصداقته وحياته التي ضاعت هباءً وكل ذلك لأجل فتنة اشتعلت بينهما، أشعلوا الفتنة بين مشكى وسفيد فخسر جراء ذلك رفيق وصديق عمره، ارتجفت شفاه إيفان وهو يهمس :
” ليتني رددت لك صفعتك ذلك اليوم ارسلان، ليت يدي هبطت على وجهك في الثانية التي أنتزعت أنت كفك عن وجنتي، ليتني رددتها لك وما ضمرتها في نفسي”
سقطت دموعه يقول بحزن أكل صدره وكأنه كان يكتم كل ذلك داخل أعماقه منذ سنوات :
” ليتني صفعتك وصرخت في وجهك أنني لا اهتم لكل ما حدث وأن ما يحدث داخل القاعة لا علاقة له بصداقتنا، ليت وليت، لكن ما نفع التمني الآن وأنت قد وارتك الرمال يا أخي ؟؟ ”
تنهد بصوت مرتفع ينهض من مكانه مرتديًا ثياب مريحة متخليًا عن ثوب الملك مقررًا أن يأخذ جولة بخيله كعادته وربما يحالفه الحظ ويجد احدهم، يجري معه قتال ينسيه لثواني مرارة الفقد …
____________________________
” إذن هذه الأعشاب هنا تلعب دور الأدوية في عالمي”
كانت تلك النبرة المنبهرة خارجة من فم تبارك وهي تشير صوب العديد من عبوات الاعشاب المنتشرة على الطاولات أمام مهيار، وهو ابتسم لها يطهر أدوات الجراحة الخاصة به، يشعر بالراحة لتحدثه مع أحدهم يتفهم عمله :
” حسنًا أنا لا اعلم الكثير عن الأدوية التي تتحدثين عنها، لكن نعم اعتقد انها تلعب نفس الدور، أنا من اصنع الاعشاب بنفسي واخلطها واصنع منها أدوية طبيعية ”
هزت تبارك رأسها شاردة وهي تفكر في ادويتها التي أوشكت على النفاذ، هل يستطيع الطبيب هنا مساعدتها في صنع دواء مماثل لخاصتها ؟!
نظرت لمهيار الذي كان منشغلًا فيما يفعل ولم تكد تفتح فمها حتى وجدت رجل يقتحم المكان وهو يقول بسرعة كبيرة واحترام اكبر للطبيب أمامها:
” سيدي الطبيب هناك جندي جريح في ساحة الرماية، أصابه سهم بالخطأ”
اتسعت أعين تبارك بقوة من ذلك الخبر وهي تشعر بجسدها يرتجف صدمة لتخيل الإصابة، فجأة ودون أن تستوعب وجدت مهيار ينتفض وهو يحمل حقيبته بسرعة كبيرة يركض خلف الرجل دون كلمة واحدة .
وبقيت هي وحدها في العيادة تنظر يمينًا ويسارًا بفضول شديد، قبل أن تقرر أن ترحل من هنا بسرعة فلا رغبة لها بالبقاء في المكان في غياب صاحبه .
لكن قاطع رغبتها تلك سماعها لصوت تعرفه تمام المعرفة وهو يقترب من الغرفة التي تقبع بها فتحت عيونها بصدمة تشعر أن نهايتها هي من تقترب وليس صاحب الصوت .
نظرت حولها تبحث عن مكان تختبئ به ولم تجد غير مكتب مهيار والذي كان يخفي خلفه العديد من صناديق الاعشاب والفراش الذي كان أسفله ضيقًا، بل وظاهرًا للعيان، واخيرًا وفي اللحظة الأخيرة اختبأت خلف باب الغرفة تجذب الباب عليها .
ثواني حتى رأت جسده يدخل للعيادة يمسك يده متحدثًا بصوت غاضب :
” دانيار توقف عما تفعل أنا بخير، أذهب فقط وأحضر لي مهيار ليضمد جروح يدي، ودع الجنود ترتاح حتى اجتمع بهم في الغد واخبرهم ما سيحدث ”
تنهد دانيار بصوت مرتفع يتحرك خارج المكان تاركًا سالار به وحده يجلس على أحد المقاعد وهو يضم ذراعه له يبتسم بسمة مرعبة متذكرًا ما حدث قبل خروجهم من مشكى مغرب اليوم .
كانت تبارك تراقب نظراته مرتعبة منه، لكن رؤيتها لجرحه جعل شهقة تخرج منها دون وعي .
انتفض جسد سالار يبحث عن مصدر تلك الشهقة، وقبل أن يتحدث بكلمة وجد جسدها يندفع من خلف باب العيادة ومن العدم وهي تنطلق صوب يده تمسكها بشكل جعل أعينه تتسع بصدمة كبيرة يراها تصرخ بذهول :
” دي مفتوحة، دي عايزة تتخيط بسرعة، أنت ازاي سيبتها الوقت ده كله بالشكل ده ؟! ”
كانت تتحدث وهي تراقب الجرح عن قرب تميل بوجهها قرب ذراعه تحاول تفحصه وسالار يفتح عيونه وهو يبعد رأسه بقوة للخلف يراقب ما تفعل تلك الفتاة بذراعه، حاول سحبها بعيدًا عنها، لكن تبارك رفضت أن تدع ذراعه وهي تقول بجدية :
” هو أنا ممكن اخيطها ليك عادي على فكرة، انا بعرف اخيط الجروح، بس انا مش عارفة البنج هنا فين أو بيحطوا ايه عشان يخدروا الجروح، لو تعرف قولي وانا اخيطه بسرعة لأن تقريبا الدكتور هيتأخر ”
كانت تتحدث وتتحدث وسالار فقط يراقب ذراعه التي تمسكها بأعين مصدومة وعدم فهم، يحاول أن يسحبها من بين أناملها رافضًا لمساتها تلك :
” أنتِ …أنتِ ما الذي تفعلينه هنا ؟؟ ألا توجد كارثة لا اجدك داخلها ؟؟ ألم امنعك سابقًا عن الاقتراب من مشفى الجنود ؟؟ ”
رفعت تبارك عيونها له بصدمة وغيظ :
” ماذا ؟؟ هل أنت جاد ؟؟ أنت الآن تنزف وتكاد تخسر ذراعك وتتذمر لأنني هنا ؟! بالله عليك كف عن أفعالك تلك”
سحب منها سالار ذراعه بقوة متجاهلًا الوجع الذي أصابها جراء تلك السحبة القوية :
” هذه ستكون المرة الأخيرة التي أبلغك فيها تحذيري بلمس جزء صغير من جسـ ….”
توقف عن الحديث بصدمة ثانية حين ضربت تبارك بكل تحذيراته عرض الحائط وسحبت ذراعه وهي تقول بجدية :
” حاول متحركش ايدك كتير عشان كل ما الحركة زادت كل ما كان غلط، ودلوقتي سيب دراعك كده لغاية ما اقلب في الازازيز دي يمكن الاقي مخدر ”
وبالفعل تركت ذراع سالار معلقة وهو يراقبها تتحرك في المكتب الخاص بمهيار بكل حرية وكأنها تحفظ كل انش به، هل تأتي كثيرًا هنا ؟؟
وسالار دون وعي منه لم يحرك ذراعه كأنه ينفذ لها أوامرها، يراقب تحركها يمينًا ويسارًا، وهو يبتسم بعدم تصديق يراها تبعثر ادوات مهيار وتعبث باغراضه حتى صرخت فجأة :
” ها لقيته ”
أشارت على العبوة في يدها وهي تقول بفخر شديد مشيرة للحروف الموجودة عليها :
” مكتوب مخدر اهو دلوقتي ناقص الادوات ”
وضعت العبوة على مكتب مهيار، ثم جذبت أحد المقاعد تضعها أمام مقعد سالار واحضرت الادوات التي عقمها مهيار بالفعل، ثم اقتربت من سالار الذي كانت عيونه الشيء الوحيد الذي يتحرك به .
يراها تجلس أمامه وتضع ذراعه على قدمها، ثم أخرجت بعض الأعشاب تضعها على ذراعه المصابة تفرك الاعشاب على جرحه بلمسات عملية جعلته ينتفض منتزعًا ذراعه منها بقوة رافضًا أن تكون هي من تعالجه :
” يكفي هذا سأنتظر مهيار ليعود و…”
ولم يكد يكمل كلماته حتى رآها ترفع عيونها له تقول بصوت خافت :
” على فكرة أنا ممرضة شاطرة ”
حدق بها دون فهم لتقول هي بتردد أثناء عملها على ذراعه دون أن يشعر :
” أنا عارفة أنك شايفني فاشلة في حاجات كتير، بس دي حاجة من ضمن الحاجات القليلة اللي فعلا انا بعرف اعملها كويس اوي، أنا أعرف حاجات كتير اوي في التمريض، جربني ….”
ودون أن يعلم السبب وثق بها يترك لها القيادة لتفعل ما تريد، وهي ابتسمت لثقته التي ظهرت في عيونه دون أن يشعر، وبدأت تقطب جرحه بحرفية عالية .
” لو حاسس بوجع قولي ”
” لا ”
وحينما انتهت ابتسمت له ليقول بهدوء شديد يراقب ذراعه :
” شكرًا لكِ ”
هزت رأسها تقول بهدوء :
” عفواً، أرأيت أنا ممرضة جيدة، هل يمكنني العمل هنا ؟؟”
” هذا شيء لا يعنيني مولاتي، لكن إن سألتني رأيي فهو لا، أنا لا أحبذ عمل النساء بين الرجال ”
صمت وكاد يخبرها عن مشفى القصر الخاصة بالنساء، والتي يحتاجون فيها لنساء تفقه في الطب، لكنها انتفضت تصرخ ومازال جرح الأمس لم يندمل، وكأنها تبحث لها عن متنفس :
” أنت حقًا أكثر شخص لئيم في هذه الحياة، أنت مصر على النظر لي بهذه النظرات التي تخبرني بأنني أكثر انسان فاشل في هذه الحياة ”
تنفس سالار وهو يدرك الآن أنه بالفعل يتعامل معها بصرامة كبيرة، لكنه يقدر عملها وشكرها وكاد يعرض عليها العمل في مشفى الـ…مهلًا ما باله هو بها ؟؟ ولِمَ عليه حتى أن يحاول أن يلين لأجلها ؟؟
رفع عيونه لها بسرعة يقول :
” أنا لا انظر لكِ بنظرات تخبرك أنك أكثر انسان فاشل في هذه الحياة، ربما هذه انعكاس نظراتك لنفسك، فلا تلومنني، لا لأنني لا اراكِ أكثر انسان فاشل، أنا لا اراكِ من الأساس، ولِم عليّ فعل ذلك ؟؟ أنتِ هنا الملكة وأنا قائد الجيوش كيف بالله عليكِ تتقاطع طرقنا بهذا الشكل ؟؟ ”
نظرت له تبارك بعدم فهم لكل ما قيل، كل ما فهمته أنه لا يراها، كيف لا يراها هل هي شبح ؟!
” أنت تمزح معي ؟!”
” ومنذ متى امازح النساء أنا ؟! بل منذ متى احادثهم ؟! أنتِ تجبرينني على إخراج كلمات كثيرة بشكل لا احبذه ”
شعرت تبارك بالغضب الشديد يملئ صدرها، يالله هي لا تصدق هذا الرجل اليوم صباحًا كادت تبكي تأثرًا بكلماته وامتلئت فخرًا به، والآن حاولت مساعدته لأنه مصاب من باب الواجب فقط، ليأتي هو ويحطمها بكلماته السامة تلك .
” أنت أكثر شخص مزعج ولئيم وحقير في هذه الحياة يا قائد، وأنا حقًا لا أبغض أحد مثلك ”
صرخ سالار في وجهها بجنون بعدما وقف ينطاحها الكلمة بأخرى وكأنه يسمع نفسه قبلها :
” وما شأنك بي يا امرأة ؟؟ ما شأنك إن كنت مزعجًا أو لئيمًا أو حقيرًا حتى ؟؟ أنتِ هنا الملكة وأنا قائد الجنود، بالله عليكِ ما احتمالية أن تلتقي ملكة مملكة ما بقائد الجنود مرتين يوميًا، ما بال حظي بهذا السوء ؟؟”
كان يصرخ وهو لا يصدق كيف يلقيه القدر أمامها في نهاية كل طريق يسلكه، وكأنه كُتب عليه أن تكون هي أول من يراه وآخر من يختم يومه به، هو ظن أنه بمجرد إحضارها وعودتها للقصر لن يراها مجددًا، لكنه أصبح يلقاها كلما أدار عيونه، وهذا يقوده للجنون، يثير غضبه بشكل لم يعهده يومًا .
كل تلك الكلمات التي ألقى بها سالار في وجه تبارك لم تعنيها بشيء سوى بكلمات قليلة اخذتها هي لتقول وهي ترفع رأسها للأعلى:
” نعم احسنت القول، أنا الملكة وأنت قائد الجنود، لذلك ألتزم حدودك ولا تحتك بي أو تتحدث لي بهذه الطريقة مجددًا وإلا عوقبت ”
ابتسم سالار بعدم تصديق :
” أنا من لا يحتك بكِ؟؟ أقسم أنني أخشى شيئًا في يومي بقدر احتكاكي بكِ يا امرأة، أنتِ كارثة نبتت لها اقدام وأرجل ”
” وأنت واحد وقح ولسانك طويل ومش بتعرف تتعامل مع النساء بشكل كويس، وأنا مش هضيع وقتي افهمك ازاي تبقى جنتل مان محترم وتتكلم بكل هدوء، خليك كده همجي، هتعيش همجي وتموت همجي بربري لا تفقه شيء”
ختمت حديثها ترفع طرف ثوبها وهي تميل بعض الشيء ساخرة :
” بالاذن سيدي قائد الجنود، عسى ألا تلتئم لك جروحًا ما حييت ”
وبهذه الكلمات تركت سالار يقف في المكتب الخاص بمهيار وهو يبتسم بعدم تصديق، يشعر بقلبه يكاد يخرج من صدره لشدة خفقاته، الغضب يأكله والغيظ يملئه، وهذه المرأة إن لم تبتعد عن وجهه يومًا ستكون نهايتها على يده يقسم .
” يالله لتشتعل الحرب كي لا ابقى في هذا المكان يومًا اضافيًا ..”
___________________
يقف أمام غرفتها وهو يدرك أنها الآن تنام براحة داخلها، ولولا أخلاقه وتعاليمه التي تمنعه اقتحام غرفة نساء في منتصف الليل والعبث بها ما كان تحرك من هنا إلا بعدما يمسك بين أنامله دليل صدق حدسه أو تكذيبه .
فإما أن تكون تلك الفتاة بالداخل هي نفسها « بيرلي خاصته » أو أن تكون مجرد فتاة بنفس الاسم .
تنهد تميم بصوت مرتفع ينظر للغرفة جيدًا ويطيل النظر بها وهو يشعر بالعجز، شغل عقله طوال النهار بأمر مشكى كي لايفكر بما سمعه منهم، لكن صبرًا هو سيعلم إن كانت هي أم لا .
تحرك بخطوات بطيئة صوب غرفته يجر خلفه أذيال القهر والحسرة، يشعر بصخرة تجثو فوق صدره وشعوره بالضياع يتعاظم، ضياع ما شعر به يومًا إلا حينما أيقن رحيلها، قسى عليها واجبرها على الاختفاء من حياته كي لا يؤذيها، وفي المقابل أذى قلبه وذاته العاشقة لتلك الصغيرة الحبيبة .
” لكنني مازلت صغيرة، أنا مازلت صغيرة يا تميم، أخبرهم ألا يجبروني على الزواج الآن، إن كنت حملًا ثقيلًا عليهم سأخرج للعمل مع الفتيات، وإن كنت مزعجة فسأتوقف عن ازعاجهم، لكنني مازلت صغيرة كي اتزوج بهذا العمر ”
ابتسم لها تميم يحاول أن يهدأ من روعها بعدما احضرته والدته كي يساعدها لتخطي مثل هذه المحنة التي تمر بها الصغيرة :
” إذن أنتِ لا ترغبين بالزواج الآن بيرلي ؟! ”
بكت برلنت بقوة وهي تقول من بين شهقاتها :
” نعم، أنا ما زلت صغيرة تميم، لقد ..لقد ظننت أنني سأنتظر سنوات حتى انضج واختر الشاب الذي سأتزوجه، لا اريد الزواج لهذه الطريقة، ارجوك ساعدني، أنت رفيقي تميم لتساعدني على الهروب من ذلك الشاب الذي يريد انتزاعي من منزلي ”
هز تميم رأسه بحزن شديد وهو يهمس بصوت خافت :
” أنا لا أستطيع مساعدتك برلنت، فأنا ذلك الشاب الذي يريد انتزاعك من منزلك، سامحيني صغيرتي ”
اتسعت أعين برلنت بقوة واطلقت شهقة انتزعت روح تميم من جسده، يبعد عيونه بسرعة عنها رافضًا بكل السبل أن يرى نظرة كره له داخل عيونها يهمس بصوت خافت تمنعه غصته :
” لقد، لقد أخبرت ابي أنني أود الزواج بكِ، وهو طلبك للزواج من أجلي بيرلي، أنا آسف”
كان آسفًا بالفعل كان آسفًا كونه انانيًا معها، كان أكبر أناني في هذه اللحظة وهو يؤثرها لنفسه بعدما علم من والده أن والد برلنت يفكر في قبول الشباب المتقدمين لخطبة ابنته صاحبة الثانية عشر عامًا، لينتفض قلب تميم بصدمة ويشعر بعالمه ينهار فوق رأسه ويسارع يتوسل والده أن يتقدم هو لخطبتها، هو سيعمل وسيحضر لها ما تريد فقط تكون له قبل أن يظفر بها غيره .
وقد كان ها هو يجلس أمام والدها والشيخ بينهما يطلق كلماته التي أعلنتها زوجة له أمام الله والناس أجمعين .
بيرلي الصغيرة أصبحت رسميًا زوجته، زوجة تميم .
ومن بعد تلك الكلمات التي نطق بها الشيخ نهض تميم من بين الجميع يسحب برلنت الباكية من أحضان والدته لاحضانه بضمها له بقوة معتذرًا لها، وهي بمجرد أن شعرت به يضمها قاومت ارتجافة جسدها تضم نفسها له بقوة تهتف باسمه في لوعة شديد وبكاء ترتشف حنان صديقها الوحيد ورفيقها الأقرب :
” تميم …تميم لا تتركني أرجوك”
وهو لبى النداء أن ضمها له أكثر يقبل حجابها بلطف وحنان، يعد نفسه أن يظل معها، أن يظل مسكنها وملجأها .
لكن القدر كان أقوى منهما ليجبره على نكث وعده لأول مرة في حياته .
خرج تميم من ذكرياته يلقى جسده على الفراش يبعد كل تلك المشاهد عن عيونه وهو يشعر بصدره يرتجف بقوة، اضاعها، صغيرته وحبيبته وزوجته المسكينة هو من اضاعها .
وضع يده على وجهه يفركه بقوة وقد اخترقت صرخته مسامعه، مما جعل جسده بأكمله يرتعد، صوت أتى من اعماق الماضي الذي ظن أنه نجح في دفنه :
” أنتِ طَالِقٌ برلنت …..”
_________________________
الشك هو بداية الطريق لليقين، وشكه هو قاده لليقين، فهل يتقبله يقينه أم ينبذه كما نبذه هو قديمًا ؟؟؟
يتبع
ها هي منذ دقائق طويلة تقف أمامه في محاولة إيجاد لغة تواصل تجمع بينهما علّها تنجح في شيءٍ ما في هذه الحياة التي فُرضت عليها، لكن يبدو أن ذلك الذي يقف أمامها يرفض كل طرق الحوار السلمية .
تنهدت بصوت مرتفع وقد قررت أن تتحرك للخلف لربما تجد لها طريقة تستطيع بها الصعود على ظهره من الخلف، لكن مجددًا فشلت في الوصول لحل .
كل ذلك تحت أنظار تميم الذي كان يجلس فوق صهوة حصانه يراقبها تحاول وتحاول منذ دقائق الصعود فوق خاصتها .
تنهد بصوت مرتفع وهو يهبط عن حصانه للمرة الرابعة أو الخامسة _ربما هي السادسة_ فقط كي يجعلها ترى كيف يصعد .
” حسنًا مولاتي رجاءً انتبهي لي، ضعي قدمك فوق الحامل المعدني على جانب الجواد وتمسكي باللجام، ثم اسحبي جسدك بقوة للأعلى مع رفع قدم عن الجهة الأخرى وها نحن ذا فوق الحصان ”
ابتسم بعدما استقر فوق خاصته بهدوء شديد يراقبها وهي تنظر له بريبة، ثم هزت رأسها بنعم تبتلع ريقها، الأمر ليس بهذه الصعوبة، هي لطالما شاهدت الكثيرين يمتطون الخيل بكل سهولة ويسر، الآن كل ما عليها فعله أن تتوكل على الله وتسمي الله، ثم تفعلها .
أخذت نفس عميق تضع قدمها على الحامل المعدني وهي تتمسك باللجام تجهز قدمها للصعود تقول بصوت مسموع :
” بسم الله ”
وقبل أن ترفع قدمها لتضعها على الحصان انزلقت الأخرى بقوة لتسقط تبارك بشكل مفزع على ظهرها مما جعل تميم يطلق صرخة مرتعبة قافزًا عن خيله يركض لها بسرعة كبيرة يهتف بلوعة وهو يشرف عليها من فوق :
” مولاتي، أنتِ بخير ؟؟”
رفعت تبارك عيونها له تضع يدها على ظهرها، وهي تدرك الآن أن الأمر ليس بالسهولة التي تراها، ليس سهلًا البتة :
” لا لا أنا لست بخير أبدًا، أنا سقطت لتوي من على حصان و….ظهري لقد كُسر حسبي الله ونعم الوكيل فيكم نفر نفر”
كانت تتحدث بوجع وهي تتقلب تدفن وجهها في الأرض العشبية أسفلها، بينما تميم صُدم لكلماتها تلك واتسعت عيونه، لكنه رغم ذلك قال بهدوء :
” حسنًا مولاتي الأمر في البداية صعب، لكنه في النهاية …”
” اصعب، في النهاية هيبقى اصعب اسمع مني، أنا عارفة نفسي والله انا منفعش لكل ده، أنا مش جاية العب دوبلير لاحمد السقا في فيلم اكشن، أنا اللي جابني هنا قالي هلعب دور ملكة يعني حرير وجواهر وريش نعااام”
قالت كلمتها الأخيرة تطلق تأوهًا قويًا وهي تحاول النهوض تشعر بالنقم على الجميع واولهم الملك الذي يجبرها على تعلم كل ذلك، ومن ثم سالار الذي لا تدري علاقته بالأمر، لكنها لا تستطيع تفويت شيئًا لا تلومه فيه، واخيرًا هذا المعلم أمامها الذي يرمقها بعدم فهم وهي تنفست بصوت مرتفع تشير له أن يبتعد عنها .
وبالفعل ابتعد عنها تميم وهي نظرت للحصان بتحدٍ كبير وكأنها تتوعده بالويل إن أسقطها مجددًا أو جعلها تخفق في محاولتها .
تنهدت بصوت مرتفع تقترب من الحصان تنفذ تعليمات تميم كما أوضح لها سابقًا، وبالفعل عقدت العزم وتوكلت على الله وبكامل الغضب والحنق والإصرار داخلها أمسكت اللجام ورفعت قدمها تضعها على الحامل، ومن ثم غافلت الحصان وهي تلقي بجسدها فوق صهوته .
اتسعت عيونها بصدمة، لا تصدق أنها فعلتها، اعتدلت ببطء وخوف وهي تمسك اللجام وتنظر لتميم، تصيح بصوت مرتفع سعيد :
” ها فعلتها، لقد فعلتها، أصبحت فارسة ماهرة، أنا فارسة رائعة، انظر إليّ امتطي الخيل كعمر المختار وصلاح الدين، أنا رائعة ”
ابتسم لها تميم بهدوء يقول وهو يتحرك صوبها :
” أقدر سعادتك الكبيرة لنجاحك هذا مولاتي، كان هذا جيدًا، لكن ….”
” جيدًا ؟؟ بل مذهلًا وخارقًا للطبيعة ولا يُصدق، يا رجل انظر إلي أنا فوق صهوة الحصان ”
فرك تميم وجهه يبتسم لها بسمة صغيرة :
” أوه نعم هذا رائع حقًا مولاتي، لكن أنتِ فقط صعدتي فوقه ولم تتعلمي بعد كيف تـ ”
” عايزة اتصور، أنتم اخترعتوا الكاميرات ولا لسه ؟؟ اه صح احنا في العصر الحالي عادي، لو مفيش كاميرات ينفع حد يرسمني ؟؟”
كانت الحماسة التي تظهر في صوت تبارك كبيرة وغير مصطنعة، هي تحقق إنجازًا كبيرًا وتتغلب على رعبها، أمر يستحق الاحتفال من وجهة نظرها ولو كانت في عصرها الحالي لكانت أخرجت الهاتف و التقطت صورة لها ونشرتها في ….مهلًا هاتفها لا يوجد به مساحة لحفظ رقم إضافي ناهيك عن التقاط صورة، حسنًا لا بأس كانت ستطلب من أحدهم أن يفعل لأجلها .
ولم يكن تميم فقط هو الذي يتابع تلك اللهفة والسعادة بترقب، بل كانت هي كذلك تقف على بعد مناسب تراقبه يعلم الملكة الفروسية، الأمر الذي اشعرها بالحزن دون إرادة منها، تميم يُعلّم امرأة غيرها شيئًا ما، أمر لا تتحمله بعدما كانت تستأثر بلطفه وصبره في التعليم لها .
ابتلعت برلنت ريقها تحاول أن تهدأ وتذكر نفسها أن شخص كالملكة لن يمثل خطرًا عليها مع تميم، لكن تميم نفسه هو من يمثل خطرًا على قلبها .
ابتسمت دون وعي وهي تراه يصعد للفرس الخاص به يبتسم للملك بهدوء شديد، لتهمس بولّه :
” حبيبي الهادئ والمتفهم لطالما كنت معلمًا جيدًا تميم ”
وعلى ذكر “معلم جيد” غاصت برلنت بعقلها بعيدًا عن الجميع صوب ذكريات وايام تمنت لو تُحبس داخلهم ما تبقي من العمر .
تركض من منزلها تحمل بين أحضانها الكثير من الفاكهة وهناك بسمة مشرقة ترتسم على فمها تتوقف أمام منزله وهي تقول بخجل حين أبصرت والدته تقطف بعض الزهور :
” صباح الخير خالتي ”
رفعت والدة تميم عيونها بسرعة وهي تنظر لها بلطف :
” أوه زوجة ابني الحبيبة، تعالي هنا صغيرتي ”
تقدمت منها برلنت بخجل فطري وقد صُبغت وجنتيها بحمرة الخجل لا تصدق بعد أنها أضحت زوجة تميم صديقها، عقلها ما يزال يحاول الاستيعاب :
” أحضرت لتميم بعض الفواكهة ”
” لتميم فقط ؟!”
خجلت برلنت بقوة وهي تقول بسرعة :
” لا لا بالطبع ولكم كذلك خالتي و…”
أطلقت والدة تميم ضحكات عالية وهي تنهض تضمها بحب تضع زهرة داخل حجابها بلطف :
” لا بأس حبيبتي تميم خلف المنزل ينتهي من بعض الفخار، اذهبي إليه ”
هزت برلنت رأسها بخجل شديد تتحرك صوب المنزل، لكن فجأة توقفت تعود صوب والدة تميم تضع لها بعض ثمار الفاكهة تقول بلطف وحب :
” هذه لكِ خالتي، بالهناء والشفاء ”
ختمت حديثها تركض بسرعة صوب المنزل تدور حوله حتى وصلت للجزء الخاص بصنع الفخار والافران التي تستخدم لأجله لتجد تميم يجلس أمام العجلة الخاصة بصنع الفخار هناك بعض الطين على وجهه وعيونه تركز على ما يفعل بانتباه شديد ليس وكأنه يصنع قنبلة أو ما شابه .
تنحنحت بصوت منخفض خجلة من البقاء معه في مكان وحدهما خاصة بعد أن زاحمت علاقة الصداقة بينهما علاقة أخرى لم تفهم خيوطها كلها، هي حقًا لا تدرك سوى أنها شاكرة لكون تميم هو ذلك الشاب الذي أنقذها من براثن الزواج المبكر لصغيرة مثلها :
” مرحبًا تميم ..”
رفع تميم عيونه بسرعة صوبها يبتسم لها وهو يمد يده لها بحنان ولطف :
” مرحبًا بيرلي، تقدمي عزيزتي كنت انتظرك ”
تقدمت منه برلنت بتعجب :
” تنتظرني ؟؟”
” نعم، انتظر مجيئك لتشاركيني ما أحب، استيقظت اليوم صباحًا وشعرت أنك ستأتين فجئت لصنع هذه لكِ خصيصًا”
ختم حديثه يشير صوب قطعة فخار غير مكتملة الملامح لها، استدارت ترمقه بعدم فهم :
” لأجلي ؟!”
” نعم ستكون أول هدية اهديكِ إياها بعد زواجنا ”
رفع عيونه لها يقول ببسمة وحب حاول أن يكبته خلف نظرات صداقة حنونة إلى أن يحين وقته :
” هدية زواج بيرلي ”
خفق قلب برلنت الصغيرة التي كانت لا تدرك في تلك اللحظة ما يتحدث عنه، أو تفهم ماهية تلك المشاعر التي تنبثق من عيونه، لكنها أحبت وبشدة ذلك الشعور الذي منحها إياه، تلك النظرات الحنونة .
” تريدين مشاركتي صنعها ؟؟”
” يمكنني ؟!”
مدّ يدها لها بلطف مانحًا إياها نظرات حنونة :
” اقتربي ”
اقتربت منه برلنت ليبتعد هو للخلف خطوات يسمح لها بالجلوس أمامه وأمام جرة الفخار، ثم انتزع من كفها الفواكه التي تلطخت بالطمي مقبلًا وجنتها بحنان ولأول مرة مما جعل وجه برلنت يذحب والصدمة تعلو وجهها، وهو امسك يدها بين كفيه بكل حنان يضعهم على الفخار يهمس لها بكل انتباه وجدية ملقيًا أي مشاعر قد تأثر على تركيزه جانبًا :
” حركي يديكِ بكل هدوء ورقة واحرصي ألا تضغطي على الطمي بشدة كي لا يفسد منكِ ”
التمعت عيون برلنت تبتسم بسعادة :
” هكذا ؟!”
” نعم هذا، والآن حركي كفيكِ كما أفعل أنا ”
نظرت برلنت خلفها صوب عيونه لتجد أن ذقنه تكاد تلامس كتفها، ابتلعت ريقها تشرد في عيونه وهو ابتسم يقول ومازال لم ينزع عيونه عن الفخار أمامه :
” هل يعجبك ما ترين ؟!”
وردها المعتاد العفوي خرج منها دون شعور :
” أنت وسيم ”
أطلق تميم ضحكات مرتفعة يحرك رأسه يحاول انتزاع نفسه من كل ذلك، فهذه الصغيرة التي خطت توها مراهقة جديدة عليها، لا تدرك ما تصنع مشاعرها في شابٍ يختبر فورة مشاعره للمرة الأولى معها بعد كتبتها سنوات حين أدرك أنه يحب بيرلي الصغيرة، كفتاة وليس كصديقة أو جارة كما كان يظن طوال سنوات حياته السابقة .
وهذه كانت المرة الأولى التي تختبر بها حنان وحب تميم لها في وقت لم تكن تعلم من الحب شيئًا، المرة الأولى التي تراه يلعب دور المعلم، وكم كان معلمًا صبورًا متفهمًا هادئًا وحنونًا …
تمامًا كهذه اللحظة التي يعلم الملكة بها كيف تمتطي خيلًا، سقطت دموع برلنت دون شعور تهمس بقهر خارج عن إرادتها تشعر بغبائه :
” فقط أردت أن أكون أنا تلميذته الوحيدة، أن أكون الوحيدة التي يتعامل معها بهذا اللين ”
وعند تميم بدأ يرى تحسنًا في مهارات الملكة ليبتسم متنفسًا الصعداء :
” حسنًا الآن ننتقل للمستوى الثاني، زيدي من سرعتك شيئًا فشيء، ليس كثيرًا فقط القليل ”
نظرت له تبارك تراقب ما يفعل ليزيد السرعة، تنفذ ما يفعل وهي تجذب اللجام بقوة مثله تنغز الحصان في معدته، لكن يبدو أنها تجاوزت الحد المسموح به ليزداد جنون الحصان وهو يطلق صهيلًا مرتفعًا أثار فزع تبارك التي نظرت صوب تميم تقول بريبة :
” لماذا صهل بهذا الشكـ…..ااااه ”
ولم تكد تكمل جملتها حتى شعرت بذرات الهواء تصطدم بقوة مخيفة في وجهها وهي تشعر بجسدها يتحرك بقوة مرعبة فوق ظهره الحصان لتقرر ترك اللجام تميل بسرعة تمسك رقبته باكية بخوف مما تسبب في اختناق الحصان الذي ازدادت حركات جنونًا، وتميم مكانه لم يستوعب بعد ما حدث .
” يا ويلي سيقتلني الملك ..”
__________________________
رفع سيفه عاليًا يحركه بمهارة عالية قبل أن يهبط به بقوة كبيرة يضع به كامل قوته لتستلمه هي بسرعة كبيرة وهي تنظر له من خلف لثامها تقول بسخرية لاذعة :
” أرى أن الحماس داخلك كبير مولاي، كبير لدرجة كدت تقتلني للمرة الثالثة منذ ثواني ”
ابتسم إيفان يستقيم في وقفته، بجدية وهو يحرك السيف بين أنامله :
” نعم يمكنك القول أنني حظيت الليلة السابقة بيوم سييء للغاية، وكم كنت متشوقًا للهبوط وإيجادك تتوسطين الحلبة في انتظار قتالٍ معي، وقتها لم تكوني لتنجي مني سالمة ”
” أنا محظوظة إذن ”
ضحك إيفان ضحكة صغيرة يستند على سيفه بهدوء وهو يراقب عيونها التي تلتمع أسفل ضوء النهار :
” ربما ”
توقفت كهرمان عن القتال وهي تستغل توقفه بشكل غريب تتنفس بصوت مرتفع ترفع عيونها له :
” ونظراتك الصافية لا تناسب ما تخبرني إياه مولاي ”
اعتدل إيفان في وقفته يرفع سيفه مجددًا في الهواء وقد أصبح القتل مع هذه الفتاة أكثر القتالات متعة له، حتى أكثر من قتاله مع سالار .
رغم شعوره الداخلي الذي لا يدعه يرتاح، لكن شيء ما يدفعه نحو قتال هذه الفتاة، فضول شديد ليرى نهاية اللعب معها .
قفزت كهرمان بسرعة للخلف في حركات جعلته يرفع حاجبه منبهرًا وهو يقول :
” يبدو أن معلمك لم يكن شخصًا عاديًا، ربما كان مقاتلًا بارعًا؟؟ ”
رفعت هي سيفها عاليًا بقوة مخيفة وهي تتحرك صوب بسرعة كبيرة تهبط به على جسد إيفان وكأنها ترغب في شقه نصفين :
” بل محاربًا عظيمًا مولاي ”
صد إيفان ضربتها بسرعة كبيرة لتشتعل عيونه بالتحدي وقد رأى القوة انبثقت فجأة من نظراتها وكأن الحديث عن معلمها قد مثّل لها دافعًا آخر لقتله، ابتسم يرفع سيفه، ثم هبط عليها بقوة مرعبة جعلتها تتدحرج للخلف بسرعة كبيرة وهي ترفع سيفها لتصد ضربته محدثين اصوات عنيفة تنبأ عن حرب في المكان .
ارتفعت انفاس كهرمان بقوة وهي تنظر له وقد تناست فجأة الهدنة المؤقتة التي وضعتها لهما تقف وهي تقول :
” معلمي كان محاربًا عظيمًا لن يصل أحدهم لمكانته يومًا”
ابتسم لها إيفان بسمة واسعة وهو يقول بحاجب مرفوع :
” حتى أنا ؟!”
صرخت كهرمان بقوة رافضة أن يقترب أحدهم من مكانة أرسلان وخاصة هو الذي بدأ يتسلل بكل خبث صوبه داخلها، ترفع سيفها لتوجه له ضربة قوية صدها هو بيد واحدة وهي تهدر :
” خاصة أنت”
” أوه حقودة إذن ؟؟”
ختم حديثه يضحك بصوت مرتفع وهي استمرت توجه له الضربات بقوة وهو يصد بيد واحد يحرك رأسه يمينًا ويسارًا بعيدًا عن ضرباتها التي تكاد تنزع رأسه عن كتفه وهو يتابع كل ذلك دون أن تهتز شعره واحدة من رأسه .
” ربما كان معلمك محاربًا عظيمًا، لكنه حتمًا معلمٌ فاشلٌ”
نظرت له كهرمان بصدمة كبيرة على كلماته، بينما هو استغل صدمتها تلك يرفع سيفه يديره بين أصابعه يقول بجدية :
” تواجهنا ثلاث أو أربع مرات أسقطت سيفك في جميعهن، وهذه المرة لا تختلف ”
وحينما ختم كلماته كان سيف كهرمان يسقط ارضًا ليبتسم لها إيفان بسمة مستفزة يميل بنصف جسده للإمام هامسًا :
” ربما لو طلبتي بشكل لطيف أن أصبح معلمك لوافقت …أو لحظة لا لم أكن سأفعل حقًا يكفيكِ تلك الدروس المجانية التي امنحها لكِ بكل كرم في كل مواجهة لنا سويًا ”
كانت أعين كهرمان ما تزال موجه على سيفه تشعر بالغضب يملئ قلبها، ولم ترفع عيونها سوى عند سماعها كلماته وهو يهمس :
” تبارزيني انتقامًا لشقيقك، ترى هل تسمين ما تفعلين انتقام ؟؟ اقسم أنه إن كان حيًا سيرى ما يحدث انتقام منه هو في حق فتاة أفنى عمرًا لتعليمها اساليب القتال وتأتي هي مخيبة آماله بهذا الشكل المخزي، لا تدعي غضبك يقودك لهلاكك ولا تتركي لتسرعك القيادة يا امرأة، كم من ذلة كادت تودي بكِ لهلاكك، وكم من مرة أسقطت سيفك وغمرته في الرمال وكنتِ استطيع التخلص منكِ لكنني لم أفعل ؟؟”
تنفست كهرمان بصوت مرتفع وعيونها كانت تحدق في وجهه بقوة وغضب شديد حتى بدأ الاحمرار ينتشر بها، وهو شرد في عيونها يهمس ببسمة صغيرة :
” تلزمك أعوام لتنتصري عليّ ”
وحين انتهى من حديثه ألقى سيفه ارضًا يفتح ذراعيه لها يقول ببسمة واسعة :
” هدف آخر لصالحي، نلتقي في هزيمة أخرى لكِ … صاحبة الأعين القططية ”
ختم حديثه يتحرك بعيدًا عنها وهي تقف مكانها تراقب ظهره بغضب كبير، هو محق هي يلزمها العديد من السنوات حتى تستطيع التغلب عليه .
مسحت وجهها بتعب شديد تتذكر كيف بدأ يومها حين هبطت لتنتهي من اعمالها، لكن فجأة أبصرت ثوب الملك معلق على سيفه في منتصف ساحة القتال وفي دعوة صريحة منه لقتال معها، ومن هي لترفض قتال مع الملك ؟؟
قتال آخر انتهى بخزي لها ولارسلان الذي أفنى عمره يعلمها كل شيء، على الأقل لم يعد الملك فضوليًا ليعلم هويتها وأصبح يتركها وشأنها بعد كل مواجهة وكأنها لاتعني له شيئًا أو تهمه بذرة و…
هل هذا شيء قد يسعدها ؟؟ إذن لماذا تشعر بالضيق لأجل الأمر .
سارعت تحمل السيف الخاص بها تركض بعيدًا عن الحلبة وهي تتنفس بصوت مرتفع كي تبدل ثيابها في مبنى الغلال كالمعتاد .
في الوقت الذي كان يستند إيفان على أحد الجدران يرى جسدها يختفى عن مرمى بصره وهو يبتسم بسمة جانبية يراقب هذه اللعبة التي يخوضها يوميًا معها، تعجبه اللعبة، ويرتقب نهايتها بفارغ الصبر .
مسح عرق وجهه يعيد خصلاته للخلف وهو ينتزع سيفه وثوبه يحمله على ذراعه يسير بهدوء شديد صوب القاعة الخاصة بالحروب فلابد أن سالار ينتظرهم هناك ليخبره ما حدث في غارة البارحة على مشكى .
لكن أثناء دخوله للقصر أبصر خادمة يعلمها جيدًا ويدرك هويتها يراها تركض بسرعة صوب المزارع، ابتسم يراها تمسك الفستان الخاص بها والذي كان يتحرك خلفها بانسياب .
فجأة ابصرها تتوقف أمام أحد أشجار المملكة تنظر حولها يمينًا ويسارًا، قبل أن تجلس ارضًا تستظل بها وتستند عليها، رفع حاجبه يهمس :
” أشعر أن لا أحد يعمل بهذا القصر حقًا، كلما حركت عيوني وجدت عاملة تهرب من العمل ”
لكن دون إرادة منه راقبها ترفع غطاء وجهها ليبعد هو وجهه عنها يدرك هويتها دون الحاجة لرؤية ملامحها، لا حاجة له حقًا ليمد بصره لها مجددًا …
تحرك داخل القصر يضع ثوبه على كتفه بقوة والجميع بدأ يستنفر حين مر بهم وهو خطى بثبات صوب قاعة الاجتماعات .
_______________________
” لا بأس أن امنحكم راحة مؤقتة، لكن الحرب لن تنتظر أن تفرغوا من راحتكم كي تعلن عن وجودها ”
ختم حديثه وهو يمر على الجنود يحدق بجميع الأعين في جدية كبيرة يراقب البعض وما جناه من يوم أمس، في الحقيقة لم يكن اليوم بالأمس قاسيًا عليهم إذ دخلوا مشكى وتأكدوا من توزيع كامل الغلال على الشعب ونشر سالار قواته بين الشعب مندسين بثيابهم ليوصلوا له كامل الاخبار وكي يدافعوا قدر الإمكان عمل يحدث، فما الذي يضمن له ألا يتعدى عليهم بافل بعدما يرحل هو بقواته وقد سلّمه شقيقه ؟؟
لكن كعادة المنبوذين لا عهد لهم ولا ذمة، فحينما خطى جيش سالار خارج أسوار مشكى في ثواني قليلة احاطتهم قوات من المتمردين يحملون أسلحة كثيرة .
ابتسم سالار بسمة واسعة وهو يحدق في الجميع حوله يتقدم جيوشه وعن يمينه يقود تميم وحدة الدفاع، والخلف يحمي دانيار بجيش الرماة ظهورهم .
” آه يا رجال انقذتموني من سوء الظن، لوهلة اعتقدت أن الله هداكم وتوقفتم على خصلة الغدر والخسة، لكن ها أنتم تثبتون لي أن الغدر يسير بكم مسرى الدماء ”
توقف عن الحديث، ثم رفع رأسه يقول بقوة وصوت جهوري :
” وكبادرة أخيرة للسلام ولحماية الأرواح وحقن الدماء، امنحكم فرصة للتراجع حفاظًا على أرواحكم ”
لكن كل ما صدر من جيش بافل كان مجرد أسلحة ارتفعت وقد اتخذوا وضعية الهجوم، اشتعلت عينه ليصرخ سالار في جنوده بصوت مرتفع وهدير قوي وهو يخرج سيوفه من ثيابه :
” لا تدعوا منهم خنزيرًا واحدًا، ابيدوهم عن بكرة أبيهم”
وكأن جنوده _ الذين سبق وشحنهم بطاقة الغضب والكره والحقد لهؤلاء الكلاب الذين قتلوا من مشكى ما قتلوا ودمروا ما دمروا _ كانوا ينتظرون هذه الكلمات ليندفعوا بشراسة مرعبة صوب رجال بافل وطاقة الغضب والحقد تحركهم ..
في ثواني لم يبصر سالار سوى اندفاع رجاله بشكل مخيف، يلمح بطرف عيونه دانيار الذي تحرك في ثواني مع جيشه بسرعة كبيرة صوب أحد الجبال يتمركزون ليبصروا جيش بافل، وما هي سوى لحظات حتى غابت السماء خلف سهام جيشه بقيادة دانيار يستهدفون مؤخرة جيش بافل، وعلى الطرف الآخر تميم الذي اندس بجسده بينهم يقتل منهم ما يقتل ..
لحظات تحولت فيها الأجواء لساحة معركة مصغرة …
أفاق سالار من كل تلك الأفكار وهو يحدق في جيشه يقول ببسمة لينة :
” إن أردتم راحة لن امنعكم، يمكنكم الراحة كيفما شئتم، لكن عند عودتكم لا تبتأسوا لزيادة تدريباتكم ”
نظر جميع الرجال لبعضهم البعض قبل أن يبتسم أحدهم بسمة صغيرة يقول :
” لا بأس سيدي لا نحتاج راحة، ويمكنك أن تزيد التدريبات كيفما شئت ”
ابتسم له سالار بفخر يربت على كتفه، ثم قال بهدوء شديد :
” التقطوا انفاسكم يارجال، ولتذهبوا لرؤية عائلاتكم، هم لهم عليكم حق كذلك، وسيتولى الحراسة كتيبة أخرى، جعلكم الله سبب نصر هذه الأمة ”
ختم حديثه وهو ينظر لهم ببسمة، ثم تركهم يتحرك بعيدًا عن ساحة التدريب كي ينتهي من الاجتماع مع الملك ويخبره كامل التطويرات بخصوص ما حدث، لكن وقبل أن يتحرك خطوة واحدة انتفضت جميع الأجساد على صوت صرخات رنّ صداها في المكان، صرخات كانت للبعض مجهولة الهوية، لكن له، كانت كجرس انذار جعله يلتفت كالرصاصة متسع الأعين يرى حصان يمر من خلف أجساد جنوده يحمل فوقه فارسة تمتطيه بمهارة …
أو هذا ما كان يظهر للجميع، لكن له هو والذي يدرك جيدًا هوية تلك الفارسة من صوتها وجسدها يعلم يقينًا أن ما تفعله هو أبعد ما يكون عن المهارة، هي الآن أحدثت كارثة .
كارثة ستودي بها لحتفها .
ارتفع وجيب قلب سالار وهو يتراجع للخلف بظهره لا ينزع عيونه عنها وهو يصرخ بصوت مرتفع :
” أحضــــروا لي حصـــان بســرعــة ”
وفي الثواني التي ركض أحد الجنود يحضر له اول حصان يقابله، أبصر سالار حصان تميم ينطلق كالقذيفة خلفها وجسد تميم لشدة سرعة حصانه كان يبدو كما لو أنه يطير في الهواء، يركض بسرعة مرعبة خلفها .
وبمجرد أن أبصر فرس نزع معطفه يلقيه بقوة ارضًا، ثم قفز فوق الحصان ينغزه في معدته بقوة جعلته ينطلق وهو يطلق اصواتًا عالية تحث الحصان على الإسراع وكأنه داخل حلبة سباق.
وعند تبارك كانت ترتعش وتبكي وهي تواجه مجددًا شيء لا علاقة لها به، حياتها كانت هادئة سالمة بعيدة عن كل تلك التعقيدات والأمور، هي لم تولد كي تبارز أو تمطي خيلًا، لا تعرف أي شيء عن تلك الأمور .
تمسك برقبة الحصان وكأنها على وشك خنقه تصرخ باكية :
” حد يساعدني بالله عليكم، هموت ..حد يساعدني ”
فجأة سمعت صوتًا يقترب منها :
” مولاتي لا تخافي، أنا خلفك، خففي قبضتك عن رقبته فهذا يغضبه، مولاتي دعي الخيل وشأنه رجاءً”
كان ذلك صوت تميم الذي كان قد اقترب منها وهو يصرخ لها بصوت مرتفع يبحث في طريقه عن شيء يوقف الحصان به، بينما تبارك كانت تأخذ كلامه عكسيًا وهي تشدد من قبضتها على الحصان باكية، تخشى أن تسمع لحديثه فتسقط وتُدهس أسفل اقدام الخيول حولها :
” هو ايه اللي مخافش ؟؟ أنا مرعوبة، حد ينزلني من هنا، مش عايزة ابقى ملكة، مش عايزة ابقى حاجة، أنا عايزة ارجع شقتي تاني الله يكرمكم، سيبوني في حالي ”
كانت تبكي بقوة وهي ترتعش خائفة وقد أضحت اقوى أمانيها في هذه اللحظة هي أن تخرج سالمة من كل هذا .
وفجأة اخترق سمعها صوتًا تدركه، صوت تعلم صاحبه والذي كان لكوارثها بالمرصاد يصرخ بصوت جهوري :
” اتركي رقبة الخيل بالله عليكِ تكاد روحه تخرج بين أناملك، دعيه شيئًا فشيء وامسكي اللجام ”
بكت تبارك أكثر لسماع صوته تقول برعب وهي تستنجد به أن يساعدها كما يفعل دائمًا :
” يا قائد …يا قائد ساعدني، هموت ”
نظر لها سالار بقوة وهو يهتف فيها أن تسمعه :
” لن يحدث ثقي بي، ارجوكِ خففي قبضتك عن الحصان فهذا لا يساعد البتة ”
نظرت له تراه أصبح يجاورها وعلى الجانب الآخر تميم يراقب الأمر بجدية كي يتحين الفرصة المناسبة ويوقف الخيل الخاص بها .
” هيا مولاتي ثقي بي، أخذلتك يومًا ؟! لم يحدث صحيح !!”
هزت تبارك رأسها ودموعها ما تزال تهبط بقوة، ليبتسم لها يحاول أن يكون هادئًا كي لا يخشاه :
” حسنًا ببطء اعتدلي في جلستي واستقيمي وامسكي اللجام، تحكمي به ”
” مش عارفة، أنا خايفة”
” أكثر الفاشلين هم جبناء مولاتي، استقيمي ولا تحني ظهرك، امسكي اللجام وتحكمي أنتِ به، اريه أنكِ القائد هنا وليس العكس ”
نظرت تبارك لعيونه ترى نظرة صارمة بها، ونبرة أمر تخرج من فمه، أجبرتها على تنفيذ ما يقول فبدأت تعتدل ببطء شديد وهي تستند بكفيها على الحصان في خوف كبير، ثم استقامت ببطء، لكن حين شعرت بالخوف هبطت مجددًا تلف يديها حول رقبة الحصان وهذا ما زاد غضبه وهو يزيد من سرعته ليصرخ سالار بجنون :
” لعنة الله على الكافرين ”
نظر لها يأمرها بقوة :
” يا امرأة اتركي رقبة الحصان، سيموت بين ذراعيكِ، فكي قيدك عنه، اتركيه يتنفس رجاءً هو منزعج من وضعيتك تلك ”
بكت تبارك وهي تصرخ في وجهه :
” ما أنا كمان منزعجة، أنا مش مبسوطة بوضعيتي دي، أنا مش عايزة كل ده، أنا عايزة انزل عايشة من فوقه ”
تنفس سالار بصوت مرتفع يذكر نفسه بالهدوء :
” استغفر الله، انظري اعتدلي شيئًا فشيء، ثم امسكي اللجام بسرعة ”
” ولو وقعت ؟؟”
” سأتلقفك ”
” أنت كداب عمرك ما هتعمل كده ”
نظر لها بشر يصرخ بصوت مرتفع :
” لعنة الله على الكافرين ”
بكت تبارك أكثر ليتنفس هو بصوت مرتفع :
” هيا مولاتي أقسم إن سقطتي سأتلقفك لن ادع أذى يمسك، هيا اقسم بالله أنني سأفعل وانا لا اسقط قسمي ولو على رقبتي”
نظرت له تستشف صدقه، ثم بدأت تعتدل في جلستها تمسك اللجام بخوف وحينما استقامت بالكامل وامسكت اللجام ابتسم لها سالار يتساءل بهدوء :
” جيد ؟؟ امسكتي به ؟!”
هزت رأسها تتعجب بسمته وقبل أن تتسائل عن سببها فجأة سمعت صرخته وهو يقول بسرعة :
” الآن تميم ”
نظرت بسرعة صوب تميم تحاول فهم ما يحدث لتتسع عيونها بقوة وهي ترى تميم يزيد من سرعته يسبقها، ثم فجأة انحرف يتوقف في وجه الحصان الخاص بها يجبره على التوقف، وقد فعل لكنه لم يتوقف بسهولة بل توقف على قوائمه الخلفية وهي أمسكت باللجام أكثر واكثر تصرخ بصوت مرتفع، وسالار اقترب منها بسرعة يجذب اللجام كي يهدأ خيلها، لكنها أبت أن تدع اللجام وهو يصرخ بصوت مرتفع :
” دعي اللجام يا امرأة”
صرخت في وجهه وهي تغمض عيونها بقوة تجذبه اللجام صوبها :
” امسكي اللجام، سيبي اللجام، هو أنا شغالة عندك ولا هو بمزاجك، مش هسيب حاجة و …”
وقبل أن تختم جملتها شعرت بسيف على رقبتها وصوت سالار يهمس لها بشر :
” دعي اللجام من بين أناملك”
وفي ثواني كانت تتركه برعب ليجذبه سالار صوبه يهدأ من روع الحصان وأمامه تميم يمنعه عن الحركة مجددًا وما هي إلا ثواني حتى استقر الحصان وهدأ أخيرًا ليتنفس سالار الصعداء وهو يترك اللجام يقفز عن فرسه يرى تبارك التي هبطت بصعوبة تسقط ارضًا تشعر برغبة عميقة في القيئ ..
اقترب منها سالار ينظر لها قائلًا بهدوء :
” هل أنتِ بخير ؟؟ ”
نظرت له تبارك تقول بصوت خافت :
” حاسة إني دايخة، مش قادرة اااا”
وقبل أن تكمل كلماتها فجأة تقيأت دون شعور، لكن هذه المرة اندفع سالار للخلف بسرعة وهو يصرخ بصوت مرتفع :
” يالله يا مغيث ”
بدأت تبارك تتقئ بقوة وتعب شديد وقد شعرت بالاعياء بعد هذه الجولة الغير موفقة أعلى الخيل، وتميم يراقبها بملامح منقبضة يغمض عيونه بعض الشيء :
” حسنًا ربما في المرات القادمة يحالفك الحظ، اعتقد أنه كان درسًا ملئ بالخبرات ها؟”
نظر سالار لحالة تبارك وهو يجلس القرفصاء يراقبها بشفقة وهدوء شديد وهي فقط شاحبة الوجه :
” سأحرص على ألا تصعدي فوق خيل داخل أسوار القصر ما دمت حيًا، احسنتي في درسك الاول مولاتي، أبليتِ حسنًا …..”
______________________
دخلت المكتبة تتلفت يمينًا ويسارًا بحذر ليس لشيء سوى لتجنب صرخات ذلك العجوز المزعج، لولا أنها يأست من إيجاد ذلك المزعج الآخر في كل مكان ولم يتبقى غير هذه المقبرة المليئة بالكتب ما خطتها يومًا، لكن هي مجرد محاولة أخرى منها لاستعادة ما يخصها .
تحركت بين الارفف وهي ترمقها باستياء، لم تكن يومًا من محبي تلك الأشياء متعددة الاوراق والتي يدعوها الجميع بكتب .
زفرت تلوي شفاهها وهي تبحث بعيونها عن دانيار، لكن كل ما ابصرته هو دودة الكتب الصغيرة الذي لا ينفك يضيع نعمة البصر على الأوراق أمامه..
يالحماقة بعض البشر !
اقتربت زمرد من مرجان بهدوء وهي تقول بصوت مرتفع بعض الشيء :
” مرحبًا يا فتى أين قد أجد هذا المسمى دانيار ؟!”
لكن مرجان كانت عيونه معلقة بالكلمات أمامه لا ينتزعها عنها وكأنه يخشى أن تتطاير من الكتاب قبل أن يخزنها في عقله، يلتهم الاحرف بسرعة كبيرة وعيونه تتحرك بشكل جعل زمرد تنحني جالسة القرفصاء أمامه :
” يا بني الكلمات لن تتلاشى من تلك الأوراق، انظر لي وأخبرني أين ذلك المزعج دانيار ؟؟”
رفع مرجان عيونه ببطء شديد وهو يقول :
” القائد دانيار لم يأت هنا منذ يومين حينما طرده العريف آخر مرة ”
نظر له بعدم فهم تجلس أمامه ثم قالت :
” وأين يكون عادة حينما يطرده العريف ؟؟”
” لا ادري ساحة الرماية ربما، أو معمل القائد تميم، أنا لا اتابع حركته كي اعرف ”
هزت زمرد رأسها تفكر في الذهاب لمعمل تميم فهي للتو عادت من الساحة، لكن فجأة انتبهت لنظراته المصدومة للكتاب لتقول بفضول شديد :
” إذن ما الذي تحتويه هذه الأوراق لتتسبب في خروج عيونك عن وجهك بهذا الشكل ؟!”
” هذا كتاب يتحدث عن الكواكب والاجرام ”
” أوه هكذا إذن ”
فجأة قالت :
” ما معنى الأجرام ؟؟”
رفع مرجان عيونه لها لتشعر هي بسخافة ما تفعل لتنهض عن الأرض تقول بهدوء وجدية :
” حسنًا سأرحل من هذا المكان اكمل أنت يا فتى ”
خرجت من المكتبة تتحرك في طريقها صوب المعمل الخاص بتميم والذي تعرفه فقط بسبب اصوات الانفجارات المعتادة التي تخرج منه، وكذلك التصاق برلنت طوال اليوم جواره .
توقفت أمام المعمل الذي يقبع أسفل القصر بدرج عميق :
” ها قبر آخر، ما بال هؤلاء القوم يعشقون القبور ؟؟ المكتبة وهنا كذلك، مجرد قبور مع اختلاف المسميات. ”
هبطت الدرج تتحرك بخفة وهي تنظر حولها بفضول وهذه المرة الأولى التي تهبط بها لهذا المكان، وستكون الأخيرة بمشيئة الله.
كانت هذه أفكار زمرد وهي تتوقف أمام الممر الذي يؤدي للمعمل ولم تكد تخطو له لتسمع فجأة صوت قادم من الداخل يخص غايتها التي قلبت القصر منذ الصباح بحثًا عنه .
ابتسمت بسمة واسعة تتقدم أكثر وهي تتوعد له بالويل إن لم يمنحها السيف هذه المرة، تعلم أنها قالت هذه الجملة مرات ومرات ومرات، لكن هذه المرة تختلف .
تحسست الخنجر الذي سرقته من ثياب أحد الحراس في السكن الخاص بهم بعدما خرجوا جميعًا.
ابتسمت تتحرك داخل المكان تنظر حولها بعيون فضولية تستكشف بيئة نمو هذا التميم .
” يا ويلي ما هذه الأشياء المريبة ؟! هل تحب برلنت ساحر ؟؟”
فجأة أبصرت من بين كل تلك الأشياء والأدوات الغريبة فراش يقبع في ركن المعمل ينام عليه قرير الأعين وهو يتمتم ببعض الكلمات وكأنه يتحدث خلال أحلامه .
اقتربت ببطء شديد من الفراش ترفع الخنجر تتجهز لمباغتته وهو نائم، وحينما أصبحت على بعد خطوة واحدة من الفراش رفعت الخنجر تنظر له بشر، لكن سرعان ما تلاشت نظراتها تلك يحل محلها الانبهار بملامح هذا الرجل، ابتسمت بسمة جانبية تسخر من حالها، كيف تبغضه وتنبهر بملامحه في نفس الوقت، بالله داخل صدرها تحمل له مشاعر حقد وغل غير طبيعية، ومع ذلك لا تستطيع سوى الوقوف أمام ملامحه والشرود في جمال خلق الله .
الله خلقه وأبدع خلقه، هذا الرجل وسيم لدرجة مؤذية لها، هل تتناسى الآن تعاليم والدتها عن غض البصر وتجنب الفتن وتغطس داخل فتنته ؟؟
تنظر وتأثم ؟!
هزت رأسها تبعد كل تلك الأفكار عنها تحرك الخنجر ببطء شديد حتى ثبتته على رقبته وفتحت فمها لتبصق تهديدها في وجهه بعنف شديد مبعدة عنها حالة الاعجاب المريبة تلك .
لكن هي ثواني فقط حين مس الخنجر رقبته وكانت هي من تقبع فوق الفراش والخنجر على رقبتها، تراقب ما يحدث متسعة الأعين، هو حتى لم يعطها فرصة اخراج نفس واحد .
بل فقط رمقها بشر يهمس من بين أسنانه، وهو يبتعد بسرعة عن الفراش كالملسوع، يرفض أي اقتراب منها وبهذه الدرجة المشينة، يقف جواره مهددًا إياها بخنجرها :
” يبدو أنكِ لن تتوقفي عن العبث معي حتى أتخلص منكِ بأسلحتك الخاصة ”
أبعدت زمرد عيونها عن الخنجر تخرج من حالة الصدمة تلك وهي تحدق في عيونه مبتسمة بخبث شديد ظهر في عيونها :
” لو انك أردت فعلها لفعلتها منذ فترة طويلة، لكنك لم تتجرأ على اذيتي حتى الآن، ربما افتتان ها ؟؟”
” يا ابنتي الغرور يقتل صاحبه، أي افتتان هذا معاذ الله وأنتِ تتعاملين معي بخشونة فلا افتقد تميم في وجودك، هذا الافتتان الذي تتحدثين عنه هو حالة انجذاب بين جنسين مختلفين والعياذ بالله ”
اتسعت أعين زمرد بصدمة ليبتسم لها بسخرية :
” نعم تمامًا كما فهمتي، والآن أخبريني متى تستسلمين عن هذه الأفعال الصبيانية ؟!”
رفعت زمرد قدمها بسرعة تضربه في ظهره دافعة إياه صوب الجدار وهي تقول من بين أسنانها تنتفض بعيدًا عن خنجره، أو بالأحرى خنجرها هي :
” أبدًا..”
نظر له بشر بعدما ابتعد عن الجدار يرمقها بغيظ شديد وهو يحرك الخنجر بين أنامله بغضب واضح :
” اسمعي يا امرأة فقد طفح كيلي، توقفي عن الظهور في وجهي، كلما التفت أجدك، لا يكفيني سوى أن تقتحمي احلامي لتنغصي عليّ حياتي بأكملها ”
ابتسمت له زمرد بخبث شديد تتقدم منه خطوات صغيرة :
” متأكد أنني لا أفعل ؟؟”
ابتسم دانيار بسمة جانبية يفهم ما ترمي إليه، وهي ابتسمت له تقول بغضب :
” إن مللت من قفزي في وجهك كل ثانية فأعطني سيفي، وسأحرم عينيك لذة النظرة لي يوميًا ”
أطلق دانيار ضحكة مرتفعة وهو يمسح وجهه هامسًا من بين ضحكاته :
” مغرورة وغبية ”
” لكن محقة ”
” تتمنين ”
اقتربت منه زمرد، تهمس من بين أنفاسها الهادئة :
” وما الاماني سوى اقدار مؤجلة يا عزيزي ”
” ومتى كانت الحياة بهذه المثالية لتحوّل جميع أمانيكِ لاقدار يا ابنتي ؟؟”
همست له زمرد ببسمة صغيرة :
” ومن قال أنني انتظر الحياة لتفعل، بل أنا من أصنع قدري ”
” والآن أنتِ تعبثين باقدارك بالقفز أمام وجهي كل ثانية لتعكري عليّ صفو حياتي ”
نظرت له ثواني ثم قالت وهي تتراجع بعيدًا عنه :
” لكنني لا أراك تمانع الأمر، أم تفعل ؟؟”
نظر لها وصمت وهو يبتسم بسمة غامضة جعلتها تبادله البسمة بأخرى غير مفهومة تقول :
” متى تعيد لي سيفي ؟!”
” حين تستحقين حمله ”
نظرت له بعدم فهم وقبل أن تتحدث بكلمة واحدة سمع الاثنان صوت تميم وهو يقتحم المكان يقول بصخب :
” هذه المرة الأولى التي استوعب بها مدى صعوبة امتطاء خيل، بالله وتالله ووالله ما شعرت يومًا بـ….فتاة ؟؟”
استدارت زمرد بسرعة صوب تميم الذي رفع حاجبه يحدق بهما في عدم فهم وهي تأكدت من لثامها، ثم استدارت تنظر لدانيار نظرات غاضبة :
” لم ننتهي هنا ”
” بل انتهينا من قبل وأنتِ من تماطلين في النهاية يا امرأة، والآن غادري المكان واحرصي على وضع غطاء كامل على وجهك، وكفي عن اللثام ”
رفعت زمرد حاجبها بعدم فهم تسمع صوت تميم في الخلف يقول :
” هل اعطل شيئًا ما ؟؟ من هذه المرأة وماذا تفعل هنا في معملي ؟؟”
استدارت زمرد تقول بحنق وصوت مغتاظ :
” لست سعيدة بالتواجد في هذا القبر سيدي القائد، أنا فقط جئت أخذ شيئًا يخصني، لكنني لم أحصل عليه بعد، ولن استسلم حتى افعل ”
ختمت كلماتها تستدير صوب دانيار بحنق شديد، ولم تكد تمد يدها لانتزاع خنجرها ليبتسم هو قائلًا وهو يبعده عنها :
” سأحتفظ بهذا كذلك ”
زفرت زمرد تقول بلا اهتمام وهي تتحرك للخارج :
” لا بأس أنا سرقته على أية حال ”
ختمت حديثها تخطو خارج المعمل تحت نظرات تميم المصدومة والذي استدار صوب دانيار يقول بعدم فهم :
” من هذه المرأة الوقحة ؟؟؟”
___________________
في منتصف اليوم وبعد ساعات طويلة من السفر صوب مملكة آبى ها هم يصلوا واخيرًا ..
تغير الأمر وتغيرت التدابير، هم في هذه الحرب وحدهم لكن هذا لا يعني تلاعب من خلف ظهورهم أو تجاوز في حق مملكتهم، سبق وحذر إيفان آزار ألا يتخطى حدوده وهو وافق وتنحى جانبًا .
الأن وحينما كان في اجتماع مع جيشه وصلته اخبار اقتحام حدودهم من بعض المنبوذين القادمين من جهة آبى، وليس هذا فقط فشيء كهذا سهل الانتهاء منه، الكارثة أنهم كانوا يزرعون قنابل على طول خط الحدود الخاص به لولا يقظة جنوده .
نعم هو لا يعلنها حرب صريحة مع آزار في هذه اللحظة، ليس قبل أن يقف أمامه ويبصق جميع تهمه في وجهه وحينها يستدعي جيوشه التي حشدها على حدود مشكى، حسنّا سالار هو من حشدها غاضبًا دون أن يأبه بأي اعتبارات .
وصلت خيول إيفان ورجاله صوب قصر آبى الشاهق ليقابله لفيف من رجال آزار وكأنهم جاءوا لاستقبال عدو لدود .
ابتسم بسخرية يهبط عن حصانه بقوة تبعه سالار وتميم ودانيار واثنين من مستشاريه المقربين ..
” مرحبًا بك ملك إيفان أنرت مملكة آبى بزيارتك ”
نظر إيفان حوله لكل هؤلاء الرجال الذين يتوسطهم نزار ( ولي عهد آبى ) بكل اباء وكأنها يعلنها صراحة أنه على أتم الاستعداد لتحطيم أي عوائق تقابل والده في طريقه .
يحترمه كثيرًا، لكن سيتعين على احترامه هذا الانتظار حتى ينتهي منهم، ومن ثم يبتسم له إيفان ويقول له صراحة احترم شجاعتك وبسالتك نزال .
” لا يبدو الأمر كما تقول نزار ؟؟ فتلك الكلمات التي نطقتها لتوك تليق بمناسبة أخرى، ليس وأنت تستقبلني بنصف جيشك، والنصف الآخر يختبأ بين طرقات القصر في انتظار همسة مني لتعلنها حربًا صريحة ”
نظر له نزار يشير بيده للجنود أن يخفضوا أسلحتهم يعتذر بخفوت وتعقل لا يليق بابن آزار :
” اعتذر مولاي، لكن مجيئك بهذه الطريقة وجيشك على أطراف آبى ليس بالشيء المعتاد كذلك ”
كانت أعين سالار تدور في المكان وكأنه يستخرج أماكن اختباء الجنود الباقيين يدرس محيطه يحسب الوقت الذي سيستهلكه لينتهي من الجميع هنا، والوقت الذي يحتاجه جنوده للوصول إلى عقر دار آزار وتحطيم القصر فوق رأسه..
نظر له إيفان ثواني وقال ببسمة خفيفة بريئة بعض الشيء :
” اطراف البلاد وليس داخل البلاد، أنا جئتك وحدي مع بعض جنودي الأوفياء تمامًا كما يفعل والدك حين يأتي لبلادي مع دزرينة من جنوده ”
بُهت وجه نزار ولم يملك من أمره شيئًا إلا أن يشير للجنود بالتنحي جانبًا كي يمر الملك ومن معه لداخل القصر بعدما بطلت جميع حججه لتعطيله، وهو من الأساس لم يكن يريد ذلك لولا أمر والده .
تحرك إيفان للداخل وخلفه جميع رجاله الأوفياء، يتحركون بين ممرات قصر آبى وأمامهم نزار يقودهم صوب قاعة العرش الخاصة بوالده .
وبالفعل ما إن توقف أمام القاعة لم يكد يتحدث حتى تقدم سالار يدفعه جانبًا مبتسمًا بسمة صغيرة :
” نحن سنتولى الأمر من هنا … أيها الأمير”
ختم حديثه وهو يدفع باب القاعة يقتحمها بقوة وهو يتقدم الملك والجميع وكأنه يمثل لهم جدار حماية يمنع أي أحد من الاقتراب، وخلفه يسير إيفان ومن ثم تميم ودانيار يحيطونه من الخلف .
وحين اقتحام سالار القاعة كان آزار يجلس على طاولة كبيرة وهو ينظر للباب وكأنه يتوقع حضورهم ليبتسم سالار بسمة جانبية مخيفة :
” مرحبًا بملك ملوك آبى، نأمل أننا لم نأت في وقت غير مناسب ملك آزار ”
رفع آزار عيونه له، ثم حركها صوب إيفان الذي تقدم خطوات بطيئة صوب الطاولة التي تحتوي العديد من رجال آزار ويبدو أنه كان في خضم اجتماع هام قبل أن يقتطعه سالار .
جلس إيفان على المقعد المقابل لآزار بكل هدوء يضم كفيه على الطاولة أمامه :
” مرحبًا ملك آزار آسف على اقتطاع اجتماعك الهام، لكن سالار لم يكن من الصبر الذي يجعله ينتظر ارسالي رسالة لك تعلمك بمجيئنا، أنت تعرفه هو متلهف فيما يخص هذه الأمور ”
ختم حديثه يشير لسالار الذي ابتسم يهز رأسه بنعم، وكأنه يؤكد حديث إيفان …
ابعد آزار عيونه أن سالار بصعوبة قبل أن ينظر لايفان بجدية يقول :
” هات ما عندك ملك إيفان”
” حدودي ”
” ما بها ؟؟”
هو يختبر صبر إيفان، وهو يمتلك الكثير منه، الكثير من الصبر كبئر مياه عميق لا نهاية له، لكن البئر ينضب في وقتٍ ما ويبدو أن ازار يسعى لتلك اللحظة :
” أنت تعلم ما بها ملك آزار لا تدعني أشك في قدراتك البحثية، أو أنك لا قدر الله تجهل ما يحدث في مملكتك، لا تدعي جهلًا لا تمتلكه في الحقيقة فهذا سيقلل من مكانتك كملك كبير ”
اعتدل آزار في جلسته يستمد قوته في الوقت الحالي وثباته _ليمر من هذه الكارثة_ بمن حوله من رجاله، ولأن هذه المرة إيفان هو من جاء لمملكته وليس العكس، هو اليد العليا هنا .
ابتسم بسمة واسعة يضرب على الطاولة أمامه يقول بجدية وصوت مرتفع :
” ملك إيفان أنت الآن داخل مملكتي إذن التزم حدودك واحفظ لسانك فأنا لن اصمت لك عن إهانة لي و…”
وقبل أن يتم جملته انتفض جسده انتفاضة خفيفة غير محسوسة حين سحب سالار مقعد جواره دون مقدمات وجلس عليه ببطء شديد، ثم أخرج سيوفه يضعهم على الطاولة أمامه يضم قبضتيه وهو ينظر أمامه بكل هدوء .
لكن وحين رأى النظرات توجهت له ابتسم يقول بهدوء :
” فقط يسببون لي ازعاجًا حين اجلس بهما ”
ختم حديثه ببسمة صغيرة وهو يشير لآزار :
” رجاءً أكمل حديثك مولاي لا تخف”
اشتعلت عيون آزار بقوة مرعبة وقد تخطى سالار لتوه جميع الخطوط الحمراء التي يضعها هو لأي إنسان في هذه الحياة، ضرب على الطاولة ينتفض وهو يصرخ بصوت مرتفع صارخًا :
” من هذا الخائف يا فتى وممن سأخاف ؟؟ هل جننت ؟”
ابتسم له سالار بسمة هادئة يجيب بكل بساطة :
” هذا تعبير مجازي مولاي، معاذ الله أن أقصد به إهانة، فأنا أعلم جيدًا كيف التزم الحدود وافرق بين من أتحدث معه إن كان جنديًا أو ملكًا، لست كالبعض يتواقح ويرفع الصوت، وها أنا انتزعت سيوفي أمام الجميع لاريك حسن نيتي كذلك ليس كالبعض يختبئ خلف رجاله وأسلحته”
وعند هذه اللحظة اشتعلت القاعة بأكمله على انتفاضة أحد رجال آزار وهو يصرخ باسم سالار غاضبًا :
” سالار التزم حدودك ”
رمقه سالار بهدوء يصحح له :
” القائد سالار بالنسبة لك ”
اشتعلت أعين الشاب ولم يكد يتحدث بكلمة حتى منعه آزار الذي رفع كفه يقول بهدوء شديد :
” اسمع إيفان لأن الحديث الذي سيجرى أسفل سقف هذه القاعة لن يتكرر مجددًا، لا أنت ولا فرد من أفراد جيشك يحق له أن يطأ ارضي، وحدودك تلك لا علاقة لي بها، اذهب واستجوب الرجال الذين أمسكت بهم، ثم عد لي وتحدث معي ملكٌ لملكٍ، هذا ما عندي وإن لم يعجبك ما اقول فافعل ما شئت موعدنا الغد ..”
نظر له إيفان ثواني نظرات مريبة وهناك بسمة غريبة ترتسم على فمه قبل أن يهز رأسه له، ثم نظر لسالار والرجال معه، ومن ثم انحنى انحناءة صغيرة، ودون كلمة واحدة تحرك خارج قاعة آبى بكل قوة وهيبة تدك الأرض أسفل أقدامه دكًا، وخلفه سالار الذي سحب سيفيه يسير خلف إيفان بكل بساطة ومعه الجميع .
وبمجرد أن خرجوا من القاعة قال دانيار :
” الآن ماذا مولاي ؟؟”
نظر إيفان صوب سالار ليبتسم الأخير وهو يقول :
” الآن تأتي مهمتي أنا دانيار، تجهزوا واقرعوا طبول الحرب ……..”
________________________
باعتباره شخص مميز عند العريف فوجوده في المكتبة في هذه اللحظة لا يسبب له ازعاجًا كالجميع.
ابتسم يبحث عنه بعيونه وهناك بسمة واسعة مرتسمة على فمه، تنفس بصوت مرتفع حين أبصر مرجان كعادته يجلس ارضًا بين كومة من الكتب .
” مرجان ”
رفع مرجان عيونه بتعجب صوب ذلك الصوت ليقول :
” سيدي الطبيب؟؟”
ابتسم مهيار بسمة واسعة وهو يتحرك جاذبًا أحد المقاعد يضعه أمام يجلس عليه بشكل عكس يستند على ظهر المقعد وهو يهمس بصوت خافت وكأنه سيدلي بسرٍ خطير :
” هل زاركم أحد في المنزل أمس ؟!”
” أحد ؟! أي نوع من الأحد؟! فنحن عائلة ودودة اجتماعية يزورنا في اليوم الكثير ”
نفخ مهيار يدرك أن غيرة مرجان على ليلا كبيرة، كما أنه لا يحب اقترابه منها وهذا لم يكن من الصعب استشفافه حين اجتماع ثلاثتهم.
وما لم يدركه مهيار أن مرجان لا يرفضه أو يرفض وجوده جوار ليلا لأجل أمر غيرته أو ما شابه، نعم هو يغار على ليلا العزيزة، لكنه ابدًا لن يقف في وجه سعادتها لأجل مجرد غيرة قد يتجاوزها إن فازت بما تريد هي، لكن كره مرجان لاقتراب مهيار من شقيقته نابع من إدراكه أن الأخيرة لا تحسن اخفاء ضعفها أمامه.
كانت تسارع لتعرض أوراقها له ولم ينقصها سوى أن تقول، مرحبًا مهيار أنت وسيم وأنا أحبك، ما رأيك أن نتزوج ؟؟
وهو بالطبع يدرك منذ اللحظة أن مشاعر مهيار تجاه صغيرته اصغر من أن تكفي شخص نهم كليلا، حبه لها مقارنة بحبها له كما لو أنك تقارن شربة ماء بمحيط عميق، لا يستوون .
لذا لا يود تسليمها له، إلا حين يرى حبه لشقيقته كالامواج في عيونه .
” كان هناك شاب سيتقدم لشقيقتك، هل جاء مساء الأمس ؟!”
كانت تلك الجملة توضح مقصد مهيار ليبتسم له مرجان بسمة صغيرة يقول بجدية :
” لا لم يأت أحد، لكن ربما يفعل اليوم، لِمَ تسأل سيدي الطبيب ؟؟”
ابتسم له مهيار بسخرية لاذعة يدرك يقينًا أن دودة الكتب الخبيثة تلك اذكى من أن تجهل ما يحدث حوله .
” حسنًا عزيزي ما ر….”
“مرجان أحضرت لك الطعام ”
قاطعت تلك الكلمات الحوار الذي نشأ بين الاثنين، وحسنًا مهيار لم يأت في هذه اللحظة خصيصًا ليتساءل عن مجئ ضيف هو منعه بنفسه الذهاب، بل فقط لعلمه يقينًا أنه في هذا اليوم تحديدًا تكون إجازة الصغيرة ليلا وتأتي لإحضار طعام مرجان، وهو مستغل لأقصى حد كي يأتي ويدّعي اهتمامه بحوار مع الاخير لأجل رؤية تلك البسمة المشرقة .
تمتم مهيار دون أن تسمع ليلا :
” سلّم الله تلك البسمة وصاحبة البسمة ”
استدارت ليلا صوب مهيار حين سمعت همسًا يصدر من صوبه لتقول ببسمة خجلة :
” مرحبًا سيدي الطبيب ”
” مرحبًا آنسة ليلا، عسى أن يكون نهارك سعيدًا ”
وكيف لا يكون وهو بدأ بك ؟! كلمات ودت لو تلقيها في وجهه دون تفكير أو تردد، لكن آخر ذرات التعقل في رأسها، ونظرات مرجان الرافضة لما يحدث وخجلها الفطري، منعوها من ذلك، تنظر ارضًا تهمس بصوت منخفض :
” الحمدلله سيدي، شكرًا لك ”
هنا ونفذت كامل كلماتها ولا تدري كيف يمكنها الاستمرار في هذه المحادثة أكثر من ثانية أخرى، فهي لم تكن تعلم أنه هنا، وحتى لو علمت فما كان باليد حيلة، فاطول حوار دام في خيالها بينها وبين مهيار لم يستمر سوى ثواني معدودة لقول كلمة واحدة فقط ( احبك ).
ابتسم مهيار بسمة واسعة وهو يرى شرودها في وجهه، يدرك أنها في هذه اللحظة لا تستوعب أطالتها النظر به أكثر من دقيقة دون أن يرف جفنها .
وحين فعلت انتشر لون احمر على طول خدها تخفض رأسها بسرعة مصدومة مما حصل منذ ثواني :
” أنا … أنا فقط كنت شاردة في …في أمور تخص دراستي و…لم اقصد النظر لك أبدًا ”
قطعت حديثها بعجز عن الاستمرار في هذه الدوامة التي تسحبها دون قدرة منها على المقاومة حتى، ودون مقدمات أو حتى تفكير تركت الطعام ارضًا مكان مرجان الذي لم تشعر حتى أنه اختفى فجأة من محيطهما، ثم قالت بتمتمات غير مفهومة مفادها أنها سترحل .
وفد فعلت دون أن تعطيه حتى فرصة كي يشتغل تلك اللحظات التي اقتطعها من يومه بصعوبة بعدما ترك الملكة داخل العيادة تعتني هي بها، أمر قد يدفع ثمنه الباقي من عمره إن علم القائد سالار .
تحرك بسرعة خلف ليلا كي يوقفها ويتحدث معها فيما جاء لأجله، متجاهلًا مصير مرجان الذي سُحب من بينهما مكمم الفم .
وبعدما خرجا أخرج العريف رأسه من خلف المكتبة وهو ما يزال يكمم فم مرجان ليقول بحنق :
” شقيقتك حمقاء مثلك مرجان، لقد هربت من الرجل، هكذا لن يتزوجا ولو بعد مئات السنين ”
تنفس بعنف وهو يراقب باب المكتبة يفكر في حل آخر لمساعدة هذين الاثنين متجاهلًا انتفاضة مرجان بين ذراعيه .
وفي الخارج :
هرولت ليلا بين الممرات وكأن موتها يطاردها وليس من عاشت تحلم أن يخطو صوبها ولو سنتيمترًا واحدًا، هي في أحلامها أكثر جرأة من هذه اللحظة، لا تستطيع أن تستمر في الحديث معه أكثر من كلمات بسيطة، وإلا فقدت رباطة جأشها .
لكن وأثناء هرولتها وقبل أن تبلغ خلاصها حين أبصرت باب القصر الداخلي، وجدت جسدًا يحول بينها وبين حريتها، ومتى كانت الحرية بهذه السهولة، أو متى نلنا الخلاص بخطوة واحدة ؟
عزيزي الحرية تنالها زحفًا، ليس سيرًا ….
وهي كانت على أتم الاستعداد لتزحف فقط تهرب من هنا، لكن ذلك الجسد الرجولي الذي قطع طريقها حال دون ذلك .
إذ ظهر لها الشاب نفسه الذي تحلف عن موعده وهو يقول بلهفة شديد يرتدي ثياب جيش الرماة :
” ليلا، لقد ابصرتك من نقطة المراقبة وأتيت ركضًا للتحدث معك، اسمعيني ليلا أنا البارحة لم ااا ”
صمت فجأة حين أبصر خلفه كابوسه الذي كان يلاحقه، ومهيار ابتسم له بسمة مرعبة وهو يرفع حاجبه وكأنه يتحداه بصمت أن يتم جملته المعلقة ..
وهو فقط جحظت أعينه ليس خوفًا، بقدر صدمته من وجوده يهمس حين أبصر نظراته :
” أوه لا ليس مجددًا ……”
______________________
للمرة الثانية حينما قرر أن يصارحها لم يستطع بسبب خروجه من القصر، توقف أمام باب غرفتها يراجع داخل عقله الحديث الطويل الذي حضّره في طريق العودة لسفيد، كلمات طويلة وتحقيق أطول كان ينتوي قوله، لكن الآن بالوقوف أمام باب غرفتها شعر أن كل ذلك تبخر فجأة، ولم يتبق في عقله المسكين سوى جملة واحدة ..
” أنتِ هي بيرلي خاصتي ؟؟”
وحتى هذه الجملة اليتيمة التي تركها تدور وحدها داخل كهوف عقله الفارغة كانت صعبة عليه، إذ أن احتمالية كون تلك الفتاة هي نفسها بيرلي تجعله يعجز عن فتح فمه .
ما بك تميم ؟؟ أنت حتى لم تجد دليلًا واحدًا أنها هي سوى الاسم، لا شيء لتتوتر لهذه للدرجة، نعم كان من المتوقع عدم تعرفك عليها بعدما نضجت وأصبحت شابة وأنت لم ترها سوى مرات قليلة في لمحات خاطفة.
لكن هي …هي لم تتعرف عليه ؟؟ هو لم يتغير لهذه الدرجة كي تجهله .
زفر يستند بجبينه على الباب الخاص بها يتحسسه بوجع وهو يهمس دون وعي داخله :
” أرجوكِ كوني هي، ارجوكِ كوني هي ”
ودون أن يملك حتى القدرة على التحكم في قبضته وجد نفسه يطرق باب الغرفة، يطرقها دون أن يعبأ بأي شيء سوى حاجته الملحة ليعلم الحقيقة .
ثواني قليلة حين سمع صوت تمتمات، ابتعد للخلف ببطء يراقب الباب يدعو الله أن تكون هي، ويبدو أن دعوته في تلك اللحظة أُستجيبت إذ أن أول ما أطل عليه هو وجه غير واضح بسبب طرف الحجاب الذي جذبته هي ليصبح لها لثامًا .
والنظرة المصدومة التي ابصرها في عيونها جعلته يدرك سوء اختيار أوقاته.
ابتلع ريقه يقول :
” هل يمكننا الحديث قليلًا ؟؟”
اتسعت أعين برلنت تحاول أن تفهم ما يحدث هنا ؟؟ هل قفز تميم من أحلامها متمثلًا أمام عتبة غرفتها ؟؟ للتو فقط كانت تسكن أحضانه في أحلامها.
نظرت خلفها بريبة تفكر في الأمر وقد كان الرفض يقبع على طرف لسانها، لكن يبدو أن تميم كان من اليأس الذي دفعه ليجذبها من ثيابها بلين للخارج، ثم اغلق باب غرفتها يقول بجدية :
” لن نتأخر ”
كان يسحبها خلفه وهي تسير مصدومة من تجرأه على الذهاب لغرفة فتاة من المفترض أنها مجرد عاملة في القصر وسحبها بهذا الشكل وفي هذه الساعة من الليل، و…مهلًا فقط، هل يعقل أنه اكتشف لعبتها وعلم هويتها والآن يجرها للمذبح حيث يكون قاضيًا وجلادًا على ماضيها، ومحددًا لمصير مستقبلها .
سقطت دموعها برعب تحاول مقاومة يده التي تجذبها :
” أنت…دعني لا يمكنك جذبي بهذه الطريقة، هذا مخالف لقوانين المملكة و..”
فجأة توقف تميم لتتوقف هي متسعة الأعين وهو استدار لها يشرد بعيونها ثم قال بهمس :
” يمكنك شكوتي للملك بعدما ننتهي، لكن إن صدق حدسي وأثبتّ ما يدور بخلدي وعلمت أنكِ اخفيتي عني الحقيقة كل تلك السنوات مراقبة إياي بصمت سأ…”
صمت ثم أكمل الطريق وهو يجذبها خلفه بسرعة كبيرة وهي تسير باكية لا تدري السبب لكن هذا كل ما تستطيع فعله .
جذبه لها في هذه اللحظة أعاد لها ذكرياتهما حين كان يجذبها خلفه لللعب والمرح، كانت تركض معه مبتسمة سعيدة، لكن شتان بين الحالتين .
وحين خرج تميم للحديقة ترك يدها بقوة، ثم استدار لها ودون مقدمات مدّ يده ينتزع لثامها بقوة يمنح نفسه كامل الحرية التمعن في ملامحها، ينظر لها بقوة ينتظر أن يجد بها لمحة صغيرة من بيرلي الحبيبة، لكن لا شيء، لا شيء مشترك بينهما عدا … عدا تلك الأعين والنظرات الصادرة منها .
ابتلع ريقه وهو يرى أنه اطال التحديق بها حتى شعرت بالرعب تعود للخلف وهي تراقبه بريبة .
ابتلع ريقه يقول بهدوء شديد وبنبرة ظهرت لها عادية هادئة مستكينة وكأنه يتحدث معها عن أحوال الطقس :
” انظري لعيوني واخبريني أنني مجرد شخص مهووس مجنون وأنكِ لستِ بيرلي الصغيرة، وأن برلنت ذلك مجرد اسم صدف أنه يشبه اسم شخص اعرفه ”
كان يتمنى أن تصدقه القول وتخبره أنه محق وأن كل ذلك محض تراهات في عقله وأنه أخطأ ليعتذر منها ويتركها تعود لغرفتها، ثم يرتكن هو لجدار غرفته يبكي رحيلها يلعق جروحه لنفسه .
لكن تلك النظرات المصدومة وذلك الشحوب والشهقة التي خرجت منه صفعته وبقوة ليتلقى في هذه اللحظة ضربة قوية فوق رأسه يراها تتراجع تنفي برأسها ما قاله .
” لا لا… لا ”
لكن ماذا تفعل تلك الـ ” لا ” وقد نطقت جميع خلجات جسدها بكلمة ” نعم ” .
اتسعت عيونه ينظر لها بعدم فهم، لتتراجع هي ببطء للخلف تبكي بعنف تهمس بلا باستمرار وكأنها تحاول إقناع نفسها بها، لكن وقبل أن تعود خطوة إضافية وجدت تميم ينتفض بشكل مرعب منقضًا عليها يجذب ذراعها بقوة مخيفة وهو يقربها منه بشكل خطير يبعد طرف ثوبها عن معصمها وقد تذكر شيئًا هامًا، هامسًا من بين أنفاسه مصعوقًا من تلك الحقيقة :
” أنتِ هي ؟؟ أنتِ هي برلنت ؟؟ بيرلي ؟؟؟ ”
____________________
هو إثم اخترته بنفسك، فلا تبتأس لاحقًا لدعوتك بالآثم ..
يتبع…
وعدتُكِ..أنْ لا أعودَ .. وعُدْتْ.
وأنْ لا أموتَ اشتياقاً..ومُتّ.
وعدتُ بأشياءَ أكبرَ منّي فماذا بنفسي فعلتْ؟
لقد كنتُ أكذبُ من شدّة الصدقِ، والحمدُ للهِ أنّي كذبتْ….
— نزار قباني
أن تظل تركض حياتك كالاعمى تتخبط في الجميع بحثًا عن روحٍ فقدتها في زحام الآلام، روحٌ سُلبت منك دون إرادتك، روح أبت الحياة أن تتركك تحتفظ بها، تركض ركض الوحوش في البرية لأجل أن تعثر على نصفك المفقود، وفجأة تشعر بصاعقة تضربك حين تراه …
من عشت حياتك بأكملها تركض بحثًا عنه كان هناك يراقبك من بعيد، ما يزال في نقطة البداية يلاحقك بعيونه، كان جوارك دون أن تلاحظه، أو يحاول حتى هو تنبيهك بوجوده وكأنه استمتع برؤيتك تتخبط، استمتع برؤية معاناتك…
ارتجفت يد برلنت بين أصابعه وهو يحدق بعيونها التي تظهر من اللثام، وإن تغيرت جميع ملامحها كيف تفعل عيونها ؟!
وتلك الشامة على معصمها ..
كيف، كيف استطاع تجاهل هذه الأعين حتى لو لم يرها يومًا عن قرب، كيف لم يشعر بها ؟!
بيرلي كانت أمامه؟؟ أمامه ومنذ سنوات طويلة، سنوات لا يدرك حتى عددها؛ لأنها ببساطة لم تشفق عليه و تظهر أو ينتبه لها إلا منذ اسابيع فقط .
كان يشدد دون وعي على ذراعها، ينظر لعيونها وهو يرتعش من هول ما يعيش به، زوجته التي عانى أربعة عشر عامًا يتجرع مرارة فراقها كانت على بُعد خطوات منه تعيش حياتها دون أن تفكر يومًا في الاقتراب منه وأخباره عنها ؟؟
ارتجفت شفاهه لا يصدق أنه ينطق اسمها أمامها بعد كل تلك السنوات :
” بيرلي ؟!”
أغمضت برلنت عيونها بقوة تبكي وهي تنفي برأسها، تنفي ما أكدته جميع حركاتها وردات فعلها، تنفي ما أثبتته نظراتها تحاول الحديث من بين شهقاتها تجذب يديها منه بصعوبة، تحاول الهروب منه وكأن أربعة عشر عامًا لم تكن مدة كافية للهرب :
” لا، لا لستُ… لستُ …”
ولم تتمكن من إكمال جملتها تلك، بسبب شهقاتها التي قطعت حديثها وهي تنهار ارضًا بقوة ليترك هو ذراعها وقد أصابته صدمة جمدته ارضًا يراها تنحني ارضًا باكية بصخب :
” أرجوك… أنا آسفة تميم .. أنا آسفة، اغفر لي..تميم أنا آسفة ”
تراجع تميم للخلف بصدمة كبيرة وهو يشعر بالوجع، وجع كبير ينخر قلبه، نظر حوله متمنيًا أن يكون حلمًا، الفتاة التي عاش حياته يحلم فقط بأن يلقاها ولو صدفة.
أضحى الآن يتمنى أن يكون لقاؤها مجرد حلم، أن يكون ما فهمه في هذه اللحظة سوء فهم، أي شيء غير حقيقة بقائها كل هذا الوقت بعيدًا عنه بإرادتها .
بيرلي لن تفعل به هذا، لن تقبل أن تراه كل هذه السنوات وتتركه .
خرج صوته ميتًا دون شعور منه :
” أنتِ ..أنتِ لم تفعلي هذا بي، لم تعذبيني بهذه الطريقة برلنت صحيح ؟؟ أنتِ لم تتعمدي الابتعاد عني بهذا الشكل، أنتِ ..أنتِ لا تعرفين من أنا صحيح ؟؟”
عند هذه الفكرة أبتسم بأمل ينحني ارضًا يجلس على ركبتيه ينظر لها بأمل واعين لامعة موجوعة يتحدث بتعب :
” أنتِ لم تتعرفي عليّ وهذا سبب ابتعادك عني صحيح ؟؟ أنتِ لم تعلمي هويتي الحقيقية، أنا… أنا تميم، تميم رفيقك وصديقك و…وزوجك بيرلي ”
صمت ثم قال بأمل يسألها أن تؤكده :
” لا يعقل أنكِ عرفتني وتجاهلتني كل ذلك الوقت، صحيح صغيرتي ؟!”
جرحتها نبرته واشعرتها في لحظات بالموت يسري بين عروقها، بكت تقول بصوت موجوع :
” لقد هددتني بـ… ”
صرخ في وجهها بجنون وقد انتفض جسده وفاض صبره من كل ذلك، لا يعقل أن كلمات نطقها في لحظة انفعال تسبب له جحيم أربعة عشر عامًا :
” كنت كاذبًا، كنت غبيًا، كيف لكِ أن تصدقي لحظة أنني بهذا التجبر الذي يدفعني صوب قتلك يا غبية ؟!”
اقترب منها وهو يضرب جانب رأسها باصبعين في خفة وخوف أن يؤذها حتى في أقصى حالاته انفعالًا يهدر فيها بقهر شديد :
” منذ متى وأنا بهذه القسوة التي تدفعني لقتل أحدهم دون ذنب؟؟ ماذا إن كان أحدهم هذا يعني لي حياتي بيرلي ؟؟ كيف …كيف اضعتي مني كل تلك السنوات بعيدًا عنكِ ؟! لقد كدت أُصاب بالجنون وأنا أبحث عنكِ في كل مكان يا امرأة ”
ختم حديثه يشعر بالوجع هامسًا من بين أنفاسه الثائرة ووجهه يحكي لها معاناة خالصة له :
” حرامٌ عليكٍ برلنت، حرامٌ عليكِ ”
بكت برلنت بقوة وهي تدفن وجهها بين كفيها تحاول الحديث، لكن وكيف تفعل وحتى التنفس كان صعبًا عليها لشدة بكائها، حالة تنتابها حين يشتد بها البكاء ويتحكم بها الحزن .
” عشت أربعة عشر عامًا من العذاب، أقتل نفسي يوميًا، أرفض الشعور بفرحة صغيرة مخافة أن اكسر عقابي لنفسي، يالله حرمت على قلبي الفرحة دونك برلنت، ما الذي فعلتيه بيرلي ؟؟”
ازدادت أصوات بكاء برلنت، وحاولت أن تشهق من بين بكائها، وصَعُب عليها التنفس لتنهار ارضًا تشير له في محاولة بائسة للدفاع عن نفسها .
تحرك لها تميم بسرعة ورعب وهو يضم وجهها بين كفيه يقول بلهفة كبيرة وكأن الصغيرة بيرلي عادت مجددًا له تبكيه قسوة والدها أو صراخ والدتها، أسرع يبعد لثامها عن وجهها ونسى في ثواني قليلة كامل غضبه :
” تنفسي، تنفسي، اهدأي اهدأي بيرلي، تنفسي بهدوء هيا تنفسي، أنا آسف، اقسم أنني آسف”
وكلماته تلك ما زادت جرحها إلا قيحًا، وما زادت وجعها إلا تلالًا من الآهات، لهفته وخوفه عليها في هذه اللحظة جعلوها تشفق عليه، جعلها تبتأس أكثر وهي تزداد بكاءً، فما كان من تميم إلا أن جذبها لاحضانه بقوة وهو يدفن وجهها برقبته يهمس بلهفة وخوف شديدين :
” بيرلي صغيرتي تنفسي، لن أفعل لكِ شيئًا أرجوكِ اهدأي، أنا حقير كاذب، لطالما كنت كذلك، حتى ذلك اليوم كذبت، أقسم أنني كذبت، ما كنت لامسك بسوء صغيرتي، يا ويلتي تنفسي بيرلي ”
وبرلنت لم تحسن التنفس أو التحدث سوى بكلمات قليلة وهي تنطق من بين شهقاتها :
” لقد خفتك ؟؟ خفت أن تعلم من أنا فـ …فتنفذ …فتنفذ تهديدك لي، أنا…أنا آسفة تميم، اقسم أنهم هددوني بك، لقد هددوني بأذيتك، هددني أبي بك إن… إن لم أتحدث، لقد أخبرني أنه سيتسبب في اعدامك أنت، لقد ترجيته وتوسلته، حتى أنني قبلت قدمه كي لا يدفعني لقول ما قلته لكنهم اجبروني اقسم لك ”
انفجرت في بكاء قاسي في اللحظة التي عاد لتميم كل ما حدث ليرتجف جسده بقوة يتذكر كم كان متجبرًا على طفلة ذلك اليوم، ابتعد عنها قليلًا وزيّن له عقله الهروب منها ومن كامل أوجاعه التي تكالبت عليه في هذه اللحظة .
صمتت هي، ثم أكملت بصوت خافت أبح موجوع :
” جئت للعمل هنا فقط كي أكون بالقرب منك، ارتضيت العمل خادمة فقط لأصبح بالقرب منك تميم، استغليت جميع الفرص لاراك، وأقسم أنني على استعداد للعمل بهذا الشكل باقية حياتي، فقط أسمح لي أن أكون جوارك، أرجوك تميم دعني اعتني بك وأراك حتى وإن كان تحت مسمى عاملة هنا، اتركني اعتذر عن ذنبي القديم في حقك”
كانت تتحدث باكية وهي تضم ثيابه من الخلف بقبضتها بقوة تصرخ بما كبتته سنوات ترتعب القادم، لا تخشى موتها، لكن تخشى أن يفعل ما يندم عليه، تخشى أن يتعذب بسببها، يكفيه ما ناله من خلف رأسها.
وتميم كانت عيونه تلتمع بدموع يأبى أن تهبط في هذه اللحظة وهو يضمها له يستمع لكلماتها، كانت جواره وأبت الاقتراب فقط كي لا يقتلها، خشته لدرجة أن تبتعد عنه، هربت منه بسبب تهديد غبي ألقاه في وجهها سابقًا، هو المذنب في عذاب كليهما طوال هذه السنوات ؟!
بالطبع هو كذلك، كانت مجرد طفلة صغيرة، يا الله طفلة صغيرة بالطبع ستصدق تهديده ذلك الوقت .
فجأة ومن بين شهقاتها شعرت برلنت بجسد تميم يهتز ويختض بشكل جعل أعينها تتسع بقوة وهي تهمس بذهول :
” تميم ؟؟ هل …هل تبكي ؟؟”
بكى تميم أكثر حتى شعر أن صوت بكائه وصل لجميع قاطني القصر، لقد أخطأ في حياته مرة واحدة كانت كافية لتدمرها بالكامل، زوجته وصغيرته رحلت هاربة منه، ورغم ذلك لم تستطع الابتعاد وجاءت للعمل جواره دون أن تمتلك القدرة أو الشجاعة لمواجهته خوفًا من بطشه، عملت كخادمة، زوجته كانت تعمل خادمة فقط لتصبح جواره .
شعر في هذه اللحظة بشعور سييء يملئ صدره .
ضمته لها برلنت تقول بوجع وخوف باكية :
” لا لا تميم لا تبكي أرجوك، أنا..أنا آسفة اقسم لك أنني آسفة لكل شيء، لقد كُتب عليك الوجع منذ تعرفت عليّ، كنت اسبب لك مشاكل طوال الوقت وها أنا أفعل الآن ”
ابتعد عنها تميم يضم وجهها بين قبضيته يستند على جبينها بخصاته يهتف بكل الوجع الذي سكنه في هذه اللحظة وكأنه يبرر لها الأمر :
” ما كنت يومًا لأمسك بسوء بيرلي، أنا أضعف من أن انتزع روحي بيدي، أضعف من أذية نفسي بهذا الشكل، ما كنت يومًا لافعلها، ما كان عليكِ تصديقي ذلك اليوم ”
أغمضت برلنت عيونها تشعر في هذه اللحظة بعظم ما حدث معهما .
هي أضاعت أربعة عشر عامًا لأجل خوف من شيء ما كان ليحدث، وهو أضاع أربعة عشر عامًا يبحث في كل مكان عدا المكان الوحيد الذي كانت به…جواره .
استمتعت برلنت بالصمت السائد في المكان، تتنفس بصوت منتظم بعد موجة بكاء عنيف صدرت منها، استمتعت واخيرًا بإيقاع نبضاته شعرت في هذه اللحظة أنها تحيا اسعد ثواني مرت عليها منذ سنوات، الآن والآن فقط استطاعت التنفس براحة، وكأن هناك صخرة كبيرة كانت تجثم على صدرها والان فقط تحركت .
رفع تميم إصبعه يمسد خدها بحنان شديد وحب وكأنه لا يصدق أنه يمسها.
غاضب ؟؟ نعم وبشدة، يود معاقبتها للابتعاد عنه ؟؟ نعم سيفعل، لكن ليس الآن وليس في هذه اللحظة التي كانت أشبه بخروجه فجأة من أسفل قاع المحيط يستنشق الهواء بعدما كان يتخبط في الاسفل يصارع الأمواج كالغريق، الآن سيستمتع بأنفاسه التي استطاع أخيرًا التقاطها، ومن ثم يفكر في كيفية الخروج من المحيط للشاطئ .
وهي فقط كانت تشعر برغبة عارمة في النوم، النوم لأول مرة براحة بين أحضانه، النوم للمرة الثانية في حياتها بين أحضانه، إذ كانت أول مرة لها بعد عقد قرانهما بـ ..
و عند هذه الفكرة انتفض جسد برلنت للخلف بسرعة بعيدًا عنه بوجه شاحب وهي تنظر لتميم بصدمة هامسة، تضع كفها على فمها :
” يا ويلي ما الذي فعلته ؟؟ ما الذي فعلته تميم ؟؟ حرام ..حرام أنا لا أستطيع أن…يا الله لقد أذنبت، لقد عانقتك و… أنت طلقتني و….”
قاطع تميم كل ذلك يتفهم ما تريد قوله وهو يجذبها صوبه يقول بجدية ينظر لعيونها بجدية كبيرة وحب :
” لقد رددتك بيرلي، رددتك بعدها بيوم واحد فقط، أنتِ ما تزالين زوجتي منذ أربعة عشر عامًا …..”
_______________________
” أنا حقًا لا افهم أي عقل هذا الذي يجعلني أستمع لحديثك الغبي كهرمان وآتي معكِ لهذا المكان ؟! ماذا إن امسك أحدهم بنا ؟؟”
نظرت لها كهرمان برجاء تحاول أن تستعطف كل ذرة إنسانية بها :
” بالله عليكِ زمرد لا تتخلي عني، اقسم لكِ أنني لن أنسى يومًا مساعدتك هذه، فقط ساعديني لأصل له، عليّ التحدث معه، أرجوكِ ”
زفرت زمرد تمد عيونها صوب الممر الذي كان محظورًا على الجميع أن يخطوه يومًا، الممر الذي يحوي جحيم سفيد، السجن الأخطر في المملكة حيث يقبع ذلك الحقير قائد جيوش أخيها والخائن الذي تسبب في مقتله، عليها أن تتحدث معه تحت أي ظرف .
تنفست زمرد بصوت مرتفع وهي ترى رجال يقفون على باب السجن، تقول بصوت منخفض :
” وكيف تتوقعين منا الدخول لهذا المكان بكل هذه الحراسة؟؟”
ابتسمت لها كهرمان تقول بجدية كبيرة :
” لا، لا تخافي أنا لن اغامر بكِ وآخذكِ داخل السجن معي ”
نظرت لها زمرد بحب تقول :
” أوه كهرمان أنتِ حقًا …”
” بل سأستخدمكِ طُعمًا لجذب الحراس بعيدًا عنه حتى أدخل أنا”
” حقيرة، أنتِ حقّا حقيرة كهرمان ”
ابتسمت لها كهرمان بلطف تغريها لمساعدتها :
” حين اعود لمشكى سأجعلك وصيفتي ومستشارتي الاولى، اعدك ”
رفعت زمرد اللثام الخاص بها وهي ترتدي ثياب مكونة من بنطال واسع، بعض الشيء يشبه ثياب الرجال في المملكة وسترة تعلوها معطف جلدي طويل وقلنسوة مع اللثام تغطي كامل ملامحها عدا الأعين :
” هذا إن عشت لذلك الوقت، أراكِ في جنة الخلد عزيزتي”
ومن بعد هذه الكلمات ركضت زمرد بسرعة كبيرة صوب الممر الخاص بالسجن تقف في بدايته ترمق البوابة الخاصة بهم وهي تطلق صفيرًا عاليًا جذب انتباه الرجال، ثم لوحت لهم ترسم في عيونها نظرة مخيفة، ودون تفكير كانت تخرج خنجرين من ثيابها _سرقتهما سابقًا_ تلقي بهما بالقرب من الرجال متعمدة عدم إصابتهما .
شهق الرجال بسرعة كبيرة وقد تحفزت أجسادهم لما يحدث، وقبل أن تستوعب زمرد ما يحدث كانت ترى الأجساد تندفع لها بشكل مخيف جعل أعينها تتسع بصدمة :
” أوه رجال أقوياء سريعي البديهة ؟؟ يبدو أنني نسيت كوني في سفيد ولست لدى الغبي بافل ورجاله الاغبياء ”
وحين أبصرت الجميع يندفع لها بشكل مخيف يصرخون بهدير في وجهها، تراجعت بسرعة كبيرة للخلف وهي تركض برعب كبير تستغل رشاقتها وسرعة أقدامها وهي تقفز على الدرج والجميع خلفها .
وقبل أن تختفي همست بينها وبين نفسها بلهفة وهي تنظر خلفها :
” تدينين لي بالكثير والكثير كهرمان، حتى إن منحتني عرش مشكى لن يكفي لسداد دينك لي ”
بينما عند كهرمان رفعت لثامها تتحرك بهيئة الجندي صوب السجن بسرعة كبيرة تستغل عدم وجود أحدهم، ثم هبطت الدرج تمسك سيفها في تحفز، تنتظر أن يظهر لها أحدهم، لكن لم تفعل .
نظرت حولها بجهل إذ من المفترض أن يكون هناك رجل يحرس بوابات السجون أجمعين، تنهدت وهي تفتح البوابة تدخل لممر طويل ملئ بالسجون المظلمة التي تفوح منها رائحة الدماء وتنتشر فيها اصوات تأوهات خفيضة جعلت جسدها يرتجف .
ابتلعت ريقها بخوف شديد، تنظر صوب الأجساد المترامية تبحث عنه بين السجون تحاول تمييزه في الظلام الذي ينتشر في المكان .
وبعد دقائق فجأة توقفت أقدامها حين تعرفت عيونها على ثوب تعرفه تمام المعرفة، ثياب تدرك جيدًا مصدرها، ثياب تحمل شعار مشكى .
رجل يحشر جسده في زاوية أحد السجون يخفي رأسه بين قدميه وأعلى كتف ثيابه الرثة يظهر شعار مملكة مشكى والذي يعود لأخيها.
ابتسمت كهرمان بسمة قاسية وهي تقترب من السجن تهمس بفحيح وهسيس مرعب :
” تخون بلادك وتحمل شعارهم معك ؟؟ لكم أنت خائن مخلص مهران ”
ارتفع رأس مهران بسرعة مخيفة وهو ينظر صوب باب السجن خلف القضبان لذلك الجسد الذي يختفي في الظلام، ورغم عدم رؤيته لصاحب الجسد إلا أنه تعرف عليه ليشهق بعدم تصديق يتحرك صوب القضبان يقول بصدمة :
” الأميرة كهرمان ؟؟”
اقتربت كهرمان من القضبان تبتسم له بسمة قاتلة وهي تهتف :
” بشحمها ولحمها ”
ارتجفت حدقات مهران وهو يحرك عيونه على جسدها صعودًا وهبوطًا وكأنه يبحث عن علامة واحدة تخبره أنه فقط يتخيل، هو يحلم، نعم يحلم فهو احرق مخبأ النساء يومها بيده، هو من حرقه.
” كيف ..كيف لقد …لقد أحرقت مخبأ النساء بيدي بعدما …”
صمت يبتلع ريقه يحاول فهم ما يحدث لتهمس له كهرمان بصوت ميت ونبرة مرعبة :
” بعدما أمّنك أرسلان على حمايتنا، أحرقت المكان الذي تركه تحت حمايتك صحيح ؟؟”
ابتلع مهران ريقه وهو يفكر فيما حدث وكيف نجت هو تأكد بنفسه أن جميع أفراد الأسرة الحاكمة قُتلوا، من صغيرهم لكبيرهم .
تنفس يحاول الحديث :
” ما الذي جاء بكِ و….”
وقبل أن يكمل كلماته صُدم وهو يشعر بجسده يُجذب صوب القضبان بقوة مخيفة وكأنها تود تحطيم جمجمته وإخراج رأسه من بين القضبان لها حتى تدهسها أسفل أقدامها، كانت تنظر له بشر وهي تجذبه بقوة، ليس وكأنها تمتلك قوة تضاهي قوة رجل حرب كمهران، لكن المباغتة فاجئته وصدمته وهو يشعر بخنجر يوجه لمعدته في الاسفل ويضغط عليها حتى شعر به يكاد يخترق جسده وصوت كهرمان يهمس له :
” سوف تكون نهايتك على يدي، لن ينجيك أحدهم من مصيرك الاسود مهران، بحق كل لحظة ثقة منحك إياها سأجعلك تندم، جميعكم ستفعلون أنت وهذا الشيطان بافل”
كانت تتحدث وهي تضغط خنجرها أكثر حتى خرج منه تأوه جعله ينتفض للخلف وكأن الألم جعله يعود لواقعه بعدما ألقته الصدمة في هوة سحيقة :
” أنتِ …أنتِ لن تتمكني من فعل شيء، لا أنتِ ولا هم سيستطيعون، سوف أخرج من هنا وحينها سأ….”
” لا انصحك، صدقني ما يمنعني عن تعذيبك هو هذه القضبان، لذلك فلتدع الله ألا ترى نور الشمس مجددًا يا قذر ”
تراجعت للخلف وهي تحدق فيه بشكل مخيف تقول :
” من أيضًا تحالف معك ضد أرسلان ؟؟ ”
نظر لها مهران بسخرية ولم يتحدث لتقترب هي مجددًا تقول :
” من شاركك فعلتك النكراء مهران ؟؟”
نظر لها ثواني يستمتع بنظرات العذاب أعلى وجهها :
” بعض قادة الجيش فعلوا، يبدو أنه ليس الجميع يتحملون قسوة شقيقك ”
” الرجال فقط هم من يفعلون، لكن امثالك من الذكور بالطبع لا يمكنهم تحمله ”
بُهت وجه مهران، ثم اندفع فجأة صوب القضبان يلتصق بها وهو يحاول مد يده للامساك بها صارخًا بجنون :
” اللعنة عليكِ وعلى شقيقك اللعين الحقير، اللعنة عليكما سويًا، ذلك القذر لكم استمتعت برؤية سيفي ينفذ من جسده، ورؤية دماءه تسيل على قبضتي، ما أزال اذكر نظراته المصدومة حين جاءته الضربة من خلفه ووجدني، كانت أكثر لحظات حياتي سعادة ”
اتسعت عيون كهرمان وهي تراقب ذلك الجنون الواضح على عيون مهران الذي أخذ يضحك بشكل هستيري وهو يصف لها مشهد قتل شقيقها، ارتجف جسدها بقوة تتراجع للخلف صارخة في وجهه :
” بالتأكيد ستضربه من ظهره، فمن أين للكلاب بمواجهة الاسود وجهًا لوجه، أنت حتى أثناء موته خشيت مواجهته، ما يزال أخي يترك لديك أثرًا لن يزول، سيظل ذكره يثير بك جنونًا ”
ختمت حديثها تصرخ هي بجنون، تسمع باقي كلماته التي كان يهذي بها :
” رفضني واستنكر أنني أردت اخذك والزواج بكِ، وها أنا أخذت منه حياته ومملكته وكل ما يملك ”
شهقت كهرمان بصدمة فهذه المرة الأولى التي تعلم بها هذا، بينما مهران اكمل بأعين زائغة وكأنه يرى ما حدث يُعاد أمامه:
” كان يحدجني بنظراته المعتادة قبل أن يسقط ارضًا مضجرًا في دمائه، اللعين لم تختفي نظرة الكبرياء والتجبر من عيونه، انطفأت الحياة بها، ولم ينطفئ كبرياؤه، نظرته ما تزال تلاحقني في نومي”
نظر لها يبتسم بسمة أقرب للجنون :
” أوتعلمين ؟؟ أنا الآن أراه يقف خلفك يحدق فيّ بنفس النظرة المخيفة التي كان يسير بها، لطالما رماني بها وكأنه يخبرني أنه يعلم كل شيء ”
تنفست كهرمان بقوة ترى التصاقه بالسجن لتبتسم بسمة جانبية وهي تندفع فجأة ودون مقدمات تخرج خنجرها، تمد يدها عبر القضبان تغرز خنجرها في خاصرته تستمتع بصوت صراخاته العالية المتألمة، ابتسمت تدير الخنجر داخل جسده لتعلو صرخاته أكثر وهي تهمس :
” مات أخي بطلًا، تخيل أنه لم ينظر لك بضعف أو رجاء وذل وأنت اذقته الموت كؤوسًا، بينما أنت بمجرد ضربة خنجر تكاد تفقد وعيك من الوجع ..”
ابتسمت تقول :
” تؤ تؤ، عارٌ على شاربك القذر ”
ختمت حديثها تجذب خنجرها بقوة لتنطلق على أثره صرخة أشد عنفًا من الاولى وهي فقط بصقت في وجهه تقول بغضب :
” لنا لقاء آخر يا حقير، ليلة سعيدة مع شبح أخي عسى ألا تخرج من تحت يديه حيًا ”
اقتربت تهمس بصوت خافت وكأنه يأتي من بئر سحيق :
” أوصله تحياتي وأخبره أنني سأرسل له الجميع، لكن للأسف لن يلتقي بهم، فمال أخي بالجحيم الذي سيذهب له أمثالك ؟!”
وبهذه الكلمات ركضت بسرعة خارج المكان وهي تتأكد من لثامها، تتحرك بخفة ورعب أن تصادف أحدهم، لكن صوت صرخات وتأوهات مهران التي تبعتها، جعلتها تشعر أنها حتى وإن قُبض عليها في هذه اللحظة لن تبتأس، هي أرادت فقط مواجهته ومعرفة ما حدث، وقد نالت ما تريد وأكثر، بقي فقط أن تراه يُعذب وترى دولتها وقد عادت ……
_________________________
تركض بسرعة كبيرة وكأن الموت يلاحقها تسمع صرخات والدها خلفها يتبعه صوت بعض إخوتها وهم يصرخون بها أن تتوقف وإلا أذوها .
ابتسمت بسمة واسعة وهي تزيد من سرعتها، وكأنها لم تتأذى بالفعل بينهم، هم الأذى ذاته .
كانت تركض بين الجبال التي يسكنوها كالمطاريد، تحمل بين يديها ما سرقته منهم، تتنفس بصوت مرتفع، ابتسم بانتصار، فتاة في السادسة عشر تهزم جيش من الرجال المتجبرين .
ابتسمت حين وصلت لقمة الجبل تنظر للاسفل وهي ترى معاناة الجميع للصعود، فهم ليسوا مثلها تعيش نصف يومها فوق الجبال وتعلمت التسلق منذ طفولتها .
ابتسمت تقف بقامتها الرشيقة تلوح بما سرقته وهي تقول بتشفي واستفزاز مثير للحنق :
” ها هل ستعطوني ما اريد أنا وأمي أم اترك ما بيدي واحول قريتكم تلك لرماد ؟؟”
تتحدث بجدية كبيرة وهي تنظر للاسفل حيث قريتها التي تقبع عند سفح الجبل وهي تقف في الاعلى تمسك إحدى القنابل التي استولى عليها والدها يومًا، مبتزة وحقيرة وقذرة …نعم هي هكذا وهذا ما تعلمته منهم .
تنفس والدها بغضب شديد وهو يصرخ :
” يومًا ما زمرد سأقتلك بيديّ هاتين يا قذرة، مثلك مثل والدتك قذرة حقيرة ”
ابتسمت له زمرد تردد باستفزاز كبير :
” بل أنا اشبهك أنت ابي، لذا لا تُلصق قذارتي وحقارتي بوالدتي، فهذا ما ورثته أنا منك ”
اشتعلت عيونه أكثر وقد شعرت زمرد في هذه اللحظة أنه إن امسك بها سيقتلها جديًا، تقدم بافل في هذه اللحظة وهو يصرخ بجنون :
” ايتها الغبية دعي ما بيدك، حتى إن اخذتي ما تريدين الآن، بعدها سوف تقعين أسفل يدي ولن ارحمك ”
مالت زمرد برأسها تقول بهدوء وبرود :
” لا بأس وقتها يتولاني الله يا عزيزي، والآن أعيدوا لي سيف والدتي وارفعوا عنا حصاركم واعطوني طعامًا لي ولامي، وإلا أحلت تلك البِركة القذرة التي اسميتموها قرية لرماد ”
نظر لها والدها بشر كبير ورغم ذلك كانت هناك بسمة واسعة ترتسم على فمه بسمة لم تكن تلائم بأي شكل من الأشكال الموقف يقول بهدوء شديد :
” اعطوها ما تريد ولا يمسنها أحدكم بسوء ”
نظر الجميع صوب والدهم بصدمة كبيرة وهي نظرت له بسخرية واستهانة ليمنحها هو بسمة غامضة يلتمع بها فخر دفين، الفتاة الوحيد بين ابنائه والتي ظنها الجميع ستكون نقطة ضعف لهم ووصمة عار على أبنائه، كانت أكثرهم جرأة وهو يعجبه ذلك، يعجبه أن ترتشف من قذارته ما يؤهلها لتكون بمكانة عالية، يدرك في قرارة نفسه أن زمرد ستكون ذات شأن عالي يومًا ما بين المنبوذين وهو سيعمل على ذلك، ولن يسمح لنقاء والدتها أن يتمكن منها …
وعلى غرار هذه المطاردة التي كانت تدور داخل عقل زمرد، كانت هي في مطاردة مشابهه لها في الحاضر وهي تهرب من الجنود بسرعة كبيرة تقفز هنا وهناك، تصعد هذا الدرج وتهبط ذاك، تبتسم وهي تدور بهم داخل القصر ولم تترك شبرًا واحدّا إلا ووطئته معهم .
عيونها تلتمع بانتشاء غريب، انتشاء لأجل لعبها دورها المحبب، دور الشرير، نعم هي خبيثة حقيرة قذرة وشريرة وكل هذا دون وعي يضغط على نقطة سوداء داخلها، وهي توجهها لمن يستحقها .
ابتسمت وهي تتوقف تتنفس بصعوبة وقد ضللت الحراس في طريقها لهنا، هنا حيث مكانها اللطيف الذي شهد حروبًا بينها وبين رامي السهام المزعج الوسيم والذي بالمناسبة كان يقف هناك عاري الجذع يتصبب عرقًا وهو يتمسك بأحد فروع الشجرة يحدق فيها بعدم فهم …
ابتسمت له بسمة واسعة وهي تقول :
” هذا أنا ”
رفع دانيار حاجبه بسخرية وهناك بسمة جانبية ترتسم على شفاهه وكأنه يخبرها ( حقًا هذه انتِ؟! )
تنهد دانيار تنهيدة عالية مصطنعة وهو يقول :
” اوه الحمدلله أنها أنتِ كنت ارتجف رعبًا للتو ”
ورغم معرفتها أنه يسخر منها إلا أن مزاجها الجيد في هذه اللحظة بعد ركض لدقائق طويلة فرّغت به طاقة حنق وغضب، جعلها تقول ببسمة :
” لا لا تخف لن اؤذيك ”
أطلق دانيار ضحكات صاخبة وهو يكمل تمارينه بسرعة كبيرة، يستخدم الفرع كرافعة له كي يرهق جسده ويخلد للنوم بسرعة كبيرة دون الحاجة للمرور بجزء الأفكار المؤرقة ..
لكن انظروا لحظه السعيد، أفكاره المؤرقه بنفسها احتلت تدريبه تبتسم له …بخبث ؟؟ حقًا ؟؟
ترك دانيار الفرع يهبط ارضًا وهو يتنفس بصوت مرتفع بعض الشيء، يتحرك لتجفيف عرقه وارتداء ثيابه وقد شعر بلسعة برد استغلت وجود قطرات العرق لتزيد من برودة جسده .
ولم يكد يرفع سترته لارتدائها وسمع صوتها تقول وهي تدور حوله ببسمة وكأنها قررت أن تجعله تسلية له اليوم :
” بالمناسبة أنت تمتلك عضلات جيدة، احسنت العمل ”
توسعت أعين دانيار بقوة وقد ثبتت يده في الهواء واستدار لها بصدمة كبيرة وهي لم تجفل أو تنتفض معتذرة أنها تحدثت بشكل خاطئ، فقط كانت تقف وهي تحدق به بهدوء شديد .
” أنتِ يا امرأة…وقحة حقًا ”
أطلقت زمرد ضحكة عالية تفكر أن والدتها لن تكون لتكون سعيدة بكل ذلك، هل هذه ليلة ارتكاب كل ما هو محذور عليها، استغفرت ربها، ولم تكد تعلق على كلمته تلك حتى سمعت صوت خطوات عالية تقترب وأصوات الحراس وهم يشيرون في حديثها لمكانهم، نظرت بريبة صوب دانيار الذي تعجب تلك الأصوات وقبل أن يتساءل عما يحدث ركضت هي بسرعة تختبئ خلف الأشجار الخاصة بالاهداف مستغلة ظلام الليل تحت انظار دانيار المتعجبة ..
وما هي إلا لحظات حتى أبصر دانيار بعض الجنود يركضون له وهم ينحنون باحترام :
” آسفين لازعاجك سيدي لكن هل رأيت أحدهم يركض من هنا ؟؟”
رفع دانيار حاجبه، ثم استدار نصف استدارة صوب الشجر حيث تختبئ هي يقول :
” أحدهم ؟؟ وهل ذلك الاحدهم يرتدي ثوبًا اسودًا بالكامل مع قلنسوة ولثام ؟؟”
هز الجنود رؤوسهم وتحدث أحدهم بلهفة :
” نعم نعم سيدي، هل رأيته ؟؟”
نظرت زمرد لهم بحرص شديد وهي تعض شفتيها تقول بداخلها :
” لا يعقل أن يكون حقيرًا لهذه الدرجة و….”
وقبل أن تكمل جملتها رأت إصبع دانيار يشير لها وهو يقول بكل بساطة وهدوء :
” نعم هذا الاحدهم يختبئ خلف هذه الشجرة ”
اتسعت أعينها بصدمة كبيرة، هل فعلها ؟! هل سمعته يخبرهم عن مكانها ؟؟ لقد فعلها، يا الله لقد فعلها، هكذا ينتقم منها هذا الحقير ؟!
انتفضت من خلف الشجرة تؤجل سباتها وتوعدها فيما بعد وهي تطلق لساقيها الريح تركض بشكل مخيف جعل دانيار يبتسم وهو يقول بعدما رآها تهرب ورأى استعداد الجنود للحاق بها بلهفة :
” توقفوا ..عودوا لعملكم وانا سأتولى أمره ”
نظر له الجنود بعدم فهم :
” لكن سيدي هو كان يـ …”
” قلت عودوا للعمل وانا سأتولى الأمر، أي جزء من حديثي لم يكن واضح ؟!”
هز الرجال رؤوسهم ثم تحركوا بتعجب، هو حتى لم يعلم سبب ركضهم خلفه أو يعلم أي شيء من الأساس .
ودانيار حمل سهامه يتحرك بهدوء شديد يفكر بعقل تلك الغبية، وإن كان مكانها أين سيذهب، تحرك صوب القصر ليبصرها تدخل له بسرعة كبيرة، ودون شعور قادته قدمه للحديقة التي تتوسط القصر الداخلي، المكان حيث رآها اول مرة ترقص وتغني .
ابتسم وهو يراها تقف في منتصف المكان تتنفس بصوت مرتفع جدًا :
” أوه ها نحن ذا عدنا لنقطة البداية أيتها الخائنة ”
استدارت زمرد بسرعة كبيرة ترمقه بصدمة سرعان ما تحولت لنظرات مرعبة غاضبة وهي تستخرج خناجرها تركض صوبه بسرعة كبيرة تصرخ تنتوي له شرًا، لكن لم تكد تصل له حتى كانت يده تتحرك بسرعة تفوق سرعتها يمسك طرف معطفها الذي يتطاير حولها يلفه حول يديها بشكل غريب يقيدها وهو يهمس لها ببسمة :
” ما الذي فعلتيه هذه المرة ؟؟”
” لم أفعل بعد، لكنني انتوي قتلك في الحقيقة ”
” غير قتلي، ما الذي فعلتيه للحراس ؟!”
نظرت له بحنق شديد تحاول الفكاك ليشدد هو القيد أكثر :
” لم أفعل شيئًا فقط أردت الهائهم كي اساعد رفيقه لي ”
نظر لها بدقة يتساءل :
” الأميرة ؟!”
” نعم أرادت رؤية ذاك الحقير قائد جيوش مشكى، ربما تقتله ومن أنا لامنعها من قتل شخص يثير حنقها وغضبها؟”
كانت تتحدث بغضب وهي تنظر له ليبتسم هو بسمة جانبية :
” نعم من أنتِ لتمنعي قتل أحدهم ؟! أنتِ يا امرأة لن تتوقفي عن أفعالك العنيفة تلك حتى لا اقيدك بأحد الأشجار هنا ؟؟”
” تجرأ وافعلها ”
” لقد فعلت بالفعل، أنا الآن اقيدك ”
زفرت زمرد تصرخ بحنق شديد :
” حسنًا دعني أرحل، اثبتّ قوتك وتغلبك عليّ الآن أيها المخادع، دعني أرحل ”
وقبل أن تتبع جملتها تلك بأخرى رأت دانيار يجذبها من ذلك الطرف الذي قيدها به يقول بأعين محذرة وصوت مخيف :
” توقفي أن الزج بنفسك في المصائب، توقفي عن البحث عن المشاكل وتصرفي ولو لمرة واحدة كامرأة”
نظرت له بتشنج :
” وكيف تراني إن لم أكن اتصرف كامرأة يا هذا ؟!”
” رجل، تتصرفين كالرجال ”
اشتعلت أعين زمرد في المقابل، ليبتسم لها تاركًا قيدها لتتحرر وهي تتراجع للخلف ترمقه بضيق وهو ابتسم لها بسمة جانبية وقد نجح أخيرًا في إثارة استفزازها، ثم وضع إصبعين على رأسه يؤدي لها تحية :
” أراك لاحقًا يا رفيق، وتذكر توقف عن الزج بنفسك في المصائب وإلا وجدتني اقتحم تلك المصائب أجرك كالبهيمة خارجها ”
” بهيمة ؟!”
ابتسم يستدير دون أن يجيب، بينما هي صرخت بجنون :
” أنت لا يمكنك إلقاء الحديث والرحيل كل مرة دون أن تسمع ردي ”
” أعرفه دون سماعه، بل أكاد اقسم أنني اسمع الآن سبابك داخل أذني، والآن تصبحين على خير ”
هكذا ببساطة تركها بعدما أنقذها أو ابلغ عنها لا تدري، نظرت حولها وهي تتنفس بصوت مرتفع قبل أن تصرخ بغيظ :
” وما شأنك بي إن ألقيت نفسي في كارثة أو حتى بركان أيها الحقير ؟!”
صمتت تتحرك بعنف شديد صوب القصر تبحث عمن تفرغ فيه غضبها الذي أعاد هو شحنه، ذهبت إليه بمزاج صافي امتصه هو منها وتركها غاضبة وبشدة …
___________________
تنهدت براحة حينما عبرت الجزء الخاص بالسجون وهي بخير، حسنًا تتعجب حتى الآن أن لا أحد من الحراس عاد، ربما تولت زمرد أمرهم بشكل مبالغ به، هي تدين لها بالكثير إذن.
ابتسمت بسمة واسعة لكنها كانت أبعد ما يكون عن السعادة، بسمة مقهورة تخفي خلفها جبال من الوجع والحزن، تشعر بالقهر على شقيقها الذي ضاع ضحية ثقته في بعض الأشخاص الخطأ، أشخاص اغراهم الشيطان ليضلوا عن طريقهم تحت اسباب واهية ومبررات سخيفة زينها لهم كي لا تشعر نفسهم بأنها ظالمة، بل حبب إليهم شعور أنهم في هذه القصة مظلومون وما فعلوه كان ردًا على مظلمتهم ..
ولا تدري كيف قادتها قدمها خارج القصر تدور منذ نصف ساعة دون أن تهتدي لمكان، تشعر بالوجع والعجز عن النوم، لا تود العودة في هذه اللحظات لرؤية أحد، تزد أن تنفرد بنفسها .
” فقط لحظات مع النفس لاستعادتها ”
” نعم هذا ما أفكر فيه بالتحديد، لحظات مع النفس ”
انتفض جسد كهرمان بسرعة وفزع وهي تستدير بشكل مخيف صوب الخلف لتجده يقف باسترخاء يضم قبضتيه أمام صدره مبتسمًا بسمة ناعسة وهو ينظر أمامه بهدوء شديد ..
ابتعدت كهرمان بتحفز للخلف تتأكد من لثامها ليسارع إيفان ينظر لها بغموض غريب يقول :
” لا تقلقي هو ما يزال في مكانه، إذن كيف حالك، لم نلتقي منذ وقت طويل ها ؟؟”
نظرت له وهي ترفرف برموشها، ثم أبعدت عيونها عنه تقول بعدم فهم لوجوده في هذه اللحظة هنا حيث اختارت هي أن تنفرد بذاتها :
” كيف علمت أنني هنا ؟؟ أم أن الصدف تصر على جمعنا ؟!”
ابتسم إيفان بسمة واسعة وهو ما يزال ينظر أمامه بجدية كبيرة :
” لا وجود لما يسمى الصدف آنستي، هذه الكلمة وضعت كحجة سخيفة لنبرر بها أفعالنا، فندعي أن لقائنا بشخصٍ ما تم من قبيل الصدفة، ونحن من قصدنا لقاءه بكامل إرادتنا”
نظرت له بعدم فهم ظهر جليًا على عيونها ليبتسم قائلًا وهو يراقب المروج أمامه قبل أن يتحرك بعيونه لها، يقول بهدوء شديد :
” كنت اراقبك، لم يكن الأمر صدفة ”
شحب وجه كهرمان وهي تتراجع للخلف شاهقة شهقة مصدومة وعقلها ذهب للقائها بمهران، هل كان يراقبها منذ ذلك الوقت ؟؟ لكن إن كان يفعل لم يكن ليقف أمامها بهذه البساطة صحيح ؟؟
والإجابة كانت غير مؤكدة، فهذا الرجل أمامها لا يظهر ما يفكر به ولا يخبرك خطواتك بل يجعلك تراها .
وهذا كان أكثر شيء صحيح تفكر به، هذا الرجل لا يظهر أبدًا ما يفكر به، وإلا كانت أدركت أن شكوكها صحيحة ..
” رأيتك تتحركين داخل أروقة القصر فتبعتك هنا، لا اخفيكِ سرًا هناك صوت خبيث أخبرني أنك متشوقة لقتال آخر معي، لكن خابت ظنوني حين رأيتك تعبرين جوار الساحة دون نظرة جانبية حتى ”
صمت ينظر لها بجدية وهو يقول :
” ما الذي تفعلينه في هذا الوقت خارجًا وبهذه الثياب إن لم يكن غرضك قتال أحمق لإثبات تفوق اجوف منك؟! ”
استدارت له وقد تلاشت الكآبة التي كانت تحيط بها نفسها تقول بصدمة :
” عفوًا يا سيد ؟؟ أي تفوق اجوف هذا ؟؟ أنت حتمًا لا تتحدث عني ”
” بل أفعل، أنا لم اقاتل يومًا امرأة سواكِ، وحسنًا أشعر أنني لا أود تجربة الأمر مجددًا، فالأمر أشبه بتعليم طفل السير، مرهق أن تقاتل شخصًا غير محترف ”
اتسعت أعين كهرمان بقوة، وهو ابتسم بسمة جانبية واسعة يقول بجدية :
” نعم الحقيقة دائمًا ما تشعرك بالغضب، لكن هذا لا ينفي كونها حقيقة ”
تنهد بصوت مرتفع يقول :
” على أية حال، أنا فقط رأيتك شاردة لا تعيين شيئًا حولك تشعرين بالحزن، فأردت المجيئ للتأكد أن حالة الحزن تلك لن تنقشع عنكِ بسهولة، عسى أن تكون ليلتك في غاية التعاسة كما احلتي لياليّ للمثل بعد وصفك لي بالظالم ”
كانت تستمع لكلماته مذهولة من مقدار وقاحته معها وتصرفاته المزعجة تلك، لكن إيفان لم يهتم وهو يبتسم لها بسمة صغيرة يقول :
” يبدو أنني أوصلت رسالتي بكل وضوح، أراكِ في حلبة القتال أيتها الملثمة الغبية ”
تركها يتحرك بعيدًا عنها وهي خلفه تنظر له بصدمة كبيرة، قبل أن تتحدث دون وعي وبصراخ غاضب :
” أنت أكثر ملك مستفز وقح عرفته البشرية، تريد أن تحيل ليلتي لتعاسة ؟؟ لا أراك الله سعادة الليلة ”
توقف إيفان مكانه ساخرًا، الآن تحولت حربهما من السيوف للدعوات، يتباريات على من يلقي الآخر بدعوة تصيبه في مقتل، استدار نصف استدارة يقول :
” لم أكن أتوقع سعادة هذه الليلة وقد رأيتك بالفعل، تصبحين على خير ”
ختم حديثه يتحرك بسرعة بعيدًا عنها وقد شعر فجأة بشعور سييء، شعور سييء للغاية، أفكاره تأخذه دون وعي صوب تلك الملثمة خلفه، حتى وإن كان فضوله هو ما يدفعه صوبها، لكن ذلك خاطئ، خاطئ بكل ما للكلمة من معنى، في الوقت الحالي لا يجب أن ينشغل بأفكاره عن شيئين، وطنه وملكته …
تحرك بعيدًا عنها، و ظلت واقفة مكانها تحدق في ظهره بحزن وملامح سوداوية، حسنًا تحققت دعوته، فبدلًا من حزن واحد، تكالبت الاحزان عليها، والآن مضطرة للتعامل مع الأمرين..
أفكارها بخصوص بلادها .
والملك ….
____________________
تحرك إيفان صوب مخدعه وهو يشرد في القادم، الحرب على الابواب وما هي إلا أيام ويتم إعلانها صراحة، هو لن يهدأ له بال إلا حينما يعيد مشكى لشعبها ولأرسلان الحبيب .
أرسلان الذي يأبى قلبه تصديق موته، ما يزال يسمع صدى صوته بصراخ مخيف، هو بكل ما فيه مخيف، صديقه لم يكن من ذلك النوع الصامت المهيب البارد، بل كان أشبه بعاصفة تحل على كل مكان يدخل له، كان نيرانًا تحرق كل من يمر به، ثائر يأبى كلمة واحدة، مجرد كلمة بها تلميح صغير بإهانة له يحيل حياة من قالها لجحيم.
أوليس ذلك كان السبب الأول للعداوة بينه وبين أرسلان؟؟
كان يقف أمام إيفان وهو يصرخ بجنون لا يضع اعتبارًا لأحد في المكان، فقط كان يكفيه اتهامًا من ملك سفيد ليفجر غضبه وحممه :
” إيفان أنت جئت مملكتي كملك وليس كصديق، جئت تجر خلفك رجالك، فاستقبلتك كملك، وأنا في هذه اللحظة قادرٌ على إعلانها حربًا عليك وعلى مملكتك وجميع الممالك، فأحفظ لسانك، لستُ أنا من يأتي أحدهم ويلقي في وجهه اتهامًا كخاصتك، حتى وإن كان أحدهم صديقه، وأنت تعلم هذا ”
اشتعلت أعين إيفان بشدة من تلك الكلمات، وابتسم بسمة ساخرة :
” حقًا من كل عقلك تعلنها حربًا عليّ أرسلان ؟؟ بعد كل هذا تقف أمامي في اجتماع الملوك وتعارضني وتقلل من شأني، وتأتي الآن لتعلن عليّ الحرب ؟!”
” واعلنها على اشباهك الاربعين إن فتحوا أفواههم بكلمة واحدة في حقي، أنا لستُ غرًا أو غبيًا كي أسير خلف قراراتك إيفان ”
صرخ إيفان في وجهه بجنون كبير وقد فاض به الكيل من أفعال أرسلان، بعد شهور طويلة من أمور سرّها في نفسه لعدم تأكده من المخطأ، هجوم على الحدود وبضاعات فاسدة تأتيه من مشكى ويومًا لم يتحدث بكلمة ولم يظلمه أو يتهمه مجرد اتهام صغير لمعرفته أن الخيانة تنبت في كل مكان عدا أرض صديقه، لكن أن يأتي هو في اجتماع الملوك ويصرخ في وجهه متهمًا إياه بالضعف والجبن والتخاذل فقط لأنه لا يفكر بنفس طريقته هو ما لم يستطع تحمله …
وما لم يعلمه إيفان أن ما كان يحدث في بلاده تحت اسم مشكى، هو نفسه ما حدث في بلاد أرسلان تحت اسم سفيد، وارسلان لم يكن يتحدث بكلمة كذلك، بل كان يصرخ في وجوه الجميع أن سفيد بريئة من كل تلك الأفعال القذرة وهو لن يصدق ذلك على إيفان، حتى جاءت ليلة سقطت كامل ثقته تلك في إيفان والصداقة بينهما وصدق أن إيفان ما هو إلا متجبر يسير على خطى جده الأكبر فقط كي يوسع رقعة بلاده، ليلة تلقى بها أرسلان طعنته في رفيقه….
ليلة تسببت في انفجاره داخل اجتماع الملوك وهو يعترض على حديث إيفان متهمًا إياه بالتراخي والضعف، كلمات بسيطة، لكنها كانت كافية لإشعال الفتنة بينهما والتي بُنيت على تراكمات كثيرة .
ولأن إيفان غالبًا ما كان يمتاز بالهدوء والتريث، فكان أرسلان بشراسته وتجبره وعناده وجبة دسمة للفتنة كي تدخل عن طريقه .
ولم يتوقف الخطأ على أرسلان، بل تمادى ليطال إيفان ويصبح هو الآخر مخطأ بقدر أرسلان
صاح إيفان في وجه أرسلان وقد فقد تعقله وفقد صبره وفقد كل ما يمكن أن يمنعه عن التفكير فيما يقول :
” بل انت مجرد احمق غر غبي، تسير خلف تسرعك، لا تفكر بعقلك وكل ما تراه أمامك هو الدماء، أنت مجرد دموي مختل وحقير أرسلان و يومًا ما ستسقط بسبب …”
صمت إيفان فجأة بصدمة حينما تلقى صفعة رنّ صداها في كامل القاعة، صفعة واحدة تلقاها متسع الأعين مصدومًا، وكأن ما تلقاه كان طعنة سيف غادرة.
وصدمته لم تقل عن صدمة أرسلان الذي فغر فاهه لا يعي ما فعل في لحظة غضب، لقد صفع صديقه، صدمته والشحوب الذي ملئ وجهه كانا مخيفين بحق، فهذه من المرات القليلة التي يظهر بها أرسلان خوفًا، هو حتى الموت لا يخاف منه، لكن هذا …هذا صديقه .
ابتلع ريقه بصدمة، يتحرك بلهفة صوب إيفان وقد انقبضت ملامحه يقول بسرعة وخوف عليه :
” إيفان، يا ويلي إيفان أنا آ…..”
رفع إيفان كفه يمنعه من التقدم خطوة واحدة، ثم قال بهدوء شديد مخيف وكأنه يخفي خلفه عواصف شرسة :
” سأتظاهر أن من صفعني للتو كان صديقي ولم يكن ملك مشكى، فصديقي أتقبل منه طعنة سيفٍ وليس مجرد صفعة، لكن ستكون هذه الصفعة هي نهاية صداقتنا وكل ما بيننا أرسلان، هنا وانتهى الأمر ”
ختم حديثه يتحرك خارج القاعة بهدوء شديد ووجه قد كان صخريًا، فتح الباب ليجد رجاله ينتظرونه في الخارج بعدما أمرهم بالبقاء للتحدث منفردًا مع أرسلان دون رقيب .
نظر لهم يهتف بكلمات خافتة وقلب موجوع :
” لنعد للوطن، ودّعوا مشكى فستكون تلك مرتكم الأخيرة التي تطئونها ”
تنهد إيفان وهو يلقي بنفسه على الفراش بتعب شديد، لا يدري من أخطأ بينهما، هو أخطأ حينما صرخ في وجهه وعانده ورفض أي محاولة للصلح وهو يعلم جيدًا أن أرسلان يقوده الغضب والجبروت، أخطأ حينما رأى الذعر في عيونه بعد تلك الصفعة والرغبة في الاعتذار، لكنه تجاهلها ببساطة، فإن كان أرسلان يقوده غضبه، فهو يقوده كبرياؤه ..
وارسلان أخطأ في تسرعه وتهوره بهذا الشكل عليه، فقط لأنه لمرة واحدة خرج عن طور هدوئه، وهو من كان يتحمل عواصف غضب أرسلان الكثيرة، ولم يتحمل له أرسلان مرور عاصفة واحدة منه .
كلاهما اخطأ، وكلاهما دفعا ثمن ذلك الخطأ غاليًا.
” وعدتك أنني لن اخطو بلادك مجددًا أرسلان، لكنني للمرة الأولى اسقط وعدي، وسأعود إليها وهذه المرة لن اخرج منها إلا وقد أعدتها لشعبها، ولروحك يا صديقي، ولنعتبر هذا اعتذار متأخر مني …”
ختم حديثه يدفن رأسه في الوسادة يتمنى لو أنه ذلك اليوم رد له صفعته وأخبره أنه لا يهتم لكل ذلك وأنه رفيقه رغم كل شيء .
لكن هيهات ….
_____________________
” لقد رددتك لي برلنت ”
كلمات معدودة ما تزال ترن في أذنها حتى هذه اللحظة، لا تستوعب كيف استلقتها من تميم وهي تحدق في وجهه بصدمة كبيرة، هي ما تزال زوجته ؟؟ هي ما تزال زوجة تميم ؟؟ لطالما كانت هكذا طوال الوقت ؟؟
كلمات جعلتها تشعر بالتخبط وهي تبتعد عنه شيئًا فشيء تحاول التنفس بشكل طبيعي لينظر لها تميم قائلًا بجدية :
” أنتِ زوجتي منذ مولدك برلنت، لقد رددتك بعد يومٍ واحد، يوم واحد كان كافيًا لاستوعب أي غباء فعلت”
همست له بصدمة كبيرة من هذه الحقيقة، لا تصدق أنها زوجته بالفعل :
” لكن أنا…لا عدة لي و…تميم لا يمكنك ردي و… أقصد لقد كان عقد قرآن و…”
توقفت تشعر بنفسها ستتلاشى من أمامه ليبتسم بخفوت يقول :
” بيرلي صغيرتي، لقد قضيتي في منزلي أسبوعين وكان الجميع يدرك أنكِ تسكتين معي في نفس المنزل حين سفر والديكِ، وهذه خلوة وإن لم أتم الزواج بكِ، يظل لها عدة تُسمى عدة احترازية، وأنا رددتك خلال فهذه العدة وقبل أن يمر يومٌ واحد بها”
كانت برلنت تراقبه بصدمة كبيرة لكلماته تلك، كيف لم تنتبه لكل ذلك، وهو فقط ابتسم يهمس بصوت منخفض :
” لقد شعرت بروحي تسحب مني حين ادراكي لما فعلت وركضت للشيخ اتوسله أن يزوجك لي مجددًا، طرقت جميع الأبواب التي قد توصلني لكِ، وحينها أخبرني الشيخ أن بقائك معي في نفس المنزل طوال هذه المدة بعلم من الجميع، تسمى خلوة ولها عدة احترازية ”
” أنا.. أنا فقط لا…اصدق أنني كنت زوجتك طوال هذه السنوات ”
ابتسم لها يقول بصوت منخفض :
” أنتِ زوجتي منذ ولادتك ولن يغير هذا أي شيء على هذه الأرض، وها أنا بعدما وجدتك أمور كثيرة ستتغير”
” أي…أي أمور تلك ؟؟”
” وضعك داخل القصر حياتنا وكل هذا، نحتاج للتحدث بهذه الأمور برلنت ”
كانت يتحدث بجمود نسبي وكأن الغمامة الوردية التي احاطتهم منذ ثواني تلاشت فجأة وعاد لواقع أنها تركته طوال هذه السنوات يهيم بحثًا عنه دون كلمة، وإن تغاضينا على عناقه لها منذ ثواني ونظراته الهائمة بملامحها هذه والتي حُفرت داخل قلبه، يطلق تأوهات عاشقة لكل تفصيلة بها، فهو غاضب، غاضب وبشدة ولن يمرر ما حدث بسهولة ..
” غدًا صباحًا نلتقي لنعلن زواجنا في مسجد القصر ”
شهقت برلنت بصوت مرتفع وهي تنتفض للخلف، خادمة تتزوج صانع الأسلحة وأحد قادة الجيش ؟! يا الله ستصبح حديث القصر لسنوات قادمة.
لكن يبدو أن تميم لم يكن يفكر في كل ذلك، وهو ينظر لها بتصميم وقد بدا في هذه اللحظة شرسًا للغاية لا يرى أمامه سواها، هي مبتغاه وفقط .
انتفضت برلنت عن فراشها تفرك وجهها وهي لا تستطيع النوم، منذ تركها تميم على باب الغرفة _ مكرهًا _ وهي تجلس هذه الجلسة دون حركة .
هل حقًا سامحها تميم ؟؟ هو حتى لم يسألها حقيقة ما حدث منذ سنوات، لم يعلم منها سبب فعلتها الغبية تلك، لم يعلم منها أنها لم تكن تقصد، لم تخبره أنها آسفة، آسفة لأنه فقد والده بسببها ….
كانت تختبئ خلف الجدار تسمع صوت والدها وهو يقول بأعين تلتمع بالطمع وقد تناسى كل شيء :
” لقد وضعوا مكافأة للابلاغ عن مكان مؤمن، تخيلي ما يمكن أن نحصل عليه جراء هذه الأموال ؟!”
رمقته والدة برلنت باستنكار وهي تصب له بعض المشروبات الدافئة :
” مؤمن لم يفعلها وأنت تعلم ذلك، هو ليس له يد في قتل ذلك الرجل، مؤمن برئ ”
” إذن لِمَ هرب وهو برئ ؟؟”
” لقد فعل هذا حتى تثبت برائته، لكن الرجل لم يخطأ وأنا متأكدة أن الأمر مجرد سوء تفاهم وسيخرج منها بريئًا، ثم بالله عليك كيف تفكر في الإبلاغ عن رفيقك ووالد زوج ابنتك ؟؟ هل جننت ؟؟ الرجل جارٌ لنا منذ سنوات طويلة الأمد ولم نر منه سوءًا وبدلًا أن نساندهم في محنتهم وتلك المكيدة تفكر في المكافأة؟؟”
التوى ثغر والدها بحنق شديد يبرر لنفسه :
” أنا فقط اتحدث بصوت مرتفع، من أخبرك أنني قد افعل هذا الأمر ؟؟ كيف أبلغ عن رفيقي ها ؟؟ ليخرجه الله منها على خير، هيا هيا صبي بعض المشروب لأجلي ”
كل ذلك كان تحت أنظار الصغيرة برلنت التي تختبئ وتراقب كل ذلك بأعين ملتمعة بالدموع والخوف على تميم ووالده، منذ سقطت تلك الكارثة فوق رؤوس الجميع، وهي لا تجد تميم سوى شاحب الوجه غائر الأعين مقتضب الملامح، يركض هنا وهناك للبحث عن دليل براءة والده، والده الذي تورط دون ذنب في جريمة قتل .
ابتعدت برلنت عن غرفة الجلوس، وهي تتحرك صوب الباب الخاص بالمنزل تتسحب دون أن يشعر بها أحدهم، تركض صوب المنزل تدعو أن تجد تميم، وقد استجاب الله دعوتها وهي تراه يقف على باب منزله ولم يكد يدخل حتى ركضت هي له وهي تصرخ باسمه باكية .
ليستدير لها تميم يتلقفها بين أحضانه بحنان شديد وهو يقول بحب وصوت مرهق يائس :
” مرحبًا بيرلي ”
بكت برلنت بين احضانه بشكل قطع نياط قلبه ليبدأ في محاولة تهدأتها وهو يبحث عمن يهدأه ويخبره أن والده سيكون بخير .
لكن بكاء برلنت المستمر جلب الدموع لعيونه يهمس بصوت مختنق بالغصات :
” أبي..سأفقده بيرلي، صديقي وكل ما املك في هذه الحياة، سأفقده برلنت ”
تحولت الأدوار لتبتعد برلنت عنه وتبدأ هي التربيت عليه بحب شديد وهو يميل على كتفها يبكي بخوف وهي تربت على كتفه :
” سيصبح بخير، سيكون بخير تميم فقط دعه يبتعد عن المكان حتى تثبت براءته، لا تدعه يعود هنا أبدًا ارجوك، ابعده عن هنا تميم ”
كانت تتحدث بخوف وهي تخشى أن ينفذ والدها ما يطمح إليه، لكن تميم همس لها بصوت خافت متعب :
” هو يختبئ في منزل عمي القديم في جنوب البلاد، لا أحد يعلم عن مكانه شيئًا ”
بكت وهي تضمه لها بشدة تخشى أن يصل له والدها :
” لا تخبر أحدًا تميم، لا تخبر أحدًا، مهما كان ذلك الأحد ارجوك، لا تدع احد يعرف مكان عمي ”
ضمها له تميم يهمس لها بحب :
” لم أخبر أحد سواكِ ولن افعل بيرلي …”
ويا ليته لم يفعل ……
انتبهت برلنت من أفكارها على صوت ضرب الباب بقوة ودخول عاصف لزمرد التي ألقت جسدها على الفراش تهمس بغضب شديد :
” اللعنة على رجال هذا القصر أجمعين ”
نظرت لها برلنت بشر لتقول زمرد بعناد :
” وزوجك معهم، أنا اكرههم اجمعين ”
رفعت برلنت حاجبها تبتسم بسمة هادئة :
” يبدو أنكِ قابلتي رفيقك ”
” ليس كذلك و….”
ولم تكمل كلماتها تنتبه لشيء :
” مهلًا هل هذا حجاب وغطاء وجه، هل كنتِ في الخارج ؟؟”
نظرت له برلنت تخفض عيونها وهي تفرك كفيها لتطيل بها زمرد النظر قبل أن تنتفض متحركة لها تقول بصوت مصمم :
” أنتِ تخفين شيئًا، ما هو ؟؟”
نظرت برلنت لها تقول بصوت خافت :
” لقد علم تميم الحقيقة ….”
_______________________
” كم ؟؟”
كلمة نطقها في انتظار أن يسمع ارقام يصعب عليه عدها وأن يحصيها، ينتظر انتصارًا خفيًا على ضمائرهم، أن يفوز بهم لصفه، ويجعلهم مطرقة لدق أعناق باقي الممالك .
لكن يبدو أن كل أحلامه ذهب مهب الريح حين سمع صوت مساعده يقول :
” خمسة رجال سيدي ”
” خمسة رجال ؟؟ هل تمزح معي ؟؟”
ابتلع المساعد ريقه يقول بهدوء :
” سيدي هم يرفضون خيانة وطنهم، يرفضون الانضمام لجيوشنا، يأبون ذلك، وخاصة بعدما سمحت لسفيد بإدخال بعض المعونات لهم، الأمر زادهم اصرارًا على المقاومة، وهم بالأساس كانوا يقاومون قبل مجيئهم ”
اشتعلت أعين بافل وهو ينظر أمامه يشعر بالغضب يسري في اوردته، الأمر لم يكن سهلًا كما تخيل، وزاد الطين بلة ما فعل ذلك القذر سالار .
ابتسم بسمة جانبية :
” حسنًا لا بأس إذن أن تذهب لتفقد الأسواق وترى إن كان ما احضر سالار قد نفذ من عندهم أم لا ”
نظر له الرجل بعدم فهم ليقول له بافل بنبرة غامضة :
” اذهب وأخبر أهل مشكى أن حريتهم مقيدة بكلمة من ملك سفيد، وأنه هو من يرفض الجلوس على طاولة النقاش لاجلهم، وفقط يهتم لمملكته، أخبرهم أنه رفض كل محاولاتي للسلام والحديث واختار الحرب وسيلة ليضيع الشعوب في المنتصف، وهذه الأطعمة التي ادخلها لهم ما هي إلا فتات مملكته كي يزيل عن كاهله عبئهم ”
توقف عن الحديث ثم استدار له يقول بهدوء شديد :
“بالطبع أنت لن تخبرهم بهذا بشكل مباشر، أنت تعلم ما اقصد ”
ابتسم له الرجل بسمة واسعة وهو يرى أمامه نسخة ثانية مما حدث منذ سنوات بين مشكى وسفيد، حين بثوا الفتن في الأسواق وعلى ألسنة الجميع.
ورغم كل تلك الجيوش والعداد، ما استطاع أحدهم يومًا الوقوف في وجه الفتنة …
________________________
تحرك بعيدًا عن جيشه يتمطأ بتعب شديد فهو منذ عاد من مشكى تقريبًا من أسبوع وهو كان قد كثف التدريبات، وزاد من حدتها على جنوده، وفي المقابل زاد من حدة تدريباته مع الملكة كذلك ليس وكأنها ستشاركهم الحرب، لكنه أدرك أنها بالفعل قوية، قوية دون حتى أن تشعر وهو انكب على استخراج تلك القوى ليفجرها في الجميع .
دخل ساحة التدريب في موعده الثابت منذ اسبوعين او اكثر ليراها تجلس في أحد الأركان تحمل سيفها وتحركه أمامها وتؤرجحه وهي تتمتم بكلمات خافتة لم يتبين هويتها لكنه خمن أنها تغني إحدى تلك التعويذات .
ابتسم بسمة صغيرة يقف في منتصف الساحة يقول بهدوء :
” عفوًا لجلالتك إن لم أكن اقاطع ما تفعلينه هل يمكنك التقدم للساحة؛ كي نبدأ ؟؟”
رفعت تبارك رأسها بسرعة صوبه تبتسم له بسمة واسعة، تقفز عن تلك المصطبة العالية تقول وهي تحمل سيفها بكل مهارة جعلت أعين سالار تلتمع بفخر شديد، فأن تتحول فتاة كتبارك من حالتها الأولى لهذه المرحلة أمر يضيفه لقائمة إنجازاته .
” لا لا تقاطع، كنت انتظرك ”
أشار لها بإصبعه يقول بهدوء :
” تقدمي ”
نظرت تبارك لاصبعه تقول ببسمة جانبية :
” ليس جيدًا أن تأمر الملكة ”
مال سالار برأسه يقول بهدوء شديد وبسمة هادئة ساخرة :
” أنا أفعل هذا مع الجميع عدا الملك ”
” وأنا الملكة الخاصة به ”
رفع سالار سيفه وهو يخبرها بعيونه أن تفعل المثل يقول بجدية :
” ليس بعد، أنتِ حتى هذه اللحظة مجرد فتاة عادية، لستِ ملكة حتى الآن ولم ترتدي تاجك ”
رفعت تبارك سيفها بالمثل وهي تحرك بين قبضتيها بشكل ممتاز بالنسبة لها، لكن ما يزال مقبولًا لسالار، تتحرك للخلف تتخذ وضعية القتال :
” إن ارتديت تاجي، تحترمني ؟؟”
نظر لها سالار ثواني قليلة جعلتها تتعجب نظرته قبل أن يعيد سيفه للخلف ودون مقدمات كان يندفع به صوب رأسها وكأنه يود شقها نصفين لتطلق تبارك صرخة مرتفع وهي تلقي نفسها ارضًا من صدمتها، وهو اوقف سيفه على بُعد سنتيمترات قليلة منها ليقول بهدوء :
” إن توفقتي عن الخوف وتعاملتي بشجاعة، احترمك ”
نظرت له تبارك وهي تتنفس بصوت مرتفع، رغبة كبيرة بالبكاء تهاجمها في هذه اللحظات، في الأسابيع المنصرمة ظنت بكل غباء أنها بدأت تتقدم سواء في الفروسية أو الرماية أو حتى المبارزة، لكن ها هو يثبت لها وأمام نفسها أنها تحتاج لأكثر من مجرد اسبوعين كي تبدأ بالتفاخر .
تنفست بصوت مرتفع ليجلس سالار القرفصاء أمامها يقول :
” الاحترام لا يُبنى لمكانتك، بل لشجاعتك وبسالتك …مولاتي ”
نظرت له تهمس بصوت مرتعش :
” كنت …كنت هتفلقني نصين من شوية وجاي تقدملي نصايح ؟؟ ”
” أنا ؟؟ العفو جلالتك، لم أكن لافعلها لعدة أسباب أهمها أنني لا الوث يدي بدماء شخص برئ، واهمهم أنكِ امرأة وملكة، هذا فقط كان اختبار لكِ لارى إن كنتِ تدربتي على ردات فعلك أو لا ”
نظر لها بأعين ضيقة :
” ويبدو أن الإجابة هي لا ”
” أنا بس متوقعتش أنك…”
” لا شيء متوقع في الحرب، ولا مكان مضمون تأتيكِ منه الضربة، كل الاماكن هي اماكن غدر طالما أنتِ غير منتبهة لها ”
نهض يقول بجدية :
” انهضي ”
نظرت له تبارك من الاسفل وكلماته تدور في رأسها لتنتفض تحمل سيفها مجددًا بقوة تقول بصوت مرتفع :
” تمام ..تمام يا قائد، بارزني يلا، بارزي وانا ها ….”
صمتت تراه يخرج شيء من جيبه يمده لها، نظرت لقطعة القماش السوداء بيده ترفع عيونها له تقول :
” منديل ؟؟”
” اغمضي عيونك ”
ابتسمت تقول بعدم تصديق للفكرة التي انبثقت داخل عقلها في هذه اللحظة :
” عن الذنوب أكيد ”
” بل عن الرؤية مولاتي، ستحاربينني معصوبة العينين ”
تراجعت تبارك للخلف وهي تبتسم بعدم تصديق تنظر لوجهه تبحث عن بسمة تخبرهها أنه يمزح معها في هذه الأمور، هو ليس جادًا بالطبع، لكن نظراته والتي تعرفها جيدًا أخبرتها أن لا، هو لا يمزح في هذه اللحظة .
” مولاتي ايه بقى ؟؟ قول مرحومتي ”
نظر للقماشة مجددًا :
” عايزني احاربك بيها ؟؟”
هز رأسه في علامة نعم لتبتسم له قائلة :
” حسنًا لا بأس اعطني فرصة قتالك دونها واعدك حينما يخدشك سيفي خدش صغير، اقسم لك سأحاربك معصوبة العينين ”
ابتسمت حين رأت أن نظراته لم تتغير ولا حتى يده الممدودة تراجعت، هو كمان هو لتقول :
” اديني فرصة طيب احاربك وانا مفتحة وأنا هعملها وانا مغمضة، أنا لحد دلوقتي معرفتش اشوف في التدريب ده غير الارض اللي بتلحسها ليا وأنت بتعلمني، ويا دوبك عرفت أسند طولي قصادك آخر مرة، أنت حالف ما تهنيني على انتصار ؟؟”
” أنتِ كثيرة الحديث حقًا، هذه فقط كي اختبر عمل حواسك واعتمادك في القتال عليهم، وهذا هو ما سيحسن ردات فعلك، فأنتِ في الحرب لن تعتمدي على عيونك فقط وإلا هلكتي في أول ثانية”
ابتلعت ريقها تنظر لها ورغبة كبيرة بالبكاء تلبستها :
” أنت ليه مصر اني هحتاج كل ده في الحرب ؟؟ مين قالك إني هكون موجودة في الحرب ولا هروح حرب اساسا ”
” الحرب لن تستأذنك قبل أن تجذبك لها، من يدري متى تضطرك الظروف لخوض حرب ”
قالت بصوت باكي وخوف من كل تلك الأمور، لِمَ لا يقتنع أحدهم أنها حقًا لا تفقه في كل هذا ؟؟
” وقتها هستخبى في أي ركن اعيط و….”
وقبل أن تكمل جملتها وجدت سيف سالار يوجه لرقبتها وصوته يهدر بصرامة في المكان :
” لن أسمح لكِ ”
” اعيط ؟؟”
” لن أسمح لكِ أن تعيشي بجبن وضعف ”
” أنت مالك ؟؟ أنا عايشة من زمان كده ومبسوطة و…”
صمتت ترى السيف يقترب منها ونظرات سالار تزداد حدة وقد أخذ الأمر على عاتقه، هذه المرأة أمامه ستصبح مبارزة بارعة شائت ام أبت، ستصبح مبارزة رائعة وهذا وعد قطعه لنفسه في هذه اللحظة حين رأى نظراتها المرتعبة ..
رفعت تبارك سيفها تقول بسرعة ورعب من نظراته والتصميم داخلها :
” موافقة..”.
ابتسم يعطيها القماشة لتضعها على عيونها وهي تردد برعب مما سيحدث :
” بس متخمش”
” لا افهم ما تقولينه، هيا اسرعي وضعيها ”
ابتلعت ريقها تزيد من ربط القماشة أعلى عيونها، ثم حملت السيف تتخذ وضعية القتال وهي تلتف حول نفسها تسمع صوت سالار يردد وهو يدور حولها :
” حاولي التخلي عن اعتمادك الكلي على النظر واعتمد في هذه اللحظة على سمعك، وانفك وباقي حواسك ”
تنفست تبارك بصوت مرتفع وهي تدور تحاول معرفة مكانه بالتحديد من صوته، وهو يستمر في الدوران حولها يردد بصوت خافت :
” أشعري بخطواتي، اصطدام أقدامي بحبات الرمال، وحركة سيفي وهو يصطدم بالرياح ”
قالت تبارك بارتباك وهي لا تشعر بكل ما يتحدث عنه، هي لا تشعر بشيء ولا تسمع سوى صوته فقط :
” مش وقته تأمل في الطبيعة الله يكرمك، أنا مش سامعة غير صوتك اساسا، فاسكت ..اسكت خليني اسمع صوت خطوتك ”
صمت سالار بالفعل وهو يبتسم لرؤيتها تدور حول نفسها وهو حتى لم يتحرك من مكانه خطوة لحظة، يحرك سيفه في الهواء يحاول أن يجعلها تسمع اصواته، لكن هي كانت مستمرة في الدوران، فكر في السير حولها علها تتبع صوت خطوات حذائه وايضًا لا شيء .
نظر لها يفرك وجهه بحنق وحين فقد الامل تحدث كي تنتبه لمكانه :
” أنا هنا ”
وإن ظن أنها بهذا الشكل علمت مكانه فقد أخطأ، إذ استدرات بسرعة للاتجاه المعاكس تنظر له تبحث عنه وهي تحرك سيفها بشكل عشوائي في الهواء .
تشنج وجه سالار يصرخ بغيظ :
” هل أنتِ صماء يا امرأة ؟! أنا خلفك هنا ”
استدارت تبارك بسرعة وهي ترفع سيفها تحركه بسرعة كبيرة وكأنها تود تقطيعه قطع صغيرة، لكن سالار كانت ردة فعله سريعة إذ رفع سيفه بسرعة كبيرة يتدارك الأمر مسقطًا خاصتها في حركة واحدة وهو ينتزع عن عيونها القماشة ينظر لها بشر وهي اتسعت عيونها بصدمة حين رأت نظراته لتبتسم بسمة صغيرة :
” كيف كان ادائي ؟؟”
نظر لها سالار يهمس من أسفل أسنانه:
” إن كان هناك لفظ اكبر من بشع يصف مدى سوء ادائك، فاعتبريني قلته ”
نظرت له بصدمة وشحب وجهها تقول بصوت خافت :
” لا يوجد، رأيك وصل وبوضح ”
نظر لها بحنق يكره رؤية نظراتها تلك والتي تشعره أنه احزن طفلة صغيرة وعليه الآن أن يسارع ويراضيها .
” حسنًا، هذا فقط لأنه المرة الأولى لكِ، مع الوقت ستبرعين في الأمر، كما فعلتي مع المبارزة المباشرة أنا أثق بك ”
بسمة مشرقة واسعة ارتسمت على فمها تقول بسعادة :
” حقًا ؟؟”
” أثق أن هناك أمل لتصبحي ملكة …لا بأس بها ”
ابتسمت تبارك بغبطة شديدة وقد كانت تلك أقصى كلمات تود سماعها في تدريب لها مع سالار، فعلى عكس دانيار الذي يعبر عن اطرائه بكلمات مقتضبة وبسمة صغيرة مشجعة، وتميم الذي يظهر بوضوح تشجعيه وسعادته بتقدمها، كان سالار لا ينطق كلمة تشجيع واحدة حتى في حقها، ربما يكتفي ببسمة صغيرة يلوح منها الفخر وهذا أقصى ما قدمه لها .
شردت تبارك دون شعور في ملامحه وهو يمسح سيفه كي يضعه في غمده، خصلاته الصهباء التي تتطاير في مشهد معروف في جميع الدرامات ..
ابتسمت دون وعي، لكن فجأة انتفضت على صوت أحد الحراس يقتحم المكان قائلًا :
” مولاي الملك ينتظرك لأمر هام …”
هز له سالار رأسه ثم نظر لها يقول بهدوء :
” إذن مولاتي …القاكِ لاحقًا ”
وهكذا فقط كلمات معدودة ختم بها لقاءهم وهي ظلت مكانها تحدق بسيفها الملقى ارضًا والقماشة السوداء لتضيق عيونها وهي تنحني تمسكها وشردت بها قبل أن تضعها على عيونها بتصميم ……
_________________________
يجلس في غرفته ينتظر قدوم سالار وهو ينحني على ركبتيه يضم قبضتيه مستندًا عليهما بذقنه، يشرد فيما يجب فعله في يومه وفي القادم .
مذكرًا نفسه بلقاء مع الملكة اليوم ليتحدث معها في أمور المملكة كعادة بينهما هذه الأيام .
سمع صوت الحراس يخبرونه عن قدوم سالار، ثواني وابصر سالار يتحرك داخل الجناح الخاص به يقف أمامه باحترام شديد، يضع يده أعلى صدره يقول :
” مولاي …”
ابتسم له إيفان يشير له بالجلوس :
” أجلس سالار ”
جلس سالار بهدوء ليتحدث إيفان دون مقدمات :
” إذن متى الحرب ؟؟”
” خلال أيام حسب التنسيق مع الجيش، سنعلنها حربًا مع بافل ”
هز رأسه يقول :
” ومشكى هل اوصل لك رجالك أي أخبار عنها ؟؟”
” بافل لا يصمت على شيء كما تعلم مولاي، بالطبع ما يزال يحاول يائسًا ضم بعض الرجال له، حتى أنه كاد ييأس ويستسلم من انضمام شعب مشكى له، وأنت تعلم يا مولاي أنني لا أحب تحطيم الخواطر ولم يهن عليّ رؤية حزنه هذا ”
ارتسمت بسمة خبيثة على فم إيفان وقد أدرك المعنى المبطن خلف كلمات سالار يربت على كتفه بهدوء :
” جيد يا صديقي، لطالما كنت لين القلب مع الجميع ”
اتسعت بسمة ساخرة لسالار على فمه، نعم هو لين القلب مع الجميع خاصة الملكة، ليقول إيفان بصوت خافت جاد وعيون غامضة جعلت سالار يدرك أن إيفان يخفي شيئًا ما ليعتدل في جلسته يتجهز لتلقي ما يقول :
” خاصة النساء الرقيقات أمثال تلك الفتاة المدعوة كهرمان، أليس كذلك ؟؟؟؟”
___________________
وإن ظننت أن الاسرار تظل أسرار حياتك، فما فائدة وجود كلمة كـ “الحقيقة” في القاموس ؟؟
وتذكر أنها حرب، إما أن تنتصر، أو تنتصر لا خيار ثالث أمامك….
يتبع…
يحرك كل شيء بعنف يكاد يحطم ما أمامه، ورغبة عنيفة بالقتل تسري داخله، لا يرى أمامه ولا يشعر بما يدور حوله، فقط حنق وغضب يجتاح ثناياه، ألقى قطعة الحديد التي يحملها ارضًا بغضب وهو يطلق صرخة عالية ضاربًا الطاولة بقدمه، أصبح مزاجه في الآونة الأخيرة سوداوي، أو لنكن دقيقين، أصبح مزاجه منذ مواجهته ببرلنت سوداويًا …
” إذن هربت منك الفتاة ؟؟”
استدار كالقذيفة بأعين مخيفة صوب مُحدثه، ومن غيره الذي قد يقتحم معمله في مثل حالته تلك .
ابتسم دانيار يحاول أن يخفف عنه وطأة الأمر :
” حسنًا أهدأ فقط لنفكر، ما الذي حدث منك لتهرب الفتاة وتفر خارج جدران القصر بهذا الشكل ؟؟ ربما تعاملت معاه بطريقة حيوانية؟؟ ”
نظر له تميم بغضب شديد لا يدري أكان موجهًا له، أم لتلك الفتاة الغبية التي اختفت صبيحة يوم علم هويتها، اختفت دون أن تقول كلمة واحدة، بحث عنها في أرجاء القصر بأكمله ولم يجد لها أثرًا الأمر الذي جعله يزداد غضبًا، ويتوعد لها بالويل حين عودتها، إن كانت تطمح لتركه، فوالله لن يتركها وشأنها، ليس بعدما وجدها .
تحرك دانيار عن مقعده يربت على كتفه بهدوء :
” ما بك تميم، أهدأ يا رجل، لعل غيابها خيرًا ”
هز تميم رأسه بهدوء هو أبعد ما يكون عنه، يحدق أمامه بنظرات سوداء وهو يكمل عمله بينما دانيار أشفق عليه ليقول بهدوء :
” هل ..هل تحدثت مع أي رفيقة لها ؟؟ ”
تنهد تميم يقول بصوت مرتفع بعض الشيء والخوف هو من بدأ يمتلك زمام أموره ملقيًا قطعة الحديد للمرة الثانية :
” لا يعرفن لها طريقًا، اقسم أنني فقط إن رأيتها لتلك الجبانة الصغيرة في هذه اللحظة سأ….”
” السلام عليكم .”
تصنم جسد تميم بقوة وشعر وكأن أعصابه جميعها ترتجف وقد أصبح تنفسه خافتًا بعض الشيء، ابتلع ريقه يغمض عيونه يحاول أن يقنع نفسه أنها اصوات تسكن داخله، صوتها الشجي الحبيب الذي كان يمثل له منذ أيام قليلة ازعاجًا، الفتاة التي كاد يتخلص منها مرات عديدة هي نفسها حبيبته التي كادت روحه تغادره كمدًا عليها .
عند هذه الفكرة شهق بصوت مرتفع يميل على الطاولة يحاول التماسك متناسيًا تلك الأفكار التي تؤرق مضجعه منذ ايام، كيف كانت تعيش ؟؟ هل كانت تتناول طعامها جيدًا؟؟ هل بكت يومًا حتى انقطعت أنفاسها دون أن يكون جوارها ويضمها مهدهدًا ؟؟ افكار كلها كانت تدفعه صوب مناطق خطرة في رأسه.
وكل ما حدث له بعد كلمات برلنت كان تحت أعين دانيار الذي أدرك أن هذه التي تقف على باب المعمل في هذه اللحظة هي نفسها برلنت، زوجة تميم .
تنحنح بصوت منخفض يقول ببسمة صغيرة وهو يبعد عيونه صوب صديقه :
” عليكم السلام، جيد أنكِ بخير برلنت فأحدهم هنا كاد يفقد عقله منذ ايام ”
برلنت !؟ هل قال برلنت ؟؟ هل هي ؟؟ هي هنا ؟؟ هو لا يتخيل صوتها ؟؟
استدار بسرعة ليراها تقف على باب معمله وهي تنظر ارضًا تفرك كفيها وتحرك رأسها بشكل رتيب .
استأذن منهما دانيار يتحرك صوب الخارج مبتسمًا بلطف يتمنى أن تنتهي مشاكل صديقه اليوم حتى يعود لهم كما كان .
وبرلنت بمجرد خروجه نظرت لتميم الذي كان ما يزال واقفًا لا يتحرك، فقط ينظر لها بصدمة ممزوجة بغضب وخيبة أمل.
رفعت الغطاء عن وجهها وهي تتحرك له بخطوات مترددة تخفض وجهها ارضًا ودموع كثيرة تجري على وجنتيها، وحينما أصبحت على بعد خطوات قصيرة، اندفعت بسرعة كبيرة صوب تميم تضم خصره مستندة على صدره برأسها تنفجر في بكاء عنيف وكأنها أجلت بكاء اعوامها لهذه اللحظة .
وتميم الذي تراجع بصدمة للخلف يستند على طاولة أدواته اتسعت عيونه بعدم فهم، يشعر بدموعها تبلل ثيابه وصوت شهقاتها بدأ يخرج منها بشكل جعله يرفع يده دون وعي يقربها منه مرتبًا على رأسها بحنان :
” لا تبكي عزيزتي، كل شيء سيكون بخير ”
أي شيء ذاك ؟؟ لا يدري هو فقط لا يريد رؤيتها تبكي، الأمر الذي يمثل له نقطة ضعف منذ كان صغيرًا، هو ما يزال غاضبًا، لكن ما اعتاد يومًا ترك غضبه يؤثر على حنانه لها .
” ما الذي حدث برلنت، لِمَ البكاء وأنا لم أمسّك بسوء حتى الآن؟ أنا حتى هذه اللحظة لم آخذ بثأري منكِ ”
بكت برلنت تقول بصوت مرتفع وشهقات ملئت المكان حولها :
” لقد …لقد …لم اقصد، لم اقصد الاختفاء ”
نظر لها تميم بعدم فهم يبعدها عنه وهو يقول بجدية :
” ما الذي تتحدثين بشأنه برلنت؟؟ أين كنتِ ؟؟ أنا لم اسامحك بالكامل برلنت، لم اسامحك لتستنفذي صبري بهذا الشكل ”
كان يتحدث بغضب وهي ابتعدت للخلف تحدق به في خوف وريبة :
” تميم أنا ….”
وتميم الذي انتهى من دور المسؤول الحنون عن بيرلي، وجد أخيرًا فرصته في إخراج كل الغضب والخوف الذين ملئوا نفسه منذ استيقظ ذلك اليوم وذهب للبحث عنها وأخبروه أنها ليست موجودة .
” تميم ماذا برلنت ؟؟ هل تحاولين خداعي ؟؟ هل تتلاعبين بمشاعري ؟؟ أنتِ أنتِ حتى لم تفكري بترك رسالة واحدة تخبر ذلك الاحمق الذي يكاد الخوف يقتله أنكِ بخير طوال هذا الاسبوع، اسبوع برلنت، سبعة أيام وأنا اتلظى بنيران الخوف، تتخبطني الأفكار البشعة عما يمكن أن يكون حدث، هل تركتني مجددًا ؟؟ هل هربت مني ؟؟ هل ما تزال خائفة مني لذلك رحلت ؟؟”
كان يتحدث بقهر وصوت يظهر مقدار التصدع داخله والذي يبدو أن ترميمه لن يكون بهذه السهولة التي تخيلتها .
وهو ختم حديثه يضرب الطاولة بقوة يسقط بعض الأدوات عليها لتعود برلنت للخلف صارخة تخفي وجهها بين يديها :
” لا لا، لم اقصد، تميم لم اقصد اقسم لك، أنا آسفة، أما آسفة، لقد …”
كانت تبكي بخوف وهو ينظر لها بغضب، غضب جعله يدهس شفقته وهو يهمس مشيرًا لنفسه بقوة وكأن يوم علم بهويتها لم يكن يعي ما يحدث ليواجهها بما يشعر :
” آسفة ؟؟ آسفة على ماذا برلنت ؟! على ليالٍ قضيتها أبحث عنكِ كالاحمق ؟؟ لقد …لقد كنت أتوسل كل من اشك فقط أنه قد يعلم مكانك، أتلفت في جميع الطرقات لربما لمحت طيفك؟؟ اجلس أمام منزلي القديم انتظر فقط رؤيتك تركضين صوبي مبتسمة كالماضي، أنام على فراشي ووحوش أفكاري تهاجمني بضراوة وهي ترسم لي صورًا لكِ باكية وحيدة، لقد تعذبت لأربعة عشر عامًا، عوقبت على تسرعي وغبائي بشكل لا يتحمله بشري ”
توقف يتنفس بصوت مرتفع وقد شعر أنه كان يركض في سباق وبرلنت تنظر له بأعين موجوعة كالمذبوح، تحاول أن تتنفس بشكل صحيح قبل أن تقول بصوت خافت :
” لقد …لقد ذهبت لمنزلي فقط كي أخبرهم أنني وجدتك، وأنني سأبقى جوار زوجي و و…”
ابتلعت ريقها وقد شعرت أن كلماتها لا تطاوعها للخروج وهو يحدق فيها وما يزال صوت تنفسه عاليًا، يشعر بالتعب يتمكن منه والانهيار وشيك، لكن كل ذلك تلاشى ببساطة حين سمع كلماتها :
” عندما علم أبي بعودتك، سجنني في المنزل ورفض خروجي حتى هربت منه ….”
_____________________
يتلاعب به؟!
جيد إيفان، استمر وستجد خصمًا يجيب لك الكلمة بأخرى، فسالار ليس مبارزًا للسيوف فقط، بل هو يحترف مبارزة الألسنة رغم قلة حديثه .
” نعم هذا صحيح مولاي ”
ابتسم له إيفان بسمة واسعة :
” و؟؟”
” و…ماذا مولاي ؟؟”
رفع إيفان حاجبه بسخرية لاذعة :
” ليس وكأنك حسن المعشر، عذب اللسان، لين الطباع، سالار أنت تمثل كابوسًا لنساء هذا القصر بسبب تعاملك الخشن معهن، فلا تقنعني الآن أنك فجأة تغيرت وتنازلت عن عرشك لتتحدث مع عاملة هنا ”
” أوه حسنًا من أخبرك أنني أتحدث معها ؟؟ كانت مرة واحدة تحتاج للمساعدة وفعلت فأنا لستُ متحجرًا كما تعلم ”
وهذه كانت حقيقة نوعًا ما، هو كان يساعدها، وايفان يدرك من ملامح وجه سالار أنه لم يكذب، لكنه أيضًا لم يتشدق بكامل الحقيقة، مايزال هنا شيئًا يخفيه .
” وطبيعتك المسالمة مع النساء لن تعمل سوى مع هذه الفتاة ؟! بالله عليك سالار أنت تعلم أنني لن اقتنع بكل هذا، هناك أمر يُحاك من خلف ظهري هنا، ما اعتدت يومًا إخفاء شيئًا عني سالار، ما الذي حدث الان ؟؟”
تنهد سالار بصوت مرتفع ثم قال دون مواراة :
” مولاي، أنت تعلم أنني لن أخوض احاديث بلا فائدة مع نساء لا اعرفهن، ولا احب هذا الأمر، لكن هذه الفتاة طلبت مساعدتي وما استطعت ردها، وفيما يخص ما طلبت مني فهو سر لن اكشفه طالما هي لم تسمح بهذا ”
ابتسم له إيفان بقدر ذلك ثم هز رأسه يقول :
” حسنًا سالار، لك ما تريد ”
اعتدل سالار في جلسته يقول بجدية :
” والآن اسمح لي مولاي أن أذهب لاتفقد أمور الجيش وحينما تصلني اخبار أكيدة من مشكى، سأخبرك إياها ”
خرج من المكان تحت أعين إيفان الذي كان يحدق فيه بخبث شديد، قبل أن ترتسم على فمه بسمة صغيرة ….
” نعم، صدقتك سالار، لكن لا بأس بعلاقة طيبة معها، فنحن لا نطمح لتجديد عداوات مع مشكى ”
___________________
” سيدي العريف، بالله عليك فقط أخبرني ما يجب عليّ فعله قبل أن تتلبسك حالة الانعزال التام وتطردني من هنا شر طردة ”
تنهد العريف بصوت مرتفع وهو يلقي كتابه على الطاولة أمامه يقول بحنين شديد :
” آه، لكم هي جميلة تلك الكلمة، الانعزال ..يالله اكتبها لي يا الله، أشعر أن الحياة خارج جدران هذا القصر ستعجبني، أشعر أنني أود الهرب، أتعلمين يا فتاة ما الذي يجعلني اتحملكم ؟؟”
نظرت له تبارك بفضول تهز رأسها نفيًا، ليقول هو ببسمة غاضبة :
” لا شيء، وهذا ما يثير غضبي، أنني لا امتلك شيئًا يجبرني على البقاء هنا، ورغم ذلك افعل، فقط لأنني أخذت عهدًا غبيًا متوارثًا، أن احافظ على شعلة الثقافة في المملكة وتوعية الشعب وبلا بلا بلا ..”
كانت تبارك تراقبه وهي ترمش بسرعة تحاول معرفة ما يريد :
” أيوة يعني انت عايزة تعزل من هنا ؟؟ هتنقل فين طيب ؟؟ ”
نظر لها العريف بتشنج لتبتسم وهي تقول دون مقدمات تتفحص الكتب التي ألقاها منذ ثواني في وجهها تقول بجدية كبيرة :
” حسنًا لا الومك الحقيقة، فهذا المكان خانق بعض الشيء و…”
توقفت عن الحديث فجأة بفزع حين رأت العريف يجلس على المقعد أمامها يحدق فيها ببسمة غريبة، بسمة ما كان لينظر بها إليها بأي شكل من الأشكال .
” إذن توافقيني الرأي أن هذا المكان لا يُطاق ؟؟”
نظرت تبارك حولها بريبة أن يسمعه أحدهم، ثم نظرت له تقول بصوت خافت خجل :
” لا، لا سيدي لم اقصد هذا، أنا فقط لا أشعر بأنني انتمي لهنا، أشعر أنني جئت بالخطأ ”
ابتسم العريف غريبة يرى الحيرة تعلو نظراتها، تتظاهر بالنظر في الكتاب أمامها وشعور قابض يمتلك صدرها وهي تتحدث بصوت خافت :
” أشعر أن كل ذلك ما هو إلا أحد الاحلام الغريبة التي كانت وما تزال تراودني، حلم لا أجد له ترجمة على أرض الواقع، فقط مجرد احداث مريبة لا تفسير لها، وشخص لا اعلم له هوية ”
رفعت عيونها تقول بصوت خافت وكأنها تبحث عن تأكيد من أحدهم، أن كل ذلك له نهاية :
” هل تعتقد أنهم ربما اخطأوا ؟؟ أنا جئت هنا بالخطأ، ربما …ربما كان المقصد فتاة أخرى، مجيئي هنا مجرد صدفة لا أكثر ولا أقل”
ابتسم لها العريف بسمة صغيرة يقول بصوت خافت :
” لا يوجد شيء يُسمى صدف يا ابنتي، كل شيء مكتوب ومقدر، الله عز وجل حاشاه أن يلقي بكِ في بحار لا تعلمين كيف تتجاوزينها، وجودك هنا ليس خطأ، بل الخطأ هو عدم وجودك من البداية، لا أحد يعلم ما كتب الله له، لكنني متأكد أن مستقبلك باهرًا مشرقًا، وأنكِ ستغيرين خارطة هذه البلاد ”
” لا افهمك، أنا لا افقه في شيء، ولا أحسن فعل شيء، كيف اكون سببًا في تغيير خارطة البلاد ”
ابتسم لها بسمة لا تدري أكانت جواب له على اسئلتها، ام مجرد بسمة يخبرها بها أنه لا يمتلك لها جوابًا .
صمت ثم قال بغموض :
” ما هي تلك الأحلام التي تحدثتي عنها ؟؟”
نظرت له تبارك بريبة وهي تفكر هل تتجرأ وتخبره ؟! ولم تكد تتحدث بكلمة حتى سمعت صوتًا يهتف بقوة :
” سيدي العريف الملك ينتظر سيادتك في جناحه لأجل أمر هام ”
نفخ العريف بغيظ شديد يحاول أن يهدأ:
” يالله اكتب لي الصبر على هذا المكان وهذا العمل ”
ختم حديثه يتحرك للخارج تاركًا تبارك ترمق أثره بهدوء تفكر في كلماته التي نطقها منذ ثواني، هي بالفعل هنا لسببٍ ما، سبب تحاول تجاهله كي لا تضطر للتعامل معه .
تنهدت بصوت مرتفع اليوم استيقظت على حلم آخر، في الحقيقة أحلامها لم تتوقف منذ جاءت بل ازدادت شراسة وغرابة، هي فقط من كانت تحاول تمرير يومها والعيش دون التفكير به على اعتبار أنهم مجرد احلام فقط ..
تنهدت وهي تنهض عن مكانها تتحرك في الممرات ببطء شديد وهدوء تفكر في الذهاب لدرسها التالي .
___________________
” كهرمان عزيزتي فقط تجنبي الحديث معي هذه الأيام، فأنا أشعر بقرب مزاج سوداوي يحيط بي، لذا رجاءً دعيني وشأني ”
ختمت زمرد حديثها تبتعد عن كهرمان بخطوات سريعة تحاول أن تتنفس بشكل طبيعي بعيدًا عن كل هؤلاء البشر، ابتلعت ريقها تسمع صوت كهرمان القلق خلفها وهي تتمسك بذراعها :
” زمرد لا تجعليني اقلق عليكِ، رجاءً أخبريني ما يحدث معكِ اليوم ؟!”
” فقط … أود أن أشعر بالحرية، أن اتنفس بعيدًا عن كل هؤلاء البشر ومن بينهم أنتِ كهرمان، هل هذا كثير عليّ ؟؟”
شعرت كهرمان بالصدمة وهي تفلت يدها شيئًا فشيء ببطء تبتسم لها بلطف، ثم ربتت أعلى كتفها بحنان رغم حزنها الكبير عليها :
” لا بأس عزيزتي خذي كل الوقت الذي تجتاجينه، وحينما تنتهي سأكون هنا لاجلك ”
ودت زمرد لو تبتسم، لكن حتى الابتسامة في هذه اللحظة كان صعبة للغاية، تحركت ببساطة بعيدًا عنها، خطوات ميتة تشق بها طريقها خارج القصر، تفكر في مكان تجلس به بعيدًا عن الجميع، وحين وجدته ارتكنت للجدار ببطء شديد تتنهد بصوت مرتفع قبل أن تضع رأسها على قدمها .
ترثي ذاتها ووالدتها، تنعي روحها التي غادرت في مثل هذا اليوم مع روح والدتها .
تتساءل أنها كانت طعنة واحدة فقط، كيف استطاعت قتل اثنين ؟؟
ارتجف جسدها وصوت صراخ والدتها يعلو بقوة حين اقتحمت عليها غرفتها مع والدها باكية مرتعشة، لترى الاخير منقضًا فوق والدتها يحمل سيفها الخاص وهو يطعنها به صارخًا :
” تحاولين قتلي أنا ؟؟ الويل لكِ ولذريتك أجمعين يا حقيرة ”
مشهد تشفق على أعدائها منه فما بالكم بتمنيه لهم ؟! أن ترى والدها يقبع فوق والدها يطعنها طعنات متتابعة دون أن تأخذه بها شفقة، لهو الجحيم بعينه.
في ثواني فقط مر شريط حياتها مع والدتها داخل عقلها، الوحيد النقية في هذا المكان، خطفوها من مملكتها لتكون سبية وزوجة لزعيمهم، تزوجها بالاجبار بعدما قتل أمام عيونها عائلتها بأكملها وانجبها هي منها، بذرة كانت لتعطي والدتها عذرًا لكرهها، لكن بدلًا من ذلك احبتها، بل لم تبخل عليها يومًا بذَرة حب واحدة مخبرة إياها أنها الوحيدة المتبقية لها في هذا العالم .
سقطت دموع زمرد واعينها متسعة تشعر بالغضب يتمكن منها وهي تتحرك صوب جسد والدها الذي اعماه غضبه عن محيطه، وأخرجت خنجرًا غرزته في منتصف ظهره سالبة منه صرخة وشهقة مرتفعة لتميل عليه هامسة :
” ألحق بها، ليقتص الله لها منك يا سليل الشياطين، لا سامحك الله يا … أبي، لعنة الله عليم وعلى جميع أبناء شعبك ”
ختمت حديثها بنبرة صارخة باكية، تنتزع خنجرها وما كادت تطعنه الطعنة الثانية، حتى سمعت اصواتًا تقترب منهم، فكرت بسرعة أن تهرب من النافذة، لكن لم تنس أن تأخذ سيف والدتها وتركض تقفز من الشرفة بالتزامن مع سماعها لصوت يصرخ بهدير قوي :
” قتلته، تلك الـ ***** قتلته للزعيم ”
ومنذ تلك اللحظة، بدأ جحيمٌ من نوع آخر..
عُرفت هي في القبيلة بابنة القاتلة التي تخلصت من زعيمهم، وتقبلت هي اللقب بملامح باردة حزينة مصطنع، تقبلت أن تكون ابنة القاتلة، ولم تصحح لهم اعتقادهم، فهي لن تسلب والدتها شرف التخلص من هذا القذر، علّ يُخلد اسمها في التاريخ يومًا ما بسبب ذلك .
” هل أنتِ بخير ؟؟”
انتفض جسد زمرد بقوة حين سمعت صوتًا جوارها، رفعت عيونها تحاول تبين صاحب الجسد الذي كانت دموعها تخفي ملامحه، لكن صاحب أو صاحبة هذا الجسد اقتربت ببطء تجلس جانبها وهي تقول بصوت منخفض :
” لم أقصد التطفل عليكِ، لكن رؤيتك تبكين بهذا الشكل وحدك، جعلتني أشفق عليكِ ”
تشنجت ملامح زمرد رافضة لتلك الشفقة، حتى وإن كانت من الملكة نفسها .
” بالمناسبة أنا تبارك ..”
نظرت لها زمرد، ثم نظرت أمامها تتجاهل وجود تبارك تمامًا، وتبارك كانت ما تزال تمسك بالكتاب الخاص بها وهي تقول بصوت منخفض تنظر له بهدوء شديد دون أن تعيد نظراتها لزمرد :
” لقد رأيتك منذ أيام تقفين في الباحة الخلفية معكِ سيف أحد الجنود وتتدربين به، كنتِ رائعة بالمناسبة ”
اتسعت أعين زمرد بقوة وهي تستدير صوب تبارك التي كانت ما تزال تقلب صفحات الكتاب بهدوء شديد وهي تقول جمل غير مرتبة :
” وحين رأيتك منذ قليل تبكين كالصغيرة عرفتك فورًا ”
شعرت زمرد بأن تلك الفتاة تتلاعب معها، لتقرر تركها والرحيل دون اهتمام حقًا، لكن تبارك اوقفتها تقول :
” أريد مساعدتك ”
توقفت زمرد تنظر لها بحنق، لتنهض تبارك تقترب منها وهي تردد بهدوء شديد :
” أنا … أنا بالفعل اتدرب على يد قائد الجيوش و كنت اريد أن تساعديني في هذا الأمر و…”
” إذن لِمَ تحتاجين مساعدتي ؟! هل تظنين أنني سأعلمك أكثر مما يفعل هو ؟؟”
” لا بالطبع لن تفعلي ”
اتسعت أعين زمرد بحنق وغضب شديدين وهي تقول :
” لهذا يفضل عليكِ الذهاب والالتزام بتدريب قائد الجيوش لكِ، لا ينقصني سوى ملكة مدللة و…”
” أنا فقط اريد ..اريد أن أثبت له أنه يمكنني التفوق عليه والتقدم بشكل ملحوظ، وأنني لستُ مجرد فاشلة ”
ابتسمت زمرد بسمة صغيرة تبتعد عنها وهي تردد بسخرية :
” حظًا موفقًا إذن”
وبهذه البساطة تركتها ورحلت، بينما تبارك تنظر لها بصدمة ولم تكد تتحدث بكلمة حتى وجدت شخصًا ما يقتطع طريق زمرد، نظرت بتعجب لذلك الشخص والذي كان نفسه مدربها للرماية …دانيار .
” هل ..هل يعرفها دانيار ؟؟”
وقبل أن تفكر في إجابة لسؤالها تذكرت كلمات زمرد اللئيمة لها لتبتسم بسمة صغيرة وهي تتحرك بعيدًا عن الاثنين تضم لها كتابها بملامح منقبضة بعض الشيء :
” اعتقد الانطوائية افضل ليا من محاولة التعرف على أشخاص اساسا رافضين معرفتي ”
وكم اوجعتها تلك الجملة، مرت في طريقها بساحة المبارزة لتتوقف دون وعي تراقب سالار الذي كان يشرف على قتال بين بعض رجاله..
وعنده هو وحين شعر بأعين تراقبه رفع رأسه بحدة لتتسع عيونه وهو يراها شاردة في جهته، نظر صوب الرجال بحنق وقرر أن يذهب لها يبعدها عن منطقة الرجال، لكن رغم تحركه لم تحرك هي عيونها، بل ظلت شادرة بشكل جعله يتوقف قليلًا على بعد منها يقول بصوت خافت :
” جلالتك، أنتِ بخير ؟؟ ”
” فقط كنت أتساءل إن كان بإمكاني تكوين صداقات هنا ؟! هل ترى أنني شخص جيد لأكون صديقة أحدهم ؟”
تفاجئ سالار من كلماتها تلك التي خرجت منها دون مقدمات وقد بدا أنها تترجاه ردًا بالإيجاب، وهو لسببٍ اوجعه قلبه وبقوة يقول :
” محظوظ ذلك الذي يصبح صديقًا لكِ مولاتي ..”
نظرت له تبارك بأعين لامعة وهي تهتف :
” يمكنك أن تكون ؟!”
اتسعت أعين سالار بقوة لتلك الكلمات وازداد وجيب قلبه بشكل مبالغ به ينظر حوله بصدمة ولا يصدق أنها نطقت هذا الأمر، هي لا تستوعب أنها الملكة وهو قائد الجنود، هي امرأة وهو رجل ؟؟
وتبارك أكملت جملتها المعلقة :
” إن كان يمكنك فعل ذلك دون قيود أو شروط أو لنفترض أنني شاب وطالبت بصداقتك، هل كنت لتقبل بشخصٌ مثلي ؟!”
سؤالها جعل سالار يغرق في حيرة والإجابة التي برزت في عقله منعها هو وجاهد كي لا ينطقها وهو يفرك خصلات شعره ينظر خلفه صوب الحلبة يقول بصوت هادئ :
” كنت لاحب أن يكون لي صديق ذو عزيمة وصادق مثلك، وكنت سأساعده ليحقق ما يريد، وليصبح أكثر رضى عن نفسك ”
أن تنال ثناءً من القائد سالار، بمثابة نيلك وسام شرف الاعلى درجة، شيء جعلها تنتعش سعادة .
نظرت له تبارك تبتسم واخيرًا بسمة صغيرة :
” أنت تفعل هذا بالفعل، شكرًا لك يا قائد”
وبهذه الكلمات أعلنت هي نهاية هذا الحوار المريب العجيب بينهما ترحل بكل بساطة من أمامه، وهو فقط راقبها متسع الأعين، يجذب خصلات شعره بقوة وغضب شديد لا يدرك سببًا له، لكنه يدرك أن هناك من احزنها هناك من دفعها صوب هذه النقطة لتشعر بهذه المشاعر، وفقط لو يعلم من فعل هذا سيحطم عظامه .
استدار صوب جنوده يقول بصوت هادر غاضب :
” ما هذا ؟! هل نمرح هنا ؟؟ ”
بينما هي ابتسمت دون شعور لتركض بسرعة صوب اسطبل الخيول تنتظر هناك كما اعتادت، حديثها القصير ذلك جعلها ترتاح بعض الشيء، ربما هي لا ترفضها، ربما هي اختارت فقط الوقت الخطأ لتعرض عليها الأمر، دخلت الاسطبل تتنهد براحة مع الوضع في الاعتبار أنها لن تترك زمرد وشأنها حتى تمنحها دروسًا إضافية في المبارزة، فهي عقدت العزم على ابهار سالار وستفعل .
__________________
عند دانيار والذي ظل يبحث عنها في كل مكان حتى كاد ييأس، واخيرًا وجدها تتحرك في الحديقة بهدوء ولا مبالاة ليستوقفها بشر :
” أنتِ يا فتاة لن تتوقفي حتى تُعدمي أو تُقطع يدك، كيف تتجرأين على سرقة أسلحة الجنود ؟!”
نظرت له زمرد بغيظ شديد لا تدري ألم تجد المشاكل سوى هذا اليوم لتقفز لها، تنفست بصوت مرتفع تقول :
” اي أسلحة تلك ؟؟ أنا لم أفعل شيئًا وتوقف عن إلقاء التهم في وجهي، ثم ألا وظيفة لك في هذا المكان سواي؟! جد لك حياة بعيدًا عني سيدي الرامي فلن ينفعك أن تظل تبحث عن حجج لتظهر في وجهي ”
ختمت حديثها تتحرك بعيدًا عنه بأعين ملتمعة بانتصار كبير، واخيرًا شعرت لمرة واحدة بانتشاء، اصمتته وهو أمر لم تقدر عليه سابقًا، تخطته وهو ما يزال واقفًا مبتسمًا بسمة لا تليق أبدًا بخاسر اسمعته من الحديث ألذعه، ما بال هذا الرجل لا ينحني لحديث ولا يرتعب لسيف ؟؟
وقبل أن تتحرك خطوة أخرى بعيدًا عنه سمعت صوت خشخشة غريب، تبعه صوت دانيار الذي قال :
” أوه أنا آسف حقًا يبدو أنني اسئت الفهم، وظننت أنكِ أنتِ تلك اللصة التي تسللت لسكن الجنود وسرقت منهم بعض الأسلحة كالخناجر والسيوف، اعذريني، يبدو أنني بالفعل مهووس لاراكِ في كل فعل سييء ”
شعرت زمرد بالريبة فليس دانيار من يتحدث بهذه الطريقة الخانعة المستسلمة، والأدهى أنه يعتذر لها، ابتسمت بعدم تصديق تستدير لترى ما يقصد من هذا الحديث :
” أنت لا تحاول خداعـ ….”
صمتت واتسعت الأعين تباعًا لصمتها حين أبصرت ما بيده، تحركت يدها بسرعة صوب رقبتها تتحسسها برعب وقد على وجيب قلبها، لتدرك في هذه اللحظة أنها فقدت قلادتها، قلادة والدتها المتوارثة، حزنها على والدتها انساها متعلقاتها التي تحتفظ بها .
ابتسم دانيار وهو يرى كل ذلك ليقول بهدوء :
” إذن سأذهب للبحث عن اللصة صاحبة هذه القلادة والتي اسقطتها داخل سكن الجنود ”
” أنها أنا ..”
قالت كلمتها بلهفة وهي تتقدم من دانيار وهو ابتعد للخلف يرفع حاجبه مبتسمًا :
” أنتِ اللصة ؟!”
” أنا …أنا صاحبة هذه القلادة، اعطني إياها”
” هكذا إذن ؟؟ سأحتفظ بها رفقة السيف والخنجر، عجبًا أنا سأخصص ركنًا في غرفتي لاشيائك الحبيبة ”
ختم حديثه باستفزاز كبير لها لتلتمع شراسة مخيفة في عيون زمرد استعد لمجابهتها، لكن الغريب أن تلك الشراسة خفتت شيئًا فشيء وعلى الرجاء عيونها وهي تتقدم منه تقول بخوف أن يحرمها من القلادة كذلك كما السيف وهو جاد حين يقول أنه سيأخذها .
” لا، ارجوك أنا …أنا آسفة، فقط كنت …كنت احتاج لشيء ادافع به عن نفسي فقط ولم اقصد، سأعيد كل شيء إن أردت، لكن ذلك ..ذلك العقد أنا..أنا ارجوك أنا ارجوك أعده لي ”
صدمته بنظراتها ورجائها، وهي التي لم تنحني يومًا، تأتي الآن تتوسله لأجل عقد، حسنًا هو يبدو ثمينًا، لكنه لم يعتقد يومًا أن شيئًا كهذا قد يكسر هامتها المرفوعة .
وزمرد لم تكن في تلك اللحظة تجيد اختيار انفعالاتها البتة، ذكرى قتل والدتها، ورعبها من فقدان شيء ثمين كهذا يعود لها، يضغط على أعصابها بشكل مدمر، حتى أنها كادت تبكي في هذه اللحظة، لا تدري أتبكي والدتها ام ما يخصها ؟!
ودانيار الذي لم يقصد تهديدها البتة، بل سارع لاخفاء الدليل الذي قد يطيح بها لدى الملك مخالفًا القوانين خوفًا أن تعاقب وجاء ليوبخها، لكن ما يحدث أمامه الآن أكثر مما توقع .
سقطت دموعها دون شعور وهي تقول بصوت مرتجف :
” سأعيد كل شيء أعدك، فقط أعده لي، أنا …أنا ..هذا آخر ذكرى لي من امي، لا أستطيع أن أفقدها كما فقدت أمي”
عند هذه النقطة انفجرت زمرد في بكاء جعل دانيار يرتعب وهو يقول بلهفة وخوف يراها تدفن وجهها بين كفيها تمنح نفسها رفاهية الانهيار، لكن في الوقت الخطأ وأمام الشخص الخطأ.
آخر من أرادت يومًا أن يراها منحنية، وليس باكية بشكل مذري كما يحدث الآن .
” ما بكِ أنا لم أقصد أن آخذه، هيا خذيه، أنا لم أكن لآخذه اقسم لكِ ”
لكن زمرد في تلك اللحظة لم تكن معه، بل كانت بين احضان والدتها وهي تضمها بحب تهمس لها :
” أنتِ آخر من تبقى لي بعدما سلبوني حياتي زمرد، فعوضني الله بكِ حياة جديدة، تذكري أن والدتك تحبك، لا امتلك في هذه الحياة اغلى وأثمن منك، ولن أسمح لهم بتلويثك صغيرتي، حتى ولو فقدت حياتي مقابل هذا، سأخرجك من هذا المستنقع الذي فشلت أنا في الخروج منه، فلا تدعي أحدهم يلوث براءتك صغيرتي ”
ازدادت شهقات زمرد أكثر تنهار ارضًا بشكل جعل دانيار يشعر بالوجع والضعف تجاه ما يراه، عض شفتيه بقوة يحاول التحكم في مشاعره، فجأة انتفض جسده للخلف وهو يدرك تلك الكلمة ..
مشاعر ؟؟ يالله مشاعر ؟؟ ما الذي حدث ؟؟ كيف …كيف تجاوز كل شيء لتلك النقطة، ما الذي سمح بحدوثه؟؟ كيف كيف ترك نفسه للشيطان يقوده صوب افتتان غبي قد ينتج عنه ما لا يرضي الله .
ضغط على قبضته بقوة يميل وهو يضع العقد جوار قدمها حيث سقطت يهمس بصوت منخفض ونبرة غريبة:
” آسف لكِ آنستي، ماكان عليّ فعل ذلك ”
ختم حديثه يتراجع شيئًا فشيء قبل أن يركض بعيدًا عنها وكان الشياطين تتبعه، وزمرد التي استفاقت على كلماته نظرت لاثره بعدم فهم وهي تقبض على العقد، لا تدرك معنى كلماته المبطنة تضم العقد لصدرها باكية ونبضاتها ترتفع تخبرها أن هناك شيء سيحدث ولن يعجبها البتة …
__________________________
تحرك داخل ساحة الرماية يبحث عنه بعيونه حتى عثر عليه في أحد الأركان يكاد يبتلع أحد الجنود، يصرخ بشكل مرعب لا يفهم له سببًا .
حسنًا هو هكذا طوال الوقت أثناء التدريبات، لكن الآن الأمر تجاوز الحد المسموح به من العنف، تقدم مهيار صوب دانيار ببطء يستشعر غرابته منذ فترة طويلة، وقد أزدادت تلك الغرابة الآن وهو يراه يمسك تلابيب أحد الجنود يصرخ في وجهه :
” أنت هل ترانا نلعب هنا ؟؟ هل نمزح ؟؟ نحن هنا ندافع عن بلاد وشعب، إما أن تكون على قدر المسؤولية، أو ترحل وتترك مكانك لمن يستحقه ”
وقبل أن يتبع جملته بجملة أخرى شعر بمن يجذبه من الخلف، اشتدت أعين دانيار شراسة وهو يصرخ بجنون يستدير صارخًا :
” الويل لـ ”
وقبل أن يكمل حديثه سحبه مهيار بعيدًا عن الجميع وهو يحاول تجنب قبضته، ودانيار كان يشعر بعروقه تكاد تنفجر من شدة الضغط الذي يمارسه على نفسه وكأنه يعاقبها على ما فعل، ترك الشيطان يراوده ويحبب له فتنة كان بإمكانه تجنبها بسهولة لو أنه منذ المرة الأولى تجاهلها وتركها تغني كما تشاء ورحل .
أو اعطاها السيف وانتهى الأمر
وقف به مهيار جانبًا يضمه مكبلًا ذراعيه :
” ما بك دانيار ؟؟ بالله عليك ما الذي حدث ليشتعل جنونك بهذا الشكل !!”
” لا علاقة لك مهيار، ابتعد عني قبل أن يطولك جنونك ”
زفر مهيار يتركه وهو يتراجع للخلف فقط يتفادى غضبه ثم قال :
” حسنًا لتحترق أنا لا اهتم، أنا فقط جئت هنا كي اطلب منك مساعدتي في أمرٍ ما ”
تنفس دانيار بغضب يلوح بيده في الهواء :
” لستُ متفرغًا لشيء الأن، نحن على مشارف الحرب مهيار، فالافضل لك أن تبدأ التجهز، والآن سأذهب لأرى هؤلاء الكسالى و لنأمل أن تمر الحرب على خير و…”
قاطعه مهيار ببسمة واسعة ضاربًا بكل حديث شقيقه عرض الحائط، كأنه لم يتحدث بكلمة واحدة، يختار وقتًا مناسبًا لعرض ما يريد :
” في الحقيقة أنا أريد الزواج، وجئتك كي تأتي معي لطلب يد الفتاة التي ارغبها ”
حدق به دانيار بصدمة كبيرة، ما الذي يتحدث عنه الآن، يخبره أن البلاد في حالة حرب والجميع في حالة استنفار، وهو ذاته داخله حرب ضارية، ليأتي هو ويقول له أنه يود الزواج ؟؟
لكن مهيار لم يهتم لكل ذلك الذي يظهر على وجه دانيار وهو يقول بجدية مبتسمًا :
” حسنًا أنت تعرفها، هي شقيقة مرجان، ليلا، أنت اخي الاكبر فأردت أن تأتي معي، ما رأيك ؟!”
” هل أنت ابله مهيار ؟؟”
كانت كلمات دانيار متشنجة مصدومة، لكن مهيار لم يهتم ينفي تلك الكلمات ببسمة صغيرة :
” لا لست كذلك، هل ستأتي معي ؟!”
مسح دانيار وجهه يقول بتعب شديد :
” أغرب عن وجهي مهيار قبل أن أفقد أعصابي عليك أنت”
” لا بأس إذن سأتحدث مع والدها وأحدد موعدًا قبل انطلاق الحرب، لا أود خوض حرب أخرى وأنا اعزب، والآن استأذنك عزيزي، واتركك تكمل قتل رجالك ..”
تحرك بعيدًا عنه تاركًا دانيار ينظر لاثره بصدمة كبيرة، بينما هو لا يهتم بكل ذلك يفكر أن تلك المفاجأة ربما تخفف من وطأة ما حدث آخر لقاء له مع الصغيرة ليلا ..
ربما هي ما تزال غاضبة منه على تصرفاته وقتها ولذلك لم تعد تذهب لمحل والدها تحرمه رؤيتها، لكن إن كانت تتجنبه، فهو سيذهب لعقر دارها يطالب بها حقًا مكتسبًا له، وهكذا سيمنع أي شخص تسوّل له نفسه الاقتراب منها كما حدث مع هذا الرامي ذلك اليوم …..
توقف الشاب عن الحديث حين أبصر جسد مهيار يقبع خلف ليلا، وهو من ظن أنه يستطيع أن يتحدث معها قليلًا بعيدًا عن أعينه .
ابتلع ريقه يرى تقدم مهيار منهم وهو يقول ببسمة :
” هل هناك شيء ؟؟”
” ماذا ؟؟ لا لا سيدي أنا فقط كنت أود الحديث مع الآنسة ليلا حول …حول بعض الأعشاب التي تهم صحة والدتي ”
نظرت له ليلا باهتمام شديد ولم تلتقط توتره وكذبه الذي يختفي خلف حروفه .
” نعم، يمكنك الذهاب لأبي في محله وسؤاله عما تريد، لا اعتقد أن وقفتنا هذه صحيحة، والآن عذرًا منكما ”
وما كادت تتحرك حتى انفلتت عقدة لسان الفتى يتحلى بشجاعة وهمية وهو يردد :
” لقد تغيبت عن موعدي دون إرادتي و…”
قاطعه مهيار وهو يتدخل في الحديث زاجرًا إياه بنظرات مخيفة :
” أخبرتك أن وقفتها معك بهذا الشكل ليست جيدة، إذن اصمت ودعها ترحل ”
نظر لليلا يقول دون وعي :
” وأنتِ يا صغيرة اذهبي الآن ولا تهتمي ”
وكانت ليلا لتنفذ ما قاله لولا اقتران كلماته تلك بكلمة ” صغيرة” التي اشعرتها للحظات أنه بالفعل لا يراها سوى فتاة صغيرة يملي عليها ما تفعل، ويخشى عليها أن تخطأ ببلاهة .
” عفوًا منك سيدي الطبيب، أنا لا أتلقى أوامر من أحد ”
” أي أوامر تلك ليلا ؟! أنتِ بالفعل كنتِ على وشك الرحيل”
” نعم وهذا كان بإرادتي الحرة وليس لانك قلت هذا ”
اشتعل الغضب في أعين مهيار من مجادلتها الغريبة تلك :
” وما الفرق بينهما، في النهاية أنتِ سترحلين ”
جابهته لاول مرة تصرخ في وجهه كارهة شعور أن ينظر لها كصغيرة :
” سأرحل لأنني أريد وليس لأن أحدهم يريد لعب دور ابي أمرني بذلك ”
ازداد الغضب بينهما وزادت حدة الكلمات المتراشقة، حتى خاف الشاب أن تطوله إحدى تلك الكلمات، ليهرول بعيدًا عنهما تاركًا الحرب خلفه تشتعل مع كل كلمة تخرج من أحد الأطراف ..
أفاق مهيار من كل ذلك وهو يتحرك صوب العيادة الخاصة به :
” لا بأس، موعدنا قريب يا صغيرة …”
______________________
ابتعد عنها بريبة يحاول أن يفهم كلماتها التي جاهد عقله لانكارها، والدها عقبته القديمة تعود مجددًا، كلماتها لم تزده سوى اشتعالًا، زاد غضبه أضعاف مضاعفة، لم تساهم في تهدئته بل زادت كرهه وحقده لذلك الرجل الذي مكر بوالده قديمًا، واضاع منه صغيرته .
” تميم اقسم لك أنني لم أقصد الابتعاد عنك لا الآن ولا قديمًا، هو …هو فقط …لقد أجبرني على الرحيل، لقد ”
صمتت ثم ابتعد عنه وكأنها تخشى أن ينفلت وحشه في وجهها إن واجهته بتلك الكلمات أمامه مباشرة .
” حين واجهتك قديمًا أنني السبب فيما حدث لوالدك، وانفجرت في وجهي ونبذتني ورحلت …”
تنفست بصوت مرتفع تأبى استعادة تلك الذكرى التي ما تزال تدور داخل عقلها، سقطت دموعها لا تصدق كي تجرأت وقتها لتقف في وجه تميم الباكي المدمر والذي جاء يخبرها بكامل الحزن أنهم أمسكوا والده.
جاء يبكي في أحضانها أنه خسر والده، لتنهار هي وتشعر بالذنب يأكلها، كانت بريئة للحد الذي جعلها ترفض لجوئه لها وهي السبب في تعاسته، شعرت بالحقارة وهي تنفجر باكية أمامه منهارة تطلب منه الغفران والسماح، كلمات رددتها وما لبثت أن لقت صداها في صدر تميم الذي انتفض بعيدًا عنها يحدق من بين دموعها في وجهها والصدمة جمدته :
” بيرلي أنتِ لم تفعليها، صحيح ؟؟ أنتِ لم تقتليني بهذه الطريقة صغيرتي أليس كذلك ؟؟”
انهارت وقتها برلنت ارضًا تتمسك بيده متوسلة الغفران باكية بصوت مرتفع من بين شهقاتها كلمات لم يستوعبها هو وما تزال الصدمة واضحة على وجهه :
” سامحني لقد اجبرني، لقد أجبرني على فعل ذلك، اقسم أنني لم أعني أذية عمي، لقد هددني تميم، هددني ”
عادت برلنت من تلك الذكرة المريعة على يد تميم تمسح دموعها وهو يمسك وجهها بحنان قائلًا :
” هييه بيرلي لِمَ البكاء صغيرتي ؟؟ لم أعني أي كلمة قلتها وقتها، أنا فقط كنت غاضبًا، وحين أدركت ما قلت ركضت صوب منزلك لاخبرك أنني لم أعني ذلك وأنني رددتك، ركضت لاسألك عن سبب ما فعلتي لكنني لم أجدك، أو اجد ايًا منكم ”
استندت برأسها على يده تهمس بصوت منخفض موجوع :
” لقد هرب بنا والدي، منعني رؤيتك للمرة الأخيرة، توسلته وبكيت له، ليهتف في وجهي أنك لن تحب رؤية قاتلة والدك”
صمتت لتنهار في البكاء وهي تنفي برأسها:
” لم أقصد اقسم لك، لم اقصد قتله، لقد هددني بك، هددني أنني إن لم أخبره مكانه سيقتلك أو يبلغ عنك الجنود ويأسرونك أنت بدلًا منه ”
” اهدأي بيرلي، لا يوجد شيء هكذا، لا يمكن للجنود أسري بدلًا من أبي ”
” هذا ما أدركته لاحقًا بعدما نجح في خداعي، واخذني وهرب بي بعيدًا وأنا ابكي أنني أريد البقاء جوارك، حتى لو نبذتني ”
سقطت دموعها تحاول التنفس بشكل جيد وهو ينظر لها بحب وحنان يمسح لها دموعها :
” عدت بعد سنوات حينما هربت من منزلي بحجة العمل، وعدت أسأل عنك لأعلم أنك أضحيت صانع الأسلحة الأشهر في البلاد، فقررت المجئ هنا والبقاء جوارك وإن لم تشعر بي ”
نظرت لعيونه التي كانت تحكي معاناة خاصة بعيدًا عن معاناتها ويده ترتجف بغضب :
” وحينما أخبرتني منذ ايام أنني ما أزال زوجتك وسأبقى جوارك، قررت الذهاب لمنزلي واخبار امي أنني لن استطيع العودة وسأبقى جوار زوجي، لكنه سمعني و…”
صمتت فجأة حين رأته ينتفض بعيدًا عنها وجسده قد أضحى مشدودًا بشكل ملحوظ فأكملت بصوت خافت :
” وقد حاول منعي العودة لك ”
استدار لها تميم غاضبًا من كل ذلك :
” ذلك الحقير القذر ..”
انتفض جسد برلنت للخلف تخفي عيونها الموجوعة عنه، فمهما فعل ذلك الرجل، هو للأسف والدها، لكن يبدو أن تميم لم يكن بمثل تلك الملائكية ليتجاوز عن أفعاله وغضبه يصرخ بكره واشمئزاز أصابها في مقتل :
” ذلك الرجل مجرد جلب اسمه في حديث تجلب شياطيني، لا أود سماع اسمه او لقبه، أنا أشعر بالاختناق كلما تذكرت ما عانيت بسببه وبسبب جشعه ”
ويبدو أن لعنة والدها وما فعل ستظل تطاردها حتى النهاية، رؤية ملامح الاشمئزاز والغضب تعلو وجه تميم في هذه اللحظة إصابتها في مقتل، هو يكرهه، يكره والدها واسمه ولقبه، يكرهه وهي تقدر ذلك، فمن حرمك من والدك وحياتك الهانئة أقل ما تقدمه له هو الكره .
ارتجفت وهي تسمع همسه بصوت يقطر حقدًا :
” سماع لقبه يتبع اسمك يثير غضبي، أكرهه واكره كل ما يتعلق به ”
هبطت دموع برلنت وهي تقول بصوت منخفض :
” يمكنني التخلي عن لقبي لاجلك تميم”
استدار لها لتنظر هي له بوجع تهمس بصوت خافت تخفي عيونها والخزي بها عنه :
” إن كان ذكر اسمي يعيد لك ذكريات سيئة، فأنا على استعداد للتخلي عنه، يمكنني العيش دون اسمي وهويتي ما تبقى من حياتي، لكنني لا استطيع العيش دونك لحظة واحدة، سأغير لقبي لأجلك واتخلى عن هويتي لأجلك كذلك، فلا تنبذني تميم …”
تأوه تميم يقترب منها بحب شديد يجذب رأسها لصدره بحب كبير :
” برلنت أنتِ الشيء الوحيد الذي ينتمي له واتقبله، الجزء الوحيد به الذي لم انبذه، فلا يرضيني التخلي عن لقبك أو اسمك بيرلي، اتقبلك بكل ما بكِ، لكن …رفقًا بي ولا تأتي على ذكره أمامي أرجوكِ ”
هزت رأسها قبل أن تنفجر في بكاء عنيف، تلقي نفسها بين احضانه، وهو يربت أعلى ظهرها بحب شديد يحاول أن يهدئها وهو من يشتعل، يجبر قلبها، وهو المحطم ..
وفجأة قبل أن يتحدث بكلمة يطيب بها قلبها، سمع الإثنان صوتًا يأتي من أمام باب المعمل يقول :
” تميم اذهب لمصانع الأسلحة واو…..”
توقف سالار فجأة عن الحديث بأعين متسعة مما رأى، وتحركت يد تميم تخفض غطاء وجه برلنت فورًا وهو يقول بصوت خافت هادئ :
” سيدي …”
نظر له سالار ثواني دون أن يحيد بعيونه صوب برلنت التي تحركت تختبأ خلف ظهره وكأن سالار سيتناولها حية :
” أذهب لمصانع الأسلحة واوصيهم بالدفعة الجديدة في أسرع وقت، ولا تنس أن تحضر لي تقريرًا بكل شيء حينما تفرغ مما تفعل ”
ختم حديثه يتحرك بكل هدوء خارج المكان تاركًا تميم ينظر لاثره متسع الأعين وبرلنت تحدق بظهر تميم لا ترى ما يحدث، وحين استشعرت الهدوء في المكان قالت بصوت منخفض :
” هل رحل ؟! أم أنه فقط صامت ؟ ”
استدار لها تميم وعيونه ما تزال معقله بباب المعمل :
” لا ادري حقًا، هل كان القائد هنا ام أنني كنت اتخيل فقط ؟؟”
خرجت برلنت من خلف ظهره تنظر في المكان بعدم فهم ثم استدارت له تقول بجدية :
” إذن تميم، بما أنك تتعامل مع هذا القائد في معارك كثيرة، هل حقًا كما تقول الاساطير أنه يتحول لكائن مرعب ؟؟”
نظر لها تميم بتشنج قبل أن يقول بهدوء :
” حسنًا هو لا يحتاج للتحول، فهو بهذا الشكل مرعب …”
_________________________
توقف عن سيره بعيدًا أمام ساحة الرماية يراقبها بأعين دقيقة وكأنه يطمئن أن ابنته تسير خطواتها الأولى بكل ثبات، دون أن تزل قدمها أو تتعرقل في شيء .
ابتسم يرى نظرات دانيار الغاضبة لها وهو يكاد يصرخ في وجهها، لولا أن لمح فجأة وجهه ونظراته يحذره أن يتحدث بكلمة تحزنها، ليكظم دانيار غيظه وهو يقول :
” مولاتي، أنتِ بالفعل رامية بارعة، لكن رجاءً تعلمي كيف يوضع السهم داخل القوس ”
نظرت له تبارك تأخذ منه القوس وبه السهم، ثم رفعت ذراعها تعدل من وضعيه نظارتها التي تنبذها طوال الوقت، إلا في الحالات الضرورية كتلك، تتساءل إن لم تضعها في حقيبتها وهي قادمة ما الذي كان سيكون عليه مصير الرماية :
” نعم، لا بأس قريبًا اتعلم إن شاء الله، والآن تحرك من أمام الهدف كي لا يصيبك سهمي ”
اصطنع دانيار الارتجاف :
” أوه يا ويلتي، ها أنا ابتعد عن مرماكِ مولاتي، هيا تفضلي واريني ما الذي ستفعلينه ”
ابتسمت له تبارك وهي تسمع تمتمته العالية يحدق فيها بحنق وغيظ، ليس منها بل من الحياة وأفكاره التي تصارعه منذ الصباح .
رفعت تبارك عيونها صوب الهدف تغمض عين وتفتح الأخرى، تطيل التحديق به وهذا المراقب من بعيد كان متحفزّا يعتدل في وقفته ينتظر نتيجة تلك الدقة التي يدرك أنها تصطنعها، ابتسم بعدما استمرت تبارك دقيقة كاملة تحدق، ودانيار الشارد لا ينتبه لها .
وفي ثواني ترك السهم ليطير في الجو بسرعة مخيفة قبل أن يستقر في منتصف الهدف تحديدًا وبشكل غير متوقع، حتى أن تبارك تركت القوس، ثم انتزعت نظارتها تمسحها جيدًا وبعدها ارتدها مجددًا تطيل النظر بالسهم، نظرت بعدها لدانيار تنتظر أن يؤكد لها أنها نجحت، لكن دانيار كان شاردًا بشكل غريب جعلها تهتف :
” هل أصبته ؟؟”
نظر لها دانيار دون وعي يقول وهو يأخذ منها القوس :
” لا بأس لنعيد الكرة، ومع الوقت ستصبين الهدف و…”
“لقد اصبته ”
نظر لها دانيار بعدم فهم لتشير هي صوب الهدف، استدار دانيار بعدم فهم قبل أن يتراجع فجأة من صدمته للخلف يحدق في الهدف بأعين متسعة، ثم نظر لتبارك يهمس بذهول :
” فعلتيها ؟؟”
” فعلتها”
ابتسم لها دانيار بسعادة كبيرة يصرخ بعدم تصديق :
” لقد فعلتيها، مولاتي اصبتي الهدف قبل أن تشيب خصلاتي ”
ضحكت تبارك دون وعي وهي تشير صوب الهدف تقول بلهفة كبيرة :
” أصبت الهدف، اصبته ببراعة، اصبته ”
ضحك دانيار لا يصدق أنه نجح واخيرًا في تعليمها، لقد نجح بعد اسبوع طويل من التدريبات، نجح واخيرًا .
كان كل ذلك يحدث أسفل أعين سالار الذي كان يضحك بصوت خافت عليهم، يراقب فرحتها المبالغ بها وهي تتحرك في الساحة بحماس شديد تهتف أنها فعلتها، لتتوقف فجأة حين أبصرته تقول بسعادة كبيرة :
” يا قائد أنت هنا ؟؟ هل رأيت ؟؟ هذا سهمي هناك في الهدف، أنا من قذفته للتو، هذا سهمي الخاص، يمكنك سؤال دانيار حتى، أليس كذلك دانيار ؟؟”
ضحك سالار ضحكة صغيرة يهز رأسه بهدوء :
” نعم رأيت مولاتي، احسنتي، ربما حان الوقت لتغيير دانيار وتعيينك قائدًا لجيش الرماة، ما رأيك ؟!”
التوى ثغر دانيار بحنق شديد لتضحك تبارك ضحكة منخفضة وهي تحرك يديها في الهواء :
” لا، لا داعي لذلك حقًا، هذا لا شيء مقارنة بمهاراتي في الفروسية، يمكنك أن تجعلني قائدة على جيش الفرسان ”
ابتسم سالار بسخرية يقول :
” لا يوجد شيء يُسمى جيش الفرسان، نحن لن نحاربهم بالاحصنة ”
ابتسمت تبارك بسمة صغيرة قبل أن تهز كتفها بهدوء :
” لا بأس إذن، ربما أبرع يومًا ما في المبارزة وأصبح قائدة لجيشك أنت ”
رفع سالار حاجبه ساخرًا من تلك الفكرة قبل أن يتحرك بعيدًا عن الساحة :
” لا بأس، الاحلام مكفولة للجميع تحت سماء سفيد، من أنا لأمنع احلامك مولاتي ”
” هيييه أنت لا تسخر مني صحيح ؟؟ اسمع إذن يومًا ما ستعترف بتفوقي عليك سيدي القائد ”
نظر لها دانيار بحنق :
” يا فتاة ما هذه الثقة، حتى الملك خسر منه مرتين في المبارزة، وصدقيني حين أخبرك أن الملك ليس مبارزًا هينًا”
نظرت له تبارك بعناد تقول :
” كده ؟؟ طب ههزم الملك هو التاني، سامع هزمكم كلكم نفر نفر يا قائد، البنت اللي جبتوها عشان تبقى مرمطون ليكم هتخليكك تندموا كلكم ”
أطلق سالار ضحكات صاخبة في المكان وهي نظرت له ثواني، ثم قالت بهدوء :
” أنا اتقدم بسرعة كبيرة، حتى أن القائد اليوم صباحًا مدح اصراري وعزيمتي ”
صمتت تنظر لسالار الذي كان يراقب ما يحدث بملامح جامدة عدا بسمة صغيرة :
” صحيح يا قائد ؟؟”
نظر دانيار صوب سالار بتعجب أن يمتدح أحدهم، خاصة شخص مبتدأ، لكن لصدمته هز سالار رأسه يقول مشجعًا إياها، لأنه يرى بالفعل ما تبذله كي ترضي الجميع وتنسى كل ما يحدث حولها وما تعانيه جراء ذلك، كما أنه للحق لا يفهم سبب ذلك الشحوب الذي يعلو ملامحها منذ الصباح :
” نعم هذا صحيح، الملكة ستصبح مقاتلة بارعة إن لزم الأمر”
ارتفع رأس تبارك بسعادة كبيرة تنظر صوب دانيار :
” تلميذ الامس سيصبح معلم الغد يا فتى ”
أطلق سالار ضحكات صاخبة وقد اكتفى حقًا بهذه المشاهد للآن :
” ليس لهذه الدرجة، فالغرور يقتل النجاح …مولاتي”
” يحق لي الغرور يا قائد فها أنا أكاد أنافسكم في مجالاتكم وأنا لم أكن أفقه بها شيئًا ”
” نعم، تنافسينا صحيح ”
” فقط أنتظر وسترى ”
كان واضح أنه يتحدث بسخرية وهو ينظر لها تقف في منتصف الساحة تنظر له بتحفز، وهو فقط تجاهل كل ذلك يتحرك بعيدًا عنهم دون حتى أن يستدير ليجيبها وهي صرخت في أثره :
” ويلٌ لسفيد من شرٍ قد اقترب ”
زفر دانيار بحنق يلتقط أحد السهام يضعها في القوس، ثم رماهم لها يقول بسخرية شديدة :
” فقط تعلمي وضع السهم في القوس، ثم نتحدث حول هزيمتك لجيوش المملكة أيها الشر ”
نظرت له تبارك بحنق تمسك بالسهم وهي تقول بسخرية واستهانة شديدة :
” هذه الكلمات لن تزيد انتقامي إلا شراسة ”
نظرت صوب الهدف تقول :
” رجال هذه المملكة لا يجب التهاون معهم حقًا، الآن أصبحت رامية سهام بارعة، غدًا مبارزة رائعة ”
ختمت حديثها تترك السهم ليطير في الهواء بسرعة كبيرة، لكن الحظ لم يحالفها هذه المرة لتصيب الهدف للمرة الثانية، بل أصابت جذع الشجرة ليبتسم لها دانيار بسخرية وهي تنحنحت بصوت منخفض :
” يبدو أن عينًا سيئة اصابتني، هيا اعطني سهمًا آخر وسترى ”
ضحك عليها دانيار بصوت منخفض ينتزع منها القوس :
” شاهدوا لاول مرة رامية تتعلم الرماية دون وضعية السهم في القوس، مثير للاهتمام ”
نظرت له تبارك بغيظ شديد تستشعر سخريته منها، لكنها لم تعلق وهي تنتزع النظارة تمسحها، ثم وضعتها مجددًا تردد :
” لا بأس لكل جواد كبوة …”
______________________
ها هو يعاقب نفسه في هذه اللحظات على انجراف عقله للمرة الأولى خلف قلبه الذي جذبه فضوله لتلك الملثمة، أصبح في عيون نفسه آثمًا وود لو يذهب لتبارك يعتذر لها، يخبرها أنه آسف لأنه انشغل عنها بعض الأوقات يفكر في غيرها، حتى وإن لم تعلم سبب اعتذاره، أو حتى وإن كان تفكيره ذلك لم ينحرف لمنحنى خطر .
حسنًا لا بأس ها هو الآن يعاقب نفسه أشد عقاب قد يتلقاه داخل جدران هذا القصر .
يستدعي سالار ويخبره أن يبارزه كعدو وليس كملك، وتلك البسمة التي ارتسمت على فم سالار أخبرته أنه يفهمه، وأنه سيريه كيف يعامل أعدائه.
مال إيفان بسرعة كبيرة قبل أن ينتزع سيف سالار رأسه عن جسده، يالله هو يتعامل مع حديثه على محمل الجد، يكاد يجزم أنه يراه الآن بافل .
ابتسم سالار بسمة مخيفة وهو يرفع سيفه يحركه بكل مهارة في الهواء ثم قال :
” إن لم ترد فقدان رأسك المرة القادمة عليك أن تكون اسرع من هذا، وتتوقف عن الشرود ”
ختم حديثه بنبرة خبيثة، ليرفع له إيفان وجهه، يزيح خصلات شعره عن عيونه وهو يتحدث بهدوء :
” تتمنى فقط أن يمسني سيفك ”
” ماذا فعلت الآن، أنا فقط اساعدك في جلد ذاتك ”
تنفس إيفان بصوت مرتفع أكثر وقد مس سالار نفس النقطة التي كان يحاول الهرب منها، ازداد غضبه وهو يبادله الضربات بعنف شديد، ليسمح له سالار بذلك رغبة منه في مساعدته لتنفيث ذلك الغضب المنتشر على وجهه .
” هل الأمر كبير لهذه الدرجة مولاي، حتى تكاد تقتل نفسك بتركي اعاملك كعدو ؟!”
” بل هو إثم سالار ”
رفع سالار حاجبه يتعجب تلك التسمية وهو يتوقف عن القتال لحظات قليلة :
” إثم ؟؟ هل أنت من تحالف مع بافل أم ماذا ؟؟”
رمقه إيفان بغضب ليبتسم له سالار بسمة صغيرة يرفع سلاحه مجددًا، يستعد للهجوم عليه :
” ربما تبالغ في وصفك لفعلتك مولاي، لكن لا بأس طالما أن الأمر يصب في مصلحتي ”
ابتسم إيفان بسمة صغيرة يرفع سيفه في المقابل قبل أن يشتبك الاثنين في قتال شرس وايفان يدور حول سالار يبحث له عن نقطة ضعف، والاخير ينتظر اللحظة المناسبة ليرديه ارضًا :
” قتلي يصب في مصلحتك ؟؟ هل تطمع في عرشي سالار”
ابتسم سالار ساخرًا :
” مالي والعروش مولاي، أنا لن افني حياتي بالجلوس فوق مقعد وإدارة أمور المملكة، قبضتي تشتاق للسيف حين تركه، وعيوني تشتاق لمرأى الجيش كذلك ”
ابتسم إيفان يهجم عليه وهو يغافله في الحديث، ضربة صدها سالار يرسم بسمة واسعة مخيفة :
” أنت مخادع ”
” كل شيء متاح في الحرب يا عزيزي ”
ضحك سالار وهو يهجم على إيفان بسرعة كبير ليشتعل القتال بينهما كالعادة دون معرفة الرابح، مرات قليلة هي ما يُحسم بها القتال بينهما .
وفي الحقيقة نتيجة القتال لم تكن مهمة لها بقدر اهتمامها برؤيته من بعيد، ولا تدرك حقًا سبب وقوفها هنا في هذه اللحظة تراقبه بشغف، هي تخطأ، تخطأ وبشدة، هذا الملك، الشخص الذي نشب شجار عنيف بينه وبين شقيقه تناقلته الألسنة في الممالك الاربعة، وهو نفسه الذي سيتزوج بعد أيام لا تعلم عددها، شخص لا يصلح بأي شكل من الاشكال لأن تحبه، لا يمكنها فعل ذلك حقًا …
مهلًا تحبه ؟؟ لا بل تعجب به، وبعدله وحكمته فقط، هي لم تتخطى تلك النقطة، لم تتجاوز هذه المنطقة، ربما لو كان أرسلان حي في هذه اللحظة لكان نظر لها بغضب موبخًا إياها على تجاوز حدودها مع رجل غريب، ومن ثم يختتم حديثه بجملته المعتادة :
” كهرماني الحبيبة، أنتِ أميرة مشكى، من يريدك يسعى لكِ ويقطع بحارًا لأجلك، وليس أنتِ من تسعين لهم ”
سقطت دموعها تردد بصوت خافت :
” لو أن أرسلان ما يزال حيًا ما كنت وطئت سفيد أو رأيته، أو ورطت نفسي في مبارزات سخيفة لم اجني منها سوى الوجع، يكفي انتهينا كل هذا ”
رفعت غطاء وجهها تمسح دموعها، ثم أنزلته مجددًا، ترفع نظراتها صوب الحلبة التي كانت تبعد عنها مسافة لا بأس بها، لتُصدم حين رأت الملك يتوسط الحلبة وحده ويطيل النظر صوبها، شهقت بصوت مرتفع تتراجع بسرعة، تتمنى في قرارة نفسها أنه لم يبصر ملامحها بشكل واضع ابعد المسافة .
ركضت بعيدًا عنه تتلاشى النظر له، تعد نفسها أنها اكتفت من تلك القتالات المستمرة، هنا وتضع نهاية هذه القصة مع الملك، القصة التي لعبت بها دور المجهولة .
بينما إيفان راقب هروبها بملامح جامدة، يضغط على سيفه بقوة، كلما حاول أن يتلاشى التفكير بها تظهر أمامه، ألقى سيفه بعنف يتحرك بعيدًا عن الساحة بخطوات قوية وهو يفكر أنه فقط سيتجاهل كل ذلك، سيرى أين وصلت تدريبات الملكة كي تنتهي هذه القصة …
فجأة توقفت أقدامه يشعر بشعور سييء، سييء للغاية، هل سيظلم تبارك ؟؟ هل ما يفعله صحيحًا ؟؟ لكن الرؤية ؟؟ لحظة ما الذي يفكر به، هو لا يمتلك مشاعر لأحد، فقط يتمنى أن تنمو مشاعره تجاه الملكة بعد أن تكلل علاقتهما بالشرعية وتصبح زوجته .
الأقدار مكتوبة ولله في إخفاء الغيب حكمة، لكن اسوء شعور قد يراود إيفان هو أن يشعر بنفسه ظالمًا، قد يدهس مستقبله وقلبه أسفل أقدامه فقط لأجل ألا يظلم شخصًا للحظة واحدة، ايًا كان ذلك الشخص، وفي هذه المعادلة كان ظلم نفسه اهون الظلمات على قلبه .
والخوف كل الخوف أن ظلم نفسه قد يقترن بظلمه لشخصٍ آخر…
__________________
يلقي بمعطفه الملكي على مقعده، يشمر اكمام سترته القماشية وهو يعيد خصلات شعره للخلف، يتحرك يمينًا يسارًا وهو يتحدث الجميع بجدية كبيرة .
” نحن من نحدد أين تكون المعركة، لن نسمح لهؤلاء الحثالة أن يجبرونا على مكان لها، فما ادرانا أنهم لا يضمرون لنا شرًا، وهم لا عهد لهم ولا ذمة ”
ختم إيفان حديثه ينظر للجميع وقد ترأس هو الجلسة هذه المرة حتى ينتهي من تعليماته، والجميع أمامه، قادة جيوشه، طبيبه الملكي، العريف ومساعده، اثنين من مستشاريه ..
استند على الطاولة بكفيه يهمس لهم بجدية :
” توقعوا أي شيء خلال الحرب، توقعوا أي غدر، توقعوا أي قذارة قد يصل عقلكم لها، بل وتخطوها، بافل ليس كوالده، بل هو صورة أقذر منه، لعنة الله عليهم أجمعين ”
حرك نظراته صوب العريف ليقول :
” أنت أيها العجوز إن كنت تعلم شيئًا فافضي به الآن ”
نظر له العريف بهدوء شديد وهو يحاول أن يتجاهل كل ذلك يقول :
” لا يعلم الغيب إلا الله مولاي، وما أعلمه ما هي إلا رؤى من الله فقط، وإن كنت تتساءل فلا أنا لا ادري شيء، ليتغمدكم الله برحمته في هذه الحرب ”
زفر إيفان بصوت مرتفع، ثم تحركت عيونه صوب مهيار يقول بجدية :
” مهيار أنت ستجهز فريق كامل من المساعدين وتخيمون بالقرب من منطقة الحرب وسنترك معك كتيبة حماية لنقل المصابين وحمايتهم، خذ ما استطعت من رجال ”
حرّك عيونه صوب تميم الذي كان يراقب كل شيء بهدوء يدرك أن لحظة اعلان زواجه لم تحن بعد، هو في هذه اللحظة يواجه حربًا تمنع أي خطوة قد يخطوها في حياته الشخصية :
” تميم أريد التأكد من وجود زخائر وأسلحة تكفي كافة أفراد الجيش ”
واخيرًا نظر لدانيار وسالار :
” سالار أنت ستقود الجناح الأيمن، ودانيار سيؤمن ظهورنا، الجميع يعلم دوره، لا اريد خطأ، خطأ واحد لا اريد، لن اكرر حديثي، لا اريد أن يتحرك أحدكم خطوة واحدة دون إشارة مني أو من سالار ”
هز سالار رأسه بهدوء واحترام، بينما إيفان تنفس بصوت مرتفع ثم قال :
” ستبقى الكتيبة الرابعة هنا لتأمين الحدود والخامسة لتأمين النساء والقصر ”
أومأ الجميع بطاعة، ثم تحرك إيفان وجلس على مقعده بهدوء شديد يشير صوب سالار أن يتحرك ويكمل هو من حيث توقف، هو وضع الخطوط العريضة والآن كيفية الهجوم وكل ذلك سيتركه لسالار، هو لا يحب أبدًا أن يلعب دور المتسلط، أو ينفرد بالتفكير وحده، هو يترك كل شأن لصاحبه ( اسألوا اهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) ومن أفضل من سالار ليدرك أمور الحرب .
ابتسم سالار بسمة صغيرة يقول بهدوء :
” السلام عليكم جميعًا ”
ردد الجميع السلام، ليقول دون مقدمات وهو يخرج من حزام سيوفه مخطوطة كبيرة يفردها على الطاولة أمامه بسرعة كبيرة، ثم أخرج حنجره يصوبه بمهارة على نقطة معينة في تلك المخطوطة يهمس بصوت مخيف :
” هنا سنستدرج بافل وجيشه، سندفعهم صوب تلك النقطة، وحينها لا اريد سماع همسة إلا صرخاتهم، اروهم الجحيم .”
نظر صوب دانيار يقول :
” دانيار أنت والكتيبة الخاصة بك ستنتظرون إشارة الملك للتدخل، وهذه الإشارة ستصدر من جهة تميم تحديدًا ”
هز دانيار رأسه يستمع مع الجميع لخطة سالار الذي انغمس يشرحها لهم بكل جدية، والجميع مهتم بكل كلمة تخرج منه، وايفان يضع قبضته أمام فمه وهو يستمع لسالار مبتسمًا لتلك الخطة التي قالها .
ختم سالار حديثه يقول :
” الجيش الاول سيكون بقيادة الملك، وكما قال الملك الجناح الأيمن للجيش سيكون تحت قيادتي، أي أسئلة ؟؟”
نفى الجميع برؤوسهم ليبتسم :
” إذن توكلنا على الله أجمعين، اعقدوا النية وانطقوا الشهادة قبل تحركنا، والغد موعدنا يا رجال …”
_______________________
يجلس على عرشه في منتصف القاعة وهو يتكأ بكل كسل على ظهر المقعد، يسمع صوت أحد الرجال يحمل رسالة له من مملكة سفيد، مرسول جاءه يوصله رسالة ملكه .
فتح الرجل بملامح وجه جامدة الرسالة وهو يقول بصوت مرتفع جهوري قوي نابع من كونه صاحب حق :
” رسالة إلى المدعو بافل…
لا سلام عليكم ولا سلام لكم، ولا أراكم الله السلام يومًا.
أما بعد :
اردتها حربًا وسعيت لها، ونحن رجال كرم لا نرد طلب سائلٍ ولو كان بافل، طلبتها حربًا، ولك ما أردته، ما استعصى علينا الحرب مع امثالكم يومًا ونحن أصحاب الحق، ولو كان للقبور ألسنه يتحدثون بها لسمعت صرخات وصيحات والدك الذي اشبعناه خسارة وخزيًا لا يليق سوى بكم، فإن أردت تجربة ما مر به والدك مئات المرات، فالغد موعدنا، نلقاكم في الصحراء الشرقية بين مشكى وسفيد جوار بحيرة الحياة، ولتشهد كل حبة رمل وقطرة ماء على خزيكم الذي ستتجرعونه على يد رجال لا يخشون إلا الله، رجال يحبون الموت ويسعون له شهداء، وإن تخلفت عن الحرب فسنعتبرها دعوة منك للمجئ ومحاربتك في عقر دارك، أو عفوًا في عقر دار الملك أرسلان رحمة الله عليه، سنكمل حربه ونعيد بلاده وشعبه، وفي النهاية تحياتي حتى ألقاك غدًا.
ملك سفيد، الملك إيفان ”
ختم الرسول كلمات الرسالة والتي خطها إيفان بنفسه، وهو ينظر لبافل ينتظر منه ردًا، لكن كل ما صدر من بافل هو بسمة جانبية وهو يقول :
” ألا ترى أن ملكك في غاية الوقاحة يا رجل ؟؟”
اجابه الرسول بصوت ثلجي وملامح جامدة :
” بل في غاية الشجاعة، وهذه صفة لا يعلمها امثالك بافل”
ابتسم بافل بسخرية شديد :
” أوه أين رأيت هذه الوقاحة والجرأة في الحديث ؟؟ صحيح في سالار ”
نظر له الرسول يقول بتصحيح :
” القائد سالار، ولي الشرف أن تراني مثله ”
” ألا تخشى أن تتدحرج رأسك في الثانية القادمة يا رجل ؟؟ أنت الآن في بلادي وتحت رحمتي ”
علت نظرة ساخرة نظرات الرجل وهو يقول بهدوء :
” اولًا هذه ليست بلادك، ثانيًا أنا لست بحاجة لرحمة امثالك، أنا في عناية ورحمة الله، والآن بما أن رسالتي وصلتك سأرحل، وإن أردت قتلي فلتفعل قبل خروجي ”
ختم حديثه يستدير بهدوء شديد، وهو يحرك قبضته صوب السيف الخاص به في استعداد تام لأي حركة غدر تصدر من ذلك الرجل، لكن ما حدث له شيئًا حتى صعد لحصانه خارج القصر وتحرك بعيدًا، تحت أعين بافل الذي ابتسم بسمة جانبية وهو يضيق عيونه بشكل مخيف …
________________
خرجت من حجرتها بعدما انتهت من أخذ حمام بارد بعد تمارينها، تشعر بالوهن الشديد يتملك منها، تبحث عمن يساعدها بأعين ضبابية .
لا تدرك أين تسير ولا تعلم مع من تتحدث، كل ما تشعر به بذرات وعيها الأخير أنها لا تعرف ايًا من الوجوه التي تحيط بها، لا تألف احدهم ليساعدها .
ابتلعت ريقها تبحث عنه، طوق النجاة الذي كان يظهر في وجهها كلما واجهت مشكلة، العجب أنه ليس هنا في هذه اللحظات، بللت شفتيها تستند على الجدار وقد قررت أن تتحرك صوب المشفى، هناك ستجد من يساعدها، ولم تعلم كعادتها سوى مشفى الجنود حيث الطبيب مهيار .
وصلت ولا تعلم كيف فعلت، دخلت المشفى بأقدام مرتجفة تشعر بقرب انهيار الجدران أعلى رأسها، تبحث عن الطبيب بين الأروقة .
” هو فين …عايزة …أنا تعبانة ”
وحين لم تبصره تحركت صوب مكتبه تقرر البحث بنفسها بين زجاجات الاعشاب خاصته، تأمل أن تجد ما يساعدها .
لكن حين حاولت فتح الباب وجدته مغلق لتشعر باليأس .
ثواني، هي ثواني فقط وستفقد كل طاقتها، لم يكن عليها إهمال ادويتها ومرضها طوال الأيام السابقة، هذا كله خطأها هي المخطئة الاولى .
فجأة ومن بين وعيها المتبقي سمعت صوتًا يهتف بتعجب واندهاش بلقبها :
” مولاتي ؟! هل أنتِ بخير ؟؟”
فتحت تبارك عيونها تبصر جسد مهيار الذي انتهى من الاجتماع وعاد للمشفى، لكنه لم يكن وحده بل كان معه دانيار وتميم و…سالار .
تحركت تبارك صوبه ببطء شديد تحاول أن تتحكم في نفسها :
” مرحبًا سيدي الطبيب اعتذر لازعاجك لكنني احتاج بعض المساعدة منك ”
تفاجئ مهيار من علامات الإجهاد الواضحة على وجهها، يقترب منها بسرعة وهو يهتف :
” مولاتي هل أنتِ بخير ؟؟”
نظرت له تبارك تقول بصوت منخفض :
” نعم أنا فقط أشعر بالارهاق الشديد، ادويتي لقد نفذت ”
تدخل سالار في هذه اللحظة بعدما شعر أن الصمت لن يجيب اسئلته التي تنخر عقله، يتقدم منها وهو يردد بصوت متحفز :
” ادويتك ؟؟ ”
نظرت له تدرك وجوده في هذه اللحظة وقبل التحدث بكلمة واحدة، انهار تماسكها لتسقط ارضًا بعنف، تحت صرخة سالار برعب وهو يتحرك نحوها :
” مولاتي …مولاتي ”
وحين أبصر تمدد جسدها ارضًا بملامح تحاكي الموتى صرخ بهلع شديد :
” يا ويلي، تبارك ……”
_____________________
لهفتك يا بني ليست هي من تفضح مشاعرك، بل هي عيونك، أكبر خائن يئويه جسدك، بوابة مشاعرك التي تخبر الجميع بما تحاول إخفائه ….
وتذكر أن كل ما يحدث ما هو إلا حرب، إما أن تنتصر أو تنتصر لا خيار ثالث أمامك….
يتبع…
صوت الصراخات والسباب يعلو في المكان بشكل مفزع، سبات لم تسمع بهم في حياتها بأكملها، سبات جعلت أعينها تتسع بشكل مثير للضحك، ولأنها تجهل اصول زمرد التي هي أبعد ما يكون عن نشأتها، شعرت بالرعب من أن تنطق فتاة بمثل تلك الكلمات.
وزمرد التي ترعرت بين زمرة من بقايا الرجال، ورغم تربية والدتها الصالحة لها، إلا أنها دون إرادة كانت تتشرب منهم بعض الصفات كالشراسة والعنف في جميع تصرفاتها، ولسانها الذي لا تتحكم به طوال الوقت، شيء هي لا تفتخر به، بل تشعر بالعار منه، لكن الأمر صعب التخلص منه، فأضحت توجهه لمن يستحقه
وبرلنت في هذه اللحظة _ من وجهة نظر زمرد_ تستحقه ونصف .
اختفى جسد برلنت خلف كهرمان التي تقف في المنتصف بين الاثنتين وهي تحاول ردع زمرد عن قتل كهرمان بعد اختفائها لأيام، حتى أن زمرد كادت تركض صوب تميم وتتشاجر معه .
” اسبوع أيتها الـ …”
اوقفتها كهرمان بصرخة غاضبة من كل تلك البذاءة :
” زمرد تأدبي في كلماتك ”
أشارت زمرد بغضب صوب برلنت :
” انظري ماذا فعلت بنا ؟؟ لقد كدت اقتل هذا التميم الخاص بها ”
ظهرت في تلك اللحظة برلنت تصرخ باحتدام ورفض شديد :
” لا اياكِ زمرد، اياكِ والاقتراب من تميم ”
صمتت ثواني تستوعب ما قالت زمرد لتبتسم بسمة واسعة وهي تستمر في استفزاز آخر ذرات صبر زمرد التي لا تمتلكها في الحقيقة :
” بالمناسبة اعجبتني تلك تميم الخاص بي، نعم هو خاص بي وحدي ”
تشنجت ملامح زمرد بقوة وهي تشير لها بعدم فهم :
” أعانك الله على عقلك يا امرأة، ماذا اقول أنا وماذا تفعلين أنتِ ؟!”
” ماذا ؟!”
زفرت كهرمان تدفع الاثنتين بعيدًا عن بعدهما البعض وهي تقول بصوت هادئ :
” حسنًا، وقت مستقطع آنساتي، دعونا نهدأ لنعلم ما حدث مع الفتاة ”
نظرت صوب برلنت تنتظر منها تصريحًا عن سبب اختفائها، وكذلك تحفزت جميع حواس زمرد التي ضمت ذراعيها لصدرها تنتظر تفسيرًا يقنعها :
” نعم واحرصي أن يكون سبب قهري قوي يستعدي غيابك ايام طوال دون ترك خبر بذلك، كأنكِ أصبتي بضربة سيف، أو صوب أحدهم سهمًا لقلبك مثلًا ”
ابتسمت لها برلنت بسمة أخبرتها أنها الآن على وشك قول تعليق سيشعل غضبها مجددًا لتسارع زمرد لرفع اصبعها محذرة إياها:
” إياكِ أن…”
” نعم، أصابتني سهام حبه يا فتاة ”
اشتد غضب زمرد لتندفع صوبها لولا جسد كهرمان التي أخذت تصرخ بهما، وزمرد مصرة على الإمساك بها، تمد يديها تحاول التقاط وجهها :
” سأقتلك أيتها المستفزة عديمة الكرامة، اقسم أنكِ عارٌ على النساء اجمعين ”
ابتسمت لها برلنت تضم ذراعيها لصدرها :
” عار لأنني أشعر، وماذا عنكِ أيتها البذيئة ؟!”
حاولت زمرد الإفلات من يد كهرمان غاضبة :
” هذه البذيئة تستطيع العيش وحدها دون الحاجة لرجل، تسطيع الدفاع عن نفسها، ماذا تفعلين أنتِ أيتها الجبانة الضعيفة المستفزة ؟!”
” استطيع صنع فطيرة التوت التي تجبرك أنتِ على فعل كل هذا لأجلي ”
كبتت كهرمان ضحكة كادت تفلت منها لتبتسم زمرد دون وعي وهي تقول :
” نعم هي محقة، استطيع فعل كل هذا لأجل فطيرتها، سحقًا لتلك المعدة العديمة الكرامة كبرلنت، تجبرني على فعل ما لا أريده ”
أطلقت كهرمان ضحكات صاخبة بينما برلنت اقتربت من زمرد تضمها بحب، وقد كانت هذه المرة الأولى التي تحظى برفاق غير تميم، رفاق احبوها دون مقابل، عدا فطيرة التوت لزمرد .
ابتعدت عن زمرد تضم لها كهرمان بحب :
” اشتقت لكم يا رفاق ”
” نحن أيضًا عزيزتي، أين كنتِ بيرلي ؟؟”
ابتسمت برلنت لسماع ذلك اللقب تتنهد بتعب قليلًا:
” كنت في المنزل وحدثت أمور كثيرة كادت تودي بمستقبلي ”
نظر لها الاثنان بفضول لتبدأ وتقص عليهم كل ما حدث وصدر من والدها وردة فعل تميم الذي أخبرها أنه وبعد الانتهاء من أمور الحرب سيعلن في المسجد زواجهما ولو أُتيحت فرصة قبل ذلك لن يتأخر ..
ابتسمت لها كهرمان بحب وهي تربت على وجنتها بحنان :
” أوه حبيبتي مبارك لـ …”
وقبل أن تكمل كلماتها دفعتها زمرد جانبًا بغضب وهي تمسك كتفي برلنت بشكل مخيف :
” هل ستغضبين مني إن قتلت والدك ؟!”
” بالطبع زمرد ما الذي تتحدثين به، هذا أبي”
نظرت لها زمرد بغضب وكادت تقول بغضب واستنكار وماذا في ذلك ؟؟ أنا أيضًا قتلت أبي، لكن لثواني توقفت وفكرت قليلًا في الواقع، أي مقارنة تجريها الآن بين شخص أكبر آثامه هو الجشع والطمع، وبين والدها الذي كان اصغر ذنوبه واهونها القتل، شتان بينهما ..
صمتت تبتعد عنها وهي تقول :
” حسنًا لا بأس، لم أكن سأفعل على أية حال ”
وهذا صحيح فهي ليست قاتلة لتتحرك وتقتل كيفما تريد، هي لا ترفع سيفها أو تستخدم قوتها أمام شخص ضعيف، أو شخص ليس مذنبًا، وهذا ما تعلمته من والدتها، لا تستطيع أن تقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وقتل والدها وأعوانه كان أكبر حق .
وبينما هم جالسون في الأرضية يتناولون غداءهم الذي قرروا أخذه للحديقة بعيدًا عن الجميع للتحدث براحة، أبصر الجميع تحرك الملك على بُعد صغير منهم مع العريف يتحدث معه بجدية كبيرة في بعض الأمور ولا يبدو على ملامحه الرضى لشيء .
لم يهتم البعض عداها هي التي أطالت النظر به وكأنه سيتلاشى في هذه اللحظة، مخطئة، اخطأت وتناست أن النظرة إثم، أخطأت وتجاوزت الحدود، لكن شخص كالملك بكل ما به يجذب أي انثى في محيطه دون أن يدرك، ولا تقصد بكل ما به مظهره أو وسامته وخصلاته السوداء أو عيونه الخضراء، بل تقصد هيبته ولباقته وخبثه الذي كان أرسلان يتحاكى به طوال الوقت، بل ويتفاخر أن رفيقه بمثل هذه العقلية ..
أرسلان الذي كان في تصرفاته أقرب لقائد الجيوش سالار، لكن حكمه للبلاد أجبره على التمتع ببعض التريث والحكمة، ليصبح مزيجًا بين تجبر سالار، وبعض خبث وتفكير إيفان، لكن في النقطة الثانية إيفان يتفوق ..
راقبت كيفية انعقاد حاجبيه، ثم ابتسامته الساخرة وفجأة استدار صوبها وكأنه شعر باعينها المصوبة عليها، فزعت وقد اتسعت عيونها بقوة :
” يا ويلي ..”
لكن الملك نزع عيونه بكل برود يعود بنظراته صوب العريف لتتنفس الصعداء وهي تشكر ربها أنه لم ينتبه لها بسبب المسافة بينهما .
لكن عند إيفان والذي أبصرها بشكل واضح جلب بسمة جانبية لشفتيه والغضب بدأ يتدافع لصدره ليجذب انتباه العريف الذي رأى ما ينظر إليه ليقول :
” إذن نحن انتهينا من هذا الحديث ؟؟”
” نعم، غدًا تذهب مع بعض الرجال حيث هو للتحدث معه، ذهابك أنت لن يثير الشك بقدر إرسال رجال من جيشي، فمن سيشك بعجوز مثلك ؟؟ ”
ابتسم له العريف بسخرية يربت على كتفه قبل الرحيل :
” كنت لاغضب منك الآن، لكن يكفيك تلك الحيرة التي تعلو ملامحك يا بني، أعانك الله على محاربة نفسك ”
ختم حديثه، ثم رحل ببساطة تاركًا إيفان يراقبه بعدم فهم، وهو فقط ابتسم مبتعدًا وحينما مر على كهرمان هز رأسه لها بشكل افزعها، ليستدير في تلك اللحظة إيفان ويرى نظرات العريف لها ونظراتها له ليبتسم بسمة غريبة وهو يهمس :
” غامضة ها ؟؟؟”
_________________________
اسمها الذي خرج منه دون شعور لم يستوقفه أو يثير تعجبه وهو يركض صوبها ملتاع مرتعب يرى جسدها ملقى ارضًا، اتسعت أعينه وهو يحاول الاقتراب لمعرفة ما حدث معها، مد يده قبل أن يبعدها مجددًا لا يدري ما يفعل في تلك الحالة.
نظر خلفه صارخًا بغضب في مهيار الذي تصنم ارضًا ليس لحالة تبارك، بل لحالة سالار نفسه، ابتلع ريقه حين سمع هديره :
” ما بك مهيار، تحرك وتعال لترى ما حدث للملكة، تعال وانظر إليها، يا الله هي فاقدة للحياة ”
اقترب مهيار منه بسرعة ليرى ما حدث وقبل أن يفعل أوقفه سالار وهو يقول :
” لا لا، بل اذهب واحضر طبيبة القصر ”
صمت ثم قال بعصبية واضحة :
” أو تعال أنت لفحصها ”
وحينما كاد يقترب منها صرخ به وبالجميع :
” لا لا، أذهب تميم بسرعة وأحضر الطبيبة، لا تقترب مهيار”
شعر مهيار بالحيرة ليردد :
” سيدي يبدو أن حالتها لن تنتظر أن نستدعي الطبيبة، رجاءً دعني احملها للداخل وافحصها ”
نظر له سالار قبل أن يقول بهدوء تمكن منه أخيرًا :
” حسنًا، لكن لا لا تقترب منها، أنا، أنا سأحملها، أو تميم اذهب لإحضار بعض العاملات ليفعلن ذلك ”
وما كاد تميم يتحرك حتى صرخ سالار :
” حسنًا أو لا، هل هذا سيؤذيها ؟؟ إذا تأخرنا ؟؟ افحصها هنا مهيار، سنخرج ونمنع أي أحد من الدخول للمشفى وأنت افحصها دون أن تحركها لربما تسبب هذا في اذيتها”
زفر مهيار يشعر بالاختناق من هذه الأوامر التي لا فائدة منها يميل بجسده بغية حمل تبارك :
” حسنًا سيدي، آسف لكن فحصها هنا غير ممكن، الأرضية باردة والأجهزة والأدوات كلها بالداخل، دعني احملها رجاءً و…”
لكن قبل ذلك قال سالار بسرعة وهو يميل حاملًا إياها بسرعة كبيرة وكأنه يلتقط صخرة صغيرة عن الأرض، يهرول صوب الغرفة بسرعة وعقله لا يفكر في شيء في هذه اللحظة سوى في حالتها وما حدث لها وضعها بسرعة على الفراش، ثم استدار بسرعة صوب مهيار الذي لحق به، ليخرج هو بسرعة كبيرة يغلق الباب دون كلمة ووقف أمامه بملامح جامدة تحت أعين تميم ودانيار اللذين تبادلا نظرات صامتة تشي بكل ما يعتمر داخلهما .
فجأة سمعوا صوت سالار يقول بجدية :
” تميم اذهب لإحضار طبيبة القصر ”
رمقه تميم بغيظ شديد وحاول كبت حديثه، لكن خرج منه دون إرادة وهو يردد بحنق :
” هل اذهب أم أنتظر أن تغير رأيك قائد ؟!”
حدجه سالار بنظرات صارمة ليبتلع تميم ريقه بهدوء وهو يردف بصوت خافت :
” أوامرك قائد ”
وما كاد يرحل حتى أوقفه سالار بقول :
” وتميم …”
توقف تميم وشعر أنه سينفجر إن نفى أمره السابق، لكن سالار لم يكن سيفعل، هو فقط يفكر إن كان عليه أخبار الملك بما حدث للملكة أم لا ؟! أوليس هو زوجها المستقبلي كما هو مقدر ؟؟
لكن ودون أن يشعر وجد نفسه يتحدث بشرود دون حتى أن ينظر لتميم، وكأن قلبه اتخذ القرار بسرعة ومرره للسانه دون انتظار موافقة من عقله :
” لا شيء، اذهب واحضر الطبيبة ”
هز تميم رأسه يرحل بسرعة قبل أن يوقفه القائد مجددًا، بينما دانيار كان يحدق بوجه سالار ولأول مرة يشعر بشيء مريب به، شيء لن يسعد أحدهم إن كان حقيقيًا، فقط يأمل ألا يحدث، هل كُتب عليهم جميعًا أن يعانوا إثمًا اجباريًا عليهم ؟؟
” هل أنت بخير يا قائد ؟!”
نظر له سالار بعدم فهم :
” ولماذا لا اكون دانيار ؟! لستُ أنا المريض كما ترى ”
هز دانيار رأسه واكتفى باجابته ولم يزدها كلمة إضافية، بينما سالار ظل واقفًا مكانه يتخيل مظهرها وهي ساقطة ارضًا شاحبة الوجه بشكل مرعب، يالله هل يعقل أنها ماتت؟؟
عند هذه الفكرة انتفض جسده بقوة رافضًا لكل ذلك، هي لن تفعل قبل أن يخبرها أنه ما قسى عليها يومًا إلا لأجلها، لم يعاملها كما يفعل إلا ليبعدها عنه، فهي كانت تنظر له نظرة الغريق الذي يتعلق بالقشة، وهو يرفض هذا بالكامل، فلا علاقة قد تجمعه بها إلا علاقة سطحية لملكة وقائد جنود .
هذا فقط ..
فجأة ابتعد عن باب الغرفة حين خرج مهيار وهو يقول بجدية :
” نحن نحتاج لبعض الاعشاب التي نعاني نقصًا منها ”
نظر سالار للورقة بيده وهو ينتزعها منه :
” هاتها سأرسل بها أحد الجنود ”
اعترض مهيار بسرعة لانتزاع حجته لرؤيتها بهذه السهولة من بين أنامله، يحاول استردادها :
” لا يا قائد أنا سأذهب بنفسي لـ ”
رمقه سالار بنظرات مرعبة وهو يهتف بنبرة آمرة قوية :
” مهيار ..اهتم بالملكة حتى تأتيك طبيبة القصر، والآن أخبرني ما هي حالتها ؟؟”
” اشتباه في مرض البول السكري، لا ادري حقًا فالتأكد من الأمر يحتاج بعض الوقت، لكن تحسبًا لذلك، وبالاعتماد على جميع العوارض التي تعاني منها، جعلتها تأخذ اعشاب ستساعدها، يبدو أنها تعاني مرضًا مزمنًا واهملت علاجه ”
صمت وهو ينظر لسالار الذي سرح بعقله نحو كل تلك اللحظات التي كانت تطالبه فيها بالطعام لأجل أخذ ادويتها، وهو وقتها تجاهل السؤال عما تقصد، ولم ينتبه له أو يهتم به، غبي …
” إذن ستصبح بخير ؟؟”
نظر له مهيار بهدوء شديد وما زالت عيونه متجهة صوب الورقة التي يحملها بين أنامله :
” نعم ستكون ”
تنحنح ثم قال بهدوء :
” إذن هل ستعطيني الورقة لإحضار الأدوية المطلوبة سيدي ؟؟”
ابتسم دانيار بسمة جانبية يهمس بالقرب من مهيار :
” تدعي خوفًا واهتمامًا لا تمتلكه أيها الماكر ”
صمت يرى ردة فعل مهيار على حديثه والذي كان التفاتة محذرة له أن يتمادى في الحديث معه، لكن كيف وقد جاءت وأخيرًا فرصة دانيار كي يزعج شقيقه الأصغر مستمعًا برؤية ملامح الشر تعلو وجهه ليميل هامسًا في أذنه:
” تخيل أن تفوز على القائد وتأخذ منه الورقة وعندما تذهب لا تجدها هناك ؟! خيبة أمل وحسرة، صحيح أيها العاشق الولهان ؟!”
وإن كان يظن أنه بهذه الكلمات سيستفز غضب وهدوء مهيار، فقد أصاب، إذ صرخ مهيار فجأة بصوت مرتفع ناقلًا المحادثة لمستوى آخر متسببًا في صدمة سالار الذي كان شاردًا بعيدًا عنهما، يفتح عيونه يرى الإثنين ارضًا كلٌ يمسك بتلابيب الآخر، يتبادلان اللكمات .
متى حدث كل هذا ؟؟ فجأة هكذا كادوا يقتلون بعضهم البعض دون مقدمات .
وفي الأرض كان الإثنان يتدحرجان تباعًا، دانيار يضرب مهيار لكمة، والآخر يردها له بغضب وهو يهمس :
” صبرًا حتى تجد تلك المغفلة التي سيبتليها الله بك، وقتها سأريك الجحيم ”
دفعه دانيار بقوة يعلوه هو هذه المرة يجذب تلابيب ثيابه :
” ومن أخبرك أنني سأسمح لك بالاقتراب منها حتى لإلقاء السلام أيها الطبيب الفاشل الاحمق الـ ”
” دانيار ..مهيار ”
تصنمت اجساد الاثنين وقد نسيا فجأة ما حدث وكأنهما دخلا عالمًا منعزلًا، اتسعت أعين الجميع ليميل دانيار فجأة على مهيار الذي ما يزال يمسك بتلابيبه يقبل خصلات شعره، ثم ابعد يده يعدل له ثيابه :
” عزيزي كيف سقطت ارضًا أنت، هيا دعني اساعدك ”
ابتسم له مهيار بسمة صغيرة يتجاوز عما كاد يحدث منذ ثواني، فقط كي لا يتكرر ما حدث آخر مرة حين عوقبا بخمس ساعات من التدريبات .
” اشكرك دانيار، ادامك الله لي سندًا عزيزي ”
نهض دانيار بسرعة وهو يساعد مهيار لينهض كذلك ينفض له ثيابه، ثم ضمه له في مشهد متكرر لسالار، ابتسم لهما بسخرية لاذعة :
” حقًا ؟! ألم تسئما تلك المشاهد المتكررة ؟؟”
وقبل أن يتحدث أحدهما بشيء استمع الجميع لصوت تحطيم قوي آتٍ من الغرفة المجاورة والتي كانت تقبع بها تبارك، لتنفلت نفس الكلمة السابقة من سالار وهو يهمس برعب متحركًا صوب الغرفة بسرعة :
” تبارك …”
نظر مهيار ودانيار لبعضهما البعض بريبة على ما يحدث، قال مهيار بهدوء :
” إذن هل ندخل ؟؟”
” بل انتظر لنرى الاما ستنتهي الأمور، وحتى ذلك الحين يكون تميم قد عاد بالطبيبة …”
_____________________
كان في طريقه لإحضار طبيبة القصر بسرعة كبيرة كي يتجنب غضب قائده؛ قائده الذي لا يفهم حقًا ما يحدث له، فجأة تحول بشكل غريب، خرج من حالة جموده بشكل ملحوظ.
حسنًا لا اعتقد أن لك علاقة بما يحدث تميم، أنت فقط ستنفذ الآن أوامر قائدك دون مناقشة أو …مهلًا هل هذه صغيرته بيرلي هنا ؟!
توقفت أقدامه عن الحركة حين ابصرها تجلس في أرضية الحديقة جوار أحد المباني، ترفع غطاء وجهها وتجلس رفقة بعض الفتيات، ثواني وابصرها تنهض بسرعة وهي تنفض ثيابها ببسمة جعلته يبتسم دون شعور يراها تتحرك، وقد وصله صوتها وهي تقول :
” علينا العودة للعمل، اعتقد أن الفتيات في طريقهن الآن للمزارع و…..”
توقفت عن الحديث بصدمة كبيرة حين مرت أمام تميم الذي كان واقفًا دون حراك بوجه جامد، لتطلق صرخة مرتعبة وهي ترفع يدها لتنزل غطاء وجهها بسرعة جعلت أعين تميم تتسع في بسمة غير مصدقة يشير لنفسه وهو يجذب ذراعها له :
” أيتها الحمقاء تسيرين بوجه مكشوف وحين ابصرتني سارعتي لتغطيته؟”
كان يتحدث بأعين متسعة من الصدمة، يضيف :
” هل ارتديته لأجلي خصيصًا أم ماذا ؟!”
ولم يكن هذا صحيحًا، لكن برلنت لم تدرك ما يحدث، وكأنها لم تستوعب بعد أن تميم الآن يدرك هويتها جيدًا، الأمر تم دون إرادة منها، يدها تحركت بسرعة لتنزل الغطاء، توترت وهي تحاول التحدث :
” لا لا، أنا فقط تميم، هو … أنت فاجئتني ”
نظر لها تميم بحاجب مرفوع لتبتسم هي بسمة لم تظهر من أسفل غطائها، وملامح الغضب التي تعلو وجهه أثارت عندها موجة ضحك حاولت تداركها قبل أن تعلو .
ولم تنتبه برلنت في غمرة انشغالها بتميم أن كهرمان انسحبت تجر خلفها زمرد بالقوة والتي كانت تأبى التنحي جانبًا لأجل تميم، تهمس بقنوط وحنق :
” ماذا هل سيأخذ رفيقتنا الآن ؟!”
همست لها كهرمان موبخة :
” هو زوجها زمرد ”
” ونحن رفيقاتها كهرمان ”
قلبت الأخيرة نظراتها تتنهد بحنق :
” ليريحني الله من كل تلك المناقشات التي تستنزفني زمرد ”
وعند تميم جذب برلنت جانبًا بقوة وهي تسير خلفه مبتسمة وكأنها لا تعي شيئًا سوى أنها أصبحت واخيرًا قادرة على التحدث معه والوقوف أمامه دون أن تدّعي جهله أو تتعامل معه كالغريب .
وهو فقط كان يحاول أن ينأى بها جانبًا ليتحدث معها بصوت منخفض لا يصل لأحد، وربما يوبخها للجلوس في الخارج في مكان معرضة فيه أن يمر عليها أحد الجنود، وكذلك يوبخها لأمر العمل ..
لكن ما كاد يقف ويفتح فمه للحديث، حتى أبطلت هي كامل حججه الواهية للشجار معها وهي تقول بصوت لطيف ذكره بالصغيرة بيرلي :
” هل تناولت غداءك تميم ؟؟”
حسنًا لقد باغتته وافسدت كل ما حضر له في الطريق لهذا الركن، بالله كيف سيصرخ بها الآن وهي بمثل هذا اللطف ؟؟
تنفس بصوت مرتفع يقول :
” برلنت ”
” بل بيرلي تميم، نادني كما اعتدت قديمًا ”
كانت تتحدث وهي تقترب منه ترفع الغطاء ترفرف برموشها في قوة؛ رغبة منها في استعطافه، وفي الحقيقة هي لم تكن في حاجة لذلك .
أفسد تميم تقدمها وهو يرفع سبابته يضعها على رأسها دافعًا إياها للخلف مرددًا :
” ليس الآن وأنا غاضب، دعيني أخرج ما يعتمر صدري قبل أن ألين لكِ”
نظرت له بعدم فهم ليضع هو يده على وجهها يخفيه خلف قبضته الكبيرة الخشنة مرددًا بجدية :
” وتوقفي عن تحريك رموشك بهذه الطريقة، حتى انتهى ”
تحدثت برلنت بصوت مكتوم من خلف كفه، أجبره مكرهًا أن ينتزع يده وهو يزفر :
” نحن متفقان ؟؟ ”
” على ماذا ؟!”
” على أن تخفضي اسلحتك لحين انتهي من حديثي الجاد برلنت ”
ابتسمت له برلنت بسمة خبيثة تقترب منه أكثر بعدما أحبط زحفها الأول صوبه، لتجمع جيوشها في لحظات معدودة وتعيد هجومها بضراوة تمسك ذراعه بسرعة كبيرة تتعلم من مرتها الاولى وهي تقف أمامه مبتسمة ببراءة هي أبعد ما تكون عنها :
” مالي أراك وقد أصبحت تخشى الأسلحة ؟؟ أوليست تلك صنعتك من الأساس ..سيدي صانع الأسلحة ؟؟”
” عندك تتهدم كل مهاراتي برلنت، منذ متى ونفعتني أصابعي _الماهرة في التعامل مع أي أسلحة _ في التعامل مع خاصتك ؟؟”
أطلقت برلنت تأوهًا تضحك بمرح وهي تتراجع للخلف بعدما قطعت مع جيوشها واسلحتها شوطًا كبيرًا جعلها تشعر بالخطر حين لاحت لها نظراته :
” آه أنت تعزز غروري دون شعور سيدي القائد، وهذا ليس جيدًا لأجلك صدقني ”
” تستحقين برلنت ”
صمت ثم رفع يده يخفض الغطاء على وجهها فقط ليكمل الحديث دون أي تأثر يقول بجدية :
” ما الذي أخبرتك به سابقًا ”
” الكثير من الأمور ”
” ومن بين هذه الأمور الكثير، لم تنتبهي لذكري أمر العمل ؟!”
نظرت له بعدم فهم ليقول بجدية وهو يضع يديه داخل سترته الثقيلة يقول بصرامة :
” اخبرتك أنني لا أرجح عملك برلنت صحيح ؟؟ ليس معنى أنني لم أعلن بعد زواجنا أنني سأسمح لكِ بإكمال حياة سابقة لا أرتضيها لكِ، أنتِ زوجتي وامرأتي برلنت ”
انتفض غرورها الأنثوي بشكل خطير جعلها ترسم بسمة لم يرها هو وجيد أنه فعل كي يتجنب أي خسائر إضافية في صفوفه، بعد خسارته المخزية أمام هجومها السابق .
” لكنني اعتدت الأمر تميم، كما أنني لن أجد مبررًا لتركي العمل بهذه الطريقة ”
” أي مبرر هذا ؟! أنتِ زوجتي ؟! أنا سأخبر المشرفة والجميع أنكِ زوجتي برلنت، ما بكِ هل سنخفي زواجنا ؟؟”
صُدمت حديثه ثم قالت :
” لكن تميم أنا …”
” برلنت رجاءً لا أريد جدالًا في هذا الأمر، اريحي قلبي وارضخي لقراري ”
نظرت له ثواني ثم هزت رأسها تقول :
” حسنًا، لكن وحتى تتضح الأمور أكثر سأظل بالغرفة مع رفيقاتي ”
” الأميرة وصديقتها ؟!”
اتسعت أعين برلنت بصدمة :
” تعرف ؟؟”
أطلق تميم ضحكات مرتفعة يقول :
” اعتقد أن جميع من بالقصر يعرف هويتها عدا الملك، أو ربما لا …”
ولم يدع لها فرصة الاستفسار عن مقصده وهو ينتقل للنقطة الثانية التي أراد التحدث بها :
” غطاء الوجه، طالما أنكِ بالخارج لا أريدك أن ترفعيه، طالما كان المكان الذي تجلسين به معرض لمرور الجنود برلنت، وإن أردتِ الجلوس على راحتك والحديث كما تريدين دون تقييد، فأعتقد أن هناك العديد من الأماكن المناسبة لذلك والتي لا يطأها رجل، لذا اجلسي بها افضل من الجلوس في هذا الركن ”
نظرت له برلنت بخجل تهز رأسها لأجله، ليتنفس هو بصوت منخفض يقول وهو يرفع غطاء وجهها يخفي جسدها بجسده يميل بعض الشيء ليصل لها مبتسمًا بلطف :
” والآن بيرلي أخبريني ما أردتِ قوله ”
رفعت برلنت عيونها له ليبتسم هو بسمته المميزة التي كان يخصها ويستقبلها بها كلما ذهبت إليه، لترد له جميلهُ وتبتسم له نفس بسمتها التي كانت تلقيها له وهي تركض له، وكأنهما في هذه اللحظة تشاركا الذكريات نفسها .
بيرلي الصغيرة تركض بين الحقول المحيطة بمنزليهما وهي تصرخ باسمه :
” تميم انظر ماذا فعلت ؟! صنعت فطيرة توت وحدي ”
رفع تميم رأسه عن الجرة التي كان يصنعها يمنحها بسمة فخورة وهو يقول :
” احسنتي بيرلي، أنتِ ماهرة في كل ما تفعلينه صغيرتي ”
اتسعت برلنت وهي تنظر لوجه تميم أمامها، تميم الحالي، نسخة أكثر نضجًا وجاذبية وروجولة، نسخة جعلت تعلق الطفولة وانجذاب المراهقة يتحولون لعشق دون شعور منها .
ابتسم لها تميم بسمة لم تساعد البتة على تخفيف ما تشعر به وهو يهمس بلطف نفس جملته :
” هل يعجبك ما ترين بيرلي ؟!”
وهي لم تحرمه ردها الذي يحبه تلقي به له :
” أنت وسيم ”
ويل تميم وويل قلبه في تلك اللحظة، لم يعتقد يومًا أنه قد يحبها أكثر مما يفعل، لم يكن هناك إمكانية لذلك حتى وهو وصل لأقصى درجات حبها، لكن الآن يشعر أنه بالفعل يتقدم .
ابتسم لها تميم يدرك مكان وجودهما رغم اختفائهما عن الاعين، ورغم أنها زوجته، لكن لا دينه ولا أخلاقه ولا غيرته تسمح له بعناقها في هذه اللحظة هنا، لذلك ابتعد عن طريقها بعدما أعاد غطاء الرأس:
” ارحلي عزيزتي الآن..”
نظرت له بعدم فهم ليدفعها بلطف :
” اذهبي لأي مكان تحبينه وحينما انتهى مما أفعل نتقابل مساءً في معملي، وسأخبر الملك قبل ذلك بالأمر كله و اساسًا دانيار والقائد يعرفون الـ ”
صمت فجأة بصدمة لتتسع اعينه وهو يهمس :
” يا ويلي، القائد …..”
________________________
رحلت مع زمرد منتوية أن تنتهي من عملها، نعم هي ستعمل هكذا قالت، لكن منذ متى صدقت في شيء يخص عملها ؟؟
تنهدت بصوت مرتفع وهي تتحرك بعيدًا عن الجميع ترى ما ستفعل حتى تنتهي الاعمال، وكذلك زمرد التي منذ وصلوا لمنطقة العمل تلاشت وكأنهم أخذوا وعد صامت ضمني على الافتراق في هذه المنطقة حتى تنتهي فترة العمل .
وها هي تدور في ممرات القصر كلها، تمنح نفسها نشوة كاذبة كانت تشعر بها قديمًا وهي تمسك أطراف فستانها تتحرك بين ممرات قصرها .
أمسكت بالفعل أطراف فستانها الاسود وعلى وجهها غطاء رأس نفس اللون مع بعض خيوط الفضة اللاعمة والتي وضعتها لنفسها كي تكسر حالة الحداد التي تحيا بها هذه الأيام .
تصعد الدرجات الجانبية في القصر وهي تتلمس الجدران حولها شاردة في ذكريات قديمة، لحظات تتمنى عودتها بفارغ الصبر، لكن أي أمل ذلك الذي تحيا به ؟؟
وصلت باقدامها دون شعور صوب طابق علوي لم تعلم عنه شيئًا قبلًا، وابصرت به العديد من النساء اللواتي يتحركن في كل مكان دون غطاء رأس أو حتى حجاب ..
فتحت عيونها بصدمة تهمس بأول شيء خطر برأسها وقد ارعبتها هذه الفكرة :
” ملك يمين ؟؟”
لا لا يعقل أن يكون للملك ملك يمين، هي لم تسمع يومًا بهذا الشيء أو حتى كان الأمر مألوفًا لدى ملوك هذه المملكة تحديدًا، لكن ما التفسير لكل هؤلاء النساء اللواتي يسرن بحرية كبيرة في المكان ؟!
فجأة اصطدم بفتاة قصيرة القاعة صاحبة شعر اسود قصير ونظرات لطيفة وهي تقول :
” معذرة منك، لم انتبه لكِ ”
هزت لها كهرمان رأسها دون وعي وهي تنظر حولها بتفكير، لتسمع صوت الفتاة تقول بجدية :
” هل أنتِ من الفرقة الراقصة ؟! ”
نظرت لها كهرمان بعدم فهم :
” عفوًا ؟؟”
” الفرقة الراقصة التي ستحيي حفلة النساء يوم العيد الوطني، أنتِ منها ؟؟”
” ماذا؟؟ آه نعم صحيح .. أنا من ..”
صمتت فجأة تستوعب ما قالت وهي حتى لا تفقه أي عيد وطني هذا و…مهلًا العيد الوطني لسفيد والذي يصادف كذلك عيد الممالك الأربعة، يوم أُنشأت جميع الممالك .
كيف نست وهي من كانت تتولى كل عام تنظيم الحفلة الخاصة بالنساء والتي تتكون من رقصات لبعض الفرق النسائية مع قرع الدف، بعيدًا عن حفلة الرجال والتي كانت تعتمد اعتماد كلي على تناول الطعام والأحاديث المتبادلة والتهاني، ومن ثم يجتمع الكل في ساحة المملكة لسماع كلمة الملك حول أمور عديدة، ثم تحين لحظة توزيع الهدايا على الشعب والتي يخصصها لهم الملك .
أمور جعلتها تشعر بالوجع داخل صدرها، أتى العيد ودولتها حزينة، وأي عيد ذلك الذي سيحياه شعبها وهم حتى لا يستطيعون عيش أيامهم العادية بسلام ؟؟
لكِ الله يا مشكى …
أفاقت على يد الفتاة التي جذبتها معها وهي تقول :
” إذن تعالي معي لارشدك حيث الجميع ”
حاولت كهرمان جذب يدها من الفتاة رافضة وبشدة الأمر :
” ماذا ؟؟ لا لا أنا لست منهم، أنا لا أريد ذلك، لقد جئت هنا بالخـ …”
وقبل أن تكمل كلمتها وجدت نفسها قد أُلقيت في غرفة فسيحة تمتلئ بالستائر البيضاء التي ترفرف وهناك العديد من الارائك المخملية التي تنتشر في المكان والكثير من الفتيات يتمايلن في الأركان وأخريات يضربن الدف بحركات معينة، وواحدة تغني بصوت عذب للغاية .
اشياء أعادت لها ذكريات غير مرحب بها، نظرت للجميع وهي ترى واحدة تقترب منها تجذبها صوب الحلقات النسائية تنزع عنها غطاء الوجه وهي تردد :
” هيا يا ابنتي ليس لدينا وقت لنضيعه، علينا التجهز ”
وفي هذه اللحظة شعرت كهرمان بالجميع يدور من حولها وهي تنظر لها من بين رموشها وخيالات أخرى تراودها لفتيات اخريات…ولها .
تدور في الغرفة أمام جميع الفتيات بحرية وخصلات شعرها تتطاير وهي ترقص بدلال وقوة، صفتان متنافرتان استطاعت الجمع بينهما بكل غرابة .
ابتسمت وهي تغمز لوالدتها، ثم بدأت تميل للخلف لتدلى خصلاتها حتى لمست الأرض محركة أكتافها برشاقة كبيرة، ومن ثم اعتدلت تحرك ذراعيها في الهواء وهي تدور بين الجميع ببسمة واسعة .
فجأة أطلقت شهقة حين شعرت بيد المرأة تقول :
” ما بكِ يا ابنتي ؟؟ هل أنتِ بخير ؟!”
نظرت كهرمان حولها للجميع بصدمة قبل أن تعتذر بكلمات خافتة :
” أنا…أنا آسفة..”
وفي سرعة مخيفة كانت تركض خارج الغرفة والطابق كله تهبط الدرجة تركض بخطوات واسعة، دون وعي تبعد عنها اطياف الماضي، تركض دون شعور تحاول صم أذنها عن صوت غناء والدتها وصوت ضحكات شقيقها وهو يسخر منها بقوله :
” دعكِ من هذه الامور كهرمان، لا تدعي أمي تفسدك، وتعالي نكمل تدريبات الأمس التي هربتي منها يا فتاة …”
سقطت دموعها ترى من بينهم البوابة التي تقودها للخارج، ستخرج تختبئ في أحد الأماكن وتبكي بكل جبن كعادتها، لكن وقبل أن تصل اعترضها جسد لتصطدم فيه بقوة، لكنها لم تتوقف لترى من هو تكمل ركضها .
ولم تكد تعبر بوابة القصر إلا وسمعت صوتًا جاء من خلفها بصرامة يقول :
” غطاء وجهك ..”
توقفت كهرمان فجأة لا تعي ما يحدث، تتحسس وجهها لتدرك فجأة أنها دون غطاء، ابتلعت ريقها تخفي وجهها، ثم استدرات ببطء لتُصدم برؤيته يحدق فيها بهدوء شديد وملامح باردة جامدة :
” غير مسموح لأي امرأة داخل جدران القصر بالسير دون غطاء الوجه، المرة المقبلة التي تخالفين فيها هذه القوانين سأتأكد بنفسي أن تنالي عقابك ”
كانت كلماته قوية صارمة جعلت صدر كهرمان يشتعل بالغضب، هي حقًا في هذه اللحظة تشعر بحسرة وقهر تبدلوا لغضب، لا ينقصها وأوامر من أحد ومنه خاصة، لذلك تجرأت وتخطت كامل حدودها .
اندفعت داخلها رغبة غبية بمخالفة أوامره لذلك دون شعور خطت للخلف وهي ما تزال تنظر له، وحين أصبحت خارج بوابة القصر، وعلى اعتاب الحديقة، رفعت الغطاء متغاضية عن أي اعتبارات تنظر له بهدوء وبسمة صغيرة :
” ها أنا أصبحت خارج جدران القصر، وتلك القوانين تشمل منطقة الرجال والقصر والحدائق الجانبية، إذن قوانيتك لا تسري عليّ الآن مولاي ”
اتسعت بسمتها لرؤية اتساع عيونه بصدمة مما فعلت، خالفت قوانينه واوامره، هي من كانت تكتفي بحجابها داخل قصرها ولم تعتد اخفاء وجهها طوال الوقت حيث ممنوع على الراجال رفع عيونهم في أي امرأة، كما تسير الأمور هنا، لكن تحسبًا لأي فتنة أو وسوسة شيطان يزين لهم نظرة، أوليس هذا ما حدث معهم ؟؟
أمسكت أطراف فستانها وكأنها تخبره بشكل غير مباشر أن أوامره لا تسير عليها هي تقول بهدوء :
” اعذرني مولاي فلدي أعمال عليّ القيام بها ”
مالت برأسها نصف ميلة، ثم رفعتها ببساطة تتحرك بعيدًا عنه تحت أعين إيفان المصدومة والذي شعر في هذه اللحظة برغبة عارمة بالقتل، تحرك بشكل مرعب داخل قصره وهو يحاول ايجاد من يفجر به غضبه، تحدته بقوانينه .
غاضب حارق أصاب صدره …
وهي بمجرد أن استدارت انزلت غطاء الوجه تتحرك بقوة ولم يعد يعنيها أن يتعرف عليها أو لا، شعرت بأنها ملت كل ذلك، ملت واصابها اختناق شديد أدى لانفجارها …
__________________
حاولت أن تستوعب ما يحدث حولها في هذه اللحظة، أين كانت وأين أصبحت، وما هذا الهدوء حولها، منذ متى كان فراشها في المشفى أو حتى منزلها بمثل هذه الراحة، أو الهدوء ؟؟
حسنًا التفسير الوحيد لمثل هذه الراحة التي تشعر بها هي أنها واخيرًا انتقلت لجوار ربها، وكم أسعدتها هذه الفكرة، أن يحدث ذلك بعد توبتها واعتزالها جميع مفاسد حياتها التي انغمست بها سابقًا، مريحة تلك الفكرة أن ترحل وأنت شاعر بالرضا وقد تبت عما سلف ..
فيا حسرة من يدركه الموت قبل التوبة .
تنهدت تبارك براحة شديدة تحاول التنفس بشكل طبيعي، لكن وحين فعلت شعرت برائحة اعشاب حولها، رائحة تفوح بقوة كما لو أنها في ..
” عطارة ؟؟؟”
فتحت عيونها تزامنًا مع خروج تلك الكلمة منها بعدم فهم لما يحدث حولها، ولم تبصر سوى السقف فوقها وعيونها تتحرك في كل مكان بحثًا عن إشارة تخبرها أنها بخير .
” هل أنتِ بخير ؟!”
” ماهو هو ده اللي بحاول أعرفه، أنا بخير ؟ أنا مت طيب ؟؟ أنا في القبر ؟!”
هز سالار رأسه وهو يقف بعيدًا عن الفراش يتنفس الصعداء بعدما اطمئن عليها يشاهد خيالها ارضًا يتحرك ليدرك أنها اعتدلت في جلستها فرفع عيونه لها يقول بهدوء :
” سأعتبر أن فقدانك لعقلك أمر طبيعي، لذلك نعم أنتِ بخير ولله الحمد ”
استدارت تبارك صوبه ببطء وهي لا تعي بعد ما يحدث حولها :
” أنا فين ؟؟”
” في المشفى ”
” الشيفت بتاعي بدأ ولا ايه ؟!”
كانت تتحدث وهي تشعر بعيونها تكاد تنغلق دون إرادة منها، وسالار رمقها بعدم فهم، لا يدرك ما تقصد لكنه قال :
” أنا لا افهم ما تريدين، لكن أنتِ سقطتي ارضًا شاحبة كالاموات، ما الذي تعانين منه ؟!”
قالت تبارك بصوت منخفض وهي تتحرك برأسها صوبه :
” صداع، الصداع هيموتني، وراسي …حاسة إن حد ضربني عليها بعصاية”
رفع حاجبه يقول بتذكر :
” لا أنتِ فقط سقطتي ارضًا بعنف، لربما لهذا السبب ”
” محدش لحقني ؟؟ ”
” لا لم يفعل أحد ”
هزت رأسها وهي تنظر أمامها تقول بصوت منخفض :
” أنا عطشانة ”
تحرك سالار صوب إحدى القوارير التي يضعها مهيار على النافذة لتبرد، ثم اقترب منها يعطيها لها وهي ارتشفت حتى اكتفت، ثم نظرت له تقول :
” أنا فين ؟؟”
اتسعت عيون سالار يسحب منها القارورة :
” ما بكِ يا امرأة أخبرتك أننا في المشفى، هل أثرت الوقعة على عقلك؟! أنتِ بالأساس لا ينقصك شيئًا لتفقدي ما تبقى من عقلك ”
” بعمل ايه في المستشفى ؟!”
سحب سالار مقعده ثم جلس أمامها وكأنه على وشك نزع اعتراف مجرم :
” هذا سؤالي أنا، ما الذي جاء بكِ هنا وما هو مرضك الذي تعانين منه وترفعتي عن اخبارنا به ؟!”
نظرت له تبارك ثواني وهي تشعر بالدنيا تدور حولها، ليس لارهاقها، لكن لأنه كان آخر شخص تود أن يعلم عن مرضها، هو دون شيء يعاملها كما للاطفال اللذين لا يفقهون شيئًا، ينتقد ضعفها ويكرهه، ماذا إن علم أنها مريضة بمرض مزمن نفذ علاجه منها ؟؟
” أنا… أنا فقط كنت أشعر بالإرهاق بسبب …بسبب … آه صحيح، كنت أشعر بالإرهاق لأنكم تهملون طعامي ”
” حتى في الكذب فاشلة، توقفي عن الكذب حين تضيق بكِ الأحاديث، إن لم تودي التحدث بأمر فقط قولي أنك لا تودين ذلك عوضًا عن الكذب ”
نظرت له بقوة تستخدم حديثه ضده :
” حسنًا إذن أنا لا أود الحديث ”
ابتسم لها بسمة مستفزة يقول :
” بلى ستفعلين، أخبرك هذه الحجة لتخبري بها الجميع عداي، أنا استثناء هنا، والآن مولاتي تكرمي واخبريني مما تعانين أنتِ ؟!”
نظرت في عيونه بصدمة لتلك الكلمات، لكنها عادت وأبعدت عيونها عنه ترفض الحديث وهو ابتسم بغيظ يقول :
” مرض السكري ؟؟”
اتسعت عيونها بقوة تستدير له بصدمة هامسة بكل غباء :
” أنت عرفت ؟؟”
ابتسم بانتصار يخفي خلفه غضب شديد منها :
” لِمَ اخفيتي الأمر عنـ…عنا ؟؟ ”
كاد يخبرها ( عني ) لكن للحظات قليلة، أدرك أنه لا يعنيه أن يعلم الأمر على وجه الخصوص، بل المفترض ألا تخفيه عنهم جميعًا كي يهتموا بها، فهذا المرض له علاج مكثف هنا، ومن رحمة الله بها، أن هناك العديد من النباتات النادرة التي تساعدهم في التعايش مع هذا المرض حتى يصلوا لحل جذري ..
نظرت له تبارك ترفع حاجبها بشكل لم يعجبه إذ شعر أنها تسخر منه دون الحديث، وها هي السخرية بالحديث تأتيه :
” بجد والله ؟! هو أنت ناقص سبب عشان تستضعفني عشانه ؟؟”
دُهش سالار لحديثها ذلك :
” استضعفك ؟! يا امرأة هل فهمتي جميع افعالي بهذا الشكل ؟؟”
هزت رأسها بنعم وهي تتراجع للخلف برعب من نظراته، ليعض هو شفتيه بغضب :
” لا عجب أنكِ حمقاء مولاتي . ”
” وعلى ايه مولاتي ؟! قولي يا بت يا تبارك ”
” لا استطيع نزع الألقاب ”
باستثناء مرتين فقط خرجوا دون إرادة مني، لكن حتى هذه اللحظة لم استوعب بعد الأمر، نادى الملكة باسمها ويجلس معها في هذه اللحظة يحاول انتزاع كلمة منه ليتأكد أنها بخير حال .
ما هذا الحال السخيف الذي وصل له ؟؟
وتبارك لم تكن تعي هذا الامر، وهي تسخر من جملته السابقة غافلة عن شروده في افكار بعيدة عنها وتدور حولها .
” لا تستطيع نزع الألقاب، لكن بتنزع الاحترام عادي، يا جدع بتحرجني بأخلاقـ ”
فجأة انتفض سالار بشكل ملحوظ أدى لانتفاضها هي كذلك على الفراش تتراجع للخلف بريبة وهي تنظر له بخوف كأنه سينقض عليها ويقطعها اربًا، وهو قال دون مقدمات حين وصل لنقطة غير محمودة :
” حسنًا بما أنكِ بخير سأرحل وأرسل لكِ فتاة تبقى جوارك وكذلك سأعلم الملك بما حدث و ….”
وقبل الرحيل أوقفته تبارك بسرعة كبيرة وهي تقول :
” لحظة يا قائد ..”
توقف ينظر لها بملامح جامدة تخفي خلفها الكثير، وهي لم تهتم وهي تقول بصوت خافت :
” هل ..هل يمكنك كتمان الأمر، رجاءً لا داعي ليعلم أحد بخصوص مرضي، ارجوك هذا الأمر لن يشعرني بالراحة ”
نظر لها وود لو يخبرها أن هناك ثلاثة آخرين شهدوا مرضها، لكنه رغم ذلك لم يملك سوى أن هز رأسه بهدوء يميل لها نصف ميلة وهو يقول :
” أوامرك مولاتي ”
ابتسمت تبارك بسمة واسعة وقد اعجبتها تلك الكلمة وهذه الطاعة البادية اعلى وجهه :
” الأمر لله وحده، بس لو مش هزعجك يعني ممكن تبعتلي حد بالاكل، لأحسن صاحية كده حاسة بهبوط”
” هبوط ؟؟ أي هبوط ؟؟ هبوط ماذا ؟؟”
نظرت له بعدم فهم وهو يقف ينتظر منها تفسير عما قالت وهي ظلت تنظر له طويلًا حتى انتبهت أنه ما يزال واقفًا :
” أنت مستني إجابة بجد ؟؟”
” نعم ”
نظرت له طويلًا وهي تقول :
” شيء أشبه بشعور الجوع مع الإرهاق و….بقولك ايه ما تجيبلي اكل أنا مش عارفة اركز في حاجة، أكلني وانا هقولك يعني ايه هبوط ”
انتبه سالار أنه ما يزال يقف مكانه بعدما كان قد قرر الرحيل والآن فقط انتبه، نفخ بعنف، ثم خرج من الغرفة دون كلمة واحدة وهي عادت برأسها على الفراش تقول :
” أنا لو مموتش من المرض، هموت يا بسبب المجاعة دي، يا بسببك …”
لكن ورغم كل ذلك هي شعرت في جزء داخل اللاوعي خاصتها بسعادة غريبة، هو خاف عليها واحضرها هنا، إذن هو إنسان في النهاية …….
_______________________
انتزع الورقة وفاز بها بكل استحقاقية، تتساءلون الآن عن مقدار فرحته المبالغ بها بالحصول على ورقة الاعشاب المطلوبة لأجل الملكة من بين انامل سالار، بخبركم أنها أكبر من مجرد فرحة ..
وصل أمام المحل الخاص بها يتنفس بصوت مرتفع ولا يدرك متى نمت تلك اللهفة داخل صدره لرؤيتها هو فقط لا يدرك سوى أنه وحين شعر بابتعادها جُن جنونه مدركًا حقيقة تملكه لها، حقيقة في منتهى الأنانية، لكنه يقبل بها .
دفع باب المحل ببطء شديد يتحرك للداخل يبحث بعيونه عنها يود لو يبصرها فهو يستحق أن يظفر بنظرة منها بعد كل تلك المعركة في إقناع سالار ..
لكن تحطم كل ذلك مع سماع كلمات والدها وهو يتحدث بصوت مهلل :
” مرحبًا مهيار ”
ابتسم مهيار بسمة صغيرة اقتنصها بصعوبة من بين تدافاعات الحسرة داخله :
” مرحبًا يا عم، كيف حالك؟؟”
” بخير حال الحمدلله، كيف أنت والجميع بالقصر ؟؟”
” نحن بخير لا تقلق ”
صمت يفكر فيما سيفعل، هل ينسحب الآن ويخبره أنه مر للتحية فقط ويحتفظ بحجته الذهبية ليكرر المحاولة مرة أخرى عله يكتب له التوفيق بها ؟! وإن فعل ذلك فالملكة تحتاج العلاج بسرعة وهو لن يكون بمثل هذه الأنانية .
تنهد يضع ورقة أمام العم وهو يقول بصوت خافت :
” رجاءً أود هذه الأعشاب ”
نظر الرجل في الورقة قليلًا قبل أن يبتسم ويأخذها ليحضرها، وهو وقف مكانه ينظر هنا وهناك، يحرك عيونه في المحل بملل، ما الذي منعها الحضور اليوم ؟! ألم تعلم أنه سيأتي ؟؟
سمع صوت العم يعود وهو يردد :
” لقد وجدت لك البعض مما تحتاجه يا مهيار، لكن لم أجد لك الاعشاب فهي نادرة للغاية ولم احصل منها على كمية كبيرة هذا الشهر ”
نظر له مهيار ينتزع نفسه قسرًا من حالة التيه الخاصة به وهو يجادله :
” كيف ذلك، لا أرجوك أن تحاول البحث عنها في أسرع وقت فنحن في أمس الحاجة لها يا عم، سيعطيك الملك كل ما تملك مقابل تلك الأعشاب ”
نظر له الرجل بتعجب ثم قال :
” يا بني الأمر لا يعتمد على الأموال، لكن هي بالفعل نادرة وتنبت على مدار أعوام طويلة، لكن إن أردت فأنا احتفظ بالبعض منها في منزلي فأنت تدرك حالة زوجتي الصحية، لربما استطيع اعطائك البعض منها حتى اتدبر كمية أخرى”
اتسعت بسمة مهيار براحة شديدة، يميل على مكتب الرجل :
” نعم ارجوك، يمكنني الذهاب وأخذها من المنزل الخاص بك، أو أخبر أحدهم أن ينتظرني بها أمام المنزل ”
هز الرجل رأسه يقول بهدوء :
” حسنًا أعتقد أن زوجتي في المنزل الآن، يمكنك الذهاب والطلب منها وهي ستعطيك ما تريد ”
ابتسم مهيار يصافح الرجل مودعًا شاكرًا :
” اشكرك يا عم سيقدر الملك صنيعك هذا وبشدة ”
رحل بسرعة كبيرة سعيدًا مبتسمًا، ليس لأنه تدبر في الاعشاب المطلوبة للملكة، بل لأن فرصة لقياها أضحت ممكنة الآن .
توقف أمام منزلها يتنفس وهو يدعو الله أن تكون بالداخل وألا تخيب ظنه للمرة الثانية، واخيرًا ابتسمت له الحياة حين وصل لمسامعه صوتها تردد :
” لحظة واحدة ”
ثواني هي حتى فتحت الباب تستقبل القادم، لتتسع عيونها بصدمة حين أبصرت وجهه تردد :
” سيدي الطبيب ”
وكلمة «قلبه » كادت تهرب من بين شفتيه، لكن آخر ذرات تعقله أمسكت بها تربطها مجددًا في عمود رزانته وهو يردد :
” نعم، مرحبًا ليلا .”
أفق مهيار هذا العشق وهذا الوله لا يليق بك، أنت هادئ عاقل، لا يعقل أن هذا الاندفاع تولد داخلك بين ليلة وضحاها .
تنهد يرى صمته طال ونظراتها المتسائلة ازدادت تعجبًا ليقول بهدوء :
” جئت لأخذ بعض الأعشاب التي يحتفظ بها العم هنا، هو من أرسلني ”
” أبي ؟؟”
” نعم، هذه الأعشاب ”
مد يده بالورقة لها لتبصر اسم الاعشاب التي يريدها وهو أخذ يوضح لها الأمر لتهز رأسها بهدوء تبتعد عن الباب بهدوء تقول مخفضة نظراتها :
” معذرة والدتي ليست هنا ”
” لا بأس، احضري لي الاعشاب لارحل ليلا ”
هزت رأسها تتحرك للداخل تجاهد حتة تحفظ دقات قلبها بخير، بينما هو ابتسم بسمة صغيرة يستند على الجدار الخاص بالمنزل في انتظار عودتها بما جاء لأجله، راضيًا بنظرات صغيرة حتى تصبح له ومعه للأبد.
لكن تلك الغمامة الوردية تفجرت حين وصل له بعض الهمسات من النساء في المنازل حوله، همسات غريبة لا يفهم لها معنى ولم يهتم بها، ومنذ متى ألقى أذنه لهمسات النساء ؟!
لكن أن تحتوي تلك الهمسات على اسمها أمر جذب انتباهه يحاول معرفة ما يتحدثن به، لكن لم يسمع سوى كلمات كـ
” مسكينة ”
” كل يوم يأتي منزلهم رجل ويغادر وهي باقية ”
” عسى أن يرزقها الله من يتقبلها بما هي عليه ”
لم يفهم مهيار كلمة مما تدور حوله ولم يهتم لهن وهو يرى ليلا تقترب منه ومعها عبوة زجاجية بها بعض الأعشاب التي يحتاجها تقول ببسمة صغيرة :
” تفضل هذا ما تحتاجه”
” شكرًا لك ليلا ”
نظرت له بخجل وقد تراقص قلبها لهمسته تلك باسمها تهز رأسها وهي تقول بصوت منخفض :
” لا داعي للشكر سيد مهيار، بالشفاء العاجل لصاحب الاعشاب ”
ابتسم لها بسمة صغيرة ينظر لعيونها نظرة أثارت تعجبها قبل أن يتجرأ ويقول :
” أدري أن الأمور لا تسير بهذه الطريقة ليلا، لكن قريبًا وفي المرة القادمة التي سأطرق بها بابك، لن أرحل إلا بكلمتك ووعدك لي ”
” وعد ؟؟”
ابتسم لها يقول بلطف يميل لها بكل رقي :
” وعد ستُبنى عليه حياتي القادمة، آنستي ”
نظرت له بتعجب وقبل الحديث بكلمة استأذن منها بكلمات غامضة، تاركًا إياها واقفة تحاول فك خيوط غموضه ومعرفة حل الغازه، وقبل أن تغلق الباب أبصرت نظرات النسوة المشفقة من حولها لتتعجب وهي تستأذنهم الرحيل وتغلق الباب :
” ما الذي يقصده يا ترى ؟؟”
__________________
الغد موعدهم وما أقرب الغد .
نظر لجدران القصر وكأنه يشاركها لحظاته الأخيرة قبل رحيله بقيادة جيشه لمواجهة في بافل ورجاله .
توقف أمام جناح الملك يطلب اذنًا بالدخول، سرعان ما أتاه ليخطو داخل الجناح الهادئ المظلم يرى جسد إيفان يتوسط الفراش بشكل غريب، كمن فقد الحياة وسلّم بالموت .
اقترب منه بهدوء يقول بصوت منخفض :
” مولاي ..”
” إيفان ”
رفع رأسه قليلًا ينظر لعيون سالار، ثم ابتسم بسمة مرهقة يقول :
” فقط إيفان سالار، نحن لسنا في العمل الآن”
صمت يريح رأسه مجددًا يشير على الفراش جواره ليبتسم له سالار بسمة صغيرة يتحرك صوبه وهو ينزع حذاءه يقول بهدوء :
” إذن ما الذي حدث ؟؟”
” أنت من جاء يزعج انفرادي بذاتي، فلا تسألني ما الذي حدث ”
ضحك سالار ضحكة خافتة يلقي جسده جوار إيفان يشاركه التحديق بالسقف وهو يهتف :
” إذن هل ستخبرني ما يؤرقك منذ أيام إيفان ؟؟”
” آه يا سالار مالي ووجع الرأس أنا؟ منذ جلست على ذلك العرش ولم يمر بي يومًا إلا وظهر لي شيء يؤرقني ”
صمت ثم قال بنبرة حنين :
” النفس تهفو لرحلة طويلة بالقرب من البحرية معك ومع … أرسلان”
نظر له سالار ثواني قبل أن يبتسم :
” إذن تعترف الآن أنك تشتاق أرسلان ؟؟”
نظر له إيفان بدهشة يقول دون مواراة :
” ومتى لم أفعل سالار ؟؟ أنت تدرك جيدًا دون غيرك أن الأمور بيني وبين أرسلان لم تكن بمثل هذه البساطة لتنتهي بـ ..”
” صفعة ؟؟”
كلمة مستفزة قالها سالار بغرض الضغط على جرحه لإخراج قيحه، وهو فقط أحمر وجهه ينتفض عن الفراش متحركًا بعيدًا عنه وكأنه يود تجنيب رفيقه نيران غضبه التي ظهرت في عيونه .
” تلك الصفعة ما يزال صداها يرن في أذني، لكن ودون إرادة مني تغطي أصوات ضحكات أرسلان أذني”
صمت ثواني ثم استدار له يقول بصوت منخفض يهمس بكلمات لم يصرح بها حتى لنفسه :
” سالار، أنا لم أكره أرسلان لحظة واحدة ولم اغضب منه، أتعلم أنه لو كان تنازل عن كبريائه الاحمق للحظة واحدة وجاء يعتذر لي، اقسم أنني كنت سألقي بكامل عداوتنا عرض الحائط واجذبه لاحضاني أخبره أنه احمق ليظن أنني قد اغضب منه ”
مسح وجهه يكره ذلك الوجع الذي يملئ صدره حين يتذكر أيامه مع أرسلان، يحاول الابتسام وهو يترحم عليه في صدره ثم قال بهدوء يغير الحديث كي لا يظهر ضعفه امام سالار :
” إذن جئت لي لأجل أمرٍ ما ؟؟ أم أنك تذكرت وجود رفيقًا لك لم تجلس معه منذ أسابيع جلسة هادئة ؟؟”
نظر له سالار ثواني يقول ببسمة صغيرة :
” تريد مجاملة أم حقيقة ؟!”
أطلقت إيفان ضحكات عالية يدرك جيدًا أنه حتى وإن اختار المجاملة فهو لن يخبره بها، لأن سالار باختصار لا يجامل أحدهم .
” هات ما عندك سالار ”
نظر له سالار ثواني قبل أن يقول بصوت خافت بعد صمت لثواني :
” جلالة الملكة ….”
______________________
تجلس في الغرفة بعد عودته وهو يجلس أمامها ينتزع منها بعض الاشياء التي تخص مرضها، يسجل كل ما تقوله في دفتر أمامه وكأنه يحاول الاستفادة منها قدر الإمكان.
وحين انتهت قالت بهدوء :
” أنا بخير الآن، متى سأخرج ؟!”
نظر لها ثواني وكأنه يفكر في حديثها :
” حسنًا أنا لا أدري، ماذا تعتقدين أنتِ، أخشى إن خرجتي تسقطين ارضًا مرة أخرى ولا يجد القائد غير جسدي ليتدرب عليه ”
نظرت له تضيق عيونها وهي ترى نظرات مهيار المترددة وكأن ذلك السالار يثير رعب جميع قاطني هذا القصر :
” هل يمتلك صلاحيات عليك ؟! أنت لست أحد أفراد جيشه ”
نظر لها مهيار ثواني قبل أن يقول :
” في الواقع أنا كذلك، فأنا طبيب الجيش الأول، اعمل في المقام الأول لمعالجة الجنود، ثم أفراد هذا القصر، في الحروب أذهب معهم وهذا يضعني تحت مسؤولية القائد، إذن الحصيلة هي أن اوامره تسري عليّ ”
صمت ثواني ثم مال عليها يهمس بصوت منخفض :
” أوتعلمين شيئًا ؟؟ كلمة القائد سالار تسير على جميع قاطني هذا القصر بلا استثناء عدا أربعة فقط .”
نظرت له بفضول اشتد لتعلم ما يقصد وهو بدأ يعد على أصابعه :
” الملك لأنه يحترمه، والملكة الأم تحميها مكانتها من بطشه، والعريف لأنه لا يهتم إن قُتل على يده، وبومة العريف التي تستطيع الاختفاء من أمامه حين يغضب ”
توقف عن تعديد من نجوا من بطش سالار، وكم تمنت لو نطق بالخطأ اسمها في تلك القائمة، لكم أرادت أن تكون من هؤلاء المحظوظين الذين استثناهم من بطشه .
لكن على من تضحك، إن نجى الجميع من بطشه فهي الوحيدة التي لن تفعل .
أنت تقول بصوت منخفض :
” هل القائد سالار يعاني ماضيًا محزنًا تسبب في بناء شخصية متجبرة كشخصيته ؟!”
نظر لها مهيار ثواني وكأنه يفكر في الأمر، ولكنه في النهاية هز كتفه بهدوء يقول :
” لا أدري حقًا ولا أعتقد أن أحدهم يعلم ما حدث في حياة القائد عدا الملك إيفان وارسلان، فهم كانوا اصدقاء طفولته، لكن كل ما أعرفه أنه تربى وترعرع في هذا القصر منذ الصغر حتى نضج واستحق مكانة قائد الجيوش الأول”
في هذه اللحظة اندفع جسد الملك للغرفة بعد طرقة صغيرة للباب يقول بلهفة وخوف شديد مرتديًا ثياب عادية لا تمت لمكانته كملك بصلة .
أقترب منها يقول بهدوء شديد :
” مرحبًا مولاتي، كيف حالك ؟؟ أخبرني سالار أنكِ مرضتي فجأة ”
ابتسمت تبارك بسمة صغيرة ترحب به بخفوت :
” مرحبًا مولاي، أنا بخير لا تقلق، فقط ..بعض الإرهاق ليس إلا”
ابتسم لها بهدوء يجذب أحد المقاعد يجلس أمامها يقول باهتمام شديد نابع من جزء داخل قلبه لا يعلم له من دافع فقط يعلم أنه يهتم بها و يزعجه أن تعاني، صمت ثواني ثم نطق بلطف :
” إذن ربنا يمكننا أن نؤجل دروسك الأيام القادمة كي تستردين عافيتك، ما رأيك سالار ؟؟”
رفعت رأسها حين سمعت صوته لتتفاجئ به يستند على باب الغرفة بهدوء يقول :
” لا، لا تأجيل، هي بخير كما ترى إيفان”
اتسعت أعين تبارك وهي تنظر بصدمة لمهيار تسأله بعيونها أهذا هو الملك الذي وضعته في أول القائمة الآمنة من هذا الطاغية ؟؟
ومهيار هز كتفه دون فهم .
نظر إيفان بحنق لسالار الذي قال بهدوء :
” لا تنظر لي هكذا، أنا أتحدث معك الآن كرفيق وليس كملك ”
” إذن حدثني كملك ونفذ ما آمرك به سالار ”
هزت تبارك رأسها ترسم حنقًا على ملامحها وكأنها تشجع إيفان هامسة لنفسها :
” أيوة اديله في جنابه”
لكن الرد جاءهم من سالار يقول :
” حين ترتدي تاجك وثيابك الملكية، سأعاملك بهذا الشكل، وحتى ذلك الحين، لا طلبك مرفوض أنا لا اتهاون في التدريبات وأنت تعلم ذلك حسن وكلت لي أمر تعليمها بنفسي ”
زفر إيفان بصوت مرتفع يتمتم غاضبًا بشكل جعل سالار يبتسم وكأنه سعيد بهذه النتيجة، وتبارك تراقبه بغضب وملامحه غير راضية المرة كأنها تسأله ( ما هي متعتك في تعكير صفو الآخرين ؟)
زفر إيفان يتجاهل سالار وهو يقول :
” دعكي منه الآن سأتعامل معه، أنا فقط أردت الاطمئنان عليكِ قبل الغد، وأيضًا أردت اخبارك أنني فخورٌ بكِ ملكة تبارك، أخبرني كلّ من تميم ودانيار حجم تقدمك في التدريبات ”
نظرت خلفه صوب سالار وكأنها تسأله ماذا عنك؟! ألم تخبره مقدار النجاح الساحق الذي حققته عليك ؟؟
وهو بادلها النظرات بأخرى ساخرة .
وتلك البسمة لم تصمتها إذ نظرت لإيفان تقول :
” ماذا عن المبارزة ؟! ألم يخبرك معلمي مقدار النجاح الذي حققته ؟؟”
تنحنح إيفان يقول ببسمة صغيرة :
” اعتقد أنك اصبحتي تعلمين أي نوع من الأشخاص هو سالار، لذلك طالما أنه منحك هذه النظرة فاثق أنك تبلين حسنًا وقد أصبحتِ على أعتاب منافسته شخصيًا ”
رفع سالار حاجبه بحنق وبسمة جانبية ارتسمت على فمه، وهي أخذت حديث الملك على محمل الجد تبتسم بسعادة كبيرة جعلت سالار يزفر بحنق :
” الآن سأسلمها سيفي ودرعي وتقود هي الحروب بدلًا مني ..”
لكن الملك لم يهتم لكلماته فقط منحها بسمة لطيفة، ثم نهض يقول :
” إذن اعتقد أنه وجب عليَّ ترككِ ترتاحين وغدًا قبل الرحيل القاكِ ”
وضع يده موضع صدره، ثم مال نصف ميلة يردد بصوت منخفض :
” ليلة سعيدة مولاتي ”
وبهذه الكلمات ختم إيفان الحديث بينهما وتحرك للخارج يمر جوار سالار الذي منحها نظرة من أعينه التي ضيقها يقول بجدية :
” حينما اعود من الحرب، أجدك تنتظرين في ساحة القتال، وهذه المرة أعدك أن احقق احلام الملك بجعلك منافسة لي، تصبحين على خير …مولاتي ”
تحرك بعيدًا عن الغرفة يتنفس بصوت منخفض تاركًا تبارك ترمقه بصدمة كبيرة وهي تردد الكلمة الوحيدة التي استوعبتها من حديثه :
” حرب ؟؟ أي حرب ؟؟”
__________________
هذه حرب والنجاة فيها مسألة توفيق من الله واجتهاد، وهو قد لا تكتب له النجاة في الغد، لا يبتأس ولا يحزن لأجل ذلك، فهو إن رحل سيرحل شهيدًا وهذا لا يحزنه ..
وعلى غرار حرب الغد أتخذ قرارًا متهورًا نبع من ضعفٍ غريب اكتنف جميع اجزاء جسده، لا يدري كيف نكث عهده الاول مع نفسه، لهذه الدرجة أصبح ضعيفًا أمامها ؟!
تنفس بصوت مرتفع يجلس داخل الحديقة التي تتمرن بها يوميًا يحمل بين كفيه سيفها، سيعيده لها، ربما تكون آخر ذكرى له معها وهو يودها أن تكون سعيدة .
ظل حاليًا وقت طويل حتى مل وعلم أنها لن تأتي في هذه اللحظة :
” لا تخبروني أنها تابت، حين انتظرتها لم تأتي، وحين حاولت تجنبها تظل تقفز في وجهي ”
مسح وجهه يشعر بالحنق الشديد، ثم أمسك السيف يتحرك به داخل القصر وقد لغى تلك الفكرة كليًا، هو أعطاها فرصة وهي اضاعتها، حتى وإن لم تعلم أنها أضاعت الفرصة، هي اضاعتها وانتهى الأمر .
تحرك بين الممرات حتى وصل لغرفته يدخل متحركًا صوب الفراش يلقي السيف على الفراش بعنف، ثم تنهد يخلع ثيابه يتحرك جهة المرحاض .
وبعد نص ساعة تقريبًا
خرج كي يرتدي ثيابه ليتفاجئ بأن نافذته مفتوحة على اتساعها والسيف اختفى عن الفراش، اتسعت عيونه بصدمة وهو ينظر حوله يبتسم بعدم تصديق، سرقته، سرقته منه وهو من أراد منحه إياها بالحسنى ؟!
ضحك بعدم تصديق :
” يالله قاطعة طرق، اقسم أن هذه الفتاة أشبه بقطاع الطرق واللصوص ”
ركض بسرعة صوب النافذة وأمسك باطارها ينظر للاسفل بغضب ليبصرها تقف أسفل النافذة تنظر له بانتصار شديد، ثم نزعت اللثام الخاص به لتريه بسمتها المنتصرة وهي تلوح بالسيف في الهواء تهمس له بصوت لم يصل له بالطبع :
” شكرًا على السيف يا لص ”
نعم كانت تراه حين ذهب للحديقة يحمل سيفها فقط ليستفزها، ثم تبعته على أمل أن تأتيها فرصة وتأخذه منه وحين وصلت أمام الجناح الخاص به، قررت أن تدخل عبر النافذة بسبب الحراسة ومن حسن حظها وجدت سيفها أعلى الفراش لتختطفه تضمه لها بحب تتلمس رائحة والدتها به، ثم قفزت بسرعة .
وهو نظر لها بشر يهمس من بين أسنانه:
” أيتها المجرمة الـ …سأريكِ ”
ركض بسرعة يمسك ثيابه العلوية التي اهملها حين دخوله المرحاض، ثم تحرك بسرعة صوب الباب ليهرب منه، لكن فجأة توقف ونظر للنافذة وابتسم بخبث شديد :
” تريدين اللعب بقذارة ؟؟ سأريكِ كيف تكون .”
وعند زمرد حملت سيفها تضمه لصدرها بقوة مخافة أن يتلاشى أو يتضح في النهاية أنه كان حلمًا ورديًا آخر.
تحركت بسرعة وبخفة كبيرة داخل المبنى كي تركض لغرفتها تحتمي بها، وقد اكتفت من مغامرات هذا اليوم، سعيدة تكاد تطير بأجنحة من الفرحة .
لكن منذ متى كانت الحياة بمثل هذا الإنصاف مع زمرد وأمثالها من المنكوبين ؟؟
فجأة شعرت بيد تجتذبها بقوة صوب ممر غريب مظلم، يكتم فمها بقوة مخافة أن تحدث صوتًا ينبأ أحد بمكان وجودها، استعدت نفسيًا لقتال شرس معه، قتال لن تخرج منه خاسرة مرة أخرى ستدافع عن سيفها ضده حتى النفس الأخير و….
فجأة ارتجف جسدها بقوة وشعرت بالمكان يدور حولها حين رأت جسد يمر أمام الممر الذي سحبها له، جسد جعلها ترتجف بقوة وهي تكاد تفقد أنفاسها .
رأت جسد دانيار يتحرك بحثًا عنها، إذن من هذا الذي يسجنها ؟؟؟؟
تحركت يدها بسرعة كبيرة صوب سيفها الذي عاد لها منذ ثواني قليلة ولم يلبث تحتفظ به حتى جاء وقت تلويثه بدماء أحدهم وهذا الاحدهم كان …كهرمان ؟؟
مالت كهرمان تهمس بصوت منخفض بعدما لحقت بها ورأت ما يحدث فتدخلت لمساعدتها .
وإن ظنت زمرد أن ما حدث قبل ثواني قد تسبب في خفقان قلبها بشكل جنوني، فما قالته كهرمان الآن هو الجنون بعيونه، بل بداية جحيم لهما :
” تجهزي زمرد، سنعود لمشكى……”
_______________________
الحرب لن تنتظرك لتقرر، بل ستسحبك عنوة داخل جحيمها، فتجهز .
الحرب قادمة ……
يتبع…
كان صوت انفاس زمرد المرتفع ينافس ارتفاع الصوت المقابل لانفاس كهرمان، والتي لم تجد أنسب من هذا المكان المظلم الخانق الضيق وهذا الوقت وهم هاربون من رامي السهام الذي يدور في الخارج بحثًا عن جسدٍ يصبح مرمى لسهامه، لتعرض عرضها .
” ماذا ؟؟ هل جننتي أنتِ ؟؟”
ابتعدت عنها كهرمان خطوات صغيرة تهمس لها بانفعال وغضب أعماها وانتقام يحفزها للعودة والأخذ بالثأر :
” لا ليس بعد، لكنني سأجن إن أضعت فرصتي في الانتقام منهم، لقد اتخذت قراري، سأذهب مع الجيش متخفية وانتقم منهم، سأحارب في صفوفهم ، سأذهب حتى إن انتهى بي الأمر قتيلة أو أسيرة”
ابتسمت لها زمرد تهز رأسها بنعم توافقها الحديث في هذه اللحظة لتتنفس كهرمان الصعداء أن وافقت هي، لكن فجأة رأت تحرك زمرد صوب بداية الممر تنظر يمينًا يسارًا، ثم عادت لها حينما تأكدت أن المكان خالي، تجذب ذراع كهرمان خلفها بأعين سوداء حتى وصلت لغرفتهم، اقتحمتها تدفع بجسد كهرمان للداخل في قوة جعلت برلنت الشاردة تنتفض عن الفراش وهي تقول بخوف :
” ماذا ؟؟ ما الذي حدث ؟؟”
لكن زمرد في تلك اللحظة لم تكن تشعر بشيء وهي تقترب من كهرمان المصدومة من أفعالها لا تفهم شيئًا مما يحدث .
” تريدين الذهاب حتى لو انتهى بكِ الأمر قتيلة أو أسيرة ها ؟؟”
نزعت زمرد لثامها تقول بشراسة وتوحش :
” عزيزتي القتل سيكون أهون شيء تلقينه على يد هؤلاء القذرين، بل ستكون أمنية غالية بعيدة المنال، انظري إليّ عشت سنوات عمري جميعها اتمنى الموت، أطمح له، ألقي بنفسي في جميع المخاطر عسى أن ينتزعوني منها جثة هامدة، لكن هل حدث ذلك ؟؟ لا، بل عشت اسوء من هذا”
امتلئ صوتها بالقهر وهي تصرخ :
” أوتعلمين عدد المرات التي حاولت أمي الهرب فيها وفشلت فشلًا ذريعًا انتهى في أحد المرات بإصابتها بضربة في قدمها أدت لاعاقتها ”
صمتت ثم دارت تصرخ في المكان بصوت تحكمت به؛ كي لا تثير ضوضاء في المكان تحت أعين كهرمان المصدومة من حديثها :
” دعكِ من هذا التسرع والغباء كهرمان، هذا التسرع سيقودك صوب حتفك، أي حرب تلك التي تدعونني لخوضها ؟؟ هربت منهم لأعود لهم بقدمي ؟؟ ”
صمتت تستمع لصوت كهرمان التي قالت بصوت كسير وحسرة كبيرة :
” لا استطيع الانتظار حتى احصل على القصاص لأخي، لقد ….لقد إتخذت عهدًا على نفسي أن انتقم له بنفسي من ذلك الحقير ”
أمسكت زمرد مرفقيها بقوة تضغط عليهما تهمس من بين انفاس خرجت كالجحيم :
” ماذا عني ؟؟ ماذا عني ها ؟؟ هل تعتقدين أنني سعيدة ؟! هل تظنين أنني سأعيش المتبقي من حياتي هاربة ؟؟ إن أردتي قتل بافل مرة، فأنا أود قتله في الثانية الواحدة ملايين المرات، أود أن اريه نفس الجحيم الذي أراني إياه، أريد أن أراه يتوسل مني رحمة لن ينالها، كهرمان إن كان لكِ انتقام واحد عند بافل، فأنا لي حياة كاملة ضاعت على يديّ ذلك الحقير ”
تركتها تتنفس بعنف وهي تهمس من بين دموعها التي هبطت غضبًا وكرهًا واشمئزازًا :
” ذلك الحقير لن يموت سوى بين قبضتي أنا، لن ….لن أسمح لكِ، أو لأيًا كان أن يسلبني ذلك الشيء ”
نظرت لها كهرمان بوجع تقول وهي تشعر بكل ما تمر به زمرد، زمرد التي كانت سببًا في نجاتها من يد بافل سابقًا :
” ما أدراكِ أنه لن يموت في الغد خلال الحرب؟؟”
ابتسمت زمرد بسخرية لاذعة تردد :
” يالله كهرمان، عزيزتي هل تظنين أن امثال بافل رجال حروب وقتال مباشر ؟؟”
استدارت تقول بأعين ملتمعة بالكره والخبث وهناك بسمة سوداء ترتسم على فمها :
” أمثال بافل وجماعته، ليسوا بهذه الشجاعة التي تدفعهم لخوض حرب مباشرة، هم يباغتونك، يغدرون بكِ، ينتظرون لحظة أمنك وسلامك ليهبطوا فوق رأسك بالضربات”
قالت بخبرة كبيرة وهي تنظر لهم غافلة عن أعين برلنت الواسعة والتي تحاول أن تفهم ما يحدث حولها :
” يعشقون الظهر فهو لا يمتلك أعين، يطعنون به فهو لن يرد لهم ضربته، وغدًا لن يذهب بافل للحرب وسترين، هذا أخي اعرفة كمعرفتي لراحة يدي ”
انطلقت شهقة من جهة برلنت وقد اتسعت عيونها بقوة وهي تشعر بجسدها يرتجف متراجعة للخلف تقول والصدمة ملئت وجهها بشكل واضح تحت نظرات زمرد الباردة :
” أنتِ …أنتِ منهم ؟؟”
ابتسمت لها زمرد بسمة باردة تقول :
” مفاجأة ”
ابتلعت برلنت ريقها تشعر أنها لا تستطيع التنفس، طوال هذه الفترة كانت تصادق أحد المنبوذين ؟؟ بل ..بل تصادق شقيقة زعيمهم ؟؟
” أنا… أنا… أنا ”
” تكلمي بيرلي فلن اقتلك لا تخافي ”
ابتلعت برلنت ريقها تمسح وجهها بيدها تحاول تخفيف ما يحدث فهي تعرف زمرد والتي رغم طباعها المستفزة أو القاسية، فهي طيبة القلب وحنونة وتساعد الجميع دون تردد :
” لا، لا لم اقصد ذلك الطبع زمرد، لكن أنتِ…أنتِ لستِ مثلهم، أنتِ شخص صالح أليس كذلك؟؟”
هزت زمرد كتفها بهدوء تقول :
” ربما، هذا يعتمد على الموقف، احيانًا أكون لطيفة، وأحيان أخرى اكون أقذر المبوذين ”
وهذا الحديث لم يساعد في تخفيف صدمة وخوف برلنت التي نظرت بتعجب لكهرمان والتي يبدو أنها تعرف كل ذلك :
” أنتِ …أنتِ أميرة مشكى صحيح ؟؟ وهي شقيقة زعيمهم الذي قتل شقيقك و…”
صمتت هي لا تستطيع تجميع حديثها، لا تدرك ما يحدث حولها :
” لا اقصد إساءة اقسم، لكن عقلي لا يستطيع تجميع شيء، فقط لا افهم ما يحدث ”
نظرت كهرمان لزمرد التي ابتسمت لها، لتتحرك كهرمان صوب برلنت تجذبها لفراشها تجلسها عليه وجلست زمرد على الفراش المقابل لهم تسمع حديث كهرمان الرقيق :
” إذن تعدينني أن ايًا كان ما سأخبرك به لن يخرج لأحد ؟؟”
نظرت لها برلنت بجدية :
” أقسم أن كلمة لن تخرج من فمي، إن لم تردي الحديث فلا بأس، أنا فقط …فقط لا افهم ما يحدث، لكن اقسم أنني لن أتحدث بكلمة واحدة ”
صمتت تبتلع علقمًا ما يزال أثره في فمها، مرارة لا تظن أنها ستنمحي يومًا، وارتجافة بسيطة مرت بجسدها تهمس بصوت ميت مجروح :
” سبق وخنت عهدي وأخرجت حديث لا يعنيني، وعانيت من توابع كل ذلك لأربعة عشر عامًا، شيء لا أود تجربته ولو كان الثمن حياتي ”
ابتسمت لها كهرمان بحنان تربت على قدمها، معرفتهم لبرلنت ليست قصيرة فهي معهم منذ أشهر ولم تخن يومًا عهدًا بينهم، واحتفظت بأمر حقيقتها طي الكتمان وهي تدرك أنها لن تخون يومًا، فأمثال برلنت لن يكرر خطأ تجرع مرارة ارتكابه كاساتٍ .
نظرت لزمرد تتذكر لقائهم الاول :
” زمرد هي من انقذتني يوم غارة المنبوذين على بلادي ”
كانت تركض برعب وهي تحمل سيفًا تسمع صوتًا عاليًا في المكان وصرخات جعلتها ترتجف وهي تبكي بصوت مرتفع، لكن لم يسمع أحدهم صوت شهقاتها، فهو كان صوتًا من بين مئات الاصوات الصارخة والباكية والمستغيثة والمكبرة .
صرخت بصوت مرتفع وهي تبحث عن أحد الجنود :
” أخي، اخي يقاتل وحده في مسجد القصر، ساعدوه، ليساعده أحدكم، ساعدوا أخي أتوسل إليكم”
بكت وهي تبحث عن أحدهم ليساعده لتبصر الجميع حولها كلٌ يبكي على ليلاه، لا أحد يستمع لها، وهي ترتجف لتقرر للمرة الاولى أن تخالف قرار أخيها بالاختباء في مخبأ النساء واتباع قائد الجيوش، وعادت بسرعة كبيرة صوب المسجد وهي تمسح دموعها، ستذهب له، ستقاتل معه ..
وقبل أن تصل للمسجد سمعت صوت صرخات جهورية جعلتها تتجمد في مكانها صوت أرسلان الغاضب والمرعب يرنّ صداه في المكان بأكمله :
” أنحني لك ؟؟ بالله لو قطعت جسدي أربًا لعشرات، بل الآلاف القطع، ما انحنت لك قطعة واحدة منه يا سليل القذرين، لا أنحني سوى لله وحده، الانحناء والخضوع والذل لا يليق إلا بكم، خُلقتم للذل وخُلق الذل منكم، لعنة الله عليكم أجمعين ”
ومن بعد تلك الكلمات لم تسمع سوى صرخة غاضبة صدرت من شخص آخر خمنت أنه هو نفسه من يتحدث له شقيقها، وتلاشى صوت شقيقها شيئًا فشيء .
شهقت بصوت مرتفع حين شعرت بيد تقبض على ذراعها، استدارت برعب ترى أحد رجال المنبوذين بوشم معروف أعلى رقبته يرمقها ببسمة مخيفة :
” مرحبًا بالاميرة، يا لي من محظوظ ”
ارتجف جسد كهرمان بقوة وهي تنظر له بوجه شاحب ووجه جامد، لا تراه أمامها، فقط ترى أخاها تسمع صوته هو الذي ما يزال يتردد في أذنه، هبطت دموعها دون شعور وهي تسير معه دون وعي وقد علقت روحها جوار باب المسجد حيث جسد أرسلان.
فجأة وحين سمعت أصوات تهليل رجولية ارتجف جسدها واعطى عقلها إشارات لجميع حواسها لتدرك أي المصائر وقعت به، سبية…أضحت أسيرة وسبية للمنبوذين، ستصبح واحدة من بين مئات النساء المغصبات على يد هؤلاء الخنازير .
عند هذه اللحظة انتفضت تتراجع تستل سيفها بقوة ودون تفكير كانت تقطع ذراع الرجل التي سحبتها هذا الطريق تصرخ بجنون :
” يدك عني ..”
اندلعت صرخات الرجل يبتعد عنها يلقي جسده ارضًا يتمرغ بالارضية وهو يبكي وجعه ويصرخ وحوله اصدقاؤه ينظرون لها بصدمة قبل أن يصرخ أحدهم :
” أحضروا هذه الحقيرة هنا، اقسم أنني سأريها الويل ”
وقفت كهرمان بملامح شرسة تتخذ وضع الهجوم وهي ترفع سيفها الممتلئ بدماء ذلك القذر ارضًا، تنظر لهم بأعين سوداوية تشبه خاصة اخيها، نفس اللون ونفس النظرات .
وقبل أن يقترب أحدهم منها، كانت هي تقف أمامها بقوة وهي ترفع يديها في وجوههم تقول بمزاح لا يناسب الموقف :
” مهلًا مهلًا يا رجال مالكم تكأكأتم عليها كالكلاب على عظمة ؟؟ أدري هي جميلة رقيقة، لكن لنكن صرحين مع أنفسنا للحظات، ألا ترون أن ايديكم القذرة ستلوث هذه الزهرة الرقيقة في الخلف ؟؟”
صرخ أحد الرجال :
” ابتعدي عنها زمرد كي لا يطولك غضب القائد، هذه الرقيقة لنا نحن ”
اشتعلت أعين كهرمان تتراجع عن تلك الفتاة الغريبة بتحفز وملامح الشراسة تعلو وجهها صارخة :
” هذه الرقيقة ستريكِ الجحيم أنتِ وهؤلاء القذرين ”
نظرت لها زمرد من خلف لثامها بسخرية :
” لا تتحدثي بكلمات لا تعنيها يا رقيقة ”
صمتت ثم استدارت صوب قومها تقول :
” عشيرتي الاقذر، ويا قمامة الممالك الأربعة، هذه الفتاة في الخلف لا تعنيني بشيء، إن أردتم اخذها فهي لكم، لكن ألا تعتقدون أن صيدًا ثمينًا كهذه الجميلة سيغضب أخي حين تئول لقذرٍ منكم ؟؟”
صمت الجميع يرمقونها بغضب، وهي ابتسمت تمسك يد كهرمان التي عاندتها تحاول نزع يدها منها غاضبة :
” دعيني ايتها الحقيرة، لعنة الله عليكِ وعلى قومك وأخيكِ، ليلعنكم الله من كبيركم لصغيركم ”
نظرت لها زمرد بشر تهمس :
” سيري معي ولا تزيدي حرفًا يا غبية ”
” على جثتي ”
” سيكون بالفعل على جثتك، فأنتِ الآن تلمعين في أعينهم كقطعة لحم دسمة لجماعة ضباع قذرة بعد سنواتٍ عجاف، دعيني اخرجك من هنا ”
نظرت لها كهرمان بسخرية لا تثق بها مقدار ذرة، هي منهم في النهاية، لذلك انتزعت يدها منها وقبل أن تتحدث بكلمة سمعت زمرد صوتًا لشقيقها الاحمق الأصغر يقول :
” إلى أين زمرد ؟؟”
” للجحيم يا صغيري، كنت أود دعوتك، لكنه للكبار فقط، حين تنضج سأخذك معي ”
وقبل أن تتحرك خطوة واحدة مع كهرمان وجدت سيف الصغير يوضع على رقبتها، حركت عيونها صوبه تقول بسخرية :
” حقًا ؟؟ هل تود أن يبكيك بافل المتبقي من عمره يا مدلل ؟؟ ”
” اتركي الفتاة هنا، أنا سآخذها ”
شهقت زمرد ساخرة:
” تأخذ من يا بني، هذه في عمر والدتك يا عزيزي، هيا اترك هذا السيف السيئ وليعطيه أحدكم حلوى يتناولها ”
ختمت حديثها تدفع سيفه وهي تجذب خلفها كهرمان التي اضطرت لمسايرتها حتى تخرج من هنا، لكن فجأة سمعوا صرخة الصغير صاحب الأعوام التسعة عشر يصرخ في الرجال :
” امنعوا هذه الفتاة والأميرة من الرحيل ”
ابتسمت زمرد بسمة واسعة وهي تستدير تقول :
” أنتم لن تجعلوا الأمر سهل صحيح ؟؟”
وفي ثواني انفتحت ابواب الجحيم على زمرد وكهرمان التي وجدت نفسها تلقائيًا ودون شعور منها تحارب في ظهر زمرد التي كانت تقاتل قومها وتقطع رؤوسهم لأجلها .
وزمرد كانت تفعل هذا كي لا تصبح كهرمان نسخة ثانية من والدتها التي أخذوها من حياتها لجحيمهم، ولأنها كانت تتمنى يومًا أن تقتل رجال عشيرتها أجمعين …
كانت برلنت تستمع لقصة كهرمان متسعة الأعين مصدومة مما يحدث :
” يالله هذا …هذا لا يبدو سهلًا ”
ابتسمت كهرمان تقول بمزاح :
” يا فتاة لا شيء صعب على شخص بمثل حقارة زمرد ”
أطلقت زمرد ضحكات صاخبة دون شعور تقول بمزاح مقابل لا يليق بهذه الأجواء التي جلبت لهم ذكريات غير محمودة :
” نعم أنا بالفعل حقيرة ”
نظرت لها برلنت ثم نهضت تضمها بحب شديد :
” لا تقولي على نفسك هكذا زمرد، أنتِ أكثر شخص رائع في هذه الحياة جميلتي ”
ابتسمت زمرد دون شعور تبادلها العناق وهي تردد :
” وأنتم كل من تبقى لي في هذه الحياة برلنت ”
نهضت كهرمان تتحرك لهما تشاركهما العناق وهي تقول بصوت حنون :
” كذلك أنتم لي، آخر من تبقى لي، لا حرمني الله منكن يا فتيات……. ”
________________________
” عقيدتهم زجاجٌ، وعقيدتكم جبال، فأنى للزجاج بفرار منكم، وأنى لهم بخدشكم ؟؟ الحق معكم وبأيديكم، والباطل حلق فوق رؤوسهم، فأسقطوا الروؤس والباطل، ولا تأخذكم بهم رحمةٌ ”
ختم حديثه يتقدم الجيوش في الصباح ينظر لهم بعيون جامدة بعض الشيء، عيونه لا تبصر نهاية الجيوش .
ابتسم بسمة جانبية وقد شعر بأنه سيعود بجيوشه إلا القليل فقط، وكم تمنى أن هذا القليل لا يكون، شعوره أن الحرب لم تحن بعد قوي، وهو كان ومازال يثق بأحاسيسه فيما يخص الحروب، ليس لثقته في النصر، بل لثقته في جبن الخصم، لا ينسى يوم اجتمعت الممالك قديمًا لقتال والد بافل، وتخلف الاخير عن الحرب .
سمع سالار صوتًا خلفه يقول :
” لقد تأكدت من جاهزية وحدات الرماية يا قائد ”
” جيد، أين تميم ؟؟”
” لا أدري ربما ذهب يتفقد وحدته سيدي ”
هز سالار رأسه وهو يتراجع للخلف يتحرك صوب حجرته ليتجهز بعدما اطمئن على جيشه، وبالفعل غاب بها دقائق، ثم خرج منها يرتدي دروعه وسيوفه، يمسك خوذته، يتحرك بسرعة صوب الخارج .
لكن فجأة توقف حين ابصرها تتحرك داخل القصر بهدوء شديد وهي تلقي بسمات على الجميع، وحين رأته ابتسمت له بسمة صغيرة تقول بسعادة كبيرة :
” ذاهب للحرب ؟؟”
تعجب سالار بسمتها الواسعة تلك ليقول بعدم فهم :
” اعتقد هذا، هل يسعدك أن أذهب للحرب ؟؟”
هزت رأسها بسعادة كبيرة وفي قلبها يقبع أمل، أمل أن يعودوا منتصرين محررين إياهم، تترقب النصر، ورغم أن النصر ليس أكيد، لكنها تثق بهم، أو تثق به هو، مرات قليلة هي تلك التي رأته بها يتعامل مع جيشه، لكنها فطنت جيدًا أي نوع من القادة هو، يكفي فخر الملك الدائم بأمتلاكه لقائد كسالار .
” أنا في غاية السعادة يا قائد ”
ابتسم سالار بعدم تصديق :
” هل تترقبين خبر استشهادي أم ماذا ؟؟ إن مت سأوصي بكِ لأكثر رجال جيشي تجبرًا لينتقم لروحي منك على كل العذاب الذي عانته بسببك في حياتي ”
ولم تدرك تبارك من حديثه سوى الجملة الأولى لتسارع بالقول :
” بل أترقب خبر انتصارك يا قائد، أثق بك .”
نظر لها سالار ثواني يرى أنها لم تنس وضع لثامها حين الخروج من المشفى، ليحني لها رأسه ببطء شديد واضعًا يده على صدره يقول بكامل الصدق والاحترام داخله :
” إن شاء الله نعود منتصرين مولاتي، فلا تغفلي عن الدعاء لنا ”
” ادعي لكم في كل لحظة وثانية ”
صمتت ثم نظرت له قليلة قبل أن تقول :
” تصحبكم السلامة يا قائد، سأنتظر عودتك لأجل دروسي، ستعود لتجدني منافسة شرسة لك ”
ابتسم لها بسمة من تلك البسمات القلائل التي تخرج دون أن يتبعها سخرية أو رعب :
” إن عدت سالمًا بمشيئة الله، لكِ مني كلمة بالصبر على أفعالك الجنونية ..”
صمت ثم شعر بخطورة وعده لها فسارع يقول بلهفة ماحيًا بسمتها التي ارتسمت بعد كلماته :
” ليوم كامل، سأتحمل ايًا كان ما تفعلينه ليوم كامل فقط ”
التوى ثغر تبارك تقول بغيظ شديد :
” أنت لو كملت جملة واحدة عدلة هيحصلك حاجة ؟! مش فاهمة فيها ايه لو مكنتش قولت آخر جملة دي وخدعتني يعني ؟؟”
” لا يمكنني قطع وعد دون أن أستطيع أن أفي به ”
ابتسمت له بحنق شديد وسخرية :
” يبدو أن التعامل معي اصعب مما ظننت ”
” نعم هذا صحيح، جيد أنكِ أصبحتي تدركين الأمر ”
رمته بنظرات مغتاظة غاضبة منه، ثم قررت أن تغير إتجاه سيرها وتتحرك صوب الخارج لترى الجيش قبل رحيله تقول بصوت مرتفع :
” الله خير حافظ يا قائد، أذهب قبل أن يملئ الغضب صدري تجاهك وتتبدل دعوتي لك ”
ابتسم سالار بسخرية لاذعة يتساءل :
” إلى أين مولاتي ؟!”
” هتفرج على الجيش وهو ماشي ”
وقبل أن يجيب كلماتها تلك رآها بالفعل تضعها حيز التنفيذ وهي تخرج من القصر ليبتسم دون تصديق :
” حقًا ؟؟ ”
تحرك بسرعة خلفها، لا ليلحق بها، بل ليقود جيشه ويلقي عليهم كلماته قبل التحرك وقبل مجئ الملك ليقول هو الآخر كلمته لهم .
ولم ينتبه الاثنان لتلك الأعين التي رأت والاذان التي سمعت ما حدث بينهما دون شعور منهما، فهي كانت على وشك الخروج لتوديع الجيش باعتبارها الملكة الأم في المملكة قبل أن تسمع وترى ذلك، ورغم أن الحوار بينهما لم يكن بالودود أو اللين، إلا أنها ابتسمت تقول بصوت ساخر :
” منذ متى يطيل قائد الجيوش حديثه مع امرأة عن كلمتين ؟؟؟”
وعند قائد الجيوش والمرأة، خرجت هي بسرعة كبيرة تهرول صوب المنطقة التي يتجمع بها الجيش، ليوقفها صوت صارخ خلفها جعل جسدها يتيبس :
” جلالة الملكة ..”
توقفت تبارك تنظر خلفها ببطء وريبة هامسة تتعجب عودة شخصيته اللئيمة التي تكرّهها في حياتها كلها :
” نعم ؟؟”
” إلى أين ؟؟”
” قولتلك هتفرج على الجيش ”
تنفس بصوت مرتفع يحاول أن يصبر ثم قال بهدوء شديد وكأنه جمع ما تبقى من خلايا عقله المتيقظة يقنعهم بالهدوء وتمرير ما يحدث باكثر الطرق سلمية :
” لا يمكنك الاقتراب بهذا الشكل الكبير من الجيش وكل هؤلاء الرجال، هذا ممنوع، يمكنك أن تقفي في الشرفة التي تطل على منطقة التجمع حيث ستكون الملكة الأم وغيرها، هذه هي القوانين رجاءً التزمي بها ”
نظرت له ثواني تقول بغيظ شديد من تسببه بالضيق لها :
” أنت شخص لئيم على فكرة ”
قال بنبرة عادية وهو ينظر أمامه كرجل آلي لا يرميها حتى بنظرة واحدة :
” أدري هذا جلالتك فأنتِ أخبرتني هذا مئات المرات ”
” وبرضو مش بتغير من نفسك ”
” ولمَ عليّ فعل هذا ولأجل من ؟؟”
” لأجل صحتك يا اخي، أنت بتتعب قلبك على الفاضي والله، فيها إيه لو عشت زي البني ادمين تبتسم وتضحك وتهزر، هيحصلك ايه ؟؟ الملك اهو عندك ماشاء الله عليه رجل بشوش وشه سمح وكويس ومحترم ”
نظر لها سالار يقول بأعين جامدة ونظرات لا معنى لها وصوت خرج منه ساخر حانق :
” هذا الملك وهذه شخصيته، وهذا أنا وهذه شخصيتي، ليس واجبًا عليّ أن أكون نسخة منه، إن كان التعامل مع الملك يريحك، فهذا أمر جيد فهو سيكون زوجك بالنهاية، أما عني فلا أعتقد أن شخصيتي تسوئك في شيء فما هي إلا ساعات قليلة في التدريب ومصائب معدودة هي التي نلتقي بها، والآن للشرفة رجاءً …مولاتي ”
نظرت له تبارك بغيظ شديد وقد شعرت فجأة بالصدمة وصوته يرن داخل رأسها بشكل جعلها تهز رأسها بقوة وهي تخفض رأسها ارضًا تقول بهدوء :
” هذا من حسن حظي، والآن اعذرني ”
ختمت حديثها ترفع طرف فستانها، ليرفع هو درعه بسرعة، يتحرك من أمامها بشكل جعلها تنظر له بعدم فهم، بينما سالار والذي كان له تجارب سيئة مع فستانها، لم يكن مستعدًا ليستقبل قماشه الحريري في عيونه الآن، خاصة قبيل المعركة .
لم تهتم به تبارك تنفض طرف فستانها، تتحرك بعيدًا عنه شامخة برأسها مبتسمة الفاه وهو راقبها بغيظ يتمتم وهو يتحرك صوب جيشه :
” كارثة نبتت لها ساقان …”
____________________
تقف في إحدى الشرفات بعيدًا عن الجميع كي تحسن النظر دون قيود، تحدق به في حرية كبيرة تخشى أن تُسلب منها إن كانت تحت مراقبة أعين العاملات .
بحثت عنه بين الجميع، لكن ما رأت له من أثر، تنهدت بصوت مرتفع تخشى أن يرحل قبيل توديعها، مشاعر تحياها كل حرب، رعب أن يصيبه شيء، تتذكر حينما كانت تعلم أن الجيش خرج في غارة وهو معهم، يالله تسهر ليلتها تدعو له وتبكي بخوف شديد ولا تغمض عيونها إلا حينما تسمع صوت الترحيب بعودة الجنود وتطمئن أنه بخير .
خرجت من بوابة القصر وقد قررت أن تذهب حيث الجيش علها تبصره ولو صدفة، لكن بمجرد أن فعلت ذلك حتى ابصرته يقترب منها بخطوات رشيقة مرتديًا ثوبه الخاص بالحروب يحمل خوذته في قبضته مبتسمًا لها بلطف .
وحين وصل لها همس بكل لطف :
” السلام عليكم بيرلي، كيف حالك ؟؟”
” وعليكم السلام، أنا بخير الحمدلله دامك بخير
تميم ”
ابتسم لها بحب يجذب يدها برفق صوب أحد الأماكن البعيدة عن الأعين يقول بلطف شديد :
” اسمعيني بيرلي أنا الآن سأذهب في حربٍ لا أدري إن كتب الله لي منها عودة أم لا ..”
ارتجفت يد برلنت بين أصابعه ليضغط عليها مبتسمًا بلطف وكأنه يمنحها بعض الدعم على مصاب قد يصيبه هو، نظر في عيونها مبتسمًا، لم تنمحي بسمته منذ بدأ يتحدث وكأنه يتقبل كل ذلك يصدر رحب، يتقبله ولا يبتأس :
” لكن إن لم أعد فقد تركت وصيتي لدانيار و القائد والملك والجميع ”
ألقى الخوذة جانبًا ليحرر يديه منها ومد كفيه يحيط وجهها بحب شديد يهمس لها وقلبه ما يزال يستنكر حقيقة أنها الآن بين يديه، يشعر أنه لشدة جنونه أضحى يتخيلها، لكن لا بأس حتى وإن كانت خيالًا سيستمتع به .
همس لها وهو يقترب برأسه من خاصتها :
” أنتِ هي وصيتي الوحيد بيرلي، اوصيت الجميع بكِ، أخبرتهم أن يعتنوا بكِ، أن يدللوكِ كأميرة، اوصيتهم أن يكرموني فيكِ بيرلي، لذا حبيبتي لا تقلقي ”
سقطت دموع بيرلي على يديه وهي تستمع لحديثه، وقلبها ينتفض رافضًا كلماته كلها تقول بصوت خرج بصعوبة منها :
” إن لم يكن الدلال منك، فلا أريده تميم، أن أعيش حياة قاسية معك لهو أهون على قلبي من عيش حياة أميرة دونك، لذا لا تظن أن وصيتك تلك ستعوضني لحظة غياب لك تميم، أقسم إن لم تعد فما لي من عيشٍ سواك”
بكت بصوت مرتفع تقول بقهر :
” للتو فقط عدت لي، ما لي بحياة لست فيها تميم، أثق أن الله لن يختبرني بك، لا تتركني مجددًا أرجوك، ليس مجددًا تميم ”
ضمها تميم لصدره بحب وهو يربت عليها وهي تبكي برعب كبير، بكت كل مرة ذهب لحرب وجلست هي تبكي بصمت في غرفتها تدعو الله عودة سالمة له، بكت كل لحظة بُعد عانتها، وهو فقط ضمها يربت على ظهرها بهدوء، لا يتحدث، فقط يترك لها حرية البكاء كما تريد، وحين استشعر منها سكينة همس مقبلًا رأسها :
” سأعود لأجلك صغيرتي، سأعود لاصنع لكِ زفافًا يتحاكى به شعب سفيد والممالك أجمعين، سأصنع لكِ زفافك الاسطوري الذي طالما حلمتي به ”
نظرت له من بين دموعها وهي تتذكر كلماتها له حين كانت تحلم بحياة بسيطة تجمعهما .
” أحلم بزفافٍ اسطوري، أنت تتقدم مني على حصانك وأنا انتظرك أعلى الدرج، تأتي وتحملني برفق على حصانك وتهرب بي من الجميع ”
أطلق تميم ضحكات صاخبة وهو يجلس جوارها في حديقتهم المفضلة :
” وأين الزفاف في هذا بيرلي ؟؟ لقد انهيتي الزفاف الاسطوري قبل بدايته ”
نظرت له برلنت تقول بجدية :
” الزفاف سيكون معك حينما تأخذني فوق حصانك تطوف بي المروج وتحضر لي زهورًا ”
أفاقت برلنت تنظر له تقول بصوت خافت وقلب وجل :
” وعد ؟؟”
ابتسم لها بلطف يجفف دموعها بحب شديد :
” اعذريني صغيرتي، لا قِبل لي بقطع وعود لا أملك منها شيئًا، فهذه أعمار والأعمار بيد الله بيرلي، فقط ادعي لي جميلتي ”
ختم حديثه يقترب منها يضع قبلة أعلى جبينها، ثم استند برأسه موضع قبلته يردد بلطف :
” بإذن الله ننتصر ونعود، زوجك ليس بالهين كذلك حبيبتي”
” أثق أن الله لن يختبرني بك تميم، ليحفظك الله أنت ومن معك من كل سوء ”
ابتسم لها يعيد غطاء الوجه على رأسها يهمس بلطف شديد :
” أخبرت المشرفة أنكِ زوجتي ومنعتها من توكيل الأعمال لكِ؛ لذا وحتى اعود أنتِ حرة بيرلي، اذهبي حيث تريدين لكن داخل حدود القصر، يمكنك الذهاب وإزعاج العريف بحكايات فارسك ”
ابتسمت له تتذكر ذلك اليوم الذي تشاجرا في المكتبة وكأنه كان بالأمس :
” لا بأس سأنتظر عودة الفارس ليشاركني كتابة فصول حكايتي ”
ضرب رأسه بخاصتها في مزاح لطيف :
” الأن فارس وبالأمس أحدهم ومجهول ”
” لم تكن يومًا أحدهم تميم، كنت دائمًا ( أحدي أنا ) عزيزي”
ابتسم يشعر أنه إن توقف ثانية إضافية في هذا المكان سيتخلف عن الحرب، لذا تنهد يميل ليرتدي خوذته يغلقها ثم مال يقول بلطف :
” استودعك الله بيرلي ”
” الله خير حافظ تميم ”
تحرك تميم بعدما ودعها ببسمة لطيفة يضع يده على قلبه ثم مال نصف ميلة يؤدي لها تحية احترام و…حب .
” السلام عليكم غاليتي ”
وبهذه الكلمات استدار بسرعة يرحل بعيدًا عنها وهي راقبته بأعين ملتمعة تردد سلامه والذي خرج من اعماق قلبها :
” وعليكم السلام تميم …”
____________________
دخل حيث والدته والملكة ليودع والدته بقبلة على يدها وأخرى على رأسها وكلمات لطيفة :
” دعواتك امي..”
” ليحفظك الله بني وينصركم عليهم جميعًا، عد سالمًا لنا”
منحها بسمة صغيرة، ثم نظر بعيونه صوب تبارك التي صعدت هنا بعد شجار قصير مع سالار، اقترب منها بخطوات صغيرة يحدق في وجهها بلطف :
” أتمنى أنكِ بخير الآن ؟؟”
” أنا بخير، شكرًا لك مولاي ”
” إذن ملكة تبارك أريد أن أطلب منكِ طلب صغير ”
نظرت له بفضول لينظر هو بطرف عيونه صوب والدته التي كانت تراقبهم باهتمام شديد، وعاد بنظراته لتبارك يقول بصوت هادئ وقور :
” أنتِ جئتِ هنا لتكوني ملكة سفيد، وحتى إن لم يحدث هذا حتى الآن، فهو فقط مسألة وقت، احترامك هنا من احترامي، لا أود أن تشعري للحظة واحدة بأنك أقل من أي أحد هنا، أنتِ الملكة، فلا يسوئك ما يظنه الآخرين مولاتي”
صمت ثم اخفض صوته يقول :
” أتمنى ألا تنزعجي من والدتي بشيء، أدرك ستستمر في ازعاجك، مهارتك هنا تكمن في معرفة التصرف الصحيح في كل موقف، حكّمي عقلك ”
ابتعد عنها يمنحها بسمة لتبتسم هي له بسمة صغيرة تهز رأسها هزة صغيرة تهتف بكلمات مقتضبة تحت أعين والدته المتربصة :
” في رعاية الله يا مولاي ”
وضع يده أعلى صدره ينحني لها بلطف واحترام كبير :
” أراكِ قريبًا جلالتك ..”
خرج من المكان يتحرك صوب الجيش والذي سيكون في هذه الحرب بقيادته هو ومن ثم قيادة سالار .
لكن وقبل أن يخطو خارج القصر صوب ساحة تجمع الجنود توقف حين أبصرها، كانت تقف هناك في أحد الأركان وكأنها تنتظر أحدهم، تنتظره ربما ؟!
بعد ايام طوال على اختفائها، وتعهدها لنفسها ألا تعود لمثل تلك الأفعال وأن تدفن تلك الشخصية في أعمق نقطة، لم تستطع سوى أن تودعه، لتحضر تنتظره في هذا المكان حين رأته يتجه لشرفة النساء حيث والدته و…زوجته المستقبلية .
ارتدت ثياب الجندي وجاءت له وهذه المرة ليست للقتال، بل لتشجيعه .
أبصر إيفان اقتراب جسدها منه ليرفع حاجبه :
” مر وقت طويل ..”
” انتظر عودتك منتصرًا، لأجل شعب مشكى قبل كل شيء مولاي ”
ابتسم إيفان بسمة جانبية يردد بهدوء :
” أنا لا أفعل ما افعل سوى لأجل شعب مشكى الذين لم يتبقى لهم إلا الله ”
” شكرًا لك ”
” على ؟؟”
نظرت في عيونه تقول :
” على كل شيء، كنت خير معلم لي تلك الايام، أكملت دروسي بعدما توقف أخي ”
نظر لها نظرات غامضة يقول بصوت أبح وكأنه جاء من بئر سحيق :
” رحمة الله عليه ”
انتفضت فجأة لتلك الكلمات ونبرته التي خرجت بها، ابتلعت ريقها، ثم نظرت ارضًا ثواني قبل أن ترفع عيونها له تقول بصوت منخفض :
” إن سألتك المجئ معكم، هل ستقبل ؟؟”
نظر لها إيفان بتفاجئ قبل أن يعتدل في وقفته يقول بجدية :
” هل سبق ورأيتي امرأة تحارب بين الرجال في أي معركة ؟؟”
نظرت له كهرمان تدرك مقصده، لكنها كانت محاولة واهية لها، فهي منذ استيقظت ارتدت ثياب الجندي واحضرت سيفها كمحاولة أخيرة لها، سمعت صوت إيفان يقول بجدية ونبرة جعلت جسدها يرتجف ..رعبًا :
” أقسم إن لمحت طيفك بالقرب من قافلة الجيش، أو رأيت ظلك في أرض المعركة لأكون أنا أول خصم لكِ في ساحة القتال وانتزع رأسك عن جسدك، هذه حرب ليست كذلك اليوم في الهجوم على القصر، سمعتي ؟؟”
صُدمت كهرمان تتراجع للخلف بصدمة من كلماته تقول بأعين مغتاظة :
” أنت كيف تتحدث معي بهذا الشكل ؟؟ ”
” أتحدث بالشكل الذي أراه صحيحًا، لا أريد رؤية تلك الأفعال المتهورة والمتسرعة مجددًا، حسنًا ؟؟”
نظرت له بعناد ليقول من أسفل أسنانه :
” حسنًا ؟؟”
” حسنًا ”
تنفس بصوت مرتفع يتأكد من ثيابه :
” جيد، يبدو أن شقيقك أحسن تربيتك في النهاية، والآن اعذريني عليّ الرحيل ”
تحرك بعيدًا عنها تحت نظرات تسائل منها عن مقصد جملته الاخيرة، لكنه لم يريحها، بل كل ما فعل هو أنه توقف فجأة في سيره يستدير لها نصف استدار لها يخلع لها خوذته التي كان قدر ارتداها ينحني بها نصف انحناءة صغيرة، ثم اعتدل مانحًا لها بسمة صغيرة يقول بصوت منخفض :
” لا تنسيني من دعواتك، رغم معرفتي أنكِ تبغضيني ”
خرج من القصر بعد كلماته تلك ولم ينتظر ردًا منها، وهي فقط نزلت اللثام تقول بصوت منخفض واعين ذابلة وخوف كبير ملئ صدرها أن يعيد التاريخ نفسه :
” لكنني لا أفعل مولاي …”
______________________
يقف مع جيش الرماة بعدما انتهى من تفقده، ينتظر حضور الملك للرحيل، رغم عدم رغبته الحالية بالرحيل إلا بعدما يراها، تنفس بصوت مرتفع يبتغي وداعًا يخبرها فيه بما ضمره ايامًا طوال، قرار سهر ليلته يفكر به حتى استقر عليه .
لكن أنّى له من لقاء وقد سلبته آخر رابط قد يجمعهما صدفة، مسح دانيار وجهه حين سماعه صوت مهيار يقترب منه قائلًا بهدوء شديد :
” أنت بخير دانيار ؟؟ هل تشعر بالتوعك أخي ؟!”
ابتسم له دانيار بلطف يربت عليه :
” بخير مهيار، فقط أشعر بالـ.. حقًا لا أدري بما أشعر ”
نظر له مهيار بدقة وكأنه يبحث في ملامحه عن أي بادرة تعب، ليبتسم له دانيار يدرك قلقه الشديد فهو منذ جاء ذلك اليوم للساحة ورأى عنفه وضيقه وهو يتبعه في كل مكان يسأله إن كان بخير .
” إذن إن شعرت بشيء أخبرني ”
نظر له دانيار ثم ضمه له بلطف وحب شديد :
” مهيار الحبيب ادامك الله لي يا أخي، أنا بخير لا تقلق ”
ربت عليه مهيار يشعر بمقدار القلق والحيرة التي تسكن عيونه، في تلك اللحظة اقترب منهم تميم يقول بهدوء :
” ماذا يحدث هنا ؟؟ دانيار يعانق مهيار ؟؟ أهي نهاية العالم أم تأثير الحرب ؟!”
أبتعد مهيار عن دانيار الذي ضمه له بلطف يقول :
” نعم هذا تأثير الحرب، تود التجربة ؟؟”
ابتعد تميم للخلف ممازحًا :
” لا أرجوك اعفني من كل هذا ”
ضحك عليه دانيار بصوت مرتفع ولم يكد يكمل ضحكته حتى لمح طيفها يتحرك في المكان على بُعد صغير منه، اتسعت عيونه وتحفزت جميع أعصابه، ونظر صوب سالار الذي كان يتحدث مع أحد كبار الجيش في انتظار الملك .
ابتلع ريقه يقول بسرعة وهو يتحرك بعيدًا عنهم :
” مهيار سأعود بسرعة، غطوا غيابي إن تأخرت ”
وقبل أن يتحدث أحدهم بكلمة واحدة كان يركض بعيدًا عنهم صوبها، يتجاهل أي اصوات حوله وهو يتابعها بنظره تتحرك بعيدًا عن الأعين بعض الشيء بعدما منحته نظرة صغيرة .
ركض حتى وصل لها ليمنعها التحرك خطوة إضافية يقول بصوت مرتفع وللمرة الأولى :
” زمـــرد ”
توقفت قدم زمرد عن التحرك بعدما شعرت بتجمدها لثواني معدودة، استدارت ببطء تواجهه لتراه يقترب منها بلهفة شديدة :
” مرحبًا ..”
تعجبت ؟! بل صُدمت نبرته ونظراته لها، تراجعت بريبة تشعر أنه يضمر لها شيء لا تدركه، شيء تعلم أنه ليس سيئًا وهذا اسوء من أن يضمر لها السوء .
” مر…حبًا ”
ابتسم لها بسمة صغيرة يقترب خطوة إضافية :
” مبارك عليكِ عودة سيفك البارحة ”
ابتسمت له بسمة جانبية :
” وهذا ليس بفضلك كما تعلم ”
” لا لم يكن كذلك، لكن لا بأس طالما أن النتيجة واحدة، فأنا كنت بالفعل انتوي إعادته لكِ البارحة ”
رفعت حاجبها لا تصدق ما يقول ليبتسم هو بسمة أوسع :
” صدقي أو لا تصدقي، أردت منحك السيف قبل رحيلي للحرب، علها تكون ذكرى أخيرة جيدة مني ”
انتفض جسد زمرد انتفاضة صغيرة غير محسوسة لكنها كانت مرئية له تقول بصوت خافت :
أنت… أنت ذاهب للحرب صحيح ؟! ”
” نعم ”
كان سؤالًا غبيًا تعلم، لكن هذا هو ما جاء في عقلها حين سمعت كلماته، على الأقل لن تكون تلك الكلمات أكثر غرابة من سؤال يلح عليها أن تنطقه، وكيف تفعل وتخبره أن ينتبه لنفسه، وهل سيكون بخير ؟؟ هل سيعود مجددًا ؟؟
هو الآن ذاهب في رحلة إبادة لشعبها وعشيرتها ومن اعماق قلبها تتمنى له التوفيق حقًا، تنفست بصوت مرتفع، ثم رفعت عيونها له تقول :
” أتمنى لك الـ …”
” تزوجيني .”
توقفت عن الحديث، بل توقفت عن التنفس وتوقف العالم حولها، ما هذا ؟؟ ما الذي نطق به للتو ؟؟ بلا مقدمات نطق هذه الكلمة التي أصابت منتصف قلبها، البارحة كان يبحث عنها لقتلها واليوم يخبرها أنه يود الزواج منها ؟! هل جُنّ ؟!
تجاهلت ضربات قلبها التي تعالت تضامنًا مع كلماته، تؤيده وبقوة، بينما عقلها رفع رايات الاعتراض وحشد جيوش التمرد، يرفض هذا القرار بعنف .
تراجعت للخلف بوجه شاحب وهي ترى نظرات دانيار لها، يراقب ردات فعلها التي تتابعت على ملامحها، وهناك بسمة كبتها يقول بهدوء :
” لا أريد ردًا الآن، إن كتب الله لي عودة سآخذه منك ”
صمت ثم نظر لها ثواني يراقب ملامحها التي كانت تصرخ بالرفض، لكنه انتوى داخله وانتهى الأمر هو لن يقبل بالرفض جوابًا .
” سأقبل جوابك ايًا كان، لا تنسني من دعائك ”
ابتسم يرحل بسرعة كبيرة راكضًا صوب الجيش مجددًا يتنفس بصوت مرتفع لا يدرك حقًا كيف تحدث بكل هذا، لا يدرك كيف قال كل ذلك، لكنه سعيد .
وهي ما تزال مكانها تحاول أن تتنفس بشكل طبيعي تهتف من بين صدمتها :
” ما الذي حدث للتو ؟؟؟”
____________________
رحل الجيش وبقي البعض منه في القصر لحماية النساء، لكنه ليس بالكثير كمن رحل، ساروا في طريقهم لخوض حرب غير معلومة النتيجة، فلا هم يضمنون الانتصار، ولا يتوقعون الخسارة، هم فقط استعانوا بالله وانطلقوا .
وفي القصر وبمجرد إغلاق البوابات بعد رحيل الجيش، استدارت شهرزاد صوب تبارك بسرعة كبيرة تنظر لها نظرات الكلب الذي تركه صاحبه واخيرًا ينفرد بقطه، لكن تلك القطة والتي اعتادت الهرب طوال الوقت ابتسمت بسمة واسعة تنحني لها انحناءة بسيطة برأسها:
” اعذريني مولاتي، لدي بعض الدروس للانتهاء منها ”
وبالفعل ها هي تخرج من الشرفة بسرعة كبيرة مبتسمة بسمة واسعة تتذكر النظرة الأخيرة للملكة قبل خروجها، بدت كما لو أن فعلة تبارك تلك تسببت لها في انحصار كلمات كانت على وشك الفيضان في وجهها .
الملك أخبرها أن تُحكم عقلها وهي حكمته وأمرها بتجاهلها، وها هي تسير في القصر تفكر فيما يجب أن تفعله، الأمر ممل بعض الشيء، حتى الطبيب رحل معهم، فلم تعد تستطيع الذهاب للمشفى .
لكن مهلًا هل هذا شيء مسلي يتحرك أمامها الآن ؟؟ جندي بأعين كحيلة ووجه نسائي جميل يتحرك في المكان ؟؟ هي ليست فضولية وليست مزعجة، لكن للضرورة أحكام..
تحركت تبارك بسرعة خلف تلك الجندية بخفة شديدة تعلمتها وتمرست عليها حين كانت تتسحب خارج بنايتها هربًا من أعين النساء، شيء تشكرهم لأجله.
انتبهت أن الفتاة تتحرك بخطوات ثابتة صوب إحدى الحدائق وهناك توقفت ثواني تنظر حولها لتختبئ هي بسرعة كبيرة، ثم أخرجت رأسها ترى أنها دخلت أحد المباني وغابت بها دقائق قبل أن تخرج فتاة رقيقة بثياب جميلة تنافي كليًا ما رأته هي .
أمسكت كهرمان الحقيبة الخاص بالثياب، تتحرك صوب مكان تجمعها المعتاد مع برلنت وزمرد، وبمجرد أن وصلت وجدت برلنت تجلس جانبًا كتلميذة تخشى غضب معلمها، بينما زمرد تتحرك في المكان كأسد سحبوا منه شبله الصغير وألقوه في قفص .
نظرت صوب برلنت تسألها بعيونها عما حدت لتحرك برلنت كتفها بجهل شديد :
” ما الذي حدث زمرد، ما بالك مشتعلة منذ الصباح !؟”
استدارت لها زمرد بشراسة غير معهودة منها معهم لتتراجع هي للخلف بسرعة وتنقلب برلنت على ظهرها بخوف حيت حاولت النهوض بسرعة لتركض .
” ماذا ؟! أنا بخير، ما الذي يحدث لي ؟؟”
” لا شيء حبيبتي أنتِ بخير، أهدأي ”
تنفست زمرد بصوت مرتفع تشعر بأنها تتهاوى، صراع عنيف داخلها، قلبها يحارب اعزلًا في معركة غير عادلة ضد خلايا جسدها بأكملها، الجميع يحاربه ويلومه بموافقته الغبية تلك على قرار لن يساهم إلا في تسريع هلاكهم .
مسحت زمرد وجهها تقول بصوت منخفض :
” الأمر معقد للغاية لقد …”
فجأة توقفت حين أبصرتها تقف على بُعد صغير منهم تراقبهم بأعين فضولية حذرة تحاول معرفة ما يحدث، لترفع زمرد حاجبها تقول بصوت غاضب مسموع لكهرمان وقد كانت في هذه اللحظة لا تفرق بين أحد .
هذه الفتاة لا تحسن حقًا اختيار اوقات الظهور أمام عيونها :
” تلك الفتاة نهايتها على يدي، سأقتلها ”
تعجبت كهرمان حديثها وهي تستدير معتقدة أنها تقصد برلنت :
” ماذا فعلت بر….ماذا ؟؟ ما الذي تفعله هنا ؟؟”
ابتسمت تبارك لهن بسمة صغيرة وهي تقترب منهن ترفع كفها في الهواء تقول ببسمة صغيرة لا تدري ما التصرف الصحيح في هذا الموقف فهي يومًا لم تصادق أحد عدا زملاء العمل وهم في الحقيقة فرضوا أنفسهم عليها :
” مرحبًا ”
زفرت زمرد بصوت مرتفع تقول بغيظ شديد والغضب داخلها غير موجهة لتبارك تحديدًا :
” هذا ما ينقصني الآن ”
نظرت لها تبارك بأعين متسعة خجلة، تدري أنها اقتحمت جلستهم بكل وقاحة ودون أي حق بذلك، ابتلعت ريقها تعود للخلف معتذرة :
” أنا آسفة لم أقصد ازعاجكم، فقط أردت معرفة إذا ما كنتِ ….”
توقفت عن الحديث وشعرت أن ما من فائدة لكل ذلك، لذا قررت التحرك بعيدًا وهي تعتذر بخفوت تود الرحيل، لولا برلنت التي امسكتها بسرعة تقول :
” مهلًا مولاتي هي لا تقصد شيئًا اقسم لكِ، فقط تلك الغبية زمرد لا تتحكم بلسانها، ثم هي منزعجة بعض الشيء، لذا تتحدث دون وعي، أليس كذلك زمرد ؟!”
كانت تتحدث بسرعة رعبًا أن تغضب الملكة وتتعاقب زمرد بسبب لسانها السليط، ابتلعت برلنت ريقها تنظر لزمرد برجاء أن تؤكد حديثها، وزمرد فقط نظرت بغضب صوب تبارك وكأنها هي من اختارت أن تكون زمرد من المنبوذين، وهي من جعلتها تميل لشخصٍ لن تناله إلا في احلامها .
داخل زمرد في تلك اللحظة كان هناك فيضان كبير، رفضت أن تؤكد كلمات برلنت تبعد عيونها عنها وتبارك شعرت بالفشل في المرة الوحيدة التي قررت الخروج من قوقعتها، بل الثانية، حسنًا الانطوائية أفضل لها، فلن تكون مضطرة على عيش مثل تلك المواقف المخجلة .
هزت رأسها تقول بسرعة :
” لا، لا بأس، أنا فقط أردت الحديث قليلًا مع رفيقتكم حول اتفاق بيننا، لكن يبدو أنني جئت بوقت غير ملائم، اعذروني آنساتي ”
حملت أطراف فستانها وهي تستدير ببطء لترحل تشعر بضيق شديد ورغبة كبيرة في الانعزال عن جميع البشر الآن، لكن فجأة توقفت على صوت يقول :
” لحظة ”
توقفت تبارك بتردد تنظر صوب صاحبة الصوت والتي كانت هي نفسها الفتاة الجندية لتجدها تجذب الأخرى بقوة وهي تقول ببسمة صغيرة :
” نعتذر لكِ مولاتي حقًا زمرد لا تقصد أن تكون وقحة ”
تمتمت زمرد بحنق شديد :
” نعم أنا لا اقصد ذلك، فأنا هكذا بالفعل ”
زجرتها كهرمان بقوة، ثم نظرت لتبارك تبتسم لها بلطف بعدما اوجعتها نظرتها وهي ترحل خائبة الامل، قالت بلطف :
” نحن بالطبع نرحب بكِ معنا، بل شرف كبير لنا أن نجلس مع الملكة ”
تتحدث وهي تشعر باحتراق صدرها من الداخل، تلك الحقيقة تقتلها، لكن رغم ذلك ابتسمت حينما أبصرت توقف تبارك أمامهم وهي تنظر لزمرد بترقب وكأنها تنتظر منها ترحيبًا بها .
ليلتوي ثغر زمرد بقوة تتنفس بصوت مرتفع :
” نعم لنا الشرف مولاتي ”
ورغم أنها لم تكن الكلمة التي تنتظرها تبارك إلا أنها ابتسمت تقول بصوت خافت :
” اشكركم، بل الشرف لي، و… رجاءً نادوني تبارك، فأنا لم أصبح الملكة بعد ”
هزت كهرمان رأسها ببطء، ثم نظرت للاسفل تقول في نفسها وكأنها تجيب كلمات تبارك :
” لكنها مسألة وقت لتصبحي كذلك جلالتك، مسألة وقت وتصبحين زوجته ”
ارتجف قلبها ترفع عيونها لتبارك التي اقتربت من زمرد تقول بصوت متردد خافت :
” إذن نحن على اتفاقنا ؟؟”
تحدثت زمرد في وجهها بحنق شديد :
” نحن لم نتفق على شيء يا فتاة ؟؟ بل أنتِ من فرضتي نفسك عليّ وهددتني ”
اتسعت أعين تبارك تقول بجدية :
” لم أفعل، أنا فقط كنت أخبرك أنني اعلم حقيقتك، لكنني لم اهددك، فقط طلبت منكِ وباحترام شديد أن تعلميني المبارزة ”
صمت زمرد يديها لصدرها ترفض كل ذلك :
” لا أريد ذلك، أنا لست مؤهلة لتعليم أحدهم شيئًا، لا امتلك الصبر لذلك ”
هزت تبارك رأسها تنظر لكهرمان تقول بجدية :
” إذن علميني أنتِ أولستِ جندية في الجيش؟؟ إذن لا بد أنكِ تعلمين كيفية المبارزة ”
اتسعت أعين كهرمان بقوة وهي تنظر لها بصدمة تفكر كيف عرفت الملكة بـ ..وفجأة تذكرت يوم رأت ملامحها يوم هجوم بافل على سفيد، ابتلعت ريقها تنظر لزمرد التي همست بصوت جاد :
” أخبرتك أن نقتلها لتلك الفتاة، هي تعرف الكثير، لا ينقصها سوى برلنت الغبية ويصبح معها بطاقة حمراء لثلاثتنا ”
تنحنحت كهرمان تحاول الحديث ببسمة متوترة صغيرة :
” يبدو أن الأمر اختلط عليك مولاتي، أنا لست جندية ونحن في الممالك لا نجند النساء ”
رفعت تبارك حاجبها تقول ببسمة صغيرة وقد بدأت تدرك الأمور تضم يديها لصدرها تشعر بالانتصار اللحظي عليهم :
” إذن لماذا كنتِ ترتدين ثياب الجنود منذ ثواني قبل أن تأتي هنا مباشرة ”
صاحت زمرد بحنق شديد :
” اخبرتكم لنقتلها ”
اتسعت أعين تبارك بصدمة وهي تتراجع للخلف تدرك الآن أن تلك الفتاة خطرة، خطرة وبشدة، لكن كهرمان دفعت زمرد للخلف تقول بحنق :
” توقفي عن مزاحك زمرد اخفتيها ”
نظرت لتبارك تقول بجدية :
“اسمعي، هذه الأمور لا نحب أن نشاركها مع أحد؛ لذا هي اسرار لا أحبذ أن تخبريها لأحد، أخبريني ماذا تريدين مقابل الحفاظ على تلك الأسرار ؟! ”
نظرت لهم تبارك بريبة لتجد أن برلنت تبتسم لها بسمة صغيرة لطيفة وكهرمان تنظر لها بترقب، وزمرد بشر وكأنها تنتظر إشارة لقتلها فعليًا .
” أريد أن أصبح مبارزة بارعة و….”
ترددت لتقول ذلك، لكن وحدتها وكل معاناتها هنا دفعتها لتقول ولأول مرة في حياتها بخجل شديد تفرك كفيها :
” يمكننا أن نصبح أصدقاء ؟؟”
صاحت برلنت بسرعة وهي ترفع يدها في الهواء بحماس شديد تقول مقتربة من تبارك :
” أنا موافقة ..”
نظرت لها زمرد بحنق شديد وتحذير :
” أيتها الحمقاء بهذه السرعة ؟؟ هذا لأنها لا تهددك بشيء ”
” يا فتاة هذه الملكة تطالب بصداقتنا، هل تمزحين معي ؟؟ بالطبع اقبل ”
قالت تبارك بصوت خافت :
” أنا لا اهددكم بشيء، حتى إن رفضتم الأمر فلست واشية لاخبر أحد، وإلا لكنت فعلت ذلك منذ أيام..”
تجاهلت برلنت كل ذلك تقول ببسمة :
” دعك منهم تبارك، أنا برلنت أعمل هنا و…حسنًا أنا زوجته لصانع الأسلحة ”
قالت تبارك بعفوية شديد وصدمة :
” تميم ؟؟”
اتسعت بسمة برلنت بقوة تقول :
” نعم هو، من كان يعلمك الفروسية، هو بارع صحيح؟؟ ”
ابتسمت لها تبارك بسمة واسعة ترى حبها الواضح، ورغم جهلها أن تميم متزوج إلا أنها هزت رأسها بهدوء تبارك لها الزواج، تدرك الآن أنها بالفعل لا تعلم شيء عن أي أحد داخل هذا القصر، فقط الملك تعلم عنه بعض الأشياء بسبب أحاديثهم القليلة العميقة .
اقتربت منها كهرمان تقول بصوت خافت :
” أنا كهرمان عاملة هنا ”
نظرت لها تبارك تقول بعفوية :
” أنتِ جميلة ”
” اشكرك، بل الجمال كله لكِ عزيزتي ”
رفعت تبارك عيونها لزمرد تنتظر منها بادرة ترحيب أو قبول لها بينهم، لكن كل ما فعلته هي أن نظرت لها بغضب وحنق شديد تضم يديها لصدرها قبل أن تتلقى ضربة من برلنت تهمس لها :
” توقفي عن كونك لئيمة ”
زفرت زمرد بصوت مرتفع تقول وهي تبعد عيونها صوب تبارك تلين لها بعض الشيء :
” أنا زمرد ”
ابتسمت لها تبارك بسمة صغيرة :
” تشرفت بمعرفتك زمرد ”
هزت لها زمرد رأسها ولم تكد تتحدث بكلمة حتى سمع الجميع فجأة صوت جعل أجسادهم تنتفض بقوة والأعين تتسع بصدمة، وصوت أبواق الانذار تنطلق بشكل مخيف، يتبعه صوت جهوري لأحد جنود برج المراقبة يدعو المتبقي من الجيش للانتفاض :
” هجوم من المنبوذين، لقد صنعوا لنا مكيدة ”
اشتعلت أعين زمرد وهي تهمس بشر :
” يا ويلي من هؤلاء الخنازير …..”
______________________
عدد مهيب يتوقف في منتصف منطقة خالية إلا من بحيرة صغيرة عسكر عندها مهيار ومن معه من رجال الإغاثة الفورية للرجال .
وعلى مسافة منه كان هناك أعداد غفيرة من الجنود يترأسه بالطبع إيفان بكل قوة يرفع رأسه عاليًا وكأنه يأبى أن يحني رأسه للريح .
صمت طويل هو كل ما يمكن سماعه في المكان، صمت لا يتناسب مع اعداد البشر الكثيرين في المكان، هم فقط يحدقون أمامهم بجمود شديد ينتظرون وصول جيش بافل، ووصوله هو شخصيًا يترأسهم .
مدً إيفان بصره يحاول رؤية أي شيء، لكن يبدو أنهم جبنوا لدرجة أن تخلفوا عن الحرب، عارٌ عليهم وعلى ذريتهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ومنذ متى لم يصاحبهم العار، أو يرافقهم الذل ؟؟
طال الانتظار ولا إشارة واحدة تدل على نية الطرف الآخر في القدوم .
تحرك تميم بسرعة بخيله يقترب من إيفان يقول بجدية :
” الأن ماذا مولاي ؟؟”
صمت إيفان ينظر جواره صوب أحدهم، ثم نظر أمامه يقول بصوت جامد :
” لا أدري حقيقة تميم، فأنا يومًا لم اقابل خصمًا بمثل هذه الوضاعة والجبن عدا والده، اعتقد أن تقهقر الجيوش الآن أمر غير مقبول، ربما ينتظرون منا استدارة ليضربوا ظهورنا، فهم بارعون في الأمر ”
هز تميم رأسه يعود بسرعة صوب مركزه بعدما نظر للجبل الذي يبعد عنهم مقدار صغير والذي استقر فوقه دانيار وجيش الرماة خاصته، ومن ثم نظر صوب الكتيبة الأخيرة جوار الملك يتنهد بصوت مرتفع، ولم يكد يعود لمكانه حتى شعر الجميع باهتزاز الأرض اسفلهم بشكل جعل الأجساد بأكملها تتحفز بشكل مخيف .
تجهز المشاة والفرسان ..
واعلى الجبل كان دانيار يمسك منظارًا يراقب الأجواء منه، يبصر ضبابًا كثيرًا يزحف صوب جيوش الملك وحينما تلاشى الضباب اتسعت أعينه حين أبصر اعداد غفيرة تتحرك صوبهم .
اتسعت بسمته بشراسة وهو يهدر بصوت رن صداه في المكان بأكمله :
” مـــن الشمــــال، والشـــرق ”
تبع صرخة دانيار صرخة أشد قوة من إيفان في جنوده :
” تجهــــزوا ”
وفي ثواني كان الجميع يرفع أسلحته في الهواء ينتظرون لحظة اقترابهم، وما هي إلا دقيقة معدودة كانت بها أعين إيفان مركزة على القادمين، عيونه مثبتة على الجيش الذي يزحف نحوهم بشراسة كبيرة .
ثواني هي حتى التحم الجيشين .
وعلت الصيحات من الجهتين صرخات شرسة من جهة المنبوذين تقابلها ” الله أكبر” من جيوش إيفان الذي شعر بالادرينالي يندفع في أوردته وهو يهجم بقوة على من يقابله .
ودانيار أعلى الجبل ينتظر اللحظة المناسبة للتدخل فقط يراقب بحرفية عالية، الصمت السابق تحول لطوفان من الضوضاء، الهدوء سرعان ما جلب عاصفته .
كان تميم يقود وحدته الخاصة وهو يدور حول جيش بافل يجبره على التوغل للداخل، يدفعه للمنتصف حتى يطوقونه .
نظر تميم حوله ثواني قبل قبل أن يرفع سيفه وهو يصرخ في صفوفه :
” تقدموا… الآن”
تحرك الجميع بسرعة خلف تميم يتحركون لجانب جيش بافل يلتفون حوله بمهارة، يقاتلون رجاله مجبرين إياهم على الدخول في المنتصف ليحاصرونهم .
واعين إيفان من بين كل ذلك القتال تراقب المكان، يبحث عن وجه بافل بينهم، لترتسم بسمة مخيفة أعلى وجهه يقول بجدية :
” أوه إذن الفأر خشي ترك جحره والمجئ لساحة الحرب ؟؟”
نظر حوله يرى أن أعداد جيش بافل ليست بالكبيرة، أعداد قليلة وكأنهم فقط أرسلوا لهم فتات الجيش بينما الجزء الأكبر منهم بقى في مقرهم، أو ربما لا …
ابتسم بسمة جانبية وهو ينظر لأحد رجال بافل يحرك حاجبه له ليهز له ذلك الرجل حاجبه ويقترب منه بسرعة كبيرة رافعًا سيفه في الهواء كي يهجم على إيفان، وحينما وصل له رفع الإثنان سيوفهم في الهواء يتنطاحون .
اقترب ذلك الرجل من إيفان بملامح شرسة، وحين أصبح على مقربة منه همس بصوت خافت :
” زحف الجزء الأكبر من جيوشهم صوب سفيد ”
اتسعت بسمة إيفان أكثر ينظر في عيون ذلك الرجل وهو يهمس له بصوت مرعب :
” مرحبًا بهم، تركت لهم من يرحب بهم هناك …”
___________________
لم تعي شيئًا، فقط شعرت بمن يجذب ذراعها بقوة مخيفة مبعدًا إياها عن الحديقة، يركض بها صوب القصر ليأمنها، ولم يكن ذلك الشخص سوى كهرمان التي كادت تحملها فوق كتفها وتهرب به برعب شديد، فمجيئهم هنا يعيد لها ذكريات سيئة، جاءوا ليخربوا الديار ويشردون أهله، ويأسرون النساء وعلى رأسهم بالطبع الملكة .
كانت تبارك تتنفس بصوت مرتفع وهي تركض بصعوبة بسبب الفستان الخاص بها تلعن في نفسها كل من ساهم في تصميم هذا الثوب الذي صنعوه فقط لأسر النساء وتعذبيهن به .
فجأة توقفت على صرخة زمرد التي انحنت ارضًا تمسك أطراف الفستان وهي تقول ما كانت تفكر به تبارك :
” تبًا لهذه الثياب اللعينة ”
وفي ثواني كانت تخرج خنجرًا قطعت به جميع أطراف الفستان، ثم نهضت تقول بصوت مرتفع :
” اركضي، اركضن بسرعة واحتموا بأي مكان ”
كانت تتحدث وهي تدفع برلنت وتبارك وكهرمان أمامها، وعيونها تلتمع بتصميم مخيف جعل كهرمان تمسك يدها وهي تصرخ بجدية :
” إلى أين ؟! أنا لن اتركك تتحركين خطوة بعيدًا عنا…دوني”
تنفست زمرد بصوت مرتفع تقول :
” أنتِ ستحمين الملكة وبرلنت، وأنا..فقط سأذهب لارى ما يحدث، لن أشارك بالقتال لا تقلقي، ليس الأن، مواجهتي معهم لم تحن بعد ”
نظرت لها كهرمان تتنفس بصوت مرتفع، لكن فجأة دفعتها كهرمان بقوة وهي تقول :
” أمني الملكة وبرلنت كهرمان أنتِ تستطيعين القتال وحمايتهم ”
نظرت لهم تبارك ثواني وهي تراهم يتصارعون على حمايتها، ولم تتحدث بكلمة أو تخبرهم أنها بالفعل تستطيع القتال بشكل جيد، على الأقل بالنسبة لها، فهي لا تدري نوع الأشخاص الذين ستتعامل معهم، لربما كان سالار يتهاون معها في التدريبات، رغم شكها في هذا .
ركضت كهرمان والجميع صوب غرفتهن بسرعة والتي اقتحمتها زمرد تنتزع منها سيفها، ثم ركضت بسرعة للخارج، بينما تحركت برلنت صوب النافذة بسرعة تراقب بوابة القصر بأعين متسعة :
” يا ويلي على هذه الأعداد المرعبة، إن كان هؤلاء جميعهم هنا، فمن إذن ذهب لملاقاة الجيش ؟؟”
اقتربت تبارك لتنظر معها ترافقها كهرمان واستقر الثلاثة بالنافذة يراقبون ركض الجنود المتبقيين صوب البوابة لتتحدث كهرمان بصوت مرتجف ونبرة مرتعبة :
” أرى من الآن مئات الجرحى والقتلى يفترشون الأرض ”
ابتلعت تبارك ريقها برعب وهي تدعو الله في قلبها ترتجف بخوف :
” يا الله يا مغيث… ”
ولم تكد تتحدث بكلمة حتى اتسعت عيونها تستوعب الآن جملة كهرمان التي نطقت بها، مئات الجرحى، مئات الجرحى والطبيب ومن معه بالحرب، مئات الجرحى دون طبيب ..
عند هذه الفكرة انتفض جسدها تبتعد عن النافذة تقول بصوت مرتفع ولهفة كبيرة وضربات قلبها ارتفعت :
” عليّ الخروج بسرعة صوب المشفى قبل محاصرة القصر، عليّ الذهاب هناك لمساعدة الجرحى، لا طبيب هناك ..”
نظرت لها كهرمان بعدم فهم، وهي لم تنتظر ليستوعب أحد ما قالت تركض بسرعة كبيرة خارج غرفة الفتيات تحت انظر كهرمان وبرلنت المصدومين مما قالت .
انتفض صدر كهرمان تنظر صوب برلنت ثواني قبل أن تركض الفتاتان خلف تبارك بسرعة كبيرة .
وتبارك لا ترى أمامها سوى باب القصر، تشكر في هذه اللحظة زمرد التي قطعت لها الثوب لتركض بهذه السرعة، وهذا يذكرها، إن نجت عليها أن تلقي بجميع فساتينها لها كي تقطعهم بنفس الشكل .
خرجت من القصر بسرعة كبيرة تركض في الحديقة صوب المشفى، تحاول تنظيم أنفاسها وهي تشعر بضربات قلبها ترتعش من الخوف، اصوات الصرخات وضربات السيوف تصل لها الآن هنا .
” يالله يا مغيث …يا الله يا مغيث، رحمتك يارب ..رحمتك يارب ”
كانت ترتجف وهي تسمع الاصوات تزداد حدة تخشى الموت، تخشى الدمار، تستوعب الآن أن الجيش بجميع قادته في الحرب وهم هنا لديهم القليل فقط من الحماية والتي سرعان ما ستنهار أمام طوفان هجماتهم .
وعلى بعد منها كانت تقف هي فوق في أحد أجزاء القصر تحمل سيف والدتها تحدق بأعين متسعة بما يحدث ترى الجيش يكاد يُهز وقد اقتحم رجال بافل القصر بإعداد غفيرة مرعبة، رفعت وبسرعة لثامها :
” مرحبًا بأهلي وعشيرتي ..”
تحركت زمرد بسرعة كبيرة صوب البوابة الخاصة بالقصر وعيونها تطلق نيرانًا، منعت كهرمان التدخل، واخبرتها أن لحظة قصاصها لم تحن بعد، لكن رؤيتهم يعيثون فسادًا أجبرتها على التحرك وهي تنظر لهم بشر تطلق صرخة مرتفعة …
في الوقت التي تصنمت اقدام تبارك ارضًا تبصر بوابة القصر تسقط وصوت الجنود ازداد حدة، تراجعت للخلف بريبة ترى جنود القصر بدأوا يسقطون واحدًا تلو الآخر متراجعين للخلف، وهي لم تكن أفضل منهم إذ تراجعت بريبة ترى جميعًا غفيرًا من المنبوذين يتدفقون بشكل مخيف للقصر .
شهقت بصوت مرتفع تشعر أنها النهاية، هي تقترب منها، الآن تحققت اسوء كوابيسها، ستموت ميتة شنيعة، أو اسوء، تصبح أسيرة حرب .
نبض قلبها بقوة تتراجع أكثر تسمع أصوات صراخات، وأصوات تكبير، وتدافع قوي وغشت عيونها مشاهد لم تتوقع يومًا أن تراها بهذا الوضوح وهذا القرب .
ومن بين كل تلك الأصوات وكل هذه المشاهد، انبثق صوتًا تعلمه تمام العلم، صوت يصرخ بصوت مرتفع في الجميع، صوت تدركه وتألفه، بل يألفه قلبها….
رفعت عيونها تبحث عن وجهه بين الجميع وهي تشعر بالرعب، كادت تبكي حينما أبصرت وجهه وهو يقود جيشًا طوّق وفي ثواني قليلة جيوش المنبوذين، لم تهتم بكل ذلك بقدر اهتمامها بذلك السلام الذي تخلخل لصدرها حينما ابصرته، لتهمس دون شعور :
” ســــالار ……..”
__________________
وحين تظلم حياتك ويحين الليل، فقط ضوء وحيد هو ما يرشدك للنجاة، وهو في هذه اللحظة كان ضوءها الخاص ….
يتبع…
ما قبل المعركة :
خرجت جيوش سفيد من القلعة واعلنوا وجهتهم صراحة صوب أرض المعركة وخرج الشعب بأكمله يودعه في حفاوة شديدة، وأصوات تكبيرات مرتفعة .
يسير إيفان متقدمًا الجيوش بملامح جامدة بعض الشيء، يجاوره سالار بنظرات تدور بين الشعب وهناك بسمة صغيرة مرتسمة على فمه وهو يراقبهم، بسمة قد يظنها البعض مرحبة متفائلة، وكان هذا على غير عادته فما كان لسالار أن يبتسم مرة واحدة أثناء تحركه للحرب، لكن الأمر لم يكن بيده، فهؤلاء الحمقى الذين زرعوا أنفسهم بين شعب سفيد يراقبون خروجهم للحرب، كانوا مضحكين وبشدة .
نظر سالار لإيفان الذي كان لا يحيد بنظره عن الطريق، لكنه كذلك لم يقاوم الابتسام، يسمع صوت سالار يردد :
” إذن حدث ما توقعناه ..”
ازدادت بسمة إيفان اتساعًا حتى كادت تتحول لضحكات صاخبة يمسك لجام فرسه :
” دعهم يستمتعون بهواء سفيد قبل أن تقطع عليهم أي ذرة هواء تدخل رئتهم، هم ضيوفنا ألا تتذكر ”
” نعم أتذكر مولاي ”
ابتسم إيفان وهو يتذكر أنه سمح لهم بنفسه أن يدخلوا سفيد، دخلوا في ثوب تجار عن طريق سبز هذه المرة، ويبدو أن الملك بارق لم ينتهي منهم بالكامل، دخلوا فقط ليتأكدوا من أن جميع الجيوش ذهبت للحرب ليضربوا ضربتهم، وهو منحهم ما يريدون وأعطاهم العرض الذي يطمحون له .
يمنحهم نشوة الانتصار الكاذبة، ولذة التقدم عليه، وهم مساكين لم يبلغوه حتى ليتقدموه .
وحينما انتهى الجيش من توديع الشعب صرخ إيفان بصوت جهوري يمنحهم إشارة الإنطلاق:
” تقــــــدمــــوا ..”
وفي ثواني انطلقت الجيوش كالقذائف بسرعة مخيفة يعبرون حصون سفيد، جميعًا إلى خارج البلاد بأكملها .
الجيش ينقسم لعدة أقسام، يقود إيفان الجبهة، وجواره كلٌ من سالار وتميم، في حين يحمي جيش دانيار ظهورهم .
لكن وبمجرد أن عبروا بوابة البلاد انقسم عنهم سالار بجيشه في تنظيم شديد وبخفة شديدة وبدلًا من التقدم معهم صوب أرض المعركة، دار حول اسوار المملكة بسرعة كبيرة مع نصف الجيش تاركًا الملك يقود النصف الآخر.
دار حول المملكة دورة كاملة استغرقت ساعات مع جيشة ليدخلها من الحدود الغربية لها وهناك بسمة مخيفة ترتسم على فمه حين سمع صوت أحد الجنود .
” إذن سيدي ماذا سنفعل الآن ؟؟”
نظر لهم سالار بأعين سوداء يردد بجدية وهو يتحرك بجنوده صوب القلعة بسرعة كبيرة وبشكل متخفي من طرق ملتوية :
” دعوهم يقتحمون القصر، اجعلوا هدفهم مصيدة لهم، حاصروهم داخل القصر، لا أود أن يهرب واحد منهم فقط ..”
عودة للمعركة :
كان جنود سالار يحاصرون الجيش من كل الثغرات به، وتركوا فقط ثغرة واحدة ظاهرة لهم لتكون مدخلهم صوب القصر، ابتسم حين رأى هجوم جنود بافل على القصر بقوة ضارية ليدّعي جنوده دفاعًا واهيًا كي لا يثيروا الشكوك، ثم في ثواني تحركوا من أمام الباب سامحين لهم باقتحام القصر .
في هذه اللحظة ارتفع صوت سالار يهدر بين جنوده :
” احيــــطوا بهؤلاء الخنازير، قاتلوا أعداء الله ”
وفي ثواني لم يحسب لها رجال بافل حسابًا وجدوا سيلًا من الرجال يندفع كالفيضان عليهم من كل حدبٍ وصوبٍ، اندفاع جعل قلبوهم تجفل للحظات وهم يتراجعون بسرعة صوب الابواب، لكن وقبل أن يفعلوا وجدوا جزء لا يُستهان به يقفل عليهم المخرج وصوت جهوري يهتف بهم :
” مرحبًا بكم في سفيد الأرض التي ستتلوث بقذارة دمائكم، وستدفن في جوفها جثثكم العفنة التي أثقلتها الذنوب والمعاصي ”
كان صوته يرنّ صداه في أرجاء القصر مسببًا اضطراب في صدر تلك التي كانت تقف بعيدًا تراقب ما يحدث بأعين متسعة، يا الله شتان بين هذا الصوت العاصف والآخر الساخر، لكن في كلا الحالتين يسببان لها اضطرابات وإن اختلفت ..
ابتلعت ريقها تراقب ما يحدث بأعين متسعة، ففي ثواني وبعد كلمة من سالار التحم الجيشان بشكل مرعب جعلها تغمض عيونها وهي تردد العديد من الاستغفارات والأدعية .
تراجعت أكثر تفكر في الركض صوب المشفى لأجل علاج المصابين من الجنود، لكن وقبل أن تتحرك وجدت العديد من الجنود يحيطون بسالار في شكل مرعب، تركوا باقي الجيش وتجمعوا حوله يتنافسون على من يقتله .
ارتجف قلبها تهمس بصوت مرتعد :
” سالار، يريدونه، هم يريدون قتله هو ”
وعند تلك النقطة ارتجفت يدها وشعرت بالخوف يحيط بكامل جسدها، تنظر حولها في تشتت ورعب واضح، ثم وفي ثواني ودون مقدمات كانت تتقدم من المكان تلتقط سيفًا قد سقط من أحد الجرحى، تشعر بارتجاف صدرها، تتحرك صوبهم وهي تردد في نفسها :
” الله خير حافظ، الله خير حافظ ”
وفي تلك الأثناء التي كانت تحارب تبارك فيها نفسها؛ كي تتشجع وتخوض مضمار لم يسبق أن خاضته يومًا أو حتى وطأته بالخطأ .
كانت هي تقف بينهم وهي ترفع سيفها تجز أعناق كل من يراقبها دون أن يرف لها جفن، تتناثر دماؤهم على وجهها لتتسع بسمتها بشكل مرعب وهي تصرخ فيهم :
” لعنة الله عليكم أجمعين، لعنة الله عليكم اجمعـــــيــن يا حثالة الممالك ”
ختمت صرختها وهي تغرز سيفها في أحشاء ذلك الرجل الذي قابلها بنظرات مصدومة، ابتسمت تنتزع سيفها وهو تقول بصوت سوداوي :
” هل ظننتم أنكم انتهيتم مني ؟؟ في أحلامكم الوردية يا قمامة الممالك، فناؤكم على يدي يا قذرين ”
ابتسمت حين رأت العديد من الرجال ينظرون لها بأعين متسعة يهمس أحدهم بكلمات مصدومة :
” ابنة الزعيم ؟؟”
” زمرد ؟؟”
” هذه ابنة الزعيم ”
ابتسمت له زمرد تقول وهي ترفع سيفها :
” إن اسميتم ذلك الحقير سليل الشياطين زعيم؟؟ فنعم أنا ابنته، مرحبًا بأهلي وعشيرتي في رحلتكم الأخيرة والتي سأختتمها بيديّ هاتين ”
وبهذه الكلمات اختتمت زمرد خطبتها القصيرة تهجم عليهم وقد تجمعوا عليها بشكل غير عادل ومنذ متى علموا عن العدل أو الشجاعة، فقط تكالبوا عليها ليسقوطها ارضًا ويعودوا برأسها لبافل الذي أعلنها صراحة، من يحضر له رقبة شقيقته فله ما يشاء من الذهب والمال ..
وزمرد أبت أن تنحني لهم، تنتقم لوالدتها فيهم، شعرت فجأة بخطرهم يزداد، فرغم ضعفهم في القتال إلا أن الكثرة…تغلب الشجاعة .
ولم تكد تلتقط أنفاسها حتى أبصرت من يتدخل للدفاع عنها، نظرت بسرعة جوراها ترى جنديًا من جنود الملك يقاتل معها، ابتسمت حين لمحت عيونه لتسمع صوت ذلك الجندي الرقيق الذي لا يتناسب لا مع ثوبه أو سيفه أو حتى الموقف :
” تمنعيني من القتال لتحظي بالمتعة كاملة وحدك ؟!”
أطلقت زمرد ضحكات وهي ترفع سيفها تغمز لكهرمان التي ركضت تحضر ثوبها وسيفها كي تنضم لهم :
” أخبرتك أنني أنانية حقيرة مولاتي ..”
فجأة وأثناء حديث زمرد أبصرت بطرف عيونها تجمهر العديد من الجنود حول سالار بشكل مرعب، لم يكن ذلك ليعنيها فهي كذلك محاصرة، إلا أنها أبصرت أحدهم يرفع سيفه من الخلف والغدر يلتمع في عيونه، لتشعر بالرعب وهي تركض بجنون صوبه صارخة بكل ما فيها من خوف :
” يا قائـــد ..خلفـــــك ”
عند سالار كان يحمل سيفيه يقاتل باليدين رافضًا الموت بهذه الطريقة، ليس الآن وليس على يد هؤلاء الحثالة، لن يعطيهم شرف التخلص منه، أبصر جنوده يحيطون به ويشاركونه القتال ليشعر هو بحركة خلفه جعلت جميع حواسه تتحفز وقبل أن يلتف سمع صرخة أنثوية لا مكان لها في هذه الحرب تحذره .
استدار بسرعة كبيرة كي يجز عنق من خلفه، ثم بعدها يفكر في أمر تلك السيدة التي اقتحمت الحرب .
لكن وحين استدار ورفع سيفه عاليًا، ما وجد لسيفه موضعًا في جسد مهاجمه، فقد سبقه أحدهم وغرز سيفه في جسده، تهاوى جسد الرجل ارضًا مفسحًا المجال لسالار كي يبصر منقذه والذي لم يكن سوى …تبارك ؟؟
________________________
انتهت الحرب ..
بهذه البساطة انتهت، إذ لم تكن تلك الحرب المقصودة من حديث بافل، فهو لم يكن بمثل تلك الشجاعة ليعلنها حرب صريحة بين الجيشين في أرض المعركة، بل حرب بافل التي كان يقصدها هي نفسها حرب والده وأجداده، حرب الغدر والخسة، حرب الجبن والسطو، أراد دفعهم بالجيوش صوب ساحة المعركة لأخذ البلاد .
ابتسم إيفان بسمة جانبية يراقب أجساد جيش بافل المترامية ارضًا والمتبقي منهم سحبهم الجنود كأسرى لهم، مقابل عدد قليل من قتلى جيشه الذين صعدت أرواحهم شهداء، وبعض المصابين..
رغم أن الأعداد التي واجهوها كانت تقدر ببضعة الآلاف مقابل نصف جيشه، إلا أن الغدر لا ينفك يلاحق رجال بافل الذين جاءوا هذه الحرب يدركون خسارتهم لها ولارواحهم، لكنهم أبوا إلا أن يرحلوا ومعهم بعضًا من أرواح جنوده الاشراف، غدروا بالقليل منهم واسقطوهم من ظهورهم، أرادوا أن يرافقوهم في رحلتهم للآخرة، لكنهم نسوا أن قتلاهم ليسوا بموتى، بل هم شهداء ….
سمع صوت تميم يردد جواره:
” إذن ماذا سنفعل الآن مولاي ؟؟”
نظر إيفان أمامه يقول بصوت خافت بعض الشيء وعيونه تحلق جول جنوده الذين فقدوا رفاقهم، فقد كان البعض يجلس ارضًا يرثي رفيق أو أخ، لم يسقط منهم الكثيرون، لكن ظفر رجل واحد من رجاله الاشراف بجيش من هؤلاء القذرين ..
” سنُكرم شهداءنا، ادفنهم حيث لقوا مصرعهم تميم، سندفنهم ونودعهم ونعود لنبلغ ذويهم خبر استشهادهم، أريد أن يُكرم جميع أهالي شهدائنا، والمصابين انقلهم حيث مهيار، انتهت المعركة يا تميم، ولم تنتهي الحرب بعد ”
ختم حديثه يتحرك، لكن وقبل أن يبتعد خطوة عن تميم تساءل الاخير بصوت جاد :
” ومِشكَى يا مولاي ؟!”
نظر له إيفان من خلفه كتفه يقول بهدوء وبسمة صغيرة :
” مِشكَى أصبحت على بُعد خطوات يا تميم، فما فعله الآن بافل وضع نهاية سريعة له ولحاشيته ”
انتهى يزيد من سرعة حصانه تحت أعين تميم الذي لم يفهم شيئًا مما حدث، إلا أنه هز رأسه ينظر صوب الجيوش يقول بصوت مرتفع :
” لا تدعو منا أحدًا المصابين خذوهم صوب خيمة العلاج، والشهداء سندفنهم في أرضهم حتى يُردوا لبارئهم، ويجتمع الخصوم ”
ختم حديثه يمنح شهداءهم النظرة الأخيرة وكأنه يودعهم، ثم قال بصوت خافت :
” عشتم ابطالًا ورحلتم شهداءً، فهنيئًا لكم الجنة يا رجال هنيئًا لرمال تشربت دماءكم الطاهرة، لم تنتهي حربكم، بل فقط أُجلت ليوم تجتمع فيه الخصوم، ألحقنا الله بكم …. ”
___________________
ارسل جيوشه في حربين مختلفتين، وهو ؟؟؟
لم يتزحزح عن عرشه مقدار شعرة واحدة، يجلس وهو ينظر أمامه دون إشارة واحدة تدل على أنه حي يرزق، يدرك أن حرب الساحة خاسرة، فهو لم يرهق نفسه بالتفكير فيها، لكن الحرب التي ارسل بها جنوده للقصر بالطبع ستكون رابحة، لا ريب أنها ستكون كذلك .
غامت عيونه وهو يعيد أمام عيونه رحلته منذ بدأ تلك الحرب الباردة، حرب بدأت بهجمات متتالية على جميع الممالك، هجمات شلت قوى البعض واضعفتها بالكامل كمملكة سبز والتي لم يكن جيشها بالقوي، فاستنزفه هو في معركة واحدة .
وجيش آبى الذي ما يزال يمنحه ضربات متتالية ستطيح به عما قريب، واخيرًا جيش سفيد والذي كان شديدًا لا تسقطه ضربة أو اثنتين فعكف طوال الأيام السابقة على إرسال هجمات متفرقة لهم، يعلم أنها ستفشل، لكنه فقط كان يستنزف بها قواهم شيئًا فشيء .
وفي الحقيقة هو نجح قليلًا إذ أن هجماته الأخيرة أدت لحدوث إصابات أضعفت من قوى الجيش، واخيرًا خُدعته بحرب مزيفة تتيح له فرصة الهجوم على سفيد .
اتسعت بسمته ينتشي من انتصار وشيك، حازه بالخديعة، أوليست الحرب هي ساحة الخديعة المفضلة ؟؟
” قريبًا، قريبًا جدًا سفيد ومن بعدها ستسقطون جميعكم واولكم ذلك الاحمق الذي وضع رقبته بين أناملي..”
ختم حديثه يضم قبضته بقوة وكأنه يطحن رقبة أحدهم أسفل أنامله:
” وضع يده في يدي بكل غباء، سلمني نفسه ومملكته وساعدني في سلب مشكى، مسكين …”
اغمض عيونه يرتاح في مقعده يتحين اللحظة التي تصل له إشارة سقوط سفيد حتى يتحرك بباقي جيشه ويسقط المتبقي منهم …
____________________
كانت صدمته كبيرة حيت أبصر الملكة أمامه تحمل سيفًا ملئ بدماء أحد المنبوذين وقد كانت أعينها متسعة بصدمة كبيرة وجسدها يرتجف مما فعلت وكأنها فعلت ما فعلت تحت تأثير مخدرٍ ما .
وتبارك كانت كذلك بالفعل، فهي لم تشعر بشيء سوى بجسدها يندفع بقوة صوب ساحة المعركة تقتحمها، ودون تفكير كانت يدها ترتفع غارزة سيفها في ظهره.
تراجعت للخلف بصدمة وهي تحاول تبرير ما فعلت وكأنه يلومها أو ما شابه :
” كان سيقتلك ..كان سيـ ”
وقبل أن تكمل كلماتها وجدت عدد غفير من رجال بافل يتكالبون عليها هي وسالار، ودون شعور وجدت سالار يجذبها بقوة خلف ظهره وهو يتراجع مشهرًا سيوفه في وجوههم على أتم الاستعداد ليحارب حتى النفس الأخير به، وفي هذه اللحظة لم تكن ميتته تعنيه بقدر ما يعنيه نجاة تلك المرأة خلفه، حتى وإن قُتل على يد هؤلاء الانجاس.
كان على استعداد لإسقاط كامل حديثه السابق بالموت على أيديهم إن كان ذلك سبيل نجاتها .
تراجعت تبارك تحتمي بظهر سالار الذي هب يدافع عنها بجسارة وتوحش مخيف جعلها ترتجف وهي تشعر بالدماء تتناثر عليها .
مشهد لو كانت قرأت عنه في أحد الكتب أو رأته في أحد المشاهد التلفزيونية التي كانت تدمنها قديمًا لكانت ذابت من روعته ورومانسيته، لكن في هذه اللحظة لم تشعر بذلك، كان الأمر مروعًا، كانت حرب، وفي الحرب لا وجود لمشاعر سامية لطيفة كالرومانسية، لا مجال سوى للقتال والدماء وفقط .
انتفضت فجأة على صوت سالار الذي قال بصوت مرتفع :
” سأؤمن خروجك من هنا، اركضي صوب القصر ولا تلتفتي للخلف أبدًا، أمني نفسك، اذهبي لمكتبة العريف وابقي هناك ”
نظرت له تبارك بفزع تقول دون تفكير :
” وأنت ؟!”
استدار لها سالار بصدمة يصرخ بعدم فهم وهو يشعر أنها إن لم تختفي من هذه الساحة في هذه اللحظة سيفقد أعصابه بالكامل :
” أنا ماذا ؟! هذه حرب وأنا قائد الجيوش بالله عليكِ ”
توترت تبارك وشعرت بسخافة حديثها تقول بتوتر وصوت مرتجف من الخوف :
” أنا … أنا أريد الذهاب للمشفى، أرسل المصابين لها سأعالجهم، ارجوك ثق بي ولا تمنعني يا قائد ”
نظر لها سالار بطرف عيونه وهو يقاتل أحد الرجال أمامه، قبل أن يقول بعد تنهيدة صغيرة :
” أنا أفعل مولاتي، سأرسل لكِ من يساعدك، هيا تحركي بسرعة ”
وبعد هذه الكلمة أبعد عنه الرجال، يدفعها بظهر سيفه، وكأنه يقود اسيرًا لا الملكة، وهو يصرخ بصوت مرتفع في بعض الجنود الذي كانوا يحاولون تدارك الأمر، يخرج بها من وسط هذه المعمعة :
” تأكدوا أن تصل الملكة صوب مشفى الجنود بسلام، حياة الملكة بحياتكم ”
ختم حديثه ينظر صوب تبارك في عيونها بقوة :
” أثق بكِ مولاتي، في رعاية الله ”
نظرت في عيونه بخوف تقول :
” ليحفظك الله يا قائد ”
وبهذه الكلمات ختمت تبارك هذا الحوار تركض بسرعة صوب المشفى وخلفها أربعة جنود يركضون معها لحمايتها، وهي تحاول أن تهدأ ارتجافة يديها وجسدها مما فعلت ورأت، يالله الحرب ليست لعبة، الحرب ليست سهلة، الحرب دمار ….
نظر سالار حوله يرى أن جانب جنوده حتى الآن هو الفائز وكيف لا وهم رجال أشداء لا يخشون الموت في سبيل الحق، يمتهنون القتال، يبارزون بكل مهارة، مقابل جماعة خوارج لا يعلمون عن القتال سوى حمل السيوف وتحريكها في الهواء بقلوب ضعيفة الإرادة لا هدف لهم سوى الباطل ..
تحرك بينهم سالار وهو يحرك سيوفه في الهواء يصرخ بين جنوده بصوت مرتفع وكأنه يذكرهم كل مرة بنفس الكلمات التي تشحذ أنفسهم بالغضب :
” لا تدعوا منهم حشرة، قتلوا إخوانكم وروعوا أطفالهم وهتكوا اعراض نسائكم، فلا تأخذكم بالكافرين رحمة، لا رحمة لا شفقة لا تفكير”
ختم حديثه يرفع سيوفه وهو يتحرك بينهم كالآلة يجز أعناق كل من يصادفه وقد شحن صدره بالغضب، لكن وأثناء قتاله وعلى بعد صغير قبيل الباب الداخلي للقصر، نظر نظرة سريعة ليتأكد أن لا أحد انتهك حرمة القصر، ليجد أن هناك قتال يدور أمام باب القصر الداخلي بين رجال بافل وأحد جنوده و… امرأة ؟؟
وعند تلك المرأة وهذا الجندي الذي لم يكن سوى كهرمان، كان الحقد هو من يقود كلتا الفتاتين، الغضب والحقد والانتقام، كلٌ يدفعه سبب في صدره .
سواء أن كان الانتقام لعائلة وبلاد ومستقبل وشعب ككهرمان..
أو الانتقام لطفولة وأم وحياة بائسة ضاعت كزمرد …
هي رغبة واحدة من تحرك الفتاتين .
اندمجت زمرد في القتال وهي ترفع سيفها تضعه على رقبة أحد الجنود الذي خاض معها للتو قتالًا شرسًا انتهى بإسقاط سيفه لتبتسم له زمرد :
” أمنية أخيرة !!”
نظر الرجل لعيونها يقول من بين أنفاسه العالية في محاولة لينال منها تعاطفًا، ونسي أنها يومًا كانت منهم ولم تسمع بتلك الكلمة المريبة من قبل عندهم :
” ستقتلين أبناء شعبك زمرد ؟؟”
ابتسمت له زمرد بسمة مخيفة :
” واقتل شعبي كله إن منحني الله الفرصة لفعل ذلك يا عزيزي ”
نظر لها بغضب وهو يحاول التراجع ليلوذ بروحه يقول :
” كيف تفعلين ذلك ؟؟ هربتي منا وانضممتي لاعداءنا وقمتي بتهريب أميرة مشكى كذلك، وعاديتنا لأجل ماذا ؟! لأجل ماذا زمرد ؟؟”
ابتسمت زمرد بسمة جانبية تقول بصوت مرح وهي تحرك سيفها على رقبته :
” لأنني في حياتي هذه يا بني لا رسالة لي سوى إبادة شعبك القذر ”
ألقى في وجهها كلمات جعلت احشائها تتلوى بإشمئزاز :
” هذا شعبك كذلك ”
كانت كلماته ساخرة لكنها أصابت وترًا حساسًا في صدر زمرد التي اشتدت عيونها شراسة تقول بصوت قوي هادرٍ :
” لم ولن أنتمي لكم يا قوم ”
وبهذه الكلمات أعلنت زمرد نهاية حياة ذلك الرجل وهي تجز عنقه بقوة، ثم استدارت بقوة صوب آخر، لكن لم تكد توليه كامل اهتمامها حتى أبصرت أعين سالار مثبتة عليها بشكل جعلها ترتجف، ترى نظراته القوية وهو يطيل النظر لها، قبل أن يعود للقتال ..
وهي ارتجفت تتساءل عن نظراته تلك، هل سيعاقبونها لأنها حاربت معهم قومها ؟!
لم تهتم وهي تعود بسرعة كبيرة صوب كهرمان تساعدها في التخلص من الحشرات التي التفت حولها بسرعة مخيفة ..
___________________
يقولون أنه مهما اشتدت النيران فنهايتها معروفة ..رماد .
وهذه الحرب التي اشتعلت بساحة قصر سفيد خلفت ورائها رمادًا كغيرها من الحروب، لكن ذلك الرماد لم يسوء أحد، فيكفي أنهم استطاعوا إخماد الحرائق وتحجيم النيران .
انتهت الحرب بعد ساعات وساعات، وها هو الليل حلّ بهدوئه تزامنًا مع وصول أول قوافل الجيش .
تنهد سالار بصوت مرتفع يراقب رجاله يحملون الجثث والمصابين، وقد ابتسم باتساع فها هي حرب إضافية ينتصر بها بفضل الله وتوفيقه .
استدار بجسده صوب المشفى التي استقبلت جميع المصابين دون تقصير، وثق بها وكانت على قدر ثقته .
تحرك ببطء صوب المشفى كي يتفقد الأمور ويرى ما وصلت إليه الأمور مع الملكة هناك، وحين خطى له هالهُ ما رأى..
كانت تتنقل بين المصابين بكل خفة وسرعة كبيرة تعالج هذا، وتتأكد من سلامة ذاك، تبتسم لهذا وتشجع ذاك، تتنقل بين الحجرات بسرعة كبيرة، توزع الاعشاب على الجميع، وتهتم بهم على حد سواء .
كانت تبدو … وكأنها خُلقت فقط لهذا العمل، كأنها وُلدت لتكون معالجة، لتساعد الآخرين في تجاوز آلامهم، وُجدت لتكون بلسمًا لكل سقيم .
وفي خضم حالته الذاهلة تلك سمع صوتها بنبرة ملهوفة وهي تركض صوبه بسرعة كبيرة، تركت الجميع تركض له، ليتراجع جسده دون وعي للخلف ليس خوفًا بالطبع، لكن صدمة، عدم تدارك لكل تلك الأفكار التي هاجمته لثواني حين رآها .
” يا قائد ”
توقفت أمامه تمرر عيونها على جسده بسرعة كبيرة ثم عادت له تقول بجدية :
” أنت بخير صحيح ؟؟ هل أصابك شيءٌ في الخارج ؟؟”
نظر لها جيدًا يتنفس بشكل رتيب يحاول التحدث وهي فقط تحاول معرفة إن كان يعاني من شيء، ابتلعت ريقها تشير للخلف وهي ما تزال تتحدث بسرعة :
” لقد سألت الجميع عنك، قالوا لي أنك بخير، وأنك…كنت رائعًا، أنت حقًا مذهل، تبارك الله أنت مقاتل مبهر يا قائد، في الخارج حين كنت هناك وساعدتني، كان الأمر …”
قاطعها سالار بيده وهو يغمض عيونه :
” فقط اهدأي ارجوكِ، أريد أن التقط انفاسي قبل الحديث”
نظرت له تبارك بعدم فهم تراقب ملامحه المرهقة، ثم أشارت جواره على أحد المقاعد تقول بجدية وخوف :
” أنت بخير ؟؟ يمكنك الراحة هنا وأنا سأذهب لإحضار بعض الأدوية لك ”
ومن بعد تلك الكلمات لم تنتظر منه ردًا تركض بسرعة بين الجميع تحت أعينه، لا يدري ما يحدث فقط يشعر برغبة على إلقاء جسده في بحيرة باردة ويتركه يتجمد علّ كل تلك الاضطرابات داخله تتجمد بفعل المياه ويرتاح، عليه أخذ راحة من كل ذلك ليفكر في القادم .
لكن أي راحة تلك؟! هو فقد راحته المزعومة منذ خطت هي أرض هذا القصر .
كانت تركض صوبه وهي تحمل بين يديها كوب تقول بسرعة ويدها ترتجف بشكل غريب :
” احضرت لك بعض الأعشاب، اعتقد أنها اعشاب للاسترخاء، لا ادري حقًا، لكن يمكنك تجربتها ”
نظر سالار صوب الكوب بين يديها بعدم فهم، ثم رفع عيونه لها :
” هل تنتوين قتلي ؟؟”
” لا اقسم أنني لا انتوي ذلك، لقد انقذتني اليوم من ميتة وشيكة، وأنا فقط … أود مساعدتك ولو بشيء بسيط، هيا جرب هذه الأعشاب ”
نظر أيدها بتشنج :
” هل أنتِ متأكدة من هذه الأعشاب ؟؟”
” نعم، لا، لا ادري، انظر هي إن لم تفدك فلن تضرك، لا اعتقد أن هناك اعشاب مضرة هنا، فالطبيب لن يحتفظ بسم بين قارورات الاعشاب المعالجة صحيح ؟؟”
تنهد سالار بصوت مرتفع وهو يفرك وجهه بارهاق شديد :
” يا الله يا مغيث ”
اقتربت منه بخوف شديد تهتف بصوت مرتعب :
” ما بك ؟؟ هل أنت بخير ؟؟ ”
” أنا كذلك حقًا، شكرًا لكِ ”
لم يكن كذلك، لم يكن بخير بأي شكل من الاشكال، كان يبدو مرهقًا شاحبًا، لكن كل ذلك الإرهاق لم ينتصر على قوته التي احتلت ملامحه، وتجبره الذي التمع في عيونه، كان قويًا لدرجة أنه لم يسمح لارهاقه بالانتصار عليه .
” إذن كنت …كنت أريد شكرك لأجل ما حدث اليوم و…”
صمتت وقد رأى سالار بأعين مدققة ارتجاف يدها وارتعاش بؤبؤيها بشكل مريب وهي تهمس بصوت متحشرج :
” لقد …لم أقصد ما فعلت اليوم، لقد قتلت الرجل و…”
شهقت تجاهد دموعها ترفع عيونها له تهمس بصوت موجوع :
” هل تظن أنني اخطأت و….”
قاطعها سالار بقوة وهو ينظر في عيونها بصرامة يمنعها استكمال كل ذلك :
” هذا كافر مغتصب قاتل، عدو الله وعدونا، قتلك له لم يكن خطأ، بل الخطأ هو ترك أمثاله أحياء ليعيثوا في الأرض فسادًا ”
نظرت له بأعين دامعة تجاهد نفسها تطالبها الثبات :
” أنا أعلم كل ذلك، أنا أعلم ذلك، لكن …هذه أول مرة أحمل بها سلاحًا و…”
رفع سالار عيونها عنها ينظر حوله ليلاحظ نظرات الجنود التي بدأت تتجه صوبهم ليهمس لها بصوت صارم قوي وهو لم ينزع عيونه عن الجنود وكأنه يحذرهم أن يشهدوا لحظات الضعف الخاصة بها :
” إياكِ، إياكِ والانهيار في هذه اللحظة على مسمع ومرأى من الجميع، إياكِ أن تدمري نسختك القوية التي عملتي على بنائها طيلة اليوم بمساعدتك الجميع دون تراخي أو خوف، لا تدعي أحدهم يشهد ضعفك، اريهم فقط قوتك واحتفظي بضعفك لذاتك وافرغيه بعيدًا عن الأعين ”
شهقت تبارك دون شعور منها تخفي وجهها بين يديها وهي ترتعش، ربما يشعر البعض أنها تبالغ، لكن بالله هي لم تحمل يومًا سلاحًا، وبعدما حملته قتلت به شخصًا، أخرجت روح من جسد وهي من كانت تحارب للحفاظ على الارواح، تدرك أنه لا يستحق منها ذرة شفقة، هي لا تشفق عليه ولو عاد بها الزمن لن تكتفي بقتله فقط، بل ستقطعه أربًا لو لزم الأمر انتقامًا لكل ما فعلوه، لكن هي …فقط ما عانته اليوم وكل هؤلاء الجرحى والقتلى، الأمر كان ثقيلًا عليها .
كل ذلك كان يحدث أمام سالار الذي حتى لم ينزل عيونه لها يشهد انهيارها، بل كان ينظر أمامه صوب الجنود في نظرات محذرة أن يرفع أحدهم نظراته للملكة في لحظات انهيارها، وهي فقط تحاول كبت شهقاتها حتى و أخيرًا استطاعت ذلك تهمس بصوت خافت :
” أنا لستُ حزينة أو نادمة على قتله، بل أنا.. لاول مرة أشعر بهذه الراحة، وكأنني انتقمت للجميع فيه، لكن فقط ما عايشته اليوم لم يكن بالشيء الهين ”
رفعت عيونها له تجد يحدق بعيدًا عن عيونها، لا يواجهها، لكنها اكتفت فقط بكلمة واحدة تعبر عما يجيش بصدرها له :
” شكرًا ”
ختمت حديثها تتحرك من أمامه كي تستكمل عملها، لكنها فجأة توقفت بصدمة حين تناهى لمسامعها صوت سالار الذي قال بصوت خافت ممتن :
” بل شكرًا لكِ فأنتِ ساعدتني اليوم، انقذتني وأنا أقدر لكِ ذلك، في النهاية لستِ تلميذة سيئة، وقطعًا لستِ مبارزة سيئة . ”
استدارت له تبارك تنظر له ببسمة صغيرة من بين دموعها، تدرك لو أنها ما قتلت ذلك الرجل لكان قتله هو، لكنها فقط استمتعت بلحظات التقدير النادرة تلك تقول وهي تنحني برأسها نصف انحناءة تجيب عليه بهدوء واعين امتصت من قوته الكثير حتى انعكس بها بعض تجبره :
” هذا لأنني تتلمذت على يد معلم بارع سيدي القائد …”
ختمت حديثها تعتدل في وقفتها تبتسم له بسمة رسمت أخرى على فمه وهو يهز رأسه لها باحترام، لتتحرك تبارك بعيدًا عنه بخطوات قوية ثابتة عكس تلك المهتزة التي اقتربت منه بها، وكأنها ارتشفت منه اكسير القوة، ثم عادت لتكمل ما كانت تفعل …
__________________________
راقبتهم وهم متضجعين على الفراش منذ عادوا من الاسفل قبيل انتهاء المعركة، وبمجرد انتهاء القتال اختفوا وكأنهم لم يكونوا .
ضحكت كهرمان بصوت خافت :
” يا ويلي لو أن قائد الجيوش امسك بنا ”
تنفست زمرد بصوت مرتفع وهي تجيب :
” لقد امسك بي بالفعل، هذا الرجل أعينه كالمنظار تتحرك في جميع الاتجاهات دون هوادة، لا ادري كيف يحارب وهو يحدق في الجميع حوله ”
نظرت لها كهرمان ثم ابتسمت تقول بصوت خافت محدقة في السقف اعلاهم :
” لقد كان أرسلان يخبرني دائمًا، أنه لا يجد متعته في القتال إلا حينما يكون القائد سالار هو خصمه، كان يستمتع كثيرًا بالقتال معه ”
رمقتها زمرد تقول بصوت ساخر بعض الشيء :
” يبدو أن شقيقك كان انتحاريًا ”
انكمشت ملامح كهرمان بحزن واضح، تقول بفخر كبير :
” لقد كان شجاعًا لا يهاب شيئًا، ولا ينحني لريح ولو عني ذلك كسر عوده ”
ربتت برلنت أعلى كتفها تهمس بحنان :
” رحمة الله عليه كهرمان، شقيقك شهيد هو وجميع من قُتل ذلك اليوم ”
تمتمت كهرمان بصوت خافت :
” الحمدلله ”
وقبل أن يبادر أحدهم ويغير دفة الحوار، ارتفعت أصوات صرخات الجنود في الاسفل معلنين بصيحات فرحة عودة الجيش .
انتفضت قلوب الثلاثة لأسباب مختلفة، منهم من جرفه الشغف واللهفة لرؤية غائب والاطمئنان عليه، ومنهم من شغفه شوقٌ لرؤية من لم يغب عن القلب لحظة وينكره العقل دهرًا، ومنهم من ارتجف القلب خوفًا وقلقًا من عودة لم تجهز لها بعد .
وقبل أن تتحدث واحدة منهن بكلمة، اندفعت برلنت كالقذيفة خارج الغرفة وهي تخفي وجهها خلف الغطاء الخاص بها تردد اسم تميم، قلبها ينبض بسرعة تود الاطمئنان عليه .
نظرت كلٌ من كهرمان وزمرد لبعضهن البعض، قبل أن يتحركن للأسفل حتى يستقبلوا الجيش مع الجميع .
وهو بمجرد أن خطى لباحة القصر يشعر بالإرهاق قد بلغ منه مبلغه، سمع صوتًا أعاد له نشاطه في ثواني، رفع عيونه بسرعة صوب صاحبة الصوت التي رغم أنها كانت تخفي ملامحها خلف غطاء الوجه إلا أنه ابتسم يهرول صوبها بخطوات سريعة أثارت انتباه مهيار ودانيار، بينما الملك ابتسم بسمة صغيرة يتحرك داخل القصر .
وتميم لم يتوقف حتى وصل لها، لتبتسم له بسمة لم تظهر له، ولم تكد تنطق كلمة واحدة حتى اتسعت عيونها تشعر به يجذبها خلفه بسرعة مخيفة جعلتها تهرول وهي تتحدث بصدمة :
” ما بك تميم !! يا ويلي سأسقط ارضًا ”
وتميم لم يتحدث بكلمة يتحرك بها صوب معمله الخاص تحت نظرات بعض العاملات اللواتي قابلوهم في طريقهم، لتتسع أعين البعض بفضول وكذلك الجنود الذين تعجبوا تصرفات تميم .
ليتوقف تميم في منتصف الممر يقول بصوت مرتفع للجميع وكأنه جنّ تمامًا :
” ماذا؟؟ هذه زوجتي …”
علت الشهقات الهمسات المصدومة بين الجميع وهو لم يهتم، فقط أخبرهم بهويتها كي لا تلوكها الألسنة ويمس أحدهم عرضه بكلمة واحدة، يقول بكلمات مقتضبة قبل الرحيل :
” الجميع مدعو على الزفاف بعد أيام قليلة، شكرا لكم ”
وهكذا انتهى يهرول بها صوب معمله وهي تتبعه متسعة الأعين مصدومة مما يحدث، يا الله جُنّ الفتى .
وبمجرد أن خطى تميم للدرج الخاص بمعمله جذبها بين أحضانه بسرعة يهتف بكلمات صغيرة :
” يا الله بيرلي، كدت أموت شوقًا لكِ صغيرتي ”
ابتسمت برلنت بصدمة قبل أن تضم نفسها له تقول بحب شديد :
” حمدًا لله على سلامتك تميم، لقد دعوتك لك منذ رحلت وحتى سمعت صوت المنادي يعلن عودتكم، مبارك انتصاركم ”
ابتسم لها تميم بسمة صغيرة وهو يحدق بعيونها بحب شديد يبتعد عنها قليلًا يسحبها معه للمعمل الخاص به، بينما هي سارت خلفه وقد شعرت أنها الآن في هذه اللحظة تحديدًا بدأت تتنفس الصعداء، واخيرًا وبعد سنوات طوال من الحزن والبكاء والعذاب وجدته وأصبحت معه، بعد سنوات كانت تدخل هذا المعمل خفية تتلمس طيفه في جميع الأماكن، الآن تدخل معه، كفه يضم خاصتها، صوته يخصها بأحاديثه .
وحين وصلت للمعمل ذاته حرر تميم كفها لتشعر ببروده تلفحه، لكنها ابتسمت حين استدار لها يقول :
” لحظة سآتيكِ بشيء يعني لي الكثير ”
عاد يتحرك بعيدًا عنها، لكن فجأة توقف يشير على مقعد خاص به يقول ببسمة :
” اجلسي بيرلي، تصرفي كما لو أنكِ في مكانك الخاص صغيرتي”
تركها ورحل تحت نظراتها الباسمة وهي تتحس تلك الطاولة التي كانت تنظفها كل يوم بنفسها، تحمد الله في صدرها أن اسعد قلبها في نهاية الحكاية .
فجأة وجدت تميم يعود لها حاملًا معه صندوقًا ورقيًا يقول بحماس شديد :
” هذه اشياؤك، احتفظت بها حتى أعيدها لكِ بيرلي ”
ختم حديثه يدفع الصندوق صوبها لتطيل هي النظر في عيونه، قبل أن تنظر صوب ذلك الصندوق تحاول معرفة ما به وهو أشار لها بنظراته أن تفتحه، وكذلك فعلت بأنامل متلهفة، لتتلكأ فجأة حين لمحت أول هدية أهداها لها بعد الزواج .
” جرة الفخار الخاصة بي ؟؟”
” تتذكرينها ؟؟”
وكيف لا تفعل وقد كانت تلك الجرة هي اول ما جمعهم بعد عقد قرانهم، حين ذهبت له ذلك اليوم بالفاكهة وجذبها لتتعلم صنع الفخار واهداها لها في النهاية بعدما زينها هو بأنامل ماهرة، نقش عليها اسمها بخط بديع، ومن ثم رسم عليها زهور برلنت المفضلة وهداها إياها.
سقطت دموع برلنت وقد عادت تلك الذكرى تُعرض أمام عيونها وكأنها حدثت للتو، هي ..هي لا تصدق أنه احتفظ بها هذه السنين .
مسحت دموعها تهتف بصوت متأثر :
” هذه …هذه …هذه اغلى هداياك على قلبي تميم، لقد…لقد بكيت كثيرًا حين أجبرني أبي على الرحيل دون أخذ اشيائي ”
بكت بقوة وهي تضم لها الجرة تنهار على ما فاتها كل تلك السنين من ذكريات، سنوات طويلة مرت كان تستطيع صنع الكثير والكثير من الذكريات بها، لكن كل ذلك سلبه والدها منها بأنانية منه .
مدّ تميم يده يقول بصوت خافت :
” لِمَ البكاء بيرلي ؟؟ ”
” فقط أشعر .. أشعر بالحنين لكل تلك الأيام الماضية تميم، أشعر بالسوق لأيام قضيناها في منازلنا البسيطة، تسعدنا أقل الاشياء ”
” وهل تحزنك ذكرياتنا بيرلي ؟! عليكِ أن تبتسمي حين تمر بخاطرك لا أن تبكيها، ونحن إن شاء الله سنصنع المزيد منها، وإن أردتي العودة للمنزل فلا بأس، يمكننا العودة وقضاء بعض الأيام هناك، لكن هذا سيكون بعد إنتهاء حالة الحرب التي دخلت بها المملكة فلا يمكنني الرحيل في هذه اللحظة ”
هزت رأسها تقول بنحيب كان قاسيًا عليه ليتحرك عن مقعده يقف جوارها يضم رأسها لصدره وهو يقبل حجابها بلطف، وهي ضمت نفسها له أكثر :
” إن كان ذلك حلمًا، فلا تيقظني منه تميم ”
ابتسم تميم يخرج من جيب بنطاله خاتمها الذي لا يتركه يومًا بعيدًا عنه، ثم رفع يدها يلبسها إياه:
” ليس حلمًا برلنت، بل واقع عزيزتي، واقع عزمت أن اجعله افضل من جميع الاحلام ”
نظرت برلنت للخاتم بيدها تبتسم دون شعور :
” خاتمي ؟؟”
” نعم، خاتمك الذي اتهمتك بسرقته منذ أيام ”
ضحكت بصوت مرتفع ليضمها أكثر يقول بحنق شديد :
” يا الله لا أكاد أصدق أنكِ كنتِ من الغباء لتتحملي ليلة كاملة في ظلام السجن لأجل تهمة سرقتك لشيء يعود لكِ برلنت، ما هذا الغباء؟؟”
صمت ثم أكمل بغضب شديد :
” وأنا جئتك مساءً ورحلت تاركًا إياكِ وحدك، كلما تذكرت الأمر شعرت بالقهر والغضب ”
ضحكت كي تخفف عنه :
” ماذا، هل كنت ستشاركني السجن ؟؟”
” وماذا في ذلك ؟؟ طالما أنكِ به لا يسمى سجن صغيرتي، كانت لتكون ليلة جميلة، أنتِ بين أحضاني في ظلام ذلك المكان والهدوء ”
تنهد بصوت مرتفع ثم ابتعد عنها يقول وهو يجذب الصندوق لها :
” دعينا من تذكر كل ذلك فأنا كلما تذكرت شيء لي معكِ قديمًا شعرت بالغضب الشديد من نفسي، هيا انظري إلى ما احتفظت به لأجلك ”
ضحكت برلنت بصوت مرتفع عليه وهو رمقها بحنق لتتجنب غضبه وهي تعود للبحث في ذلك الصندوق تطلق شهقات مصدومة كل ثانية لا تصدق أنه احتفظ بكل تلك المتعلقات الخاصة بها .
وما لم تعلمه هي، أن تلك الأشياء البسيطة كانت سلواه الوحيد لتميم طوال تلك السنوات، فكلما دعاه الحنين ركض يضم بقايا رائحتها بهم، اشياء كانت تخصها في منزله وأخرى جمعها من منزلها حينما ذهب ليعيدها له فاكتشف رحيلهم..
ليلتها قضى تميم يومه بأكمله باكيًا في غرفتها وهو يضم له اشياءها الخاصة يرتجى منها أن تتوسط له عند صاحبتها يهمس لها معتذرًا عن غبائه :
” لم اقصد يالله لم اقصد، اقسم أنني لم أقصد أي كلمة نطقت بها، كيف ..كيف فعلت ذلك بصغيرتي، يالله كيف صدقت أنها قد تخذلني بهذا الشكل، اعماني غضبي وقلة حيلتي ”
استفاق تميم على صوت برلنت تقول :
” أنت تحتفظ بحجابي الاول تميم ؟؟”
نظر لها تميم دون وعي كامل، قبل أن يبتسم يراها تمسك أول هداياه على الإطلاق، حينما علم من والدتها أنها قررت ارتداء الحجاب ركض بسرعة ليكون هو أول من يشتريه لأجلها ويهديه لها مع كامل الحب .
” احتفظ بكل شيء من شأنه تذكيري بكِ بيرلي ”
ابتسمت له برلنت ليميل مقبلًا جبهتها بحنان شديد :
” إذن صغيرتي تقبلين الزواج بي أمام العالم أجمع ؟؟؟”
_______________________
كانت تقف متلهفة لمعرفة نتيجة تلك الحرب، تنتظر أي بادرة، رغم ثقتها أنهم لم ينهزموا، فإن حدث ما تخشاه لن يعودوا بهذه البساطة وبهذه الملامح ..
تنهدت كهرمان بصوت مرتفع تبحث بعيونها عن أي دليل قد يثبت صحة ظنها، لتبصره يتحرك صوب غرفته فتحركت بسرعة تجاهه فهي لا تستطيع التحدث مع سواه .
” يا قائد، قائد سالار ..”
كان هو يسير بكل هدوء صوب حجرته ليبدل ثيابه، ثم يلحق بالجميع صوب غرفة الاجتماعات، لكن فجأة توقف حين سمع نداء خلفه ولولا أنه لا يمكنه أن يخطأ صوتها لظن أنها صاحبة كلمة ( قائد ) التي أضحى يسمعها من الجميع بصوتها لكثرة مناداتها له بها، لكن حين أتبع المنادي القائد باسمه ( قائد سالار ) أدرك أنها ليس هي، فهي لم تتجرأ يومًا وتنطق اسمه، وهذا ما يصيبه بحيرة قاتلة .
استدار ببطء يبصر خلفه امرأة تتحرك بخفة صوبه وهي تقصده ليحاول معرفة من هي تلك التي توقفه للحديث، فكر حتى هداه عقله لها، وحين توقفت أمامه تأكد وهي تقول بجدية :
” اعتذر لتعطيلك يا قائد لكنني أردت أن أتحدث معك بأمر هام ”
هز لها سالار رأسه يرهف السمع لها باهتمام :
” تفضلي جلالتك، كيف اساعدك ؟؟”
نظرت له تقول بصوت خافت :
” هل علمت نتيجة الحرب ؟؟ هل …هل دخلوا مشكى؟؟ ما الذي حدث هناك ؟؟”
نفى سالار برأسه في هدوء يقول :
” لا لم أعلم بعد ما حدث، فالجيش عاد لتوه وأنا كنت على وشك تبديل ثيابي واللحاق بهم، لكن مولاتي نحن لم نكن نضع في الخطة اقتحام مشكى، لذا اعتذر لا اعتقد أنهم فعلوا ذلك، فاقتحامها يحتاج لأكثر من حرب عادية، لكن لا تقلقي فنحن لا نتجاهل ذلك ”
شعرت كهرمان بخيبة الأمل تهز رأسها بهدوء ليقول سالار حين رأى أنها نكست برأسها :
” ملكة كهرمان ”
رفعت كهرمان رأسها له بسرعة ليقول بهدوء وبسمة صغيرة :
” جلالتك لا تقلقي عودة مشكى مسألة وقت لا أكثر، ستعود وتتربعين على عرشها ”
” هل تعتقد هذا ؟؟ ”
” بل أنا متأكد من هذا ”
هزت رأسها ثم كادت ترحل لولا أن أوقفها سالار يقول :
” فيما يخص الحرب التي نشبت في الساحة، ومشاركتك مع رفيقتك، رجاءً اتمنى ألا يتكرر الأمر مجددًا سأحرص ألا يعلم أحدهم بهذا، لكن لأجل مصلحتك ومصلحة مشكى التي لم يعد لها سواكِ من الأسرة المالكة، تجنبي الأفعال المتهورة كتلك ”
اتسعت عيون كهرمان بصدمة لا تصدق ما نطق به، كيف علم أنها كانت مع زمرد وكيف علم أنها رفيقتها حتى ؟!
ويبدو أن سالار أدرك نظراتها تلك ليقول ببسمة هادئة :
” أنا رأيتك مع تلك الفتاة كثيرًا، لذلك أدركت أنكِ ذلك الجندي الذي كان يقاتل جوارها ”
هزت رأسها بخجل تشعر أنها أخطأت وتسرعت، لكن الغضب هو من جرفها في طريقه دون أن تشعر وايضًا لأنها أرادت مساعدة زمرد .
” حسنًا لا بأس، أعدك ألا يتكرر الأمر ”
” أي أمر ؟؟”
اتسعت أعين كهرمان بشدة وهي تسمع صوته خلفه لتسارع يدها كي تتأكد من غطاء الوجه، بينما سالار رفع رأسه صوب إيفان الذي كان يقف في بداية الممر الخاص بالغرف يحدق فيهم بنظرات غريبة له .
” مولاي، حمدًا لله على سلامتك ”
لكن إيفان كانت عيونه معلقة بظهر كهرمان يدرك جيدًا هويتها، وكيف لا يفعل وهو لا يستطيع إخراج صوتها من رأسه منذ أيام طويلة .
” أي أمر ذلك سالار ؟؟”
نظر له سالار بتعجب، فمنذ متى كان الملك فضوليًا فيما يخص أمور العاملين لديه؟؟ والأدهى منذ متى والملك يتدخل فيما يخصه هو ؟؟
رفع سالار حاجبه يقول :
” لقد طلبت هذه العاملة مساعدتي في شيء يخص شقيقها الذي يخدم في جيشي مولاي، فهو أخطأ وكدت اعاقبه وهي جاءت تطلب مسامحتي له ”
وكان هذا دور إيفان الذي رفع حاجبه يقول بصوت خافت :
” أوه هكذا إذن ؟؟ هل شقيقك يخدم بالجيش آنسة كهرمان ؟؟”
انتفض كهرمان جسدها بقوة حين نطقه اسمها، تشعر بأنها تكاد تهوى ارضًا تهز رأسها بخفوت وهو اقترب منهما يقول لا ينزع عيونه عن كهرمان التي كانت تنظر ارضًا لا تريد رفع رأسها له :
” لا بأس سالار سامحه لأجل الآنسة التي جاءتك خصيصًا واوقفتك في منتصف القصر على مرأى ومسمع من الجميع، فقط كي تطلب سماحك ”
ضيق سالار عيونه وهو يرى نظرات إيفان تشتد شيئًا فشيء، بينما كهرمان رفعت رأسها له، وهو شعر أنه يرى نظراتها الشاخصة المصدومة حين سمع صوتها الحاد :
” شكرًا لكرمك مولاي، اقدر لك عدلك وصنيعك ”
” عدلي ؟! حمدًا لله أن هناك من يراني عادلًا، فهناك البعض يراني شيطانًا ظالمًا ”
ابتلعت كهرمان ريقها تفرك كفيها في بعضهما البعض بتوتر، تبعد رأسها عنه وهي تنظر صوب سالار تهمس بصوت خافت :
” شكرًا لك كذلك سيدي ”
عادت تنظر ارضًا صوب الملك تقول :
” مبارك انتصاركم مولاي، عسى أن ينفع الله بكم الأمة”
أمسكت طرف ثيابها ترفعه بخفة أسفل أنظار الاثنين تنحني نصف إنحاءة وهي تردد بصوت خافت :
” بالاذن منكما ”
وبهذه الكلمات رحلت تحت أنظار إيفان المحتدة ونظرات سالار المتعجبة الشاردة والذي بعدُ بتفكيره عن كل ما يحدث هنا، إذ فكر فجأة، لِمَ لا يطلب من الملكة كهرمان تعليم ملكتهم كيفية رفع ثوبها دون التسبب للمحيطين بها في عاهة ؟؟
فجأة سمع صوت يقول :
” ما الذي كانت تتحدث به معك سالار ؟؟”
نظر له سالار يقول بهدوء :
” أخبرتك مولاي أنها…”
” منذ متى كنت كاذبًا سالار ؟؟ ”
نظر له سالار دون فهم ليبتسم له إيفان يقول بهدوء :
” أنتظرك في القاعة بعد نصف ساعة فقط ”
ختم حديثه يتحرك من أمامه صوب جناحه، كي يغتسل وهو يلوم نفسه على تدخله في أمر ما كان ليعنيه لو لم تكن هي المعنية بالأمر .
بينما سالار ظل يحدق أمامه بعدم فهم، وقبل أن يتحرك ابصرها تقف على بداية الممر تضم ذراعيها لصدرها مبتسمة له بسمة ساخرة :
“مالي أراك تعامل النساء بلطف يا قائد، لم يكن هذا ما عهدته منك ”
اتسعت أعين سالار بصدمة ولم يكد يتحدث بكلمة حتى تخطته تبارك صوب حجرتها دون أن تعبأ بانتظار رده حتى، وهو ظل مكانه لا يفهم ما الذي أخطأ فيه هو ليرحل الجميع غاضبين منه ؟؟؟
_____________________
يقف في منتصف الممر جوار أحد النوافذ يحدق بجيشه العائد من معركة الساحة مع جيش إيفان، أو لنكن دقيقين، بقايا جيشه الذي نجى منهم، بينما لم يعد نفر واحدٌ من الذين ارسلهم صوب سفيد .
ابتسم بسمة جانبية يدرك نتيجة الحرب دون أن يخبره احدهم، فعلتها سفيد مجددًا وهزمته شر هزيمة، كيف حدث لا يعلم، لكنهم فعلوها مرة ثانية .
ابتعد عن النافذة يتحرك في الممرات يشعر بالنيران تشتعل داخل صدره يقول بصوت مرتفع :
” أحضروا لي قائد الجيوش ..”
سمع صوت أحد الرجال يقول بسرعة وتوتر شديد :
” سيدي لقد …لقد ذهب مع الجيش لسفيد ولم يعد حتى الآن …”
مرحى، ضحية أخرى من قادة جيشه يخسره لصالح سفيد، لكن وهل يهتم ؟! أبدًا لا يفعل ..
” إذن أحضروا لي أحد الرجال الأقوياء التابعين لقائد الجيش القديم ليكون هو القائد الجديد ”
هز الجندي رأسه يختفي من أمام أعين بافل في هذه اللحظات قبل أن ينفجر فيهم اجمعين، وهو تحرك بسرعة في الممرات لا يدري أين يذهب، أو ماذا يفعل، سفيد حطمته وحطمت تخطيط ايام طوال في غمضة عين، فقط لو يعلم من ذلك الحقير الذي أخبرهم ما يخطط له .
تنفس بصوت مرتفع. قد وصل صوب القاعة الخاصة بالعرش وحينما خطى لها شعر بالمكان يتحول للاحمر حوله لشدة غضبه لينقض على كل ما يقابله يصرخ كالمجنون يجذب خصلات شعره بغضب جحيمي، لقد هزموه مجددًا، هزموه مرة ثانية وثالثة ورابعة .
” كــــفــــى ..اكتفيت من كل هذا ”
تنفس بصوت مرتفع يدور بعيونه في المكان الذي ضربه إعصار غضبه، إعصار ما ابصره أحدهم منذ هزيمته النكراء سابقًا على يد ملك مشكى السابق، حين هجم أرسلان عليهم واذاقه مرارة الهزيمة والذل أمام الجميع ولولا هربه وقتها بمعجزة لكان لاقى حتفه على يده .
لكنه حينها لم ينس أن يتوعد لارسلان بالويل، وقد نفذ توعده وتخلص من أرسلان باسوء الطرق الممكنة، ذلك الحقير ما انحنى له قبل موته وما رأى بعيونه نظرة انكسار، لكنه انتهى منه وختم قصته وقريبًا يلحق به رفيقه ..
نزع سيفه يضرب به وعاء خزفي أمامه محطمًا إياه أشلاء متنفسًا بصوت مرتفع :
” أتى دورك إيفان، أتى دورك ولن تنال مني رحمة ”
________________________
بحث عنها في كل مكان يُحتمل وجودها به، لكن لا شيء، اختفت بكل بساطة وكأنها تقصدت أن تبتعد عن عيونه، ابتسم بسخرية يمسح وجهها يهمس بصوت خافت بينه وبين نفسه :
” للمرة الأولى تكونين جبانة ”
هل تريد أن توصل له بشكل غير مباشر أنها ترفض عرضه؟؟ أم أنه أصبح حساسًا لكل ما يتعلق بتلك المرأة وهذا ما يجعله يبحث عن حجج يصمت بها عقله.
ليس الأمر وكأنه ذاب في هواها، هو فقط يود الزواج منها كي يقي نفسه فتنة عيونها، لا يحبها، لكنه يبحث عن سبيل للفرار من رموشها التي كلما حركتها أسرته بينهما دون أن يجد له فرار، بالطبع لم يعشقها، لكنه فقط لا ينفك يفكر بها حينما يترك لعقله حرية التفكير .
يأس من إيجادها في المكان الأخير ليقرر أنه انتهى من البحث لليوم، ولن يفعل مجددًا إن رآها سيسألها ردها، وإن لم يفعل سيتجاهلها، فقط يتجاهلها لأجل صحته النفسية .
تحرك صوب قاعة الاجتماعات دون أن يمنح نفسه رفاهية الراحة، لن يعود بالطبع لحجرته كي تتكالب عليه الأفكار، تحرك في الممرات بوجه جامد، واعين فاقدة الحياة .
وكل ذلك كان يحدث تحت عيونها التي تراقبه منذ عاد، لم تغفل عنه لثانية واحدة، تريد فقط الاطمئنان عليه لحاجة في صدرها، ثم بعدها تذوب بين الجميع كي لا يعثر عليها .
لكن حين وجدته يتلفت حوله أدركت بصدمة أنه يبحث عنها، لتشهق تختفي بسرعة تهمس لنفسها :
” لا يجب أن يحدث هذا، يا ويلي ما الذي فعلته بنفسي ”
دفنت وجهها بين كفيها تحاول أن تهدأ، ثم أبصرت من بين أصابعها التفافه حوله وكأنه أضاع شيء ثمين يبحث عنه باستماتة، هو حتى لم يذهب ليبدل ثيابه أو يرتاح، بل شرع يبحث عنها في كل مكان باستماتة .
ابتلعت ريقها تلحق به بسرعة كبيرة، ربما هي أنانية وغباء منه، لكنها تدرك أنها وإن سايرته في قراره الغبي هذا، سيندم المتبقي من عمره، فمن ذا الذي يقبل الزواج بفتاة ولدت وترعرعت بين أقذر السلالات البشرية، بل وتحمل دماءهم داخل اوردتها، من يقبل أن يتزوج بامرأة لا يمكنه أن يأمن طرفها ؟!
وهذه الحقيقة اوجعتها، بل قتلتها في تلك اللحظة لتتنفس بصوت مرتفع تتخذ قرارها الأخير، هي ستختفي من أمام عيونه ستمنع عنه رؤيتها .
فجأة توقف جسد تميم بشكل جعل عيونها تتسع واستدار بسرعة لتركض هي تختفي خلف أحد الأعمدة وهو ضيق عيونه ينظر لجسدها الذي لمحه قبل اختفائه، ليبتسم بسمة صغيرة يهمس لنفسه :
” يبدو أنها وجدت طريقة مناسبة لتوصل ردها لي ”
استدار بكل هدوء يبتعد عنها لتتنفس زمرد الصعداء تبتعد بسرعة كبيرة، تهرول بعيدًا عنه ترفض أن تتعرض مجددًا لعيونه، ركضت في الممرات لا ترى أمامها وحين وصلت لغرفتها فتحتها تقتحمها بقوة تغلق الباب خلفها تستند عليه وكأنها تخشى أن يهجم على مخبأها .
في حين أن كهرمان التي كانت تحتل الفراش انتفضت برعب حين سمعت صوت ضرب الباب القوي، خرجت من شرودها بالملك وهي ترى مظهر زمرد الشاحبة والتي انتزعت اللثام تلقيه بقوة وكأنه يخنقها .
ثم انهارت ارضًا وعيونها متسعة بصدمة جعلت كهرمان تركض لها تمسك جسدها الذي ارتطم بقوة ارضًا تتحدث لها بكلمات لم تصل لزمرد، التي كانت تنظر أمامها شاخصة الأبصار وكأنها للتو أدركت موعد موتها ..
” أنا… أنا أحبه كهرمان، أنا أحبه، يالله ليس هذا، ما الذي فعلته بنفسي ؟؟ ما الذي فعلته بنفسي ”
وللمرة الأولى منذ معرفتها لزمرد تجد كهرمان تنفجر في بكاء عنيف وهي تخفي وجهها بين كفيها تهمس بصوت مرتعب من تلك الحقيقة التي كانت بمثابة إعلان لنهاية حياتها السعيدة :
” يا ويلي لقد أحببته، أحببت قائد رماة سفيد وأنا ابنة زعيم المنبوذين الذي كرس حياته لانهائهم، أنا شقيقة بافل الذي دمر شعوبهم، يالله أنا منهم وأحمل دمائهم ..”
لحظة إدراك، تلك اللحظة التي قد تعيد إصلاح حياتك، أو تدمرها ….
__________________
” هذا الانتصار لم يكن إلا مرحلة انتقالية ومسمار آخر يُدق في نعش بافل، مرحلة أخرى نعبرها لنصل إلى محطة مشكى، القادم لن يكون بالهين، والحرب القادمة ستكون في مشكى حين نحررها ”
ختم إيفان كلماته يشمر أكمام ثوبه مستندًا على طاولة الاجتماعات، وهو يحدق في جميع الأعين حوله، قبل أن يضيف :
” نحن لا نسعى للحروب ولا للقتال، بل القتال هو من يسعى لنا، فقدنا في هذه الحرب رجال ظفرٍ منهم بجيشٍ من رجال بافل، لكننا لا نزكيهم على الله ونحتسبهم عنده من الشهداء ”
ختم حديثه يجلس ثم استند بذراعيه على الطاولة يقول :
” المرة القادمة لن نعلنها حربًا، بل سنتحين الفرصة ونهجم عليه في مشكى، سنعيد مشكى رغم أنوفهم اجمعين، واظن أننا بحرب اليوم خطونا خطوتنا الاولى في دمار بافل بعدما أنهى عزيزنا سالار حياة نصف جيشه واكملنا نحن الباقية، هو الآن في أضعف حالته ”
ختم حديثه ينظر صوب سالار الذي هز رأسه يقول مشاركًا الملك في الحديث :
” الآن وحسب معرفتي لأمثال بافل، سيبدأ التصرف بشكل غير متزن، سيقوده غضبه وحقده إلى أفعال غير محمودة العواقب وحينها سيحين دورنا نحن ”
” احسنت سالار، لكن لا اعتقد أن جيشنا قادر على خوض حرب أخرى في القريب ”
نفى سالار برأسه يقول بثقة شديدة :
” سيدي رجالي قادرين على خوض مئات الحروب دون كلل أو ملل، لكنني لا أحبذ المخاطرة بهم في لحظات كهذه، يكفينا ايام لالتقاط الأنفاس ومعالجة المصابين ”
نظر إيفان صوب مهيار يقول :
” وعلى ذكر معالجة المصابين، مهيار أنت مسؤول أمامي عن التأكد من صحة جميع مصابي الحرب ”
هز مهيار رأسه بهدوء :
” لا تقلق مولاي، بمشيئة الله سيصبح الجميع بخير حال ”
صمت الجميع ليعلو صوت سالار وهو يقول بجدية :
” مولاي بخصوص أمر المعالجة ذلك، كنت اقترح أن…”
صمت لا يدرك ما يقول، لكنه في النهاية تحدث تحت نظرات إيفان المشجعة :
” اقترح أن نعين الملكة كطبيبة في القصر، ويمكنها مساعدة مهيار في الحروب، فهي كانت تعمل في مشفى حين كانت في عالمها، واعتقد أنها تفقه الكثير فيما يتعلق بهذه الأمور، كما أنها هي من تولت علاج جميع الجرحى اليوم، وقد ابلت حسنًا في ذلك ”
نظر له إيفان يشعر بذنب رهيب ينخر صدره، يالله الملكة، كيف نسي الاطمئنان عليها عند عودته، ابتلع ريقه يقول بصوت خافت :
” لكن تدريبات الملكة، هل سيتأثر هذا ؟؟”
نظر له سالار لا يدري ما يفعل، هو فقط يشعر أنه يحارب لأجل مستقبل ابنته، لكنه لا ينسى نبرتها الحزينة وهي تخبره أن هذا أكثر شيء تحبه وتعلمه، وبسمتها اليوم حين سمح لها أن تفعل ما تحب؛ لذلك اعتدل يقول متدخلًا في شيء لا يخص الحروب أو جيشه :
” لا تقلق مولاي، لا اعتقد أن الأمر سيمثل عائقًا للملكة، فهي تبلي حسنًا في التدريبات معي وكذا دانيار وتميم واعتقد أنها تفعل الأمر نفسه مع العريف ”
نفخ العريف يهتف بسخرية :
” لا تفعل، هذه الفتاة كارثة بكل المقاييس، أنا أخبركم من الآن أنني غير مسؤول عن أي نتيجة تخص دروسي معها ”
وجه له سالار نظرات نارية لتخريبه وصلة مدح نادرة لا تخرج من فمه إلا في حالات شديدة الندرة .
تنهد يقول بجدية بعدما صمت العريف مكرهًا تحت نظراته المحذرة من تشويه صورتها الآن :
” هي في الأساس لا تفعل شيء سوى التدرب ومن ثم تظل تدور في القصر دون عمل، وأعتقد أن خبرة في مجال كالطب قد تضيف ميزة لـ…لملكة البلاد المستقبلية ”
نظر له إيفان يفكر جديًا في الأمر ليقاطع سالار تفكيره يقول بصوت جاد وهو يتنحنح :
” كما أنه وحسب ظني فهي تحب هذه الوظيفة وترتاح لفعلها”
وعند هذه النقطة لم يجد إيفان سببًا للرفض، فهو لن يمنع عنها شيئًا تحبه أو يشعرها للحظة واحدة أنهم يقيدون حريتها في هذا المكان، لذا قال بهدوء :
” لا بأس إذن سأتأكد بنفسي من أن تنال الملكة مكانتها التي تستحق في المشفى هنا…مهيار ”
” نعم مولاي ؟؟”
” الملكة ستكون مسؤوليتك لتعلمها ما يخص الاعشاب وغيرها من الأمور التي قد تجهلها هنا ”
هز مهيار رأسه بجدية، ليتنهد إيفان بجدية ثم نظر صوب العريف يقول :
” وأنت أيها العريف عليك بتكثيف دروسك مع الملكة، والتوقف عن طردها من المكتبة، فالتتويج سيكون بحلول العيد الوطني لسفيد ”
هز العريف رأسه مجبرًا يهتف بصوت خانق كاره لكل ما يحدث :
” حسنًا، عساي انتهي من كل هذه الأمور التي تسقط فوق رأسي ”
نظر لهم إيفان ثواني قبل أن يقول بهدوء منهيًا النقاش في هذه اللحظة :
” إذن انتهينا للان، خذوا قسطًا من الراحة يا سادة ولنا لقاء آخر لمناقشة ما سيحدث ووضع الخطة الجديدة ”
هز الجميع رؤوسهم ورحلوا واحدًا تلو الآخر عدا سالار الذي ظل جالسًا ينظر لإيفان نظرات غامضة جعلت الاخير يرفع حاجبه وهو يقول :
” هل نسيت اخباري شيئًا ما سالار ؟؟”
اطال سالار التحديق به ليقول بهدوء :
” اسمح لي مولاي بالحديث معك كصديق ”
” لديك أذني طوال الوقت سالار، فما بيننا أكثر من رتب يا اخي ”
ابتسم له سالار بسمة جانبية، ثم نهض عن مقعده يسحبه صوب المقعد الخاص بالملك وجلس أمامه ينظر لعيونه بجدية كبيرة جعلت إيفان يتعجب الأمر، لكن سالار لم يتركه في حيرته طويلًا يقول بهدوء شديد :
” كهرمان .”
” العاملة ؟؟”
ابتسم سالار بسمة جانبية يدرك تلاعب إيفان بالحديث ويدرك أنه الآن يتلاعب معه في الألفاظ :
” لا، بل الأميرة مولاي …”
__________________
ألقت آخر قطعة ثياب كانت تقيدها مكتفية بفستان لطيف في غاية البساطة، بعيدًا عن تلك الملابس التي تقيد حريتها، تجلس أعلى فراشها، تترك لنفسها واخيرًا الفرصة لتلتقط الأنفاس سعيدة، منتشية ..
لقد احسنت العمل اليوم، استطاعت تدارك العديد من الحالات وحدها، كانت اليوم بمثابة طبيب في المشفى، شعور لطيف أحبته، جعلها تشعر أنها حية، وكم تمنت أن يستمر بعيدًا عن حياتها كمقاتلة وملكة .
تنهدت بصوت مرتفع تسحب الغطاء عليها تغلق جفونها بتعب شديد وهي تهمس براحة لانتهاء اليوم على خير بالنسبة لها :
” اللهم لك الحمد ”
وفي خلال دقائق وبسبب الإرهاق الشديد الذي تعرضت له سقطت في نوم عميق مريح ..
نوم رأت به ضيفها المعتاد والذي لم يتوقف عن زيارة أحلامها حتى حين جاءت للمملكة هنا، يصاحبها في جميع لياليها، ورغم أنها تشعر نبرة الصوت مألوفة، وصاحبها كذلك، إلا أنها يومًا لم تبصر وجهه، مما جعلها تشكك في قدرتها على تمييز صوته، فهي لم تميز تلك النبرة يومًا إلا حينما سمعت همسه، لكن بصوته الهادر لا تشابه بينه وبين فارس أحلامها .
تحركت في أحلامها بين طرقات القصر وهي تنظر حولها تبحث عن أحدهم ولا تدرك عمن تبحث، فجأة ابصرته يقف في نافذة بعيدة عنها لتتحرك صوبه بخطوات بطيئة .
وحين أصبحت على مشارف النافذة سمعت صوته الحنون يهمس لها بلطف :
” كنت انتظرك، اقتربي ”
نظرت هي لظهره بريبة تشعر أن أحلامها اتحدت مع واقعها، هي تعيش أحلامها بنفس شخصيتها الواقعية، تنظر له بشرود .
ليستدير هو لها مبتسمًا بتعجب :
” مالك تنفرين قربي مولاتي ؟؟”
تراجعت هي للخلف بصدمة كبيرة، تبتلع ريقه محدقة في وجهه، للمرة الأولى منذ حلمت به تبصر ملامحه، تنفست بصوت مرتفع تتراجع للخلف تشعر بقرب انهيار لها، ورغم شكها في هويته إلا أن رؤيته تعني الكثير لها .
وقبل أن تخطو خطوة، للخلف التقطها هو بسرعة يضمها لصدره هامسًا بصوت هادئ :
” ما بكِ اميرتي ؟؟ تبدين شاحبة، هل أنتِ بخير ؟؟”
نظرت هي لعيونه ودون أن تشعر رفعت أناملها بتردد وكأنها تسأله إن كان بإمكانها لمسه، فإن لم تستطع فعلها في الحقيقة فالاحلام مجال جيد لتحقيق رغباتها الدفينة في صدرها .
تلمست لحيته بأصابعها شاردة ليغمض هو عيونه مبتسمًا بسمة مستمتعة بما تفعل، حتى سمع صوتها تنطق اسمه وكأنها تسأله لا تناديه :
” سالار ؟؟”
منحها سالار نظرات حنونة يميل عليها هامسًا بصوت أجش عزف على أوتار قلبه بمهارة شديد :
” مولاتي …..”
_________________
لحظة إدراك، تلك اللحظة التي قد تعيد إصلاح حياتك، أو تدمرها ….
يتبع…
صدمة لحظية مرت على عيون إيفان، صدمة يدرك سالار جيدًا أنه لا يعني منها سوى سخرية فقط، فهو يدرك يقينًا أن إيفان يعلم حقيقة كهرمان، يعلم أنها هي نفسها أميرة مشكى، فمن أمامه الآن ليس غرًا، رجل تربى على يد رجال سفيد الكبار، كانوا يسحبونه معهم في كل اجتماع ونقاش، يدرس ردات الفعل وطريقة التحاور مع الغير، يعلم دواخلك دون الحاجة للحديث بكلمة واحدة، فما بالك بأنه تحدث مع كهرمان مئات المرات ودرس تصرفاتها .
” يااه هل هي أميرة ؟! أي مملكة يا ترى ؟!”
ابتسم سالار له بسمة ساخرة :
” أي مملكة تعتقد أنت إيفان ؟!”
” لا أعلم حقًا سالار، فكيف لي أن أدرك أن عاملة في قصري هي في الأساس أميرة ؟! فتاة تتصرف بكل رقي ترفض استعمال مراحيض العامة، تتحدث بلباقة وثقافة وألفاظ هادئة محسوبة، تجيد امتطاء الخيل، كيف لي بالله عليك أن أدرك أنها أميرة ؟!”
صمت ثم أضاف أسفل نظرات سالار الساخر :
” حتى إن علمت أنها أميرة، كيف أدرك أنها أميرة مشكى الهاربة ؟! ربما كانت ابنة آزار التي لم تبلغ بعد الخامسة عشر، أو ربما هي ابنة الملك بارق التي تزوجت وانجبت له احفاد مراهقين ؟؟ كيف لي أن أدرك أنها أميرة مشكى وشقيقة أرسلان ؟؟ وأنت لم تخبرني بشيء كهذا يا …صديقي ”
ختم حديثه بنبرة استشعر بها سالار غضب ولوم خفي، إيفان يلومه الآن أنه لم يخبره حقيقة، ربما اكتشفها هو قبله من الأساس .
لكن سالار لم يسايره في الغضب واللوم إذ قال ببسمة ممازحة :
” ربما أردت اختبار ذكائك إيفان”
” وهل نجحت يا ترى ؟؟”
” بامتياز يا مولاي ”
نفخ إيفان بغيظ شديد ينهض عن مقعده يتخلل خصلاته بأصابعه وهو يقول بصوت قوي حانق غاضب بعض الشيء :
” هذه الفتاة هي حتمًا اغبى من أن تكون شقيقة أرسلان، بالله كيف تحيا أسفل قصري دون أن تطلب مساعدتي ؟؟ أن تطلب مني معاملة تليق بأميرة مثلها، تعيش كعاملة وتتذمر على حياتها كعاملة ”
ابتسم له سالار بحنق يستند بمرفقيه على الطاولة أمامه وصوته خرج هادئًا :
” ربما لأنها كما قلت شقيقة أرسلان ؟! تمتلك نفس العناد ونفس الإباء ونفس الكبرياء، وهي ليست بالمغفلة لتهمل عداوتك الأخيرة مع شقيقها والتي كادت تنتهي بحرب ”
استدار له إيفان بسرعة مخيفة يضرب الطاولة بكفيه :
” ما كنت يومًا لاعلن حربًا على أرسلان ولو عني ذلك دماري سالار، منذ متى أقف في معركة مقابل شقيق وصديق لي بالله عليك؟؟ ”
” وهي لا تدرك عمق مشاعرك تلك إيفان، هي ربما لا تعلم مقدار قربك من أرسلان فهي كانت صغيرة ذلك الوقت كما أتذكر ”
صمت ثم نهض يقف في وجه إيفان للمرة الأولى ربما، يقول بسخرية لاذعة :
” لا تدرك أن شقيقها يمتلك غباءً وحمقًا ينافس غبائك وحمقك، كلاكما مجرد احمقين غبيين، ولولا أن قتل نفسٍ سيلقي بي في قعر الجحيم لقتلتكما بيديّ هاتين أيها الغبيين الحقيرين و…”
توقف سالار عن السب يستغفر ربه بحنق :
” انظر إلى ما اضطررتني لفعله، لقد جعلتني اسبك وأسب رجل ميت، يالله أنتما تخرجانني عن طور هدوئي ”
كان إيفان يحدق في وجه سالار بصدمة كبيرة لما نطق به، فسالار لم يكن ذلك الشخص صاحب اللسان اللاذع، لم يكن من محبي إطلاق السبات وغيرها من الكلمات المسيئة، والآن تفنن في سبه هو وارسلان رحمة الله عليه، رغم أنه لم يقل سوى سبتين فقط وظل يعيدهما طوال حديثه، إلا أنه اعترض وبقوة :
” سالار ألزم حدودك أنت تتحدث مع ملكك و…”
فجأة انفجر سالار في وجهه بشكل جعل إيفان يتراجع للخلف ليس خوفًا، بل صدمة من حديثه وبعد كل تلك السنوات من الصمت :
” أي حدود تلك وأي ملك هذا ؟! دمرتما صداقة استمرت لسنوات لأجل تعنت وكبرياء أجوف منكما، بالله ما رأيت من هم بمثل غبائكما، يا رجل كانت الفتنة تتراقص بينكما تزغرد وتصفق فرحًا وانتما كالضريرين لا تبصرون، حاولت مئات المرات للإصلاح بينكما، وأنت ماذا فعلت ؟! رفضت، وهو ماذا فعل ؟! تكبر عن الاعتذار مرة ثانية بعدما رفضته ”
تنفس بصوت مرتفع وإيفان يراقبه بحزن شديد يقول بصوت منخفض مقهور :
” هل …هل تعتقد أنه غفر لي قبل رحيله؟؟ سامحني ؟؟”
تنفس سالار بقوة وهو يرى الحزن قد استقر على ملامح الملك ليقترب منه يضمه له بحنان اخوي يقول بصوت منخفض :
” لقد سامحك أرسلان من أول يوم، بل وحاول الاعتذار لك مرتين فقط ومن بعدها عاد لقصره يصرخ ويحطمه وهو يتوعد ويقسم أنه لن يفكر في حقير مثلك، لكنه كان يسألني عنك طوال الوقت، كما كنت تفعل أنت بشكل متواري ”
هز إيفان رأسه يهمس بصوت متحشرج يرفض البكاء ورثاء رفيقه حتى أمام سالار، يرفض أن يظهر ضعفه تجاه شخصٍ كان بمثابة شقيق لأحد، حتى لو كان ذلك الأحد هو سالار .
” رحمة الله عليه، سأحيي ذكراه بعودة بلاده، وسأعمل على تقليد شقيقته حكمها ”
صمت يبتعد ببطء عن سالار الذي ربت على كتفه ببسمة صغير، وهو اكمل بجدية :
” لا أدري إن كانت كهرمان تصلح لحكم مشكى، لكنها الوحيدة المتبقية لحكم البلاد ”
هز سالار كتفه يقول ببساطة شديدة :
” ربما في المستقبل حين تتزوج يساعدها زوجها في …”
توقف بصدمة بسبب انتفاضة جسد إيفان بشكل مرعب وهو يحدق في وجه سالار بطريقة أثارت ريبة الاخير، بينما إيفان شعر فجأة بأن ما انتفض لم يكن جسده، بل قلبه الذي شعر وكأن شحنة كهربائية أمسكت به، ابتلع ريقه يردد بصوت خافت :
” تتزوج ؟؟”
” نعم، هي لن تظل طوال حياتها عزباء مولاي، فقط لندعو الله أن يكون الشخص الذي تختاره حكيمًا بالقدر الكافي، لا جشعًا يطمع بالعرش، الأمر صعب، لكن ليقدم الله الخير ”
كان إيفان شاردًا بشكل غريب يهمس دون وعي لسالار الذي استأذن منه لينتهي من بعض الأمور وخرج ليظل هو وحده في قاعة العرش :
” نعم، ليقدم الله الخير ”
وقلبه في تلك اللحظة كان كمن نهض من سبات عميق حاملًا معه مشاعر وحقائق مرعبة دفنها هو في اعماق اعماق عقله يتذكر عيونها مبتسمًا دون وعي :
” منذ اليوم الأول أدركت أنني اعلم عيونها، أخبرتها أنني أعرف هذه الأعين…تحمل نفس عيون أرسلان، نفس النظرات ”
تنهد يجلس على المقعد بتعب شديد يعود برأسه للخلف :
” أميرة مشكى …العاملة كهرمان …الملثمة الغبية، ترى بكم دور تستطيع تلك المرأة الظهور ؟؟”
_____________________
” مولاتي …”
كلمة ليست بالغربية من فم سالار، لطالما ألقاها في وجهها وكأنها سبة، كان يستخدمها في السخرية والغضب والحنق والسخط، لكن في هذه اللحظة داخل أحلامها وحين نطقها كانت تقطر احترامًا، وتقديرًا و….حبًا ؟؟
انتفض جسد تبارك برعب عن الفراش تشعر أن الغرفة تدور بها، جسدها بأكمله قد امتلئ عرقًا وكأنها كانت في مارثون، تتنفس بصوت مرتفع، تضع يدها أعلى صدرها .
” سالار …سالار …سالار ”
تهذي باسمه وكأنها لا تعي ما يحدث حولها :
” طلع سالار، هو …هو اللي …لا لا لا اكيد .. اكيد عشان بفكر فيه كتير و…”
وهذه الحقيقة لم تساهم في تحسين موقفها، لتهتف وهي تنظر أمامها بأعين متسعة :
” ليه ؟؟ ليه بفكر فيه ؟؟ ليه أساسا بفكر فيه ”
انتفضت عن الفراش بسرعة تتحرك صوب النافذة الخاصة بها تفتحها بقوة تسمح للهواء بالدخول وتبريد حمى جسدها الذي كان يتصبب عرقًا، الحلم كان كما لو أنه واقع، فارس أحلامها الذي لم تضح نبرته يومًا ولا حتى ملامحه، كان اليوم في احلامها كما لو أنه واقعٌ، الأمر مفزع .
في البداية تلك النبرة الاجشة التي لازمتها في أحلامها لم تكن واضحة لتعلم صاحبها، لكن …تلك المرة أثناء رحلتها للقصر وحين مال عليها سالار في الغابة يهددها بالدفن بصوت هامس، تلك المرة، ذلك اليوم تتذكر أن قلبها توقف لثواني، وكأنها تعلم ذلك الصوت وتلك النبرة .
ضحكت دون وعي وبنظرة جنونية تمسح وجهها :
” كان بيهددني، قلبي بيدق وهو بيهددني، أنا اكيد مريضة نفسية ”
وما لم تعلمه تبارك أن دقات قلبها ذلك الوقت لأنه تعرف على تلك النبرة التي تشبه نبرة فارس احلامها، ومنذ تلك اللحظة وكلما تحدث لها سالار بنبرة خافتة هامسة هادئة، سقطت في منطقة بين الوعي واللاوعي ..
الآن جاء ذلك حلمها ليقطع الشك باليقين ويخبرها صراحة أن…سالار هو فارس أحلامها .
حقيقة كانت كافية لجعل تبارك تتحرك حاملة حجابها تركض خارج جدران غرفتها وكأنها تهرب من تلك الأفكار التي أصبحت تحاصرها، وكأن أفكارها خرجت من رأسها لتحاصرها هنا، لذا هي ستهرب منها لـ ….
أحضان سالار .
كانت تركض بسرعة خارج الغرفة وهي تنظر خلفها برعب شديد وكأن أفكارها تركض خلفها، لكن فجأة اصطدمت في جدار تراجع للخلف بسرعة رافعًا يده في الهواء هاتفًا بصدمة :
” يا الله يا مغيث، ما بكِ انظري امامك ”
كنتِ تهربين من التفكير بسالار ؟! الآن جاءك سالار بشحمه ولحمه ..
انتفضت بشكل مخيف للخلف جعله هو الآخر ينتفض بدوره وهو ينظر حوله :
” ماذا حدث ؟؟”
هي فقط ترمقه بأعين متسعة مفزوعة كأنها رأت شبحًا، نظر خلفه بسرعة، ثم عاد لها بنظراته يقول بريبة :
” أنتِ توقفي عن هذه النظرات، ما الذي يحدث معكِ”
تراجعت تبارك بسرعة تتأكد من حجابها، ثم أخذت تنفض ثيابها وكأنها تبعد عنها لمسته التي لم تستمر لثواني، وهو حدق بها بعدم فهم، يرفع حاجبه من أفعالها المريبة تلك :
” إلى أين ؟؟”
رفعت عيونها له تقول بصوت مهتز وكأن تلك الحقيقة تلعب على أوتار ثباتها بمهارة شديدة :
” أنا …كنت ..هخرج ”
اقترب منها سالار يقول بعيون ضيقة وكأنه يخضعها لتحقيق :
” إلى أين ؟! ولماذا ؟؟”
” عشان ..عشان كنت مخنوقة و..”
فجأة توقفت ترفع عيونها له بعناد ترفض أن يتحكم في واقعها كما يفعل بكل تبجح في أحلامها، يا الله كان يعانقها بحب في أحلامها، انتفضت من تلك الفكرة وقد أدركت في هذه اللحظة أن هذا شيطان فقط يدفعها بعيدًا عن طريق الصلاح، هذه مجرد احلام سيئة فقط تراودها عن نفسها وتوبتها .
” وما شأنك أنت بي ؟؟”
لم يفهم سالار اندفاعها ذلك يقول :
” أليس من المفترض أنك ترتاحين في هذه اللحظة لأجل ما كابدتيه اليوم ؟؟ لا اعتقد أن خروجك في هذا الوقت بهذه الهيئة المزرية شيء جيد ”
نظرت له بعدم فهم تهتف خلفه :
” هيئة مزرية ؟؟ ماذا تقصد أنت ؟!”
أشار لها سالار بتردد وخجل بعض الشيء يود لو يرحل، لكنه يأبى تركها تسير بين ممرات القصر الهيئة المرفوضة له .
” عيونك المنتفخة كما لو أنكِ تلقيتِ ضربات متتالية بهم، وجهك الذابل وكأنك امرأة في الخمسين من عمرها، و…دون غطاء وجه كذلك ”
شهقت تبارك من كلماته تتحسس وجهها بصدمة وقد أصابتها حقيقة أحلامها بمشاعر غريبة جعلتها تتناسى حتى غسل وجهها، وبالطبع حين تكون في حالة لا تسمح لها برؤية بشري لن تجد أمامها سواه هو….الرجل الوحيد الذي شهد معها اسوء اسوء حالتها.
” أنا…أنا كنت هروح …كنت هروح اجيب العلاج بتاعي من المستشفى عشان نسيته هناك ”
وبهذه الكلمات جذبت انتباه سالار الذي اعتاد يقول باهتمام جلي :
” ادويتك ؟؟ أنتِ لم تأخذي ادويتك حتى الآن ؟!”
هزت رأسها دون شعور بنبرته :
” لا اخدتها مرة بس مهيار قالي اروح ليه بعدين أخد الباقي وانشغلنا في الحرب بقى أنت عارف مشاغل الحرب و….”
” هل أنتِ بلهاء ؟!”
رفعت عيونها بصدمة له وهو قال بحنق شديد يتحدث من بين أسنانه:
” ما الذي تنتظرينه للاهتمام بصحتك ؟! أن تغادرك روحك ؟؟”
شعرت تبارك بالغضب يملئ صدرها لتصرخ في وجهه بغيظ شديد :
” وأنت مالك ؟؟”
رفع إصبعه محذرًا إياها:
” التزمي حدودك يا امرأة، أنتِ هنا لستِ سوى الملكة ”
نظرت له بعدم فهم تتساءل :
” وهو ده مش سبب كافي عشان تحترمني ؟؟ المفروض اكون ايه عشان تكلمني زي البشر ؟؟ فيه ايه أعلى من الملكة عندكم ؟؟”
” فقط توقفي عن أفعالك الغير مسؤولة والغبية تلك وربما حينها احترمك ”
نظرت له بسخرية :
” ربما ؟؟ يعني مش اكيد ؟! طب أتوقف ليه بقى طالما النتيجة مش حتمية ؟! بقولك ايه مش هموت لو عاملتني معاملة زبالة، ما أنا من يوم ما لمحت وشك في استقبال المستشفى وانت بتعاملني معاملة المرمطون”
هزت رأسها تقول مقتنعة بما توصلت له :
” انا عرفت ليه دلوقتي قالوا خيرًا تعمل شرًا تلقى، اكيد لو مكانتش ساعدت صاحبتي ووقفت مكانها يومها مكنتش لمحت وشك ”
ابتسم لها بسمة جانبية جامدة بعض الشيء يقول بجدية :
” حتى وإن دفنتي جسدك أسفل الأرض السابعة فكنت سأجدك، ثم من أخبرك أن رؤيتي لكِ تلك المرة كانت الأولى ؟؟ أنا رأيتك قبلها ”
اتسعت أعين تبارك بقوة لتهمس دون وعي بصدمة :
” في الحلم ؟؟”
ضيق حاجبيه يقول بعدم فهم :
” الحلم ؟؟”
تراجعت تبارك للخلف تدرك مقدار غبائها في هذه اللحظة، لا يعقل أنه يحلم بها، لا هي فقط من قدر لها سوء الحظ لتراه طوال الوقت في أحلامها .
ابتلعت ريقها تقول :
” فين ؟! شوفتني فين قبل الوقت ده ؟؟ ”
نظر لها ثواني قبل أن يبتسم بسمة لم تطمئنها يهمس لها بصوت أعاد لها ذكريات أحلامها ليرتجف جسدها دون شعور :
” حين كنتِ تبكين كالأطفال على درجات المشفى ”
نظرت له تبارك بعدم فهم قبل أن تشهق تستوعب الآن ما يقصد، ابتلعت ريقها وهي تنظر له بصدمة :
” شوفتني وقتها وانا بعيط ؟!”
” نعم كعادتك باكية ”
” أنت لو كنت جيت بدري نص ساعة كنت شوفتي وانا في اوضة العمليات وبعمل عملية مع الدكاترة وببدع، لكن لا أبدًا هيحصل حاجة لو عديت يومك من غير ما تشوفني في موقف زي الزفت ”
نظر لها بعدم فهم، وهي لم تهتم أن تشرح له، ورحلت من أمامه بهدوء تتحدث مع نفسها كالمجنونة يراقبها بعدم فهم، وهي خرجت من الممر بأكمله تحت عيونه .
كاد يتبعها بسرعة كي يرى ما تحتاجه، لكنه توقف يمنع نفسه من التمادي في التعامل معها خارج حدود مهنته يرحل بعيدًا صوب حجرته بغضب شديد من كل ما يحدث معه :
” تلك الباكية تستغل شعوري بالمسؤولية لاركض خلفها واساعدها، لكن لا لقد انتهيت هنا، لتحترق و…”
توقف في سيره ليصرخ ضاربًا الجدار بغضب شديد مستديرًا في سيره يتحرك بسرعة خلفها وهو يهمس بصوت مرتفع وقد قرر أن يعيدها لحجرتها ويرسل من يحضر لها العلاج ويوصله لها، هذا فقط ما سيفعله :
” لا أحب هذا، لا أحب هذا ..”
سار خلفها يبحث بعيونه عنها حتى أبصرها تقترب من المشفى ليحث الخطى صوبها، وهي التي كانت تسير بشرود قبل أن تنتفض صارخة حين سمعت صوته جوارها :
” عودي لحجرتك وأنا سأحضر لكِ الأدوية ”
كانت تنظر له بأعين متسعة قبل أن تنظر أمامها بصدمة وقد شعرت في هذه اللحظة أنه يقرأ أفكارها، فهي بمجرد أن استدعته في عقلها قفز أمامها.
ابتلعت ريقها تنظر له وهو يتعجب نظراتها :
” ماذا ؟؟”
فجأة صُدم حين وجدها تهرول بعيدًا عنه بخطوات سريعة وهو لا يفقه ما يحدث يتابعها بأعين مذهولة ..
قبل أن يزيد هو الآخر من ركضه خلفها يقول بغضب :
” أنتِ أيتها المجنونة توقفي هنا، يالله ألن تنتهي هذه الليلة أبدًا ؟؟؟؟؟”
____________________
لم تنم ليلتها، فقط كذبت على كهرمان تخبرها أنها بخير، وأنها ستتخطى الأمر، فوجع حب لا أمل فيه هو أهون الاوجاع التي واجهتها في حياتها، ابتلعت ريقها تنظر حولها صوب الجميع وقد غطوا في نومٍ عميق لتنهض عن سجادة الصلاة الخاصة بها والتي لم تبرحها منذ فرغت من صلاة الفجر وأخبرت الفتيات أنها فقط ستجلس لتقرأ بعض الآيات، فهي منذ ايام طويلة لم تحمل مصحفها، ربما لهذا تشعر بالضيق .
ضمت زمرد مصحفها لصدرها، تتذكر كلمات والدتها التي ترن في أذنها كلما راودتها نفسها عن شيء :
” تتلاشى أحزاننا حين ندرك أن الله اعلم ومطلع، تطمئن القلوب بذكره وتذكر أن الله جل وعلا لا يكلف نفسًا إلا وسعها، فإن ألقت لكِ الحياة بأحمال ثقال، تأكدي أن ذلك ما حدث إلا لانك بالقوى المناسبة لمجابهة ذلك الحمل ”
مسحت زمرد دموعها تهتف بكلمات خافتة :
” لكن يا أمي هذا الحمل أثقل من أن اتحمله، أثقل بكثير، كنت بخير طالما لم يكن قلبي المعنيّ بالوجع ”
تنهدت تنهض واضعة المصحف على الفراش تنظر للشروق من نافذتها تحاول استنشاق هواء بارد علّه يساعدها في إزاحة بعض تعبها .
قررت الخروج وحملت سيف والدتها، ستخرج تحارب الهواء واشباح الماضي علّ ذلك يريحها بعض الشيء .
وبالفعل نفذت زمرد ما فكرت به، وتسحبت للخارج ببطء شديد كي لا يشعر بها أحدهم، تسير على أطراف أصابعها تخفي سيفها داخل ثيابها، وتضع لثامها الخاص، وحين وصل لأحد الممرات سارت بظهرها تراقب الطريق، لكن فجأة اصطدمت بجسدٍ جعلها تستدير بسرعة، لتجد أن ذلك الجسد كان يتسحب كذلك وكأنه على وشك الهرب .
همست بصوت منخفض :
” الملكة ؟؟”
ابتسمت تبارك براحة شديد تزيح اللثام عن وجهها تهمس :
” مرحبًا …كهرمان ؟! ”
” بل زمرد ”
” نعم، مرحبًا زمرد، كيف حالك، تبدين مشرقة هذا الصباح”
رفعت زمرد حاجبها تتشنج ساخرة من خلف اللثام :
” كان يمكنني تصديقك لو أنكِ نطقتي هذه الجملة في أي صباح عدا هذا الصباح، والآن أخبريني لِمَ كنتِ تتسحبين، وممن تهربين ؟؟”
” احلامي ”
” احلامك ؟؟”
” أعني أنا أرى بعض الكوابيس، لذا نهضت كي اشتم بعض الهواء، وأنتِ ؟؟”
نظرت لها زمرد بشك، لكنها لم تهتم كثيرًا تقول وهي تحرك كتفها بلا اهتمام :
” كنت خارجة لـ ”
فجأة توقفت وكأن فكرة ما طرأت لعقلها، وابتسمت بسمة خبيثة وهي تضيق عيونها بشكل جعل تبارك تتراجع للخلف مرتابة :
” ماذا ؟! لِمَ تنظرين لي بهذا الشكل ؟!”
اقتربت منها زمرد خطوات معدودة لتتراجع تبارك ذات الخطوات ترفع اصبعها مهددة إياها بجملتها التي تثير رعب الجميع في القصر عدا الجميع في القصر :
” توقفي، لا تجرأي على فعل شيء معي، أنا الملكة ”
ابتسمت لها زمرد بسخرية تقول :
” إذن مولاتي العزيزة، ألم تطلبي مني سابقًا أن ادربك على القتال ؟؟”
نظرت لها تبارك بشك لتمنحها زمرد بسمة حمل وديع يخفي خلف جلده ذئب ماكر، تضع يدها أعلى كتف تبارك بلطف تربت عليه بشكل جعل أعين تبارك تتحرك صوب كتفها وزمرد سعيدة لوجود منافس يساعدها على إخراج غضبها، حتى وإن أصابت ذلك المنافس بضربات قاتلة قليلة أثناء رحلة تفريغ غضبها :
” هيا مولاتي سأعلمك كيف تنجين في حربٍ غير عادلة مع بعض الاوغاد ”
” اوغاد ؟؟”
هزت لها رأسها تقول :
” نعم، مثلي ”
وختمت حديثها أن جذبت يد تبارك بسرعة خارج المكان وتبارك تهرول دون شعور خلفها تبتلع ريقها وهي تهمس بصوت مرتاب خائف، فتلك الفتاة غير مضمونة البتة :
” تبدو فكرة التدرب على يد سالار الآن مريحة أكثر…”
________________________
في وقتٍ لاحق من الصباح، حين استيقظ الجميع متوجهين لأعمالهم، كانت هي كذلك قد استيقظت، لكن ليس لتأدية عملها، بل للبحث عن ركنٍ هادئ لحين تنتهي الأعمال .
رمت برلنت بنظرة أخيرة وهي تنزل غطاء وجهها هامسة بحنق :
” نعم نائمة براحة بعدما حصلتي على امتيازات في القصر لكونك زوجة صانع الأسلحة ”
تقلبت برلنت في نومتها تهمس بصوت ناعس حانق :
” وأنا من بتُ ليلتلي أتساءل عن سبب هروب النوم من عيني وقلقي الدائم ؟! الآن أدركت أنها عين ضيقة قد وضعت في حياتي، يا الله عليّ قراءة المعوذتين ”
زفرت كهرمان بغضب وهي تحمل الوسادة تلقي بها على وجه برلنت تقول بغيظ شديد :
” عين من أيتها الـ … آهٍ من هذا الزمان الذي جعل برلنت الصغيرة تطيل لسانها على أميرة مشكى المدللة ”
أطلقت برلنت ضحكة عالية تفتح عيونها بنعاس شديد :
” أميرة مشكى ها ؟؟ زمن وولّى يا صغيرة، الآن اصبحتي خادمة في قصر سفيد، وبما أنني الآن وفي هذه اللحظة من أعيان سفيد؛ إذن أنتِ خادمة لي كذلك ”
كانت كلماتها مستفزة وبشدة لكهرمان التي نست كل شيء تلقي جسدها تنقض على برلنت بقوة تصرخ بجنون :
” أيتها الغبية حين أعود لمشكى سأقيم حروب على سفيد مطالبة بكِ أسيرة لدي”
ختمت حديثها بضربة على كتف برلنت التي صرخت بغيظ تبعد خصلاتها عن عيونها تهمس بغيظ شديد :
” يالله سأدعو لكِ في كل صلاة أن يوفقك الله في العودة لبلادك فقط للتخلص منكِ ”
ابتسمت كهرمان بتكبر :
” بل ستبكين رحيلي بيرلي الصغيرة، انتظري وستري، إن لم تتعلقي بذيل فستاني كالصغيرة بوالدتها تطالبين بقائي، فلا استحق لقب أميرة ”
نظرت لها برلنت بتشنج تهتف بأعين شبه مغلقة :
” أي أميرة تلك أيتها الخادمة ؟!”
وفورًا تلقت ضربة في وجهها بإحدى الوسائد قبل أن تخرج كهرمان من المكان بأكمله تتنفس بعنف وغضب شديد، بينما تتبعها سبات برلنت الغاضبة وهي فقط تهتف :
” كل هذا لأنكِ زوجة صانع الأسلحة، يا الله لو أنكِ تزوجتي ملكًا لدهستي عامة الشعب و…”
فجأة توقفت بسرعة عن الحديث حين مرّ بها تميم متحركًا صوب غرفتهم حيث ترقد برلنت مشعثة الشعر مزرية الحالة، ابتسمت كهرمان تتحرك بعيدًا تهمس :
” ليسعدك الله بيرلي ..”
ذهبت هي لتبحث عن مكان لها تختبئ به حتى تنتهي الأعمال، لكن وأثناء تجولها لمحت نفس الدرج الذي صعدته يوم التقت بالفرقة التي ستحيي حفلة النساء .
نظرت له ثواني بتفكير قبل أن تقرر أن تصعده، وهكذا فعلت وهي تبحث بعيونها عن الجميع، ستحيا ما يعيد لها بعض ذكرياتها قديمًا .
بينما هو تحرك بعدما أبلغ والدته من خلال إحدى العاملات أن تفرغ له الممرات من النساء كي يصعد لها .
وبالفعل ها هو يسير في الممر صوب حجرة والدته وحين طرق الباب وسمع صوتها يسمح له بالدخول ابتسم يقول بصوت هادئ :
” السلام عليكم أمي”
” عليكم السلام بني، لمن أدين بمجيئك منذ الصباح ؟!”
كانت تتحدث ببسمة واسعة ليستغل هو الأمر بمكر وهو يهتف :
” للملكة تبارك ”
انتفض جسد والدته انتفاضة ملحوظة، وهو ابتسم لها يقول بهدوء :
” جئتك بخصوص الحفل الوطني أمي، هناك بعض التغييرات الهامة التي ستضاف لهذا العام ..”
نظرت له بعدم فهم :
” تغييرات ؟! أي تغييرات تلك ؟!”
نظر لعيونها يهمس بهدوء شديد ونبرة مقصودة :
” زواجي …”
وفي إحدى غرف الممر، أو في الغرفة الأخيرة في الممر وبعدما أفرغت النساء الممر بأكمله لمرور الملك واكتفين بالجلوس هادئات إلا من بعض العزف وقليل من الكلام لحين خلو المكان بأكمله من أي رجل .
لكن كهرمان كانت تسمع ضرب الدف وهي تردد بعض الترميمات بصوت منخفض سرعان ما ارتفع دون شعور منها حين شردت بعقلها بعيدًا..
بدأ الجميع ينتبه لها وهي تغمض عيونها تحرك يديها بهدوء أمامها، تغني تلك الكلمات الغريبة على مسامعهم، لكنها وللحق أعجبتهم وبشدة .
وكهرمان التي اندمجت بدأت تصفق تزامنًا مع غنائها وبعض الفتيات يشاركنها التصفيق والبعض الآخر يضرب الدف .
وقد زادت الحماس بين الجميع، حتى أن احداهن جذبت كهرمان لمنتصف حلقة تطالبها برقصة تليق بتلك الكلمات، وكهرمان لم تحرمهن ما تشتهيه هي، فأخذت تحرك يديها في الهواء بشكل مقصود، ثم كتفها، ومن بعده خصرها، حركات بسيطة استهلت بها الرقصات لتبدأ الحماسة تزداد وصوتها يزداد حماسة والناس يزدن من تصفيقهن وقد غفلن بشكل كلي عن أن الطابق يحتوي رجلًا ولم يكن أي رجل، بل كان الملك ….
وهو خرج من جناح والدته تاركًا إياها تتجرع صدمتها ببطء، صدمة هو لم يتجرعها حتى الآن، لكن هذا ما يجب أن يحدث، بعد أيام سيعلن تبارك زوجة له خاصة أنه وحسب حديث سالار تقدمت في جميع التدريبات .
فجأة توقفت أقدامه ولم تتوقف دقاته، بل ازدادت حين سمع ضرب الدف يعلو بحماس شديد، ورغم تحذيره للنساء أنه سيمر إلا أنهن استمررن فيما يفعلن، ولم يكن ذلك هو ما أوقفه، بل ذاك الصوت الذي على وهو يغني بنبرة شجية، نبرة يعلمها جيدًا، نبرة يدرك صاحبتها ويكاد يقسم أنه يراها الآن تتراقص نفس الحركات التي رآها سابقًا يوم الحظيرة بالقرب من البحيرة .
ارتفع صخب ضربات قلب إيفان وهو يحاول أن يبعد تلك الفكرة عنه، ربما تتشابه النبرة والصوت، بالطبع لن تشترك أميرة في رقصات كتلك مع النساء، بالطبع لا .
ابتعد بسرعة عن الغرفة وهو يستغفر الله، أصبح وكأنه يركض بعيدًا عن صوتها الذي تسبب له في فتنة، يالله حتى الصوت فتنة، المرأة بكل ما فيها تمثل فتنة، لكن … لِمَ هي بالتحديد من تسري فتنتها عليه ؟!
وصل لبداية الدرج ولم يكد يخطو عليه خطوة واحدة حتى ارتفعت أصوات الغناء لها أكثر لدرجة أنه في هذه اللحظة تخيل نفسه يركض للغرفة يسحب المغنية من مرفقها يلقي بها في السجن حيث لا جمهور ولا دف ولا أحد يشجعها على ما تفعل .
ظل واقفًا مكانه لا يدري ما يفعل، لا يعلم ما عليه فعله، حتى لمح إحدى العاملات تتحرك في الممر ليقول :
” أخبري النساء في غرفة الاحتفالات أن يخفضن اصوات الغناء، وأن يلتزمن الحدود حين إعلامهن بوجود رجل في المكان ..”
ختم حديثه يهبط الدرج بسرعة يهرب من ذلك الصوت الذي كان يطارده وكأنها تعانده وتزيد من الغناء ليتوقف وهو يضغط على سور الدرج يهمس بغضب :
” يالله هل تزداد في الغناء عنادًا ؟؟ أأمنع الاحتفال الوطني بأكمله ؟! هذا ما ينقصني، رحل أرسلان وترك لي نسخة أكثر ازعاجًا منه ”
مسح وجهه يتحرك بعيدًا وهو يهمس :
” سامحك الله أرسلان، أما كنت تستطيع منع شقيقتك تعلم الغناء والرقص، استغفر الله، لقد حملتني ذنوبًا في دقيقة تكفي اعوامًا مقبلة، يا الله هذه المرأة..”
وبمجرد أن تحرك بعيدًا عن كل ذلك وكان على وشك الخروج من القصر لمح طيفها يهبط الدرج بسرعة كبيرة وهي تركض في ممرات القصر، ولم يشعر إيفان بنفسه وهو يتحرك خلفها، ربما يصرخ في وجهها ويفرغ بها بعض غضبه .
لكن وحين لحق بها اتسعت عيونه مما يرى، تحرك بسرعة خلفها يراقب ما تفعل كهرمان ليراها تخرج من أحد الأبواب الصغيرة في القصر وهي تتلفت خلفها، همس بصدمة كبيرة :
” ما الذي تفعله تلك ؟! هل تهرب من القصر ؟؟”
وعند هذه الخاطرة اتسعت عيونه برعب ينتزع معطفه الملكي بسرعة، ثم سار بثوبه السفلي المتكون من بنطال وسترة وحزام يحتوي أسلحته، يلحق بها من نفس الباب مرددًا :
” تلك الغبية لا تدرك أن المنبوذين منتشرون بممرات سفيد، ستلقي بنفسها في التهلكة ”
نظر لها تسير بكل راحة وعدم اهتمام ولم يجد في ثوبها سيفًا أو أي سلاح حماية ليلوي ثغره هامسًا :
” يبدو أن أسلحتها لا تخرج إلا لي ”
انتبه إيفان أنها تتحرك في بعض الشوارع التي يعلمها جيدًا والتي تؤدي لمكانٍ يعلمه تمام العلم، مكان بمجرد اقترابك منه تسمع اصوات عالية متداخلة يخرج منه .
توقفت أقدامه أمام المكان يهمس بعدم فهم :
” سوق العاصمة ؟؟ حقًا ؟؟”
____________________
” حين قتالك مع خصمك تأكد أن تنظر لعيونه، أره أنك لا تخشى منه مقدار شعره، حدق به وكأنك تخبره أن الموت هو آخر ما تخشاه ”
ختم حديثه وهو يرفع سيفه عاليًا يقاتل أحد كبار جنوده والذي كان ماهرًا في القتال، يبتسم بسمة جامدة بعض الشيء، وحوله الجنود يراقبون ذلك القتال .
الشاب الأصغر عمرًا والقائد الاعلى، منافسة شبه محسومة، لكن لا أحد حتى الآن استسلم أو أسقط سيفه، بل كانت المنافسة تزداد حدة، وسالار يرفع سيفه بقوة يهبط به بالقرب من ذلك الشاب الذي تراجع بسرعة وقبل أن يضاعف سالار ضربته بثانية رفع الشاب سيفه يتلقف ضربة سالار يهمس له :
” خفف ضرباتك يا قائد فأنا لستُ عدوًا ”
لكن سالار لم يتوقف وهو يزيد من ضربات والشاب شعر أنه على وشك السقوط ارضًا، يعافر للنجاة من أسفل سيف سالار الذي كان يضغط على أسنانه بقوة يهتف بصوت شبه مرتفع :
” تهاونك سيكون سبب هلاكك، إن قاتلت عدوك بنفس طريقة قتالك لي، فلا تفارقن الشهادة لسانك ”
ختم حديثه بضربة قوية أسقطت الشاب ارضًا ومعه السيف الخاص به، وصوت أنفاسه يعلو بشدة، رفع عيونه بهدوء صوب سالار الذي راقبه من الاعلى يمد كفه له، ليتمسك به الشاب ينهض مبتسمًا :
” اعتقد أنه كان قتالًا جيدًا ”
” أنت خسرته ”
” خروجي حي من قتال معك هو انتصار في حد ذاته سيدي القائد ”
ابتسم له سالار بسمة جانبية قبل أن ينظر حوله للرجال يقول بجدية :
” هيا أكملوا التدريبات، انقسموا لعدة فرق كل فريق مكوّن من شخصين، وكل فريق يقاتل الآخر، هدف هذا القتال هو التدرب على كيفية حماية ظهر بعضنا البعض أثناء القتال، وفي الوقت ذاته نحمي انفسنا ”
وبمجرد أن ختم حديثه بدأ جنوده ينقسمون لعدة فرق كما أمر، ثم حملوا أسلحتهم ليبدأوا في القتال، راقبهم هو لدقائق، ومن بعدها أشار لأحد الرجال ذوي المكانة العالية يقول بصوت هادئ :
” أكمل مراقبتهم لحين انتهي من تدريبات الملكة واعود ”
تحرك بعد هذه الكلمات صوب الساحة الخلفية والتي كانت مخصصة لتدريب الملكة، توقف هناك ينظر حوله بحثًا عنها، وهي التي لم تكن تتأخر ثانية واحدة عن تدريبها.
” أين اختفت هذه الفتاة يا ترى ؟؟”
أخذ يدور بعيونه في المكان بشكل ملحوظ، قبل أن تتوقف عليها وهي تقترب منه ببطء غريب، تسير بحذر وكأنها تخطو على جمر، ترتدي رداء اسود اللون مع حجاب من اللون الازرق ولثام اسود تخفي به كامل وجهها عدا عيونها .
ضيق سالار عيونه وهو يطيل النظر بها دون وعي، وحين توقفت أمامه تحدثت بصوت منخفض :
” السلام عليكم ”
” وعليكم السلام ”
صمت يحرك نظراته عليها بشكل جعلها تبعد عيونها عنه تقول ببسمة صغيرة :
” أعتذر للتأخر فقط …”
صمتت لا تدري ما يجب قوله، وكأن مخزون كلماتها نفذ فجأة، وهو رفع عنها ذلك الحرج متسائلًا بجدية يقترب خطوات قليلة من مكان وقوفها :
” أرى أنكِ ترتدين اللثام على غير عادتك ”
توترت تبارك وزاغت عيونها بشكل أثبت لسالار وجود خطب بها، ترى ما الكارثة التي فعلتها هذه المرأة الآن .
” أنا… أنا قولت اتلم بقى واسمع الكلام خلي ربنا يكرمني وافوز عليك انهاردة ”
نظر لها بسخرية لاذعة قبل أن يقترب خطوة فتتراجع اثنتين وهو يتسائل بجدية وشك :
” ما الذي تخفينه ؟!”
” ماذا ؟!”
” ماذا فعلتي هذه المرة ؟!”
” لا شيء ”
ابتسم سالار بسمة غير مصدقة :
” حقًا ؟؟ لا اصدقك، هذه النظرات التي تعلو وجهك في هذه اللحظة تخبرني وبوضوح أن هناك كارثة انتهيتي منها لتوك، والآن ودون كذب أخبريني ما حدث ”
ختم حديثه يقترب منها بقوة بغية إجبارها على الاعتراف بما فعلت، حتى ينقذ ما يمكن إنقاذه إن كان هناك فرصة لتصحيح ما فعلت .
ابتعدت عنه تبارك بسرعة للخلف ترفع سيفها في وجهه بسرعة وبردة فعل غير إرادية تقول بجدية :
” لا تتقدم ..”
اتسعت أعين سالار بقوة وهو يحدق في سيفها الذي ارتفع في وجها دون مقدمات، ودون أن يقنعها هو ساعات لفعل ذلك، ودون أن يشعر ارتسمت بسمة على فمه وكأنه أعجبه ما حدث .
حسنًا هو بالفعل أعجبه ما حدث وبشدة :
” أوه، هذا تقدم واضح، أن تتحدثي بسيفك لهو تقدم مبهر في الحقيقة ”
بللت هي شفتيها من أسفل اللثام وهي تحاول الحديث :
” أنا ..أنا فقط لم …لم أقصد أن..”
لكن وقبل أن تكمل كلمتها كان سالار يرفع سيفه في وجهها هو الآخر بشكل جعل أعينها تتسع وهي تتراجع بقوة للخلف وكأنها للحظة ودت أن تعتذر عن فعلتها، لكن سالار لم يسمح لها أن تمحو ما فعلت والذي أعجبه وبشدة، يرفع سيفه في نية واضحة للقتال ..
وهي ما كان منها إلا أن تصد ضربته بسرعة وبمهارة جعلت بسمة سالار تتسع أكثر يراقبها بفخر وكأنه يشهد المرة الأولى التي تزحف فيها ابنته بعد شهور من تعليمها :
” هذا …رائع ”
في ثواني تراجع للخلف يرفع سيفه مجددًا، وهذه المرة لم تنتظر تبارك أن يهجم هو عليها، لتبادر هي بالهجوم بشكل جعل ضربات قلب سالار تزداد، الحماس دبّ في صدره كما لم يحدث منذ ثواني حين قتاله مع امهر رجال جيشه، هو حتى حين قتاله مع إيفان أو تميم أو دانيار، أو حين قتاله في الحرب، القتال معها يحمل طعمًا ولذةً مختلفة يتذوقها للمرة الأولى .
دارت تبارك حول نفسها تتذكر كل لحظة وكل خطوة تعلمتها منه، وطبقتها منذ ساعات على زمرد .
وعلى ذكر زمرد تذكرت ذلك القتال الذي كادت تخرج منه بلا عين، ومبتورة الذراعين، يا الله تلك الفتاة كانت تقاتلها وكأنها تدين لها بثأر، قتال تذكرت به جميع تعليمات سالار لترى الدهشة تعلو وجه زمرد التي هتفت بصدمة :
” يا فتاة أنتِ حقًا، تقاتلين بشكل جيد ”
ابتسمت تبارك بفخر لهذا الاطراء، هي بالفعل تقاتل بشكل جيد مع خصم كزمرد، فأن تبارز شخصًا مستواه كخاصتك أو قريب منه، يختلف عن مقاتلك لمبارز محترف كسالار .
مع زمرد تشعر بتفوق وتطور نسبي في مستواها، حتى وإن كانت زمرد تفوقها، لكن أن تقاتل سالار أشبه بسباق بين فهد وطفل يتعلم السير، و هذا لحسن حظها، فأن تتعلم مع شخصٍ ذو خبرة كبيرة وعلى مستوى عالٍ افضل من تعلمك على يد شخص عادي المستوى ..
فاقت من شرودها بقتالها الذي خرجت منه بجروح كثيرة في وجهها وذراعها، على ضربة سيفٍ كادت تشقها نصفين لتسقط ارضًا بشكل مزري، وحين وجدته يقترب منها بسيفه رفعت خاصتها تستقبل ضربته بسرعة وهي تتنفس بصوت مرتفع .
وعلى فم سالار ارتسمت بسمة واسعة فخورة :
” أنا فخور بـ..”
وقبل أن يكمل جملته تساقط لثام تبارك كاشفًا عن وجهها الذي كان به بعض الخدوش والكدمات، اتسعت عيونه شيئًا فشيء وهو يراقبها بصدمة كبيرة :
” يا الله يا مغيث، ما الذي حدث لكِ ؟!”
نظرت له تبارك وهي ما تزال رافعة سيفها تمنع به خاصته عن قطع رأسها، لكن حين شعرت بالهواء يلفح وجهه شهقت تبعد سيفه عنها وهي تنهض ترفع اللثام بسرعة، لكن فجأة وجدت سيفه يوضع على يدها وهو ينظر لها بشر :
” من ذا الذي تجرأ وفعل بكِ هذا ؟؟؟”
نظرت تبارك لعيونه ترى شر كبير بهما، ابتلعت ريقها بريبة تحاول الحديث، لا تعلم ما تقول، تنفست بصوت مرتفع وهي تحرك عيونها بعيدًا عنه :
” أنا..هو أصل أنا وانا جاية التدريب خبطت في عمود ”
تشنجت ملامح سالار :
” ماذا ؟!”
” عربية…قصدي حصان خبطني ”
” ما هذه الحجج السخيفة، ما الذي تقولينه ؟! أخبريني من الذي تسبب لكِ بهذه الجروح قبل أن يزداد غضبي ”
ابتلعت ريقها تبحث عن حجج أخرى غير سخيفة، لكن لسوء حظها فجميع الحجج التي تقال في مثل هذه المواقف لا تمت لعالمهم بصلة، عليها الجلوس يومًا مع نفسها وعمل قائمة بحجج أخرى سخيفة تليق بعالمهم .
صرخ سالار بجنون حين طال صمتها يرفع سيفه عليها :
” تحدثي من فعل بكِ هذا ؟؟”
حدقت تبارك في السقف بخوف تقول :
” لقد …هو …لقد كنت ابارز أحدهم وهذه الجروح نتجت عن المبارزة ”
ضيق سالار عيونه بشكل مخيف وهو يقترب منها يهسهس بشكل مرعب :
” تبارزين أحدهم ؟؟ رجل ؟؟”
” لا لا، بل امرأة، هي صديقة لي هنا ”
وفي ثواني جاءت صورة كهرمان لعقل سالار، فمن غيرها من النساء يستطيع المبارزة هنا، هي وصديقتها، لكن ورغم معرفته بهذا إلا أنه قال بعدم رضا وهو ما يزال يضع سيفه على رقبتها :
” تسببت لكِ بهذه الجروح، هل رددتها لها ؟؟”
نظرت له بعدم فهم ليهمس بشر :
” لا تخبريني أنكِ تركتيها تنتصر عليكِ، أو ترحل دون أن تردي لها الضربة بعشرة ”
رمشت تبارك ثواني بعدم فهم، قبل أن تهز رأسها بسرعة كبيرة تقول :
” لقد فعلت، اقسم أنني فعلت، لم أكن خصمًا سهلًا يا قائد ”
ارتسمت بسمة صغيرة على وجه سالار شيئًا فشيء ينزع سيفه عنه وهو يقول بهدوء :
” هذا جيد إذن”
صمت ثم قال بحنق وغيظ :
” لكن إياكِ أن تتورطي في قتالات مع أي أحد آخر وتخرجي بخدش واحد سمعتي ؟! كوني اليد العليا في أي قتال تكونين طرفًا به ”
” أنت استثناء لهذا صحيح ؟!”
ابتسم لها بسمة صغيرة يضع سيفه في غمده هامسًا :
” سأظل استثناءً طوال الوقت …”
نظرت له ثواني بتوتر وهي تحاول إبعاد همساته الرقيقة عن أذنها، وقبل أن تتحدث بكلمة أخبرها بهدوء شديد :
” اذهبي لمشفى القصر ودعي الطبيبة تضمد لكِ جروحك تلك لئلا تلتهب، والآن سأعود للتدريبات الخاصة بجيشي، ويومًا آخر نكمل، حين تكونين بكامل قوتك ”
ختم حديثه وهو يهز رأسه لها باحترام، يرمق جروحها للمرة الأخيرة بتردد قبل أن يرحل بسرعة كبيرة ادهشتها وجعلتها تتراجع للخلف بفزع من انتفاضة ذلك .
” ماذا دهاه ؟؟”
صمتت وهي تتحسس جروحها تلعن زمرد، تلك الـ …حسنًا لا تنكر أنها استمتعت وبشدة بالقتال معها، وافرغت به بعض مما تضمر، وعلى ذكر ما تضمر، ألم تكن قد قررت تجاهله وعدم المجئ للتدريب؟؟ ما الذي حدث الآن ؟؟
_______________
توقف أمام باب الغرفة يتنهد بصوت مرتفع، اليوم عليه أن يجهر بزواجهم في مسجد القصر، رغم أنه لم يوفر فرصة إلا وأخبر بها الجميع أن هذه المرأة التي تقبع خلف هذا الباب هي امرأته هو وزوجته هو ..
تنفس ثم ابتسم بسمة صغيرة يطرق الباب بهدوء :
” برلنت …برلنت ”
لكن لم يصل له أي صوت منها، فكرر ما كان يفعل متسائلًا بهدوء :
” برلنت، أنتِ وحدك بالداخل ؟؟”
وصل له بعد ثوانٍ انتظار صوت خافت ناعس يقول بهدوء :
” نعم تميم، أنا وحدي ”
ابتسم تميم يقول بخفوت واحترام شديد :
” إذن هل يمكنني الدخول من فضلك؟!”
وهي في الداخل كانت متسطحة أعلى الفراش بكسل شديد، خصلاتها متناثرة ومنعقدة بشكل مشين في الحقيقة، عيونها ذابلة أثر النوم، لاتعي سوى أن صوت تميم يطالبها بالاقتراب، ومن هي لتمنع تميم عن قربها وهي تشتاقه ؟؟
ابتسم تردد بصوت خافت ناعس :
” تعال .”
ابتسم تميم يفتح الباب بهدوء ثم طلّ برأسه اولًا خشية أن يكون هناك أحد غيرها، رغم أنها أخبرته العكس، لكنه يدرك أي نوع من الأشخاص تكون هي حين النوم.
ابتسم يغلق الباب خلفه يقترب من الفراش ببطء، خلع حذاءه قبل أن يجلس جوارها يرفع يرأسها بهدوء يعدل من وضعيته كي لا تصيبها الآلام في الرقبة جراء ذلك، ومشهد نومها بهذه الهيئة المدمرة كان أحب على قلبه من رؤيتها بكامل زينتها .
ابتسم يسترجع ذكريات قديمة له حين كانت تقضي بضعة أيام رفقته لأجل سفر والديها …
اقتحم الغرفة في الصباح بلهفة متجاهلًا صيحات والدته خلفه بأن يدع الفتاة تنام بسلام، وأن يتركها وشأنها .
لكنه لم يهتم سوى لأنه يود رؤيتها في الصباح، فضول شديد دفعه لمعرفة كيف يكون مظهرها حين تستيقظ، شعور غريب يخبره أنه سيحب ما سيرى، لكن وحين اقتحم الغرفة اتسعت عيونه وفغر فاهه يرى مظهرًا فوضويًا لها، وقد سقطت بجسدها بأكلمه ارضًا تضم لها الغطاء، بينما رأسها فقط مستقرة أعلى الفراش .
صدمة تلقاها الشاب في منتصف صدره وقد حطمت تلك الصغيرة أحلامه التي قضى ليلته بأكملها يتخيلها، يتخيل أنها تنام كالملاك على الفراش خصلاتها تتناثر حولها برقة بينما أشعة الشمس تشاركها الفراش بشكل ساحر، وفي النهاية وجد هذا .
في هذه اللحظة لم يتمالك تميم نفسه وانهار ارضًا يضحك بصوت صاخب عليها، يا الله حطمت الصغيرة احلامه، بل ودهستها أسفل اقدام الواقع .
نهض بصعوبة لكثرة ضحكه يتحرك لها يرفعها بين ذراعيه واضعًا إياها على الفراش مبتسمًا :
” ها نحن ذا يا صغيرة ..”
وضع الغطاء أعلاها، ثم أخذ يعدل وضعية رأسها ويجمع خصلاتها بعيدًا عن عيونها، واخيرًا مال يطبع قبلة رقيقه .
وفي الوقت الحالي ها هو يطبع نفس القبلة أعلى رأسها بحنان شديد هامسًا بالقرب من أذنها :
” في النهاية تملكين طريقتك الخاصة في سحري صغيرتي”
توقف عن الهمس يشرد في وجهها وهناك بسمة متسعة تعلو وجهه، فتحت هي عيونها تمنحه بسمة مماثلة هامسة:
” صباح الخير ”
” صباح الخير بيرلي، عساكِ قضيتي ليلة سعيدة ”
ابتسمت له تهز رأسها بخفوت قبل أن تغمض عيونها مجددًا تستمتع بهذا الحلم الواقعي لتميم الذي يتحسس خصلاتها الهائجة المتشابكة الـ …مهلًا، تميم يتحسس خصلاتها ؟؟ تميم رأى شعرها الهائج ؟؟ شعرها !؟
عند هذه الفكرة انتفضت برلنت بسرعة بعيدًا عنه بفزع لدرجة أنها سقطت عن الفراش تطلق صرخة مرتفعة جعلت تميم يفزع وهو يلقي بجسده على الفراش كي يمسكها، لكن فات الأوان لتسقط برلنت بقوة ارضًا وتصطدم في علاقة الثياب جوار الفراش لتسقط الأخيرة فوق رأسها بشكل كاد يحطم جمجمتها لولا يد تميم الذي امسكها بسرعة وهو يهتف من بين أنفاسه المفزوع :
” يا ويلي ..يا ويلي، ما بكِ برلنت، ما بكِ ؟!”
كانت برلنت متسعة الأعين لم تخرج بعد من صدمتها بما حدث، أرادت تلاشي خجلها من رؤيته لها بهئية صباحية مدمرة، لتصطدم في مواقف أكثر احراجًا .
عدّل تميم من وضعية العلاقة، ثم نظر لها وهي مرمية ارضًا تحاول التنفس، ليمد يده لها يقول بلطف :
” تعالي ”
مدت يدها له ليسحبها بقوة يتلقفها بين أحضانه وهو يقول بهدوء :
” هل تنتوين حضور إشهار زواجنا بجروح بيرلي ؟!”
نظرت له برلنت بخجل تهتف :
” ما كان عليك الدخول ورؤيتي بهذا المظهر تميم، هذا محرج للغاية ”
أطلق تميم ضحكات مرتفعة قبل أن يرفع أنامه ويبدأ في تصفيف خصلاتها محاولًا تدارك ما يمكن إدراكه :
” حسنًا، أظن أن هذا أفضل مشهد قد استيقظ عليه يومًا ما بيرلي ”
تأوه يقول بصوت منخفض :
” يا الله برلنت أنا بائس لدرجة أن أي شيء تمنحيني إياه وإن كان بسيطًا يبهرني ويسعدني ….ويفتنني ”
ختم حديثه بهذه الكلمة الهامسة يميل عليها مانحًا إياها قبلة صغيرة رقيقة أعلى وجنتها، ثم ابتعد يقول مبتسمًا :
” ثم أنسيتي أنني كنت استيقظ على مشاهد أكثر جنونًا من هذا لمدة أسبوعين حين قضيتي ايامك في منزلي !!”
ضحكت برلنت بصوت منخفض وهي تبعد خصلات بخجل :
” كنت طفلة في ذلك الوقت تميم، يالله الأمر في غاية الاحراج ”
ابتسم لها يربت على خصلات بحب :
” أنا آخر شخص قد تخجلين منه برلنت، والآن هيا انهضي لتتجهزي، فاليوم يومك جميلتي ”
نهض يبتعد عن الفراش ثم توقف أمامها بهيئة مرتبة، بثياب رمادية اللون تلائم عيونه، وخصلات مصففة بعناية ورائحة الزهور تفوح منه بشكل مبهر، هيئة تناقض هيئتها المدمرة العشوائية، الشيء ونقيضه حقًا .
وهذا لم يساهم في تخفيف الاحراج الذي تمر به .
ابتسم تميم يتفهم كل الأفكار التي تمر بها، لكنه فقط تحرك ليحمل الحقيبة التي تركها جوار باب الغرفة حين جاء والتي تراها برلنت الآن فقط، رفعها في وجهها يقول بلطف :
” هذا لكِ بيرلي، عسى أن ينال اعجابك”
نظرت له بعدم فهم تلتقط منه الحقيبة تخرج ما فيها بسرعة كبيرة لتشهق بصوت مرتفع حين أبصرت ثوب طويل بديع لها، رفعت عيونها له تهمس بصدمة :
” تميم هذا ..هذا … أنت… أنت..من صنعه ؟؟”
ابتسم يهز رأسه لها :
” منذ سنوات صنعته ولا ادري حقًا إن كان يلائمك أم لا، لكن يمكنني إرسال من يساعدك في جعله مناسبًا لكِ، كان هذا الثوب الوحيد الذي صنعته، لم أحبذ العمل بالخياطة، لكنني صنعته لكِ خصيصًا ”
كلماته عنت لها الكثير، الكثير لتترك الثوب وهي تتحرك عن الفراش تتحرك له تضمه لها وهي تهمس بصوت متحشرج خافت :
” شكرًا لك، شكرًا لك تميم ”
ابتسم تميم يبادلها العناق هامسًا :
” بل شكرًا لكِ برلنت، شكرًا لوجودك في حياتي البائسة تلك ..”
_____________________
يدور في الأسواق منذ ساعة ..ساعتين ؟؟ لا يدري لكنه يشعر بالملل الشديد وهو يتبع مهيار طوال هذا الوقت، وقد كان الاخير متحمسًا وهو ينتقي هداياه التي سيدخل بها على عائلة عروسه .
نظر خلفه يشير لدانيار أن يقترب :
” اقترب دانيار وانظر إلى هذا القماش الجميل، هذا من الحرير، اعتقد أنه جيد كهدية لها صحيح ؟! ما رأيك أنت ؟!”
التوى ثغر دانيار يجيب بصوت خافت :
” لا أدري، لم أجرب الزواج من قبل ”
ربت مهيار على كتفه مبتسمًا :
” لا بأس قريبًا تفعل، وحينها سآتي معك لانتقاء الهدايا المناسبة ”
لا يدري السبب لكنه في هذه اللحظة تذكر عرضه الذي طرحه على زمرد دون أن يجد ردًا منها في المقابل، بل كل ما ناله منها هو تجاهل وهرب دون مبرر أو حتى رفض، هل تحاول التلاعب به ؟؟ إن كانت تفعل فالويل لها من شياطينه .
نظر حوله يبحث عنها بعيون متفحصة، فهو وإن وافق على المجئ للسوق مع أخيه فما فعل سوى لأنه يدرك أنها تخرج للتسوق في هذا اليوم تحديدًا، لا تسيئوا الظن، هو لا يراقبها أو ما شابه، بل فقط يود الامساك بها وضربها في جدار أحد المنازل هنا، وإخراج خنجره ووضعه أعلى رقبتها مهددًا بشر أن تعطيه رده ويفضل أن يكون ( نعم) .
لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، فجأة وأثناء امساك شقيقه لقطعة حرير معينة التمعت عيونه مستدعيًا صورة قريبة لها وهي تمسك قطعة حرير شبيهه لتلك تتساءل عن سعرها، ودون أن يشعر انتزعها من بين أصابع مهيار يقول بصوت بارد بعض الشيء وهو ينظر بعيدًا عن أعين شقيقه المصدومة :
” سآخذه ..”
لم يفهم مهيار ما يسمع، لكنه وجد شقيقه يلقيه للبائع يقول :
” احزم لي هذه القطعة في حقيبة سأشتريه منك ”
اقترب منه مهيار بشكل غريب وهناك بسمة أغرب ترتسم على فمه هامسًا :
” مهلًا مهلًا، ما هذا الذي تراه عيناي يا أخي؟! ”
نظر له دانيار ببرود شديد يجيب سؤاله :
” قطعة قماش حريرية ”
” عدا قطعة القماش، ما الذي يحدث ؟! لا تخبرني أنك وجدت فتاة تعجبك وستطلب يدها، هل يعقل أنك تغار لأنني سأسبقك في هذه الخطوة ؟!”
زفر دانيار بغيظ وهو يبعد وجه مهيار عنه :
” أنت توقف عن هذا فقط القماش اعجبني و….”
فجأة توقف لسانه عن الحديث دون شعور حينما ابصرها تتحرك أمامه، لا يظهر منها سوى عيونها وقد كانت أكثر من كافية ليتعرف عليها .
ورغم أنه تعهد ألا يركض خلفها أو يلحق بها أو غيره، إلا أنه اخلف وعده لنفسه وهو يحث خطاه ليلحق بها متجاهلًا مهيار الذي نظر له بعدم فهم :
” إلى أين ؟؟ أنت ماذا تفعل ؟؟”
لكن دانيار لم يتوقف وهو يركض بسرعة بعيدًا عنه وصوت البائع يصيح في أثره:
” سيدي وماذا عن قطعة القماش ؟؟”
استدار له مهيار يجيب بحيرة :
” لا بأس ضعها في حقيبة سأدفع أنا ثمنها ”
وبالفعل دفع مهيار ثمن قطعة القماش، ثم تحرك حاملًا حقيبته صوب المحل الخاص بوالد ليلا، يشتاق لرؤيتها وبشدة، لذا لا ضير في الذهاب ورؤيتها سريعًا قبل عودة شقيقه من موجة الجنون تلك .
بينما وعند دانيار سار بين العامة وهو يتخبط بهم معتذرًا، يعتذر لهذا وذاك وعيونه لا ينزعها عنها .
واخيرًا وصل حيث دخل، نظر للمكان ليكتشف أنه محل أسلحة، قلب عيونه يقول بحنق :
” حقًا ؟؟ يا ويلتي من هذه المرأة ؟؟ ”
النساء يذهبن لمحلات الزينة والزهور وهي تذهب لمحلات الأسلحة وسباقات القتال، يا فرحتك يا دانيار بمن اخترتها خليلة لك .
دخل المحل الذي كان صاحبه يضع في كل شبرٍ منه سلاح، حتى السقف كان يتساقط منه سيوف، أبعد دانيار السيوف عن طريقه زافرًا بحنق حتى وصل لغرفة مفتوحة الباب توقع أو تمنى إيجادها بها .
وبالفعل أبعد الستائر التي تغطي الباب ولم يكد يخطو الغرفة حتى وجد جسد يتطاير صوبه بقوة مرعبة ليتحرك هو بسرعة للجانب يرى جسد الرجل يستقر ارضًا وهي تقف أمامه بعدما ضربته بقدمها تتنفس بصوت مرتفع .
حرك دانيار عيونه بينهما يهمس بصدمة :
” ألا لسان لديكِ تتحدثين به ؟! ما هذا الجنون يا امرأة ؟!”
استدرات صوبه زمرد بصدمة وقد اتسعت عيونها تهمس بغيظ شديد :
” أنت ؟! ما الذي تفعله هنا ؟! هل تراقبني ؟!”
” بل أحاول أن احتوي كوارثك، ما هذا الذي تفعلينه بالرجل ؟؟”
صاحت زمرد بقوة وكأنها تبرأ نفسها أمامه :
” هذا الحقير أعطيته سيف والدتي ليلمعه، وبدلًا من ذلك أخذ يحاول التقرب مني بشكل مشين ”
وبعد انتهاء كلماتها ركضت صوبه بسرعة تصرخ في وجهه بجنون وهي تضرب معدة الرجل بقوة كارهة غاضبة :
” اللعنة عليك وعلى اشباهك الاربعين يا حقير، اقسم أنني سأقطع يديك التي حاولت لمسي بها بأسلحتك التي تصنعها ”
ختمت حديثها تبتعد عنه وهي تحاول الهدوء، لكن فشلت في ذلك لتهرول صوبه تميل عليه وهي تلكمه بجنون جعل دانيار يخرج من صدمته وهو يندفع لها يحاول جذبها بعيدًا عنها :
” توقفي ..توقفي …قلت لكِ توقفــــــــــي ”
وبالفعل توقفت بسبب صرخته التي جعلت جسدها يهتز بقوة، نظرت له ليبعدها دانيار وهو يمسح شعره بغضب شديد ينظر للرجل المسطح ارضًا يتنفس بصوت مرتفع، وفي ثواني كان هو من يهجم عليه بجنون يصرخ في وجهه بشكل مرعب :
” أيها القذر المتحرش، هل تدري عواقب التحرش بامرأة يا حقير ؟؟ سأحيل حياتك جحيمًا ”
كان يهتف بكلماته وهو يصرخ في وجهه بجنون وقد تراجعت زمرد للخلف بخوف من ملامحه وحركات جسده الغاضبة، وحينما انتهى دانيار نهض يتنفس بعنف، ثم نظر لها بشر :
” اتبعيني للخارج ”
وقبل أن ترفض صرخ في وجهها :
” الآن”
وبالفعل حملت سيفها تلقي الرجل بنظرة أخيرة مشمئزة، ثم خطت خلفه، وهو فقط يسير بغضب متوعدًا له بالويل، أول شيء سيفعله حين عودته للقصر أنه سيرسل له جنود يسحبونه لينال عقابه .
وحينما خرج تحرك مع زمرد صوب أحد الأماكن الهادئة في السوق، توقف دون مقدمات ثم استدار لها فجأة بشكل جعلها تتراجع وهو فقط صرخ :
” كيف تذهبين لهذه الأماكن وحدك ؟! امرأة تدخل لمحل قذرة كهذا لا يوجد به سواها ؟! هل جننتِ ؟!”
اتسعت عيون زمرد بدهشة قبل أن تندفع تدافع عن نفسها :
” أنت كيف تصرخ في وجهي بهذا الشكل وبأي حق ؟؟ استطيع تدبر أمر نفسي دون الحاجة لتدخلك أو مساعدتك، أنت من تقحم نفسك في شوؤني ”
وقبل أن تضيف جملة أخرى توقفت برعب حين انتزع هو سيفها بسرعة مخيفة من بين يديها ينزع عنه غمده يضعه على رقبتها هامسًا بفحيح :
” لا يعلون صوتك بهذا الشكل يا امرأة ”
نظرت له زمرد بشر وهي تتنفس بصوت مرتفع قبل أن تقول بغضب :
” ما الذي تريده مني ؟!”
” أنتِ ”
رأى عيونها تتسع بشكل مخيف ليهتف مصححًا كلمته المنفعلة :
” أريدك زوجة لي، عرضت عليكِ سابقًا أن نتزوج ولم احصل على ردي، بل هربتي مني كالجرذ الجبان ”
تنفست زمرد بصوت مرتفع وهي تحاول ايجاد رد في عقلها، حسنًا اهدأي زمرد، اهدأي وانظري بعيدًا عن عيونه الزرقاء الغادرة تلك وأخبريه أنكِ لا تريدين الزواج به، فقط تأكدي ألا تنظري في عيونه .
وعلى عكس كل النصائح التي أخذت تخبر نفسها بها، اول ما نظرت له كان عيونه لتتوه بهما وهو ما يزال يترقب جوابها، والسيف بينهما فاصلٌ…
” لا استطيع ”
كلمات بسيطة غبية هي كل ما استطاعت الخروج به بصوت خافت، واعين زائغة، لم تتحدث بالثبات المطلوب، فقط ابتلعت ريقها وهي تقول بصوت خافت كمن هُددت لتخرج تلك الكلمات .
ويبدو أن شعور الرفض لم يصل بالكامل لدانيار الذي رفع حاجبه يقول :
“والسبب ؟؟”
ابتعدت سيفها أن رقبتها تقول ببسمة صغيرة ساخرة :
” لا اعتقد أنك حقًا ترغب في سماع السبب ”
” لا تحكمي بدلًا مني، أريد سببًا مقنعًا لرفضك لي ؟؟ لا يعقل أنكِ لستِ معجبة بي، أنا وسيم في النهاية ”
ختم حديثه مبتسمًا لتقلب عيونها وهي تحاول أن تنسلخ عن حالة الكره لنفسها والتي دخلت بها حين سألها السبب :
” يكفيك أنك مغرور وغد، وتزعجني ”
” لا اعتقد أن هذا سببًا مقنعًا، حتى عيونك لا توافقك الأمر”
تحركت عيون زمرد بسرعة تبتعد عنه تهتف بصوت خافت :
” ربما عليك القبول برفضي فقط والرحيل، أنا لا أريد الزواج بك، وهذه إرادتي الكاملة، ربما يومًا ما …”
ابتلعت ريقها بصعوبة تنطق بصوت متهدج :
” ربما يومًا ما تجد من تقبل بغرورك لأجل وسامتك ”
ختمت حديثها تنتزع سيفها منه كي لا تكرر ما عاشته سابقًا من مطاردات هدفها سيفها، الذي استعادته بالفعل وخسرت في المقابل قلبها .
نظرت له نظرة أخيرة، ثم أبعدت عيونها عنه بسرعة قبل أن تضعف، هي ما اعتادت الضعف يومًا وأن قلبها سيتسبب لها في تجربة ذلك الشعور فاللعنة عليه وعلى مشاعره ..
رحلت بعيدًا عنه بسرعة كبيرة تاركة دانيار يقف مكانه بصمت، لا يتحرك ولا يتكلم فقط يراقب رحيلها بهدوء شديد، وحين اختفى طيفها عن عيونه ابتسم بسمة صغيرة يقول بإصرار:
” لا أظن أن هذا سببًا كافيًا ليمنعني شيئًا أريده….”
___________________
صوت الأجراس استرعى انتباهها لترفع رأسها مبتسمة كالعادة مرحبة بالزائر :
” مرحبًا بك في …”
فجأة توقفت حين لمحته يطل عليها ببسمته المعهودة، وكأنه يرحب بها بطريقته الخاصة :
” مرحبًا بكِ آنستي، عسى نهارك سعيدًا ”
ابتسمت ليلا بسمة صغيرة بتوتر شديد وهي تلملم الاوراق أمامها تهتف باسمه بصوت خافت :
” سيدي الطبيب؟! مرحبًا بك، لم يعلمني أبي أنك قادم ”
” في الحقيقة هو لا يعلم، لقد كنت في السوق على مقربة منكم وفكرت أن أمر لإلقاء التحية على العم، لكن يبدو أنه ليس هنا ”
هزت رأسها بخجل تقول :
” نعم، إذن هل اساعدك في شيءٍ ما ؟؟”
نظر مهيار حوله ثواني قبل أن يقول بجدية :
” ما رأيك أن تساعديني في انتقاء بعض الورود الجميلة ؟!”
قرع قلبها بشكل غير منتظم، لقد شعرت فجأة أنه احضر مطرقة وضربها بها بقوة، ورود ؟؟ امرأة ربما ؟؟ ما الذي يحدث وهي لا تعلم عنه ؟؟
ابتلعت ريقها تقول بصوت خافت :
” ربما إن أخبرتني المناسبة والشخص الذي ستهديه هذه الورود اساعدك في انتقاء شيء مناسب ”
نظر لها ثواني يعلم أنها تجهل نيته، فقط والدها هو من لمح له بالأمر في إحدى زياراته له هنا، لذا رأى أن يترقب ذهابه مع دانيار الليلة لمنزلهم وأخبارها هناك :
” مناسبة سعيدة، والورود ستكون لفتاة رقيقة ”
مناسبة سعيدة ؟! وفتاة رقيقة ؟؟
هل سيتزوج ؟؟
نظرت له ثواني تشعر برغبة عارمة في الصراخ في وجهه تجذبه من ثيابه كي يعترف على كل ما يضمر، لكنها رغم ذلك ابتسمت له تقول بصوت منخفض :
” أوه هكذا إذن، ليديم الله سعادتك دائمًا سيدي الطبيب، بالطبع سأساعدك في انتقاء شيء مناسب، انتظرني دقيقة لو سمحت ”
تحركت بعيدًا عنه وهو استقر على أحد المقاعد لتتحرك هي ببطء شديد وقد علت ملامحها نظرات غريبة مخيفة تهمس بكلمات لا تصل له، غابت دقائق طويلة ظنها ستمدت لساعات، قبل أن تعود حاملة بعض الورود والتي لفتها بشكل جيد داخل بعض الحقائب الورقية تقول بحذر :
” هذه هي سيدي، احرص على عدم فك هذه الحقيبة عنها كي تحتفظ برائحتها أطول فترة ممكنة حين تسلمها لتلك الفتاة ”
ابتسم لها مهيار بسمة واسعة، ثم أخرج من جيبه بعض النقود يضعها أمامها بهدوء :
” سلمت يداكِ آنستي، اعتقد أنها ستعجبها كثيرًا، شكرًا لمساعدتي ”
” العفو سيدي الطبيب، أنا في خدمتك ”
اطال مهيار النظر لها قبل أن يستأذن منها بهدوء شديد يرحل تاركًا قلبه عالقًا لديها، لا يعجبه أن يرحل الآن، لكن صبّر قلبه بعودة قريبة، وحينها لن يرحل أبدًا إلا وهي معه …
__________________________
يتحرك في السوق خلفها منذ ساعة تقريبًا وهو متيقظ لأي حركة قد تثير انتباهه، متيقظ لأي همسة غريبة حوله، يده تتحسس سيفه وقد انزل قلنسوة أعلى وجهه يتخفى عن الأعين التي قد تلتقط وجهه .
ها هي تتحرك أمامه كفراشة لا تجد زهرة تستقر عليها، هو يسير خلفها فقط ليحميها، يتركها تنعم للحظات قليلة بالحرية، تفعل ما تشاء وهو هنا يسير في ظهرها يحميها من أي شيء قد يكدر سعادتها الواضحة تلك .
توقفت كهرمان فجأة أمام أحد المحلات بأعين متسعة ترمق أحد الأحذية بأعين تلتمع بقوة، مالت قليلًا كي تراقبه باهتمام شديد ..
وهو على بعد منها يراقب ردة فعلها تلك بعدم فهم :
” حذاء رجالي ؟؟ حقًا؟؟ هل هذا ما جذب جُلّ اهتمامها ؟؟”
وكهرمان نهضت تعتدل في وقفتها مبتعدة عن المحل وعقلها يعرض صورة لذلك الحذاء الذي يحمل علامة مشكى، الحذاء المفضل لشقيقها والذي كان يرفض ارتداء غيره وهو يردد ضاحكًا :
” هو مريح في القتال، ولهذا أحبه ”
تنهدت كهرمان بصوت مرتفع تسير بين المحلات تتلمس هذا وتسأل عن سعر ذاك، حتى توقفت أمام محل يبيع الفواكهة به عجوز وابنه المراهق .
ابتسم المراهق يسارع لإرضاء كهرمان :
” مرحبًا سيدتي تودين بعض الفاكهة الطازجة ؟؟”
نظرت له كهرمان ببسمة لم تظهر سوى في عيونها بعدما أخفت وجهها بلثام :
” طازجة ؟؟”
” نعم سيدتي، يمكنكِ التأكد بنفسك، لا اعتقد أن امرأة بمثل جمالك تجهل الأمر، الفواكهة الطازجة تتعرف على بعضها بسهولة ”
اتسعت عيون كهرمان بصدمة حين سمعت كلمات الصبي المغازلة لتشتعل وجنتيها وتضحك ضحكة لم تستطع كبتها .
بينما إيفان على بُعد صغير منهم اتسرعت عيونه بشر يهمس ضاغطًا على أسنانه:
” ذلك الفتى الـ ….”
صمت يحاول أن يتجاهل ما يحدث، هو في النهاية مجرد مراهق صغير وهي فتاة شابة، ما احتمالية أن تتأثر بكلماته الرقيقة ؟؟
والإجابة كانت احتمالية مائة بالمائة، فها هي كهرمان سقطت في فخ الصغير تقول بخجل :
” إذن اعطني بعض الفراولة رجاءً ”
ابتسم إيفان بعدم تصديق يهتف :
” أيتها الغبية الحمقاء، كل هذا لأنه شبهك بالفاكهة ؟؟”
ثواني وانتهى الصبي مما يفعل يعطي الحقيبة لكهرمان التي شكرته ببسمة، وقبل أن ترحل أوقفها الصغير يضع لها حبة فاكهة مجانية في الحقيبة يقول ببسمة وتملق :
” هذه هدية مجانية لاجلك سيدتي، فقط لأنكِ جميلة ”
قلب إيفان عيونه يهتف بحنق شديد :
” يا الله هل أنشأ متحرشين صغار داخل مملكتي؟؟ لا يعقل كم التملق بهذا الصغير ”
وكهرمان لم تفوت بادرته اللطيفة لتمنحه بسمة واسعة تمسك له طرف ثوبها برقة تميل برأسها له :
” اشكرك سيدي اللطيف، أقدر لك هديتك ”
أشار لها إيفان مستنكرًا :
” يا الله لا ينقصها سوى أن تعانقه لتشكره، كل هذا لأجل حبة فاكهة وأشجار القصر عامرة بها ؟؟ ”
رحلت كهرمان بهدوء تكمل رحلتها داخل السوق وهي تتناول بعض الفاكهة من أسفل اللثام الخاص بها، وإيفان مستمر في مراقبتها وكم ود لو عاد لقلعته وتركها وحدها عقابًا لها على هذا الغباء الذي ترتكبه في حق نفسها .
لكن فجأة وجد فتاة صغيرة تصطدم بعنف في كهرمان مسقطة حقيبة الفواكه ارضًا ولم تتوقف حتى لمساعدتها في جمع ما سقط لتركض بعيدًا، بينما كهرمان مالت تجمع الفواكه بعدم فهم تراقب ركض الفتاة بتعجب وقبل أن تفهم ما يحدث شعرت بيد تنتشلها بقوة تجبرها على الوقوف، ثم صوت مرتفع يصرخ في الجميع :
” ها أمسكت بكِ أيتها الحقيرة، أنتِ شريكتها لتلك اللصة الصغيرة ؟؟ ظننتم ستخدعوني وتسرقون ذهبي، ايها اللصوص ؟؟”
اتسعت أعين كهرمان دون فهم وقبل أن تتحدث بكلمة، وجدت يد المرأة تتحرك صوب حجابها تجذبها منه بشكل جعل صرخة تخرج من فم كهرمان وهناك رجل جاء وانتزع عقد ذهبي من بين فواكهها المتناثرة يقول :
” ها هو عقدك يا عمة كان بين الفواكه .”
نظرت لهم كهرمان بذهول تقول :
” ما هذا ؟! دعيني أنا لم أفعل شيئًا، الفتاة اصطدمت بي واسقطتني و…”
وقبل أن تكمل كلمتها شعرت بصفعة تسقط على وجهها لتتسع عيونها بصدمة كبيرة وصوت يصرخ بكلمات غير مفهومة تنادي الحراس المنتشرين في الأسواق وقد تجمهر الجميع حولها ..
وكهرمان فقط ما تزال في صدمتها أنها لتوها تلقت صفعة جراء اتهامها بسرقة لا تعلم عنها شيئًا، هي أميرة مشكى تتلقى صفعة من رجل على شيء لم ترتكبه ؟؟
رفعت عيونها صوب الرجل وقد احمرت عيونها بقوة وقبل أن تتحدث بكلمة واحدة شعرت بأيدي الحراس تجذبها بقوة بعيدًا عن المرأة تجرها، ولم تكد تصرخ بهم أن يدعوها، حتى سمعت صوتًا جفف الدماء بعروقها وجعل الجميع يتوقفون عن الحديث ..
” مـــا الــذي يــحدث هنا ؟؟؟؟؟؟؟”
_______________________
الحب… لا تعلم متى يطرق بابك، فافتح له بالحسنى، لئلا يحطم الباب فوق رؤوسك وفي النهاية سيقتحمه …
يتبع…
توقفت جميع الاصوات حولها وتوقفت الضوضاء ولم يعلو سوى صوتٌ واحد هو ما هيمن على المكان بأكمله، طلته وصوته وخطواته، وهيئته لا يمكن أن تخطأهم ابدًا، لا يمكن أن ينتمي كل ذلك لشخص آخر عداه ..
رفعت عيونها ببطء تجد ذلك الرجل الذي كان يرتدي ثياب عادية رغم فخامتها الواضحة، يتوقف في منتصف الدائرة يحرك نظراته بين الجميع وهو يردد بصوته الهادئ الذي يستفزها في اسوء المواقف، ألا يوجد ما يخرج صرخات وغضب هذا الرجل ؟؟
زفرت بغيظ شديد وهي تسمع صوته يردد بقوة :
” ما الذي يحدث هنا !؟”
نظرت له المرأة تقول وهي تحرك كهرمان بين يديها بقوة وقد أخذ جسد كهرمان الصغيرة مقارنة بتلك السيدة يختض بعنف مما جعله يشعر في هذه اللحظة أنها تشبه الدمية بين أنامل السيادة، وهذه الفكرة دفعت رغبة بالضحك في وقت لا يمكنه فعل ذلك في الحقيقة .
ورغم الغضب المخيف الذي اعتراه حين شهد ما حدث، لكن نظرات التذمر والحنق على وجهها تقتله .
وضع كفه المضمومة أمام فمه يحاول أن يتماسك وهو يتحدث بصوت خرج غير طبيعيًا بسبب رغبته العميقة في الضحك :
” في البداية دعي ذراع الآنسة رجاءً سيدتي ودعينا نتحدث بهدوء ”
نظرت له السيدة برفض ظهر في ملامحها بكل وضوح، ثم جذبت لها كهرمان بقوة وكأنها تخشى أن ينتزعها أحدهم منها قبل أن تأخذ ثأرها منها، وكهرمان نظرت لها بشر تقول من أسفل أسنانها :
” خففي ضغطك سيدتي فعظام ذراعي تكاد تُطحن أسفل أناملك ”
رمقتها السيدة بغضب شديد، ثم نظرت للجميع تقول وكأنها توصل لهم ما سيحدث في هذا المكان :
” لن يحدث، أنا لن أترك هذه الفتاة ولن ادعها تفلت من بين أناملي، إلا أمام الملك نفسه ليحضر لي حقي منها ”
فرك إيفان ذقنه، ثم رفع يده يبعد القلنسوة عن وجهه يقول بهدوء شديد وهو يشير لنفسه ببسمة صغيرة :
” وها هو الملك جاءك بنفسه يا عمة، دعي ذراع الفتاة رجاءً”
انطلقت شهقات من المحيطين وهم يحدقون في وجه إيفان بصدمة كبيرة، البعض يتعجب خروج الملك بينهم هكذا دون جنوده، والبعض الآخر يحدق فيه بفضول، فهذه واحدة من المرات النادرة التي كانوا فيها على هذا القرب من الملك ..
بينما الحراس التفوا حول الملك في ثواني وهم يبعدون عامة الشعب عنه، بينما إيفان لم يهتم بكل ذلك وهو ينظر صوب عيونها ببسمة جانبية، وهي ترميه بنظرات قوية لم تستطع التحكم فيها تود لو تصرخ في وجهه ( لِمَ الابتسامات يا هذا ؟؟) لكن هي في هذه اللحظة لم تكن تعلم أي الأشخاص يراها، هل يعلم أنها الخادمة كهرمان ؟؟ أم يراها الملثمة بسبب اللثام ؟؟
وما لم تدركه هي، أنه يعلمها الشخصيتين بالإضافة لاميرة مشكى الهاربة .
قالت السيدة بسرعة وهي تخفف قبضتها عن كهرمان التي انتزعت ذراعها من بين أناملها حين شعرت بها تخفف الضغط، تفرك ذراعها بقوة وعيونها تشيع السيدة بنظرات مدمرة ..
والسيدة أسرعت تقترب من الملك بشكل جعل الحارس يرفعون أيديهم مانعين إياها الاقتراب أكثر، فأن يقف الملك بين العامة بهذا الشكل فرصة ذهبية لمن يود التخلص منه، يكفيه فقط خنجر ويندس بين العامة ثم يغرزه داخل جسد إيفان ويفر بين الجموع المفزوعة، أمور حدثت وتحدث طوال الوقت، لكن إيفان لم يكن من ذلك النوع الذي يخشى غدرًا وقد كرس حياته لنصرة شعبه، فما الذي يخيفه ؟؟ ولولا وجود منبوذين بين شعبه لكان أبعد الحراس عنه .
توقفت السيدة تقول بجدية :
” مولاي، هذه الفتاة بالاشتراك مع أخرى صغيرة سرقوا مني ذهبي الثمين، لقد انتزعوه دون أن أشعر وركضت الصغيرة والقت به لهذه كي تهرب به دون أن نشعر بها، لكنني أبصرتها قبل أن تفعل ”
نظر لها إيفان ثم قال بهدوء شديد :
” ومن أخبرك أنها شريكة للصغيرة ؟؟ ”
توترت السيدة وهي تقول بصوت متوتر من التحدث مع الملك بهذا الشكل والقرب وهذه الأعين تحدق بها وكأنه سيخترق روحها ليحصل على الحقيقة :
” أنا … أنا وجدت معها الذهب سيدي، حينما كنا نركض خلف الصغير وجدناها تلقي لها بالذهب، إذن هي لصة أيضًا ..”
هز إيفان رأسه مقتنعًا بما سمع، بينما كهرمان صُدمت بما سمعت، وقبل أن يتحدث أحدهم كلمة واحدة، أخرج إيفان خنجره الذي يحمله في ثيابه ثم وقبل أن يستوعب أحد ما يحدث ألقاه على السيدة التي تلقفته بصدمة واعين متسعة وإيفان يقول بهدوء :
” أمسكوا بهذه السيدة فهي سرقت خنجري الخاص ”
شهقت السيدة وهي تلقي الخنجر ارضًا وكأنها تحمل جمرًا، نظرت حولها تقول بصدمة تنتظر أن يتحدث أحدهم بما حدث :
” ماذا ؟! لم يحدث مولاي، أنا لم أسرق شيئًا أنت القيته لي، الجميع رأى ذلك، صحيح ؟؟”
نظر إيفان حوله للناس ليصمت الجميع والصدمة لم تزل تدور فوق رؤوسهم مما حدث منذ ثواني .
وكهرمان من صدمتها ابتسمت بسمة واسعة تحاول كبت ضحكة مصدومة وهي تتذكر كلمات أرسلان لتهمس :
” ماكر ؟؟ بالله هو المكر ذاته، هذا الـ …يا ويلي من عقله، لا جعلني الله من أعدائه”
صمتت ثواني قبل أن تضيق عيونها تقول لنفسها :
” أولم أجعل أنا نفسي هكذا بالفعل ؟؟”
في ذلك الوقت ابتسم إيفان يقول بتقرير وجدية كبيرة :
” ألم يكن هذا هو ما حدث مع الفتاة ؟! لقد رأيتي الصغيرة تلقي لها ذهبك ولم تبصري حديثهم واتفاقهم ؟! لم تري منها أي شيء يثبت أنها شريكة لها، إذن اعطني سببًا واحدًا يجعلك تمسكين بها متهمة إياها بهذا الشكل .”
توترت السيدة ولم تحسن اختيار حجتها قبل أن تبتلع ريقها تقول بجدية :
” مولاي أنا… أنا لا …”
قاطعها إيفان بصرامة وملامح هادئة لا تشي بالغضب الذي يعتريه بالفعل :
” اعتذري من الآنسة رجاءً سيدتي، فأنتِ للتو اتهمتيها ظلمًا، وإن كنتِ غير راضية على حكمي فرجاءً احضري ثلاث شهداء يقسمون أمامي بالله أنهم ابصروا اتفاق الفتاة مع الصغيرة على السرقة .”
نظرت السيدة ارضًا ولم تتحدث بكلمة واحدة ليبتسم لها إيفان بغضب :
” اعتذري من الآنسة سيدتي ”
رفعت السيدة رأسها لكهرمان تحدق بها ثواني قبل أن تتنهد قائلة بتوتر :
” أنا …أنا آسفة آنستي، لقد ظننتك لصة فقط ”
رمتها كهرمان بنظرات حادة ولم تجبها بكلمة، هي فقط هزت رأسها بهدوء، وقبل أن تقل كلمة أو يتحرك أحد قال إيفان بهدوء أوقف الجميع بأرضهم :
” ليس بعد، لم ننتهي ”
صمت الجميع متعجبين ونظروا صوب الملك لينظر هو لاعين كهرمان التي لم تستطع نزع خاصتها عنه، وهو تحدث بنبرة قوية :
” اذهبي وردي صفعتك لمن صفعك ”
شهق الجميع بصوت مرتفع وهو لم يتزحزح أو تهتز اعينه، بل فقط نظر لها يشجعها بنظراته على أخذ قصاصها، وهي أدارت رأسها صوب ذلك الشاب الذي كان يصاحب السيدة والذي شحب وجه بقوة يقول :
” لكن مولاي هي… ظننا أنها….”
قاطعه إيفان ببرود شديد :
” هذا حقها، أن تقتص منك الآن أمامي وتسامحك، خيرًا أن تقتص منك أمام الله يوم تجتمع الخصوم يا فتى ”
صمت الشاب وهو يتنفس بعنف، وإيفان استدار صوب كهرمان يقول بقوة آمرًا :
” اصفعيه ..”
تنهدت بصوت مرتفع تطيل النظر في الشاب ولو أنها كانت تود أن تسامحه ذرة، فكرامتها تصرخ بها أن تثأر لصفعته التي كانت أول صفعة تنالها ومن هذا الخسيس.
تحركت كهرمان صوبه، توقفت أمامه ثواني قبل أن ترفع كفها وتهبط بصفعة قوية عنيفة أعلى وجهه جعلت رأس الشاب تلتف بقوة متسع الأعين من هكذا صفعة، كيف يمكن لامرأة أن تمتلك كف قوي كهذا .
وكهرمان ابتسمت براحة شديد وقد شعرت نفسها أنها نالت حكمًا عادلًا .
رفع رأسها للأعلى بكل كبرياء ترمي الشاب بنظرة هادئة وبسمة صغيرة ..
نظر إيفان للجميع يقول بهدوء :
” الصامت عن الحق شيطان، وحين سألتكم السيدة أن تدافعوا عما رأيتم أبيتم الشهادة معها، حتى وإن كانت الشهادة ضدي فلا تصمتوا على الحق، لا تكونوا عونًا للشيطان على الباطل، لا بارك الله في أمة تصمت عن الحق خوفًا من مخلوق، ونست الخالق .”
صمت ينظر للجميع بجدية، ثم أشار لهم يقول بهدوء :
” انصرفوا لاعمالكم يا سادة ”
انفض الجميع عن إيفان الذي عاد بنظراته لكهرمان التي كانت تحدق به بنظرات شاردة لا يدرك ما تفكر فيه في هذه اللحظة، لكن وحين رأته يرفع حاجبه أبعدت عيونها عن بسرعة تميل ارضًا لحمل الحقائب الخاصة بها، بينما هو ينظر لها بهدوء وحين استقامت قال ..
” لا اعتقد أن هذا هو الوقت المسموح فيه للعاملات في قصري بالتبضع آنستي ؟؟”
” وما ادراك أنني عاملة في قصرك سيدي ؟!”
ابتسم لها إيفان يقول بصوت خافت :
” ربما لأنكِ ترتدين ثيابهم ؟؟”
اتسعت أعين كهرمان بقوة وهي تنظر لثيابها وودت في هذه اللحظة أن تضرب نفسها، لكنها رغم ذلك أغمضت عيونها تتمالك نفسها، رفعت رأسها ببطء صوبه ليبتسم لها إيفان يحرك رأسه ببساطة، ثم تحرك بعيدًا عنه .
وخلف بعض الحرس وهي تراقب رحيله بقلب نابض يكاد يخرج من صدرها .
وحينما ابتعد قال دون أن يبعد عيونه عن طريقه :
” راقبوا تلك الفتاة حتى تصل القصر بأمان، لا اريد أن تُمس بسوء وإلا لن أجد غيركم امامي لعقابه ”
ختم حديثه يكمل طريقه وقبل أن يختفي استدار مرة أخيرة يراها ما تزال تقف في أرضها بصدمة، ابتسم لها ينحني برأسه، ثم رحل ..هكذا ببساطة دون أن يهتم لتلك الفتاة أو لقلبها المسكين ….
____________________
توقفت أمام المرآة تراقب نفسها بانبهار شديد، ابتسمت تستدير صوب تبارك التي كانت تنتظر كلمة منها تطمئنها أنها احسنت ما فعلت ..
” أنتِ …أنتِ رائعة يا مولاتي، يبدو حجابي جميلًا ويليق كذلك على ثوبي ”
صمتت برلنت قبل أن تقول بتسائل :
” هل أنا جميلة ؟!”
ابتسمت لها تبارك تقترب منها تنظر لها من أعلى لاسفل، كيف لا ترى هذه الفتاة كل هذا الجمال الذي يشع منها ؟! ربما هو التوتر الذي يعلو وجهها الآن، أم حاجتها كأي فتاة لسماع كلمة مدح.
” بل مبهرة عزيزتي، تبدين جميلة للغاية ”
ابتسمت برلنت لا تصدق أنها نالت ثناءً من الملكة الآن، لتنقض عليها تعانقها دون شعور، وتبارك اتسعت عيونها تتراجع للخلف بسبب ذلك العناق الغير متوقع، ولكن رغم ذلك ابتسمت وهي تربت على ظهرها .
وبرلنت قالت بسعادة :
” شكرًا لكِ مولاتي، اشكرك حقًا، أنتِ طيبة القلب لا تبدين لي فاسدة أبدًا ”
اتسعت أعين تبارك بعدم فهم :
” فاسدة ؟! حمضانة يعني ولا ايه ؟!”
ابتعدت عنها برلنت بسرعة بأعين متسعة تتدارك ما قالت :
” لا لا لم اقصد أي إهانة اقسم لكِ، لكن مولاتي لقد …الجميع هنا يدرك أي نوع من الأشخاص يقطنون الجانب الثاني من العالم ”
” أي نوع من الأشخاص ؟؟ ربما يسود الجانب السييء في عالمي، لكن هذا لا ينفي وجود الكثير من الأشخاص الجيدين ”
نظرت برلنت ارضًا بخجل تقول بصوت منخفض :
” لم أكن أقصد أي إساءة اقسم لكِ، أنا فقط من ذلك النوع الذي لا يتحكم بكلماته، سامحيني رجاءً مولاتي ”
نفخت تبارك تحاول أن تهدأ، ثم ربتت اعلى كتفها تقول :
” حسنًا لا بأس، سوف أخرج أنا لارسل أحدهم يعلم تميم بوجودك لدي ”
هزت برلنت رأسها تقول :
” لا حاجة لذلك، أنا سأذهب لغرفتي و…”
” برلنت ابقي هنا ؟! أريد أن يزفك من غرفتي ”
ختمت حديثها تتحرك للخارج وهي تتذكر حين ذهبت لغرفة الفتيات بعد انتهاء التدريبات ولم تجد متهم سوى برلنت التي كانت تنظر لثوبها بصدمة تحاول معرفة ما يجب فعله فاقترحت هي أن تساعد، ربما تكون محاولة بائسة منها لكسب ودهم .
لم تشعر تبارك بنفسها إلا وكانت وصلت لممر المعمل الخاص بتميم .
تنهدت تتحرك صوب ذلك المكان وهي تنظر حولها للحراس الذي كانوا يحركون رؤوسهم في تحية صامتة للملكة، وهي فقط ابتسمت، تشعر أنها واخيرًا بدأت تتأقلم عما يحدث حولها في هذا المكان .
في المعمل نفسه كانت أعينه تراقب ما يفعل تميم بانتباه شديد قبل أن يترك تميم السلاح على الطاولة يقول بجدية :
” هكذا فقط، لا أظن أن تدريب كتيبة من الجنود عليه سيكون بالأمر الجلل ”
هز سالار رأسه بخفة يقول :
” لا بأس إذن سأتأكد أنني تعلمته بشكل صحيح، ثم سأتولى أنا أمر تدريبهم ”
رمقه تميم ثواني قبل أن يقول :
” ليكون الله في عونهم إذن ”
ابتسم له سالار دون أن يجيب بكلمة، ثم نظر لثيابه يقول بجدية :
” ستعلن زواجك اليوم صحيح !!”
ابتسم تميم بسمة واسعة سعيدة، وقد أشرق وجهه فجأة على ذكر ذلك الشيء، ليهز رأسه بسرعة :
” نعم يا قائد، ما رأيك ؟! هل تبدو ثيابي مناسبة للمناسبة ؟؟”
نظر له سالار ثواني قبل أن يربت على كتف تميم بلطف :
” مبارك يا صديقي، ليجعلها الله زيجة العمر ”
ابتسم له تميم وقبل أن يجيب مباركته سمع الاثنان صوتًا، أدركه أحدهم بسرعة متسع الأعين، وتعجبه الثاني يحاول معرفة صاحبه.
ثواني هي حتى ظهرت تبارك على بداية الدرجة الخاص بالمعمل، ليحدق بها سالار باستنكار شديد لوجودها في مكان كهذا تدرك أنه لا يضم سوى تميم فقط .
وقبل أن تتحدث تبارك بما جاءت لأجله بحسن نية، قاطعها كلمة حادة خرجت من فم من لم تبصره حتى الآن:
” ما الذي تفعلينه هنا ؟؟”
استدارت تبارك صوب الصوت بصدمة تضع يدها أعلى صدرها تحاول أن تهدأ ضربات قلبها تقول بهدوء وبسمة صغيرة :
” مرحبًا يا قائد، لم ارك حين دخلت المكان، لقد افزعتني”
ابتسم بعدم تصديق، هل تظنه يرحب بها، اقترب خطوات صغيرة من الدرج حيث تقف هي، تحت أعين تميم المترقبة لما سيحدث .
” مرحبًا ماذا ؟؟ أنا لا أرحب بكِ، بل سألتك ما الذي تفعلينه هنا ؟؟ ما الذي أتى بكِ لهذا المكان يا امرأة ؟؟”
اتسعت أعين تميم بصدمة من الطريقة التي يحدث بها سالار الملكة، وهو الذي لم يتجاوز حدوده مع الملك والملكة وغيرهم من أصحاب المقامات الرفيعة في البلاد، لكن يبدو أنه بالنسبة لسالار هي لم تكن الملكة الآن، بل كانت تبارك التي تخرجه عن طور هدوئه بتصرفاتها التي تدفعه للجنون .
وتبارك تلك المسكينة كانت تحدق فيه بهدوء شديد لا تفقه سبب تلك الكلمات أو غضبه حتى، بل قالت بكل هدوء تشير صوب تميم :
” جئت لاخبر تميم ….”
” القائد ”
” ماذا ؟؟”
” لا يمكنك مناداته باسمه هكذا وكأن شيئًا لم يكن، ناديه القائد أو السيد أو ايًا كان، لكن توقفي عن مناداته باسمه فقط .”
رمقته تبارك ببلاهة تجيبه بجدية :
” يعني هو ده اللي مزعلك ؟؟ طيب جيت عشان اقول للقائد السيد أو ايًا كان تميم إن برلنت في جناحي الخاص ويبقى يجي ياخدها من هناك ”
رفع سالار حاجبه يقول بصوت هامس ضاغطًا على أسنانه بغيظ وغضب لا يجد لهما تفسيرًا ولن يتعب نفسه بالبحث عنهما :
” العاملين ..”
” عفوًا ؟!”
” هناك فئة في هذا القصر نسميهم نحن العاملين، وظيفتهم تيسير ما تريدنه، والقيام بتلك المهام التي تتفضلين سيادتك وتقومين بها، بغض النظر عن إذا كانت تلك المهام صحيحة أو لا ”
” وايه اللي مش هيخليها صحيحة معلش !!”
قال سالار وهو يشير حوله بغضب شديد :
” هذا المكان هو أشبه بغرفة رجل غريب عنك، هذه خلوة يا امرأة، وجودك هنا خطأ وحديثي معكِ أيضًا خطأ، ألا تدركين ذلك ؟؟”
بُهتت تبارك حين سمعت كلماته لتقول بجدية :
” أنا…لم اقصد، كما أن الباب مفتوح وأمامه العديد من الحراس و…”
قاطعها صراخ سالار وهو يمسح وجهه بعنف :
” يا الله يا مغيث ”
تراجعت خطوات للخلف تقول بريبة فهي تدري أن تلك الكلمة لا تخرج منه إلا في حالة الغضب وقلة الحيلة، وكذلك ( لعنة الله على الكافرين ) تخرج في حالات الغضب القصوى والتي تجعلها تعلم أنه قاب قوسين من الانفجار .
مهلًا هل هي الآن تدرس كلماته وجمله وردات فعله ؟! ينقصها أن تقوم بدراسات عليا في ” سالار “.
” اسمعي مولاتي ..”
نظرت له بريبة، قال لها مولاتي، إذن هو الآن على وشك إلقاء خطبة في وجهها ونصائح تنتهي بنفس الكلمة .
وقد صدق حدسها لتبارك وها هو يقول بجدية كبيرة :
” لا يمكنك أن تتحركي دون حراس، بهذا الشكل وهذه البساطة فأنتِ ملكة، ملكة وتبقّى على تتويجك أيام قليلة، وبالطبع لا يمكنك الاحتكاك بأي رجل بشكل قريب، أو دخول مكان تدركين أن هناك رجل به وحده دون وجود آخرين، كلامي مفهوم …مولاتي ؟!”
نظرت له تبارك بأعين لامعة لا يدري غضبًا كانت أم حزنًا تهمس بصوت محتد :
” وأنا ما جئت هنا لأجل اللعب، بل جئت لأمرٍ هام، وإن لم تكن تثق بنواياي فهذه مشكلتك…سيدي القائد ”
ناطحته ولأول مرة، ترد له الكلمة بأخرى، تستخدم نفسه أسلوبه، وهذا أعجبه بقدر ما اغضبه، ولا يدري السبب لكنه ابتسم ابتسامة حادة يقول :
” جيد إذن نحن متفقون .”
رفعت رأسها تترفع عن الرد عليه، تنظر خلف ظهره لتميم الذي تابع هذه المشاداة الكلامية بينهم في انتظار المنتصر، ويبدو أنها انتهت بتعادل الطرفين .
” إذن القائد والسيد وايًا كان تميم، يمكنك استلام برلنت من حجرتي قبل ذهابكم للمسجد، والآن اعذروني ”
ختمت حديثها تنظر لسالار ببسمة وكأنها تخبره ( جيد ؟؟) رفعت طرف فستانها وهذه المرة تعمدت أن تضربه فيه بحنق وغضب تنحني بعض الشيء :
” اعذروني، عليّ الرحيل ”
ختمت حديثها تتحرك بغضب وملامح مشتعلة خارج المكان، ملامح أشبه بملامح سالار الغاضبة، وهذا ما لاحظه تميم الذي قال بصوت منخفض مرتاب :
” هل نظرت لك الأن نفس نظراتك للأخرين، أم أنني اتوهم ؟؟”
ابتسم سالار يمسح وجهه يفكر بقلة حيلة أنه اورثها غضبه أيضًا .
مرحى حصلنا على سالار صغير ….
_______________________
زفر بصوت مرتفع وهو يبعد الكتاب عن وجهه حانقًا من كل تلك الأجساد التي تحيط به، ألقى الكتاب بقوة يصرخ في وجوههم ..
” ماذا ؟؟ أليس اليوم مناسبة ذلك الصغير المزعج المختل ؟؟ مالكم أنرتم مكتبتي بطلتكم البهية ؟؟”
ابتسم إيفان بسمة صغيرة يقول بتنهيدة خرجت منه بعد صمت دام طويلًا منذ وطأ للمكتبة .
تحرك يستند بمرفقيه على الطاولة يقول بصوت خافت :
” سيدي العريف ..”
تشنج وجه العريف بقوة يشعر بوجود خطب هنا وهذه الوجوه حوله لا تريحه البتة .
” سيدي العريف ؟! حقًا ؟؟”
ابتسم له إيفان يكمل :
” لطالما كنت في عمر جدي، لذا تنال مني ومن جميع الموجودين احترامًا خاصًا ”
ختم حديثه يشير صوب الجميع جواره، سالار وتميم ودانيار واخيرًا مهيار .
” كم من مرة منعتُ سالار عن تحطيم مكتبتك أو منعت تميم ودانيار عن ازعاجك ؟؟”
نظر له العريف وقد مل من كل تلك المقدمات، يدرك أنه يود شيئًا منه، وشيء ليس بالعادي :
” حسنًا هات ما عندك فلا صبر عندي لسماعك تعدد عليّ افضالك الوهمية تلك، فرغم كل ما قلته، حطم سالار مكتبتي عشرات المرات، وازعجني هذان الإثنان مئات المرات ”
ابتسم إيفان ينظر لسالار بنظرة أخبرت الآخر أن يتقدم هو ليكمل عنه الحديث وقد كانت لحظته، ليقول سالار بصوت هادئ رخيم :
” أيها العريف، نحتاجك لمساعدتنا في أمرٍ في غاية الأهمية، شيء متعلق عليه أمان وسلامة المملكة، بغض النظر عن كرهك لجميع البشر بها ”
” وما هذا الشيء الذي تريدني أن أفعله ؟! هل احمل سيفًا واذهب للحرب ؟؟”
ابتسم له سالار بخبث يردد :
” دع حمل السيوف لنا، وأحمل أنت ما تفقه في
حمله ”
نظر له العريف بفضول ليدفع سالار الكتاب صوب العريف يقول بصوت خافت لطيف بعض الشيء :
” كتبك الجميلة هذه ”
نظر العريف للكتاب بريبة، ثم رفع عيونه لهم يقول بتسائل :
” ما الذي تريدونه مني يا قوم ؟؟ ”
نظر الجميع لبعضهم البعض قبل أن يقاطع تميم كل ذلك يقول ببسمة صغيرة وكأنه يحاول صرف انتباه العريف التفكير فيما سيحدث له :
” إذن أيها العريف، ألن تشرفني بحضور اجهار زواجي ؟؟”
_________________
تدور في الجناح بغضب شديد وامامها تجلس برلنت وهي تضم يديها باحترام شديد، كتلميذة تخشى تقريع المعلم الخاص بها .
وامامها تجلس كهرمان التي أخبرها أحد الحراس بأن الملكة تطلبها في جناحها، وها هي تجلس وهي تنظر لبرلنت بعدم فهم لما يحدث، وبرلنت المسكينة لا تدري سبب عودة الملكة بمزاج مشتعل بعدما ذهبت لتنبأ تميم بمكانها .
وتبارك ها هي تدور في المكان وغضبها مشتعل مشتعل وبقوة، تود قتل أحدهم، تشعر بدمائها تغلي داخل أوردتها .
هذا الرجل ستـ…ستـ، سـ ماذا ؟؟ هي حتى حين تتوقف أمامها تشعر بكامل جسدها وقد شُل، له هيبة تخضعها لكل ما يقول، لكن الأن هي لن تصمت، أرادها أن تكون غاضبة قوية ؟؟ حسنًا سيكون هو أول من ينال منها نتائج دروسه .
في هذا الوقت فُتح الباب لتندفع زمرد الداخل بملامح شاحبة غاضبة من نفسها، يالله رفضته، الشخص الوحيد الذي تحبه رفضته .
نظرت لها تبارك بلهفة تقول ببسمة حين ابصرتها :
” مرحبًا زمرد ”
رفعت زمرد رأسها صوب تبارك بشر، لكن الأخيرة لم تهتم وهي تقترب منها ترى زمرد تنزع اللثام الخاص بها وهي قالت لها :
” إذن تريدين قتالًا كالصباح ؟!”
ودون وعي اتسعت بسمة زمرد بشدة وقد وجدت أخيرًا متنفسًا لغضبها، رغم أنها في الحقيقة ليست متنفسًا كما توقعت، بل هي كانت منافسة، حتى أنها الآن ما تزال تشعر بلسعات في ذراعها بسبب ضرباتها التي تلقتها منها صبيحة اليوم .
ابتسمت زمرد باتساع تشير صوب تبارك :
” أنا أحب هذه الفتاة ”
قالت تبارك بسرعة :
” تبارك ”
” نعم، أحب هذه الفتاة تبارك، يبدو أننا سنصبح أصدقاء مقربين ”
رمقتهم كهرمان بغيظ شديد من تصرفاتهما تلك :
” بل ستصبحان جثتين إن لم تتوقفا عن هذه القتالات ”
نفخت زمرد دون اهتمام تجذب تبارك من كتفها تضمها لها :
” دعكِ منها تبارك، ما رأيك أن نتقاتل الآن ؟؟”
اعترضت برلنت تنتفض عن الفراش بغضب :
” أي قتال هذا زمرد بالله عليكِ ؟! أنا الآن سأتزوج ”
” يا فتاة أنت بالفعل متزوجة ”
” نعم والآن سأعلن الأمر، لا يمكنكِ أن تتركيني في هذا الوقت وتتقاتلين ”
نظرت لها زمرد وكأنها تفكر في الأمر قبل أن تهز كتفها تقول بكل بساطة :
” لا بأس، بعد الزواج نتقاتل ما رأيك ؟!”
هزت تبارك رأسها تستحسن هذه الفكرة، وكهرمان قلبت عيونها بحنق شديد وغيظ، وما هي إلا دقائق قليلة قامت فيها الفتيات بالتجهز حتى ارتفع صوت أمام المسجد وهو يقيم الصلاة .
مرت دقائق وانتهت الصلاة وسمع الجميع صوت الحارس يطلب الأذن لدخول القائد تميم ..
شعرت برلنت في هذه اللحظة بنفس الرهبة، نفس الخوف، نفس المشاعر التي عاشتها في المرة الأولى حين انطلقت الزغاريد معلنة زواجها رسميًا من تميم .
لكن هذه المرة كان هناك مشاعر إضافية تحاول الظهور على استحياء، حبها لتميم في هذه اللحظة يغطي على رهبتها .
تنفست حين سمعت صوت تبارك تقول ببهجة وسعادة كبيرة بعدما أخفى الجميع وجوههم حتى برلنت :
” دعه يدخل ”
وبالفعل انفتحت بوابة جناحها على مصرعيها ليطل عليهم تميم ببسمته المعهودة التي سلبت لُب برلنت للمرة المائة بعد المليون .
نظر لها يقف أمام الجناح يمد يده لها قائلًا بلطف :
” اقتربي بيرلي ”
شعرت برلنت بقلبها يكاد يسقط ارضًا في قدمها، لكن وبسبب جذب كهرمان لها، نهضت عن الفراش تتحرك صوب البوابة حيث يقف تميم، وحين وصلت له، احتوى تميم كفها بحنان شديد مبتسمًا :
” مرحبًا بساكنة القلب ..”
رفعت تميم رأسها له، ورغم أن الغطاء يخفي وجهها بالكامل، إلا أن تميم شعر بها تبتسم ولا يدري كيف .
ابتسم وهو يستدير بها يخرج بها من الجناح لتتفاجئ برلنت بصفين من الجنود يصنعون لهما ممرًا طويلًا فابتسم تميم يقول :
” لقد أصر القائد أن ازفك بصفتي قائدًا في الجيش ”
تحركت الفتيات خلف برلنت بهدوء بعد تغطية وجوههم ليصطدموا بوجود هذا العدد من الجنود يتقدمهم إيفان وسالار وتميم وكذلك مهيار والعريف الذي كان مبتسمًا للمرة الأولى في حياته ومرجان ..
تحركت برلنت بين الجنود ترتجف من رهبة الموقف قبل أن تنتفض هي وجميع النساء على صوت سالار الذي قال بنبرة عالية :
” انتبــاه ”
اعتدل جميع الجنود بشكل منظم يرفعون السيوف الخاصة بهم ليرتجف قلب برلنت مما ترى، وتميم ضغط على كفها وهو يسير بها بعيدًا عن الجناح .
بينما تبارك ابتسمت بسمة جانبية ساخرة وقد كانت تدرك في قرارة نفسها أن هذا ما سيحدث، وجود جنود مصطفين يصاحبه صرخة من سالار بهم لفعل شيء ما، ولهذا كانت الوحيدة التي لم تهتز وهي تنظر بفخر وبسمة واسعة صوب سالار الذي رفع حاجبه بتعجب .
وحين عبر الجميع الممر الذي صنعه له الجنود تحركوا صوب المسجد، الرجال يسبقون الجميع، وخلفهم تميم بزوجته، ومن ثم النساء في الخلفية ..
خطى الجميع للمسجد لتشعر تبارك في هذه اللحظة برهبة شديد وهي تحرك عيونها في أرجاء المسجد، يا الله ما هذا المسجد وما هذه الراحة التي ملئت صدرها، تشعر بقلبها يرتجف .
ورغم أن المسجد لم يكن مزينًا بشكل مبالغ به كما ترى في العادة، وقد كان بناءه في غاية البساطة، لكن جماله يكمن في بساطته …
فجأة ارتفع صوت الامام ينطق بكلمات هزت قلب تبارك، في لحظة أغمضت عيونها تسمع خطبته عن الزواج والمودة والرحمة، لحظات طافت بهم تبارك بعيدًا عن الجميع، لكن فجأة انتفضت للخلف بشكل ملحوظ تفتح عيونها بفزع شديد، تحاول أن تتنفس، يا الله ما الذي يحصل لها .
ابتلعت ريقها تحرك عيونها في المكان تتأكد أن لا أحد أبصر ما حدث للتو، لكنها وحين وقعت عيونها ما رأت إلاه، هو فقط الذي أبصرته من بين الجميع، يخفض رأسه للأسفل يستمع لكل ما يقال بتركيز شديد .
لكن ثواني حتى ارتفع رأسه فجأة بشكل جعلها تبعد عيونها بسرعة، متحركة صوب الستار الذي يخفي النساء خلفه عن أعين الباقية، تركز نظراتها على برلنت .
وفي المقابل كان إيفان يسمع تلك الخطبة التي استفاض الشيخ في قولها، الزواج أمان ومحبة وإخلاص ودفء وود، كل هذه الكلمات يدركها هو منذ بدأ يبحث عن زوجته، داعيًا الله أن تمثل هي له كل هذا ويفعل هو الأمر نفسه بالمقابل، لكن الآن، في هذه اللحظة، ما بال قلبه ينتفض مخبرًا إياه أنه يسير في الطريق الخاطئ، لم يعتد أن يتردد في فعل شيء، فما باله الآن ؟؟
اغمض عيونه يتضرع لله ..
يا الله لا تجعله سببًا لوجع غيره، فاللهم أرشدني للخير وقربه مني، واصلح لي شتى اموري .
وكهرمان بعيدًا في ركن السيدات ومن وراء الستار كان تسمع كل ذلك ولا يخطر في ذهنها سوى الملك، شعور قوي بالخسة والكره لذاتها اكتنفها، يا الله هي منافقة حقيرة، تحب الملك وتهواه في نفسها، وفي الوقت ذاته تصادق التي من المفترض أن تكون زوجته .
هي لم تصبح بعد، لكنها المقدرة له، وهذه المشاعر تجعلها تكره ذاتها، هي تريد الابتعاد، الرحيل من هنا وبأسرع وقت .
يا الله فلتعني على جهاد نفسي، ولا تعلق قلبي بما ليس له .
قلوب مشتتة وأطراف متشابكة ولا أحد يدرك المقدر، لا أحد يعلم المكتوب له، وحتى تلك الأطراف التي نجت من التشابك، كانت رافضة للاتحاد في ربطة واحدة .
زمرد ودانيار كلاهما لا يدركان ما يجب فعله، فقط حالة من الحيرة والرفض والأصرار .
واخيرًا أصحاب هذا اليوم ..
تميم وبرلنت، يجلسان ارضًا، تميم يجلس على ركبته وهي جواره بفستان أخذ مكانًا لا بأس به حولها .
تشعر بقبضة تميم تشتد على يدها، وصدر الأخير يشتعل بحب خالص لها هي ..
كل هذه المشاعر كانت تطوف في أركان المسجد حتى قطع كل ذلك صوت حاد يوقف كل تلك كلمات حانقًا غاضبًا :
” أنا اعترض على هذا الزواج …كيف تزوّج امرأة متزوجة من الاساس يا شيخ ؟؟”
__________________
أن تبني أحلامًا وآمالًا وتعلقها على شيء بعينه، ثم يتهدم كل ذلك أمام عيونك لهو الجحيم، فما بالكم لو كان ذلك الجحيم مقرونًا بجحيم آخر يتمثل في رجال سفيد ؟!
منذ أدرك خسارته وهو لا يتحدث ولا يتحرك، فقط صامت هادئ بشكل مثير للدهشة، وكأنه فقط يشحن طاقته كي يخرج عليهم بكارثة أخرى أشد وطأة مما سبقتها .
بافل، ذلك الطاغية الذي تشرب من والده القسوة والتجبر والشر، ارتشف منه حد الثمالة وما اكتفى، باع روحه للشيطان وبلا مقابل، ها هو يجلس أعلى عرشٍ سلبه بالغدر والخداع .
ما تزال أصوات صرخات أرسلان يتردد صداها داخل عقله، وكأنه أبى إلا أن يذكره بما فعل، لكن هل كان ذلك خطأه وحده ؟؟
وبالحديث عن (وحده ) ها هو عزيزه يتقدم للقاعة وهو ينظر له يقول بصوت قوي وكأنه لا يهابه :
” ألم أخبرك أن مهمتي انتهت مع دخولك مشكى بافل ؟! أخبرتك أنني سأساعدك فقط مقابل ما تفعله لي وحينها لا أريد معرفتك من قريب أو بعيد ”
أطلق بافل ضحكات مرتفعه يقول بصوت ساخر :
” أوه وهل تخشى تلويث يدك القذرة بالتعاون معي ؟؟ لا تخف فقد تلوثت يدك سابقًا، ولن يضرها بعض الوحل الاضافي، أليس كذلك ؟!”
اشتعلت أعين محدثه يقول بصوت مخيف :
” بل كذلك أيها القذر، مالي والقذرين امثالك ؟! أنا ساعدتك لدخول مشكى بصعوبة، وهذا فقط كي تتوقف عن السطو على قوافلنا وتدمير تجارتنا ”
أطلق بافل ضحكات صاخبة رنّ صداها في المكان، دقيقة كاملة لم يتوقف فيها عن الضحك بشكل استفز من أمامه حتى كاد أن يقترب منه وينقض عليه .
وحين انتهت ضحكات بافل نزل عن العرش يتحرك صوب ذلك الرجل يقول بنبرة خبيثة :
” حقًا ؟؟ يا لك من قذر مسالم، ارجوك لا تعاملني كأنني مجرد غبي لا افقه ما تفكر به، أنت ساعدتني بالأسلحة والرجال من مملكتك فقط كي تضع لك يدًا داخل مشكى وتوسع مملكتك، ظننت أنني سأترك لك مشكى بهذه السهولة ؟!”
اتسعت أعين الرجل بشدة وقد اشتدت ملامحه بشكل غريب وهو يحاول تجنب الحديث مع بافل في هذه اللحظة، لكن ذلك لم يصمت الاخير وهو يقول :
” والآن كما فعلت وادخلتني مشكى، حان دورك لتساعدني في دخول سفيد، أريد أن أحصل عليها ”
اتسعت أعين الرجل يقول بصدمة :
” سفيد !! هل تمازحني ؟؟ ”
” ومنذ متى امزح مع امثالك يا هذا ؟؟ أنت ستفعل ما أريده وإلا أوصلت خيانتك لباقي الممالك وحينها لن يكون عليك مواجهتي فقط، بل سأفتح الجحيم على مملكتك ومن بها ”
أسود وجه الرجل وقد شعر في هذه اللحظة أنه حُصر في الزاوية، قذر حقير كبافل يتحدث معه بهذه النبرة المستصغرة، اشتدت ملامحه وقد عقد عزمه على أمرٍ ما، لكنه سرها في نفسه يقول بصوت خافت :
” حسنًا …”
________________________
تلك الكلمات التي انطلقت في المسجد أوقفت الجميع عن الحديث والبعض عن التنفس ..
تصنم جسدها بقوة وقد شعرت في هذه اللحظة بقصور أحلامها تنهار وبقوة أعلى رأسها، ارتجف جسدها فجأة بعد تصنمه للحظات، لا تبعد عيونها عن الأرض أسفلها وهي ما تزال جالسة جواره، بينما هو وبكل بساطة مد يده يضمها له بقوة وعيونه لم تتحرك عن الشيخ يقول بهدوء لا يتناسب البتة مع ما يحدث حولهم :
” اكمل يا عم ”
نظر له الشيخ بعدم فهم ثم قال :
” لكن يا تميم هذا الرجل يقول …”
” أكمل يا عم ودعك من تُراهات القيل والقال، فأنا لن اوقف زواجي لأجل قال وسمع، اكمل يا عم رضى الله عنك ”
ابتلع الشيخ ريقه، ثم أكمل بهدوء شديد ما كان يقول لولا أن الرجل الذي اقتحم المكان لم يكتفي بتلك الكلمات بل قال بنبرة مرتفعة وصوت صاخب :
” ما الذي تفعله يا شيخ ؟؟ أخبرتك أن ابنتي متزوجة كيف تزوجها لغير زوجها ؟؟”
هذه المرة كان دور تميم ليرتجف، لكن ليس خوفًا أو قلقًا، بل غضبًا، الجحيم بأكمله تحكم به، هذا الرجل خلفه لم يدمر ماضيه، بل ترك حياته وهرع ليفسد حاضره ويحطم مستقبله .
نظرت له برلنت تهمس بصوت منخفض ودموع جارية :
” تميم أرجوك ”
لكن ولأول مرة لا يمتثل تميم لرجائها، بل انتزع يده من كف برلنت ينهض عن مكانه، ثم استدار بهدوء شديد صوب الستار الذي يخفي خلفه النساء ولم يكن يعلم منهن سوى تبارك فقال بهدوء :
” مولاتي، هل لكِ أن تصطحبي زوجتي للخارج رجاءً ؟!”
انتفض جسد تبارك حين وجه لها أحدهم الحديث، لكنها رغم ذلك خرجت من خلف الستار وتحركت جهة برلنت التي كانت ما تزال جالسة في موضعها منهارة من الحزن، اشفقت عليها تبارك تقول بصوت حنون :
” هيا حبيبتي انهضي معي ”
” مولاتي أنا…”
” هيا برلنت رجاءً، لا تخافي تميم سيتولى الأمر والجميع هنا ”
تحركت برلنت مع تبارك صوب الخارج بصعوبة شديدة تحت أعين الجميع وتميم ينتظر خروجها، فمهما بلغ مقدار بغضه وكرهه لهذا الرجل لا يهون عليه أن يكسره أمام ابنته، لا يطيق أن تتذكره زوجته بهذا الموقف ..
ويبدو أن والد برلنت لم يكن بمثل كرم تميم أو تفهمه، فبمجرد أن اقتربت ابنته منه كي تمر لخارج المسجد سحبها بسرعة كبيرة صوبه يقول بصوت حاد :
” تعالي هنا، أخبرتك أنني لا اوافق بزواجك هذا وأنكِ متزوجة، فهربتي مني وجئتِ للزواج أيتها الفاسقة ؟!”
وكان أقرب الموجودين له هي تبارك التي سارعت تنتزع برلنت من يده وهي تقول برعب شديد أن يمسها بسوء :
” دعها، اترك الفتاة، لا يجوز لك محادثتها بهذا الشكل يا سيد ”
لكن حين الغضب لا تبصر أمامك سوى السواد، وهو ما أبصر سوى ابنته التي تحاول عصيانه والزواج بغير من اختار، تتزوج من سيعذبها لأجل ما فعل هو قديمًا، سيستغلها لينتقم منه، وهو لن يسمح له .
دفع الرجل تبارك بعيدًا عنه وهو يضم له برلنت بقوة، وتبارك التي كادت تسقط أطلقت شهقة مرتفعة لولا يد زمرد التي كانت تتبعهم للخارج وامسكتها قبل أن تسقط .
وكل ذلك كان تحت أعين الرجال الذي انتفضوا لما حدث خاصة سالار والذي تحرك بسرعة مخيفة ينطق بصوت راعد :
” يدك عنها …”
انتفض والد برلنت برعب لذلك الصوت الهادر وعمت الفوضى في المكان، كل ذلك ولا أحد يفقه ما يحدث أو الصواب من الخطأ .
حتى انطلقت صرخة مرتفعة قطعت كل ذلك :
” توقفوا جميعًا …”
صمتت الاصوات وتوقفت الأنفاس على صوت صرخة إيفان بهم، ثم نظر للجميع يقول لتبارك بهدوء شديد محاولًا التحلي بكامل اللطف والهدوء :
” مولاتي رجاءً اصطحبي الفتاة لحجرتك حتى استدعيها”
هزت تبارك رأسها تحاول أن تخرج من صدمتها وهي تتحرك تحت أعين سالار المشتعلة صوب برلنت تجذبها بالقوة من بين يديّ والدها الذي خاف أن يشتد غضب الملك عليه ..
وتحركت النساء للخارج وكل ذلك تحت صمت تميم المخيف وهو ينظر لوالد زوجته دون حركة واحدة ..
نظر إيفان للجميع يحاول أخذ ردة فعل حكيمة في هذه المسألة، ليتنهد وهو يقول :
” خذوا والد برلنت لإحدى الغرف حتى يتم استدعائه للمحكمة ”
انتفض الرجل برعب يهتف :
” المحكمة ؟؟ أي محكمة ؟!”
ابتسم له إيفان يجيب بهدوء :
” بالطبع محكمة، فما جئت به أمر جلل سيدي، هذه جريمة، أن تتزوج امرأة برجلين إن صدق اتهامك ”
انتفض تميم بقوة يصرخ هادرًا لا يهتم لمن يتحدث، بل يشعر بالغضب لتوجيه أحدهم مثل هذه الاتهامات لزوجته :
” أي رجلين ؟؟ برلنت لم تتزوج سوى بي، هي زوجتي أنا فقط، امرأتي أنا، ولا أسمح لأيًا كان أن يتحدث عنها بالسوء ولو كان والدها أو الملك ”
ختم حديثه يتنفس بصوت مرتفع، بينما إيفان حدق فيه بهدوء شديد، هو لم يقل تلك الكلمات متهمًا برلنت بالطبع، بل قصد بها إثبات كذب ادعاء والدها .
تدخل دانيار يجذب تميم للخلف وهو يهمس له أن يهدأ :
” اهدأ تميم، الأمور لا تسير بهذا الشكل يا رجل، أنت تتحدث مع الملك ”
نظر له تميم باعتراض ولم يكد يتحدث حتى تدخل سالار يقول بأمر :
” تميم احفظ لسانك واكبت غضبك وتحكم بنفسك ”
تنفس تميم بصوت مرتفع وهو ينظر بعيدًا، يرى بعض الجنود يسحبون والد برلنت للخارج تحت نظرات إيفان والذي قال قبل أن يبلغ والدها باب المسجد :
” اكمل ما كنت تفعل يا عم ”
نظر له الجميع بتعجب، لكنه لم يهتم وهو يقول :
” هيا أعلن زواج تميم ببرلنت ”
شعر الجميع بالدهشة فمن أين أمرهم بتأجيل كل شيء لما بعد المحكمة، ومن أين يأمر الشيخ بإكمال الجهر بالزواج، لكن لا أحد تجرأ على توجيه كلمة واحدة للملك الذي كان يتابع الكل ببسمة صغيرة ..
استطاع بكل هدوء أن يحقن الدماء ويهدأ النفوس ويفض الشجار بكل بساطة، ثم أمرهم لاستكمال ما حدث فهو أكثر الناس معرفة بتميم وقد أخبره الاخير ظروف زواجه .
وحينما خرج والد برلنت من المسجد ارتفع صوت الشيخ يعلن زواج صانع الأسلحة ( تميم مؤمن) بالآنسة ( برلنت عبدالله ).
صوت سقط على قلب برلنت في حجرة الملكة كالمياه على الجمر المحترق، تنفست تبكي بسعادة وقد أنعش ذلك الصوت صدرها لتضمها كهرمان بهدوء وحب :
” مبارك لكِ عزيزتي، مبارك لكِ برلنت ”
دقائق هي حتى سمع الجميع صوت الحارس يأذن بدخول صانع الأسلحة، ليطل عليهم تميم بملامح حنونة يستقبل برلنت بين يديه هامسًا برقة ولطف :
” مبارك صغيرتي …”
وفي ثواني انفجرت برلنت بالبكاء بين أحضانه، لتنظر تبارك بخجل للجميع وهي تتحرك معهم خارج جناحها تترك لهم حرية الحديث …
وما كادوا يخطون خطوة إضافية حتى سمعت تبارك صوت زمرد تقول :
” إذن هل ما يزال قتالي قائمًا ؟؟”
رمقتها كهرمان بعدم رضى :
” زمرد، هل ترين هذا وقتًا ملائمًا لفعل هذا ؟!”
جذبت زمرد يد تبارك بإصرار شديد وهي تقول بحنق مشيرة باصبعها على كهرمان تمنعها أي محاولة لإيقاف ذلك القتال الذي سيخفف بعض غضبها :
” نعم هذا وقته، فإن لم يكن هذا، سأذهب واقتل والد برلنت، ذلك الخسيس، جميع الآباء هكذا ”
ختمت حديثها تجذب تبارك خلفها والتي كانت شاردة بعيدًا عما يقال، ولحقت بهم كهرمان مرغمة فقط لتتأكد أنهم لن يتورطوا في المزيد من الكوارث ….
________________________
انفض الجميع من حول الملك وقد انتهوا من مباركة تميم والذي بمجرد أن سمع الشيخ يعلنهما زوجين ركض تاركًا الكل خلفه، ليبتسم دانيار بسعادة لاجله ..
تحرك بعيدًا عن الجميع تاركًا حوار لا يهمه الحقيقة، وقبل أن يخرج من المسجد لحق به مهيار بسرعة يقول :
” مرحبًا دانيار ”
ابتسم دانيار بسمة صغيرة يقول :
” مرحبًا مهيار ”
” إذن ؟؟”
” إذن ؟؟”
توقف مهيار أمامه يقول بجدية :
” أنت بخير ؟! ”
نظر له دانيار بعدم فهم ليقول الاخير مسرعًا :
” أنت لا تظن أنك خدعتني بملامحك السعيدة تلك صحيح ؟؟”
تأوه دانيار بصوت منخفض يقول :
” مهيار رجاءً أنا متعب، لذا …”
قاطعه مهيار بصرامة وهو يجذبه بعيدًا عن الجميع :
” لذا عليك بتخفيف حملك ومشاركتي أحزانك وتعبك أخي، دانيار أنا أعلم أننا لسنا بهذا القرب وأننا طالما تشاجرنا وتشاكسنا، لكن …”
انتفض دانيار ينظر له بصدمة وهو يقترب منه يمسك وجهه بين كفيه يهتف بصرامة وكأنه يدفع كلماته داخل عقل صغيره، والذي رغم أنه يصغره بسنوات قليلة إلا أنه يظل طفله وصغيره الذي اعتنى به بعد رحيل والديهما :
” أنت أيها الغبي ما هذا لسنا بهذا القرب ؟! بل انت اقرب من هذا القرب مهيار، أنت شقيقي أيها الاحمق، أي معنى لكلمة شقيقي لا تعلم ؟؟ شقيقي مالي سواك لأرتكن إليه مهيار، أنت آخر من تبقى لي في هذه الحياة، إياك… إياك مهيار أن تظن للحظة واحدة أنني بعيد عنك، أنت طوال الوقت أسفل عيوني، أنا اذهب للحرب عين على الجيش وعين على قافلتك الطبية، يا أخي أنت اغلى من امتلك بهذه الحياة ”
ابتسم له مهيار يقول بتأثر وهو يربت على ظهره، ثم مد يده يجذب له دانيار لأحضانه يقول بصوت اخوي حنون :
” مالك إذن تكتم عني أحزانك يا أخي، لِمَ تؤثر حزنك لنفسك عزيزي ؟؟ ”
صمت دانيار ولم يستطع نطق كلمة فيما يؤلمه وهو حتى لا يعلم ما الذي يؤلمه، هل يوجعه الرفض، ام يخشى البُعد ؟؟
تعجب مهيار الهدوء الذي أصاب أخيه ولم يكد يبعده عنه حتى سمع صوت دانيار يهمس بصوت خافت ما لم يفضي به لغيره :
” اعتقد أنني أحب أحدهم، وهذا الأحد نبذ حبي يا اخي ورفضه بقسوة ودون قول مبررات ”
اتسعت أعين مهيار بصدمة مما سمع يبعد عنه دانيار يتحدث بعدم فهم :
” كيف دون مبررات، لا يوجد أحد يرفض حبًا دون وجود مبرر لرفضه، حتى وإن كان ذلك المبرر أنه لا يبادله الحب”
اوجعت دانيار هذه الفكرة لكنه قال بخفوت بعدما ابتلع ريقه :
” لا أعلم، فقط أشعر أنها تخفي شيئًا كبيرًا عني، أنا كنت أبصر اعجابًا في عيونها، ولا اعلم سبب رفضها ”
” إذن قص عليّ كل شيء علّني اساعدك ”
________________________
كانت المعركة بينهما حامية الوطيس، تبارك في هذه اللحظة تستعمل كل حركة تعلمتها من سالار، تتحرك بسرعة كبيرة تحاول أن تنافس زمرد في الضربات.
زمرد التي نشأت بين قوم غبي لا يعلمون عن السيوف سوى أنها مصنوعة من معدن، عدا بعض المتمردين الذين نبذوا ممالكهم فتعلمت منهم ومن غيرهم ..
تنفست بصوت مرتفع وهي توجه ضربات متتالية شرسة صوب تبارك والتي صدتها بسرعة كبيرة وعيونها تكاد تخرج من وجهها وهي تركز على كل همسة تخرج من زمرد .
وحينما توقفت زمرد عن توجيه الضربات لالتقاط الأنفاس ابتسمت تبارك تستغل الفرصة وهي تنقض عليها بضربة قوية تسببت في تراجع زمرد للخلف متسعة الأعين :
” أنتِ أيتها المخادعة، لقد كنت التقط انفاسي ”
في هذه اللحظة تردد صوت سالار في رأس تبارك لتقول كلماته التي ترددت في نفس الوقت داخل عقلها :
” العدو لن ينتظرك أن تلتقطي انفاسك، بل سيباغتك بقوة ودون تفكير ”
أشارت عليها بنفس الطريقة التي يقوم بها تبارك وحاولت أن تقلد تعابيره الباردة الساخرة :
” تمامًا كما فعلت أنا..”
كانت تتحدث بثقة وقوة وبسمة واسعة ارتسمت شبيهه لها على وجه ذلك الذي كان يراقب ما يحدث عن بعد، لا يصدق أن من تقاتل في هذه اللحظة بهذه الشراسة هي نفسها الملكة التي لم تستطع استخلاص السيف من حاملة السيوف سابقًا .
وحين سمعها تردد نفس كلماته بنفس الطريقة، بل وكانت تحاول تقليد تعابير وجهه، انفجر في ضحكات صاخبة لم تصل لها لبعده عنهم وتحكمه فيها سريعًا .
يا الله هو فخور، لا يدري السبب فهو درب الكثير من الرجال، الآلاف منهم سابقًا، لكنه يومًا لم يكن بهذا الفخر وهو يشاهدها .
ثواني ليبصر الفتاة التي كانت تقاتل الملكة تتحرك خارج الساحة متذمرة، بينما تبارك تقف في منتصف الساحة تبتسم بسمة واسعة سعيدة وكأنها للتو حققت انتصارًا في حرب تقول بصوت مرتفع :
” يا فتاة لا تكوني بهذا التذمر، هيا لتتحلي بروح رياضية، نحن لم ننتهي بعد ولم أسقط سيفك لاعلن انتصاري ”
فجأة انتفض جسد تبارك تسمع صوتًا خلفها يردد بجدية وصوت سيفه يتحرك في الهواء :
” ما رأيك إذن في قتال يكون النصر به مستحقًا مولاتي ؟؟”
استدارت تبارك بسرعة كبيرة للخلف لتجد سالار يقف لها مبتسمًا بسمة صغيرة يقول :
” لنضع الخاتمة اليوم، ونرى أين وصل مستواكِ تلميذتي النجيبة ”
نظرت له تبارك بدهشة وهي تحاول استيعاب أنه هنا بالفعل، وتحرك سيفه في الهواء جعلها تدرك ذلك وهي تتراجع بسرعة تبتلع ريقها :
” أنت هنا بجد ؟!”
رفع سالار سيفه في وجهها بقوة يوجهه صوب رقبتها لتبتلع ريقها لتبتسم بسمة متوترة :
” أيوة صدقت، خلاص نزل السيف ”
ابتسم لها سالار بسمة صغيرة يقول بجدية :
” بارزيني ”
ومن بعد هذه الكلمة تراجعت تبارك للخلف وهي تستعد، هي بالفعل تقدمت بشكل لا بأس به خلاص اسابيع قليلة، لكن أن يصل الأمر لمبارزة معلمها فهذا ما لن تستطع فعله.
لكن وعند إشارة سالار لها أن تتقدم ابتسمت بسمة جانبية قبل أن ترفع سيفها في الهواء تأخذ وضع الاستعداد وهو أخذ فقط وضع الدفاع ينتظر اقترابها.
وما هي إلا لحظات وانقضت عليه تبارك بضربات سريعة قوية، ضربات متتالية قوية كانت لتسقط منافسها إن لم يكن هو نفسه معلمها، تضرب وتضرب لكن دون رد منه أو حتى اهتزت له شعرة واحدة .
وبعدما انتهت تبارك ابتعدت تلتقط أنفاسها بتعب شديد وقد بدأ العرق ينبت أعلى رأسها، وهو فقط ابتسم ولم يحرك سيفه يقول :
” لا بأس بكِ حقًا”
” نعم، منذ دقائق كنت رائعة، لكن امامك أصبح لا بأس بي، هذا ليس عادلًا ”
رفع سالار سيفه لها يقول :
” أن تتجرأي لرفع سيف في وجهي دون أن ترتجف يدك، فهذا شيء يُحسب لكِ …مولاتي ”
ابتسمت له تبارك بتشنج ليه رأسه:
” نعم كما سمعتِ ”
أدخل سيفه في غمده يقول بهدوء شديد يلقي على مسامعها بعض الملحوظات وكأنه لم يجبرها على ذلك القتال إلا فقط ليخبرها ما تعانيه من نقص في أسلوبها :
” لا تضعي كامل طاقتك في ضربة واحدة فتصبحي بعدها مسلوبة الأنفاس، لا تظهر انفعالك في ضرباتك، والأهم لا تحاولي إثبات تفوقك على منافسك، فأنتِ لن تستفادي شيئًا حين تعلم جثة أمامك أنكِ بارعة في المبارزة صحيح ؟؟”
نظرت له ثواني قبل أن تدرك مقصده لتبتسم له بسمة جعلته يهز رأسه:
” احسنتي، ألقاكِ غدًا معصوبة العينين ”
” مهلًا، ماذا ؟!”
” كما سمعتِ، نحتاج لتدريبك على استعمال حواسك الأخرى قبل أن نختم الدروس الخاصة بكِ ”
وبهذه الكلمات ختم الحديث بينهما تاركًا إياها وهي رمقت ظهره بفضول شديد قبل أن تتنفس بصوت مرتفع تضع يدها على صدرها :
” يا الله وجوده يستنزف انفاسي وضربات قلبي ”
وتلك الكلمات التي لم تعي هي معناها إلا بعدما خرجت منها ضربت نقطة الوعي في رأسها لتطلق شهقة مرتفعة تترك سيفها ليسقط ارضًا تتنفس بصوت مرتفع :
” ايه ؟؟ ايه ؟؟ ايه اللي بقوله ده ؟!”
استدارت حول نفسها بسرعة كبيرة كي ترى إن كان أحدهم أبصر تلك اللحظات أم لا، ثم تحركت بسرعة خارج الساحة تركض للاحتماء في غرفتها مرددة بفزع :
” شكل الاحلام بدأت تأثر عليا …”
___________________
لم يجد تميم كي يطمئن إليه قبل الرحيل مع شقيقه، لكنه يكفيه أنه الآن رفقة زوجته حتى يحين موعد المحاكمة بعدما يحددها الملك للبث في اتهامات والد برلنت والحكم على المخطأ بوجود شيوخ من المملكة للحكم على الأمر من جانب الشرع والدين .
والآن ها هو يتحرك مع شقيقه خارج القصر يحملان العديد من الهدايا لطلب يد ليلا لأجل مهيار، ومهيار يضم له الزهور برقة شديد مع حقيبة أخرى من الهدايا ..
وبمجرد خروجهم كانت هي تقف مبتعدة عنهم تراقبهم، لا تدري السبب، لكن ربما تحب تعذيب نفسها، تراقب نظراته وبسماته مع رجل آخر تعتقد أنه شقيقه لشدة الشبه بينهما .
اتبلعت زمرد ريقها ببطء تتحرك صوب أحد الأشجار القريبة منهما تسمع صوت دانيار يقول :
” إذن هل تعتقد أن هذه الهدايا كافية !!”
نظر مهيار للحقائب ثم هز رأسه:
” نعم اعتقد ذلك، لا تقلق فأنا أحضرت كذلك بعض الزهور النادرة ”
” كيف لا اقلق؟! عزيزي هذا زواج وعلينا أن نبهر العروس”
اتسعت أعين زمرد بشدة تسمع تلك الكلمات بعدم فهم وهي تردد خلفه الكلمة كأنها تحتاج لاستيعابها :
” العروس ؟؟”
في هذه اللحظة سمع دانيار همستها فاستدار لتختفي هي بسرعة خلف الشجرة.
ضيق حاجبيه يحاول معرفة مصدر ذلك الصوت الذي سمعه، هز كتفه ولم يكد يعود بانظاره لمهيار حتى أبصر بالخطأ طرف سيف يخرج من جانب الشجرة .
رفع حاجبه وهو يدقق النظر ثواني على مقبض ذلك السيف لتتسع بسمته فجأة وهو يعود بنظره لمهيار يقول بخبث شديد :
” أنا لا يهمني سوى ابهار العروس يا اخي فهي ستصبح فرد جديد من عائلتي، لذلك لندعو الله أن يعجبها ما احضرنا لها ”
كتمت زمرد شهقة كادت تخرج منها وقد اضطرب قلبها بقوة تحاول أن تمنع نفسها من الظهور أمامه والصراخ في وجهه، تتهمه بالخيانة والكذب، لم تكد تخبره برفضها حتى ذهب للبحث عن عروس أخرى، شعرت بدموعها تلسعها للخروج، يا الله هي ظنت …ظنت بغبائها أنه لربما احبها ولو قليلًا فقط .
ودانيار يقف بعيدًا لا يبصر نظرات مهيار المتعجبة من حديثه، لكنه لم يهتم وهو يقول ببسمة صغيرة :
” لنتحرك كي لا نتأخر على العروس عزيزي ”
وبالفعل سحب معه شقيقه وتحرك به صوب الأحصنة الخاصة بهم، وضع حقائق الهدايا خلفه، ثم صعد بسرعة يبصر تحرك مهيار قبله، وهو تحرك خطوات بالحصان، فقط خطوات كانت كافية لتظهر وجهها له، لينتفض قلبه برعب حين أبصر جسدها منهارًا ارضًا، بأكتاف متهدلة تدفن وجهها بين يديها، توقف بحصانه بسرعة وكاد يهبط ليركض نحوها لولا صوت مهيار الذي قال :
” هل أنت بخير دانيار ؟!”
نظر له دانيار قبل أن يعود بنظراته لها، يجبر نفسه على الرحيل، فصفعة رفضها له ما تزال ترن داخل عقله :
” نعم أنا بخير ..لنتحرك ”
تحركوا خارج القصر مسرعين صوب المدينة، ومنها لمنزل والد ليلا، نظر له دانيار يؤكد عليه كي ينتهي من كل ذلك :
” هل تأكدت من أخذ ميعاد معهم ؟؟”
هز مهيار رأسه بنعم، يتوقف على بداية الشارع الخاص بهم يبحث عن مكان لترك الأحصنة.
وحينما انتهوا تحرك الاثنان صوب الداخل ومازال قلب دانيار يضرب صدره مؤنبًا إياه على ما فعل، ابتلع ريقه يخرج من تلك الحالة على صوت طرق شقيقه للباب، ثواني وفُتح الباب .
استقبلهم والد ليلا ببسمة واسعة :
” مرحبًا بكم ”
ابتسم دانيار بسمة صغيرة يقول بلطف :
” مرحبًا بك سيدي ”
ادخلهم والد ليلا يرحب بهم في المنزل، يقودهم صوب الداخل، جلس الجميع واستقروا ومرت ثواني قبل أن يبادر دانيار بالقول :
” بالطبع أخبرك مهيار ما جئنا لاجله سيدي ”
ابتسم لهم والد ليلا بسمة صغيرة لكن مرتابة ومتوترة، بسمة جعلت دانيار ينظر لأخوه بريبة شديدة، لكن مهيار لم يهتم وهو يقول مبتسمًا :
” إنه لشرف لي أن تأمنني على ابنتك لتكون زوجتي يا عم”
” أنت يا مهيار تعرفني منذ سنوات وتعرف جميع أفراد منزلي يا بني، وكنت بمثابة الابن لي لسنوات طويلة ”
” صحيح سيدي ”
صمت ثم قال بقلق :
” هل هناك خطبٌ ما ؟!”
في هذه اللحظة خرج عليهم مرجان لينضم لجلستهم ينظر بهدوء صوب الاثنين، وقد شعر دانيار في هذه اللحظة بوجود خطبٍ ما .
ثواني وطلت عليهم صاحبة الشأن وهي تصرخ بحدة :
” مرجان مابك و….”
صمتت فجأة بصدمة وهي تتراجع للخلف حين أبصرت مهيار يحدق فيها ببسمة ودانيار يرى نظرات أخيه المفتتنة بها، ثم اعتدل يقول :
” إذن يا عم لم تخبرنا رأيك ؟؟”
كاد والد ليلا يتحدث لولا صوت مرجان الذي قال بهدوء شديد :
” معذرة يا أبي اسمح لي بالحديث…سيدي الطبيب أنت جئت لطلب يد أختي، لذا اعتقد أن الرأي الوحيد هنا هو رأي ليلا فقط ”
نظر صوب ليلا التي كانت شاحبة الوجه لا تفهم شيئًا، فقط تتابعهم بنظرات مذهولة، حتى أشار لها مرجان أن تقترب منهم ببسمة صغيرة، وهي تحركت على استحياء حتى وصلت لمكان جلوسهم .
وبمجرد أن جلست أبصرت أعين مهيار التي ثبتها عليها ببسمة واسعة، وهي نظرت ارضًا بعيدًا عن عيونه ليبتسم أكثر ولم ينتبه لصوت دانيار الذي أخذ يتحدث مع والدها في كلمات لم تصل له، هو فقط ينظر صوب ليلا والتي تكاد تختفي من الخجل تود لو تقتل مرجان لإجبارها على خوض كل هذا ..
فجأة لا تعلم كيف، لكنها أبصرت حين تحديقها في الأرض اقدام تتحرك للخارج، لتجد أن الغرفة أصبحت فارغة إلا منها ومن مهيار، انتفضت تظن أن الجميع سيرحل لتتحرك معهم للخارج لولا صوت مهيار الذي أوقفها يقول :
” مهلًا، إلى أين ؟؟”
نظرت له ليلا بعدم فهم :
” هم …سيرحلون و…”
” لا بل فقط تركوا لنا متسعًا للحديث، اجلسي ليلا، لا تقلقي أنا لا اعض الفتيات الصغيرات ”
اتسعت عين ليلا وهي تعود صوب مقعدها تحاول التنفس بصعوبة بسبب كلماته ونظراته تلك تقول بصوت خافت :
” أنا، أنا لست قلقة، أنا فقط ظننت ”
صمتت ولم تجد كلمات في عقلها تساعدها لإكمال ما كانت تقول، فقط ابتلعت ريقها تقول بهدوء شديد :
” هل …كل كنت تقتني زهور البارحة لأجلي ؟؟”
ابتسمت يقول بصوت هادئ لطيف مسالم كعادته :
” لأجل من ظننتي !!”
هزت رأسها وهي تمسح وجهها بيد مرتجفة تقول :
” لا أنا فقط …هل قمت بفتحه ؟؟”
نفى مهيار لتتنفس الصعداء وهي تقول :
” جيد ”
” جيد ؟؟ ما بها الزهور ؟؟”
اتسعت عيونها تقول بتوتر :
” لا فقط كما أخبرتك رائحتها سريعة التلاشي ”
نظر لها بشك كبير وهي نظرت بعيدًا ليدرك أنها فعلت شيئًا بها :
” ليلا ما بها الزهور ؟؟”
” أخبرتك لا شيء صدقًا، هي فقط زهور نادرة و…لا شيء حقًا ”
ختمت حديثها تجذب الزهور لها كي تثبت ما قالت، تفرك كفيها لا تدرك ما يجب قوله وهو يتابع كل انفعالاتها تلك بشك وسعادة كبيرة، هو فقط يحب النظر لها بهذا الشكل، ليقرر أن يرفأ بها قائلًا :
” آنسة ليلا ..”
خفق قلب ليلا بقوة وقد أعادت تلك الكلمات ذكريات قديمة حين كان يأتيها للمحل، قبل أن يتخلى عن ذلك اللقب مكتفيًا باسمها ..
ابتسم يرى توترها :
” بالطبع علمتي سبب قدومي هنا، صحيح ؟؟”
هزت رأسها بتوتر شديد :
” اجل ”
” إذن ؟؟ ما هو رأيك ؟”
رفعت رأسها له بخجل، ثم اخفضته تقول بصوت هامس:
” سيصلك ردي مع أبي”
صمتت ثواني ثم قالت وبتردد شديد وخوف، وقد كادت شجاعتها تخونها للحظات قبل أن تنطق تلك الكلمات، لكنها فقط ترغب بالتأكد كي تكتمل سعادتها :
” لقد أخبرك أبي بحالتي صحيح ؟!”
وجاءتها كلماته صادمة لها ولكل خلية حية داخل جسدها وهو ينطق بجهل وملامح لا تفقه ما تتحدث بشأنه :
” أي حالة تلك ؟؟؟؟؟”
رفعت عيونها له بصدمة، ثم همست وكأنها لا تستوعب ما يحدث شعرت أن قلبها يؤلمها وضرباته قد بدأت تتباطئ، وخفتت السعادة في عيونها تجيب :
” أنا… أنا أعاني من مشاكل …بالـ… أعاني اضطرابات بالجسد تنشأ عنها حالات غريبة و….لا اعتقد أنه شيء ستحب التعايش معه، سيدي الطبيب ….”
____________________
تحرك خارج القلعة بحصانه في سرعة كبيرة، وقد كان معطفه الجلدي يتطاير خلفه، لم يهتم بأي عين كانت تلاحقه، سيوفه مستقرة في حزامه وجسده يقاوم الريح .
حركاته كانت قوية سريعة، يبصر بطرف عيونه الطرقات تسابقه في الركض، ارتسمت بسمة جانبية على جانب فمه الذي كان مختفي خلف لثامه الاسود ككامل ثيابه التي كانت سوداء مع بعض اللون الأحمر على الأطراف .
بدأ يبصر المدينة تختفي وتتقهقر في هذا السباق معلنة استسلامها، ليستلم منها المنافسة أشجار الغابة التي تقع على أطراف البلاد جهة مشكى، وهناك نظرات غريبة ترتسم في عيونه .
دقائق أخرى مرت حتى اكتملت الساعة، توقف بسرعة ليصنع حصانه صوتًا صاخبًا وهو يقف به في منتصف الغابة وأمام بناء خشبي ينعزل به عن الجميع، بناء يستقر به بعيدًا عن ضوضاء القصر ومن به .
هبط من فوق حصانه يربطه في أحد الأشجار، ثم تحرك بهدوء شديد صوب ذلك الكوخ الخشبي، الشيء الاخير الذي تركه له والديه قبل موتهما، أو بالأحرى قتلهما في رحلة صيفية به .
تنهد يبعد تلك الذكرى عنه وهو يدفع الباب بهدوء شديد يتحرك داخله يحرك عيونه في المكان قبل أن تستقر واخيرًا على فراشه الذي كان يقضي عليه ليالي هادئة، والآن استقر هو عليه بجسده القوي الذي ينافس جسده هو، ولولا ذلك الشحوب والهالات السوداء التي تحيط عيونه لكان ظن أنه بكامل صحته ولم يُمس .
ابتسم يتحرك صوب الجسد الذي يحتل كوخه منذ شهور قليلة، والذي شعر بوجوده في الكوخ ليفتح عيونه ببطء يقول بصوت خافت :
” تأخرت هذه المرة ”
ابتسم له بسمة واسعة يجلس على طرف الفراش يدفعه بشكل جلب اعتراضات من الاخر ليقول بحنق :
” أيها الحقير توقف عن هذا ”
تجاهل سالار كل كلماته يقول بهدوء مستفز :
” كيف حال أسد مشكى ؟؟
اشتعلت عيون الرجل أمامه وهو يقول بصوت قوي واعين قوية تنبأ بشخص لا ينحني أبدًا :
” ما الذي تظنه أنت سالار ؟؟”
ابتسم سالار يجيب بهدوء ونبرة غامضة يطيل التحديق بعيونه :
” أظن أنه حان وقت عودتك لعرشك وبلادك أرسلان ….”
________________________
ليس كل ما تقرأه حقيقةً، وليس كل ما اختفى بين السطور وهمًا، ربما هي خدعة لن يدركها عقلك إلا حينما تقع الطامة .
فأرتقبها …..
وتذكر أنها “حرب إما أن تنتصر، أو تنتصر لا خيار ثالث أمامك.
يتبع…
عيونه اشتعلت بقوة على غرار كلمات سالار التي ألقى بها له، لينتفض جسده بقوة مخيفة غير آبهًا للوجع القاتل الذي أصابه في هذه اللحظة يضغط على أسنانه بعنف وهو يتسند على الفراش :
” إذن ما الذي تنتظره، هيا تحرك من هنا، أريد العود لبلادي و…”
وقبل أن يكمل كلماته تحت نظرات سالار الباردة أطلق تأوهًا عاليًا، ليرفع سالار إصبعه يدفعه دفعة واحدة لم يكن يحتاجها من الأساس، فضعفه في هذه اللحظات كان كافيًا لإسقاطه .
ابتسم سالار يقول بسخرية :
” فقط قف على قدميك دون أن تتأوه، ثم ألقي أوامرك مولاي، والتي بالمناسبة لا تسري عليّ إن لم تكن تتذكر ”
ضغط أرسلان على أسنانه بقوة حتى كاد يحطمها تحت وطأة ضغطه، وهو يتمسك بمعدته يشعر بوجع حارق بها، وعيونه قد بدأ اللون الاحمر لها يزداد وهو يهمس :
” أنت من قلت منذ ثواني أنني سأعود لجيشي، أيها الحقير الكاذب ”
رمقه سالار بغيظ شديد :
” يا ويلي، هل العودة من الموت جعلتك بذئ الحديث ؟؟ أوه مهلًا أنت هكذا طوال الوقت، تحلى ببعض الاحترام أرسلان ”
اعتدل أرسلان بصعوبة يرفض رفضًا تامًا أن يظهر ضعفًا أو يتأوه أمام أحدهم ولو كان سالار، تنفس بصعوبة وقد تجمعت ذرات العرق أعلى رأسه:
” ما الذي تريده مني سالار ؟؟ هيا افض بما تضمر وتوقف عن الاعيبك تلك ”
قلب سالار عيونه يقول بهدوء :
” مازلت كما أنت، يقودك غضبك، أرسلان حاول التحكم بنفسك قليلًا .”
رمقه أرسلان بشر، ثم قال :
” حسنًا إن وعدتني أن تتوقف عن أفعالك السخيفة وكلماتك المستفزة تلك، سأتحكم في غضبي، ثم عن أي غضب تتحدث أنت ؟؟ أنا حتى الآن احدثك بهدوء ”
تنفس سالار ليجد أن لا فائدة من محاولة النفخ في بركان كذلك المضجع أمامه، مال بنصف جسده العلوي للإمام يهتف بجدية وهو ينظر لعيونه :
” أقصد أن عودتك هنا ليست عودة فعلية، سنبث روحك بين شعبك ونجند منهم ما نستطيع، فبعد مقتل المخلصين لك من الجيش وأسر الباقيين، نحتاج لجيش آخر ”
عاد أرسلان برأسه للخلف يحاول أن يتنفس بشكل طبيعي ومازالت جروح جسده حية، ولن تندمل حتى ينتقم مما حدث، لن يهدأ ولن ينام حتى يخرج روحه على يده، ذلك الغادر القذر .
كان سالار يراقب ما يحدث مع رفيقه وهو يبصر تصلب جسده بقوة وحدة عيونه، وقبضته التي تكاد عروقها تنفجر، ليدرك أنه سقط مجددًا في هوة ذلك اليوم الذي مر عليهم كالجحيم .
” أرسلان..”
” اقسم بالله الذي لا اقسم به كذبًا أن اريهم الجحيم بحق كل شهيد سقط وبحق كل قطرة دماء طاهرة هُدرت، الويل لهم، الويل لهم، الويل لهم اجمعيــن ”
ختم كلماته بصرخة يضرب الفراش ليتسبب في أحداث صوت صاخب جعل سالار ينتفض وهو يحاول تهدئته :
” اهدأ فقط اهدأ لقد استفقت البارحة فقط وما تزال جروحك خطرة ”
” ولن تُشفى، والله لن تُشفى حتى انال قصاصًا عادلًا لي ولشعبي و….”
تهدج صوته لتلتمع عيونه بشكل جعل سالار يُصدم وهو يراه يقول بثورة ووجع :
” ولامي وشقيقتي، والله الذي لا إله إلا هو لأنتقمن لهم اجمعين منه ”
نظر له سالار يتنهد بصوت مرتفع لا يدري أيخبره بما حدث، وأن شقيقته حية تُرزق أسفل سقف سفيد؟! حالته تجبره على التحدث، هو عليه أن يعلم أنها حية، لكن هو يعلم أرسلان يدرك كم اندفاعه وغضبه الذي قد يحرق كل ما حوله، إن علم الآن أن كهرمان حية وتجلس في القصر كعاملة سوف ينتفض ولن يعود حتى يذهب هناك ويضيع كل شيء، هو حتى الآن لم يخبر إيفان بما حدث، لذا عليه ترتيب الأمور في عقله وكشف الأمور ببطء دون تسرع أو تردد .
وفي النهاية هو سيحضر له شقيقته هنا ليتجنب ثورته وغضبه .
وفي وقت تردد سالار وتفكيره فيما يجب فعله، كان أرسلان غارق في اليوم المشوؤم الذي فقد به كامل عائلته .
كان ساقطًا على ركبتيه يأبى الانحناء، يرفض أن يخفض رأسه ولو لثانية واحدة، ما يزال سيفه في كفه وقد نال جسده ما نال من الضربات وآخرهم ضربة بافل له والتي أصابت يده .
سمع ضحكات بافل العالية وهو يقول :
” اسقاطكم كان اسهل من فرقعة إصبع”
مال عليه يهمس بصوت خشن كاره :
” تحدثوا عن أسطورة أرسلان، زعيم الوحوش الذي لا يُهزم، أرسلان المخيف والشرس”
كانت السخرية والحنق واضحين في كلماته بشكل كبير، حتى ابتسم يقول :
” وانظروا إليه خاضع راكع أمامي”
ابتسم أرسلان بسمة جانبية ظهرت بصعوبة وسط وجه مضجر بالدماء، يرفع عيونه صوبه وهو يحاول النظر له بصعوبة بسبب الدماء التي علقت برموشه :
” تُرى من حكى لك عني كل ذلك ؟؟ فعلى حد علمي لم يقابلني خنزيرٌ منكم وعاش بعدها، فمن ذا الذي أخبرك ؟؟”
نظر له بافل مبتسمًا بسخرية :
” أنت حقًا خانق بشكل مقيت ”
” أوه كنت سأقول الشيء ذاته عنك، أنت حقًا مقيت بشكل خانق ”
مال عليه بافل أكثر يهمس بصوت خافت كاره :
” وهذا المقيت هو من أسقطك واسقط بلادك، وغدًا تكون مشكى لي ولشعبي ”
رفع أرسلان عيونه له، رغم كل ما به من الاوجاع إلا أنه أبى أن يسقط محني الرأس..
” رجلٌ جمع حوله بعض الحشرات، ثم وصفهم بالشعب، ياللسخرية، لكن أنظر إلينا، حتى حينما أردت اسقاطي لم تواجهني في ارض المعركة، بل جئت من ظهري، تعشقون الظهور أنتم”
ابتسم بسمة أوسع وهو يقول بشوق :
” أتذكر والدك الحقير حينما جائني من ظهري في معركة بغية قتلي، لكن ذلك المسكين فقد على إثر شجاعته الغبية نصف أذنه اليمنى، تُرى هل كان يحتفظ بها ذكرى مني ؟؟”
ختم أرسلان كلماته يضحك بصوت مرتفع، ثم تحامل على نفسه ونهض يخيم على بافل بشكل جعل الاخير يتراجع بحذر، وارسلان ابتسم له بشر يقول :
” والآن لن يكفيني جراء ما فعلت جسدك بأكمله يا حقير ”
وقبل أن يعلم بافل ما يحدث كان أرسلان يرفع سيفه بقوة ولم يكد يهبط به على جسده، حتى شعر بسيف يخترق جسده من الخلف لتتوقف يده وتتسع عيونه ويشعر بوجع حارق، ارتجفت يده مسقطًا سيفه وقد تساقط جسده خلف السيف ليسمع صوت ضحكات عالية جواره، ضحكات يألفها بشدة، ومن ثم اقترب صاحب تلك الضحكات يهمس له :
” الآن وقد سقطت، رأيت من منا الاقوى يا….مولاي ؟؟”
رفع أرسلان عيونه ببطء لتقع على وجه مهران، فابتسم بسمة سوداء رغم شعوره الخارق بالغدر والكره، ثم ودون أن يتوقع مهران كان أرسلان قد بصق في وجهه ونظر له نظرة مميتة :
” لو كان الاقوى بمن ينطح من الخلف لكانت الحمير اقوى الحيوانات، وَسخ ”
مسح مهران وجهه بقوة غاضبًا، ثم نظر له ونهض ليقول صارخًا :
” حتى وأنت تموت أيها القذر”
صمت ثواني قبل أن ترتسم بسمة غريبة على فمه يهدر بصوت متشفي :
” لكن.. لا تخف مولاي فقد سبقك جميع أفراد عائلتك، والدتك وشقيقتك الجميلة التي رفضت زواجي منها، جميعهم سبقوك بالفعل ”
اتسعت أعين أرسلان ولأول مرة يعلن جسده عن ارتجافة قوية وهو يسمع صوت مهران يرن صداه في المكان بقوة :
” لقد أحرقت المخبأ بهم وبمن فيه مولاي….بل أرسلان فأنت لست ملكي ولا مولاي حتى ”
” أرسلان… أرسلان، أرسلان توقف ستؤذي نفسك ”
استفاق أرسلان بقوة على هزة سالار الذي رمقه بشر يهتف من بين أسنانه :
” ما بك ؟! لقد اذيت نفسك ”
نظر أرسلان لكفه الذي غرز به أظافره دون شعور، ثم رفع عيونه في وجه سالار يقول بصوت خافت يحاول أن يعود لحالته الطبيعية الهادئة :
” كيف هي أحوال سفيد ؟؟”
” كيف ستكون ؟؟ نحن على مشارف حرب ”
هز أرسلان رأسه ولاول مرة منذ استيقظ مساء الأمس يتساءل :
” و.. إيفان، كيف هو ؟؟ هل هو بخير ؟؟”
ابتسم سالار بسخرية كبيرة :
” نعم هو بخير حال، خاصة بعدما تخلص من وجع الرأس المتمثل بك ”
اتسعت أعين أرسلان يرمقه بشر كبير، ليضحك سالار بصوت مرتفع :
” عليك أن ترى حالة السعادة والانتشاء التي يعيشها إيفان في الوقت الحالي ”
” هو لم …لم يسامحني بعد ؟؟”
نظر له سالار وكاد ينفي كل ذلك الهراء الذي تفوه هو به، لكن فجأة تراجع وهو ينظر له بدقة، واراد في جزء داخله أن يعلمه درسًا كي يكظم غضبه، أن يذيقه بعضًا من وجع إيفان حين ظنه ميتًا، ذلك الوجع الذي جعله يدرك أن لا شيء يستحق أن تنفر شقيق لك .
ورغم كل ذلك لم يشأ أن يكذب عليه سالار فقال بنصف حقيقة :
” لا اعلم ربما فعل، وربما لا، أنت تعلم هو لا يتحدث عن مشاعره كثيرًا ”
أخفض أرسلان رأسه يحاول أن يستوعب الأمر وقلبه يخبره أن إيفان الذي يعلمه، لن يمرر موته بهذه الطريقة، تجاهل الأمر يقول بهدوء شديد مبتعدًا عن تلك النقطة :
” ما الذي سنفعله الآن؟؟”
عنيد كعادته، لا يبوح بما يفكر ولا ينحني لريح، أعانك الله على رأسك أرسلان واعان الله من كتب لها الحياة مع شخصٍ بعنادك وكبريائك .
تنهد سالار بقوة ثم قال :
” سأخبرك ….”
___________________
” تميم أنا آسفة هو لـ …”
منعها تميم عن إكمال جملتها يجذبها لاحضانه بلطف وهو يحاول تهدئتها، رغم أنه هو من يشتعل في هذه اللحظة، كانت جميع أفكاره تتحرك صوب منطقة واحدة ..
التخلص من والدها وللأبد .
لكن رغم ذلك تنفس بصوت مرتفع وهو يشدد من ضمه لبرلنت له وقد كانت تضم نفسها وهي تقول بصوت منخفض :
” أنا لم أتزوج تميم ”
” أعلم”
” أنا.. لقد عرض عليّ أبي الزواج من أحد معارفه في البلدة التي هربنا لها، و…وحينها اعترضت فرفض اعتراضي وأخبرني أنني تطلقت منك وانتهى الأمر ”
شدد عليها تميم أكثر وكأن غضبه يزداد أكثر وأكثر كلما نطقت كلمة إضافية، وهي فقط تنهدت تكمل بصوت خافت بعض الشيء :
” وقتها حين وجدت أن لا مفر لي من الزواج…هربت منه وجئت هنا للبحث عنك والتوسل لك أن تنقذني من هذا الزواج ”
ختمت حديثها لتنفجر في البكاء :
” لم أكن أعلم أنني ما أزال زوجتك، وكنت مرتعبة أن أصبح لغيرك تميم ”
صمتت فجأة على صوت تميم الذي قال بهدوء شديد لا يناسب البتة لا ملامحه ولا نظراته، ولا حتى تشنج جسده .
” لا بأس بيرلي، لقد انتهى كل ذلك وسينال والدك ما يستحق ”
فجأة شعر تميم بيدها تخفف من احتضانه وجسدها يرتخي بين ذراعيها، حاولت الإبتعاد ليمنعها وهو يردد بصوت هادئ خافت :
” سيتم عقاب والدك على كل ما فعل ”
ارتجف جسد برلنت بشدة، وهي تبتعد شيئًا فشيء عن تميم وقد شعرت بقرب انهيارها، وتميم تركها تبتعد في هذه اللحظة يرى ملامحها قد شحبت فجأة تهمس بصوت خافت :
” سـ…ما الذي سيحدث له ؟؟”
وكانت إجابة تميم بوجه وملامح مقتضبة، لا يرى في هذه اللحظة سوى انتقام قديم يلوح أمام عيونه لمن كان السبب في دمار حياته سابقًا :
” ماذا برأيك ؟؟ سيتعرض للمحاكمة أمام الملك ومن ثم سيُسجن أو ينال عقابًت عادلًا ”
اتسعت عين برلنت وسقطت منها الدموع بقوة، لا تنكر أنها في بعض الأوقات وصل بها الحال لتشعر بغضب وكره شديد موجهين لوالدها بعد كل ما فعل، تشعر في أوقات كثيرة أنه لا يأبه لها، ومن ثم يزداد كرهها له، لكن هو والدها، هو والدها يا الله، وضعت كفها على فمها تحاول كتم بكائها قبل أن تسقط ارضًا منهارة ..
ويلها زوجها وما حدث له .
وويلها والدها، المعيل الوحيد لوالدتها، إن رحل ستتحطم والدتها .
دفنت وجهها بين كفيها وهي تشعر بالعجز، تشعر بالخزي، تخجل مما فعل والدها، وتخجل من الشفقة عليه أمام أعين من فقد عائلته بسببه، لكن لا تستطيع أن تتجاهل حقيقة أنه والدها الذي _للحظات كالحلم_ كان يعاملها كالاميرة، كان يومًا ما والدًا جيدًا، كان يومًا ما شخصًا لطيفًا، كان يومًا ما إنسانًا قبل أن ينثر رماد إنسانيته على بحيرة الآثام .
عند هذه اللحظة سقط جسد برلنت ارضًا بالكامل وهي تبكي بقوة تتحدث من بين شهقاتها بكلمات غير مترابطة :
” أنا آسفة، أنا آسفة تميم، ارجوك سامحني، أنا آسفة ”
ولأول مرة لا يتحرك لبكائها ولا يسارع للتربيت عليها، فقط يشاهدها بملامح غير مفهومة وجوار صورتها الباكية، تُعرض صورة والدته وهي تبكي بصوت مرتفع بحسرة وقهر وتصرخ ملء فاهها وهو يضمها يمنعها التحرك خلف والده :
” مظلوم، اقسم أن زوجي مظلوم يا مولاي، يا الله، لقد مكروا به، لم يفعل شيئًا، والله الذي لا اله إلا هو زوجي مظلوم مولاي ”
رفع تميم عيونه صوب إيفان الذي كان يتابعهم من عرشه بأعين غامضة لا تفسر ما يدور داخله، وبملامح مشفقة، ليقول تميم بصوت خافت باكي :
” مولاي، أبي مظلوم اقسم أن يده لم تمس أحدهم بسوء يومًا، أقسم لك لم يقتل أحد، أبي لم يفعلها، والله لم يفعلها”
استفاق من أفكاره على يد تضم وجهه، نظر أمامه ليجد أنها برلنت التي نهضت عن الأرض تضم وجهه لها تهتف بحنان شديد :
” خذ قصاصك تميم، خذ قصاصك إن كان ذلك سيمحي عذابك ”
نظر لعيونها يدرك أن ما تقوله سيكون مرهونًا بغصة في قلبها له، إن فعل وانتقم لوالده من والدها، ستظل تلك نقطة سوداء بينهما، حاجزًا خفيًا وإن أدعيا عدم وجوده .
ابتلع ريقه وهو ينظر لعيونها ثم قال :
” إن فعلت، هل تستطعين النظر في وجهي دون رؤية وجه والدك ؟!”
نظرت له ثواني بتردد ودموعها عادت لتلتمع مجددًا بعيونها وهي تردد بصوت خافت مع بسمة جاهدت لرسمها :
” على الاقل سأرى تميم القديم، قبل أن يتغير ”
أبتسم لها تميم وهو ينظر لعيونها، ثم رفع يده يضعها خلف رأسها يقربها منه مقبلًا جبينها :
” سيعود ..سيعود حبيبتي إن شاء الله ”
ومع انتهاء كلماته تلك تركها ورحل بسرعة دون كلمة إضافية أو نظرة أخيرة، تاركًا برلنت ترمق أثره بوجع، ثم سقطت ارضًا تريح رأسها على الفراش خلفها هامسة بصوت موجوع :
” يا الله رحمتك ”
____________________
” إذن هذا هو مكانك الهادئ ؟؟”
كانت زمرد تتحدث وهي تنظر أمامها لمكتبة العريف بملامح مقتضبة وبشكل غريب وكأنها مشئمزة أو ما شابه، بينما كهرمان تحدق في المكان الذي لم تقترب منه منذ جاءت لأخبار قائد الجيوش عن حقيقتها .
و تبارك هزت رأسها تقول بتردد :
” حسنًا هو كان كذلك سابقًا، لكن لا ادري ما الذي حدث الآن به ؟؟”
توجهت جميع الأنظار صوب العريف الذي كان واقفًا على الدرج الخشبي العملاق يلقي العديد من الكتب صوب الارض وهو يزفر ويصرخ بجنون .
وحوله تتطاير بومته تصدر ضجيجًا مزعجًا وكأنها تعترض على كل ما يحدث في المكان، ومرجان يركض يمينًا ويسارًا محاولًا أن يلتقط كل ما يسقط قبل أن يفسد غلاف الكتاب أو غيره .
قالت كهرمان بصوت منخفض :
” اعتقد أننا يجب أن نرحل الآن”
هزت تبارك رأسها موافقة وقد استغلت وجود الفتيات معها لأخذ درس العريف والرحيل، لكن يبدو أنها جاءته في وقت خاطئ .
وقبل أن يتحرك أحدهم خطوة تلقت كهرمان كتاب طائر في رأسها لتتراجع للخلف وهي تضع يدها على رأسها وشعرت بنفسها تصطدم بجسدٍ ما لتصرخ بوجع وهي تمد يدها لذلك الجسد :
” ساعديني زمرد، أشعر أنني سأفقد رأسي، يالله هل هذا كتاب أم صخرة ؟؟ هذا العريف المريع ”
نظرت زمرد صوب كهرمان وهي تلوي ثغرها تقول بهدوء :
” في الحقيقة عزيزتي كهرمان، أعتقد أنكِ تحتاجين لفتح عينيك الآن”
تعجبت كهرمان تلك الكلمات تفتح عيونها ببطء وقد شعرت حقًا بوجع لا يحتمل في رأسها، لكن فجأة انتفض جسدها بخلف لتصطدم بزمرد التي تلقفت جسدها هي هذه المرة تقول :
” تماسكي يا ابنتي، الرجل يناظرك بسخرية ”
نظرت كهرمان له وهي تحاول أن تبتلع ريقها، تنظر بعيدًا عنه، بينما في ذلك الوقت كانت تبارك تراقب ما يحدث باهتمام وكأنها تتابع مشهدًا تلفزيونيًا .
ابتسم إيفان يقول بصوت بارد نسبيًا :
” أنتِ بخير آنستي ؟؟”
هزت كهرمان رأسها تتأكد أن الغطاء موجود، لتسمع صوت إيفان الذي انطلق يقول بجدية :
” اعتقد أنكِ تحتاجين للذهاب إلى طبيبة القصر لتتأكد أنكِ بخير ”
نظرت تبارك صوب كهرمان تتفحصها بأعين دقيقة، ثم قالت بعد ثواني :
” اعتقد أنها بخير، الضربة لم تكن بمثل هذه القوة، ربما تضع بعض الثلج لتجنب الورم أو ما شابه ”
ابتسم إيفان يدير عيونه صوب تبارك، يمنحها بسمة لطيفة جعلت كهرمان تفتح عيونها بصدمة لحقيقة امتلاكه مثل هذه البسمات :
” مرحبًا مولاتي، كيف حالك ؟!”
توترت تبارك من الحديث معه كالعادة، إذ شعرت به يهيمن على المكان بأكمله، تقول ببسمة صغيرة :
” مرحبًا مولاي، الحمدلله بخير، كيف حالك أنت ؟؟”
ابتسم لها يهز رأسه ببساطة :
” الحمدلله في زحام من النعم، إذن جئتي لأخذ درس العريف ؟؟”
” نعم، لكن يبدو أن العريف الآن ليس في مزاج يسمح له بإعطائي شيء ”
نظر إيفان خلفها يبصر العريف الذي هبط عن الدرج يمسك مرجان وهو يصرخ في وجهه بجنون والبومة تقف فوق رأس مرجان تضربه بجناحها، والمسكين بينهما لا يدري خطأه .
تنحنح إيفان واضعًا قبضته أمام فمه :
” نعم صحيح يبدو أنه في مزاج سوداوي بعض الشيء، أتساءل من جعله هكذا وسالار ليس هنا ؟؟”
لذكر اسمه انتفض قلبها، لكنها وبصعوبة شديدة منعت نفسها من السؤال عنه، فحقيقة أنه ليس معها في المكان، تشعرها بانقباضة صدر مريبة، وكأنها تستمد راحتها وأمنها من فكرة أن ( سالار يقبع تحت نفس السماء التي تحيا أسفلها)، ورغم صراخه وغضبه، فهو لطالما سارع وساعدها .
وفي خضم افكار تبارك كانت كهرمان تتململ في وقفتها تود الهرب من المكان والبقاء هنا لسماع حديث الملك لتبارك كان آخر اهتماماتها حقًا، ليس استنكارًا أو حنقًا والله يشهد، لكنها فقط لا تحب البقاء في أحاديث لا تعنيها .
سحبت يد زمرد تهمس لها :
” دعينا نرحل من هنا، لا اعتقد أن الأمر يخصنا ”
” بل سنبقى، أود رؤية أحد رجال المملكة يتصرف بلطف قبل أن أرحل عن هذه الحياة ”
ابتسم إيفان يقول ببساطة وهو ينظر صوب العريف :
” حسنًا لا بأس، يمكنك الذهاب لدانيار كي يدربك قليلًا على الرماية، ريثما اهدأ من روع العريف ”
ختم حديثه يبتسم بسمة جعلت تبارك تهز رأسها بهدوء، ثم تحركت بعدما استأذنت منه وكذلك زمرد التي لحقت بها وهي تنوي أن تذهب معها لتدريبات ذلك الحقير الذي ذهب للبحث عن بديل سريع لها .
ولم يتبقى أمام إيفان سوى كهرمان والتي لم تكد تتحرك خلفهم حتى أوقفها هو بكلمات قليلة وصوت خافت :
” أرى أنكِ بنيتي صداقة متينة مع الملكة ”
رفعت عيونها تنظر له رغم وجود عطاء يخفي كامل ملامحها، إلا أنه بالفعل يشعر بأنه يتخيل في هذه اللحظة تعابير وجهها :
” وهل يمتلك مولاي اعتراضًا يا ترى ؟؟”
نظر لها نظرات صغيرة يبتسم بسمة خافتة :
” لا آنسة كهرمان أنا لا امتلك اعتراضًا أبدًا، بل لهو شيء جميل أن تصاحبي الملكة، فهي لا تمتلك رفقة هنا ”
هزت رأسها بهدوء، وحقًا هي لا تعترض على ذلك فتبارك فتاة جيدة، تحبها وتشفق عليها من وحدتها التي أُرغمت عليها .
أكمل وهو ينظر لها بهدوء وقد أطال التحديق في موضع عيونها خلف الغطاء :
” من يعلم، ربما تساعدينها في تعلم تصرفات الاميرات التي تتقنيها كما لو أنكِ كنتِ أميرة في حياتك السابقة ”
نظرت له بعدم فهم ليبتسم وهو يقول بهدوء :
” وايضًا الفروسية، أنتِ جيدة حقًا في كل ما يخص الاميرات، خسارة أنكِ لستِ واحدة منهن ”
ختم حديثه ثم هز رأسه لها يقول ببساطة وصوت خافت وبسمة خبيثة تحت نظراتها المصدومة :
” والآن اعذريني فهناك مكتبة أثرية يعود تاريخها لمئات السنين عليّ إنقاذها من يد عجوز ينافس المكتبة عمرًا ”
وبهذه الكلمات ختم إيفان حديثه، ثم تحرك بهدوء بعيدًا عنها تاركًا إياها لا تفكر سوى في شيء واحد .
كلمات الملك تلك لا تدل سوى على أمرٍ واحد، يلمح لهويتها الحقيقية، وهذا يعني أنه ربما اكتشف هويتها، إن لم يكن تأكيدًا للأمر .
_______________________
اصوات تتعالى في السوق وصرخات تتقاذف بين الرجال به، لا شيء يعلو فوق صوت الاعتراضات، فقد اقتحم بعض رجال بافل السوق الشعبية في مشكى في محاولة للاستيلاء على البضائع وحصرها عليهم هم لتكون لهم اليد العليا .
وما بين رافض ومقاوم كانت المعركة، ورجال سالار بقيادة أحد كبار الجيش والمسنى ” المعتصم بالله ” تدخلوا بالفعل وقد كانوا لهم بالمرصاد .
وها هو أحد رجال بافل يقف متحفزًا أمام منافس قوي يحاول منعه عن سلب اشيائهم الخاصة، ولم يكن هذا المنافس المرعب إلا صبي صغير يقف أمامه يحمل بين يديه عصى وهو يصرخ بجنون في وجه الرجل :
” أرضك ؟؟ أرض من يا حثالة ؟؟ هذه ارضي وأرض ابائي واجدادي واجداد أجدادي، من أنت ومن هم أجدادك؟!”
ختم حديثه يتجهز ليضرب الرجل بالعصر، بينما كان الاخير متحفزًا بسلاحه وهو يجيبه :
” قلت لك ابتعد عن طريقي ودعني أمر من هنا ”
أبى الصغير أن يتحرك حتى رفع الرجل سيفه في الهواء وفي نيته الهبوط به على وجهه، لولا أن لمحه المعتصم بالله والذي كان يرتدي ثياب العامة .
ركض المعتصم يجذب الصبي له وهو يقول بصوت مرتفع جهوري مخيف :
” مالك والصغير يا هذا ؟! هيا أرحل من هنا ولا تشرد عن قطيعك مجددًا كي لا تلوكك الأسود ”
نظر له الرجل وود لو يصرخ في وجهه وينقض عليه، لكن بالنظر للبنية الجسمية للمعتصم والتي كانت ضخمة بحق، ابتلع اعتراضه ورحل متوعدًا بالعودة ليبتسم المعتصم بسخرية، يقول بصوت مرتفع يلاحقه :
” نعم توعد لي واذهب لجمع باقي الخراف وتعالوا لتموئوا جوار رؤوسنا، لعنة الله عليكم جميعًا ”
صمت، ثم استدار للصغير يربت أعلى كتفه يقول ببسمة واسعة :
” أحسنت يا صغير، ما اسمك ؟!”
نظر الصبي لعيونه يقول بقوة :
” تاج الدين ”
” بارك الله بك يا صغيري، هيا اذهب لوالدتك يا بطل واحمها إن استدعى الأمر ”
ابتسم له الصبي يلقي العصى ارضًا، ثم تحرك صوب الخيمة التي تجلس بها والدته لبيع بعض الأغراض والتي كان يريد رجل بافل أن يأخذ ما بها من غلال .
في تلك اللحظة نظر المعتصم حوله يطمئن على أماكن رجاله، لتقع عيونه على جسد يتشح بالسواد يتحرك من خلف الخيام، كان الجسد كالاشباح يتحرك بخفة، ثم توقف فجأة وأشار له .
نظر المعتصم في المحيط قبل أن يلحق ذاك الجسد دون أن يلحظه احدهم، وحين وصل له، ابتسم يقول بصوت خافت واحترام شديد :
” سيدي ..”
نظر له سالار ثم قال بصوت منخفض :
” ما هي الأحوال هنا ؟؟”
” كل شيء بخير سيدي، لكن كالعادة بافل لا يهدأ، فهو لا يفتأ ينشر العديد من الفتن بين شعوب مشكى، ومن ثم فإنه ينشر أكاذيب حول انضمام عدد كبير من رجال مشكى له فقط كي يحبط عزيمتهم ”
هز سالار رأسه هزة صغيرة قبل أن يقول :
” حسنًا اهتم بالامور هنا، و… أريدك في شيء آخر معتصم ”
نظر له المعتصم بفضول، و سالار حدق حوله قبل أن يقول بجدية :
” اجمع لي اكبر قدرٍ من رجال مشكى الذين على استعداد للانتفاض والاعتراض على ما يحدث، اجمع لي كل من يحشد غضبًا داخله الرجال والشباب وأخبرني حين تنتهي من الأمر وفي اسرع وقت …”
______________________
” أنتِ تتقدمين مولاتي وهذا أمر يحسب لكِ، فقط لو تتعلمين كيفية وضع السهام في القوس، سأموت راضيًا ”
نفخت تبارك باستهانة لتلك المهمة وهي تعطيه القوس كي يضع به سهم غير الذي ألقته منذ ثواني :
” لعلمك الأمر سهل، أنا فقط من اترفع عن تعلم ذلك ”
” أوه نعم، أدرك هذا مولاتي ”
ختم حديثه بسخرية، ثم تحركت عيونه صوب زمرد التي كانت تتوسط أحد الأركان في الساحة تراقب ما يحدث بأعين حادة وكأنها استبدلت السهام بنظراتها وأصبح هو هدفها الحي .
أدعى دانيار عدم الاهتمام وهو يمد يده بالسهم للملكة :
” مابها صديقتك مولاتي؟ تبدو غاضبة ”
نظرت تبارك حيث يشير هو بعيونه لترى أنه يقصد بحديثه زمرد فابتسمت تقول بجدية، تركز على الهدف :
” اااه لا تهتم، زمرد طوال الوقت غاضبة، ثم أليس من المفترض أنها رفيقتك ؟؟”
ختمت حديثها تطيل النظر في الهدف وقبل ترك السهم انتفضت على صرخة دانيار مما جعلها تترك السهم دون وعي ليطير في السماء ويهبط على الشجرة متسببًا في طيران العصافير بعيدًا .
” مــــــــاذا ؟؟ رفيقتي ؟؟ من أخبرك بذلك؟ هل هي من فعلت ؟؟”
كان يتحدث بصدمة لتنظر له تبارك بحنق شديد :
” لا هي لم تفعل، هي لم تقل سوى أنك شخص مزعج، وأنها ستأتي فقط لتنتظرني ”
ختمت حديثها تنظر بجدية صوب زمرد والتي لم تنزل عيونها عن دانيار، ومن ثم اقتربت من الاخير تهمس بصوت خافت :
” اعتقد أنها لا تطيق وجودك بالقرب منها ”
” أوه كان هذا في غاية اللطف حقًا، شكرًا لكِ مولاتي ”
حملت تبارك القوس والسهم ومدتهم له تقول ببسمة لطيفة :
” لا حاجة للشكر أنا فقط اخبرك ما قالته هي، والآن ضع لي السهم واصمت رجاءً كي لا تشوش عليّ تدريباتي ”
نظر لها دانيار بغيظ شديد، يضع السهم ثم أعطاه لها، ومن ثم تحرك بهدوء مستغلًا الساعة التي ستظل بها تبارك شاردة في الهدف قبل أن تقرر أنه حان وقت إلقاء السهم، ليذهب إلى زمرد علّه يعلم ما بها .
نظر نظرة أخيرة لتبارك ليجدها كما هي، حقًا إن اتبعت هذا الأسلوب في الحروب فسيمتلئ جسدها بالسهام قبل أن تقرر هي ترك سهمها الاول .
على كلٍ لم يهتم وهو يقترب من زمرد والتي حين أبصرت اقترابه أبعدت عيونها عنه تدعي أنها لا تهتم، وهي في الحقيقة تهتم وتهتم وتهتم .
” مرحبًا ”
رفعت نظرها له تقول بصوت عادي :
” مرحبًا ”
” ما الذي تفعلينه هنا ؟؟”
” بالتأكيد لا أزعج عيوني بالنظر لوجهك، أنا فقط انتظر أن تنتهي تبارك مما تفعل كي نرحل ..”
رفع حاجبه ساخرًا ”
” حقًا ؟؟”
” نعم ”
تنهد دانيار بصوت مرتفع، ثم قال :
” إذن ألن تخبريني متى زفافنا أم تريدين مني انا تحديد الموعد ؟؟”
” لا أدري أنا ..ماذا ؟؟ زفاف ؟؟ أي زفاف هذا ؟؟”
رفع حاجبه يجيب ببساطة :
” اعتقد أنني أخبرتك للتو، زفافنا ”
رمقته بحنق شديد :
” يا بني، توقف عن احلام يقظتك تلك وانظر حولك لا شيء في هذه الحياة قد يجمعنا سوى تلك الليالي من المبارزة ”
” والسبب ؟؟”
كلمة صغيرة تركها لها وهي اطالت النظر به لا تعلم ما يجب قوله، وهو فقط ينتظر منها إجابة تهدأ روعه، لكن هيهات أن ينال إجابة ستقتلها قبل أن تخرج منها .
ابتعدت عيونها عنه تقول بحنق تحاول إخفاء وجعها خلفه :
” لِمَ لا تعترف فقط أنك لست بهذه الروعة لدرجة تصبح صعب الرفض ؟؟”
” أنا كذلك بالفعل لا داعي لقول غير ذلك ”
اتسعت عيون زمرد ليبتسم هو لها يقول بجدية مشيرًا صوب نفسه يقول بكل صراحة واستفزاز لها :
” يا ابنتي انظري الله، وسيم قوي ذو مكانة مهيبة في المملكة، الكمال لله وحده، لكنني ببساطة كامل لا تشوبني شائبة، وإن رأيتي بي عيبًا، فلعل العيب في عيونك، وفيما يخص رفضك فهو مرفوض، إما أن تأتيني بسبب مقنع لرفضك وحينها سأبتعد ولن اجبرك، أو اعتبره مرفوضًا ”
انتفضت عن مكانها تصرخ في وجهه وقد ملت، ملت حقًا هذه اللعبة هل يحاول إجبارها على الزواج به !! يحاول إجبارها على حبه ؟! هي تفعل لكنها لا تحب أن يفرض أحدهم شيئًا عليها :
” أخبرتك أنني لا أراك زوجًا مناسبًا ”
ناطحها دانيار بقوة رافضًا أن ترفضه، ليس بعدما تخلى عن فكرة الوحدة الأبدية لأجلها، تأتي وتخبره أنه ليس مناسبًا، تبًا لها هو مناسبٌ لها رغم أنفها وأنف الجميع، لا أحد مناسب لها بقدره، ولا أحد سيحسن التعامل مع أمثالها مثله، لذلك قال وهو يضغط على أسنانه ردًا تلى سببها السابق ذكره :
” وهذا ليس سببًا مقنعًا لي، أعطني سببًا يجبرني على احترام رغبتك والابتعاد ”
نظرت له وقد بدأ وجهها يحمر، لكن لم يظهر ذلك من أسفل اللثام، تهتف بغضب شديد :
” إذن للجحيم، لست مضطرة للبحث عن سبب ابرر به رفضي لك ”
في هذا الوقت كانت تبارك قد أصابت الهدف بالفعل وهي تشير له تحاول جذب انتباه أحدهم لتحتفل بانتصار آخر، لكن يبدو أن أحدًا لا يراها من الأساس .
” السهم أصاب الهدف يا دانيار …انظروا لقد اصابه في المنتصف بالتحديد و…”
صمتت وهي تجد أنهم لا ينظرون لها حتى.
وقد بدأ جسد دانيار يهتز غضبًا :
” حينما أرى رفضًا لمجرد الرفض والعناد بينما عيونك تصرخ بالقبول، فصدقيني لن أقبل برفضك، فإما أن تتحلي بالشجاعة وتلقي سبب رفضك في وجهي أو أن تهربي بكل جُبن كعادتك ”
أصاب زمرد غضب شديد وهي تنظر له يعجز، كيف تخبره ؟؟ تخبره أنها ابنة زعيم المنبوذين واخته لبافل؟؟ صمتت حتى ركضت من أمامه بغضب شديد ليصرخ هو في أثرها :
“أيتها الجبانة ”
ضرب الأرض بغضب شديد يحمل معطفه عن الارض وهو يغادر الساحة غاضبًا، وخلفه تبارك التي ما تزال تحمل القوس وهي تشير صوب الشجرة تقول :
” السهم أصاب الهدف دانيار …”
لكن كان المتلقي لا أحد، زفرت تبارك وقد أضحت وحدها في المكان، نظرت حولها تحاول البحث عن شيء تفعله قبل أن تلقي السهم ارضًا وتتحرك بملل وتعب وصوب القصر، ها هي لا شيء تفعله هنا، ربما تذهب للبحث عن كهرمان التي اختفت فورما خرجوا
من المكتبة .
وها هي تسير وحدها بين طرقات القصر تبحث عما تشغل به نفسها قبل أن تعود للبحث عن الفتيات، فقط تشرد مع نفسها دون أن تزعج احدهم، وهذا الشعور داخلها الذي يخبرها ألا تعتمد كثيرًا على البعض حولها كي لا ينزعجوا منها لا ينفك يصيبها .
بينما هو تحرك داخل القصر بعدما ترجل عن خيله، يدور بعيونه في المكان، حسنًا غيابه كان طويلًا وهذه المرة الأولى له التي يختفي بها بعد عودته من رحلة إحضار الملكة، فقد كان سابقًا غير معتاد على البقاء وقت طويل في القصر، بل كان يتحين الفرص للأعنزال بنفسه، والآن انظروا إليه، قيدته الملكة جوارها في القصر فقط كي يتأكد أنها لن تتورط في مصائب، لكن لا بأس ها هو بدأ يشرد في سمائه الخاصة مجددًا .
لكن وقبل أن يحلق أكثر سمع الكلمة التي يعلمها جيدها ويألفها أكثر من أي شيء في المكان :
” يا قائد…يا قائد ”
نظر سالار جواره ليجد تبارك تهرول صوبه من إحدى الجهات التي لا يعلم هويتها، هل كانت تلك المرأة تجول في حدائق القصر المليئة بالاشواك ؟!
لكن تبارك لم تهتم وهي تتوقف امامه مبتسمة :
” مرحبًا يا قائد ”
أجابها سالار بحذر شديد :
“مولاتي ..”
ابتسمت تقول بحماس شديد وهي تشير صوب الجهة الخاصة بساحة القتال وقد تلاشى ذلك الشعور الذي كان يراودها منذ ثواني، لا تدري كيف لكنها لا تشعر معه أنها يجب توخي الحذر كي لا يمل رفقتها، هو من الأساس يمل رفقتها لكن ذلك لا يهمها كثيرًا :
” ما رأيك بمبارزة؟! لقد تعلمت تقنيات جديدة مع نفسي تريد رؤيتها ؟!”
نظر لها سالار ثواني قبل أن يتسع ثغره عن بسمة صغيرة ساخرة يقول :
” انظروا لمن يتحين الفرصة للقتال بعدما كان يُجر جرًا لساحة القتال ؟؟”
نظرت له تبارك ثواني تحاول أن تفهم الجملة داخل عقلها، حتى ابتسمت بسمة صغيرة سرعان ما انقلبت لضحكة، تقول من بين ضحكاتها :
” ربما هذه لعنتك القيتها عليّ، من بين جميع المهارات بت اعشق المبارزة، واحب تطوير نفسي بها”
قالت بتفكير وجدية وهي لا ترى نظراته صوبها :
” ربما السبب يكمن في رغبتي الداخلية لهزمك واذاقتك مرارة الهزيمة على يدي ”
ابتسم لها سالار بفخر لما يرى أمامه، يبدو أنه نجح في إنشاء جندي آخر محب للقتال، لكن هذا الجندي مختلف عن غيره من الجنود خاصته، هذا الجندي امرأة و…الملكة .
نعم الملكة وهذا السبب الذي يجب أن تتذكره جيدًا .
ورغم رغبته الشديد في السخرية من جملتها السابقة إلا أنه تجاهل أحلامها الوردية تلك، وتنهد بصوت مرتفع يقول :
” اقدر حماسك الشديد مولاتي، لكن لا اعتقد أن قتالًا الأن معي ممكنًا فأنا للتو عدت من الخارج ”
صمت ثواني حين رأى خيبة الأمل تعلو وجهها والحزن يسطر ملامحها ليقول دون تفكير :
” مولاتي ”
نظرت له بأعين حانقة ليقول بجدية :
” في خضم كل هذه القتالات إياكِ أن تهملي الجزء الخاص بحياتك الخاصة، لا تهملي الفتاة داخلك لأجل قوتك مولاتي ”
نظرت له تبارك بعدم فهم ليبتسم هو لها بتشجيع ولا يعلم السبب لكنه شعر أنه عليه أن يخبرها هذا، يدرك أن لا أحد هنا قد يخبرها هذه الكلمات، وذلك الشعور الغبي الذي سيؤدي لتهلكته يخبره أنها مسؤولة منه هو، هو أحضرها من حياتها والقاها في هذه الحياة التي لا تفقه بها شيء، إذن فهذه مسؤوليتك أنت أن تحذبها صوب الشاطئ .
” أنا فخور بكِ جلالتك، بل أكثر من فخور ”
التمعت أعين تبارك بقوة لهذه الكلمات والتي لا يخرجها سالار لايٍ كان، وهو ابتسم لرؤيته تلك اللمعة فأكمل :
” أنتِ من أكثر التلاميذ الذين أفخر بهم، لكن سأخبر جملة أخبر بها الجميع، كونك محاربًا … مقاتلًا بارعًا، لا يعني ألا تكون أبًا جيدًا، أخًا جيدًا، ابنًا جيدًا، لا تدع دورك كمقاتل يلغي دورك كإنسان، وهذا ما يجب عليكِ فعله ”
نظرت له تبارك تتحدث بصوت منخفض :
” لكنني لست كل هذا، أنا لست أي شيء من هذا، ولم أكن يومًا، فما المانع لأكون مقاتلًا رائعًا وأغطي النقص في ذلك الجزء ”
اوجعته كلماتها وهو الوحيد الذي يشعر بها في هذه اللحظة، فقد والديه وفقد جميع أفراد عائلته ليلقوا به في القصر كي يعمل ويجتهد حتى وصل لما هو به، لكن على الأقل لديه جنوده ورجاله، ورفاقه.
ابتلع ريقه يقول بصوت خافت وهو يميل بعض الشيء في وقفته كي يصل لطولها، دون أن يتخطى المسافة الآمنة بينهما :
” إذن كوني صديقة جيدة، وتلميذة نجيبة واطيعي كلمات معلمك، حسنًا ؟؟”
نظرت له ليبتسم هو بسمة صغيرة يستقيم في وقفته يقول :
” هناك الكثير يمكنك القيام به داخل القصر مولاتي، تحركي واستكشفي اماكن جديدة هنا وهناك، تمتعي برفقة، لكن احترسي ”
ختم حديثه يستأذن منها للرحيل وهي راقبته قبل أن تقول بغيظ :
” لِمَ لا تقول ببساطة أنك تهرب من مواجهتي ؟؟ تحشى الخسارة امامي ”
ختم حديثها تضع يدها أعلى جبينها تقول بحنق :
” يا الله هل وصلت للمستوى الذي يجبر الجميع على تلاشيّ كي لا يتجرعوا مرارة الخسارة على يديّ ؟؟”
كان هو يحدق فيها بأعين متعجبة قبل أن ينفجر دون أن يتمالك نفسه في الضحك بصوت مرتفع على نظراته وتلك الثقة التي تتحدث بها، كانت ضحكاته ساخرة من كل ما سمع :
” يا ويلي، أنتِ حقًا لن تتغيري ”
هز رأسه يتحرك تاركًا إياها لا يصدق ما تفعل تلك المرأة خلفه، وهي تتابعه بنظراتها تشير بإصبعها محذرة :
” لا تقل أنني لم أحذرك يا قائد، يومًا ما ستنفذ حجج هروبك مني، ولن تجد لك مفر ”
ختمت حديثها وهي تنظر حولها وقد شعرت فجأة بشعور جيد، هي ربما ليست بالشيء الثقيل على صديقاتها، هن يحبننها وخاصة زمرد التي تحب القتال معها، وكهرمان اللطيفة وكذلك برلنت، إذن عليها أن تأخذ بنصيحة القائد وتذهب لتمارس حياتها كإنسان بعيدًا عن كونها مقاتلًا بارعًا مخيفًا يهابه سالار و الجميـ
لكن وقبل أن تطأ القصر أبصرت العديد من النساء يتحركن صوب بوابة القصر، رمقتهن بتعجب وهي تتحرك صوبهن بفضول شديد تتساءل :
” معذرة، لكن هل يمكنني السؤال عن المكان الذي تقصدونه ؟؟”
نظرت له إحدى الفتيات بتعجب وهي تقول :
” لسوق العاصمة، هذه إجازتنا وسنذهب للتسوق ”
التمعت أعين تبارك وهي تشعر بالشوق ينبثق داخلها صوب تلك الحاجة الأنثوية الملحة والتي لم تمارسها منذ تركت حارتها، فرغم أن تسوقها انحصر على محل العم ابو محمد، وخضار الست أمينة، إلا أنها كانت تستمتع بلحظات الحيرة وهي تفكر أين ستبذر العشرة جنيهات هذا اليوم، حتى تقرر شراء بعض المعكرونة وتعود للمنزل .
والآن ودون تفكير سارت خلف النساء تخرج من القصر دون أموال ودون معرفة بشيء، هي قررت فقط وبكل تهور وبرغبة نابعة من الشعور بالحرية خارج أسوار السوق، أنها ستذهب معهم وتعود معهم .
وهذا ما حدث .
________________
تحرك بهدوء صوب المحكمة يدرك أن الوقت لا بد وأنه حان لعرض والد برلنت على الملك، أو ربما بالفعل تم عرضه، لا يعلم لكن ليرى .
وصل ودخل بخطوات هادئة رزينة ليجد أن أحد قادة جيوشه ” تميم ” يمثل أمام الملك وجواره يقف والد زوجته .
تحرك دون إصدار صوت صوب مكانه في القاعة وحين استقر تحركت عيونه صوب إيفان الذي كان يتفرد بالعرش كما يليق به .
ابتسم يتخيل أن الملكة في الخارج تبحث عن شيء تلهو به وعرشها هنا خالي، ليتساءل وبكل جدية، هل هي بالفعل ملكتهم ؟!
وهذا سؤال يجب أن يتأكد من إجابته عند العريف بعدما ينتهي كل ذلك، فقد بدأ يشك بالأمر.
رفع عيونه ببطء ليجد أن الأمر بدأ لتوه، إذ أخذ إيفان يتحدث بهدوء شديد دون أن يبرز في نبرته أي تحيز أو تعاطف أو غيره .
” إذن تميم، أخبرنا والد زوجتك أنك طلقتها، وخلال هذا الوقت قام هو بتزويجها لرجلٍ آخر، لتتعدى أن على حرمة زواجها وتتزوج امرأة متزوجة ”
ارتفع حاجب سالار يراقب ما يُقال، هذه تهمة إن صدقت _ وهو متأكد أنها ليست كذلك _ فعاقبها ليس بالهين، فهذا لم يتعدى على شيء عادي، بل تعدى على حدود الله وهذا له حدّ لا يتحمله الكثيرون .
رفع تميم رأسه صوب الملك يضم كفيه أمامه يفرد ظهره بقوة دون أن يرمش أو يحني هامته :
” بل هي زوجتي منذ كتبها الله لي مولاي، زوجتي لم تترك عصمتي إلا ليوم واحد فقط وقمت بردها في اليوم التالي”
صرخ عبدالله ( والد برلنت ) بغضب شديد يحاول دفع التهمة واللوم بأكمله صوب تميم :
” هو كاذب، لقد طلقها وما له من رجعة مولاي، لقد كان عقد زواج وابنتي ما تزال بكر، فمن أين ردها وهي لا عدة تعتد بها ؟؟”
نظر له تميم نظرات مخيفة وقد بدأ جسده يرتجف بغضب، كل ذلك تحت نظرات إيفان الهادئة بشكل كبير والذي تناسى في هذه اللحظات مكانة تميم لديه .
نظر صوب تميم يقول :
” اتمنى أنك تمتلك ردًا لهذا الإتهام تميم ”
أبعد تميم عيونه عن الرجل ينظر الملك يقول بصوت قوي لا يهتز مقدار شعرة لا يعلم سبب ما يفعل عبدالله، وسبب إصراره على اتهام ابنته واتهامه هو :
” مولاي، بالفعل زوجتي كانت في ذلك الوقت بكر فأنا عقدت العقد عليها وهي بسن صغير، لكن ما لم يذكرخ العم عبدالله أنه ولمدة أسبوعين ترك زوجتي في منزلي، حين سافر مع زوجته، وهذه وحسب شرع الله تُسمى خلوة ولو لم يتم الزواج الفعلي، والشرع في هذه الحالة ينص على أن زوجتي في ذلك الوقت كانت تمتلك عدة تُسمى عدة احترازية، وأنا رددتها خلال هذه العدة، بل لم امكث أن رددتها في اليوم التالي لوقوع الطلاق الرجعي ”
ختم حديثه ثم نظر صوب الشيخ الخاص بالقصر يقول بصوت هادئ :
” هل أخطأت يا عم ؟؟”
هز الشيخ رأسه بهدوء شديد يقول بتأكيد :
” لم تخطأ يا بني، بارك الله فيك ”
ابتسم تميم بسمة صغيرة، لكن ما كان عبدالله أن يستسلم الآن، إذ انتفض يقترب من العرش وهو يصرخ :
” وما ادراني أنا ؟؟ كيف أعلم أنه ردها ؟! هو لم يخبرني . ”
ابتسم تميم يقول بصوت خافت :
” شرعًا يمكنني رد زوجتي لعصمتي دون علمها طالما كانت في عدتها، ورغم ذلك لقد هرولت كي أخبركم أنني رددت زوجتي لعصمتي يا عم، لكن لم أجد أحدًا منكم، لذا سارعت لإمام المسجد وأخبرته أن يبلغك حين رؤيتك أنني رددت زوجتي، وبالفعل بعد شهرين أخبرني الشيخ أنه قابلك صدفة في أحد أسواق قرية مجاورة واعلمك أن برلنت ما تزال زوجتي وقد رددتها لعصمتي، وحين ذهبت لاحضرها لم اجدكم هناك كذلك ”
بُهت وجه عبدالله يتراجع للخلف وقد شعر بحبل كذبه يلتف حول رقبته، تنفس بصعوبة وقد جف حلقه، نظر حوله يشعر أن المكان يدور به، جاء ليوقع تميم فوقع هو في شر أعماله.
في هذه اللحظة كانت تقف هي في نفس الغرفة التي أخفى فيها سالار زمرد وكهرمان سابقًا، تقف وهي تتابع تلك المبارزة الكلامية بين والدها وزوجها، الخاسر منهم ستفقده، تشعر أنها بين المطرقة والسندان .
سقطت دموع برلنت بقوة حين سمعت كلمات والدها المتهمة لتميم، بعد هذه السنوات لم يتوقف عن جرحه، بكت بين أحضان زمرد التي ضمتها وهي تراقب والدها بغضب شديد، صورة قذرة أخرى للأباء، يا الله هل احضروهم لهذه الحياة فقط كي يقتلوهم حزنًا .
ربتت عليها زمرد تهمس لها بحنان :
” لا بأس حبيبتي، لا بأس هنا من يدافع عنك، تميم لن يتركك برلنت، اطمئني ”
وكم اشتهت زمرد في هذه اللحظة ضمة كتلك وكلمات كهذه، أحدهم يخبرها أن هناك من يدافع عنها، هناك من سيقاتل لأجلها، لكن هي وحدها في هذه الحرب دون غطاء حماية أو حليف .
كانت عيون كهرمان تتحرك من تميم ووالد برلنت صوب إيفان الذي لم تستطع أن تتجاهله أكثر، نظراته الهادئة الغامضة تلك تخيفها وبشدة، و…تثير افتتانها الآثم له .
قال إيفان بصوت قوي :
” هل ما قال تميم صحيح سيدي ؟؟”
نظر عبدالله حوله وهو يحاول الحديث بكلمات، لكن أنّى له وقد خذلته كلماته وتخلت عنه في هذه اللحظة، نكس رأسه للأسفل وهو يستمع لكلمات إيفان التي كررها بصبر :
” إن كنت تمتلك كلمات تدافع بها عن نفسك سيدي فلتفضي بها …”
لكن ما سمع منه كلمة، ليكرر عليه إيفان للمرة الثالثة :
” إذا كان هناك ما قد يخفف عنك الحكم، فلتخبرنا به رجاءً ”
والصمت كان مجددًا ردًا على كل اسئلة إيفان، هز إيفان رأسه يقول بصوت قوي مرتفع بعض الشيء :
” إذن جرائمك يا سيد أنك تخطيت حدود الله وزوجت ابنتك المتزوجة لرجل آخر رغم معرفتك أنها متزوجة”
دافع عبدالله عن نفسه بسرعة وهو ينفي تلك التهمة :
” لم أفعل يا مولاي…لقد كذبت أنا فقط حدثته بأمر الزواج ولم يتزوجها بعد ”
رمقه إيفان بنظرة حادة وهو يمنعه من الحديث :
” انتهت فرصتك للحديث، والآن لا تقاطعني رجاءً”
صمت عبدالله ليكمل إيفان بهدوء :
” بالإضافة أنه حتى وإن لم تكن ابنتك متزوجة من تميم فأنت تعديت حدود الله برغبتك في تزويجها دون معرفتها ودون رضاها وهي ما تزال بكرًا وهذا لا يجوز شرعًا لقول رسول الله ( لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن) لذا وعليه تحول جميع اتهاماتك لإمام القصر وهو من سيصدر حكمه عليك تبعًا لشرع الله دون أن يتم ظلمك ”
نظر له يرى شحوب ملامحه ليكمل :
” أما فيما يخص تطاولك على حرمة المسجد وأثارت البلبلة وتعديك على الملكة ودفعها، فكل هذا سيتم النطق به بعد معرفة حكمك الاول من الإمام ”
صمت ثم قال بهدوء وهو يحدق في جميع الأوجه :
” من كان يعتقد أنني أظلمت في حق الرجل فليعترض ويحضر حجته معه ”
وحين عم الصمت هز رأسه ينهض عن مكانه يقول بهدوء وهو يهبط عن عرشه :
” إذن انتهينا من كل ذلك يا سادة…”
وبهذه الكلمات أنهى هو الجلسة يخرج من المكان بخطوات هادئة قوية تحت أعين الجميع، ولم يحد بنظره عن الطريق، وسالار نظر بجدية صوب تميم ثم اقترب يربت على كتفه :
” مبارك الزواج يا تميم، خذ اليوم فقط إجازة لتؤازر زوجتك في محنتها ”
ورحل ليبدل ثيابه ويعود للتجهيز لما قرر له مع أرسلان، لكن وفي طريق ذهابه حادت عيونه دون إرادة منه لطرقات القصر يبحث عنها باهتمام غير منطوق، لكن لم يجدها، لم يهتم، ولِمَ بفعل حتى ؟؟ ما علاقته بها ؟؟
نفخ بعدم اهتمام وهو يتحرك صوب غرفته، سيبدل ثيابه ويذهب للملك ولن يهتم بها، لا بد أنها تلهو في أحد دروسها و…
تميم ودانيار كانوا معه في الجلسة، إذن ربما العريف ؟؟ لكن العريف ذهب لينتهي مما وكل به من الملك على حد علمه، إذن هل ذهبت تتدرب وحدها أو..المشفى عند مهيار ربما ؟؟
حسنًا ما شأنه هو؟؟ لتذهب حيثما شاءت، هو ليس والدها ليسير خلفها يبحث عنها لحل مشاكلها، بالطبع لا يهتم ..
_____________________
كان يجلس في مكتبه يتذكر ذلك اللقاء الذي أعد له منذ أيام، ذهب ليخطب ودها، وعاد شاحب الوجه مصدوم مما سمع .
ليلا الصغيرة تعاني مشاكل صحية، وهو كل ذلك لا يدرك عنها .
اغمض عيونه بتعب شديد وهو يعيد رأسه المقعد خلفه وما حد يُعاد أمام عيونه .
صدمته التي ظهرت جلية على وجهه بما لا يدع مجالًا الشك أنه كان يجهل تلك الحقيقة، ضربة تلقتها ليلا مبتسمة بحزن :
” لم ادري أنك لا تفعل، لقد …لقد كنت اتعرض لتشنجات على اوقات متفرقة منذ طفولتي، ليس الأمر وكأنني اعترض على مشيئة الله والعياذ بالله، لكنني فقط لا أود خداعك، ولا تقلق لن تكون أول الرافضين لي إن تسبب ذلك الأمر بتراجعك عن فكرة الزواج مني سيدي الطبيب.”
ختمت كلماتها ترميه باكثر نظراتها حزنًا وقهرًا ،ثم تحركت ببطء بعيدًا عنه تاركة إياه يحاول استيعاب الأمر، صدمته لم تكن متعلقة بتقبل مرضها بقدر صدمته أن الصغيرة تعاني من شيء يجهله حتى الآن.
اغمض عيونه يتنهد بصوت مرتفع، قبل أن يبصر باب عيادته يفتح ويدخل منها مرجان الذي انتهى لتوه من معركة حامية الوطيس مع العريف لأجل تلك المهمة التي كُلف بها .
” أنت حقًا لا تستحقها أيها المخادع ”
نظر له مهيار بعدم فهم :
” ماذا ؟؟ ”
لكن مرجان في هذه اللحظة لم يكن في مزاج يسمح له أن يفسر له ما يقصد، هو كان غاضبًا، غاضبًا وبقوة لأنه ظن أن ذلك الرجل أمامه قد يكون مختلفًا عمن سبقوه .
ومهيار ذلك المسكين لا يعي حتى ما يحدث ما يزال يتخبط بين امواج وجعه وصدمته مما حدث، كيف تغافل كل هذه السنوات عن وجع ليلا ولم يدرك عنه شيئًا ؟!
فجأة استفاق على صرخات آتية من أمامه، نظر بعدم فهم ليجد أن مرجان يهيمن عليه وهو يقول :
” لقد …لقد ..لقد ”
عز على مرجان في هذه اللحظة أن يخبره أن شقيقته الصغيرة وثقت به واحبته، عز عليه أن يعري مشاعرها أمامه بهذه الطريقة لذلك صمت فقط .
تنهد مهيار ينهض عن مكتبه وهو يتحرك ليدفع مرجان على المقعد يقول بجدية :
” إذن مرجان، هل ستتحدث لي بهدوء وتخبرني القصة منذ البداية أم ستتعامل معي كشقيقتك، تلقي الحديث في وجهي وتركض ؟!”
نظر له مرجان بغضب :
” وهل تظن أنني سأخبرك بشيء بعدما تركتها وركضت مفزوعًا وكأن مرضها وحشًا سيلتهمك ؟!”
في هذه اللحظة استفز مرجان كل ذرة صبر وهدوء داخل جسد مهيار الذي جذبه عن المقعد بقوة مخيفة جعلته ينهض وهو يواجهه، بينما مهيار حمل مشرطه بسرعة كبيرة يوجهه صوب رقبة مرجان وقال من تحت أسنانه بضيق وغضب :
” اسمع يا دودة الكتب أنت، لست أنا من فر من منزلكم، بل شقيقتك هي من هربت وكأنني سآكلها، دون أن تمنحني فرصة واحدة للحديث، والآن هل ستخبرني ما يحدث بالتحديد وكيف أصل لشقيقتك أم أجري عليك فحصًا تشريحيًا شاملًا ؟!”
اهتزت أعين مرجان وهو ينظر له، ووالله لو قطعه قطع صغيرة ما تحدث بكلمة واحدة، لكن تلك النظرات التي أدرك معناها في عيون مهيار جعلته يدرك أنه ليس مجرد عابر سبيل، بل هو مقيم ويحب شقيقته .
” حسنًا حسنًا سأخبرك، ليلا تـ…..”
قاطع ذلك اقتحام أحدهم العيادة بقوة وهو ينادي بصوت مرتفع :
” مهيــــــــــــــار ”
اشتد غضب مهيار وهو يستدير صارخًا بجنون :
” مــــــــاذ….القائد سالار ؟؟”
قال كلماته الأخيرة بصدمة حين اصطدم بوجه سالار الذي دخل عيادته يقول بقوة وهو ينظر حوله وكأنه سيخرجها من أحد الأركان :
” أين هي ؟؟”
حدق به كلٌ من مهيار ومرجان بعدم فهم، وما تزال كف مهيار ترفع مشرطه على رقبة مرجان .
فتطوع مهيار للسؤال :
” من هي ؟؟”
صاح سالار في وجهه وقد عكف على البحث عنها منذ استشعر غيابها في طرقات القصر منذ ساعات :
” الملكة، أين هي ؟؟ هي تحب المجئ هنا مهيار، هل رأيتها اليوم !!”
نفى مهيار بحيرة وهو يحاول فهم سبب غضب سالار، بينما مرجان نظر له يقول بهدوء وهو يبعد يد مهيار عن رقبته :
” لقد رأيتها للملكة اليوم ”
نظر له سالار يتساءل بنظراته عن تفاصيل هذا اللقاء، ليوضح له مرجان كل شيء منذ دخولها للمكتبة ورؤيتها ما يحدث ومن بعدها رحيلها للتدرب مع دانيار حسب قول الملك .
استمع سالار لتلك الكلمات ورحل عنهما، وبمجرد أن سمعا صوت غلق الباب، عاد مهيار بمشرطه صوب مرجان يقول :
” أين كنا ؟؟ نعم ليلا تـ ماذا مرجان ؟؟”
_____________________
إذن هكذا تكون الأسواق في الممالك، أمر مثير للأهتمام حقًا، المنازل هنا تبدو لها تراثية، وكذلك المباني الشاهقة، المحلات وثياب العامة، أمور تجعل تبارك تشعر بالعراقة .
الأمر يبدو كما لو أنها دخلت قصة كلاسيكية، في هذه اللحظة شعرت برغبة كبيرة بالسير لأيام طويلة ترتشف كما تشاء من هذه الأماكن .
وهذا ما حدث أنها شردت عن الفتيات وهي تبتسم للجميع والجميع يرد لها البسمة بلطف .
وها هي الشمس تعلن رحيلها عن السماء تاركة الأفق تغرق في ظلمتها بعدما تمردت في هذه الليلة على القمر مانعة عنه أي انعكاس لضوئها .
وتبارك التي لم تشعر بالوقت، بدأ الخطر يتسلل لها شيئًا فشيء حين وجدت العديد من المحال تُغلق والبعض ما يزال وقت غلقه لم يحن .
حسنًا تبدو هذه لحظة ملائمة للعودة إلى القصر، والسؤال الآن، كيف تفعل ذلك ؟؟
” أسأل حد ؟؟ ”
لكن يبدو أن حتى ذلك الـ”حد” ليس موجودًا لتسأله، الآن ما المفترض بها أن تفعل !؟ حين كانت تضل طريقها في بلادها كانت تلجأ للبحث عن أقرب محطة مترو أنفاق وتعود سالمة لمنزلها، والآن ماذا ؟
” ممكن يكون عندهم شيء زي المترو طيب ؟! مفيش موقف حتى ؟؟”
هنا وبدأت تشعر بالريبة، هذا الشعور المقيت الذي كانت الحياه كثيرًا، ها هو عاد لها، عاد لها وبقوة، شعور الضلال والوحدة، والذي شعرت به يتلاشى شيئًا فشيء في القصر معهم، أو بالتحديد معه هو، ها هو يتبخر في هذه اللحظة لتنطق بكلمتها السحرية وهي تنظر حولها بخوف :
” يا قائـــــد …”
___________________
” ماذا تعني أنها ليست موجودة في القصر بأكمله ؟! هل انشقت الأرض وابتلعتها ؟! الويل لك إن أصابها مكروهٌ ”
ختم سالار حديثه بشر وهو يرمق جنوده الذين قد وكلهم سابقًا بحمايتها، ليتحدث أحدهم محاولًا تبرير ما حدث :
” سيدي اقسم لك أننا لم نغفل عنها لحظة واحدة، إلا حينما تركناها لتتدرب كعادتها مع قائد الرماة ”
نظر سالار بشر صوب دانيار الذي قال بسرعة :
” ماذا ؟؟ لم يخبرني أحدكم أنني مكلف بمراقبة الملكة كذلك بعد انتهاء تدريباتي ”
عض سالار شفتيه بغضب وهو يزيح خصلاته عن شعره يردد من بين أسنانه:
” هي مجرد ساعات فقط غابت عن أعيني، فتبخرت فيهم، يا الله هي تنتظر أن أحيد بعيوني عنها لتختفي ”
كان دانيار يلاحق بعيونه سالار وهو يفكر في خاطرة ارعبته، لا يمكن أن يكون قائد قد حاد عن طريقه بهذا الشكل، ابتلع ريقه يقول بصوت خافت مقترحًا :
” اعتقد أننا علينا اخبار الملك بالأمر، هو يجب أن يعلم أن الملكة مفقودة ”
نظر له سالار برفض، ولم يكد يتحدث حتى سمع الجميع صوت يأتي خلفهم يقول بدهشة :
” الملكة مفقودة ؟؟ ما الذي تعنيه بالملكة مفقودة ؟؟ ما الذي يحدث هنا سالار ؟؟”
استدار سالار صوب إيفان ببطء وهو يقول بصوت هادئ حاول قد الإمكان أن يصبغه بعملية بحتة :
” الأمر أنني عدت من الخارج لأكتشف أن الملكة ليست موجودة هنا، وبعد بحث أدركت أنها ليست في القصر بأكمله ”
ختم حديثه لتشتعل أعين إيفان يشعر بالذنب يتلبس كامل جسده، طوال اليوم انشغل في المحاكمات والاجتماعات ولم يكلف نفسه عناء السؤال عنها .
نظر لوجه سالار الذي كان شاردًا بعيدًا عن الجميع ليقول :
” بما أنها ليست بالقصر، إذن ربما خرجت دون أن ينتبه لها أحدهم، انشر جنودك في العاصمة بأكملها سالار، لا أود أن تشرق شمس الغد إلا وهي في غرفتها آمنة …..”
_____________________
جائعة ..خائفة …وحيدة، مشاعر كثيرة اختبرتها مئات المرات سابقًا، ولم يكن ليعنيها أن تخوضهم مجددًا لكن، ذلك الشعور بالجوع والذي أصابعها جعلها تهتم، هي لم تتناول طعامها من الصباح وعليه لم تأخذ ادويتها، والآن الخوف يلعب دوره في زيادة مرضها .
نظرت حولها وقد استقرت فوق إحدى المصاطب تضم نفسها على أمل أن يلحظها أحدهم ويأتي لأجلها، لكن هل سيحدث أن ينتبه لها أحدهم، هي حقًا تشعر أنها مجرد اسم يكمل صورة المملكة، لا فائدة ترجى منها .
سقطت دموع تبارك تكرر بعض آيات القرآن فقط لتهدأ من روعها، ودون شعور هجم على رأسها مشهد ضياعها في تلك الغابة، على الأقل كان سالار معها في ذلك الحين .
استندت برأسها على قدمها وقد قررت أن تنام من شدة التعب، ولا تدري إن كانت تلك اغماءة صغيرة أو نوم .
ومن بين واقعها المرير انبثقت أحلامها لتؤنسها، وجاء هو ليضمها بحب وحنان، حتى وإن كانت تلك الضمة حلمًا، لكن يكفيها أنه هنا جوارها.
كانت تبارك تجلس بين أحضان سالار الذي ضمها له يهمس بحنان شديد :
” أنا هنا دائمًا لاجلك، أنتِ لستِ وحيدة اميرتي ”
رفعت تبارك عيونها له تقول بصوت خافت تطيل النظر بملامحه :
” أنت…لم تعد تحدثني بتلك اللغة ؟؟”
ابتسم يقول بخفوت :
” الفارسية ؟؟”
هزت رأسها ليضمها له بحنان :
” حسبت أنكِ لا تحبينني أن أفعل، فقررت أن أجد نقطة تلاقي لنا ”
” وهل تجمعنا نقطة تلاقي ؟؟”
نظر في عيونها يهمس بقوة وحنان:
” وإن لم تفعل، سأخلق نقطة تلاقي لنا، سأفعل إن اضطررت فقط واجدك اينما كنتِ مولاتي …”
” مولاتي …مولاتي ..تبارك ”
نفس الصوت الهامس الخافت المصاحب لاحلامها، لكن في هذه اللحظة لم يكن الصوت صادرًا من رأسها، بل كان آتيًا من الخارج .
فتحت تبارك عيونها بصعوبة تحاول النظر بمن يجلس القرفصاء أمامها، ليقابلها وجه سالار القلق، ظنت أن هذا حلم آخر لها، فما كان لسالار أن يقلق لأجل أحدهم؛ لذا أغمضت عيونها مجددًا .
وهو همس لها بقلق اكبر :
” تبارك أنتِ بخير، ارجوكِ أخبريني أنكِ كذلك ”
نظر حوله لبعض رجاله الذين جاءوا للبحث عنها معه في هذا الجزء من العاصمة، بينما الملك أخذ جزءًا آخر وذهب لمناطق أخرى للبحث عنها وهو يلوم نفسه ويجلدها بسياط الندم .
للمرة الأولى يشعر بالخوف، الخوف الشديد وهو يرى جسدها متكوم بهذا الشكل كصغيرة تركوها في العواصف لتواجهها وحدها .
همس يقول بصوت خافت :
” تبارك، أخبريني فقط أنكِ بخير رجاءً”
لكن تبارك في هذه اللحظة كانت استسلمت من التعب، وكأن طاقتها التي اهدرتها في السير طوال اليوم لم يتبقى منها سوى قطرات صغيرة ضاعت على خوفها منذ دقائق.
ابتلع سالار ريقه قبل أن ينهض ينزل سيوفه وهو يمدها لأحد الرجال خلفه بصوت قوي لا يمت لذلك الصوت الحنون الهامس بِصلة :
” أحمل هذا عني”
وحين امسك منه الجندي السيف، مال سالار بنصف جسده يحملها له بقلق شديد وهو يدعو الله أن تكون بخير وألا يكون ذلك بسبب حالتها الصحية .
تحرك بها صوب حصانه وهو يناديها بقلق :
” مولاتي ..تبارك هل تسمعينني ؟؟”
لكن لارد، والآن هو في ورطة، كيف يأخذها معه للمنزل وهي ليست واعية، كيف سيأخذها، نظر حوله يبحث عن عربة تساعده، لكن لا شيء .
ابتلع ريقه يستغفر الله وهو يقول بصوت خافت :
” يا الله يا مغيث ..”
نظر صوب حصانه ليطلق صفيرًا فيقترب الاخير منه بسرعة وهو رفع يديه يضع جسده تبارك الهزيل على الحصان، ثم قفز بسرعة خلفها، يحاول تلاشى أي لمسات بينهما، يستغفر ربها ثم نظر للجنود يقول :
” ليذهب أحدكم بحثًا عن الملك ويخبره أننا وجدنا الملكة وفي طريقنا للقصر ”
انطلق بحصانه بسرعة وهو ينظر كل ثانية لجسد تبارك يتأكد أنها بخير، ثم يزيد من سرعة حصانه يتوعد لها :
” ما الذي اخرجك من القصر أيتها الكارثة ؟! اقسم أنني فقط …”
صمت يتنفس بصوت مرتفع :
” أنا فقط أشعر أنني عندما ذهبت لاحضارك للبلاد، كنت أذهب لاحضار وجع الرأس لنفسي، سامحك الله تبارك ”
وتبارك التي كان جسدها مُلقى على الحصان أمامه، كانت لا تعي بكل ذلك، بل كانت في جوله مع سالار داخل احلامها، وذلك السالار هناك كان مبتسمًا لطيفًا يضمها له بحنان شديد، وهي بالمثل استندت برأسها على صدره تضم نفسها له بحنان تهمس بصوت خافت دون شعور بنفسها :
” أنا أحبك…”
وفي الواقع لم تقتصر تلك الهمسة أو الضمة على احلام تبارك، بل تعدت حدود أحلامها، واقتربت برأسها من قدم سالار تستند عليها تضمها بشكل جعل جسد سالار ينتفض بعنف للخلف حتى كاد يسقط على ظهره يبعد يدها عنه بصدمة كبيرة، رافضًا أي لمسة لها وهو يتمتم :
” يا الله يا مغيث، ما بكِ يا امرأة، استغفر الله، هذه المرأة لا تتحكم بنفسها خلال نومها و….”
فجأة توقفت الكلمات على حدود فمه حين سمع همستها التي أصابت منتصف صدره بكل براعة، همسة جعلته يحدق أمامه بأعين متسعة وصدمة كبيرة وهو يسمعها تهمس له :
” أحبك ….”
___________________
رُب كلمة تغير حياتك …
يتبع…
تلك الكلمة الغريبة التي صدرت من بين همساتها الغير واعية كانت لها مفعول السحر على قلبه، حاول سالار التنفس وهو يقبض بيد على اللجام الخاص بحصانه، ثم تحرك كفه الآخر بكل تلقائية دون شعور منه يستل خنجره من حافظته، ومن ثم دسه بين رأسها وقدمه التي اجارت عليها دون وجه حق ودون أن تمنحه حق الاعتراض حتى، رفع رأسها ببطء بعيدًا عنه، وهو يبطئ من حركة الحصان .
وضربات قلبه قد تسارعت بشكل خطير :
” يا الله يا مغيث، ما نوع الأحلام التي تجعلك تنطقين هذه الكلمة بهذه النبرة ؟!”
زفر بصوت مرتفع، ثم دفعها واخيرًا عنه، وحين استقرت رأسها بعيدًا عنه بالقرب من رقبة الحصان تقريبًا، تنفس الصعداء ينظر لملامحها يحاول أن يقنع قلبه، ذلك الاحمق أن لا علاقة له بهذه الكلمة وما يحدث، ما شأنك لتنبض بهذا الشكل المثير للشفقة ؟؟
” يا الله رحمتك، لقد ازدادت خطورة تلك المرأة، أصبح قربها مقيتًا، ثقيلًا على قلبي بشكل يسبب لي الاختناق ”
حاول أن يشتت نفسه مبعدًا عيونه عنها، ثم تأكد من ثباتها ليتحرك بحصانه بسرعة كبيرة، يود الوصول للقصر ووضعها في المشفى، ثم يتحرك لجناحه بعيدًا عن كل ذلك .
همس لنفسه مصرًا :
” ستكون هذه آخر مرة أتدخل في شيء يخصك ”
نظر لها بطرف عيونه لتبتسم هي خلال أحلامها مثيرة به تساؤلات عديدة عن هوية تلك الأحلام، وفجأة هبطت في رأسه ذكرى يشعر بها بعيدة للغاية وكأنها كانت منذ سنوات، رغم أنه لم يمر عليها سوى شهور قليلة .
ذلك اليوم حينما ذهب للبحث عن الملكة وأخذها من منزلها سمع كلمات مترامية من البعض حول أحلامها برجل ما، وهذا يعني أنها ربما في هذه اللحظة التي يكاد يتجمد من البرودة لأجلها وما يتكبده لمساعدتها، هي تحلم برجل آخر وتستأنس بوجوده .
استنكر سالار كل ذلك لكنه لم يعلق، فمنذ متى تحكم الإنسان فيما يحلم به، كل ذلك لا دخل لنا به، لكن …
نفخ بصوت مرتفع يبعد تلك الأفكار عن رأسه ساخرًا من نفسه :
” لم تكد تفرغ من توعدك بالابتعاد عنها وعن مشاكلها حتى قفزت بأفكارك لها، أنت مثير للشفقة يا رجل، تحتاج لضربة سيفٍ تشق رأسك نصفين كي تتوقف عن تلك الأفعال المزرية والمخزية ”
واخيرًا توقفت الخيول أمام باب القصر ليهتف سالار بصوت جهوري بغرض إيصال كلماته لمراقبين البوابة كما هو معتاد :
” افتـحـوا الابــــواب ”
وبسبب تلك الصرخات انتفض جسد تبارك التي كانت قد نالت قسطًا لا بأس به من الراحة وبدأ جسدها يرتخي واخيرًا وتتنفس بشكل طبيعي، لكن فجأة اخترقت أحلامها السعيدة صرخات جعلت جسدها يختض بقوة لتطلق صرخة مرتعبة تنتفض عن الحصان .
فشعرت فجأة بالهواء تحتها، اتسعت عيونها تطلق صرخة أعلى من السابقة، وسالار الذي انتفض على صرخاتها يميل بجسده بسرعة كبيرة كي يلتقط جسدها قبل السقوط، لكن ما أمسكت يده سوى بقدمها ..
في تلك اللحظة لم تتوقف صرخات تبارك العالية وهي تشعر بجسدها يكاد يحتضن الأرض، لتغمض عيونها بقوة وهي تنتظر ذلك الالم الذي ستشعر به جراء الصدمة العنيفة بالأرض الصخرية، لكن مرت ثواني ولم تشعر بشيء، بل تشعر فقط بقبضة على قدمها .
فتحت عيونها ببطء وهي تحاول النظر لأعلى لتجد أن سالار قد مال بنصف جسده العلوي يمسك قدمها لتصبح معلقة بالهواء .
نظرت للأسفل وقد كانت على بعد شعرة من الأرض، ابتلعت ريقها ترفع عيونها له تقول بصوت باكٍ :
” اوعى تسيبني، أوعى تسيبني يا قائد، أنا لو وقعت دلوقتي راسي هتتفتح وهتبهدل وهروح فيك في داهية والله ”
نظر لها سالار بغضب شديد يضغط على أسنانه بقوة وعيونه تطلق لها تحذيرات غاضبة بعدما كاد يسحبها للتو :
” هل استشعر تهديدًا في كلماتك ؟؟”
فتحت فمها للصراخ في وجهه وما كادت تنطق أولى اعتراضاتها، حتى شعرت بيده تفلت قدمها ببطء جعل أعينها تتسع وهي تصرخ بخوف :
” ينقطع لساني يا قائد، ما عاش اللي يرفع صوته أو يهددك، ده أنت أمن وأمان سفيد، وقدوتي وقدوتنا كلنا، ربنا يطولنا في عمرك يارب ”
ختمت حديثها تحاول أن تجذب جسدها للأعلى كي تخرج من أسفل رحمته، وهو ابتسم لها بسخرية لاذعة :
” أوه اثرتي بي، كلماتك هذه تاج اسير به بين الجميع مولاتي ”
ابتسمت له تبارك وقد بدأت تشعر باندفاع الدماء لعقلها :
” اللهي تلبس تاج الملك يا اخي ارفعني ابوس ايدك، مش قادرة خلاص حاسة دمي كله اتصفى في راسي ”
بدأ سالار يرفع جسدها شيئًا فشيء وهي تشعر أن حجابها على وشك السقوط لتقول بصوت قلق :
” ببطء يا قائد، ببطء سيسقط حجابي ”
وبعد هذه الكلمات شعرت بجسدها يسحب فجأة وبقوة كبيرة لتشهق بصوت مرتفع، ولم تكد تكمل شهقتها حتى وجدتها نفسها تعتلي الخيل أمام القائد والجميع حولها ينظرون لها بقلق .
تنفست بصوت مرتفع تحاول أن تستوعب ما يحدث، ثم همست بصوت مضطرب :
” أنا ….أنا بخير .”
تنفس الجميع الصعداء وحركت تبارك أناملها تعدل من وضعية حجابها، ثم نظرت حولها صوب البوابة التي فتحت منذ دقيقة تقريبا وقتما كانت معلقة كالذبيحة .
والآن هبط سالار عن الحصان الخاص به، ثم سحبه خلفه يتحرك بها للداخل بعدما تأكد أنها أصبحت من الوعي الذي يجعلها تدرك ما يحدث حولها.
وتبارك فقط تحدق به دون وعي، شتان بين سالار قائد الجيوش، وسالار فارس أحلامها …
وإن سألتموها من يعجبها أكثر وتحترمه أكثر ستكون الإجابة ..كلاهما .
وبمجرد دخولها للقصر وجدت الملك والذي عاد لتوه إلى القصر حين تلقى خبر إيجادها، يستقبلهم بالقلق وهو يهتف :
” مولاتي، هل أنتِ بخير ؟!”
نظرت له تبارك تهز رأسها ببطء، ومن ثم نظرت صوب سالار الذي مد يده لها باللجام فتسلمته منه بتعجب وهو منحها نظرة احترام وبسمة صغيرة يقول بصوت منخفض :
” اتمنى لكِ السلامة مولاتي، مرحبًا بعودتك ”
وبهذه الكلمات أعلن سالار نهاية وجوده ورحل ببساطة شديدة تحت أعين تبارك التي شعرت بشعور من الخواء غريبًا، ورغم وجود الملك والجميع حولها، إلا أنها وببساطة شعرت بنفس شعور الوحدة الذي كانت تشعر به طوال الوقت، لتدرك في هذه اللحظة أن سالار كان أُنسها الوحيد بين الجميع ……
_________________
” زمرد توقفي عن الدوران يمينًا ويسارًا واجلسي، لا بد أنها بخير الآن”
نظرت زمرد بغيظ مشتد صوب كهرمان تقول :
” ألم تسمعي ما قلت ؟؟ أخبرتك أنني رأيت الحرس يبحثون في جميع الأماكن عن الملكة، لقد ضاعت تلك الغبية تبارك، أين يمكن أن تكون الأن ؟!”
صمت ثم تحركت بشكل سريع مخيف صوب كهرمان التي تراجعت للخلف بسرعة وهمست لها بريبة :
” هل يعقل أن هناك من اختطفها ؟! يا الله هي أكثر حمقًا من أن تسقط في يد فاسدين هذه الممالك ”
نظرت لها كهرمان بحنق تتحدث بواقعية :
” عزيزتي هذه التي تسمينها حماقة تكاد تنافسك في القتال، هي ليست ضعيفة زمرد، وايضًا ليست غبية، أنا واثقة أنها بخير، كما أن…الجميع بالفعل يبحث عنها ”
نظرت لها زمرد داخل عيونها تشعر بالوجع يسكن حدقتيها، ولكنها لم تتحدث بكلمة، تدرك ما يسكن قلب رفيقتها .
تنهدت بصوت مرتفع وهي تجلس على الفراش المقابل لكهرمان، تحرك طرف عيونها صوب تلك التي تسجن نفسها في ركن الفراش تأبى الحديث مع أحد أو رؤية أحد .
” وأنتِ يا عصفورة الحب، ما بكِ حزينة لهذه الدرجة، ألم يخبرك الشيخ أن حكم والدك سيكون منصفًا ومخففًا لأجل عمره ؟؟ إذن ما بكِ؟؟ كيف تجلسين هكذا في هذا الركن تاركة تميمك يعاني الوحدة الليلة ؟!”
لكن برلنت لم تتحرك ولم تتحدث بكلمة، نظرت زمرد صوب كهرمان بتعجب لتهز الأخيرة كتفها بريبه تقترب منهما تحاول الحديث والاطمئنان عليها :
” هييه بيرلي صغيرتي، أنتِ بخير ؟؟”
انتفض جسد برلنت بسبب شهقاتها المكتومة لتثير فزع الفتاتين، بكت بقوة لتقترب منها كهرمان تحاول أن تجذبها بعيدًا عن الجدار :
” عزيزتي مابكِ ؟! لِمَ البكاء برلنت !؟ هل هذا بسبب والدك ؟!”
ازدادت شهقات برلنت حدة وهي تهتف من بين دموعها :
” تميم ”
ضمتها كهرمان لصدرها بسرعة وهي تقول برعب عليها :
” ما به تميم ؟! هو بخير، لماذا البكاء إذن ؟!”
بكت برلنت بخوف شديد أن يبتعد عنها تميم، أو يظل ما حدث نقطة سوداء تمنعهما التقدم، تشعر بالوجع لأجله ولا تملك من أمرها مساعدة له .
” لقد …غضب مني ولا يرغب برؤيتي بعد اليوم، لقد كان غاضبًا حين خرج من المحاكمة ولم ينظر لي حتى نظرة واحدة كهرمان، لقد كرهني تميم، يا الله سأموت لو ابتعد عني بعد كل تلك السنوات ”
نظرت لهما زمرد ثواني بغيظ شديد وذكرى بكاء والدتها تعود لها، كل ليلة كانت تبكي زوجها الأول الذي قتله والدها، كانت تبكي حبه وتبكي وجع موته .
” لقد قتلني، قتلني قبل قتله، قبل أن يتعذب ويقتل بأبشع الطرق فقط ليحافظ على حياتي وأبنائي، وفي النهاية قتلهم واحضرني هنا واجبرني على الزواج منه، لكن وكأن الله أراد أن يعوضني خيرًا عمن فقدت فرزقني بكِ زمرد”
ازداد غضب زمرد بسبب صوت بكاء والدتها الذي اختلط مع اصوات بكاء برلنت، وصوت شكوى والدتها وتذمرات برلنت، كل هذ تردد في أذنها قبل أن تتحرك للخارج مندفعة من الغرفة بسرعة مخيفة لا ترى أمامها سوى مكان واحد فقط …
معمل تميم .
_____________________
داخل معمله كان يعمل على أسلحته دون اهتمام لما يحدث حوله، فقط يهتم بما بين يديه متجاهلًا تمامًا حديث دانيار له، وكأن الأدوار انقلبت في هذه اللحظات، فأصبح دانيار هو من يصنع له تميم وهمي يجيب حديثه المعلق .
” إذن أنت تعاقب من بصمتك هذا تميم ؟؟”
صمت ثواني وكأنه سمع رده :
” وهل يشمل عقابك هذا برلنت لتبتعد عنها ولا تتحدث معها ؟؟”
ولم يجب عليه تميم ليتنفس الاخير بصوت مرتفع :
” تميم بالله عليك أفق مما أنت به، هل كنت تجهل حقيقة والدها أم ماذا، فملامحك وردة فعلك تخبرني كما لو تفاجئت بحقيقة عائلتها ”
زفر تميم بصوت مرتفع يلقي ما بيده ليحدث صوتًا مرتفعًا، ثم استدار صوب دانيار يواجهه بنظرات سوداوية، ثم قال بصوت خافت :
” من قال أنني غاضب من برلنت !!”
” تصرفاتك ونظراتك ”
” دانيار، أنا لست غاضبًا من حقيقة أنها ابنة ذلك الرجل، أنا فقط …أشعر بالغضب لأجلها، اليوم بعد المحاكمة وحين خرجت أبصرت انهيارها، برلنت تدعي أنها بخير امامي في حين أنها تتألم بالفعل، تضطر أن تبتسم خشية أن اغضب منها لتعاطفها مع والدها، لذلك أردت أن اجنبها كل ذلك، فقط أردت لها أن تأخذ وقتها في التفكير وكي تهدأ، أشفق عليها من نفسها ”
حرك عيونه بتعب يقول :
” ليس معنى حديثي أنني اتخلى عنها في أصعب لحظاتها، بل امنحها فرصة الاختلاء بذاتها، ومن ثم أعود لها لاشاركها كل ذلك ”
هز دانيار رأسه بهدوء، ثم فتح فمه للحديث، لكن قاطعه صوت اقتحام لمعمل تميم، صوت يألفه وبشدة، إذ اقتحمت هي المكان دون مقدمات تقول بغيظ وغضب :
” أنت يا عديم الاحساس، لقد ضحت الفتاة بالكثير لاجلك ولأجل هذا الحب الغبي، كيف تفعل بها هذا، سأقتلك ”
اتسعت أعين تميم بقوة لا يدري ما حدث فجأة، لكنه نظر جواره لدانيار الذي ابتسم بسمة مريبة وهو ينظر لتلك الفتاة .
” عفواً ومن أنتِ ؟!”
هبطت زمرد الدرج تسحب خنجر من ثيابها لتتسع أعين تميم بصدمة متشنجًا، أن تحمل فتاة سلاح داخل القصر، بينما دانيار ابتسم بسمة واسعة يقول بصوت منخفض وهو يميل على تميم :
” اعتقد أنك ستحتاج لتكثيف صناعة الخناجر تميم، فسرقة الخناجر قد زادت في الآونة الأخيرة ”
نظر له تميم بصدمة كبيرة يحاول فهم ما يرى أمامه، ما هذا النوع من النساء الذي يبصره للمرة الأولى .
” من هذه المرأة وما الذي تفعله بالأسلحة هنا ؟؟”
اقتربت منه زمرد بقوة ترفع الخنجر في وجه تميم ليتصلب وجه الاخير بشر وهو يردد :
” هل تمزحين معي ؟؟ اتركي تلك اللعبة يا صغيرة لئلا تجرحي يدك ”
” صدقني سيدهشك ما تستطيع تلك الصغيرة فعله بهذه اللعبة ”
ولم تكن تلك الجملة صادرة من زمرد، بل كانت صادرة من دانيار الذي يراقبها ببسمة ساخرة جعلتها تنظر له بشر وهي تلوح بالخنجر في وجهه :
” صبرًا حتى انتهى من رفيقك هذا، ثم أتفرغ لك ”
تظاهر دانيار بالخوف :
” يا ويلي من المخيفة، نعم انتهي منه ولنتحدث ”
كان تميم لا يعي ما يحدث :
” أنا حقًا لا أدري ما يحدث هنا، من هذه الفتاة وما علاقتها بك دانيار و….هي نفسها الفتاة التي ابصرتها تخرج من المعمل أحد الأيام ؟!”
هز دانيار وهو ما يزال ينظر لزمرد التي صرخت بجنون :
” أنتما توقفا عن هذا أنا جئت هنا لأجل هذا الـ ..”
وقبل أن تتحدث بكلمة صرخ دانيار في وجهها أن تصمت بسرعة كبيرة يرى ارتجاف جسد تميم جواره لشدة غضبه :
” يا فتاة لا انصحك بالتحدث بسوء عنه في هذه اللحظة، كي لا يلقيكِ بإحدى قنابله، هذا الشخص مختل ”
نظرت زمرد صوب تميم بعدم اهتمام وهي تلوح بخنجرها :
” هذا الشخص نذل، يترك الفتاة تبكي منذ الصباح وهو هنا يلعب بقنابله ؟! يا ويلي من الرجال وقذارتهم ”
” هو فقط القذر وليس أنا ”
قال دانيار تلك الكلمات ببساطة لترمقه هي بشر، بينما تميم سمع كلماتها تلك ليرتجف قلبه وهو ينظر أمامه شاردًا لبعض الوقت، هو منذ ثواني أخبر دانيار أنه فقط سيتركها كي تبكي وتفعل ما تريد على راحتها، لكن معرفته أنها الآن تبكي جعلته يتجاهل كل ما يحدث هنا ويركض خارج المكان بأكمله تاركًا خلفه دانيار وزمرد التي ما تزال ترفع خنجرها على الهواء أمامها.
فجأة سمعت صوتًا خلفها يقول بخبث :
” إذن هل هذا خنجرٌ مسروق ؟!”
استدارت زمرد له ببطء تقول ببسمة جانبية لم تظهر بسبب لثامها :
” ومنذ متى حملت خناجر تخصني سيدي قائد الرماة ؟!”
ابتسم لها دانيار بسمة جانبية يقول بنظرات غامضة :
” يمكنني منحك ما تشائين من الخناجر دون اللجوء لمثل تلك الأفعال المشينة آنستي ”
ابتسمت له بسمة مستفزة وهي تحرك حاجبيها :
” لا شكرًا أفضل الخناجر المسروقة تعطني إحساس بالنشوة ”
رفع حاجبه يشعر باليأس من هذه الفتاة، والآن سؤال غريب أضحى يراوده وبشدة، من أين تنحدر، لا يتذكر أنه سألها هذا السؤال يومًا واجابته إجابة منطقية أو يمكن تصديقها، فإما أن تكذب، أو أن تتجاهل الإجابة …
تنفس بصوت مرتفع يقول وهو ينظر لملامحها الشرسة وعيونها الحادة ينطق اول ما جاء في رأسه:
” هل رفضك الزواج مني له علاقة بحياتك أو المكان الذي تنحدرين منه ”
رامي بارع، يا الله أصاب الهدف في المنتصف، في قلبها مباشرة لتتراجع شاحبة الوجه للخلف، فتحت فمها رغبة في الصراخ في وجهه والدفاع عن نفسها ومحو تلك الفكرة الغبية الحقيقية من رأسه، ليس عليها تركه يقترب بهذا الشكل من حقيقتها، لكن أغلقت فمها مجددًا تشعر بالعجز عن الدفاع عن نفسها، بالعجز عن نفي فكرته تلك، نظرت ارضًا تشعر بالاحتقار لذاتها، هي حتى هذه اللحظة لا تتقبل هذا الجزء في نفسها وهي من عاشت معهم عمرًا طويلًا، فكيف بمن ترعرع ونضج وتجرع كرههم كؤوسًا ..
راقب دانيار تباين تعابير وجهها المنعكسة في عيونها، ليعلم أنه أصاب وترًا حساسًا ..
” لا اهتم ”
رفعت عيونها له بعدم فهم ليقول بصوت منخفض :
” أنا لا اهتم بكل تلك الأمور صدقيني، لا يهمني ما حدث في ماضيك أو من أي عرق تنحدرين، لا فرق بين عربي أو أعجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح ”
انطلقت ضحكة من فمها ساخرة أو …موجوعة، أي تقوى وعمل صالح يقصد؟؟ يا الله هي وُلدت وسط مجموعة من الكفرة ولولا والدتها لكانت مثلهم بلا دين ولا عهد، لقد كانت تكتم إيمانها خوفًا أن تُعذب بينهم كوالدتها .
تأوهت وهي تحاول كبت دموعها، وبصعوبة فعلت، تهتف بصوت متقطع موجوع ونظرات قومها الكارهة لها ولأمها تلوح أمامها:
” أنت حقًا لا تدري ما تتحدث عنه، صدقني احيانًا بعض الأمور يفضل أن تكون غامضة، معرفتك لسبب رفضي لن يزيدك إلا وجعًا، فمن الأفضل أن تعتقد أنني امقتك ولا احب النظر لوجهك، على أن تعلم أسبابي الحقيقية …”
ختمت حديثها تتحرك راكضة بعيدة عنه وهو توقف مكانه لا يدري هل يسعد أنها لا تمقته ؟؟ أم يرتعب لأن الأمر يفوق رفضها ومقتها خطورة ..
هل يتوقع الاسوء من ذلك ؟؟
” يا الله ما هذا الغموض الذي تسبح به تلك الفتاة ؟؟ ”
أبعد خصلات شعره بقوة يحاول التنفس بشكل جيد، قبل أن يقول بصوت هامس :
” لكن ما استعصت عليّ بحار يومًا زمرد، فما بالك ببحار تعود لكِ….”
____________________
تحرك لغرفته بجسد مرهق، ويا ليته كان إرهاقًا جسديًا، لكان تقبله بصدرٍ رحب، بل وتحمله، فمن يتحمل الاوجاع مثله؟!
لكن اوجاع الروح أشد وقعًا من أوجاع الجسد ..
ألقى سالار ثيابه بقوة ارضًا، ثم تحرك صوب الفراش بتعب شديد، ولا يدري حقًا سبب شعوره ذاك الذي يشعر به، لا يعلم ما الذي يحدث حوله، هو فقط يشعر بانقباضة صدر، لم يشعر بها منذ سنوات، تحديدًا منذ أدرك أنه وحده في هذه الحياة، شعور لا يجب أن يشعره بعد تركه لها مع الملك، لا يجب أن يشعر بهذا الشعور معها هي تحديدًا، ذلك الشعور الذي حاول تخطيه منذ طفولته …..
ذلك اليوم حين كان طفلًا في السادسة من عمره يقضي إجازته مع عائلته في كوخهم الصيفي الخاص، كان يومًا كالجحيم عليه وعلى عائلته …
اصوات الصراخات خارج الكوخ تعلو، صيحات والده ومقاومته تزداد شيئًا فشيء، وضع يده على أذنه يرتجف بين احضان والدته التي كانت تختبئ معه أسفل أحد الأسرة في ذلك الكوخ الذي لم يستطع ببنيته الضعيفة أن يمثل لهم سور حماية من هؤلاء الأشرار الذين يجهل هويتهم .
فجأة انتفض جسد الصغير واتسعت عيونه بشكل مرعب حين سمع صوت والده الحبيب وهو يطلق الشهادة، صوته وهو ينطق الشهادة هز جوانب صدره، شرع سالار يتنفس بصوت مرتفع وقد امتلئت عيونه بالدموع، والده الحبيب ومعلمه وقدوته الاولى، الآن يستشهد على بُعد أمتار قليلة منهم .
اشتد بكاء سالار وهو يرتجف لتكتم عائشة ( والدته ) صوته وهي تهتف بنبرة خفيضة :
” لا تبكي صغيري لا تبكي، سوف نكون بخير حبيبي، اسمع سالار أولست شجاعًا ؟؟ ها أنت شجاع صحيح صغيري ؟!”
وما كان من سالار ذلك الصغير إلا أن يبكي بصوت قطع قلب والدته يهتف بكامل الوجع في صدره :
” لقد قتلوا أبي، قتلوا أبي، لقد تركنا أبي، سيقتلونا كذلك”
ضمته والدته بحب شديد وهي تقبل رأسها:
” لا عزيزي أنت لن تسمح لهم، أنت قوي وشجاع، أنت اقوى رجل في هذه الحياة، و..والدك الآن بخير، ربما هو فقط يقاتلهم في هذه اللحظة وسيدخل ليخرجنا ”
ارتفعت أصوات التكسير في المكان لينتفض جسدها قبله وهي تهمس بصوت منخفض تدرك أن زوجها قد فاضت روحه، فهو ما كان ليسمح لهم أن يطئوا منزلهم طالما هناك انفاس في صدره .
نظرت عائشة لسالار تهتف بصوت موجوع وفكرة أن ترى طفلها قاب قوسين أو أدنى من الضياع تقتلها، لا هي لا يمكنها أن تسمح بأذيته :
” اسمعني سالار، والدك أحبك ووالدتك كذلك تحبك عزيزي، نحن نحبك سالار، انظر، سوف أخرج لارى والدك واساعده وأنت.. أنت يا صغيري اهرب من النافذة ولا تنظر خلفك، لا تنظر خلفك حبيبي، فقط اركض دون توقف، سوف اشلغهم مع والدك وحين ننتهي منهم سنعود لاخذك حسنًا ؟!”
نظر لها سالار باكيًا، يدرك أنها الآن تودعه، والدته تودعه وهو فقد والده، أمور ليس من الصعب عليه فهمها، شعر بها تجذبه لاحضانها، أهذا ما يُسمى عناق الوداع ؟؟ هل هذا ما يفترض أن يكون سلواه طوال السنوات القادمة ؟! انفجر في بكاء مرير وهو يتشبث بأحضانها، وخاطر داخله يخبره أنه إن خرج منه لن يعود له أبدًا، بكى وبكى حتى اشتدت الاصوات لتدفعه هي يخرجان من أسفل الفراش، نظرت حولها تحمل أحد السيوف وهي تشير صوب النافذة :
” هيا ….تحرك ولاتقف حتى تبصر أحد الجنود على حدود الغابة، سأضللهم كي لا يتبعوك، هيا حبيبي اذهب للعم دارا أنت تعلم منزله صحيح ؟؟ تعلم أين تجده ؟؟ ”
لكن سالار ما استطاع سوى أن يتمسك بقدم والدته يضمها بقوة باكيًا، ليمت معها أهون أن يحيا وحده، بكى وهو يرفض أن يكون ذلك العناق الاخير، وهي انهارت تدفعه بقوة بعيدًا عنها مخافة أن يمسه أحدهم بسوء .
” هيا سالار، عزيزي أرحل لا تدع أحدهم يمسك بسوء، وإن تأخرت فأنت قوي تستطيع أن تجد طريقك، عزيزي أنت ستكون اقوى شخص في هذه الممالك، هذا حلم والدك وأنت ستحققه صغيري ”
مالت تقبله للمرة الأخيرة باكية، ومن بعدها دفعته صوب النافذة، ثم ركضت للخارج ترفع سيفها في وجوههم، وهو نظر حوله رافضًا أن يركض، لكنه لم يرد أن يضيع تضحية والدته، فتحرك بسرعة صوب النافذة، هو سيذهب ليحضر لهم المساعدة، وقبل أن يبلغ حدود النافذة سمع صرخات والدته التي حكمته أشلاء، معلنة نهاية حياتها على أيدي المتمردين، ولم يكد يقفز عن النافذة إلا وشعر بشيء حاد يصيب قدمه لتنطق منه صرخة مرتعبة أكثر منها موجوعة وهو يستدير يرى أحدهم يبتسم له بسمة مخيفة، بسمة حفرها عقله قبل أن يلقي نفسه عن النافذة، وبسرعة الريح كان يركض متجاهلًا وجع قدمه، وكأن الادرينالين المتدافع في جسده أصابه بالخدر …
ركض وركض وهو يبكي ويصرخ بجنون، يصرخ بقهر وحسرة طفل رأى مقتل والديه في يومٍ واحد، تولدت داخله طاقة غضب مخيفة، صنعوا منه وحشًا لن يتوقف حتى يقضي عليهم أجمعين .
ظل يركض ويركض حتى شعر بالاعياء، وقبل أن يتساقط جسده سمع صوت حصان يتحرك صوبه، فتح عيونه بصعوبة ليبصر جسدًا يعرفه جيدًا، انتفض جسده بلهفة وهو يتحرك باكيًا صوب الحصان يصرخ بتعب وصوت بُح لشدة صرخاته :
“عم دارا …عم دارا النجدة ..النجدة لقد قتلوهم، قتلوا والديّ يا عم، قتلوهم .”
ومن بعد هذه الكلمات لم يشعر سالار سوى بيد تتلقفه وتضمه لاحضانه بقوة، ليسمح لنفسه أخيرًا بالانهيار …
كانت أعين سالار تتابع سيفه الذي يحركه أمام عيونه وهو يطيل النظر به، ما له يشعر بتلك المشاعر المريبة ؟؟ هل أدرك فقدان والديه للتو أم أدرك فقدان ما يساويهما مكانة ؟؟!
فجأة انتفض يلقي السيف بقوة صارخًا بصوت جنوني رافضًا كل ذلك، لا يمكن أن يحدث، لا يعقل أن يحدث ..
تنفس بصوت مرتفع يصرخ محطمًا إحدى المزهريات أمامه :
” مستحيل ..مستحيل، لن أسمح لك، لن أسمح لك، أنت… أنت فقط تحيا هذه الحياة للانتقام، لتكون سبب تخليص العالم منهم، أنت تحيا للانتقام فقط، لعنة الله على الكافرين، لعنة الله على الكافرين ”
تنفس بصوت مرتفع ينتزع السيف وهو يركض خارج جناحه بقوة ارعبت جميع الجنود في الخارج، وهو لم يهتم يتحرك بسرعة مخيفة خارج القصر بأكمله ….
___________________
ويبدو أن هذه الليلة لم تكتفي بعد من أوجاع البعض، فلم ترد الرحيل إلا ومعها الكل، ها هو يقف منذ خمس دقائق على باب غرفتها بعد رحيل الأميرة لتترك له فرصة الحديث معها بهدوء .
يقف يطالع ظهرها وهي تنتفض بحزن، ابتلع ريقه يتحرك بخطوات بطيئة صوبها، وحين جلس على الفراش جوارها مد كفه لها، هزها برفق لتقول بصوت خافت باكي :
” أنا بخير كهرمان، لن أموت حزنًا في النهاية ”
ابتسم لها بحنان يحرك كفه صوب خصلاتها يرتبها لها بهدوء شديد ويدلكها لها بحب وهو يميل برأسه جوار خاصتها :
” لكنني أنا من سيموت وجعًا لأجل حزنك بيرلي ”
اتسعت أعين برلنت بقوة وهي تستدير في نومتها تحدق في وجهه ليبتسم لها دون كلمة واحدة، وهي حتى لم تمنح له فرصة الحديث إذ اعتدلت بسرعة كبيرة تلقي نفسها بين أحضانه باكية بصوت صاخب، ليبتسم لها بحنان وهو يربت على ظهرها دون كلمات، الأمر لم ينتهي، لكن لأجلها سيتظاهر أنه انتهى بالفعل .
” أنا آسفة تميم، تكبدت منذ معرفتك بي عناء كبير، أشعر أنني أمثل هم وثقل على صدرك، آسفة لأنني أنانية بقربي منك رغم كل ما يحدث ”
ضمها هو ولم يتحدث بل تركها تفرغ ما تريد قوله، يستمع لها تبكي تارة وتشكوه تارة، تحزن تارة وتبتسم بحنين تارة أخرى، وهو ما كان منه سوى أن ضمها يقبل رأسها تارة ويربت أعلى ظهرها تارة أخرى …
وحين فرغت هي من كل ذلك رفعت رأسها له بهدوء تقول متعجبة صمته :
” لِمَ الصمت تميم ؟؟ هل أنت غاضب مني ؟!”
” لا بيرلي لستُ كذلك حبيبتي، هيا نامي ”
ها هو تميم يعود لما كان عليه في مراهقته، حين يملئه الغضب ويتملك منه اليأس لا يتحدث بكلمة، فقط يبتسم ويخبرها أن كل شيء سيكون بخير، وهي تدرك يقينًا أن ما يحدث داخل صدره في هذه اللحظة لا يمت للخير بصلة، لكن كل ما استطاعت فعله هو أن ارتكنت لصدره وضمت نفسها له تقول بصوت هامس :
” أنا لم أرد الظهور يومًا خوفًا من كل هذا، خفت أن تقترن عودتي بعودة الماضي، لقد … أنا اخطأت وأبي كذلك، جميعنا اخطأنا في حقك، والغفران صعب، لكن تميم أنا….”
صمتت تدفن وجهها في صدره هامسة بصوت متشنج :
” لا تنبذني تميم، بالله عليك لا تفعل، حبًا بالله لا تنبذني بعيدًا عنك، عبر عن أحزانك ووجعك جواري، اقسم أنني سأتحمل كل ذلك لاجلك ”
ضمها له تميم وقبل رأسها يهمس لها بحنان وخفوت :
” تهون المصائب لأجلك بيرلي، اطمئني فأنا من لن يسمح لشيء بإبعادك عني، حتى وإن كان ذلك الشيء هو رغبتك الخاصة ”
ورغم أن كلماته في تلك اللحظة ظهرت لها متملكة مخيفة بعض الشيء، إلا أنها إصابتها براحة كبيرة، وهي تغمض عيونها تهمس بصوت خافت ناعس ومتعب :
” أنا أحبك..”
ابتسم لها وهو يزيد من ضمها، ثم نهض بهدوء شديد يحملها بين ذراعيه يخرج من الغرفة كي لا يتسبب في إزعاج لمن معها، تحرك بها صوب جناحه الخاص، وبمجرد أن وصل وضعها على الفراش، ثم نظر لها ثواني يمسك كفها، يقبل باطنه هامسًا :
” وأنا كذلك أحبك، رغم كل ما حدث وما سيحدث أحبك بيرلي……. ”
____________________
” إذن جئتي جناحي في هذا الوقت من الليل كي تتأففي وتعترضي على قراراتي مولاتي ؟؟”
رفعت شهرزاد وجهها لايفان الذي كان يجلس أمامها بهدوء شديد يستند بمرفقيه على قدمه، وهي فقط قالت بهدوء رافضة ذلك الاحتمال الذي نتج عن أخبار الخادمات اللواتي يأتين لها بجميع الأحداث داخل القصر :
” لست اتأفف، لكن ما معنى أن ترفع الأعمال عن العاملات اللواتي ….”
قاطع إيفان حديثها يقول :
” ومنذ متى شغلت الملكة رأسها بالعاملات ؟؟”
منذ بدأت تنجذب لاحداهن، منذ بدأت تبحث عنها بعيونك في جميع الاماكن، تسير بحثًا عن تلك العاملة بين الجميع دون الوضع في الاعتبار كونك ملكًا، جميع الاخبار تصلها في غرفتها، مقابلاته وأحاديثه ونظراته وكل شيء يصل لها، والآن بعدما كان عليها التعامل مع أحد المفسدين، أضحى عليها التعامل أيضًا مع عاملة من عاملات القصر، وعلى ذكر أحد المفسدين فجأة ارتسمت بسمة واسعة على فم الملكة وهي تقول بصوت منخفض .
” إذن متى الزواج بني ؟؟”
” اخبرتك امي أنه في الحفل الوطني ”
هزت رأسها تنهض عن مكانها وهي تلقي بكلماتها قبيل الرحيل، كلمات تعلم أنها ستلقى صداها عنده، تطيل النظر بعيونه في جدية كبيرة :
” إذن من الأفضل لك أن تخبر سالار أن يسرع في تدريبات الملكة، فهو لا يجهزها للحرب، تلاشى الفتن يا بني وأسرع من زواجك قبل أن تخون القلوب وتميل لغيرك ”
نظر لها إيفان ثواني يحاول فهم ما تقصد، ليس الأمر أنه لا يلتقط الحديث الخفي خلف كلماتها، لكنه لا يصدق أنها تتحدث بهذا الشكل أمامه عن سالار والملكة .
وهي فقط ابتسمت له تقول :
” سالار وسيم قوي وقائد جيوش المملكة، يمتلك الرتبة الثانية في البلاد بعدك، هو حلم كل امرأة يا بني ”
هز إيفان رأسه لوالدته بهدوء شديد وهو يحدق في عيونها بتحدي قوي ردًا عن اتهاماتها المبطنة في حديثها :
” نعم هو كذلك، عسى الله أن يرزقه بمن تقدره كما تفعلين أنتِ الآن امي ”
اتسعت أعين والدته بصدمة وهو قال بهدوء :
” والآن اعذريني عليّ الخروج قليلًا لأمرٍ هام مولاتي، يمكنك البقاء بجناحي كيفما تريدين ”
ختم حديثه يتحرك بقوة مخيفة للخارج تاركًا، والدته خلفه تحدق في ظهره بشر كبير، وهي تتنفس بصوت مرتفع، تضرب الطاولة بقدمها صارخة بجنون :
” اللعنة على ثقتك الغبية بمن حولك إيفان…”
وإيفان تحرك بسرعة كبيرة وخطواته تهز الأرض من أسفله، يرفض كل ما تقوله والدته، نعم لاحظ هو ليس بالغبي أو الاعمى، ليس كذلك ليجهل نظرات الامتنان والأمان التي تنبثق من أعين تبارك لسالار، والاهتمام الواضح بين كلمات سالار عنها وهو الذي لم يهتم في حياته بأي تاء تأنيث لا تخص والدته، لكنه ظن الأمر عاديًا، لأنه اقرب الأشخاص لها بعدما ذهب هو لاحضارها…
توقف في سيره بقوة وهو يتنفس بصوت مرتفع، والدته تبالغ، بعد كل هذه السنوات لن يخونه سالار بهذا الشكل .
مسح وجهه بقوة يحرك عيونه حوله وصوت خبيث داخله يخبره الحقيقة المرة التي لا يستطيع تجاهلها حتى إن أراد هو ( قلبك كذلك خان الملكة بميله الواضح صوب أميرة مشكى، الآن أنت آثم وهو كذلك) .
” لا …لا …ليس بهذا الشكل، ليس هكذا ”
اسرع خطواته صوب الخارج كي يتنفس وقد شعر أن السماء بظلمتها قد استقرت أعلى صدره، تحرك صوب ساحة القتال كي يحمل سيفه، لتتحد أفكاره مع قلبه وتخون عقله وهو يتذكرها ويتذكر كل قتال مر عليهما معًا، ليلقي السيف ارضًا وكأنه حمل جمرًا لتوه، تنفس بصوت مرتفع ينظر حوله، ثم قرر أن يهرب لمكان لا يحمل ذكراها …
ولا يدري إيفان أنها كانت تقف بعيدًا تراقب ما يحدث معه بأعين متعجبة، مصدومة من فعلته .
تحركت خلفه تراقبه باهتمام شديد، حتى ابصرته يتحرك بحصانه من الاسطبل بسرعة كبيرة وكأنه يود الطيران به ليختفي عن نظرها وهي تحاول معرفة ما حدث معه :
” ما الذي حدث له ؟؟ هو يبدو كما أن وحوشًا تطارده”
وقد كان هو كذلك، كان هناك بالفعل وحوش تطارده، وحوشها وكل ما يخصها، تحرك بحصانه يحاول إيجاد راحته بين المروج الواسعة، ليبصر من بعيد حصان يعدو في المكان بسرعة مخيفة وأعلى ظهره كان هو، ليبتسم بسمة واسعة ابعد ما تكون عن السعادة هامسًا :
” يبدو أن الليل حلّ بظلمته على الجميع ..”
أسرع بحصانه صوب الحصان الذي يركض أمامه ليجاوره وهو ينظر أمامه بانتباه شديد يردد ببسمة جانبية :
” ليلة غريبة ها ؟؟”
استدار له سالار وقد كان جسده متعرق ووجه أحمر، ابتسم بسمة صغيرة يزيد من سرعته وقد وجد أخيرًا منافسًا له في هذه الليلة :
” ليست أغرب من ليلتك مولاي ..”
ابتسم له إيفان، ثم نظر له ثواني يقول :
” تريد منافستي ؟؟”
نظر له بطرف عيونه يقول قبل أن يسرع بحصانه :
” لقد اعتبرتك هكذا بالفعل منذ اقتربت من حصاني ”
وبعد هذه الكلمات لم يلمح إيفان سوى ظهر سالار ليزيد من سرعته بشكل مخيف ينافسه، والاحصنة تنفذ رغبة فرسانها .
سالار لا يرى أمامه سوى سواد، سواد يقترب من حياته بشكل خطير حتى كاد أن يبتلعه، وإيفان لا يدري بأي شاطئ يرسو وعقله يحدثه بشيء وقلبه ينفيه ..
ساعة متواصلة من السباق حتى توقفت الخيول فجأة أمام الاسطبل وهبط سالار بسرعة كبير، وقد خفف هذا السباق عن نفسه الكثير، لكن وقبل أن يتحرك للداخل سمع صوت إيفان يقول بصوت منخفض :
” سالار …”
نظر له سالار بانتباه ليطيل له إيفان النظر، قبل أن يقترب منه، يضمه دون مقدمات يربت على ظهره وكأنه يخبره بصمت شديد، أنه مهما قيل ومهما حدث، فلن تتزعزع مكانته عنده .
تعجب سالار ما يحدث وحاول الحديث لكن قاطع تلك الحالة صوت ساخر في الخلف :
” يبدو أننا جئنا في وقت غير مناسب تميم ؟؟”
ابتسم تميم لدانيار الذي التقى به على بوابة القصر الداخلية بوجه مقتضب حائر :
” اعتقد أن ليلة الجميع لم تمر على خير ”
نظر سالار وإيفان لهما، ليبتسم الأخير قائلًا :
” ليلة سيئة ؟؟”
هز الأثنان رأسيهما ليقول هو بجدية يفرك خصلات شعره :
” إذن ما لنا سوى العريف كي نخرج به كل هذا الضيق”
ابتسم له تميم يقول :
” هلموا إذن إلى العجوز ….”
أطلق الأربعة ضحكات مرتفعة وكأنهم نسوا أو تناسوا لثواني ما حدث معهم، الحيرة تعلو الوجوه والقلوب ترتجف لحب غريب شبه مستحيل ..
لكن كما يقال المشاكل تتلاشى إن حملها اثنان، فما بالك بأربعة، ورغم أن أحدهم لن يشارك الآخر ما يعانيه، لكن يكفيهم وجودهم ….
__________________
صباح جديد أتى يزيح ذلك الليل الغريب عن صدور الجميع .
نعم حلم آخر تحاول الفرار من بين خيوطه، يكفي، علمت، لقد أدركت والله أدركت أنها تكن لسالار مشاعر لا يجب أن تمتلكها له، أدركت أنها تلقي بنفسها بين غياهب الجب، أياليتها صرخت وتمنعت عن الرحيل معه يوم جاء لأخذها وليقتلها إن أراد .
حسنًا هي تعلم أن سالار ما كان ليقتلها البتة، لكن ظنها كان قبل أن تعلم من هو سالار حقًا، تنهدت بصوت مرتفع تشعر بأن عقلها على وشك التوقف عن العمل، الآن بدأت مرحلة المحاولة، محاولة تقبل هذه الحقيقة وتقبل أنها يومًا لن تتحقق في الواقع .
وصلت لساحة الرماية تحرك عيونها في المكان بحثًا عن دانيار، لكنها لم تجده، تنهدت بصوت مرتفع وهي تتحدث بضيق شديد :
” مفيش حد هنا ملتزم أبدًا كده ؟؟ ايه التسيب والاهمال ده ؟؟”
واخيرًا قررت أن تتحرك بعيدًا عن ساحة الرماية، هي في الأساس لم تكن في مزاج مناسب لممارستها، سوف تذهب، حيث العريف وتتحدث معه عسى أن تجد سلواها في مكتبته .
وبمجرد أن خطت لهناك حتى وصل لها صوت صراخ واضح، اصوات رجولية جعلت قلبها يدق بشكل مخيف، أنه هو، هل تتراجع، هل تهرب ؟؟
لكن تلك اليد الخائنة الغبية دفعت الباب بشكل واضح، يا الله كان عليها الرحيل قبل أن ينتبه لها أحد .
لحظة هل حدث وانتبه لها أحدهم من الأساس ؟؟
فكما ترى كان سالار منشغلًا في تهديد العريف وتدمير مكتبته، دخلت المكان بهدوء وهي تردد :
” ربنا يعينه يارب ”
نظرت حولها بحثًا عن مرجان والذي وجدت جسده محشور في إحدى زوايا المكتبة، تحركت صوبه فهو الوحيد الذي تألفه هنا بعدما أضحى صديق لها .
جلست جواره تجذب أحد الكتب تخفي خلفه وجهها كما يفعل هو، نظرت صوب سالار الذي كان يبدو مشتعلًا على غير عادته منذ الصباح، فهذه الحالة لا تأتيه إلا حينما تغضبه هي، والآن من ذا الذي أخذ دورها واغضبه .
” إذن مرجان، ما الذي يحدث هنا للقائد ؟؟”
تحدث مرجان بصوت منخفض يشبه خاصتها :
” لا أدري حقًا فالقائد هجم على المكتبة صبيحة اليوم يصرخ في وجه العريف بكلمات غير مرتبة لم افهم منها سوى أنت السبب في كل ما يحدث هنا، ولا ادري حقًا ما يقصد فالعريف يتسبب في مشاكل كثيرة ولا ادري أي كارثة منهم أشعلت سالار ”
هزت تبارك رأسها، ثم عادت بنظراتها صوب سالار تحاول معرفة ما يحدث معه تراقبه من خلف الكتاب بريبة .
وعند سالار كان يتحرك في ممر طويل وفي نهاية الممر كان يقف العريف وهو مستند على الجدار خلفه متسع الأعين، يبحث له عن مخرج أو مهرب من هذا الوحش الذي يقترب منه .
” سالار يا بني، هل ستؤذني ؟؟ هذا أنا العريف الذي يفضلك على رجال وقادة هذا القصر اللعين يا بني ”
وسالار كان يحمل سيفيه، يتحرك بهما في الممر يحركهما على الكتب مسقطًا إياها عن الأرفف الخاصة بها، وهو ينظر له بشر يتحدث بكلام مخيف من أسفل أسنانه وقد بدأ في هذه اللحظة أمام أعين تبارك التي كانت تراقب هذا المشهد تشعر به يشبه تلك المشاهد للقتلة المتسلسلين.
ابتلعت ريقها وقد شعرت بالتذويق يندفع لاوردتها وابتسمت بسعادة غريبة على الموقف، ولا تدري لكنها في هذه اللحظة شعرت بأن سالار أكثر وسامة وجاذبية .
همست بصوت منخفض وبسمة واسعة مرتسمة أعلى فمه :
” القاتل المتسلسل يليق بك ..”
نظر لها مرجان بملامح متشنجة :
” ماذا ؟!”
” لا شيء، اصمت كي اتابع ما يحدث بهدوء، تبدو الأمور مثيرًا للأهتمام، ربما افتعل العريف كارثة، ولا أعتقد انها شيء بسيط، ترى ما الكارثة التي قام بها ؟؟”
وجاءت الإجابة سريعة لها إذ وصل لها صوت سالار وهو يهتف بجنون يضرب الارفف بغضب شديد :
” أنت السبب في كل هذا ؟؟ أنت السبب أيها الـ ”
توقف وقد كاد ينطق كلمة لا تلائم أخلاقه، تنفس بصوت مرتفع يضرب يقدمه المكتبة صارخًا :
” أنت من اقترح على الملك ارسالي لإحضار الملكة صحيح ؟؟ أنت من ألقيت بي في هذه الكارثة ”
اتسعت أعين تبارك بصدمة تدرك في هذه اللحظة أن الكارثة التي سيقتل سالار العريف لأجلها هو أنه هو من اقترح إرساله شخضيًا، هي الكارثة ؟! حقًا ؟؟
قال العريف بصوت منخفض :
” الحق عليّ يا بني أردتك أن تثبت نفسك خارج الساحة، لتخبر الجميع أنك مقاتل في أرض المعركة وخارجها ”
أطلق سالار صوتًا ساخرًا منه :
” يا الله وأنا من ظلمتك ؟؟”
فجأة انتفضت تبارك من مكانها بغضب وهي تسمع صوت سالار الذي لم يجد شيء يخرج به مشاعره السوداوية وأفكاره الخاطئة سوى بإلقاء اللوم على المتسبب في كل ذلك من البداية، كان من المفترض أن يذهب الملك أو أي شخص غيره، وهو سيكون بعيد عن كل تلك الأمور التي لا تعنيه، لكن لا، هذا العجوز تطوع وطلب ذهابه هو بالتحديد .
عند هذه الفكرة ضرب سالار المكتبة بجنون صارخًا بهدير مرتفع :
” لعنة الله على الكافرين، والله لولا أنني أخشى أن اضيع حياتي عليك لكنت قتلتك ”
” كل ده عشان بعتك تجيبني ؟؟ ايه لسه فاكر أنك تعبت في الموضوع وهو خلصان من شهور يا قائد ”
اغمض سالار عيونه بقوة وهو يدعو داخله ألا تكون هي من تحدثت رغم أنه يحفظ صوتها عن ظهر قلب، ابتلع ريقه يستدير لها بملامح باردة يجيبها وهو يحرك كتفه ببساطة :
” نعم، كنت نائمًا في سلام البارحة لأتذكر فجأة أنني لم اقتص لتعبي في هذه الرحلة ”
كانت يتحدث بكل بساطة وهو ينظر لعيونها، وهي شهقت بصوت مرتفع ليضيف هو بشكل مستفز يود أن تنفره وتبتعد الأن وتركض للملك تخبره أنها لا تريده أن يدربها، يريد أن تستثنيه من هذه اللحظات التي يقضيها معها :
” وفوق كل هذا وحينما ظننت أنني تخلصت منك واخيرًا أوكل لي الملك مهمة تدريبك، ويا ليتك تتعلمين، أنتِ ببساطة فـ …”
توقف ولم يكمل الكلمة، لم يستطع أن يحطمها، ليس بهذه الطريقة يريد أن يبعدها عنه دون أن يؤلمها، هو لن يحطم كل ثقتها التي بناها داخلها بكلمة لذلك تراجع وقال بصوت منخفض :
” فقط أنا لست متفرغًا بعد الآن لتدريب أحد ”
نظرت له بقوة وقد أثار داخلها غضب شديد وحزن لتقترب منه باندفاع شديد جعله يتراجع بسرعة، ليس خوفًا منها، لكن خوفًا من تلامس غير مقبول قد يحدث بالخطأ .
وهي توقفت أمامه ترفع إصبعها في وجهه، نظر لذلك الاصبع بتشنج وهي لم تهتم بنظراته تهتف في وجهه :
” أنت أكتر شخص لئيم في الحياة دي ”
هز رأسه وكتفه :
” أعلم ذلك ”
” جيد، الاعتراف بالحق فضيلة، لكن كونك شخصًا لئيمًا لا ينفي كونك معلمًا جيدًا، لذلك هذه التلميذة التي تتذمر من مستواها ستهزمك شر هزيمة يا قائد”
نظر لها بحاجب مرفوع وسخرية لاذعة لتحرك إصبعها أمام وجهه :
” اليوم بعد صلاة المغرب، سأنتظرك في ساحة القتال لاسقيك من الهزيمة كؤوسًا ”
ختمت حديثه وهي تتراجع بظهرها تشير باصبعها :
” موعدنا في الساحة يا قائد، لأريك أن التلميذ يهزم المعلم في كثير من الأحيان ..”
ختمت حديثها وهي ما تزال تسير بظهرها، وهو ابتسم لها بسمة واسعة ساخرة :
” آه يا الله يا مغيث، رحمتك يا الله كيف سأنجو منكِ، يا الله أين المفر من مواجهتك ”
ابتسمت له تقول :
” لن تفعل فأنا….”
وقبل أن تكمل كلمتها تعرقلت بطاولة خلفها لتسقط عليها بقوة وتسقط معها كل القوى المصطنعة التي خلقتها منذ ثواني، ابتسم لها سالار يقول :
” نعم لن أفعل …”
نفخت تبارك بقوة وهي تشعر برغبة على البكاء، البكاء لأجل لا شيء، فقط لأنها لم تبك منذ أيام طويلة، إذن عليها الذهاب الآن وتقضية واجبها بالبكاء، نهضت تعدل من ثيابها وهي تقول بصوت منخفض :
” لكل جواد كبوة ..”
نظر لها سالار ولم يتحدث، بل مال برأسه قليلًا يدقق النظر بعيونها يحاول معرفة إن كانت تبكي أم لا، حتى رفعت فجأة رأسها لينتفض هو مبعدًا عيونه عنها، وهي نظرت له بحنق تقول :
” ألقاك في الساحة يا قائد ”
ختمت حديثها ترفع طرف ثوبها تتحرك بعيدًا عنه بسرعة كبيرة وهو ابتسم بسمة لا معنى لها ..
وفي الخلف حيث العريف الذي تناسى الجميع وجوده كان يراقب ما يحدث بأعين غامضة، وقد شعر أن أحلامه قد اقترب تحقيقها ….
________________________
الأمر غريب بعض الشيء، أن تُرفع عنها جميع الأعمال فجأة، ويتم تجديد مراحيض العمال، ووضع مستحضرات عناية طبيعية في مرحاضهم، أمور كانت تطالب بها دون أمل، من كان يعتقد أن الملك سينفذ كل ذلك، ها هي ومنذ وقت طويل لم تر أحد يوجه لها مهمة أو غيره ..
وكل ذلك يثبت فكرة في رأسها، لكنها تعمل جاهدة لنفي تلك الفكرة، أو تتظاهر أن ما تفكر به لم يحدث وأن غموضها لم يتلاشى حتى الآن…
تنهدت بصوت مرتفع وهي تسير في حدائق القصر قبل أن تتوقف فجأة على صوت خلفها :
” مالي أراكِ تتحركين بحرية في القصر وكأن لا عمل لديكِ يا فتاة ؟؟ هل اتوهم أم أن الخدم في هذا القصر يتبجحون هذه الأيام ويأخذون اموالًا بلا عمل ؟؟”
توقفت اقدام كهرمان عن التحرك، واستدارت ببطء صوب المتحدث لتبصر امرأة لا تعتقد أنها رأتها كثيرًا، ورغم أنها أبصرت تاجها الذي يوحي بمكانتها إلا أنها قالت مدعية الجهل وبصوت رقيق :
” عفوًا سيدتي، لكن مالي أراكِ تتدخلين في شؤوني الخاصة ؟؟ أنتِ لستِ المشرفة هنا كما أتذكر ”
اتسعت أعين شهرزاد بقوة وقد تراجعت للخلف مصدومة من حديث تلك الفتاة، وملامح الصدمة لم تزد كهرمان إلا تبسمًا فها هي تحرز هدفًا في مرمى تلك العجوز المتبجحة التي وصفتها بالتبجح .
” أنتِ أيتها الغبية ألا تعلمين من أنا ؟؟”
” لا سيدتي لم أعلم من أنتِ، فلا أعتقد أنكِ جئتي للتعرف عليّ بشكل سِلمي، أنتِ فقط هجمتي عليّ بالحديث دون فرصة للتعارف ”
صرخت شهرزاد في وجهها بقوة وقد اشتعلت بالغضب من تلك الحقيرة المتذاكية والتي أدركت في هذه اللحظة أنها تدور قصدًا حول ابنها بهدف إيقاعه، تمامًا كما فعلت غريمتها سابقًا مع زوجها، لا لن تسمح أن يقع ابنها في خطأ والده ويتزوج بخادمة .
” أنتِ يا فتاة وقحة، ووقاحتك تجاوزت الحدود، لذلك أنا بنفسي سأتكد أن يـ …”
وقبل أن تكمل كلماتها أمام أعين كهرمان والتي أدركت في هذه اللحظة أنها على أعتاب عقاب رادع، فهي تدري جيدًا عقاب من يتخطى حدوده مع العائلة الملكية، لكن نفسها الأبية والتي تشربتها من أرسلان زجرتها عن خفض رأسها أو حتى أن تحيد بنظراتها عن أعين تلك الملكة، ولولا الغطاء الذي يخفي ملامحها لرأت شهرزاد نظرات قوية لا تخشى أي كلمة منها ..
وعند هذه الخاطرة لم تتردد كهرمان في رفع غطاء الوجه عنها، كي ترى تلك المرأة أنها لا تهابها ولا تخشى منها مقدار شعرة، شعور قوي بالكبرياء والاباء يندفع بين أوردتها جعلها تفعل ذلك مبتسمة بسمة مستفزة للملكة التي توقعت أن ترى أعين ممتلئة بدموعها تترجاها الرحمة ..
وقاطع تلك المعركة الحامية بين الاثنتين تدخل صوت رجولي يقول :
” هل هناك مشكلة هنا ؟؟”
استدار الاثنان صوب صوت إيفان الذي اقتحم ذلك الحديث الذي لم يكن ودي بأي شكل من الأشكال، يحدق بوالدته في نظرات غير راضية ..
” مولاتي ما الذي يحدث هنا ؟؟”
سارعت والدته تقول بوجه محمر من الغضب مشيرة صوب كهرمان :
” هذه الحقيرة تتحداني وتحدثني بوقاحة منقطعة النظير بني، لقد تحدثت معي بشكل غير لائق ”
حرّك إيفان وجهه ببطء صوب كهرمان التي نظرت له بقوة تأبى أن تحيد بنظراتها، هي ليست مخطئة كي تتراجع خطوة واحدة .
وإيفان في هذه اللحظة ابتسم حين رأى نظراتها وعيونها تلك، بدا الأمر كما لو أنه ينظر في عيون أرسلان، نفس الأعين ونفس النظرات، هذه الفتاة نسخة مؤنثة من رفيقه، وهذا لا يساعد .
وكهرمان التي لم تتراجع أمام كلمات الملكة أو تحديها السافر، تراجعت أمام نظراته لها، لتتحرك عيونها بتوتر شديد جعل إيفان يتدارك ما يفعل وهو يقول بهدوء شديد :
” هل لديكِ رد على ما تقوله الملكة ؟؟ ”
سارعت والدته تقول بغيظ شديد :
” اي رد هذا مولاي لقد أخبرتك انـ …”
وقاطعها صوت إيفان الذي نظر لها باحترام وهدوء وقد علت نظراته برود شديد :
” مولاتي رجاءً، لقد سمعت منكِ ما حدث، والآن دورها للتحدث ”
عاد بنظراته لكهرمان التي استغلت حديثه مع والدته لتلملم شتاتها وهي تقول بأعين تحدق في الفراغ بعيدًا عنه كي لا تضعف مجددًا :
” مولاي، والدتك هي من اقتربت مني وتحدثت معي بشكل غير لائق واصفة إياي بالتبجح لأنني لا اعمل، ولم تمنحني حتى فرصة اخبارها أن المشرفة بذاتها هي من لم توكل لي اعمال اليوم، كما أنها وصفتني بالخادمة رغم أن ذلك اللقب غير مقبول هنا حسب معرفتي، والآن حين مجيئك وصفتني بالحقيرة كذلك وايضًا الغبية ”
لم تغفل كهرمان عن كلمة واحدة رافضة أن تترك حقها أو تمرر كلمة واحدة قيلت في حقها .
نظر إيفان لوالدته بحاجب مرفوع وملامح صخرية، هو تحدث معها البارحة فيما يخص هذا الأمر، والآن تأتي لتفعل هذا .
” هل لديك رد أو مبرر على ما قالت مولاتي ؟؟”
وغضب شهرزاد قادها للصراخ دون أن تهتم بأي شيء :
” تستحق وأكثر ”
تنفس إيفان بصوت مرتفع يقول :
” إذن اعتقد أن الملكة تملك اعتذارًا لكِ آنستي..”
بهتت ملامح والدته برفض واضح وهي تشير صوب كهرمان التي لم تخفض رأسها تنتظر اعتذارًا بالفعل :
” مولاي ما الذي تـ ..”
قاطعها إيفان بقوة واحترام :
” الاعتذار من شيم الكبار والنبلاء مولاتي، ليس ضعفًا أو شيء تخجلين منه، أنا إن أخطأت اعتذر، ثم هذه مواطنة من شعبي نالها ظلمًا وإن كان لفظيًا، وواجبي كملك هو أن أرده عنها، هذا ما اعلمه”
ختم حديثه يطيل النظر لوالدته والتي شعرت في هذه اللحظات أن من يتحدث في هذه اللحظة لم يكن ولدها، بل كان زوجها، ذلك المتجبر الذي كان يدهس الجميع أسفل أقدامه إن اقتضي الأمر، لم يكن يضع اعتبارًا لغني أو فقير، بل كان يهب لمساعدة الجميع دون تفرقة .
نعم أحسن زوجها تنشأه ابنها ..
” اعتذر منكِ، يبدو أنني تخطيت حدودي معكِ يا آنسة”
ختمت حديثها تتحرك بعيدًا عنهم وقد اعترض كبرياؤها عما فعلت، تتنفس بعنف وقد عاد في رأسها موقف مشابه حين أجبرها زوجها عن الاعتذار لخادمة سابقًا، الزمن يدور ويعيد نفسه، وهي لن تسمح بهذا …
وبمجرد رحيلها استدار إيفان صوب كهرمان يقول بجدية كبيرة :
” المرة السابقة رفعتي الغطاء بدعوى أن قوانيني لا تسير عليكِ خارج حدودي، والآن وأنتِ واقفة في نطاق الرجال، ستسير قوانيني عليكِ رغم أنفك ”
نظرت له كهرمان بذهول تحاول معرفة ما يقصد، لتنتقض على صوته الذي هدر بقوة :
” انزلي غطاء الوجه يا آنسة ”
ودون شعور منها انزلت كهرمان الغطاء بسرعة وهو منع بسمة لترتسم، والآن هز رأسه بهدوء ثم قال :
” أرجو أن تعذري والدتي ربما لم تقصد إهانتك، والآن استأذنك بالرحيل ..”
وبهذه الكلمات ختم إيفان وجوده يرحل مبتعدًا عنه، لكنه لم ينس أخذ قلب كهرمان معه كذلك .
فجأة انتفضت كهرمان على صوت تبارك خلفها يقول :
” كهرمان، أين زمرد ؟؟ بحثت عنها في كل مكان، اريد أن اتدرب معها قليلًا قبل مواجهة المساء ….”
تنهدت بصوت مرتفع تهمس وهي تفرك وجهها تحدق في وجه تبارك بتذمر شديد من قتالها المستمر هي وزمرد :
” يا الله لم يكن ينقصني متعطشة للقتال ثانية، كانت تكفيني زمرد …”
____________________
تحرك داخل المحل الخاص بعدما اتفق مع والدها منذ يوم تقريبًا أن يدعها تأتي إلى المحل للتحدث معها بعيدًا عن المنزل والجميع عامة، وعن مرجان خاصة …
تحرك داخل المكان يبحث عنها بعيونه حتى ابصرها تجلس على مقعد جوار المكتب الخاص بوالدها تضع أمامها طاولة تحتوي العديد من الأوراق، منكبة عليها باهتمام شديد وكأن لا غد لتدرس به، أو ربما كانت تلك مجرد حجة لعقلها كي ينشغل بالتفكير عمن شغل القلب ..
تنهدت بصوت مرتفع وهي تقلب الورقة بحنق تحت أعين الذي يتابعها باهتمام شديد مبتسمًا، هذه الصغيرة والتي رآها أول مرة جاء لشراء اعشاب، وقتها أحب شغفها بالنباتات وأُعجب بثقتها في نفسها رغم عمرها الصغير ذلك الحين، الآن وبعد أن أتمت الثانية والعشرين تقريبًا ونضجت، رأى أنه آن الأوان ليأخذ هذه الزهرة صوب بستانه الخاص .
رفعت ليلا رأسها وهي تنظر صوب الخارج بعدما شعرت أن للإضاءة القادمة من الباب الزجاجي قد خفتت بعض الشيء، وحين ابصرته تراقص القلب فرحًا وتناسى العقل فكرة نسيانه وهو يبتسم ببلاهة، بسمة ترجمها على فمها ..
ليبتسم هو في المقابل لبسمتها يقول بحنان :
” مرحبًا ليلا …”
نظرت له بأعين شاردة وكأنها تحاول الاقتناع أنه ليس طيفًا خرج من خيالاتها :
” سيدي الطبيب ؟!”
ضحك بخفة يجذب أحد المقاعد يضعها أمامها يقول بصوت خافت مبتسم :
” بل مهيار فقط ليلا، إذن كيف حالك !!”
توترت وهي تتذكر لقاءهم الأخير والذي انهته هي دون مقدمات فقط لتتلاشى لحظة الحقيقة التي لطالما تخيلتها كارثية .
ومهيار الذي أبصر كل صراعاتها تلك ابتسم يقول ببساطة :
” إذن هل أعطلك عن دراستك ؟؟”
توترت وهي تبعد الاوراق عن الطاولة الفاصلة بينهما :
” ماذا ؟؟ لا لا أنا متفرغة، فقط كنت اشغل وقتي بالدراسة و…”
توقفت عن الحديث تنظر لعيونه التي كانت تتابع كل ما تفعل باستمتاع ليهمس هو لها :
” إذن هل انتهت فترة هروبك ؟!”
” هروب ؟! أية هروب ؟؟ أنا لا اهرب منك ”
” ومن قال أنني اقصد الهرب مني ؟؟ لكن بما أنكِ ذكرتي الأمر، فأخبريني سبب هروبك مني ؟؟”
توترت وهي تفرك يديها بقوة وقد بدأ جسدها يهتز بشكل مثير للريبة ليتحدث هو بهدوء :
” اهدأي …ليلا اهدأي أنا فقط اود الحديث معكِ بهدوء بعيدًا عن المنزل واخيكِ الذي لا يتوقف عن النظر لي كما لو أنني سأحملك فوق كتفي وأهرب ”
صمت ثم أضاف بمشاكسة ليخرجها من حالة التوتر تلك :
” حسنًا أنا بالفعل اريد فعل ذلك، لكن حينما تصبحين زوجتي سيحدث، ليس الآن”
نظرت له بعدم فهم :
” زوجتك !!”
” نعم، ألا تريدين أن تكوني كذلك ؟؟ ”
انتبهت كامل حواسها له تقول بجدية :
” أنا ؟! هل …هل تريديني أن أكون زوجتك ؟؟ لكنني …”
قاطعها قبل أن تتطرق لتلك النقطة :
” ستكونين بخير، أنا اعدك ستكونين، هذه مجرد حالة مرضية يعاني منها الكثيرون ليلا، ليست وباءً أو شيء مخيف لهذه الدرجة ”
نظرت في عيونه تبحث عن الحقيقة، هل فعلًا لا يمتلك أي مشكلة فيما يخص حالتها الصحية ؟؟ ابتلعت ريقها تقول ببطء :
” هو أنا لا …لا اعاني من هذه الحالة كثيرًا فقط مرات قليلة في الاسبوع و…”
كانت تبدو كمن تستجدي بقاءه تخبره أنها ليست بهذا السوء وأنها ستحاول أن تكون افضل لأجله وهو ابتسم لها يقول بحنان شديد :
” عزيزتي لا بأس، سنتجاوز هذا سويًا أعدك”
وهي فقط ابتسمت، ابتسمت بامتنان كبير تحاول الحديث بكلمات تخبره بها أنها شاكرة له، لكن كل ما خرج منها هي كلمات خائفة :
” ستبقى ؟؟”
” لآخر العمر ليلا، إلا إن لم تحبي أنتِ بقائي ”
نظرت في عيونه تهمس دون وعي بأعين ملتمعة :
” لن أفعل ما حييت ”
تنهد مهيار بصوت مرتفع وقد مر الأمر بسهولة كبيرة، لم يلقى منها عنادًا أو تحديًا لا حاجة له، بل وجد بسمة أمل ترتسم على فمها وهو لم يغفل أن يردها بالمثل قائلًا يتنحنح :
” إذن بما أننا سنكمل هذا الطريق سويًا، وسنعالج كل هذا معًا، هل يمكننا السير بهذا الطريق ممسكي أيدي بعضنا البعض ؟؟”
نظرت له بعدم فهم ثم نظرت لكفها وكأنها تسأله إمكانية ذلك بيضحك هو ضحكة خافتة جذبت انتباهها يقولها صراحة :
” تزوجيني ليلا …”
_________________
كانت خلف أحد الأشجار التي تقبع أمام الباب الخاصة بالقصر، حيث ابصرته يخرج منذ ساعات طويلة وها هي تقضي نهارها وتضيع وقتها عديم الفائدة عليه، يا الله هذا الرجل لم يتسبب في ملئ حياتها المليئة بالمشاكل والمصائب بمصائب اضافية، بل أصبح يضيع وقتها الذي لا تمتلك أكثر منه على انتظاره، أين ذهب هذا الرامي المزعج !؟
هل ذهب لتلك العروس أم ماذا ؟؟
تنهدت زمرد وهي تستند على الشجرة تحرك تلك العصا في الأرض ترسم بها دوائر وهمية وهي تردد ترنيمة كانت تسمعها من والدتها معظم الاوقات .
وفجأة انتفضت حين ابصرته يتحرك بحصانه للداخل بسرعة كبيرة، نهضت تنفض ثيابها وهي تتحرك بسرعة خلف الحصان خاصته تقول بصوت منخفض مبتسمة :
” يا ويلي فارس بالفطرة …”
فجأة توقف الحصان الخاص ليهبط من فوقه برشاقة وهي ابتسمت بسمة واسعة، ليس معنى أنها لن تطاله يومًا أنها ستمنع نفسها عن حبه بينها وبين نفسها على الأقل .
هبط دانيار عن الحصان يتساءل بجدية :
” أين القائد سالار ؟!”
أخبره الجندي بهدوء شديد :
” رأيته منذ دقائق يتوجه صوب الساحة الخلفية الخاصة بالقتال ”
أومأ له دانيار يتحرك بسرعة صوب تلك الساحة، لكن فجأة أبصر جسدها الذي كان يراقبه ليتوقف فجأة مبتسمًا وهو يقول بصوت مرتفع قاصدًا أن يصل لها :
” يرفضن وعيونهن تصرخ بالموافقة، يا الله من النساء !!”
ختم حديثه يتحرك بعيدًا صوب الساحة تاركًا زمرد خلفه متسعة الأعين وهي تشعر بالمكان يدور حولها، هل …هل لمّح بحديثه منذ ثواني عنها ؟!
فجأة وحينما استوعبت الأمر صرخت بغضب شديد تضري الشجرة جوارها بقدمها صارخة :
” اللعنة على الرجال اجمعين، لو أنني ذهبت للقتال مع تبارك لكان خيرًا لي أيها الغبي الحقير، من تظن نفسك أنت ها ؟! ”
لكن دانيار كان بالفعل رحل ليجيبها، وهذا ما زادها إلا غضبًا وقهرًا لترحل وهي تتوعد له، وها هي سلسلة طويلة من المطاردات قد بدأت مجددًا .
_________________
كانت متوقفة أمامه في الساحة وهي تحرك السيف الخاص بها في مهارة شديد، ثم اتخذت وضعية القتال تضع لثامًا أعلى فمها، وهو يراقب كل ذلك ببسمة، الملكة أعدت العدة وارتدت ثياب سوداء لتضفي لمسة القوة عليها ..
والآن تقف أمامه دون أن تهتز لها شعرة واحدة في الساحة تود مبارزته .
حرك السيف الخاص به، ثم وفي ثواني وقبل أن تستوعب حتى متى أتخذ وضعية القتال وجدت ضربة قوية تهبط صوبها لتصرخ متراجعة وهي ترفع السيف تستخدمه كدرع وهو ابتسم يتراجع هاتفًا :
” درس جديد لكِ، لا تعطي منافسك لمحة عن بدايتك، فاجئيه باستعدادك النفسي قبل الجسدي ”
نظرت له بغيظ قبل أن تعتدل تنظر له لحظات معدودة، ثم في ثواني انطلقت صوبه ترفع سيفها في الهواء تهبط به في ضربات متتالية لا فرق بينهما في الوقت، وهو يصدها بكل مهارة دون أن يهتز به شعرة واحدة، وهي تضع قوتها بالكامل في تلك الضربات حتى شعرت بالغضب يتمكن منها لتطلق صيحة عالية تبعها ضربة غادرة في مكان لا يتوقعه سالار وبشكل غادر منها، وهذا ما جعله يرمقها بصدمة متجاهلًا وقع الضربة عليها .
ابتسمت هي تهتف في نفسها :
” صدقت زمرد أن احيانًا تضطرك المعركة للتعامل بقذارة ”
زمرد التي كانت تعطيها من الضربات الغادرة ما يحطم جسدها، لتعترض هي أنها لا تلعب بنظافة وهي لا تفضل هذه الطريقة، ويكون رد زمرد المعروف ( احيانًا تضطرك المعركة للتعامل بقذارة )
رمقها سالار بعدم فهم وهو يتحرك صوبها بغيظ وغضب :
” أنتِ ما هذه الضربات ؟!”
” ماذا ؟؟”
” من أين تعلمتي هذه الطريقة في القتال، هذا ليس جيدًا”
هزت كتفها دون اهتمام :
” لكنها اصابتك، إذن هي جيدة ”
حدق في عيونها وهي نظرت له تتنفس بشكل ملحوظ وهو يطيل النظر به، وكأن معركة السيوف انتقلت لتكون معركة أعين، لتغرق تبارك دون وعي في النظر له، واخيرًا هذا المشهد والذي كانت تحياه في أحلامها، ها هي تبصره بعيون الواقع ..
لكن أحلامها لم تكن تتضمن مخربين كالواقع، إذ انتفضت بقوة على انتفاضة جسد سالار بعدما سمع صوت دانيار الذي قال بجدية :
” سيدي …”
نظر له سالار بتسائل ليقترب منه دانيار يهمس له بعض الكلمات في أذنه غيرت من ملامح سالار بشكل ملحوظ، مما جعل الفضول يدب داخل صدرها، ابتلعت ريقها تحاول معرفة ما يحدث، لكن فجأة استدار لها سالار لتبعد عيونها عنهم بسرعة وهو ابتسم يقول بصوت خافت ..
” حسنًا دانيار، أذهب أنت وأنا سأتولى الأمر ..”
نظر لتبارك التي كانت تدعي انها تلعب بالسيف وتصفر في حركة تقليدية منها لتتظاهر بعدم الاهتمام .
وسالار الذي تلقى لتوه خبرًا سيئًا ما كان ليهتم له لولا أنه تضمن اسم ( أرسلان) وحالته التي ساءت والتي تحتاج لتدخل طبيب، والآن مهيار ليس متواجدًا في القصر ليأخذه معه .
نظر صوب تبارك يهتف بنبرة غريبة :
” إذن أنتِ تعملين مساعدة للطبيب ؟؟”
نظرت له باهتمام تقول بادعاء لعدم الإنتباه :
” أنا ؟؟ بتكلمني أنا ؟؟”
” مولاتي رجاءً توقفي عن التعامل بهذا الشكل فهو لا يليق بك صدقيني ”
نفخت تبارك تقول بغيظ :
” أيوة اتفضل ايه هتتريق عليا تاني ؟!”
” لا بل سأطلب مساعدتك ”
نظرت له باهتمام وهي تقول بعدم فهم :
” تطلب مساعدتي ؟!”
هز رأسه يقول بجدية :
” إلى أي درجة من الجروح تستطيعين التعامل ؟؟”
ونظرات الجهل لم تُمحى عن وجهها، ليكمل هو بنظرات غامضة بعدما اقترب منها خطوات جعلتها تطيل النظر به ودون وعي نظرت في عيونه ليهمس هو بصوت خافت :
” هل يمكنك أن تكوني كاتمة لاسراري …مولاتي ؟؟؟؟”
___________________________
حرب النفس اسود وأشد قوة من حرب الجسد، ومن يخرج منها رابحًا فقد كُتب له انتصارًا كبيرًا آخر …
يتبع…
كان يجلس بهدوء شديد وهو يراها تتحرك أمامه بغضب شديد، حركات أثارت استياء بومته العزيزة، مدّ كفه يربت على ريشها بحنان وكأنه يصبرها على احتمال الوجود غير المرغوب فيه من هذه المرأة التي اقتحمت مكتبته بعد سنوات من خروجها آخر مرة منها، وطردت مرجان للأنفراد به، شيء لا يعجبه أبدًا، حسنًا أي شيء متعلق بهذه المرأة لا يمكن أن ينال إعجابه يومًا .
” أنت لا تخفي شيئًا أيها العريف صحيح ؟!”
رفع عيونه لها بكل هدوء :
” وإن أخفيت شيئًا، ما الضرر في ذلك مولاتي ؟؟ الكل يمتلك أسرارًا صحيح ؟؟ وأنتِ كذلك تفعلين ”
توقفت عن الحركة حين شعرت بنبرة سوداء في صوته، رمقته بترقب ليبتسم هو لها يقول :
” أخبريني ما الذي أثار غضب الملكة الأم من الصباح لتشرفني بزيارة مقري الخاص؟؟”
وكأن شهرزاد كانت تنتظر تلك الكلمة إذ تحركت فورًا صوب الطاولة التي يجلس خلفها تضربها بكفيها في غضب :
” انت من أخبرت الملك أن الملكة الخاصة به من عالم المفسدين صحيح ؟؟ ”
” نعم، هذا ما حدث ”
اشتدت أعين شهرزاد تهمس بجنون :
” إذن ما لي أرى الماضي يعيد نفسه أيها العريف ؟! ما سر انجذاب ابني لتلك الخادمة الحقيرة ؟؟”
نظر لها العريف مدعيًا التعجب :
” خادمة ؟؟”
ضربت بقوة أكبر على الطاولة وهي تصرخ :
” أيها العريف لا تدعي غباءً أنت ابعد ما يكون عنه، أنا أدري أن احلامك لا تخطأ ونظراتك الثاقبة تلك لا يعقل أنها أهملت شيئًا كهذا، لقد أخبرته أن زوجته من عالم المفسدين، إذن ما تفسير ما يحدث الآن في هذا القصر ؟؟”
ضاقت أعين العريف بنظرات غريبة :
” صدقيني جنونك وصراخك هذا لن يغير أيًا كان ما كتبه الله لهم، لذا اهدأي وشاهدي بهدوء، ودعي الأقدار تُرسم كما خُطط لها مولاتي ”
شعرت شهرزاد أنها على حافة الجنون :
” أنت فقط تحب ما ترى، تحب أن ترى ولدي يتحرك ناحية الهاوية كما حدث سابقًا، فقط لتصبح الساحة فارغة لمدللك الأحب وتنهار المملكة ويسلبها هو من ولدي ؟!”
اشتدت أعين العريف يهمس بصوت سوداوي جعل جسد شهرزاد يرتجف خوفًا وقد تراجعت خطوات صغيرة :
” لا شأن لكِ به مولاتي، فقد اتفقنا قديمًا أن تدعي ولدي خارج كل هذه التراهات التي تخصك وتخص مملكتك، اتفقنا أن يكون خارج كل هذا، فلا تجبريني بإقحامك له على إخراج ما اكتم في صدري، لا تجبريني على تدمير هذا القصر أعلى رؤوس قاطنيه يا امرأة، وارحلي من مكتبتي في هذه اللحظـــــــة ”
انتفض جسد شهرزاد بقوة عندما قال هذه الكلمات، إذ ختم جملته بصراخ انتفضت على أثره مرتعبة، انتفض وهي تحاول التنفس وقد شحب وجهها حين تلقت تهديدًا صريحًا من العريف بفضح ما عكفت سنوات على حفظه، ابتلعت ريقها تقول بتردد :
” أنت تعهدت لي بعدم الحديث عما …”
وكان الرد منه بملامح غاضبة مخيفة :
“كان هذا قبل أن تقتربي بقذارتك من ولدي، لقد أخبرتك أنني سأبعده عنكِ وعن ولدك، فلا تأتي الآن وتقحميه في حديثك”
صمت يشاهد شحوب وجهها ليبتسم لها وقد قرر لمرته الاولى أن يفيض بما يضمر، كانت المرة الأولى التي يتحدث بما يعلم، خالف اعتقداته أن الأقدار لا يجب أن تُكشف، وليس بالضرورة أن تكون رؤياه واقعًا فعلم الغيب بيد الله فقط، لكن إن كان كشف ما بجعبته سيتسبب في جنون تلك المرأة فليكن :
” ولكي أريح قلبك مولاتي، فنعم زوجة ولدك ليست هي تبارك، بل هي تلك الخادمة التي تتحدثين عنها، وسواء قبلتي بذلك أو رفضتي فسيحدث ما كتب الله لهما، والآن ارحلي عن مكتبتي ولا تخطيها يومًا ”
اتسعت أعين شهرزاد وهي تردد بجنون :
” لكن أنت قلت أنها من الجانب الآخر، بل وارسلت قائد الجيوش خصيصًا ليحضرها، كيف ؟؟؟ كيف ؟؟ إذن ما الذي جعلك تجلب تلك الفتاة هنا إن لم تكن ….”
صمتت لا تعي ما يحدث، هذا الرجل أمامها يقول الكلمة وعكسها، ربما قال ما قاله فقط ليثير غضبها، فهو الوحيد الذي يعلم ماضيها الاسود مع الخادمات، هو فقط يود اغضابها، لقد …
صمتت ثم نظرت له بأعين زائغة :
” أنت فقط تحاول أن تستفزني ؟!”
” وما الفائدة التي ستعود عليّ حين استفزك مولاتي ؟؟ ما الفائدة التي ستعود عليّ حين أفعل، أنتِ تعلمين أنني لا اهتم في هذه الحياة بأي إنسان، لا بكِ أو بغيرك، لا اهتم بأي انسان عدا ولدي والذي أبعدته عنكِ وعن القصر وشرورك، وحفظت الجزء الخاص بي من العهد، فأحفظي أنتِ الجزء الآخر ولا تقحميه في أي شيء، هو من الأساس لا يعلم عنكِ ولا عن القصر أو الملك، هو يحيا بعيدًا عن كل هذه الأمور فدعيه وشأنه، واهتمي بولدك ..”
هزت رأسها وهي تقول بصوت منخفض :
” أنا أعلم ..أعلم أنك أبعدته و…فقط لا أصدق أن الملك سيتزوج خادمة، هل هذه لعنة على أبناء سفيد ؟! أن يحبوا خادمات ويتزوجن بهن ؟! ”
” وهل كنتِ خادمة مولاتي ؟! ”
نظرت له بصدمة رافضة :
” أي خادمة يا هذا، بل أنا أميرة ابنة ملك ”
هز رأسه بهدوء يجيبها مبتسمًا :
” إذن هذه اللعنة في رأسك فقط، والآن غادري مكتبتي ”
نظرت له بحنق شديد وهي ترى نظراته قد بدأت تعود لبرودها المعتاد واستفزازها المعروف، ابتسم يشير صوب الباب في دعوة منه لترحل هي، وكذلك فعلت البومة التي رفعت جناحها تشير صوب الباب ..
نظرت لها شهرزاد بغضب ليبتسم العريف وهو يربت على بومته يقول ببسمة :
” لا تنظري لها بهذا الشكل مولاتي فصغيرتي تخشى الساحرات ”
اشتعلت نظرات شهرزاد بقوة وهي تصرخ خارجة من المكان بأكمله تحت ضحكات العريف والذي بمجرد خروجها تنهد براحة يقول متوعدًا :
” الويل لكم مني إن مس أحدكم ولدي يا ملاعين …”
________________________
كانت تقف في العيادة الخاصة به وهي تنظر حولها تتفحص الجرات وكل ما تقع يدها عليه، علها تجد ما قد يساعدها :
” إذن يا قائد أنت لم تخبرني أي نوع من المرضى سأعالج ؟؟ لديه جروح خفيفة، أم حمى قاسية أم….”
قاطع حديثها صوت سالار الذي كان يستند على إطار الباب ببرود شديد :
” ثلاث طعنات واحدة بالصدارة وأخرى بالخصر وثالثة بمنتصف البطن، وقطع عميق بعض الشيء بالذراع بالإضافة لجروح أخرى سطحية ”
توقفت يد تبارك عما تفعل واستدارت له ببطء تقول :
” نعم ؟!”
” ماذا ؟؟”
” مش فاهمة اللي قولته، أنت عايزني اعالج المرحوم قبل دفنه يعني ؟؟”
وكان دوره هو ليتعجب من تلك الكلمة التي أطلقتها على أرسلان، أي ” مرحوم ” تقصد هي ؟؟ هل تسخر من رفيقه ؟؟
” ماذا ؟! أي مرحوم هذا ؟؟ ودفن من ؟؟”
” المرحوم اللي متقطع طرنشات ده، اصل مش معقول تكون دي مواصفات مريض حي أبدًا ”
رفع حاجبه يقول بصوت ساخر :
” ألم ترى بأعينك جرحى ومصابي الحروب ؟! ”
” نعم رأيت، لكن ليس بهذا الشكل، لا تقنعني أن هناك انسان قد يتلقى كل هذا العدد من الطعنات ويحيا بعدها كأن شيئًا لم يكن ؟؟”
نظر لها ثواني قبل أن يقول ببسمة صغيرة :
” أنا عشت بعد تعرضي لسبع طعنات منهم اثنتين بالصدر ”
اتسعت أعين تبارك تمر بها على جسده بقلق ملحوظ وكأنها تبحث عن آثار تلك الطعنات ليتعجب هو نظراتها يقول بجدية :
” كان هذا منذ سنوات في إحدى الحروب ”
ارتجف جسد تبارك وهي تستدير مبتعدة عن عيونه وهي تقول بصوت منخفض تحضر بعض الأعشاب التي قد تحتاجها في معالجة ذلك الجريح :
” الحمدلله أنك نجوت يا قائد ”
” الحمدلله، هل انتهيتي ؟!”
هزت رأسها لتتحرك صوبه تحمل حقيبة الظهر الخاصة به والتي ملئتها بما قد تحتاجه، ليحملها هو عنها، يشير بيده لها أن تخرج قبله وتسبقه، وهي نظرت له بتعجب وبسمة جانبية غريبة :
” حقًا هل تتصرف الان برقي معي ؟؟ أنت تتغير يا قائد ”
رفع حاجبه وهو يتحرك خلفها يجيب بهدوء شديد :
” لا اعلم، لكن ربما هذا ناتج عن كثرة تعاملي مع النساء ”
توقفت فجأة تستدير صوبه تردد بانتباه :
” نساء ؟!”
” معك ”
رفرفت برموشها بتعجب قبل أن تبتسم بسعادة أنه اختصر كل النساء فيها، اختصر كامل تعامله مع النساء عليها، وهذا نوعًا ما يرضيها، بل يرضيها كامل الرضا ..
ربما ليس الأمر كما تفكر هي، لكن هذا الشعور يسعدها وهي ستفكر به على النحو الذي يسعدها .
وهو سار جوارها على بعد مناسب لا يعي لكل تلك الأفكار التي نتجت عن كلمة واحدة منه، في الحقيقة هو قال ما يشعر به، فهو لم يتعامل مع النساء سوى معها هي، لذا هو محق الآن…
تحركت معه على الحصان الخاص بها وهي تخفي وجهها خلف لثامها، تسير جوار القائد، وبمجرد خروجهم من القصر حتى تنفست تبارك الصعداء تقول بصوت منخفض :
” الحمدلله خرجنا، هو احنا كنا مستخبيين ليه يا قائد ؟! هو حد مطاردك ؟؟”
نظر لها بتعجب يرى وضعية جلوسها المتحفزة أعلى الحصان الخاص بها، ثم هز كتفه يقول بجدية :
” نحن لا نتخفى، بل أنتِ من تفعلين ”
” هو مش أنت قولتلي الموضوع سر والمفروض محدش يعرف عنه ؟؟”
هز رأسه ببطء يقول :
” نعم، وهذا لا يعني بأن نخرج كاللصوص من القصر، نحن لا نرتكب شيئًا خاطئًا كي نخشى احدًا، نحن اصحاب حق، وصاحب الحق ما كان له أن يسير مرتابًا ”
نظرت له بعدم فهم ليتنهد هو مختصرًا كل حديثه السابق :
” نحن لا نفعل شيئًا خاطئًا، وإن كُشف لن تحدث كارثة، لكن فقط اود أن يكون الامر سرًا حتى اتدبر اموري ”
هزت رأسها متفهمة، ثم قالت بهدوء شديد :
” فهمتك …”
صمتت ثواني، ثم رأت نظراته الباردة الهادئة والغريبة، لا تعلم إن كانت محقة في شعورها أم لا، لكن ملامحه منذ الصباح منقبضة بشكل مريب، ليس وكأن القائد شخص بشوش الوجه مبتسم طوال الوقت، لكن هذه الانقباضة كانت غريبة ..
فجأة وأثناء شرودها بملامحه استدار لها يقول بجدية :
” بمجرد وصولنا لحدود تلك الغابة سنسرع من سيرنا”
توترت تبارك بقوة حين استدار لها بهذا الشكل المفاجئ وحاولت تلاشي كل ذلك وهي تقول بصوت منخفض :
” حسنًا ”
تعجب صمتها ونظراتها المتوترة، لكنه لم يهتم البتة وهو يشرد أمامه، في كل مرة يخطو لتلك الغابة يسمع اصوات صراخ والدته مصحوبًا بجسدها المضجر في الدماء، وصيحات والده المصحوبة بجسده الملئ بالطعنات، ومشهده هو راكضًا بين أشجارها لاهثًا باكيًا يستجدي مساعدة ..
تنهد بصوت مرتفع وحين وطأ الغابة قال كلمة واحدة :
” ارني مهارة تميم في تعليمك للخيل”
وفي ثواني انطلق فرسه بشكل مرعب جعل فم تبارك يتسع وهي تنظر حولها تبحث عن أثره، ثم فجأة سمعت صوته الذي جاء من الامام يقول بصوت مرتفع :
” سابقيني مولاتي ….”
دون شعور ارتسمت بسمة جانبية على فم تبارك قبل أن تنغز بقدمها معدة الحصان تطلق صيحة مرتفعة تحثه بها على الركض، وفي لحظات قليلة كان حصانها ينطلق مسابقًا الريح جاعلًا من حجابها ولثامها يتطايرا للخلف بقوة وهناك بسمة واضحة في عيونها وهي تنظر للقائد تقول بصوت مرتفع :
” إن تفوقت عليّ في ساحة المبارزة، فلا مجال لك لفعل ذلك في الفروسية سيدي القائد …”
ومن بعد هذه الكلمات لم يبصر سالار سوى ظهر فرسها وظهرها وهي تسبقه بشكل جعله يفتح فمه منبهرًا، فمن تلك المرة التي كادت تقتل الخيل بها خنقًا لم يرها تجلس فوق ظهر واحدٍ آخر، وهذا ما يراه أمامه في هذه اللحظات كان …رائعًا .
وهذا المشهد وهذه الذكرى جعلت مشهدًا آخر يقفز أمام عيونه، يزيد من سرعة حصانه وهو يرى أمامه حصان آخر يسابقه، لكن في هذه اللحظة لم يكن حصان تبارك هو ما يسبقه، بل كان حصانها …حصان والده .
اتسعت بسمة سالار دون وعي وهو يراه يستدير له يبتسم ويشير أن يسرع، كان يبطئ عمدًا من فرسه خوفًا أن يسقط هو عن خاصته، يشير له بتشجيع :
” هيا صغيري احسنت، أنت الفارس الاروع، يومًا ما سالار ستسبقني يا عزيزي ..”
” يا قائد …يا قائد …سالار ”
انتفض سالار على تلك الكلمة ينظر حوله دون وعي، وكأن فجوة زمنية ابتلعته، ثم لفظته حين نطقت هي اسمه و….مهلًا نطقت اسمه ؟؟
انتفض جسد سالار بشكل غير محسوس ينظر لها بترقب لا يصدق أنها للتو نطقت اسمه مجردًا، نظر لعيونها بدهشة شديدة ..
وهي لم تستوعب بعد ما فعلت، هي فقط خافت حين رأت ملامحه الشاحبة أعلى خيله، وفجأة توقف دون سابق إنذار ليثير فزعها وهي تعود صوبه تناديه بلهفة .
نظر لها سالار يردد بصوت منخفض :
” أنا …بخير، لنكمل الطريق ”
وبالفعل فعل ما قال متجاهلًا ضربات قلبه التي تُنبأ بثورات داخله، ثورات ظن بكل غباء أنه وضع حدًا لها البارحة ..
أفاق من أفكاره على صوت جواره يقول بجدية :
” أنت بتعمل كل ده عشان متعترفش اني فوزت عليك صح ؟!”
نظر لها سالار بعدم فهم لتقول تبارك وهي ترفع رأسها بتكبر :
” أنظر لنفسك ”
نظر سالار لنفسه بالفعل لتكمل هي جملتها المعلقة :
” أنت قائد ذو رتبة وحاجة كبيرة ماشاء الله عليك، مش مكسوف من نفسك تعمل الحركات دي ؟! كل ده عشان سبقتك ؟؟ يا اخي اعترف مرة بالهزيمة ”
لم يفهم سالار ما الذي تتحدث بشأنه ليقول بحنق :
” هل أنتِ بلهاء ؟! ما الذي تتحدثين عنه ؟؟ وأي فوز هذا الذي تدعينه ؟؟”
نظرت له بغضب وقبل أن تتحدث قاطعها بغيظ :
” تعلنين انتصارك قبل حتى أن تنتهي المنافسة ؟؟”
التوت ملامح تبارك بغيظ شديد وهي تتحرك بالحصان تسبقه غاضبة من تصرفاته دون رد من جهتها، ليس لأنها تود الترفع عن الرد عليه، بل لأنها بالفعل لا تمتلك واحدًا ..
وهو نظر لظهرها بتعجب أن رحلت دون كلمة وهذا ما لم تكن تفعله سابقًا، فحتى إن لم تكن تمتلك ردًا كانت تخرج له بأي كلمة غبية .
تحرك خلفها يقول بصوت خافت :
” أرى أنكِ في طريقك للنضج مولاتي، وهذا شيء يسعدني الحقيقة ..”
نظرت له من خلف كتفها تقول بصوت منخفض :
” عقبالك..”
ابتسم بعدم تصديق وهو يهتف بحنق شديد :
” يا الله ماذا كان ليحدث لو أنني أرسلت لإحضار مهيار من أسفل الأرض السابعة بدل أن اعلق في هذه الرحلة مع هذه المرأة ”
أجابته تبارك بكل بساطة وهي تسبقه بخيلها مبتسمة صغيرة :
” كنت ستفقد صديقك الذي تخفيه عن الملك، والذي أشك أنه هارب من العدالة، أو ربما مجرم خطير تأويه أنت، أو الأسوء عدو لدود تحتفظ به وتعذبه ليعترف عن كل ما تريده وحين شعرت أنه سيموت سارعت لتعالجه، فأنت لم تنتهي منه بعد ”
احتمالات كثيرة كانت تتوافد لعقلها بقوة وهي تبحث عن علاقة هذا المريض بالقائد، احتمالات كبيرة لا تدري أيهما أصح، لكن ما لم تفكر به هو أنه لم يكن أيًا مما خمنت، بل صدمها سالار وهو يقول بكل هدوء :
” بل هو صديق عزيز عليّ، حياته تعنيني وبشدة، لهذا احضرتك لمساعدته ..”
________________
” إذن والدتك تنحدر من أية مملكة !!”
نظرت لها زمرد وهي تضيق عيونها بشك، قبل أن تقترب فجأة من برلنت التي تراجعت للخلف تقول بريبة :
” ماذا ؟!”
” أنتِ يا فتاة منذ استيقظتي ولم تتوقفي عن طرح اسئلة غريبة، هل تحاولين الايقاع بي ؟؟ ”
سخرت منها برلنت تدفعها بعيدًا عنها وهي تستقر على أحد المقاعد في الحديقة تضع يدها على خدها بتعب شديد :
” أنا فقط لدي الكثير من الفضول الذي يدور حولك، وكنت طوال الوقت أخشى سؤالك ”
” والآن لا تفعلين ؟! ”
تجاهلتها برلنت وهي تحرك يديها أمام وجهها :
” لا أفعل فأنا الآن أضحيت زوجة صانع الأسلحة الملكي، أي أنني امتلك حصانة ضد أي شخص تسول له نفسه لمسي ”
رمقتها زمرد بشكل مخيف لتتراجع برلنت بشكل ملحوظة تتمسك بذراع كهرمان التي كانت شاردة في هذه اللحظة لتنتفض على مسكتها وهي تسمع صوت برلنت تقول :
” يااا ما بكِ يا فتاة، كل هذا لأنني سألتك عن أصول والدتك، اعتقد أنكِ أخبرتني حقيقة أن والدك حقير هو من أخذها بالقوة وهي لا حول لها ولا قوة ”
رمتها زمرد بشر لتشعر برلنت بأنها تمادت لتقول :
” آسفة لم اقصد قول ذلك على والدك، لكن أنتِ تعلمين أن والدك كـ …”
” لعنة الله على ذلك القذر سليل الشياطين، عسى أن يحترق بالجحيم، أنا لا أحب أن تقولي على امي لا حول لها ولا قوة، أمي كانت امرأة قوية لم تنحني له بسهولة ”
نظرت لها برلنت ثواني لا تفهم شيئًا، لكنها هزت رأسها تقول :
” أوه نعم، رحمة الله عليها ”
صمتت زمرد ثواني قبل أن تقول بشرود :
” لم تتحدث أمي كثيرًا عن ماضيها، لم تكن تحب تذكر شيئًا، لكنها أخبرتني ذات مرة أنها كانت إحدى نساء مملكة سفيد، وقد قُتلت عائلتها أمام عيونها، ثم سُحبت دون فرصة حتى لتوديعهم الوداع الأخير ”
صمتت تحاول التنفس بصعوبة بسبب ثقل تلك الذكريات، لتشعر بكف برلنت تربت على كتفها بحنان شديد :
” لا بأس حبيبتي، والدتك الآن في الجنة، فقد أضحت شهيدة ”
هزت زمرد رأسها بتفهم، وهي تنظر صوب كهرمان الشاردة دون ردة فعل على ما يحدث حولها :
” ما بكِ كهرمان ؟! ما هذا الصمت الذي تغرقين منذ الصباح ؟!”
نظرت لها زمرد وهي تقول بصوت منخفض :
” لا شيء ..فقط …هو ”
صمتت قبل تقول بصوت خافت موجوع :
” لقد أقترب العيد الوطني ولم …. أنا فقط أشعر بالوحدة دون أمي وأخي، لقد اعتدت في مثل هذا الوقت أن اتجهز معهم لاستقبال هذا اليوم و…”
تنفست بصوت مرتفع تحاول الخروج من هذه الحالة وهي تقول بصوت حاولت أن تظهره عاديًا :
” فقط اتمنى أن تكون بلادي سالمة، لا اطلب لهم عيدًا وطنيًا مليئًا بالبهجة كباقي الممالك، بل فقط اطلب لهم حياة هانئة كأي إنسان، أشعر بالعجز، أشعر بالحقارة تسري في دمائي، أنا هنا آمنة وهم هناك معذبون ”
ختمت حديثه تدفن وجهها بين كفيها، بينما نظرت لها زمرد وهي لا تعلم ما الذي يجب قوله، فالمتسبب بهذه الحالة ليس سوى شعبها هي، لا يمكنها إلا أن تشعر بالحقارة والخسة كلما رأت معاناة أحدهم بسببهم .
ابتلعت ريقها بصعوبة تأبى قول ما تشعر به، فهي وداخلها تدرك أن شعبها لن يفوتوا مناسبة كتلك دون أن يتسببوا في قلبها لدمار، فهم لا يعشقون شيء بقدر إحالة سعادة البعض لتعاسة خالصة، هي واثقة أشد الثقة أن قومها سينتظرون ذلك اليوم بفارغ الصبر لتحويله إلى جحيم، أوليس ذلك ما كان يحدث كلما قررت والدتها الاحتفال بعيدهم ؟؟
كيف تجاهلت هذا الأمر، يا الله كيف نست هذه الحقيقة ؟؟ أقترب العيد الوطني للمالك الأربعة، واقترب الوقت المفضل لفرض سوادهم على من يحيط بهم .
وحديث ذلك اللعين شقيقها في أحد الأيام تردد في أذنها، يوم كانت في القبيلة تجلس حول النيران تراقبه وهو يقول بغضب وسكر شديد :
” يحتفلون بالاعياد ويفرحون ونحن هنا نُعذب ؟؟ اقسم فقط لو وضعت يدي عليهم سأحيل أعيادهم لمجازر، سوف اجعلها ذكرى سوداء لا ينسونها لأجيال عديدة، سيكون كل يوم يقربهم بعيدهم ما هو إلا عد تنازلي لهلاكهم ”
فزعت زمرد وانتفضت تقول بصوت خافت :
” لقد …سوف اذهب لاحضار شيء ما، لقد نسيت حنجري في الغرفة سأذهب لاحضاره واعود بسرعة ”
نظرت لها برلنت بعدم فهم :
” الآن ؟؟ ما الذي ستفعلينه به !!”
” لا شيء، فقط لا احب السير دون خنجري، أي شيء كي يشعرني بالراحة، هذا شيء فطري ”
ختمت حديثها تتحرك بعيدًا عنهم بسرعة كبيرة وهي تشعر بقلبها يؤلمها وقد عادت لها ذكريات تأبى أن تمر على خاطرها ولو بالخطأ، نزعت اللثام الخاص بها بعصبية شديدة تمحي دموعها رافضة أن تدعها تسقط ..
تحركت بأقدام سريعة صوب المكان الذي تدرك أنه ربما يكون به، وحين وصلت له كان يقف هناك بين العديد من الرجال بملامح جادة وهو يتحدث مع الجميع :
” لا اعتقد أن الأمر سيسير بهذه الطريقة، نحن لا نصيب اهداف ثابتة، في الحرب لن يقف عدوك منتظرًا أن تتكرم عليه وتصيبه بسهمك صحيح ؟؟ لذا تدربوا على أهداف متحركة ”
نظر لأحدهم يشير صوب لوح خشبي :
” أنت ارتدي درعك وأحمل هذا الهدف وتحرك في المكان، الباقيون أبدلوا السهام بأخرى خاصة بالتدريب لا تتدربوا بسهام حقيقية، و….”
فجأة توقف عن الحديث حين وجد جسد يعلمه جيدًا يقتحم المكان وهو يقول بلهفة :
” أود التحدث معك في أمر هام يا قائد …”
صُدم دانيار مما يحدث ونظر حوله لرجاله الذي حدقوا بهذه الفتاة في تعجب شديد ليرفع هو حاجبه يقول بصرامة :
” كلٌ لما كان يفعل …”
أبعد الجميع أعينهم عنها وهو تحرك صوبها يقول بجدية :
” أكملوا كما اخبرتكم حتى اعود ..”
تحرك لأحد الأركان بعيدًا عنهم وهو ما يزال يرمق زمرد بتعجب، فكيف تقتحم تدريبًا خاصًا برجاله وتتحدث بهذه البساطة أمام الرجال معه مثيرًا العديد من الشبهات حولهما، أمر كان مرفوضًا لولا أن أبصر شحوبها ؟؟
وقبل أن يتحدث بكلمة واحدة نظرت له تقول بجدية ولهفة كبيرة :
” بافل …”
نظر لها دانيار بعدم فهم لتتحرك هي تقترب منه بلهفة غير مقصودة واعين تلتمع بالوجع والخوف :
” هو سيحيل عيدهم لمجازر، سوف يقيم أكبر مزبحة عرفها التاريخ بشعب مشكى، ستكون أشبه بإبادة عرقية…”
____________________
ابتسم بسمة واسعة وهو يميل على الطاولة بينهما يقول بجدية كبيرة وعيونه تتحرك على المحيطين به :
” نعم لقد تم الانتهاء بالكامل من ترتيبات العيد الوطني، وامي تولت الأمر بنفسها ”
ابتسم العريف بسمة جانبية يهمس بصوت منخفض :
” نعم الملكة الأم، الراعي الرسمي للترفيه في المملكة ”
نظر له مرجان بتعجب وهو يهمس بصوت منخفض :
” ماذا ؟؟”
” لا أتحدث معك مرجان ”
هز مرجان رأسه، ثم انتبه للملك والذي كان يوجه حديثه صوب تميم بجدية كبيرة :
” إذن تميم ما رأيك أنت فيما قلته ؟!”
نظر له تميم بعدم فهم، يعتدل في جلسته، ثم نظر للجميع بجدية :
” عفواً مولاي لكنني لم انتبه، ما الذي قلته عدا ذكرك لأمر الاحتفال الوطني الذي ستتولاه الملكة ”
ابتسم له إيفان يقول بجدية :
” نعم هذا ما قلته ما رأيك ؟؟”
” في ماذا مولاي ؟؟”
” في توليك أمر الترتيب للحفل مع والدتي ؟؟”
شعر تميم في هذه اللحظة بالغباء الشديد، هو لا يفهم ما يريد الملك، لكنه رغم ذلك قال بصوت عادي :
” إن كان الأمر يخص عملي فلا مانع مولاي، لكن لا اعتقد أن الاحتفال يحتاج لأسلحة”
صمت يرى نظرات إيفان الغريبة وبسمته ليدرك شيئًا سريعًا، جعله يبتسم بدوره وهو يقول بشك :
” أم يفعل ؟؟ ”
ابتسم له إيفان بسمة صغيرة ليصمت تميم وهو يهز رأسه ببساطة تحت أعين العريف الذي ابتسم بخبث وهو يقول بصوت منخفض :
” ذلك الداهية الخبيث، لو أن والدتك تمتلك نصف عقلك، ما فعلت كل ما فعلت ”
نظر له مرجان يقول بعدم فهم :
” ماذا ؟!”
” لا أتحدث إليك مرجان ”
هز يقول بهدوء :
” لمن إذن ؟؟”
نظر له العريف يقول بحنق :
” للبومة مرجان…”
التوى ثغر مرجان بحنق وهو يركز كامل حواسه مع الاجتماع .
نظر إيفان للجميع ثم قال بتسائل :
” ألم ير أحدكم سالار اليوم ؟! لقد بحثت عنه وارسلت لأجله ولا أثر في القصر بأكمله له ”
نظر الجميع لبعضهم البعض بجهل قبل أن يشرد إيفان قائلًا :
” ودانيار، أين هو ؟!”
هز تميم كتفه بجهل ولا يدرك حقًا سبب غياب القائد ودانيار، فقط يأمل في رأسه أن يمتلكوا حججًا قوية تمنع حضورهم ..
” إذن وبسبب غياب سالار ودانيار، لن نستطيع التحدث بشيء لذلك سنؤجل الاجتماع لـ …”
فجأة انتفض الجميع بسبب اصوات مرتفعة صادرة من الخارج جعلت أعين إيفان تشتد وهو يتحرك عن مقعده يسير بقوة صوب الباب .
وبمجرد خروجه أبصر أمامه آزار يتقدم عدد كبير من جنوده وجواره ابنه وهو يقول بصوت مرتفع غاضب :
” تجرأت وارسلت رجالك لحدودي وقتلت جنودي إيفان ؟؟ الويل لك ولشعبك بأكمله، ليس آزار من يصمت على شعرة واحدة تسقط من رأس جنوده ”
ختم حديثه يخرج سيفه في الوقت الذي أخرج به جميع جنوده السيوف، وهو اشتدت ملامحه يوجه سيفه للمرة الثانية على رقبة إيفان الذي ابتسم بهدوء شديد يقول :
” مرحبًا بك ملك آزار مرّ وقت طويل منذ أنرت مملكتي بطلتك، حقًا اشتقت لك ”
اشتدت أعين ازار من تلك الطريقة التي يتحدث بها إيفان، حقًا أنها لوقاحة كبيرة منه، يهجم على حدوده في المساء، والآن يرحب به في مملكته .
” شكرًا لك إيفان، لكن للاسف أنا لم آت لاستقبل منك ترحيبًا في مملكتك التي لا يشرفني أن اخطوها، ما حدث ليلة الأمس على حدودي أمر لن اتنازل عنه إلا بالدم، لذا أنت بفعلتك أعلنتها حربًا على مملكتك، ولست أنا من أخسر حروبي ولو جئت بجيوش الأرض جميعها وليس جيشًا كخاصتك ”
ابتسم له إيفان بسمة صغيرة يقول بهدوء وهو ينزل سيفه عن رقبته :
” لا تقلق، لن آتيك بجيوش الأرض جميعها، يكفيك جيشي ملك آزار، إذن تريد الحرب اليوم أم غدًا، فهذه الفترة أنا وجيوشي في مزاج للحروب ”
نظر حوله ثواني وكأنه يبحث عن أحدهم، ثم نظر له يقول ببسمة :
” حسنًا لسوء الحظ فسالار ليس هنا، وإلا كنت أخبرته أن يحاربكم الأن إذ يبدو عليك وعلى ولي عهدك اللهفة، إذن ما رأيك في الغد بعد صلاة الجمعة بإذن الله !!”
اشتعلت أعين آزار بقوة، قبل أن ترتسم بسمة جانبية يقول بصوت خافت ونبرة مخيفة بحق :
” وأنت يا مولاي، لا تستطيع قيادة جيشك فتنتظر عودة قائد جيوشك ؟؟”
” بلى افعل، لكنني امتلك امورًا أهم من محاربتك ملك آزار ”
وعلى عكس المتوقع لم يغضب آزار، بل ابتسم له يقول بصوت خافت :
” إذا انهي امورك وقابلني في ساحة المعركة، فأنا قتالي معك أنت إيفان وليس مع جيشك، نلتقي في الساحة يا …سليل المتجبرين ”
ختم آزار حديثه يبتعد عن إيفان بملامح مخيفة، ولم يكن آزار في الحقيقة ذلك الخصم السهل الذي يمكنك الاستهانة به، بل إن جئت للحق فمعركة واحدة مع آزار اشرس من مئات الحروب مع المنبوذين .
وما حدث بمثابة فتح أبواب الجحيم على الجميع .
لكن إيفان ليس ذلك الشخص الذي يظهر لك ما يدور بخلده، أو يظهر لك أي تفكير من شأنه أن يعلي من كفتك، هو فقط يتعامل مع الجميع بنفس المقدار ونفس الملامح، فلا يعطيك ردة فعل توحي بما يضمره لك .
ابتسم بسمة صغيرة يقول بكل بساطة وكأنه يحدد مع آزار وقت تجمع عائلي :
” إذن ما رأيك بعد الانتهاء من العيد الوطني للمالك نلتقي في حرب سويًا، سأحب أن تكون منافسي ”
نظر له آزار بهدوء شديد وبسمة واسعة يهمس له بترقب :
” لك هذا إيفان…”
وبهذه الكلمات انتهى الحوار وانتهت المعركة القصيرة بين الطرفين وغادر آزار بكل بساطة مشتعل الوجه، بينما إيفان يراقبه بهدوء قيل أن يستدير للجميع يقول :
” أين كنا قبل أن يقطع علينا الملك ازار الاجتماع ؟؟”
نظر له العريف بصدمة، لا يصدق حقًا عبيثة الحوار الذي نشأ على مسمع منه، ولا يصدق أن إيفان سيخوض حقًا حربًا بجيشه ضد مملكة شقيقة لهما ..
” مولاي عفوًا للتدخل وتجاوز حدودي، لكن هل أنت مغيب ؟؟ ألم تعي ما حدث منذ ثواني ؟؟”
نظر له إيفان بعدم فهم :
” وما الذي حدث أيها العريف ؟؟ ”
نظر العريف جواره للجميع وكأنه يستنجد بهم أن ينقذوه من ميتة وشيكة على يد هذا الرجل الذي جعله الله ملكًا عليهم .
” ما الذي حدث ؟؟ أعلنت الحرب على آبى ؟؟ أعلنت الحرب على إحدى الممالك ؟؟ وليس إحدى الممالك فقط، بل اقواهم في الوقت الحالي، وهذا دون أن تستشيرنا ؟؟ هل تمازحني ؟!”
نظر تميم صوب إيفان ينتظر رده، وقد تراجع هو عن الاعتراض، فهو في الحقيقة لا يفهم ما يدور داخل عقل إيفان والذي هز كتفه بهدوء يقول :
” هذا ما حدث، الملك آزار تجاوز كامل حدوده ولا مجال للنقاش معه، فتهديده لي كان للمرة الثانية، والآن اعذروني فلدي العديد من الأمور التي تشغلني وعليّ الانتهاء منها ”
ختم حديثه يتحرك بكل هدوء بعيدًا عن الجميع تاركًا العريف يشير صوبه دون فهم :
” هذا الـ …هذا الـ ”
كان كمن يبحث عن وصف في عقله يليق بايفان، بينما البومة تقف فوق كتفه وهي تصدر اصواتًا مزعجة وملامحها منكمشة بغضب وكأنها تشارك العريف في احتجاجه عما يحدث ..
بينما تميم يراقب كل ذلك ببلاهة يقول :
” إذن هل أزيد من العمل بمصانع الأسلحة لأجل الحرب ؟؟”
رفع العريف كفيه في الهواء يقول بغضب شديد :
” يا الله الرحمة، ما بال سالار تلبث الجميع فأصبحوا يبحثون عن الحروب ؟؟ ما بالكم يا قوم، ستحيلون حياة الشعوب لجحيم، أتظنون الحروب مزحة ؟؟”
نظر له تميم يتراجع للخلف لا يفهم سبب غضبه، وقبل أن يقول كلمة واحدة تركه العريف وهو يتحرك بغضب شديد صوب مكتبته وعباءته تتطاير خلفه بقوة وهو يهتف بغضب :
” ليحترق القصر بمن فيه، عسى أن يتخلص آزار منكم اجمعين، حينها وحينها فقط سأحيا في سلام بعيدًا عنكم ….”
رمقه تميم بحنق وكذلك مرجان الذي كان يقف جواره يراقب رحيل العريف ولا أحد يدري القادم، لكنه ليس بالشيء السار على أية حال ….
__________________
درات بعيونها حول ذلك الكوخ وقد شعرت بألفة شديدة وسكينة كبيرة، مظهر هذا الكوخ يعطيها ذلك الشعور بالراحة، لكن فجأة قفزت فكرة برأسها تستدير صوب سالار تقول بشك :
” أين نحن بالتحديد !!”
رفع حاجبه لا يفهم غرض سؤالها، لكنه انتهى من ربط حبال الأحصنة يتحرك صوبها بخطوات قوية جعلت قلبها ينبض بشكل غير طبيعي البتة وهي تراقب قدمه، وحينما أصبح أمامها قال بنبرة عادية ليس وكأنه منذ ثواني كاد يتسبب لها في توقف مفاجئ في ضربات القلب :
” نحن على حدود سفيد ”
رفعت عيونها له بصعوبة تهمس بصوت منخفض :
” حدود سفيد ؟؟ ”
” نعم، هذا الكوخ هو كوخ عائلتي، الشيء الذي لم اشاركه مع أحدهم سابقًا، ولا أحب أن يعلم عنه أحدهم شيئًا ”
تحرك صوب الكوخ بهدوء مسلمًا بأتباعها له، لكنها لم تخطو خطوة واحدة خلفه تقول بعدم فهم :
” لكنك شاركتني إياه للتو …”
توقفت أقدامه وكأنه استوعب الأمر فجأة، نعم هو شاركها للتو أحد أكثر أسراره عمقًا، المكان الذي يحتفظ فيه بعبق والديه، يحتفظ فيه بسالار الصغير والذي يخفيه أسفل الفراش خائفًا عليه من غدر الزمان، اغمض عيونه يقول بصوت منخفض :
” نعم فعلت …”
تحرك يكمل طريقه صوب الكوخ تاركًا إياها تنظر لظهره بعدم فهم، قبل أن تتبعه، فهذه الكلمات التي أجاب بها عليها لم تكن وافية لها .
سارت صوب الكوخ وهي تتأمل الطبيعية المحيطة، من بنى هذا الكوخ قطعًا كان شخصًا في غاية الرومانسية والحالمية، مكان إن كانت عاشقة ستحب أن تقضي به سنوات رفقة من تحب .
وعند هذه الفكرة تحركت عيونها صوب ظهره وكأنها تفكر في احتمالية هذا الأمر الذي …لا لا لا ليس هذا، ليس هذا أبدًا هي …جاءت هنا لتصبح زوجة الملك وهذا ما يجب أن…
عند هذه الفكرة ضربتها لحظة إدراك جعلتها تطلق شهقة مرتفعة جذبت انتباه سالار لها، وهي فقط تراجعت للخلف، هي زوجة الملك، زوجة الملك وتحب ….تحب قائد الجيوش ؟؟
” أنتِ بخير ”
” لا، لا لستُ بخير إطلاقًا، لستُ بخير، يا الله كيف حدث هذا؟ ما كان من المفترض أن يحدث هذا ”
على التعجب أعينه وهو يقترب منها يتحدث بعدم فهم :
” ما بكِ ؟؟ ما الذي حدث فجأة و…”
وهي تراجعت للخلف وهي تشير له ألا يقترب، بينما هو رمقها بعدم فهم، لا يهتم لشيء، لكن ذلك الشحوب والرعب الذي سكن وجهها جعلوه يقترب منها يهمس لها بعدم فهم :
” مولاتي…”
لا ليس هذه الكلمة وبهذه النبرة، لا تفعلها، دفنت وجهها بين كفيها تحاول التنفس بشكل طبيعي، أفيقي هو لا يدري شيئًا عن صراعاتك الداخلية، هو لا يبصر خزيك الذي تعانين منه .
رفعت عيونها له وهي تبعد اللثام عنها بغية التنفس بشكل صحيح، تأخذ نفس عالي، قبل أن تقول ببسمة واسعة وكأن ما حدث منذ ثواني لم يكن :
” لقد شعرت فقط ببعض التوعك، إذن هل نكمل الطريق ؟؟”
نظر لها بشك يقول :
” لقد وصلنا بالفعل، هو داخل هذا الكوخ ”
سارت معه ببطء وهي تحاول أن تنسلخ عن تلك الحالة التي كانت بها، وحين خطت للكوخ دارت بعيونها في المكان تقول بملاحظة لم تستطع كتمها :
” المكان عامل زي البيوت القديمة في الأفلام الرومانسية الكلاسيكي في هوليوود، عارف أنت الكوخ اللي البطل والبطلة بيستخبوا فيه لما الجو يمطر ويعترفوا لبـ …”
توقفت الكلمات على باب فمها فجأة بأعين متسعة حين استوعبت ما تقول وأمام من تفعل، هي تتحدث أمام قائد أحد الجيوش في إحدى الممالك الإسلامية والذي يتعامل معها بحنجره مخافة لمسها، عن علاقات الحب التي لا تمت للدين بصلة في الافلام التي كانت تدمنها قديمًا .
ونظرات سالار لها وهو يرمقها بنظرات مستنكرة مصدومة، لا يفهم نصف ما تحدثت به، لكنه فقط يشعر أن هناك شيء خاطئ قالته :
” ما هذه الكلمة الغريبة التي نطقتيها للتو ؟!”
ابتسمت له بغباء تقول :
” كوخ ؟؟”
” وكأنني اجهلها لتلك الكلمة، لا اقصد تلك الكلمة الاعجمية التي نطقتيها للتو ”
” هوليوود ؟؟”
” نعم ما هذا الشيء !! لا أشعر أنها كلمة جيدة ”
ابتسمت بسمة صغيرة وهي تجيب بصوت خافت :
” حسنًا أنت تعلم عالم المفسدين ؟؟”
” حيث كنتِ تعيشين ؟؟”
” نعم، هذا هو منبع الفساد والخراب بالإضافة لأشياء أخرى جواره، أمور تحض على الفجور والفسق والعياذ بالله ”
تمتم سالار بالاستغفار وقد انكمشت ملامحه بشكل مستنكر متقزز، وقبل أن يتحدث بكلمة تعليقًا على هذا الأمر انتفض جسد تبارك بقوة وهي تطلق صرخة مرتفعة حين شعرت بحد السيف على ظهرها ..
في الوقت الذي كان الحوار بين تبارك وسالار قائمًا، سمع هو من بين غفوته الطويلة وتعبه صوت أنثوي في المكان، صوت جعله يتحفز بشكل خطير وهو يرفع رأسه بصعوبة ينظر في أرجاء الغرفة حتى لمح من بين ضبابة التعب جسد امرأة يظهر أمام باب الغرفة، نهض بصعوبة شديد يحمل سيفه الذي تركه له سالار جوار الفراش يسير دون اتزان حتى اقترب منها يضع السيف على ظهرها ولم يكد ينطق جملة تهديد واحدة حتى سمع صرخة عالية تصدر من الفتاة وتنتفض بقوة تدفعه للخلف بشكل تلقائي ..
كانت ردة فعل تبارك سريعة تلقائية، ورغم أنها أسقطت جسد أرسلان الضعيف ارضًا والذي زادت حالته سوءًا، وتسببت له في وجع إضافي، إلا أن ذلك لم يمنع سالار من الفخر بها وبردة فعلها السريعة :
” كان هذه ردة فعل سريعة ورائعة، احسنتِ”
رفع أرسلان عيونه بصعوبة صوب صاحب ذلك الصوت والذي يعلمه جيدًا، يهمس بصوت متوجع :
” أنت أيها الوغد تشجعها على ماذا ؟؟ أه لو يمنحني الله قوتي لانهض وأطبق على رقبتك أنت وتلك الفتاة ”
نظرت له تبارك بصدمة من وضعه لتهمس :
” أنا.. أنا آسفة لم اقصد أنت من رفع عليّ السيف ”
نظر لها سالار يقول بهدوء يعلمها درسًا اضافيًا :
” لا تعتذري منه، أخبرتك مئات المرات ألا تشعري بالندم إن رددتي لأحدهم ما فعل معكِ”
تحركت أعين الاثنين صوبه، أرسلان باستنكار وهي بإدراك، لتعود بنظرها صوب أرسلان تقول :
” أوتعلم ؟؟ هو محق، تستحق ما حدث لك، ولعلمك هذا أقل ما املك، فإن كنت في حالة مزاجية جيدة لكنت أريتك كيف يكون ردي على تهديد كهذا ”
ابتسم لها سالار بفخر شديد وهو ينظر لارسلان الذي ورغم تعبه أخرج صوتًا حانقًا من فمه وهو ينهض من الأرض يجيب بملامح مخيفة جعلتها تتراجع من هيئته :
” ولو كنت أنا في حالة تسمح لي، ما كنتِ امتلكتي ثانية إضافية لقول كلمة واحدة بعد لمسك لي، واسألي والدك الذي يقف خلفك عن ذلك ”
نظرت تبارك صوب سالار والذي انتبه تلك الكلمة التي وصفه بها أرسلان ورغم استنكاره لها إلا أنه هز الأخير رأسه وهو يقول بهدوء :
” نعم هو محق ما كان لكِ أن ترفعي إصبعًا في وجهه لو كان بحالته الطبيعية، لكنه الآن ليس كذلك، لذا ما الضير في الرد عليه كيفما شئنا ؟؟”
هزت تبارك رأسها وكأنها اقتنعت بحديثه، بينما الحيرة تعلو وجهها وهي تقول بصوت منخفض :
” هو مين ده يا قائد ؟؟ ”
هتف سالار وهو يجذب جسد أرسلان صوب الفراش يجبره على التمدد والراحة، ثم بدأ يرفع له ثيابه مظهرًا جروحه دون الاهتمام باعتراضه :
” هذا أرسلان، ملك مشكى ”
” المرحوم ؟؟”
نظر لها الاثنان بصدمة لتهتف هي بصوت منخفض خجل :
” مش قصدي بس …هو يعني …. ”
قاطعها سالار عن التحدث بلهجتها وعن قول أي كلمات قد تجعل أرسلان يظنها ضعيفة أو لا تجيد الرد :
” نعم هو، الآن تعالي للنظر فيما يمكنك فعله ”
كانت جملة سالار سريعة مقاطعة لأي محاولة للتحدث أو النقاش بينهما، وتبارك نظرت له بعدم فهم تقترب من الفراش وهي تراه قد وضع الحقيبة جوار جسد أرسلان الذي كان يهتف باعتراض :
” ما هذا ؟؟ من هذه الفتاة ؟! هل أحضرت فتاة لتعالجني وافشيت لها السر سالار ؟؟ أجننت أنت ؟!”
نظر له سالار في عيونه بتحذير :
” هذه الفتاة هي ملكة سفيد، لذا أنت ملزم باحترامها حسب القوانين الملكية، ملك أرسلان”
تشنجت ملامح أرسلان وهو يرفع عيونه صوب تبارك ينظر لها ويطيل النظر، وقد ارتسمت بسمة صغيرة على جانب فمه لا تدرك هي سببها، أو إن كانت ساخرة أم لا ؟!
لتصدر منه همهمة صغيرة وهو يهتف بكلمات يدري جيدًا أنها لن تفهمه، فسالار أخبره أنها ليست من عالمهم :,
“پس در نهایت این سرنوشت ایوان بود؟؟ ”
« إذن في النهاية كانت هذه هي مصير إيفان ؟؟»
نظر لها سالار يرى ملامح التعجب تعلو وجهها ليبتسم بسمة صغيرة وهو يساعد أرسلان الذي خلع ثوبه العلوي كي تفحصه، يقول بنبرة خافتة وبلغة لم تكن بالرحيمة على قلب تبارك :
” بله همینطوره.شما اعتراضی بهش ندارید؟”
«نعم، هي نفسها، هل لديك اعتراض عليها ؟؟»
ولو يدري أن كلماته تلك أعادت لها ذكرى أحلامها الاولى حيث كان يطرب مسامعها بكلماته تلك وبلغته هذه.
ابتسم له أرسلان يقول بصوت خافت غير مهتم حقًا بما يحدث حوله وبلغة عربية مفهومة واخيرًا لتبارك :
” وما شأني أنا، فقط اتمنى أن تريه الويل ”
ضحك له سالار ضحكة ساخرة يهتف لنفسه دون أن يصل صوته لأحدهم :
” بل تريني أنا الويل ”
شردت تبارك في وجه سالار وبسمته لتبتسم دون وعي قبل أن تستفق على صوته يقول بجدية :
” إذن هل يمكنك النظر لجروحه ؟!”
أبعدت عيونها قسرًا عنه تتحرك صوب أرسلان تراقب جروحه قبل أن تهمس بصدمة :
” دي …ملتهبة، كيف يتحمل كل هذا الوقت ؟!”
نظر لها أرسلان بتعجب وكأنها تتحدث عن أحد غيره، لا يدرك معنى تلك الملامح المرتعبة التي تعلو وجهها، وهي سارعت تحضر الحقيبة وبدأت تخرج ما بها لتبدأ العمل، تراجع سالار للخلف قليلًا يراقبها وهي تقوم بتنظيف الجروح ووضع اعشاب لا يعلم عنها شيئًا و…زفر بصوت مرتفع يبعد عيونه عنهما متحركًا صوب النافذة وكأنه لا يريد فقط النظر لها الآن .
____________________________
تقف هناك منذ دقائق تقريبًا، وهو لا يعي لوجودها، تمامًا كما كان يحدث قديمًا، تراقبه دون أن يشعر بها، وتطيل تأمل ملامحه، ثم وحينما يشعر بوجود أحدهم تستدير هاربة، لكن الآن وفي تلك اللحظة التي استدار بها وابتسم لها، لم تهرب أو تخجل، بل فقط بادلته البسمة بالمثل .
” أنتِ هنا منذ وقت طويل ؟؟”
” تقريبًا منذ بدأت العمل وانفصلت عمن يحيطك ”
هز رأسه يحاول أن يشغل عقله بما يقبع أمامه :
” ربما هذه عادة قديمة لي، حين انشغل بشيء لا استطيع الانسلاخ عنه بسهولة ”
صمت قبل أن يستدير لها نصف استدارة يرمقها ببسمة صغيرة :
” تريدين التعلم ؟؟”
نظرت له بصدمة كبيرة وقد تراجعت للخلف، هذه الجملة ليست غريبة عليها، بل هي شبه مكررة، لكن ليس هنا وليس الآن وهو عاكف على صنع بعض الأسلحة .
” هل تمزح معي !!”
تحرك تميم عن الطاولة وهو يتجه لها يمسك كفها بملامح جادة وبسمة واسعة :
” لا بالطبع لا أفعل، هيا سيكون الأمر ممتعًا تمامًا كتعلم الفخار، هل تتذكرين ؟؟”
قاومت برلنت بقوة وهي تتشبث بإطار الباب رافضة التحرك خطوة معه بسبب أفكاره المريبة تلك ..
” أنا لا أريد، هل تمزح معي تميم ؟! يا الله هذه أسلحة وليست فخار، الفخار لن ينفجر في وجهي ويحولني أشلاء إن أخطأت في شيء ”
ضحك تميم بصوت مرتفع وقد تذكر المرة الأولى التي تحدث معها فيها هنا، يزيد من جذبها بعناد كبير :
” هيا لا تخافي، لا تؤثر اسلحتي بكِ، صدقيني أنتِ السد المنيع أمام جميع الأسلحة هنا، لا سلاح لي نجح معك ”
نظرت له برلنت ببسمة متوترة خائفة تهتف بجدية وهي ما تزال متمسكة بالإطار في قوة كبيرة :
” صدقني تميم كنت لاقدر كل هذه الرومانسية التي تتحدث بها، لو أن المعني بالأمر ليست قنابل، كنت لأكون أكثر النساء سعادة بغزلك هذا، لكن الآن، آسفة لا يمكنني الاستمتاع بهذه الكلمات العذبة في حين أن عقلي يعرض لي مشاهد عديدة لتناثر اشلائي في المعمل ”
أطلق تميم ضحكات أعلى وأكثر صخبًا وهو يترك يدها فجأة، ثم اقترب منها دون مقدمات يجذب خصرها هامسًا :
” هل تخافين القنابل وأنا معكِ بيرلي ؟؟”
نظرت برلنت لعيونه واطالت التحديق بها تبصر حنانه وعشقه بهما، لتبتسم وهي تقول بجدية :
” إن قلت نعم، هل ستغضب مني ؟!”
تفاجئ من ردها ليعود برأسه قليلًا مصدومًا منها، وهي ابتسمت تقول :
” لا تحزن مني تميم، لكن أنا كنت اصفك في البداية بصانع الأسلحة الفاشل، ويبدو أن عقلي صدق الأمر ..”
تراجع تميم يهتف بحنق شديد :
” هذا كان قاسيًا ”
” آسفة..”
ابتعد عنها بغيظ شديد يتحرك صوب الطاولة مجددًا، يدافع عن نفسه بضراوة :
” هذا الفاشل هو من صنع وطور جميع أسلحة المملكة وجميع الممالك أجمع، وليس لأن قنبلة فشلت ولم تقتلك، تصفينني بالفاشل، ولو أنها نجحت ما كنتِ تقفين الآن امامي تعطيني رأيك في قنابلي العزيزة ”
اتسعت أعين برلنت بقوة وهي ترى تذكره وحنقه من حديثها، قبل أن تنفجر في ضحكات صاخبة تقترب منه وهي تضم وجهه بين كفيها تهتف بمزاح :
” أوه تميم، هل غضبت مني ؟؟ اقسم أنني كنت امزح معك، هيا سألعب معك بقنابلك العزيزة، ما اسوء ما يمكن أن يحدث ؟؟ تنفجر بنا ؟؟ لا بأس طالما أننا سنمت سويًا”
تأوه تميم يضم كفيها لوجهه أكثر يهتف بصوت حنون خافت :
” أوه لا عزيزتي ما كنت لاسمح لذلك بالحدوث أبدًا، ثم أنا فقط كنت امزح معكِ اقسم، أنا أن ادعكِ تتعاملين مع هذه المواد الخطرة والالات الحادة، أخشى عليكِ من الخدش بيرلي .”
ابتسمت له برلنت ثم قال بجدية :
” لكنني أود أن أتعلم تميم ”
صمتت ثواني ثم نظرت لعيونه وحاجة ملحة داخلها جعلتها تنطق :
” هل يمكنك أن تعلمني الفروسية كما كنت تفعل مع تبارك؟!”
” تبارك ؟؟”
” الملكة ”
” كيف علمتي الأمر ؟!”
نظرت لعيونه ثواني قبل أن يحمر وجهها وتهمس بصوت خجل منخفض :
” هو …في الحقيقة أنا….لقد …لقد كنت اراقبك طوال الوقت تميم ”
نظر لها بذهول قبل أن يبتسم ببطء شديد وهو يميل عليها يهمس بحنان :
” إذن تريدين مني تعليمك الفروسية ؟!”
” أي شيء من شأنه أن يجعلني قريبة منك لأطول وقتِ ممكن ”
اتسعت بسمته أكثر يهمس بحنان شديد :
” لكِ ذلك …”
وقبل أن تبدي برلنت سعادتها الكبيرة سمع الإثنان صوت الحارس يهتف بقوة من الباب وبصوت جاد صارم :
” سيدي، الملك يخبرك أن تذهب لتفقد مصانع الأسلحة وتأتيه بالتقارير الأخيرة ”
تعجب تميم الأمر لكنه لم يعلق وهو يخبره بهدوء :
” حسنًا، سأفعل ..”
رحل فأستدار تميم صوب برلنت يخبرها بصوت حنون :
” إذن صغيرتي سأذهب لارى ما يريد الملك، انتبهي لنفسك لحين عودتي …..”
هزت رأسها بهدوء وهو تحرك معها صوب الخارج، ثم انفصل عنها متوجهًا جهة مصانع الأسلحة ويبدو أن الملك بدأ يحشد ويحصي قواته ….
______________________
” ما الذي …ما الذي تقولينه يا امرأة ؟؟ ما شأنك أنتِ وشأن بافل، وكيف علمتي كل ذلك ؟؟”
أبعدت نظراتها عنه بسرعة وهي تحاول تجنب عيونه التي تحاصرها، وهو لم يستسلم لهروبها هذه المرة يقترب منها مرددًا من أسفل أسنانه بغضب :
” أنتِ يا امرأة في أي كارثة ألقيتي نفسك هذه المرة ؟؟ ما الذي فعلتيه ؟؟”
نظرت له باعتراض شديد :
” فعلت ماذا ؟؟ أنا فقط جئت احذرك، كي تبلغ الملك لئلا تحدث الكارثة ثم تعضون الأنامل ندمًا ”
نظر لها دانيار بشك يرفع حاجبه وهي اطالت النظر في زرقة عيونه لتغوص بها، بينما هو لم ينتبه لشرودها هذا يقول :
” أنتِ أيتها المرأة، أخبريني وبكل هدوء إن كنتِ فعلتي كارثة أم لا ؟؟”
” لا، أنا لم أفعل شيئًا، وتوقف عن رميي بالباطل يا هذا، هذا ظلم واضح، أوتعلم أنا اخطأت حين لجئت لك، سوف اذهب وأخبر أحد آخر و…”
وقبل التحرك خطوة واحدة شهقت بصوت مرتفع حين شعرت بيد دانيار تجذب ثيابها بقوة معيدة إياها حيثما كانت وهو يقول بغضب وملامح مخيفة :
” تذهبي إلى أين يا ابنتي ؟؟ تذهبي لأخبار أحدهم أنكِ من حيث لا تدرين أدركتي خطة بافل ؟؟ أهو الإلهام أم روح طيبة مرت بكِ وأخبرتك ؟؟ هل تمزحين معي ؟! سوف يحققون معكِ ساعات طويلة ليعلموا من أخبرك وكيف فعل”
نظرت له باعتراف فاقترب يهمس لها :
” والآن كأي امرأة مطيعة في هذه الحياة، اريني بعض الرقة والطاعة واخبريني من أين لكِ بهذه المعلومات ؟؟”
وهي لا اجابة معها، لا تعلم حقًا ما يجب قوله هي فقط نظرت له ثواني قبل أن تقول بجدية كبيرة :
” لقد ..لقد خرجت للسوق وهناك حين كنت أسير بين الأزقة الضيقة حيث يحلو لي السير، سمعت اصواتًا غريبة وحين ارهفت السمع وجدت العديد من الرجال يتحدثون عن هذا الأمر ”
صمتت ثم مالت تهمس له بصوت خطير :
” اعتقد أنهم منبوذون في أرضكم ”
رفع دانيار حاجبه يدعي الصدمة شاهقًا :
” ياويلي ؟؟ هذا سر خطير حقًا ”
” نعم نعم هذا ما عنيته حين جئت لاخبارك، الأمر حقًا خطير، لكن ها أنا قد اخليت مسؤوليتي أمام الله، والأمر متروك لكم، والآن سأرحل ..”
ختمت حديثها تضعه قيد التنفيذ وهي تتحرك بسرعة بعيدًا عنه، تحاول الابتعاد عن تأثيره، لكن ما كادت تفعل حتى وجدت سهمًا يعيق طريق هروبها، أبعدت عيونها عن السهم ترمقه بسخرية لاذعة :
” مرحبًا بعودتك، كدت أظنك توقفت عن هذه الأفعال ؟!”
نظرت له تتساءل بجدية وهي تشير صوب سهامه :
” هل هذه سهام جديدة !! لقد تغير لونها عن آخر مرة رميتني به ”
تحرك دانيار صوبه يجذب السهم وهو ينظر لها بشر هامسًا من بين أسنانه:
” ما الذي اقحمتي به نفسك يا امرأة ؟؟”
” لا شيء، ثم ما علاقتك بي، أقحم نفسي أم لا، لا اعتقد أن الأمر يعنيك ”
نظر في عيونها بقوة يقول بجدية :
” نعم لا يعنيني هذا الأمر تحديدًا، لكن أن يتعلق هذا الأمر بشيء خطير كالذي تتحدثين به فهو يعنيني ويعنيني ”
تنفست زمرد بصوت مرتفع تقول بصوت ساخر جامد، لكنه يخفي بين طياته وجعًا وحقيقة مخيفة :
” ماذا ؟؟ هل يرضيك أن تعلم أنني واحدة من المنبوذين لذلك اعلم ما يخططون له ؟؟”
جملة قد تبدو عبيثة له، وللجميع، لكنها لها كانت حقيقة مُسلّم بها، وهو ضاقت عيونه شيئًا فشيء، قبل أن تتسع فجأة يقترب منها بخطوات مريبة هامسًا :
” ماذا تقصدين ؟؟ هل أنتِ جادة ؟!”
حدقت به ثواني بملامح غير مفهومة قبل أن تبتسم وتقول :
” أنا فقط اعطيك سببًا لمعرفتي تلك الأخبار إن كان سببي الاول لك غير منطقي، إذًا يمكنك اعتماد الثاني”
هي تمزح الآن، بالطبع تفعل، فهذا الذي تحدثت به منذ ثواني أمر لا يمكن أن يصدقه البتة .
وشحوب ملامح دانيار في هذه اللحظة كانت أكثر من كافية لزمرد كي تعلم مصير علاقتهما إن أخبرته حقيقتها، فهو حين قالتها بمزاح أنها أحد المنبوذين شحب وجهه وعلى الاستنكار والنفور ملامحه، ماذا إن علم أنها حقيقة، وليس مجرد مزاح .
وأن زمرد ليست من المنبوذين، بل هي ابنة زعيمهم السابق، وشقيقة الحالي.
ابتسمت له بسمة غير مهتمة تخفي خلفها ألم كبير وقد شعرت بالجوع يملئ صدرها ترى نهاية علاقتهما قبل حتى أن تبدأ ..
وفي هذه اللحظة تحديدًا رنّ في أذنها صوت والدها الذي كان يضع رأسها أسفل قدمه في أحد الأيام لعصيانها له، يضغط عليها بقوة صارخًا بحنق :
” تحاولين الهرب من هنا ؟! هنا قبرك زمرد، لا فرار لكِ من قومك، مثلك مثل والدتك، خروجك هنا سيصاحبه خروج روحك”
مال عليها أكثر يهمس في أذنها بصوت جعل جسدها يرتجف وهي تحاول الفكاك منه ولم تتوقف عن رميه بالدعوات والسباب :
” ماذا تعتقدين ؟! هل تعتقدين أن من في الخارج سيتقبلونك ؟؟ إن علموا حقيقتك سيفتحون اذرعتهم لكِ فقط لأنكِ فتاة جيدة والدتها أحسنت تربيتها ؟! لا لا زمرد، عزيزتي الجميع في الخارج سيراك مجرد منبوذة حقيرة قذرة، حتى وإن لم تنتمي لنا إلا بالاسم فقط، لن يتقبلونك البتة، سينظرون لكِ بكره واشمئزاز ونفور، سيقابلونك بالازدراء؛ لذا تقبلي الحقيقة من تنظرين لهم نظرة المنقذ سينبذونك، سلمي بالأمر وكوني واحدة منا، فنحن نتقبلك كما أنتِ، نرحب بكِ كيفما كنتِ عزيزتي ”
هبطت دموعها وهي تنظر لوجه والدها بقهر شديد، كانت على وشك الهروب، كادت تنجح، كانت ستركض لتحضر من ينقذ والدتها من بين ايديهم، اجهشت في بكاء عنيف وهي تصرخ في وجهها :
” لست منكم، لا أنا ولا أمي منكم، نحن من سفيد، لسنا منكم ولن نكون، أنا لست واحدة منكم، سوف أخرج يومًا ما وأحضر المساعدة لأجلنا ”
لكن وبعد هذه السنوات تستطيع القول أنه محق، والدها كان محقًا، هو صدق حين قال أن لا أحد سينظر لحقيقتها وجوهرها، الجميع سيبصر لأصولها فقط، لن ينظر أحدهم لقلبها ويدرك بأي شكل تربت، هي تربت على يد امرأة شريفة مسلمة، لكن هم لا يعلمون ذلك، هم فقط يعلمون أنها منبوذة …
كان دانيار يراقبها في البداية باستنكار لهذه المزحة غير المقبولة من وجهة نظره، فهو لا يقبل عليها أن تشبه نفسها بهؤلاء القوم، يكره أن تصف نفسها بهم، لكن سرعان ما تحول الاستنكار لذهول حين أبصر حزن كبير يلتمع في عيونه جوار دموعها ..
نظر لها بعدم فهم يحاول الحديث :
” ما بكِ، أنا اصدقك، حسنًا هل …”
توقف عن الحديث حين أبصر دموعها للمرة الثانية منذ معرفته لها، تنظر له بوجع قتله وهو لا يفهم ما يحدث :
” أنا…هل فعلت …هل فعلت شيء خاطئ ؟؟ ما بكِ زمرد ؟؟”
لكن زمرد لم تتحدث بكلمة واحدة، بل فقط تحركت بعيدًا عنه تاركة إياه يراقب أثرها بصدمة، لا يفهم ما حدث منذ ثواني …
___________________
تحرك بعيدًا عن الجيش بعدما ذهب لرؤية سالار، ليجد أنه اختفى بدون انذار من الساحة، وكذلك الملكة، شيء بعث الكثير من الأفكار السوداء لعقله ..
لا، هو يثق بالجميع حوله، لا يجب أن يتلاعب حديث والدته به، و…
و ماذا إيفان ؟؟ وماذا ؟؟ وكأن الخيانة لم تعرف طريقها لقلبك أنت كذلك؟؟ أتلوم رفيق عمرك والاحق أن تلوم نفسك وأنت لا تنفك تفكر بامرأة أخرى غير زوجتك المقدرة ؟!
دفن وجهه بين كفيه بقوة وهو يحاول التفكير، يا الله عقله سينفجر، ما الذي يفعله بنفسه، ما الذي يحدث هنا، لِمَ الآن ؟؟ لماذا يحدث كل هذا معه حين أرسل لإحضار تبارك ؟؟ لماذا لم تظهر كهرمان سابقًا؟!
هو يعلم أرسلان منذ الطفولة، يا الله منذ الطفولة ولم يفكر حتى في رؤية وجه شقيقته ولو من باب الفضول، الآن وقد تحددت زوجته وأرسل سالار ليحضرها وجهزها لتكون ملكته …أحب أخرى؟؟
وهذه الأخرى أصبح يراها في يقظته ومنامه بشكل مثير للشفقة، بل للسخرية، هو يشفق على ذاته ويسخر منها، لو أن أحدًا أطلع على ما في قلبه لضحك ملء فاهه، ملك سفيد الذي يدير بلاده، لا يستطيع أن يدير أمور قلبه ..
يا ويله وويل قلبه من أميرة نجحت في أسر قلبه برقتها، وفتنت عقله بحكمتها وشراستها، تلاعبت على جميع اوتاره بمهارة، فجأة أصبحت هي الصورة المثالية للمرأة في نظره، وهذا ما يجعله يستحقر ذاته، هو يظلم تبارك، يالله ليس تلك البريئة ..
فقط …هو على استعداد ليتزوجها رغم أنف قلبه وعقله وجسده وكل خلية به، على استعداد لفعل كل ذلك دون أن يأبه لأي شيء، لكن هل هذا سيسعدها هي ؟؟ هو سيظلم بهذا القرار نفسه و…من أيضًا، هل سيظلمها كذلك ؟؟
أفاق إيفان من أفكاره وهو يدور بنظراته في المكان وكأنه يبحث عنها، هو للتو فقط كان يلوم ذاته على ما يفعل، والآن لا ينفك يتلمس طيفها، توقف عن كونك كثيرًا للشفقة واذهب لتدبر أمور مملكتك .
لكن أمور القلب لا حاكم لها .
وبالفعل تحرك إيفان بعيدًا عن المكان بأكمله يعود بتفكيره صوب سالار الذي لا يعلم بأي أرض هو في هذه اللحظة، لكن لعل غيابه خير ..
وقبل أن يدخل لمحها تتحرك كعادتها في الحدائق الجانبية مع فتاة أخرى تسير برقة شديدة وهي ترفع غطاء وجهها، ابتسم بسخرية يهمس لنفسه :
” لا عجب انها لا تتحمل غطاء الوجه ولا تنفك تبعده عنها، يبدو أن أرسلان كان يدللها وبشدة ”
ابتسم حين أبصر تحركها بخفة شديدة صوب أحد أشجار الفواكه ليبتسم ويتحرك للداخل وهو يشير للجنود قائلًا بهدوء :
” لا يخطو أحدكم الحدائق الجانبية طالما بها نساء ”
هز الجنود رؤوسهم ليتحرك هو ببساطة للداخل يهمس لنفسه بصوت منخفض :
” ربما لا أستطيع أن أظهر لها بشكل مباشر، لكن على الأقل اعاملها المعاملة التي تستحق، كأميرة، وشقيقة لرفيقي العزيز و…”
صمت وقد كانت كلمة ( حبيبة ) على طرف لسانه قبل أن يمنعها من الخروج، تنهد يهز رأسه بيأس وهو يتحرك بخطوات عنيفة في الممر يقول بصوت مرتفع آثار رعب الجميع وقد تحولت شخصيته بالكامل :
” حين يرى احدكم القائد سالار، فلتخبروه بحاجتي للحديث معه ..”
تحرك بسرعة صوب الجناح الخاص به ليبدل ثيابه إلى ثياب قتال ويتحرك صوب الساحة ويتدرب، فقد اشتاق للقتال، تحديدًا منذ توققت هي عن قتاله ..
_______________
وفي الخارج في أحد أركان الحديقة الجانبية، كانت تقف كهرمان أمام أحد الأشجار تقول بصوت جاد :
” فقط ساعديني برلنت أود اكل بعض الرمان، مرت ايام طويلة لم اتذوقه ”
نظرت برلنت صوب الشجرة وهي تقول بملل شديد وتعب اكبر :
” كهرمان عزيزتي، هناك الكثير من الرمان في مطبخ القصر، أم أنكِ تعشقين المشقة ؟؟ هيا لنذهب ونحضر لكِ البعض ”
رفضت كهرمان بقوة :
” لا أنا أريد أن اتناوله طازجًا، هيا ساعديني أو ارحلي ”
زفرت برلنت بغضب شديد، ثم نظرت حولها تبصر إن كان هناك حراس أم لا، ومن ثم خلعت غطاء الوجه والطبقة الخارجية من الفستان والتي تتمثل في معطف، وظلت بفستان اخر أكثر بساطة تبعد كهرمان بقوة تقول :
” هيا ابتعدي من هنا يا امرأة”
ومن بعد هذه الكلمات ابتسمت تتمسك بالشجرة قبل أن تتسلقها بسرعة كبيرة تختفي بين فروع الرمان الوارفة وصوت كهرمان يصل لها واضحًا :
” ما بكِ تغوصين بين الفروع برلنت، هناك الكثير من الرمان حولك يا فتاة، هيا القي لي بالبعض ”
لكن برلنت اعترضت تقول :
” أنا أبحث لكِ عن قطع فريدة أيتها الغبية، فقط توقفي عن الحديث كي استطيع التركيز ”
وبالفعل صمتت كهرمان، فبدأت برلنت تحصد لها بعض الثمرات الناضجة الحمراء بخبرة كبيرة، مهارة أخرى تشكر طفولتها عليها، ابتسمت حين نالت الكثير من الثمرات، ثم تراجعت ببطء تقول بصوت مبتهج :
” أحضرت الكثير لنا، وقد أحضرت كذلك لزمرد وتبارك و…”
قاطع باقي جملتها صدمتها من المشهد الذي ابصرته أمام عيونها لتسقط جميع الثمرات أسفل قدمها وتتدحرج حتى اصطدمت بأقدام هؤلاء الرجال الذي يخفون وجوههم خلف لثام اسود اللون، وأحدهم يجر كهرمان للخلف بقوة يكتم فمها بقوة والأخيرة تحاول المقاومة بشكل ميؤوس وقد تحولت عيونها لللون الأحمر بقوة وكأنها امتلئت دماءً.
انتفض جسد برلنت برعب وهي تطلق صرخة ملتاعة تركض صوب هؤلاء الرجال الذي تفاجئوا بوجودها :
” النجدة ليساعدنا أحدكم، ليساعدنا أحدكم النجدة …”
كانت تصرخ وهي تهجم على من يسحب كهرمان بقوة وقد كادت تدمي وجهه، تحاول تحرير كهرمان منه برعب حين رأت وجهها الذي أضحى باللون الاحمر وكأن الدماء تجمعت به، لتبكي بخوف وهي تصرخ برعب :
” ليساعدنا أحدكم، النجـــــدة، تميم …تميم يا ويلي، دعوها لعنة الله عليكم .”
لكن ما كان من الرجال إلا أن سحبها أحدهم بقوة من حجابها متسببًا في خروجه بين أصابعها وهو يدفع بها بقوة صوب أحد الأشجار مصيبًا إياها في رأسها بقوة، وهي لم تشعر سوى بغمامة سوداء تحاول الإحاطة بها، قاومتها وهي تتحرك صوب كهرمان باكية :
” كهرمان ..”
وكهرمان شعرت بدمائها تجف في عروقها وهي ترى دماء برلنت تهبط على وجهها، أرادت المقاومة، هي تستطيع المقاومة، لكن تلك …تلك النبتة التي استنشقتها، شلت جسدها، حاولت رفع ذراعها وهي ترى الرجل يمسك برلنت يضرب رأسها للمرة الثانية في الشجرة مسقطًا إياها ارضًا لتعلو صرخة مكتومة من فمها باسمها قبل أن تختفي عن أعينها…
” بــــرلنــــت…….”
__________________
جميع الاسرار تصطف في خيط طويل، نحتاج فقط لسحب طرف الخيط لتتكوم جميع الحقائق بين أناملك….
وتذكر أنها حرب إما أن تنتصر أو تنتصر، لا خيار ثالث أمامك…..
يتبع…
ثغر ملتوي وملامح منقبضة ونظرات حانقة، كان هذا كل ما ظهر من تبارك حين عودتها مع سالار من زيارة ذلك الشخص الذي لم تحتمل حقًا التحدث معه كلمة واحدة، يا الله أعان عائلته على هذا المتجبر الـ …
توقفت أن الحديث فجأة تستدير صوب سالار وكأنها استوعبت للتو أمرًا ما :
” لِمَ منعتني من ذكر كهرمان أمام الملك !؟”
صمتت ثم قالت بتفكير وشك، وقد انتبهت وبشكل كبير للشبه الواضح في بعض الملامح حتى أنها كادت تُسحب من لسانها وتخبره أنه يشبه فتاة تعرفها :
” هل هناك علاقة تربطه بها، لا يعقل هذا الشبه في الأعين بينهما، عيونه تـ …”
قاطعها دون الحاجة للحديث الطويل معها كارهًا أنها استطاعت النظر لعيونه فترة تسمح لها بتمييزها، ابتسم بسخرية يقول :
” هو شقيقها ”
أطلقت تبارك شهقة مرتفعة وهي تتوقف فجأة بحصانها تنظر لظهره بصدمة كبيرة، كهرمان هي شقيقة الملك أرسلان ؟؟ إذن هي …مهلًا شقيقة الملك ؟! هي أميرة ؟؟
” أميرة ؟؟ شقيقة الملك ؟!”
هز سالار رأسه وهو ينظر لملامح الذهول التي علت وجهها ليبتسم بسمة صغيرة على مظهرها، يتحرك بهدوء بعيدًا عنها لحثها على التحرك كي لا يدركهم الظلام :
” نعم هي شقيقته وهي أميرة مشكى ”
” أميرة مشكى وتعمل كعاملة في القصر ؟! هل أخبرت الملك بهذا الأمر؟ هل يعلم أن شقيقته موجودة في سفيد كعاملة ؟!”
” لا، لم أفعل فأرسلان شخص عنيد ذو رأس متحجر، إن علم أن شقيقته تحيا أسفل سماء سفيد كعاملة سيأتي ليحطم القصر فوق رؤوس الجميع وينتزعها منا بالقوة ”
نظرت له تبارك ثواني وقد شردت وهي لا ترى الطريق الذي يسير به فرسها، تقول بصوت خافت :
” يبدو أنه يحب شقيقته كثيرًا ”
هز رأسه يقول بصوت عادي وقد غفل عن نظراتها تلك :
” نعم، أكثر مما تتخيلين، هذه روح أرسلان التي تتحرك خارج جسده، هو من اعتنى بها واتخذها ابنة حين بدأت تعي لما يحطيها، على كلٍ معرفة أرسلان بوجود كهرمان الآن وهو في هذه الحالة لن يتسبب لنا إلا في مصائب فقط ”
كل تلك الأحاديث لم تعي منهم تبارك شيء، لم تعي فقط سوى لشيء لم تنتبه كل هذه السنوات، هي يومًا لم تمتلك شقيق، ربما لو كانت تفعل لاختلفت العديد من الأمور، ربما كان حماها، دافع عنها، ربما …
وسالار الذي أبعد عيونه عن الطريق يلقي لها نظرة متعجبة من صمتها الغريب ذاك، صُدم لرؤية دموعها تسيل على وجهها :
” مولاتي ؟؟؟”
لا ليس الآن رجاءً، دعني ارثي حياتي ووحدتي بعيدًا عن صوتك الهامس بهذه الكلمة، ابتلعت ريقها تقول بصوت خافت :
” نعم ؟؟”
” هل أنتِ بخير ؟؟ ”
” نعم أنا فقط كنت….كنت أتساءل أنني احتاج في حياتي لشخص كالملك أرسلان”
انتفض جسد سالار بقوة وهو ينظر لها بشر يشدد من إمساك اللجام الخاص بحصانه، وقد توقف فجأة بشكل آثار ريبتها تكمل جملتها المعلقة :
” أو أنني احتاج لشقيق، ليس شرطًا أن يكون مثله، فقط احتاج لشقيق يساعدني ويخبرني أن كل شيء سيكون بخير ”
صمتت ثم نظرت له بأعين باكية تهمس برجاء :
” هل يمكنني ؟؟”
” لا أعلم ولا أعتقد أنه يمكنك ذلك حقًا، فأنتِ وإن لم تمتلكِ شقيق لكِ، فلا مجال لتعاملي أحدهم كشقيق، فجميع الرجال بالنسبة لكِ عدا محارمك هم خطوط حمراء ”
” حتى أنت؟؟ أنت معلمي ”
نظر لعيونها ثواني يقول بصوت خافت :
” خاصة أنا…”
ختم حديثه يزيد من سرعة حصانه بعيدًا عنها تاركًا إياها في حيرة شديدة وهي تود معرفة مقصده، ما الذي يعنيه بخاصة أنا؟!
زادت من سرعة حصانها تحاول اللحاق به وهي تقول :
” ماذا عن كهرمان ؟؟”
نظر لها بعدم فهم لتوضح له :
” لا يعقل أن تكون أميرة وتعاملونها كعاملة في القصر، هي تستحق أن تُعامل كملكة و….”
توقفت عن الحديث وكأنها تزن الأمور في عقلها، ثم قالت بجدية :
” أو لا، لا داعي لتُعامل كملكة، أنا عارفة معاملة الملكات عندكم، عاملوها كعاملة اكرم ليها والله ”
رفع سالار حاجبه باعتراض وهو يقول ببساطة :
” لا تقلقي فإيفان لا يعاملها كعاملة، بل يوفر لها دون أن تشعر كل الرفاهية التي قد تسهل حياتها، دون أن تعلم أنها كُشفت ”
” وهذا سؤال آخر، لماذا لم تذهب للملك وتطلب منه اللجوء والحماية بدل من التنكر في زيّ عاملة و..”
قاطعها سالار يعلم أنه إن فتح لها المجال للتعمق في هذا الحديث فلن ينتهوا ولو مكثوا يومًا كاملًا .
” حسنًا لنقل أن هذا الأمر معقد بعض الشيء، وأنتِ في غنى عن معرفة كل هذه الأمور، لكن لنختصر الحديث بأن إيفان وارسلان كانا اصدقاء وحدث خلاف بينهما تسبب في كل هذه الفوضى ”
نظرت له بفضول وهو نجح في كبحه حين قال ببسمة صغيرة كمن يتعامل مع طفلة ويحاول صرف انتباهها عن خروج والدتها دونها :
” إذن يبدو أنكِ تتقنين حقًا عملك، أنتِ بارعة عليّ الاعتراف”
حسنًا هذا أكثر مما انتظرت حقًا، ابتسمت له بسمة واسعة صافية سعيدة، لتلتمع أعين سالار بقوة حين رأى سعادتها تلتمع في عيونها تقول بجدية :
” حقًا؟؟ أوتعلم لقد كنت من أكثر الممرضين براعة في المشفى بأكملها، في يومٍ ما حينما كنت اعمل في الطوارئ جاء العديد من الأشخاص في حادثة سير و….”
انجرفت تبارك في حديث طويل تحت أعين سالار الذي كان يتابعها ويتفاعل معها دون وعي، يبتسم تارة بفخر، وتارة أخرى يلوي ثغره بعدم رضا، وتارة يدقق في حديثها وكأنه سيُسئل فيه بعد انتهائها ..
حوار طويل دار من جهة واحدة، جهة تبارك التي أخذت تقص عليه ما مرت به وكأنها لا تصدق أن أحدهم اهتم بسماع قصصها وكفاحها، حوار من طرفها وانصات من طرفه .
وسالار هذا الرجل الجاد الذي لم يكن يطيل الحديث أو يهتم بالأحاديث الطويلة، ها هو قضى طريقه بأكمله يسمعها باهتمام شديد سلب قلبها، هناك من يهتم بسماع احاديثها المملة، بل ويناقشها فيها ..
” هذه رفيقتك مخطئة وأنتِ محقة، إياكِ أن تتنازلي لحظة واحدة عن مبادئك لأجل شيء، أحسنت ”
نظرت له ببسمة سعيدة، منتشية بتشجيعه :
” شكرًا لك يا قائد، أنت حقًا ….”
عجزت عن إيجاد كلمة تُقال فاكتفت بـ :
” قائد رائع، ومعلم جيد …”
هز رأسه لها بهدوء، ثم نغز حصانه بخفة يستعد لسباق آخر:
” إذن لنسرع قبل أن يجن الليل علينا …..”
__________________
دارت في المكان بأكمله بحثًا عنهما، لكن لا شيء، وكأن الفتاتين تبخرتا في الهواء.
شعرت زمرد بالغيظ الشديد وهي تتحرك بعيدًا صوب حجرتها، لكن وقبل أن تفعل أبصرت بوابة القصر تُفتح ويدخل منها حصان يستقر أعلى ظهره امرأة، ركضت بسرعة صوبها وهي تأمل أن تكون كهرمان ولا تدري حقًا السبب الذي سيجعل كهرمان تمتطي خيلًا هنا، لكن كان أمل وتلاشى بمجرد رؤيتها لاعين الفارسة والتي لم تكن سوى تبارك .
تحركت بسرعة خلف الحصان والذي كانت تبارك تتحرك به بعيدًا صوب الاسطبل، لكن وقبل أن تلحق بها، أبصرت سالار يدخل القصر لتتعجب من الأمر :
” هل كانت تبارك رفقة قائد الجيوش ؟؟”
ورغم تعجبها إلا أنها تحركت بسرعة صوب الاسطبل متجاهلة كل تلك الأسئلة، تقول بصوت مرتفع وصل لتبارك دون الاهتمام أنها من المفترض تتحدث مع الملكة :
” تبارك، هل رأيتي الفتيات اليوم ؟؟ ”
نظرت لها تبارك وهي تترجل عن الحصان تسلمه لعامل الاسطبل، ثم اقتربت من زمرد تقول بعدم فهم :
” لا لم أفعل، لماذا ؟؟ ألا تسيرون طوال الوقت معًا ؟؟”
أجابت زمرد بملامح متغضنة :
” لقد تركتهم منذ ساعات للقيام ببعض الأشياء والآن لا أجدهم لا في الغرفة ولا في غيرها، ولا ادري أين هما ”
نزعت تبارك اللثام كي تتنفس براحة :
” يمكنك البحث عنهما في أماكن الجلوس المعتادة لكم، لربما ذهبا للسير أو ما شابه ”
تنفست زمرد بصوت مرتفع قبل أن تقبض على يد تبارك تجذبها خلفها مجبرة وهي تقول :
” حسنًا اتبعيني سوف نرى أين يمكن أن تكونا ”
سارت خلفها تبارك مرغمة رغم حاجتها للراحة، لتقابل أثناء ذلك سالار الذي كان يتحرك صوب الاسطبل بحصانه، والذي رمقهما بتعجب وهي لم تنظر صوبه تقول بصوت منخفض :
” حسنًا زمرد يمكنك ترك يدي لن اهرب، جذبك لي بهذا الشكل يهز من صورتي كملكة، وهي في الأساس مهتزة”
نظرت لها زمرد من خلف اللثام بغيظ :
” سيري خلفي دون هذه الأحاديث الفارغة، ملكة وأميرة، هذه المسميات لا تسير عليّ ولا اهتم بها، احتفظي بها لمن يخشاها ”
التوى ثغر تبارك تخطو معها الحدائق التي تجلس بها الفتيات عادة، مرددة بحنق شديد :
” لا عزيزتي لا أحد يخشاها هنا ”
بدأت تبارك تنظر حولها تبحث عن أي أثر للفتيات، وزمرد ما تزال تأسر يدها حتى ملت هي ذلك الحال تجذب يدها بحنق تفركها :
” يا فتاة لن اطير من أمامك ما بكِ ؟؟”
” فقط أبقي جواري لا ينقصني أن تضلي أنت الأخرى مني وأبحث عنكِ واظل وحدي ”
حدقت بها تبارك بتعجب :
” أتخشين الوحدة ؟؟”
اجابتها زمرد بكل بساطة وهي تتحرك في الحديقة :
” بل اكرهها وبشدة ”
ختمت حديثها تتحرك في المكان وهي تجذب خلفها تبارك التي بدأت تتذمر، مخبرة إياها أن تتركها كي يتفرقوا وتبحث معها، بهذا الشكل لن يصل الاثنان لشيء و…
فجأة توقفت تبارك عن الحديث بصدمة تهمس بعدم تصديق لما ترى :
” برلنت ؟؟ ”
استدارت لها زمرد بسرعة :
” أين ؟؟ أين تلك الـ …”
ولم تخرج باقي الكلمة لتظل عالقة على بوابة فمها حين أبصرت جسد برلنت الملقي ارضًا والدماء تحيط بها وقد بدأت الأرضية تمتصه من حولها، شحب وجه زمرد وهي ترتجف مما ترى تتحرك بصدمة صوب جسد برلنت :
” برلنت ؟؟ برلنت ؟؟ يا الله برلنت ؟؟ برلنت ما الذي …من …من فعل بكِ هذا؟؟ يا ويلي من فعل هذا بكِ بيرلي، يا ويلي برلنت ”
انهارت زمرد ارضًا بسرعة وهي تولول برعب تجذب لها جسد برلنت تحاول أن تجعلها تفيق :
” برلنت …هيييه ما بكِ من فعل بكِ هذا ؟؟ برلنت لماذا لا تتحدثين يا ويلي تحدثي، برلنت ”
بدأت زمرد تدخل في حالة هيسترية وهي تحاول أن تجعلها تفيق، بينما تبارك في هذه اللحظة شعرت بالتوتر والرعب وهي ترى تلك الصغيرة التي كانت تضج بالحياة شاحبة الوجه كالأموات غارقة في دمائها، اقتربت منها بسرعة تحاول الرؤية من بين دموعها تتحسس نبضها والذي كان ضعيفًا :
” هي حية، زمرد ساعديني لننقلها إلى المشفى، زمرد ساعديني لأخذها للمشفى ارجوكِ ”
لكن زمرد كانت فقط تضم برلنت وهي تتحدث معها برعب تسألها أن تكون بخير وتسألها عن كهرمان ولا تجيب تبارك بكلمة ..
لتنهض الأخيرة بسرعة متراجعة وفي ثواني كانت تركض بسرعة مخيفة تبحث من بين دموعها .
تحركت وهي تسأل الجنود بلهفة عن مكان صانع الأسلحة ليشير البعض منهم متعجبًا حالتها صوب قاعة العرش، ودون تفكير اقتربت هي من قاعة العرش تفتح الباب بقوة دون الاهتمام لا بالجنود أو بأحد تصرخ برعب باكية ..
صرخة جعلت جسد سالار ينتفض بشكل مرعب وهو ينظر صوب الباب يهتف بصدمة من مظهرها وبقع الدماء التي تزين فستانها :
” مولاتي ؟؟ ما الذي حدث ؟!”
وإيفان الذي لا يفهم ما يحدث تحرك بعيدًا عن مقعده صوبها بلهفة يهتف باسمها في شكل جعل سالار يشعر بشعور سييء للغاية متراجعًا للخلف بعض الخطوات مع الاحتفاظ بمسافة تتيح له إمكانية رؤيتها وسماعها .
وتبارك لم تنتبه لكل ذلك بل تحركت بسرعة صوب تميم الذي لم يكن يفهم ما يحدث تقول ببكاء مشيرة صوب الباب:
” تميم …برلنت هي ..في الحديقة الجانبية غارقة في دمائها، أحدهم أصابها بشكل سييء و…”
وفورًا انتقل كامل الزعر والخوف لتميم الذي شعر أن صوت تبارك قادم من بئر سحيق، وجسده تلقى إشارة من عقله بالهرولة، الهرولة بشكل مرعب صوب الخارج لا يرى أمامه شيء وقد أصبح وجهه يحاكي الموت دون حتى أن ينتظر ليعلم ما حدث منها .
قلبه يرتجف وشعور سييء أصابه، ليس بيرلي ليس هي …
بينما سالار نظر لتبارك الباكية لا يعجبه أن تنهار بهذا الشكل أمام أحد، الجميع يتابع بشفقة وهو لا يحب هذا، أن يرمق أحدهم ضعفها ويرميها بشفقة هذا لا يعجبه البتة .
تنحنح يقول بصوت جاد :
” مولاتي، هل يمكنك اخبارنا ما حدث ؟؟”
رفعت عيونها له بلهفة تقول :
” لقد …هو زمرد …”
اعتدل دانيار في وقفته يقترب من تبارك دون وعي هامسًا برعب وريبة :
” زمرد ؟؟ هي بخير ؟؟”
ولم يهتم لنظرات أحد حوله وهو يرتقب كلمات تبارك بلهفة والتي لم تتأخر وهي تقول من بين دموعها :
” زمرد بخير هي ..نحن كنا نبحث عن برلنت وكهرمان رفاقنا، لكننا لم نجدهم في أي مكان وحين وصلنا الحديقة وجدنا برلنت غارقة في دمائها بهذا الشكل ”
تحدث إيفان دون وعي وقلبه يضرب بقوة حتى شعر به يكاد يثقب صدره ويخرج :
” و كهرمان ؟؟”
رفعت تبارك عيونها له تهز كتفها ببطء :
” لا أحد يعرف أين هي، لقد …اختفت ….”
_____________________
طرق الباب وانتظر ردًا بفارغ الصبر من الداخل وجاءه سريعًا ليبتسم وهو يتحرك بعدما فتحت له الباب تقول بصوت منخفض :
” تفضل، والدي ينتظرك بالداخل ”
تحرك مهيار صوب البهو حيث يجلس والد ليلا، ينظر لها ببسمة صغيرة هامسًا :
” هل أنتِ بخير ؟؟”
نظرت له ثواني بحيرة وكأنها لا تفهم حديثه، حتى فجأة ابتسمت بسمة واسعة تقول :
” نعم أنا بخير، شكرًا لك سيدي الطبيب …”
” مهيار ”
نظرت له بتعجب وبدون وعي قالت وكأنها تسأله إن كان يقصد ذلك :
” سيدي الطبيب مهيار ؟؟”
ضحك مهيار بخفة بتقول بصوت خافت :
” بالطبع لا اقصد هذا، أقصد أن تناديني مهيار فقط ليلا ”
نظرت له ليلا ثواني، ثم اخفضت رأسها بخجل تشير صوب البهو تقول :
” لا بد أن ابي ينتظر بالداخل سيدي ”
ابتسم لها يتحرك حيث يجلس والدها والذي استقبله ببسمة واسعة يقول :
” مرحبًا يا بني، تفضل بالجلوس ”
وبمجرد جلوسه تحركت ليلا بعيدًا لتحضر شيء تقدمه ضيافة لمهيار الذي وبمجرد ابتعاد لئلا تحدث بصوت منخفض :
” حسنًا سيدي لقد تحدثت مع ليلا واقنعتها بمحاولة العلاج، وأنا، حتى الآن مازلت أبحث عن أسباب لتلك التشنجات التي تنشأ في جسدها، وعما قريب سأجد حل لها، لكن …”
صمت يقول بعد تردد قصير :
” أردت أن استأذنك لعقد قراني على ليلا، اريد أن اعاجلها دون أن أخشى قربًا منها، أو فتنة ”
نظر له والد ليلا بعض الوقت قبل أن يتنهد قائلًا :
” لكن يابني أنت تعلم أن الأمر قد لا يُعالج و…”
” إن شاء الله ستُعالج يا عم، فقط قدم المشيئة وثق بالله عز وجل، أنا لن أتوقف عن البحث حتى اصل لسبب يساعدني في معرفة ما يحدث معها، لكني فقط اطالبك بليلا زوجة لي، ما رأيك يا عم ؟؟”
خرجت ليلا في هذه اللحظة تسير صوبهم ببسمة صغيرة تقدم لهم بعض المشروبات وبعض الفواكهة، نظرت لمهيار الذي ابتسم يقول بلطف شديد لها :
” شكرًا لك آنسة ليلا ..”
ارتفع وجه ليلا له بتعجب وهي ترمقه مستنكرة عودته لهذا اللقب بعدما عزف عنه منذ ايام، وهو من طالبها منذ ثواني أن تناديه باسمه مجردًا، لكنها رغم ذلك ابتسمت له بسمة صغيرة :
” عفوًا …سيدي الطبيب مهيار ”
أنهت جملتها تستقيم للتحرك بعيدًا عنهم، لكن فجأة توقفت حين سماعها بصوت والدها يقول بجدية :
” مهلًا ليلا، هناك ما يجب التحدث به ”
توقفت تنظر لوالدها بترقب، ثم تحركت عيونها صوب مهيار الذي كان يجلس بكل هدوء ينظر أمامه وهو يرتشف بعض العصير بثبات ورقي أشد، وكأن والدها لا يتحدث أو ما شابه، عادت بنظراتها لوالدها الذي قال :
” لقد قال مهيار قبل مجيئك أنه يحتاج لعقد قرآنه عليك ”
وضع مهيار كوب العصير يقول بجدية مكملًا حديث والدها :
” صحيح، وكلما اسرعنا كان افضل”
رفعت حاجبها وهو اكمل ببسمة صغيرة :
” لأجل صحتك بالطبع ”
ابتسم والدها يقول بأمل شديد:
” يقول أنه ربما هناك أمل في إيجاد علاج لحالتك يا ابنتي ”
شعرت ليلا بالحنق والغضب الشديد، هي لا تريد هذا، أن تُبنى علاقتها من البداية معه على شفقة ومريض وطبيب، هذا الشيء لا تريده، هي تريد أن يكون مهيار عاشقًا لها، لا طبيبًا، ولأجل هذا قالت :
” شكرًا لك سيدي، أقدر لك صنيعك حقًا، لكنني لست بحاجة لأن تضحي بعزوبيتك لأجل معالجتي، يمكنك أن تكون طبيبي دون الحاجة لعقد القرآن”
ختمت حديثها تستأذن منهما راحلة بسرعة صوب غرفتها وهي تكاد تبكي، لكن فجأة توقفت حين سمعت صوته الذي جعل عيونها تتسع .
انتفض مهيار يقول بصوت حانق مغتاظ :
” هل أنتِ بلهاء يا امرأة ؟! وهل كنت على علم بحالتك قبل المجئ ؟؟ وهل ترينني اتزوج جميع مرضاي ؟؟”
صمت ثم صرخ بغضب من تصرفاتها الغبية وهو قد اتفق معها مسبقًا في المحل :
” يا ويلي لو أنني افعل كما اتهمتني منذ ثواني لكنت الآن متزوج من نصف نساء القصر وبعض العجائز في الطرقات بالإضافة لرجال الجيش اجمعين ”
ختم حديثه بملامح مشمئزة غاضبة، وهي فقط تحدق فيه بأعين متسعة، تراه قد أنتزع عنه عباءة اللطف والرقة المعتادة يحدثها بهذا الشكل .
ووالدها يراقب ما يحدث دون معرفة إن كان يحتاج للتدخل أو لا .
ابتلع ريقه يقول بصوت منخفض :
” إذن يا ابنتي، هو محق، حين جاء كان يرغب بكِ زوجة له، والآن عرضه هذا ليس سوى تسريع فقط للزواج لأجل أن…”
قاطعه مهيار وهو يقول بصوت منخفض يصفف خصلاته بأصابعه:
” عفوًا على المقاطعة يا عم، لكن ابنتك لا تحتاج تبريرًا، اعتقد أنها اذكى مما تظهر الآن لنخبرها مبرر ما نفعل، لذا جهزها للزواج، سوف نعقد القرآن في مسجد القصر ”
ولم تكد ليلا تتحدث، حتى قاطعها هو يقول ببسمة صغيرة :
” سوف اعود لاحقًا لتحديد موعد عقد القرآن وحتى ذلك الحين، ألقاكم على خير ”
تحرك صوب الباب دون أن يمنح لأحدهم فرصة واحدة للاعتراض أو قول كلمة من شأنها تعطيل مخططاته، لكن فجأة توقف بشكل مفاجئ، يستدير لهما قائلًا :
“هل تعتقدون أنني كنت وقحًا منذ قليل ؟؟”
رمقه الاثنان بصدمة وبلاهة، وهو ابتسم :
” كنت صحيح ؟؟ حسنًا اعتذر لكما، أنا لست هكذا في العادة وانتم تعلمون جيدًا، هي لحظات نادرة تلك التي أفقد بها هدوئي، والآن أنتم لستم معترضين على ما قلت، ولا اجبركم صحيح ؟!”
وأحد لم يتحدث بكلمة واحدة، بينما هو ابتسم بسمة واسعة يقول :
” جيد إذن ألقاكم على خير غدًا ربما، أو بعد غد، لا أدري حقًا حينما ينتهي دانيار من مشاكله الشخصية وحياته المعقدة سأحضره لنحدد موعد عقد القرآن، وداعًا يا عم .”
ابتسم ينظر لليلا :
” إلى اللقاء آنستي .”
خرج تاركًا ليلا ووالدها ينظرون للباب ببلاهة شديد قبل أن يقول والدها بتردد :
” محترم هذا المهيار ”
رمقته ليلا بتشنج ليبتسم هو متسائلًا بشك :
” أليس كذلك ؟؟”
هزت رأسها تقول بصوت منخفض :
” اعتقد هذا …”
______________________
العربة تتحرك على طريق وعر، هي تشعر بهذا، ولا تعلم أين هي وماذا يحدث في هذه اللحظة، فقط وجع رأس كبير يلازمها، واهتزاز العربة بهذه القوة يؤذيها ..
ابتلعت ريقها تحرك عيونها في ذلك الصندوق المسجونة به، والذي كان عبارة عن عربة خشبية مغلقة من جميع الجهات .
تحسست ثيابها بسرعة على أمل أن تجد سلاح مخبأ بين طياتها، لكن أي أسلحة تلك وهي لا تحملها إلا عندما تواجه الملك .
فجأة سمعت صوتًا يأتي من الخارج لتتحرك بسرعة صوب أحد الجوانب ترهف السمع بانصات شديد لما يحدث في الخارج .
” إذن أين سنتركها ؟؟ ”
” على حدود سبز سيتسلمها منا بعض الرجال لتنتقل خدمتها لقصر الملك بارق، وبهذا تبتعد دون أذية أحد”
شعرت كهرمان برأسها يدور وهي تعود للجلوس في العربة، تنظر أمامها بأعين زائغة، سترحل عن المملكة، سيأحذونها بعيدًا عن هنا، لكن لِمَ ؟؟ ما السبب الذي يجعل أحدهم يفعل ذلك مع خادمة ؟؟
هل سيأخذونها بعيدًا عن المملكة و…..رفاقها وكل من تبقى لها في هذه الحياة ؟؟؟
عند هذه الفكرة انتفض جسدها دون شعور وهي تطرق على الجدران الخشبية للعربة تتحدث بصوت مرتفع :
” أنتم في الخارج، دعوني ارحل، من أنتم ؟؟ سأشكوكم للملك، دعوني ارحل ”
لكن حتى هذه الكلمات المهددة المكتومة، لم تهز منهم شعرة واحدة وهم يستكملون الطريق ببرود شديد، وهي في الداخل تكاد تحطم العربة لشدة غضبها، تتحرك دون هوادة صارخة بهم أن يدعوها ترحل ..
لكن هيهات …
توقفت كهرمان عما تفعل وهي تضم جسدها لنفسها باكية بصوت منخفض، تشعر بالضعف، ربما هذا عقاب لها، أن مدت أعينها لما ليس لها، أو ربما هي تذكرة نجاة من إثمٍ وشيك .
” لقد تعبت، تعبت من التنقل هنا وهناك، من مشكى لسفيد ومن سفيد لسبز وغيرها، وكل ما أريده فقط أن أعود لبلادي، أريد العود لمشكى، أريد أن اتنفس هواءها، أن اتلمس طيف عائلتي بها، أمي، أرسلان… أين أنتما ؟؟”
__________________
استند على الفراش جواره بتعب ينهض عن سجادة الصلاة الخاصة به مستغفرًا ربه، يدعوه أن يعينه على أن يعود كما كان، لا يطمح سوى أن يمنحه الله القوى لنصرة الحق .
” يا الله رحمتك يا رحيم ”
طوى أرسلان سجادته، ثم جلس على الفراش يدفن وجهه بين يديه يدعو لوالدته وشقيقته بالرحمة، وقلبه يأكله، ونفسه تطالبه ببكاء يريحه، لكن لا والله لن يبكيهم حتى يثأر لهم .
” بأي عين سأبكيهم وأنا لم احصل على قصاصهم بعد ؟؟ بعد كل ما حدث لي، لن يشفي صدري إلا القصاص …”
استند على الفراش وعقله عرض له مشاهد انقاذه على يد سالار وتميم ودانيار ..
كان سالار وبعدما انتهى من الهجوم على مشكى وتعليم بافل ورجاله درسًا، بل وترك له رسالة ردًا على هجومه، وانتقم كذلك لإصابة تميم .
ها هم في طريقهم للعودة إلى سفيد، لكن وأثناء طريقهم ذاك، سمع الجميع صوت آثار انتباههم، وريبتهم .
نظروا لبعضهم وقد تحدث تميم بشك :
” هل هذه اصوات حيوانات ليلة ؟!”
نفى دانيار ذلك الاحتمال بجدية :
” بل اصوات خطوات بشرية، هناك أحد هنا ”
ثواني هي حتى أخرج الثلاثة أسلحتهم وهبط سالار عن حصانه يشير لهم بالهدوء، يتحرك بحذر شديد صوب ذلك الصوت .
وعند الصوت كان أرسلان والذي اختفى جسده خلف دمائه، بعدما القى به جنود بافل الحمقى هنا، وتركوه دون أن ينفذوا اومر قائدهم بحرقه، ابتسم بسمة مخيفة، لا يدري عدد الساعات التي ظل بها مسطحًا دون القدر على التحرك، ساعات طويلة شعر فيها بروحه تُسحب شيئًا فشيء، حتى واخيرًا نطق الشهادة وغامت الدنيا حوله .
رحلة طويلة تنقل بها جسده بين منزل أحد الرحالة الذي قضى به أيام، وكذلك الغابات، حتى تحرك بغية الذهاب لسفيد فسقط على الحدود دون القدرة على الحركة، لتكون رحمة الله به أن أرسل له سالار..
شيء لم تصدقه عيون أرسلان الذي وحين أبصر وجهه شعر فجأة براحة كبيرة تملئ صدره وهو يهمس بصوت منخفض :
” سالار ..سالار ”
الأمر كان بمثابة معجزة، أن يعثر عليه أحدهم هنا في هذا الليل لهي معجزة، فما بالكم حين يكون هذا الاحدهم رفيقه الذي كان يقصده .
في هذه اللحظة ومنذ بداية المعركة وما حدث له، ولأول مرة تسقط دمعة من عين أرسلان، ليس وجعًا أو حزنًا، بل عدم تصديق ولسانه يلهج بالشكر والحمد لله أن كان به رحيمًا، أكثر من رحمته هو بنفسه .
” سالار .. ”
وسالار الذي أخترقت همسات غريبة أذنه، اسرع من خطوات بشكل جعل دانيار وتميم يرمقونه بعدم فهم .
تحدث تميم يمسك مرفق سالار :
” سيدي انتبه ربما كان فخًا ”
لكن سالار أبعد يده بسرعة وقلبه يقرع بشكل مخيف، يتحرك بسرعة أكبر واقدام أكثر تلهفًا، يدور حول أحد الأشجار وهو يردد :
” هناك أحد يحتاج مساعدتي، اسمع صوت أحدهم يستغيث تميم ”
نظر له دانيار بعدم فهم :
” لكنني لم اسمع شيء سيدي ”
” لقد …لقد ناداني باسمي دانيار، أحدهم يناديني ”
وخلف الأشجار كان جسد أرسلان يقاوم للنهوض، يود التحرك ليخبرهم أنه هنا، أنا حي، امسك أحد الصخور وهو يرفعها بضعف، ينظر أمامه وعيونه لا ترى سوى اقدامهم، رفع الصخرة أكثر، ثم ألقاها بقوة بالقرب من الإقدام وانفاسه تضعف تدريجيًا نتيجة المجهود الذي بذله جراء تلك الحركة الصغيرة .
انتفض دانيار ينتزع سيفه وهو ينظر حوله بحثًا عن أي تهديد، لكن كل ما ابصره كان جسدًا متخفي في الظلام، همس بصوت مرتاب :
” سيدي يبدو أن هناك جسد ملقى ارضًا هناك ”
استدار سالار بسرعة يحاول رؤية ذلك الجسد، وارسلان لم يكن يصدق ما يراه ويسمعه، سالار هنا، يا الله سالار هنا، حاول الزحف صوبه بضعف شديد وهو يهتف :
” سالار…سالار هذا أنا…”
وسالار الذي كان يحاول رؤية ذلك الجسد بشكل جيد، فجأة انتفض بشكل جعل تميم ودانيار يتراجعان بقوة وهو يركض صارخًا بلهفة ورعب :
” أرسلان ؟؟؟ أرسلان ؟؟ يا ويلي أرسلان، أرسلان أنت حي”
كان يركض بجنون حتى أنه تعرقل في أحد الاحجار ولم يهتم وهو ينهض مجددًا يركض صوب أرسلان يتلقف جسده يتأكد أنه ليس سرابًا، منذ ساعات كان يرثيه، والآن هو هنا أمامه ؟؟
مشاعر عدة تلبست سالار في هذه اللحظة ويده التي تضم جسد رفيقه ترتجف بشدة .
نظر له يترجاه ألا يكون سرابًا :
” أرسلان، أرسلان يا اخي أنت بخير ؟؟ أرسلان أنت حي ؟! ”
كان يتحدث باكيًا دون شعور، بينما أرسلان مد يده يضعها على كتف سالار يرفع جسده مستندًا على عضده وهو يهمس بصوت منخفض وبسمة واسعة وقد بدأت أنفاسه تتلاشى :
” وهل ظننتم أنكم ستتخلصون مني بهذه السرعة ؟؟ ماذا أخبرتك أنا سالار ؟؟ موتي لن يكون بهذه الوضاعة ”
ختم أرسلان حديثه قبل أن تسقط رأسه على كتف سالار الذي ضمه بقوة يمنح نفسه واخيرًا فرصة التنفس بحرية ….والبكاء، بكى بقوة وهو يزيد من ضم أرسلان يقول بحرقة وقهر :
” الحمدلله الذي اعادك لي سالمًا يا اخي، الحمدلله حتى تنقطع انفاسي، الحمدلله ”
كان يتحدث وهو يرتجف من هول الموقف، ودانيار يقف جوار تميم لا أحد يفقه شيئًا مما يحدث، هل هذه معجزة التي تحدث أمامهم ؟؟
رفع سالار رأسه بقوة يقول للاثنين:
” ساعدوني، ساعدوني لحمله سوف آخذه لكوخ والديّ اعالجه هناك، لا أحد، لا أحد سيعلم بوجود أرسلان، لا اريد لأحد أن يعلم شيء بخصوصه ..مفهوم حديثي ؟؟”
هز الإثنان رأسيهما دون فهم لكل ذلك ..
أفاق أرسلان على صوت بعض الطيور حوله لينظر من النافذة بشرود، يشعر بشعور سييء، شعور أن هناك شيء يزعجه يحدث الآن، لكن أي شيء هذا ؟؟؟
___________________
” إن لم تجدوا الفتاة قبل أن يحل الليل فلا تعودوا للقصر، جدوها لي والآن…”
كانت صرخات إيفان ترن في أنحاء القصر والجميع يركض يمينًا ويسارًا بشكل مخيف، جُن الملك، وخرج واخيرًا عن طور هدوئه، الرجل الذي كان يستفز الجميع ببرودته في احلك المواقف، جُن واخيرًا .
يتحرك في طرقات القصر بشكل مخيف صوب جناحه تحرر من عبائته لا يطيقها على جسده، يتحرك هنا وهناك وهو يرى الجنود يركضون في القصر وقد أعلنوا حالة طوارئ قصوى .
قابل في طريقه والدته التي نظرت حولها بحيرة شديد تهتف بصوت مرتفع :
” إيفان ما الذي يحدث في القصر ؟؟ هل هناك هجوم علينا ؟؟”
لكن إيفان كان يتحرك دون أن يتوقف حتى للرد على كلمات والدته، وكل تفكيره ذهب أن أحد المنبوذين اسرها، يا الله أميرة مشكى وآخر من تبقى من العائلة المالكة وأمانة صديقه ضاعت من بين يديه، هو المخطئ الوحيد، هو الملام الوحيد، ما كان عليه تركها للعبتها الغبية تلك .
دخل جناحه وهو يتحرر من ثيابه محضرًا ثياب أخرى أكثر راحة كي يتحرك بها للبحث عن الأميرة المفقودة ..
في الوقت الذي سمع صوت الجنود في الخارج يأذنون لسالار بالدخول، لم يتحدث ولم يجبهم بكلمة حتى انتهى من ارتداء ثيابه، ثم أخذ يرتدي حذاءه وهو يقول بصوت هادئ :
” دعوه يدخل ”
دخل سالار بسرعة للمكان يقول :
” مولاي ”
رفع له إيفان رأسه يقول بجدية :
” إن لم تكن تحمل خبر مكانها للأميرة فلا أعتقد أن وجودك هنا في هذه اللحظة ضروري سالار ”
اتسعت عين سالار وهو يرى حالة إيفان المريبة، يتحدث بصوت منخفض :
” لقد ابصر أحد الجنود منذ ساعة أو أكثر بعض جنودنا يتحركون بعربة مغلقة خارج القصر ”
نظر له إيفان باهتمام شديد :
” و؟؟”
” نحن لم نرسل جنود لأي شيء في الخارج يستدعي التحرك بعربة خشبية مغلقة سيدي ”
انتفض جسد إيفان يقول بتحليل سريع :
” تعتقد انهم اختطفوها في هذه العربة ؟؟”
هز سالار كتفه بهدوء :
” هذا احتمال سيدي وليس شيء أكيد”
حمل إيفان سيفه يدسه في غمده، ثم استقام يقول :
” وأنا لن انتظر الاحتمالات سالار، أنا أريد خبرًا أكيدًا، أين ذهبت تلك العربة ؟!”
نظر له سالار بشك كبير :
” لا ادري لقد ارسلت بعض الرجال لتتبع خط سيرها عن طريق الجنود المنتشرين في الطرقات العامة وغيرها، وارسلت أحدهم للحدود لمنع أي أحد من الخروج ايًا كانت هويته ”
” هل تشك أنهم سيأخذونها خارج البلاد ؟؟”
اجاب سالار بصوت هادئ جاد عملي بشكل كبير :
” هذه احتمالات سيدي وأنا أحاول تضييق الخناق على من أخذها ”
أعاد إيفان خصلاته للخلف بعصبية مخيفة :
” هل تأكدتم أنها خُطفت ؟!”
هز سالار رأسه بإيجاب :
” لقد أخبرتنا زوجة تميم أن أحدهم اخذها من أمام أعينها وحين حاولت المساعدة ضربوها بعنف في الشجرة ”
حدق به إيفان قليلًا قبل أن يقول بهدوء بعض الشيء مشفق :
” كيف حالها، هل هي بخير ؟؟ ”
صمت سالار ثواني قبل أن ينفي برأسه:
” لا اعتقد، فهي لم تتحدث كلمتين قبل أن تسقط في أغماءه ويبدو من ملامح الملكة حين رأت ما حدث أن حالتها لا تبشر بالخير و…”
صمت يقول بحزن شديد :
” تميم يرابط أمام غرفتها على وشك فقدان عقله وهو يرفض الحديث أو التحرك دونها ”
انتفض قلب إيفان بقوة وهو يهتف بصوت حاد رغم نبرته الهادئة بعض الشيء :
” جدوا لي من فعل ذلك سالار، لن أرحمه أيًا كان الفاعل، سأقتص منهم لأجل تلك المسكينة التي تعافر للحياة، ولأجل …الأميرة التي يعلم الله وحده أين هي الآن وما تعانيه ”
هز سالار رأسه ثم نظر له بهدوء يقول :
” سنفعل مولاي، لن يهدأ لي بال حتى اجدهم…”
___________________
لا يعلم كيف صمد على قدميه حتى هذه اللحظة ؟! لا يدري حتى كيف حملها حتى هنا ؟؟ كيف استطاع جسده أن يتحرك خطوة واحدة وهو يحمل بين يديه حياته التي تنازع للحياة .
تقهقر تميم ببطء للاسفل ليجلس على الأرض وهو ينظر أمامه بتعب شديد، تلك اللحظة التي سمع بها كلمات الملكة وهي تخبرهم ما حدث لزوجته، انطلق بين الممرات كالقذيفة لا يبصر شيئًا أمامه، حتى وصل لها ليجدها تتوسط أحضان رفيقتها ودماؤها تحيط بها ..
شعر بالحياة تُسحب منه وهو يتنفس بشكل غير منتظم يهتف اسمها على أمل أن تفتح عيونها وتجيبه :
” برلنت …بيرلي صغيرتي ”
انتبهت له زمرد التي كانت تبكي، رفعت عيونها له تراه يحدق في جسد برلنت بشكل مثير للشفقة، كانت حالته مثيرة للشفقة وبحق .
ابتلعت ريقها تقول بصوت منخفض :
” لقد …لقد كانت ..مُلقية ارضًا مضجرة بالدماء، ساعدها ارجوك ”
وتميم الذي لا يعي مما حوله سوى رؤيته لجسدها ذلك، انحنى ببطء يجذبها من بين أحضان زمرد لاحضانه هو وذكرى أول مرة حملها في طفولتها تأتي في عقله .
همس بصوت متقطع مقهور :
” بيرلي صغيرتي ..”
ضمها إليه ولا يدري كيف نهض وحملها وركض بها بين الممرات واقتحم المشفى وهو يصرخ باسم مهيار، لا يعلم كيف اصبحت على الفراش وهو يراقبها تتحدث بكلمات متقطعة .
لا يدري سوى أن أحدهم دفعه للخارج واغلقوا الباب، وها هو يجلس أمامه في انتظار أن يشفق عليه أحدهم ويخبره أن بيرلي بخير .
ويبدو أن ما تمناه حدث، إذ شعر تميم بصوت جواره يهتف بحنان :
” ستكون بخير يا اخي، لا تقلق ستكون بخير أنا أثق في ذلك ”
نظر له تميم بملامح متغضنة يهمس بصوت موجوع :
” إن حدث لها شيء سألحق بها دانيار ”
ضمه دانيار له بقوة يهتف يفزع لتلك الفكرة :
” استغفر ربك تميم، ستكون بخير، تفائل فيأتيك الله بالخير يا اخي، ستكون بخير، ستكون بخير، أنت قوي تماسك، ما بك وقد تلاشى تماسكك وقوتك ؟؟”
نظر له تميم بوجه حزين اسود مما رأى:
” أي قوة ترجوها مني، وحياتي في الداخل تنازع للحياة يا دانيار؟؟ أي تماسك هذا وانا على شفا جرفٍ من الضياع إن مسها سوء، هذه القوة في حروب الجسد، لكن الآن الحرب في قلبي دانيار ”
اغمض دانيار عيونه يضمه له وعلى لسانه تدور كلمات أسرها في نفسه، ود لو يخبره أنه يعلم كل ذلك، رغم أن وجعه هو لا يقارن بوجع تميم، فهو على استعداد للتخلي عن حبه لها مقابل أن يراها بخير أمامه، وعلى ذكرها بخير، لمحها تقترب من المكان بخطوات هزيلة وكأنها فقدت الحياة.
وحين وصلت له خصته بنظرات متوسلة :
” هل …هل هي بخير ؟؟ ”
رفع لها دانيار عيونه وود لو يريحها ويخبرها نعم، لكنه لم يشأ أن يعطها أملًا كاذبًا، فأكتفى بهزة رأس وكلمات قليلة :
” ستكون بخير، لا تقلقي ستكون بخير …”
هزت رأسها تنظر حولها كالطفلة وكأنها تبحث عن شيء ما ليبتعد دانيار قليلًا عن تميم، ثم تحرك صوب إحدى الغرف وعاد لها يقول بصوت خافت وهو يحمل مقعدًا لها :
” اجلسي هنا ”
نظرت له بتردد فمنحها بسمة حنونة جلبت الدموع لعيونها، وهزت رأسها ببساطة تجلس عليه أمامهم، وهو ابتسم لها بسمة صغيرة، ثم عاد ليجلس جوار تميم يكمل دوره كداعم لرفيقه :
” هيا تعال هنا ..”
نظر له تميم يستند برأسه على كتفه، ولو رآهما أحد الآن لن يصدق أنهما من قادة الجيش الذين يعكفون على بث الحماس والقوى داخل صدور الجنود قبل أي معركة، مظهرهم الآن لا يعكس أيًا مما يفعلون عادة، بل كانا فقط كأي رجلين عاديين …
في الداخل عند مهيار وتبارك التي كانت تساعده في تدارك الجروح التي تعرضت لها، قالت وهي تنظر صوبه بجدية :
” هل تعتقد أن هناك إصابات خطيرة ؟؟”
ترك مهيار ما كان يفعل وهو ينظر لوجه تبارك متحدثًا بجدية :
” لا، لا اعتقد، لكن يبدو أن الضربة كانت أقوى مما يمكن أن تتحمله هي، لذا أدى ذلك لتعرضها إلى تلك الإغماءة ”
نظرت له بتردد وهي تمسح الدماء ثم بدأت تضع لها بعض الأعشاب التي أخبرها عنها مهيار :
” كيف تتأكد أنها ليست مصابة بنزيف داخلي ؟؟”
رفع مهيار عيونه لها يقول بجدية :
” لقد أجريت لها بالفعل فحص ولم أجد أي شيء داخلي قد يُشكل خطرًا عليها ”
” فحصتها ؟؟ كيف ذلك ؟! لا اعتقد أنكم تمتلكون الأجهزة الخاصة بتلك الأمور ”
ابتسم لها مهيار بسمة صغيرة وصمت وهي تعجبت صمته، تراه وقد بدأ يقطب لها الجروح العميقة وهي تتابعه تعطيه ما يطلب حتى تحدث بهدوء :
” ربما لا نمتلك تلك الأجهزة المتطورة التي أخبرني عنها صمود من قبل، لكننا نمتلك طريقتها في فعل ما نريد، ربما يومًا ما أطلعك على بعض اسرارنا الطبية مولاتي ”
ابتسمت له تبارك بسمة صغيرة قبل أن تندمج فيما تفعل وبعد دقائق طويلة انتهوا واخيرا .
تنهد مهيار وهو يطهر يده قائلًا :
” لنتركها تستكين بعض الشيء، ثم نرى ما حدث معها ”
هزت رأسها تقول بصوت منخفض :
” إذن طمئن تميم في الخارج فهو يكاد يجن، وانا سأذهب لأرى ما وصلوا له بشأن صديقتي ”
خرجت من الغرفة بسرعة لتقابل زمرد التي انتفضت عن مقعدها تقول بلهفة كبيرة :
” تبارك ..كيف ..كيف هي برلنت ؟؟ هل هي بخير ؟!”
ربتت تبارك على ذراعها بحنان :
” لا تقلقي زمرد ستكون بخير إن شاء الله، الطبيب مهيار سيخبركم كل شيء يخص حالتها ..”
نظرت زمرد خلف تبارك لتجد مهيار خرج وبدأ يتحدث عن حالتها، بينما تبارك انسلت من بينهم تتحرك خارج المكان وهي تفكر في من له اليد لخطف كهرمان ؟؟ كان القصر مقلوبًا رأسًا على عقبٍ .
وفي طريقها للقصر ابصرته يتحدث مع بعض الرجال بجدية كبيرة، ثم تحرك صوب الاسطبل لتعلم أنه على وشك الخروج، تحركت بسرعة كبيرة صوبه وهي تفتح فمها لتناديه لكن فجأة توقف عن الحديث حين أبصرت امرأة تتحرك خلفه صوب الاسطبل، وقد كانت تلك المرأة تنظر حولها بشكل مثير ..للشك .
همست تبارك بعدم فهم :
” من هذه المرأة التي تتبع سالار ؟؟؟”
______________________
تتحرك أمامه بدلال لا يليق سوى بها، ومن مثلها يستطيع التمايل بكل ثقة أمامه، الوحيدة التي استطاعت سلب لب ذلك الرجل الذي يقسم الجميع بصلابته .
مالت الفتاة بكل دلال وهي تنظر له تحرك خصلاتها وخصرها وتغني بصوتها الذي فتن جميع المحيطين بها، لكنها لم تعبأ لا لفتنة، أو لاثم، لا تعبأ لشيء سوى له ..
تحركت صوبه وهي تحرك يديها في الهواء بدلال وصوتها يعلو أكثر، تغمز له وهو يبتسم بسمة جانبية، وحين وصلت له مالت عليه تبتسم وهي تهمس له ببعض الكلمات ليطلق ضحكات مرتفعة .
ابتعدت تكمل رقصتها وتدور في المكان والعيون تدور معها، قبل أن تصطدم في أحدهم ليتوقف جسدها عن الدوران، نظرت لصاحب ذلك الجسد الصلب والذي نظر لها ببرود شديد ينفضها بعيدًا عنه بإشمئزاز شديد كما لو كانت حشرة، يتحرك صوب المقعد الذي يتوسطه بافل ..
وبافل بمجرد أن لمحه ابتسم بسمة واسعة يرحب به بيدين مفتوحتين :
” مرحبًا بصديقي العزيزي، أنرت مشكى ”
رمقه الرجل بكره وغضب يقول :
” توقف عن هذه الأفعال فهي لا تليق بك بافل، وتحرك معي بعيدًا عن قذارتك تلك للتحدث ”
نظر بافل حوله برجاله الذين يحتفلون بكل سعادة :
” يا لك من صاحب قلب تقي، تخشى المعاصي ويدك ملوثة بالدماء ؟!”
اتسعت عين ذلك الرجل وهو يصرخ بصوت مرتفع :
” إن لم تتحرك معي الآن للانتهاء من كل تلك الالاعيب القذرة اقسم أنني سأتركك وارحل ”
ابتسم بافل ينهض عن العرش وهو يتحرك له وعيونه ما تزال مثبتة على الفتاة التي كانت تنظر بغضب للرجل، فقد كان ذلك الرجل هو أول من يرفضها وهي التي ركض خلفها جميع الرجال من كبيرهم كوالد بافل لصغيرهم حتى شقيق بافل الاحمق تسيل لعابه لأجلها .
تحرك بافل معه وهو يهمس له :
” يبدو أن تجاهلك أزعج الغالية موري ”
ابتسم الرجل بتقزز :
” معذرة لموري، فأنا متزوج ولا أحبذ التعامل مع المخلفات ”
ختم حديثه يتحرك بعيدًا عن هذا المكان تاركًا الجميع خلفه ليطلق بافل ضحكات مرتفعة يغمز لموري، ثم مال عليها يهمس بعض الكلمات وبعدها ابتعد حين تحولت ملامحها شيئًا فشيء للرضى..
تحرك بافل خلف ذلك الرجل وحين ابتعدوا عن الضوضاء أشار بافل له بالجلوس، ثم قال دون مقدمات :
” إذن هل وصلتك رسالتي ؟؟”
” بشأن هذا بافل ..”
ابتسم له بافل بسمة صغيرة يقول وهو يتذكر كلمات سالار له، كلمات أعجبته وتمنى لو يكون له فرصة يرددها بها وها هي أتته، كان كما لو أنه يسعد بترديد كلمات من شأنها إعطاءه هيبة لا يمتلك القليل منها :
” سيد بافل بالنسبة لك يا عزيزي ”
ابتسم الرجل بسمة جانبية :
” اسمع يا حقير، هذه الأمور لا تسير عليّ، منذ متى كان أصحاب الدرجة الدنيا امثالك أسياد لنا نحن الملوك ؟؟ ليس لأنني لوثت يدي يومًا بوضعها في خاصتك تظن أنك سترفع رأسك في وجهي، قسمتها لك لو فعلت ”
ختم حديثه وهو ينظر له بقوة ليتأتأ له بافل وهو يعود بظهره في برود شديد للخلف :
” يا رجل هؤلاء الملوك أصحاب كبرياء مزعج، أنت تشبه ذلك الرجل أرسلان، وكذلك إيفان وسالار، مزعجين، هذا الكبرياء الذي تتعالون به لن ينفعكم مقدار شعرة أمامي، حسنًا دعنا من الحديث عن الملوك ولنتحدث عن الممالك ”
ابتسم له الرجل يقول بصوت خافت :
” العيد الوطني ..”
اتسعت بسمة بافل بشدة وهو يميل على الطاولة ينظر في عيونه بشكل مريب :
” نعم ؟؟”
” سندخل سفيد في العيد الوطني ..”
ضاقت عين بافل وهو يقول بصوت خافت :
” وجيشك ؟؟ ”
” سيندس بين رجالك للدخول هناك ”
صمت ثواني ثم قال بسخرية :
” أتعتقد أن رجالك سيستطيعون أن يتحركوا خطوة داخل سفيد دون مساعدة من رجال كرجال جيشي ؟؟ انت بالطبع تمزح، لو أنني اعتمدت عليك، ما كان أرسلان ترك منكم حشرة حية، رجالك لا يستطيعون التقدم خطوة دون أن يتساقطوا واحدًا تلو الآخر ”
ضحك بافل بصوت صاخب :
” نعم نعم، علمنا أن رجالك في غاية البراعة، لكن رجالي عددهم يفوق خاصتك، فلا تخبرني أن عدد الرجال الذين تمن عليّ بهم هم سبب النصر ”
نظر الرجل في عيونه يقول بجدية وبصوت واثق :
” رجالك مجرد حشرات تلتف حول الجيوش لتشتتهم، بينما عمليات الاقتحام والقتل يقوم بها رجالي المدربين، فلا تتفلسف أمامي الآن بهؤلاء الحشرات ”
” أنت كررت هذه الكلمة مئات المرات أمامي، وأنا أمررها لك مولاي، لكن لا اعتقد أنني سأكون من الصبر لتحمل كل هذا الاحتقار الذي ينطق به وجهك”
ضرب الرجل الطاولة بقوة وهو يقول بصوت صارم قوي :
” سيكون عليك فعل ذلك، فأنا إن انسحبت من هذه الحرب لن يصمد رجالك أمام جيش سفيد لخمس ثوانٍ فقط ”
وبهذه الكلمات أعلن الرجل انتهاء الاجتماع بلا مقدمات أو كلمة إضافية يرحل عن بافل الذي ابتسم يقول :
” يا الله من هؤلاء الملوك المتعجرفين ؟؟ صبرًا حتى أدفن رؤوسكم واحدًا تلو الآخر في الرمال، ننتهي من سفيد ويحين دورك ومن بعدها ستكون المملكة الأخيرة اسهل من فرقة إصبع ”
_____________________
شعرت كهرمان بعد ساعة أو أكثر بتوقف السيارة بشكل مفاجئ لتعلو ضربات قلبها وهي تتحرك بسرعة صوب مقدمة الصندوق الخشبي تحاول النظر من بين فتحاته الضيقة لتبصر أجساد تخيم عليها ..
نظرت بشكل جيد تلاحظ أن هناك بعض الجنود يقفون أمام العربة ..
وصوت أحدهم يهتف بقوة :
” إلى أين ؟؟”
ارتفع صوت رجل في المقابل :
” نحن ذاهبون بشيء لملك سبز ”
نظر حراس الحدود لبعضهم البعض قبل أن يشير أحدهم صوب العربة :
” ما الذي تحمله في هذه العربة ؟! افتحها ”
توترت ملامح الجنود الذين يقودون كهرمان خارج المملكة، وابتلع أحدهم ريقه بشكل أثار شك رجال الحدود ليهتف أحدهم بصرامة :
” افتح هذه العربة الآن”
منعه أحدهم هاتفًا بقوة :
” لا تأمرني فنحن بنفس الرتبة، وهذه العربة خرجت بأمر ملكي ”
ابتسم له الحراس بشكل مقيت يتحرك صوب العربة هاتفًا بكل غيظ :
” وهذا التفتيش بأمر من الملك شخصيًا، لا اعتقد أن هناك أوامر تعلو فوق أوامر الملك ”
ختم حديثه يتوقف جوار العربة يأمره بفتحها وقبل أن يتحدث أحد الرجال بكلمة يمنع بها فتح السيارة وصل لهم صوت طرق من الداخل و كهرمان تصرخ بصوت مرتفع :
” أنا هنا …افتحوا لي العربة، ساعدوني، ساعدوني”
اتسعت أعين الرجال بصدمة كبيرة ونظروا صوب الحراس الذين يقودون العربة وفي ثواني ارتفعت السيوف في وجوههم يصرخ قائدهم:
” افتحوا هذه العربة ”
انتفضت الأجساد وتحرك أحد الحراس بسرعة للهرب بالعربة، لكن لم يكد أحدهم يمسك لجام الفرس حتى جذبه أحد الرجال بملامح محتدة :
” ألم تسمع القائد ؟؟ أخبرك أن تفتح العربة ”
عانده الحارس وهو يخبره بغيظ :
” هذه العربة مغلقة ولن يتم فتحها إلا في سبز هذه أوامر ملكية ”
” وأنا أخبرك أنك ستفتح هذه العربة، وهذه أيضًا أوامر ملكية…”
ولم تكن الجملة الأخيرة صادرة من أحد الحراس، بل كانت صادرة من الملك شخصيًا والذي بمجرد أن علم أمر العربة تحرك بسرعة حين اخبره الحراس وجهتها .
التفت جميع الحراس له وانحنوا له بعض الشيء باحترام شديد .
وهو نقل نظراته بينهم وبين العربة يقول بصوت صارم حاد :
” افتحوا هذه العربة والآن ..”
ابتلع الرجال ريقهم بريبة شديدة، قبل أن يحاول أحدهم الاعتراض :
” لكن مولاي هو …”
انتفضت الأجساد فجأة على صرخة إيفان الذي قال بصوت مرعب :
” اخبرتكم الآن…….”
وهذه الصرخة لم تتسبب في انتفاضة أجساد الرجال فقط، بل كان لها تأثير على جسد تلك المسكينة التي تقبع داخل العربة، تحركت كهرمان بلهفة وهي تطرق من الداخل صارخة بصوت مرتفع :
” مولاي …مولاي ساعدني، أخرجني من هنا، مولاي أنا هنا ”
انتفض قلب إيفان بقوة واختض في موضعه وهو يسمع صوتها الملتاع، هبط عن حصانه وهو يتحرك صوب العربة، ثم نظر للرجل يصرخ في وجهه بجنون :
” افتح هذه العربة اللعينة الآن”
فزع الرجل يتحرك بسرعة صوب العربة وهو يحاول أن يتماسك، رفع سلسلة المفاتيح الخاصة بالعربة وهو يتحرك صوبها .
مد يده يفتح الباب الخاص بتلك العربة والتي كانت أشبه بصندوق خشبي، وبمجرد فتحه قفزت كهرمان منه بسرعة كبيرة ..
وبمظهر مزري جعل أعين إيفان تتسع بشر وجسده يرتجف بغضب وهو يستدير صوب الجنود الذين نظروا ارضًا .
ابتسم بسمة مرعبة يقول لهم بصوت أثار في نفوسهم هلع :
” سوف أحيل المتبقي من حياتكم لجحيم …”
ارتجفت الأجساد برعب شديد، يدركون أن الملك لا يقول كلمات فقط، اقترب منهم إيفان خطوات جعلت أجسادهم تتراجع للخلف وهو توقف أمامهم يقول بصوت هادئ يخفي الكثير خلفه :
” لكن وبإعتباري ملك رحيم، سأمنحكم طريق العودة للقصر فرصة للتفكير في حجج قد ترحمكم من عقابي، وصدقوني هذا لن يكون سهلًا، أو بمعنى آخر سيكون مستحيلًا، فما فعلتم لن اغفره لكم ”
رفع أحدهم رأسه في وجه الملك يقول بصوت مرتعب :
” مولاي نحن، اقسم أننا لم نقصد ذلك هذه أوامر ..”
نظر لهم إيفان بعيون ضيقة وقبل أن يتحدث أحدهم بكلمة واحدة سمع إيفان صوت سيفه يسحب من غمده، وحين استدار رأى كهرمان ترفع سيفه وهي ترفعه على رقاب الرجال بشكل جعله يفتح فمه منبهرًا :
” اقسم أن رقابكم تلك لن تكفيني إن مسّ رفيقتي سوءً ”
صرخت بصوت مرتفع جنوني :
” سأخذ القصــاص بيديّ هاتين، لقد تركتموها غارقة في دمائها ”
ختمت حديثها تضرب أحدهم بظهر السيف ليسقط ارضًا بقوة، ثم تحركت صوب الآخر تضربه بقدمها في معدته والثالث رفعت يدها تلكمه بقوة، ورغم أن عظام يدها آلمتها إلا أنها تنفست تستدير صوب إيفان الذي كان يرمقها بأعين غامضة ونظرات غريبة لها، وهي تجاهلت كل ذلك تقول بقوة دون أن تنحني نصف انحناءة حتى .
” أنت يا مولاي تتفاخر بعدلك وحكمتك، وأنا الآن اطالبك بعدلك، وأطالب امامك بقصاصي منهم ”
نظر لها إيفان ثواني قبل أن ترتسم على فمه بسمة صغيرة يهمس لها بهدوء شديد وهو يميل لها ميلة بسيطة، ثم رفع عيونه لها بخبث :
” لكِ قصاصك لا ينقص مقدار شعرة، سمو الأميرة……..”
___________________
تحرك داخل المكان بهدوء، ثم اغلق الباب خلفه ينزع حذاءه، واخيرًا صعد على الفراش جوارها يضم جسدها له بحنان شديد :
” كيف حال صغيرتي ؟؟ ”
ولم يحصل على جواب يخفف وجع صدره ليميل مقبلًا رأسها وهو يهمس لها بصوت منخفض :
” لقد كنت سأخبرك اليوم أنني… أنني سامحت والدك، سامحته أمام الملك وتنازلت عن حقي ولن اطالبه بالقصاص، لكن تبقى عقابه على جرائم لا علاقة لي بها، و…لقد تنازل أبي أيضًا عن حقه، لقد أخبرته أن يأتي ويتنازل عن حقه أمام الملك ..”
نظر لوجهها وهو يهمس لها بصوت مختنق :
” لقد علمت من والدك أنه لم يخبرك حقيقة ما حدث، لقد خدعك وخدعني صغيرتي، لكنني اسامحه لاجلك، لا أريد أن نبدأ حياتنا على رواسب الماضي بيرلي …”
ابتسم يقول بصوت منخفض به غصة بكاء وخوف عليها :
” أبي حي بيرلي، هو لم يُعدم، و…الفضل لله ثم للقائد سالار والملك إيفان، هم وقتها من ساعدوني لاثبت براءته قبل تنفيذ حكم الأعدام في حقه …”
ما يزال يتذكر ذلك اليوم، يوم الحكم على والده وانهيار والدته، ضمها له بقوة يبكي بجزع ورعب وهو يرى الجنود يسحبون والده لسجنه حتى وقت تنفيذ الحكم :
” اقسم لك مولاي أن والدي لم يفعلها، والله لم يفعلها، اعطني فرصة لاثبت براءته مولاي، هو فقط اوصل الرجال للمنزل ولم يعلم أنهم سيقتلون أحد، اقسم بالله أنه لم يفعلها مولاي ”
كان يتحدث ببكاء وهو يضم والدته وشعور اليتم بدأ يأكل صدره، بدأ يبكي وهو يشعر بالهلع قد تمكن منه، سيفقد والده ويفقد سنده، هو يفقد عائلته الواحد تلو الآخر، اولًا بيرلي والآن والده، ووالدته التي سقطت ارضًا سترحل خلف والده .
انهار تميم وهو يشعر بالرعب يراقب عالمه ينهار من حوله، كل ذلك قبل أن يشعر بيد تجذب جسد ليقف وصوت يقول :
” وحّد الله يا رجل وتوقف عن البكاء لأجل والدتك ”
رفع تميم عيونه الباكية يبصر شابًا يبدو في بداية العشرينات من عمره يرتدي ثياب الجنود ليهتف بصوت باكي :
” اقسم لك سيدي أن أبي لم يفعل شيئًا، ارجوك أنا لا امتلك غيره في هذه الحياة ..”
ابتسم سالار بسمة صغيرة له يربت أعلى كتفه :
” تستطيع إثبات ذلك ؟!”
نظر له تميم بعدم فهم ولهفة ليمنحه سالار بسمة صغيرة قائلًا :
” يمكنني أن اتوسط لك عند الملك فيمنحك بعض الوقت لتثبت ذلك قبل تنفيذ الحكم ”
مسح تميم عيونه بلهفة وهو يهز رأسه:
” نعم نعم، سأثبت ذلك، فقط اعطني بعض الوقت ارجوك سيدي ”
ابتسم له سالار، ثم نظر بطرف عيونه خلفه ليجد إيفان ما يزال في مكانه وهو ينظر صوبه بفضول شديد وبسمة صغيرة، فتحدث سالار لتميم :
” يبدو أنني لن احتاج للتوسط لك عند الملك ”
رفع تميم عيونه له بتسائل ليشير سالار صوب إيفان الذي نظر له بهدوء دون أن يظهر أي شفقة أو تعاطف، لكن ثواني هي وابتسم بسمة صغيرة يرحل وكأنه بتلك النظرة منحه موافقة على شيء لا يعلمه تميم .
ولم يكن تميم مهتمًا بذلك إذ قال بسرعة :
” سوف احضر لكم دليل براءة أبي، شكرًا لك سيدي اقسم أنني أدين لك بحياتي ”
ربنا سالار على كتفه :
” أنا لست سيدك، حين تأتي للعمل معي بالجيش حينها أصبح سيدك ”
” الجيش ؟؟”
” ألا تريد أن تصبح جزءًا من جيش البلاد يا فتى ؟!”
اتسعت أعين تميم دون فهم ليبتسم له سالار يلاحظ بنيته القوية وهو ما كان يومًا ليخطأ وجهة نظره، يشير خلفه وهو يقول :
” اقترب دانيار ..”
نظر تميم بتعجب صوب الخلف ليجد شاب تقريبًا من عمره يقترب منه، شاب تعرف عليه بسرعة وكيف لا وهو نفسه دانيار صديقه القديم الذي انتقل من جوارهم.
ابتسم دانيار حين رأى تميم ليقول سالار :
” دانيار هو من طلب مني أن اساعدك، يبدو أن مكانتك كبيرة عنده .”
نظر تميم صوب دانيار الذي ابتسم له بشوق يقول :
” كيف حالك تميم ؟؟”
انقض تميم دون كلمة على دانيار وهو يهتف بلوعة باكيًا :
” دانيار، يا الله دانيار اشتقت إليك يا أخي، أين ذهبت وتركتني وحدي؟!”
ضمه دانيار له يقاوم بكاءه، فحين أبصر انهياره ركض بسرعة صوب سالار والذي كان ذو رتبة عالية بعض الشيء في الجيش والذي يدرك قربه من الملك، يتوسله أن يساعد رفيقه، ويقسم له أن والده ما كان ليرتكب مثل هذه الجريمة .
ابتسم سالار لهما يتركهما بعدما قال بهدوء :
” سأذهب أنا..”
نظرت له والدة تميم بامتنان شديد :
” ليرح الله قلبك يا بني، عسى الله أن يرزقك الخير”
ابتسم لها سالار ينحني لها انحناءة صغيرة، ثم تحرك بعيدًا عنهم ..
لا ينسى تميم ذلك اليوم الذي كان بداية تعرفه على القائد والملك وبداية عودته لرفيق طفولته دانيار، بداية تغير حياته، وانضمامه للجيش بشهادة من دانيار أنه يجيد أي شيء يدوي وبمهارة ..
ابتسم تميم ينظر صوب برلنت يقبل رأسها:
” فقد استيقظي فأبي وأمي يشتاقون لزوجة ابنهم، هم ينتظرونك حبيبتي …”
ختم حديثه يضمها له مقبلًا رأسها بحنان شديد :
” استيقظي وسيصبح كل شيء بخير صغيرتي، كل شيء سيكون بخير ”
__________________
تحركت بخطوات بطيئة صوب الاسطبل رغم جميع الاصوات التي تصرخ في رأسها أن تعود، اصوات كثيرة تخبرها أن قربها خاطئ، لكن منذ متى كانت تفعل شيئًا صحيحًا ؟؟
توقفت أمام الاسطبل تستمع لصوت نقاش بين سالار وتلك المرأة، نظرت لها بأعين ضيقة تحاول معرفة هويتها وبعدما استمعت لصوتها همست بصدمة :
” الملكة شهرزاد ؟!”
وفي الداخل كان سالار يحضر حصانه ليلحق بالملك والجنود صوب الحدود حيث العربة المشكوك في امرها، لكن قاطع كل ذلك صوت خطوات خلفه .
استدار سالار يرى جسد يقترب منه، جسد علم هويته بمجرد أن ظهر له ليحرك رأسه بهدوء واحترام :
” مولاتي ”
ابتسمت له شهرزاد بسمة مقيتة وهي تقول :
” مرحبًا بقائد الجيوش وحافظ أسرار الملك .”
ورغم أن نبرتها لم ترق سالار مقدار ذرة، إلا أنه أجاب بهدوء واحترام وملامح جامدة :
” مرحبًا بكِ، هل اساعدك في شيء ؟؟”
” نعم رجاءً، أخبرني ما الذي يدور بين بني وتلك الخادمة ”
نظر لها سالار بعدم فهم لتقول هي بصوت حانق غاضب محركة إصبعها أمام عيونه :
” لا تنظر لي هذه النظرات، أنا أدرك جيدًا أن هناك ما يدور في هذا المكان من وراء ظهري، الملك يدور حول تلك العاملة بشكل واضح للجميع، وأنت تدور حول تلك الفتاة التي أحضرتها لنا من ذاك العالم ”
” الملكة ”
نظرت له شهرزاد بعدم فهم، ليردد هو بقوة وملامح جامدة لا تظهر أي انفاعلات تدور داخله :
” هذه الفتاة هي الملكة مولاتي ”
أطلقت شهرزاد ضحكات صاخبة وهي تقول :
” أوه الملكة ؟؟ حقًا ؟؟ إن كانت هي الملكة فمال ولدي يلاحق تلك العاملة سالار؟؟”
كانت تبارك تستمع لكل تلك الكلمات وهي لا تفهم شيء منها، هي فقط تشعر أن هناك أمور تدور خلف ظهرها .
وسالار احتدت عيونه بقوة يهتف في وجهها :
” لا اعتقد أن الملك سيعجبه ما تقولينه مولاتي، ثم لست أنا من توجه له تلك الاسئلة، بل الملك، فمالي أراكِ تحققين معي ؟؟”
نظرت له بشر تهمس من بين أسنانها :
” لانك الوحيد القريب له في هذا المكان، ولا يخفي عنك شيئًا، أم أن ما يحدث هنا يعجبك، تنتظر خطأ من الملك لتكون لك اليد العليا هنا ؟؟ أم لنقل أن انجذاب الملك للعاملة فيه خير لك إذ أن الطريق صوب تلك الفتاة سيخلو لك، لم تحذر فأنا لن ادع لكم فرصة واحدة لاستغلال الملك ”
اتسعت أعين سالار بقوة وكذلك تبارك التي شعرت بالغضب يصيب جسدها بأكمله، تلك المرأة ما بالها تتهمه هكذا اتهامات ؟؟
وسالار قال بصوت لا تدرك تبارك حقًا كيف تحكم فيه أن يخرج دون غضب هكذا :
” أنا لي اليد العليا دون شيء مولاتي، لست كأحدهم استغل لحظات ضعف أو سقوط الآخرين لافرض قوتي ”
شحب وجه الملكة بقوة تهمس له بعدم فهم :
” ما الذي ترمي له سالار ؟!”
اقترب منها سالار خطوات أجبرتها على التراجع وقد شعرت تبارك في تلك اللحظة أن جسده ازداد ضخامة، جسده أصبح مشتد بشكل مخيف .
والملكة تنظر له كأنه وحش سيهجم عليها :
” أنتِ لن تحبي مواجهتي مولاتي، صدقيني تحديكِ لي ليس بالشيء الجيد لكِ ”
” هل تهددني ؟؟”
مال عليها سالار هامسًا بصوت لم يصل لتبارك، بل فقط رأته يميل عليها يردد كلمات مبهمة لها، لكنها كانت قادرة لترى مردود تلك الكلمات على جسد الملكة .
وسالار ابتسم وهو يردد في أذنها :
” واحرق المملكة على رؤوس من بها إن أُصيبت الملكة بخدش شوكة، فأحذري أن تمارسي الاعيبك عليها كما فعلتي مع العاملة، حياة الملكة وسلامتها مقابل حياتك …مولاتي ”
ابتعد عنها ينظر لها نظرات جعلتها تُصدم، نظرت في عيونه لترى ما أكد شكوكها، لم تكن شكوك، لقد تأكدت الآن، هي متأكدة في هذه اللحظة أنه يحبها ..
سالار يحب تلك الفتاة .
بل إن صح القول فإن سالار يعشق الملكة المستقبلية للبلاد …….
________________
نعم …كُشفت الكثير وتبقى الأكثر.
يتبع…
كانت تراقبهم من مكان بعيد حيث لا يمكنها أن تسمع شيئًا مما يقال، لكن تلك النظرات التي علت وجه الملكة بعد همسة سالار كانت أكثر من كافية لتدرك أن ما قيل ليس بالشيء العادي ..
وهذا ما جعل حيرتها تزداد، ما الذي قد يجعل ملامح الملكة الأم _ التي تصنف في مكانة أعلى من قائد الجيوش_ تشحب بخوف من كلمات الاخير ؟! ما الذي بين قائد الجيوش والملكة الأم ليتحدث معها بهذا الشكل دون أن يخفض عيونه باحترام ؟؟
اسئلة واسئلة ولا احد يمتلك لها إجابة، عداها هي والتي تراجعت للخوف بخوف من تهديد سالا الواضح تهمس بشكل مصدوم :
” أنت…هل ..هل تخون ولدي ؟؟ تنظر لزوجته وتخونه معها وهذه الفاسقـ ”
فجأة صمتت برعب حين وجدت سالار يخرج سيفه بسرعة كبيرة يضعه على رقبة شهرزاد لتتراجع تبارك للخلف وكأنه على رقبتها هي وقد أصبحت عيونها متسعة بشكل مخيف .
هو يهدد الملكة الأم ؟! يا الله لقد جُن، سوف يُعاقب .
بينما سالار أجاب بملامح حادة وعيون خاوية، لا نظرات توضح ما يفكر به، وقال بصوت في غاية العملية والجدية :
” حسب القانون فالملكة منزلتها تعلو منزلة الملكة الأم، وبما أنها تسبقك في التصنيف الذي وُضع قديمًا، فهذا يعني أن اهانتك لها جريمة لا تُغفر، ويمكنني أن اقودك الآن حتى المحكمة للحكم في أمرك، وحينها سنترك للملك الحكم على والدته التي اتهمت زوجته والملكة المستقبلية للبلاد بالفاسقة، واتهمت قائد الجنود بالخيانة دون أن تمتلك دليلًا واحدًا ”
نظرت له شهرزاد برعب شديد وهي تحاول الحديث :
” أنت تعلم جيدًا أنني محقة سالار ”
” دليلك ؟؟”
ارتجف جسدها وهو فقط راقبها ببرود شديد، ولم يتحدث بكلمة، في الوقت الذي كانت تبارك تقف في الخارج تحاول استيعاب ما يحدث أمامها، فهذا أكثر مشهد عبثي قد تراه عيونها يومًا .
وشهرزاد التي كانت عيونها مثبتة على عيون سالار ابتسمت بسمة غريبة عكس ملامح خوفها السابقة تقول بصوت ساخر :
” دليلي ؟؟ دليلي سأحضره وأريه للجميع سالار، وحينها لنرى إن كنت ستثبت أمام الجميع برائتك أم لا ”
نظر لها سالار ثواني قبل أن يقول بلا مقدمات :
” غادري من هنا ”
نظرت له بتشفي وشعرت وكأنها انتصرت عليه حقًا، وهو فقط قال بصوت مخيف رغم نبرته المنخفضة :
” قلت غادري ”
انتفض جسد شهرزاد تتحرك بسرعة بعيدًا عنه ولم تكد تخطو للخارج حتى اختفى جسد تبارك بسرعة كبيرة وخوف اكبر، لكن فجأة تناهى لمسامعها صوت سالار الذي خرج صلبًا صارمًا :
” ولا تنسي حديثي معك، إياكِ أن تقتربي منها بأذى فلن تجدي غيري أمامك”
نظرت له شهرزاد بشر ليكمل هو مبتسمًا باستفزاز :
” وسيكون ذلك بعلم الملك، فأنا لا اخطو خطوة دون إخباره، حتى لو كانت تلك الخطوة هي إسقاط عقاب رادع على والدته العزيزة ”
وكان الرد الوحيد من شهرزاد هو نظرة كارهة غاضبة، ثم رحلت بكل بساطة عن المكان بأكمله، في حين أن تبارك اختفت عن الأنظار خوفًا أن تراها .
ابتلعت ريقها حين اطمئنت أنها رحلت، نظرت مرة أخيرة صوب الاسطبل لتجد أن سالار يحدق في إتجاه الباب، حاولت التواري عن نظراته ليتحرك الاخير في المكان وهو يسحب بعض الطعام الخاص بالاحصنة يعطي خاصته، ثم قال بصوت جامد :
” انتهى العرض لِمَ مازلتي مختبئة ؟؟”
اتسعت أعين تبارك تنظر حولها تبحث عمن يحدثه، ليترك سالار ما بيده ناظرًا صوب الباب يقول بصوت حانق :
” هل ترين أحدًا هنا غيرك ؟؟ ”
نظرت له تبارك بتعجب لمعرفته وجودها :
” أنت شوفتني ازاي ؟؟”
ابتسم ساخرًا يستدير صوب حصانه :
” حركتك وخطواتك مسموعة، ذكريني أن أعلمك كيفية التسلل دون إصدار صوت و…صوت انفاسك كان عاليًا، أتسائل كيف لم تسمعه الملكة ”
نظرت له تبارك وهي تتحرك داخل المكان :
” وهو أنت عطيتها فرصة تتنفس عشان تسمع صوت انفاسي أنا ؟؟”
نظر لها نظرات غامضة، هو رآها منذ جاء وعلم بتتبعها له، ووجود الملكة هنا وحديثها عنها جعله يغضب، لقد قللت من شأنها، وهو عمد لجعل الحوار بالهمس فقط كي لا يصل لها شيء يشفق عليها من سماعه .
لكن يبدو أن تبارك ليست بالغبية كما يظن البعض إذ ابتسمت تقول بصوت خافت :
” هي كانت تقصد مين بكلامها ؟؟ الملك بيحب عاملة هنا ؟؟”
نظر لها سالار بصدمة يقول بصوت حاد :
” إياكِ وترديد هذا الحديث على مسامع أحد، ولا تهتمي بما قالته تلك المرأة، أنتِ هي الملكة هنا و…”
” لكنني لا أريد ذلك”
نظر لها سالار بعدم فهم لتبتلع ريقها ببطء تعود للخلف تقف على البوابة مثلما كانت وقد شعرت أن نظراته تلك ووجودها في هذا المكان يضعفونها، ويتركون القيادة لنفسها الإمارة بالسوء تحت إشراف الشيطان وأعوانه.
” أنا لا أريد أن أكون ملكة أو…..”
صمتت وقد كانت على وشك نطق ( زوجة الملك ) كانت تريد أخباره أنها، لا تحب الملك ولا تتقبل أنه سيكون زوجًا لها، الملك شخص جيد، بل رائع وحنون وكامل لأي امرأة، عدا امرأة سقطت في عشقه هو ..
رفعت عيونها له تقول بصوت منخفض :
” اشعر أنني لست مستعدة بعد لهذا الأمر، أنا لا أريد أن أكون الملكة، ولا أشعر أنني الملكة، أنا أي شيء غير ملكة هنا ”
سقطت دمعة من عيونها تقول بصوت خافت أكثر:
” هل يعقل أنهم اخطئوا بإرسالك لي ؟! هل ارسلوك لفتاة أخرى تليق بالملكة وأنت اخطئت بإحضاري ”
نظر لها سالار نظرات طويلة دون قول كلمة واحدة، وهي وكأنها لم تصدق أنه واخيرًا صمت يسمعها، ستكون صريحة واخيرًا :
” أنا لا أريد أن أُتوج أو …اتزوج بهذه الطريقة ”
نظرت لعيونه بأعين دامعة متوسلة :
” قائد …”
أبعد سالار عيونه بسرعة عنها يأبى أن يواجهها في هذه اللحظة التي تحيا هي بها أضعف حالاتها النفسية، لكنها لم تتوقف وهي تتقدم منه خطوات تقول بصوت منخفض :
” قائد..ارجوك ساعدني ”
رفع سالار يده بسرعة وهو من يمنعها هذه المرة من اقترابها، ينظر لها ألا تفعل، ألا تجبره لتخطي حدود خطها لنفسه يومًا، دهس كامل مشاعره وهو يقول بصوت منخفض :
” لا يمكنني تقديم شيء لكِ، احضرتك لتكوني الملكة، وستكونين، لا اعتقد أنني امتلك ما يمكنه مساعدتك الآن، لذا عليكِ تقبل الأمر و…”
ابتلع ريقه بصعوبة يهمس وكأنه ينطق كلمات إعدامه:
” الملك ليس شخصًا سيئًا البتة، وهو لن يظلمك، إيفان على استعداد لينحر رقبته قبل أن يظلم أحدهم يومًا فتخيلي أن يكون هذا الاحدهم هو زوجته المستقبلية !!”
شهقت تبارك بقوة تقول بصوت متقطع من البكاء :
” لكنني لا أريد ذلك، لا اريد أن أكون زوجته أنا أريد أن…”
توقفت عن الحديث حين شعرت أنها كادت تتجاوز حدودها لتزداد دموعها وهي تعود للخلف ببطء تقول بصوت خافت :
” أنا… أنا آسفة يا قائد، لم يكن عليّ التحدث معك في هذا الأمر و…”
صمتت فجأة تنهار في البكاء وهي تقول من بين شهقاتها :
” اشعر فقط أنني تائهة، لا أرى لي مستقبل في هذه الحياة، مستقبلي ضبابي ”
نظر لها يضغط على قبضته وهو يهمس وكأنه يمنح نفسه رصاصة الرحمة من كل ذلك ويقطع أي خيط قد تخزله نفسه الواهمة :
” زواجك من الملك سيكون بعد يومين في الاحتفال الوطني، حاولي تقبل الأمر، وإن لم تفعلي فنحن هنا لا نجبر النساء على زواج، يكفي أن تقولي لا و..سأكون أول الداعمين لكِ، لكن …لا اعتقد أن الأمر بهذه البساطة خاصة أن تعلمك كل تلك المهارات كانت بمثابة موافقة ضمنية منكِ على الأمر في البداية، والآن سيكون من الصعب إلغاء كل ذلك ”
ختم حديثه يتنفس بصوت مرتفع وهو ينظر لها بحزن وغضب من نفسه، لكن الأمر فوق احتماله يقسم، أصبح صدره الآن على شفا جرف من الانفجار بكل ما يكبت، وهذا خطأ كبير يشعر أنه ينتظره للوقوع به والأمر مسألة وقت..
لكن في الوقت الحالي عليه فقط أن يطمئنها ويُهدأ قلبها ولو كان على حساب قلبه، لذا تشدق في هدوء يحاول أن يساعدها في تخطي حالتها تلك :
” مولاتي، هوني على قلبك، الأمر ابسط من كل هذا، الملك سيكون زوجًا رائعًا لكِ، سيمنحك كامل الرعاية والاهتمام وهذا ما تحتاجينه أنتِ ..”
ختم حديثه ثم نظر حوله وكأنه يفكر في الأمر، لكن في النهاية تحرك بعيدًا عنها بعدما تمتم بكلمات وداع غير مفهومة بعض الشيء ..
وهي راقبته يرحل بأعين مليئة بالدموع تهمس بصوت مختنق :
” ما احتاجه هو أنت سالار ….”
__________________
اتسعت أعين كهرمان بصدمة كبيرة تحاول أن تستوعب ما قيل منذ ثواني، أبعدت عيونها عنه تقول بصوت منخفض :
” أي أميرة تلك مولاي ؟؟ أنا العاملة كهرمان ”
ابتسم إيفان بسخرية لاذعة :
” نعم، كان أرسلان ليفخر بشقيقته الحبيبة التي نبذت حياة الملوك وفضلت حياة العاملين ”
شعرت كهرمان بقلبها يكاد يتوقف من الصدمة التي تعانيها، ورغم أنها في نقطة داخلها كانت تشك أو شبه تأكدت من معرفته لهويتها بسبب تلميحاته التي تجاهلتها عمدًا، إلا أن سماع الحديث منه مباشرة كان له وقع الصدمة على أذنها…
بلعت ريقها تبعد عيونها تقول بصوت خافت :
” مولاي …”
لكن إيفان تجاهلها يقول بصوت حاد :
” خذوا هؤلاء الرجال لسجن القصر حتى يتم احضارهم للمحاكمة، وليحضر أحدكم خيل للأميرة كي تعود به للقصر .”
ختم حديثه يتحرك بكل هدوء صوب فرسه تاركًا إياها ما تزال تتجرع صدمتها، رفعت عيونه له تراه يصعد على الحصان خاصته وهو ابتسم لها يقول بصوت وصل لها واضحًا :
” هوني عليكِ الأمر سمو الأميرة، فجميع من بالقصر يعلم تلك الحقيقة ليس أنا فقط، أنتِ فقط من لا تعلمين أن الجميع يعلمون ”
صمت ثم قال بصوت ساخر ضمنيًا :
” إن أردتي يمكنني أن ادعي أنني لم اعلم بعد ”
تنفست كهرمان بصوت مرتفع تبعد عيونها عنه حين سمعت صوت خطوات حصان يقترب منهم وقد كان يخص أحد حراس الحدود، أمسكت منه اللجام تشكره بصوت خافت، ثم نظرت للملك تقول :
” إذن كنت تعلم ؟!”
” هل هذا يثير تعجبك ؟ ليس الأمر وكأنكِ كنتِ بارعة في التنكر، يا الله لقد كنتِ مريعة بحق، كل كلمة تصدر منكِ تصرخ بأنكِ أميرة ”
تنفست كهرمان بصوت مرتفع :
” وطالما كانت حقيقتي واضحة لك، إذن لِمَ لم تنتقم ؟؟”
ردد إيفان بصوت متعجب من تلك الكلمة :
” انتقم ؟؟”
” أولست عدو لأخي ؟؟”
اشتعلت أعين إيفان بشكل مخيف وهو يضغط على اللجام يقول بصوت حاد :
” عدو ؟؟ كيف تصفين علاقتي بأرسلان بهذه الكلمة المقيتة ؟؟ هل هذا ما هداكِ له عقلك ؟؟ يبدو أنكِ لم ترثي من إيفان سوى صفاته المزعجة كالعناد والكبرياء الغبي، لم ترثي منه ولو ذرة حكمة وتفكير واحدة، هيا اصعدي لنعد إلى القصر .”
نظرت له ولم تعلم سبب غضبه، لكنها رغم ذلك هزت رأسها ولم تكد تصعد حتى أبعد إيفان عيونه عنها ينظر للجنود آمرًا إياهم بالتحرك ..
وبالفعل صعدت كهرمان على حصانها، تستقر أعلى ظهره، ثم أمسكت اللجام، ولم تكد تتحدث بكلمة حتى قال إيفان بصوت مرتفع :
” لنتحرك…”
وبعد هذه الكلمة لم تبصر كهرمان سوى الغبار الذي خلفه حصانه وقد بدأ الجنود يلحقون به وتجهز بعض حراس الحدود للعودة معهم بالسجناء .
وهي فغرت فاهها بصدمة، ثم تحركت بسرعة كبيرة خلفه تزيد من سرعة حصانها كي تسبقه بكل عناد وغضب ورفض لأن ينتصر عليها في هذا أيضًا، والجنود تعجبوا الأمر فليس من المعتاد أن يسبق أحدهم الملك أو أن يتقدمه.
لكن قوانين إيفان تسري على الجميع عداها .
ابتسمت وهي تتخطى إيفان بسرعة كبيرة، ولم تنظر حتى له أو للخلف وهي تكمل طريقها والحصان يتحرك بسرعة كبيرة جعلت ثيابها ترفرف خلفها..
كل هذا وإيفان يراقب ما يحدث بصدمة كبيرة، قبل أن ترتسم بسمة صغيرة على ثغره يتذكر تلك الأيام التي كان أرسلان يسابقه بها ..
” يبدو أنها أخذت المزيد من صفات أرسلان …”
اسرع ايفان خلفها بسرعة كي يسبقها وحين أصبح جوارها صُدمت هي وهو ابتسم بسمة جانبية يقول بصوت مرتفع كي يصل لها وهو يسابقها بسرعة مخيفة :
” هل تعلمين أكثر ما كان يمقته أرسلان في صُحبتي ؟؟”
نظرت له بفضول ثم عادت بنظرها سريعًا صوب الطريق، ومجددًا عادت له :
” ماذا ؟؟”
قال ببرود شديد واستفزاز أشد :
” ظهري، لأنه لم يكن يرى سواه في سباقاتنا ”
وبهذه الكلمات ختم إيفان حديثه ووجوده جوارها وهو يسبقها بسرعة مخيفة يطلق ضحكات مرتفعة جعلت أعين كهرمان تتسع بصدمة كبيرة :
” يا ويلي من هذا الرجل الـ ..”
صمتت وكأنها أبت أن تضيف له لقب غير محمود وهو القريب من القلب، ابتسمت بسمة جانبية، تخبر نفسها أن كل هذا ما هو إلا لحظات مؤقتة يعاملها فيها ببعض الود فقط لأنها شقيقة أرسلان، وحينما يعود للقصر سيعود الملك البارد الصامت اغلب الوقت، وسيعود الزوج المستقبلي لتبارك ..
وعند هذه الفكرة صمتت وتراجعت تترك له السباق يقوده وحده، تقهقرت للخلف وهي تفكر في الأمر وشعرت أنها تود لو …تستسلم فقط وقد انهكتها المقاومة الطويلة، فقط ليتزوج حتى يقتنع قلبها أنه ليس لها، تترجاه أن يتزوج و يمنحها رصاصة الرحمة .
كانت تراقبه يتحرك بسرعة كبيرة بمهارة عالية، ابتسمت وهي تهمس :
” يليق به كونه ملك …”
واستمرت الرحلة على هذا الحال ما بين تسابق وتفرد بالصدارة، نظرات وعناد، لكن في النهاية انتهت الرحلة وعاد إيفان يتلبس ثوبه كملك هادئ بعيدًا كل البعد عما كان يفعل منذ قليل .
بمجرد أن وصلت الأحصنة لبوابة القصر هبط هو عن حصانه، ثم نظر لكهرمان التي هبطت بكل سلاسة .
تحركت صوبه وقبل أن تتحدث بكلمة سمعت صوت إيفان يقول بنبرة آمرة للجنود حوله دون أن ينزع عيونه عنها :
” أظهروا بعض الاحترام لأميرة مشكى يا رجال ..”
اتسعت أعين الجميع بصدمة كبيرة، وقد بدأت الهمسات حول كيفية وجودها حية حتى هذه اللحظة، لكنهم في النهاية اخفضوا رؤوسهم باحترام لها وهي نظرت لايفان نظرات صغيرة ثم قالت بتقرير :
” لا اعتقد أنني احتاج لهذا الأمر مولاي، اشكرك فأنا أود الاستمرار في حياتي هنا حتى اعود لبلادي، افضل العيش كخادمة بكل شرف على أن أعيش أميرة دون استحقاق وبلادي مسلوبة ”
نظر لها إيفان ثواني قبل أن يقول متجاهلًا أمر بلادها في هذه اللحظة فقط :
” هل تعتقدين أن جميع العاملين لديّ، لديهم كامل الصلاحيات التي تمتلكينها أنتِ أو أنني مثلًا اسمح للعاملات بالتحرك بكامل الحرية في القصر دون محاسبتهم على ترك العمل ؟!”
نظرت له بعدم فهم وقد بدأت تدرك ما يدور حولها، وهي التي ظنت أن كل ذلك ذكاء منها لانها تهرب من العمل بمهارة ؟؟
” اسمعي سمو الأميرة، لا شيء في هذا القصر يحدث دون إرادة أو علم مني، تمامًا كزيارتك لمهران قائد جيوش مشكى السابق ..”
ختم حديثه ببسمة صغيرة ثم قال :
” والآن هل نتقدم لداخل القصر فأنا في الحقيقة لست متفرغًا لكثير من الوقت؟؟”
ختم حديثه تاركًا إياها تعاني ويلات الصدمة مما قال، ابتلعت ريقها تفكر في كل ما حدث وتنظر للزوايا التي تعمدت التغاضي عنها سابقًا .
كل ذلك وأبواب القصر تُفتح على مصراعيها أمام أعينها …
________________________
” ألم تخبر أبي أنك لن تعالجني حتى نتزوج؟؟”
كانت تلك كلمات ليلا التي ارتفعت في المكان وهي متسطحة على الفراش الخاص بعيادة مهيار وهناك على أحد المقاعد يجلس مرجان بعدما أبى أن يترك شقيقته معها وحده، خاصة بعد تلك الكلمات التي جعلته يزجرها بغيظ شديد يميل عليها هامسًا :
” أنتِ يا فتاة تحلي ببعض الخجل قليلًا ”
نظرت له ليلا معترضة على تلك الكلمات وهي التي لم تتحرك من جاءت حتى :
” خجل ؟؟ أي خجل هذا ؟؟ ما الذي فعلته !! أنا فقط أتساءل ”
صمتت تنظر لمهيار الذي كان يعبث بصندوق خشبي أمامه وهو مبتسم بشكل أخبرها أنه أساء فهمها تمامًا كمرجان، لذا سارعت تقول وهي تنظر له بغيظ شديد :
” أنا أود معرفة إن كان غير رأيه كي لا …”
استدار مهيار ينظر لها بشكل جدي وهو يضم ذراعيه لصدره منتظرًا منها أن تكمل جملتها المقطوعة، لكنها لم تفعل، ليس لأنها توترت بسبب نظراته تلك، أو لأنها مثلًا شعرت بقلبها يكاد يفر من ضلوعها، بل لأنها من البداية لم تمتلك أي شيء تقوله .
صمتت وهي تبعد عيونها عن أعين مهيار المستمتعة والذي قال ببساطة شديدة :
” ومازلت عند حديثي، أنا لن أعالجك حتى نتزوج ”
تمتم مرجان بضيق شديد :
” أنا لا يعجبني هذا الحوار حقًا، لذا أما أن تغيره أو أن انتزع أنا تلك الحمقاء التي تتوسط الفراش وارحل من هنا ”
نظر له مهيار بعض الوقت قبل أن يقول :
” كم هو عمرك مرجان ؟؟”
صُدم مرجان من السؤال الذي لم يكن يتوقعه، لكنه رغم ذلك أجاب بصوت منخفض :
” بالكاد أكملت الرابعة والعشرين منذ ايام قليلة، لكن لماذا تسأل ؟؟”
مال مهيار على المقعد الخاص به يقول بجدية :
” أنت في الرابعة والعشرين بالكاد، وأنا رجل كبير على مشارف التاسعة والعشرين، لذا ألا تظن أنني استحق منك احترامًا اجباريًا لفرق العمر بيننا ؟؟”
نظر له مرجان بعدم فهم ليستقيم مهيار وهو يتجاهل كل ذلك، ثم نظر صوب ليلا يقول ببسمة صغيرة :
” سوف افحصك فقط، لن ابدأ العلاج الآن، لكنني انتظر قدوم أحدهم ”
نظرت له ليلا بفضول شديد وهي تتساءل عن هوية هذا الاحدهم الذي سيشاركهم الغرفة، وجاءها الرد بسرعة كبيرة حين أبصرت تبارك تستأذن الدخول .
تعجبت ليلا قدومها، فهي في الفترة الأخيرة تعرفت عليها وعلمت أنها الملكة، إذن ما الذي تفعله الملكة هنا ؟؟
ابتسم مهيار وهو ينظر باحترام شديد لتبارك التي كانت في تلك اللحظة حائرة الملامح، شاحبة الوجه تشعر أن المكان بأكمله يتحرك من أسفل أقدامها، ورغم ذلك مبتسمة بسمة صغيرة وهي تقول :
” مرحبًا، آمل أنني لم اتأخر ”
” لا ليس فعليًا، لقد كنا نجري حوارًا شيقًا أنا ومرجان، بالطبع تعرفينه ”
ابتسمت بسمة واسعة تقول مرحبة بمرجان:
” بالطبع مرجان رفيقي، أليس كذلك مرجان ؟؟”
ابتسم لها مرجان بلطف وسعادة من كلماتها تلك وهو يهز رأسه بقوة مجيبًا :
” بالطبع أنا وتبارك صرنا رفاق منذ اسابيع طويلة ”
ضحكت تبارك ضحكة صغيرة وهي تكمل :
” منذ بدأ العريف يطردني ليسارع هو ويعوضني ”
ابتسم لهما مهيار، بينما بدت ليلا متعجبة بعض الشيء من قرب العلاقة بين شقيقها والملكة، فهذه هي …الملكة، هي ليست معتادة أن تكون الملكة بهذا القرب من بعض العاملين بالقصر أو أيًا كان، فقط الأمر مريب، خاصة قربها وتلك الاريحية التي تتعامل بها مع مهيار، ليس الأمر وكأنها تغار عليه بشكل مبالغ، لكنها فقط تتعجب الأمر .
” مرحبًا مولاتي، إنه لشرف لي مقابلتك ”
نظرت لها تبارك ببسمة واسعة ثم قالت :
” الشرف لي عزيزتي ”
نظرت صوب مرجان تقول بمزاح :
” شقيقتك تفوقك جمالًا مرجان ”
خجلت ليلا ونظرت بعيدًا عنهما، بينما هي ابتسمت بلطف وهي تتحرك صوب مهيار الذي وضع صندوق غريب الشكل أمامها يقول :
” تسائلتي من قبل عن كيفية معرفتي للإصابات الداخلية وغيرها من الأمور ”
نظرت له بفضول كبير ليبتسم هو يفتح الصندوق مرددًا :
” حسنًا ربما كنا أقل منكم تقدمًا، لكننا حتمًا لسنا أقل منكم ذكاءً، وطبيعتنا المحيطة بنا ساعدتنا كثيرًا على التقدم في شتى المجالات ”
كان الفضول يأكل في جسد تبارك والتي حاولت في هذه اللحظة تناسي ما حدث في الاسطبل مع سالار وهي تقول بفضول :
” كيف ذلك ؟! ”
ابتسم يكشف الغطاء عن الحقيبة مظهرًا علبة تحتوي مادة بيضاء وجوارها حجر غريب الشكل واللون يضيء بشكل لا تدري سببه .
” ما هذا ؟؟”
ابتسم لها مهيار يقول بجدية :
” تريدين التعلم ؟؟ سوف نبدأ بعمل فحص داخلي باستخدام تلك الاحجار التي تعمل نفس عمل اجهزتكم ”
اتسعت أعين تبارك تحاول فهم ما يقصده وقبل أن تتحدث بكلمة اتسعت أعين الجميع حين تشنج جسد ليلا بشكل غير محسوس لولا أنها انتفضت بسرعة عن المقعد تقول دون مقدمات :
” هل يمكننا أن نؤجل هذا الأمر لاحقًا، احتاج للرحيل الآن لإتمام بعض العمل، سوف ارحل الآن ونتحدث لاحقًا، تشرفت بمعرفتك مولاتي ”
رمت نظرة أخيرة صوب مهيار تهرول للخارج، بينما مرجان انتفض وكاد يلحق بها لولا يد مهيار التي امسكته يقول بجدية :
” ما بها ؟؟”
” لا ادري، ربما شعرت بقرب حالة اضطراب أو غيرها ”
تحدثت تبارك بعدم فهم :
” شعرت بقرب حالة اضطراب ؟؟ هل هذا ممكن حتى ؟!”
هز مرجان كتفه يقول بهدوء شديد :
” يبدأ الأمر بتشنجات خفيفة يمكن تحملها ”
كانت تبارك مندمجة في الحديث مع مرجان ولم يبصر أحدهم مهيار الذي التقط شيئًا عن مكتبه وركض خلف ليلا بسرعة وهو يدعو الله ألا تكون قد ابتعدت، وحينما كادت تخطو بعيدًا عن المشفى أوقفها بصوت مرتفع :
” ليلا انتظري ..”
تحرك صوبها وهي توقفت تقول بصوت متعجل :
” أنا آسفة سيدي الطبيب عليّ الرحيل لأمر مهم ”
وقبل التحرك قال مهيار :
” ليلا، على الأقل تناولي هذه الأعشاب ستساعد على مرور تلك الحالة بسلام أو على الأقل ستخفف من اعراضها ”
استدارت ليلا تنظر له بأعين دامعة وهي تهمس :
” أنا بخير ”
اقترب منها مهيار بخطوات صارمة :
” لا لستي كذلك، وإلا ما كنا لنكون هنا ؟؟ ليلا اسمعيني جيدًا ..”
نظرت له بحزن تخفي خلفه خزي وخجل وكأن ما يحدث لها كان نتيجة اختيارها ..
” اسمعيني ليلا، أنتِ حينما وافقتي على معالجتي لكِ، لم يقتصر الأمر على فعل ذلك في الأوقات التي لا تأتيك بها حالة اضطراب، بل أنا أفعل ذلك لاتدارك تلك الحالات ”
نظرت له ليلا بدموع وهو تنهد بصوت مرتفع :
” ليلا، انظري إليّ، هل يبدو لكِ أنني طبيب يفقه بتلك الأمور الداخلية كالجهاز العصبي أو المخ أو غيرها من هذه التخصصات الدقيقة ؟!”
لم تفهم هي سبب سؤاله ورغم ذلك هزت كتفها بالتزامن مع تحريك رأسها في إجابة واضحة أنها لا تدرك، فابتسم مهيار يقول بغيظ شديد :
” لا لست كذلك، أنا أعمل بالجراحة العامة، وفقط لتطبيب الجراح العادية والخطيرة، إذن تُرى ما الذي يجبرني على قضاء ليالي كاملة في البحث عن تلك الأمور ؟؟”
هزت كتفها بجهل ليصرخ في وجهها بغضب شديد :
” لأنني افعل هذا خصيصًا لاجلك ليلا، لاجلك أيتها المعتوهة، أنا فقط اريد مساعدتك فلا تصعبينها عليّ، ودعي هذا الخجل أو الغباء جانبًا ”
كانت ليلا متعجبة، بل مصدومة من رؤية هذا الوجه من مهيار مجددًا، والذي ابتسم لها بسمة واسعة يقول :
” إذن هل نعود يا صغيرة ؟؟”
ابتلعت ريقها وفتحت فمها للرفض، لكن هو قاطعها يقول بصوت حاد :
” اتبعيني رجاءً ”
نظرت لظهره بصدمة فهو القى بالكلمة ورحل وكأنه يضمن موافقتها، وقد كان فها هي تتبعه بترقب، وسعادة مجهولة المصدر، أو معلومة فأي مصدر ذلك في وجوده ؟!
في العيادة كان مرجان يقول بحزن شديد :
” هي كلما أحست باضطرابات حتى وإن كانت عادية ركضت لتسجن نفسها بعيدًا عن الجميع، ولا تقبل بأي شكل من الأشكال أن يراها أحد أو تتحدث مع أحد في تلك الحالة، فقط تكتفي بسجن نفسها وعدم الخروج ولو سقطت السماء على الأرض”
ختم حديثه يبصر عودة مهيار من الخارج تتبعه ليلا التي كانت تنظر ارضًا بخجل وصوت مهيار يصدح بجدية :
” هيا تسطحي على هذا الفراش ”
كان يشير صوب فراش وهي تحركت بكل بساطة وطاعة وجلست عليه وهو فقط ابتسم بسمة واسعة يقول :
” إذن لنبدأ الفحص ”
كل ذلك كان يحدث تحت أعين مرجان المصعوق منا يحدث وتبارك التي تراقب ما يتم أمام عيونها مرددة باستنكار :
” هذه هي الفتاة المكلومة التي لم تكن تسمح لأحدهم أن يشهد انهيارها !!”
ردد مرجان وهو يراقب شقيقته التي تكاد تتبخر من الخجل الشديد :
” كانت …كانت مكلومة، الآن أصبحت مسحورة، لقد ألقى عليها مهيار تعويذة، أكاد أجزم بذلك ”
ابتسمت تبارك تراقب ليلا :
” نعم تعويذة حب يا مرجان ”
نظر لها مرجان بعدم فهم، لكنه لم يهتم حقًا بكل ذلك وهو يضع جل اهتمامه على ما يحدث لشقيقته …
وعند ليلا كانت تنظر له وهو يبتسم لها بحنان يمد يده لها بعلبة قائلًا :
” ضعي هذا بحرص شديد على مقدمة الجبهة رجاءً”
تسلمت منه ليلا العلبة تقول بصوت خافت :
” هل هذا مؤلم ؟؟”
” لا، ليس مؤلمًا بأي شكل من الأشكال، لا تقلقي ليلا فلن اعطيكِ ما يوجعك ”
نظرت ليلا في اعينه ببسمة واسعة، ثم قالت بصوت خافت :
” أنا أثق بك سيدي الطـ ”
وقبل أن تنتهي من كلماتها أُنتزعت العلبة من يده بشكل مفاجئ وقال مرجان بغيرة وحنق شديد :
” لننتهي فقط من كل ذلك ”
نظر له مهيار بغضب لافساده تلك اللحظات ومرجان لم يهتم وهو ينظر لليلا بغيظ والتي كانت تنظر لها بدورها في حنق وغضب شديدين .
انتبه لها مرجان يقول بصوت غاضب وهو يضع لها تلك المادة البيضاء :
” ماذا ؟! لماذا تنظرين لي بهذا الشكل ؟!”
رفعت ليلا يدها تنخز جانبه بغضب شديد وهو ابتسم باستفزاز لتزفر بصوت مرتفع تحت أعين مهيار المتعجبة ونظرات تبارك المستمتعة والتي تراقب ما يفعل مهيار بتلك الادوات ….
__________________
فُتحت ابواب القصر أمام الأحصنة ليكون إيفان اول من يدخل يتبعه حصان كهرمان التي كانت تجلس عليه مرفوعة الرأس كعادتها، مشهد بدا كما لو أن الملك عائد من رحلة ما مع زوجته وهذا ما جعل العاملات اللواتي توقفن في الطريق يراقبن ما يحدث، يستنكرن ما يرون، أوليست هذه عاملة مثلهم ؟؟
هي ترتدي ثيابهم، إذن هي منهم، كيف لها أن تجاور الملك بهذه الطريقة ؟؟
تناقلت الكلمات وتناثرت الأقاويل في ارجاء القصر حتى وصلت لها، أمام باب جناحها بمساعدة من إحدى خادماتها المخلصات، وهذا ما تسبب في اندفاع جسد شهرزاد بشكل مخيف وهي تركض صوب الشرفة كي تبصر الحقيقة من الزيف .
وحين وصلت كانت الصدمة لها، إيفان يتوسط ساحة القصر على حصان وتجاوره تلك الخادمة التي …حاولت هي التخلص منها، ياللسخرية .
وفي الخارج كانت تبارك تقف بعيدًا تتابع كل ذلك بعدما خرجت من المشفى، كانت عيونها تدور باهتمام شديد على الجميع، فقط تبحث عنه فهو حتمًا كان مع الملك صحيح ؟؟
لكن خاب ظنها حين هبط الملك عن حصانه ونظر في المكان المحيط به وبعدها عاد بنظره لكهرمان ينظر لها نظرات غريبة، نظرات جعلت وفي ثواني كلمات شهرزاد ترن داخل أذنها .
“الملك يدور حول تلك العاملة بشكل واضح للجميع، وأنت تدور حول تلك الفتاة التي أحضرتها لنا من ذاك العالم ”
العاملة؟؟ العاملة؟؟ العاملة ؟! كهرمان ؟! هي كهرمان ؟؟ العاملة هي كهرمان ؟؟
ابتسمت تبارك بسمة واسعة هي أبعد ما يكون عن السعادة، ابتسمت بسمة غير مصدقة وهي تضع يدها على فمها تراقب ما يحدث أمامها بصدمة كبيرة، تراقب ترجل كهرمان عن الحصان تحت أعين الجميع ثم ارتفاع صوت إيفان الجهوري في المكان وهو يهتف بصوت صارم :
” هناك من تجرأ على أحد رعاياي وأمر بخطف إحدى العاملات هنا، جريمة لا نتهاون في عقابها، فما بالك لو كانت تلك الجريمة ضد أميرة ؟؟”
اتسعت الأعين حوله وتكاثرت النظرات المتعجبة بينما تبارك تراقب ما يحدث ببسمة صغيرة وافكار غير مُعلنة تدور داخل رأسها .
وشهرزاد تقف بعيدًا أعلى النافذة تراقب ما يحدث بأعين مخيفة تحاول فهم ما سمعته ..
حتى اخترقت بعض الكلمات أذنها بشكل مخيف :
” هذه هي كهرمان، أميرة مشكى وآخر من تبقى من العائلة الملكية هناك، وتهديدها يعتبر تهديد لمشكى ونظام الحكم بها حسب القوانين المتعارف عليها في جميع الممالك، لذا وعليه سيتم معاقبة أيًا كان من فعلها عقابًا عسيرًا ”
ختم حديثه ينظر صوب كهرمان التي كانت تحاول تجرع صدمتها وهو ابتسم لها بسمة صغيرة يميل برأسه في هدوء شديد :
” اعتذر عما تلقيته من معاملة داخل قصري أميرة كهرمان، لكن صدقيني ستحصلين على قصاصك العادل، فما من أحد يُظلم أسفل سماء بلادي دون أن ينال حقه، ولو كان طفلًا رضيعًا”
ختم حديثه ينظر لها وهي تراقبه من خلف الغطاء، حتى أبصرت انحناءة صغيرة منه تبعها رحيله بكل هدوء دون أن يعبأ أنه للتو حوّل جميع الأعين والالسنة صوبها هي ..
اتسعت الأعين وبدأت الهمسات تكثر حول كهرمان التي ابتلعت ريقها وهي تحاول تجنب كل ذلك، فكرت بالتحرك صوب المشفى لرؤية برلنت، لكن وقبل أن تفعل أبصرت تبارك تراقبها بنظرات غريبة من مكان قريب بعض الشيء .
شعرت كهرمان بالصدمة من وجودها، وتحسست بسرعة غطاء الوجه تتأكد أنه كان يخفي خلفه ملامحها وتعابير وجهها، ثم ابتلعت ريقها تقترب منها بهدوء :
” مرحبًا تبارك، كيف حالك ؟؟”
ابتسمت لها بسمة صغيرة :
” حمدًا لله على سلامتك كهرمان ”
وبتلك الكلمات أعلنت تبارك انتهاء الحوار القصير مع كهرمان، وداخلها تعم فوضى .
احتاجت هي لمكان بعيد عن الجميع كي ترتب كل ما يدور داخلها، بينما كهرمان تلقت ضربة في منتصف صدرها من رد تبارك المقتضب تهمس لنفسها برعب من تلك الفكرة ورغبة في البكاء :
” هل …هل اغضبتها ؟؟”
___________________
في الخارج وبعدما تحرك تميم للداخل حتى يجلس جوار زوجته، كان يستطيع هو الرحيل للانتهاء من أموره خاصة أن القائد ارسل لهم في اجتماع هام بشأن المعركة القادمة، لكن ها هو يجلس ارضًا حيث كان يجاور تميم يراقبها بهدوء دون أن ينبث بكلمة واحدة، وهي تنظر لباب الغرفة تحاول تلاشي النظر له .
وللمرة الأولى منذ عرفته يجلس الاثنان قبالة بعضهم البعض بهذه السلمية وهذا الهدوء، هدوء مريب كما لو أنه ينبأ ببوادر عاصفة ..
” إذن ؟! ما سر هذا الهدوء ؟؟”
نظرت له زمرد، ثم عادت تحدق في يديها تفركهما بتوتر ملحوظ، تحاول أن تتلاشى أي كلمة معه، وهو لاحظ محاولتها التهرب من الحديث معه، فابتسم بسخرية وصمت ينظر بعيدًا عنها .
وزمرد التي شعرت برغبة عارمة في الحديث معه، وقد تعبت وملت كل ما يحدث ذلك، حتى أنها فكرت في أحد الأيام أنها ستخبره بمشاعرها وموافقتها وتتجاهل حياتها السابقة، لكن هل تستطيع ؟؟
ابتسم دانيار حين انتبه لكل تلك الحيرة التي تعلو وجهها، وقبل أن يتحدث بكلمة سمع صوتها يقول :
” هل … أخبرت الملك ما أخبرتك به ؟؟”
نظر لها بعدم فهم لثواني قليلة قبل أن يدرك ما تقصد هي، فجأة اتسعت عيونه حين تذكر كلماتها :
” أوه تلك الأخبار التي جاءت لكِ بشكل مجهول غريب ؟؟ حقًا، كيف تريدين مني اخبار الملك بما تحدثتي به عندما يسألني عن مصدر تلك الأخبار ؟!”
نظر لها بسخرية وهو يردد :
” هل أخبره، عذرًا مولاي فإحدى عاملات القصر مجهولات الهوية والتي تستمر في الكذب عليّ بخصوص هويتها هي من أخبرتني بتلك المعلومة متحججة أنها أحد المنبوذين ؟!”
نظرت له نظرات مريبة، ثم ابتسمت بسمة صغيرة تقول بصوت غريب وكأنها تنطق أمرًا لا يجب أن تنبث به بينها وبين نفسها حتى :
” يبدو هذا خيارًا جيدًا لي ”
تشنجت جميع ملامح و دانيار والذي لم يعجبه ما سمع ليقول بصوت حاد :
” توقفي عن المزاح بهذا الشكل زمرد، إياكِ وتشبيه نفسك بهؤلاء الأشخاص ولو على سبيل السخرية أو المزاح، هذا ليس مزاحًا البتة، هؤلاء القذرون لا تذكري نفسك معهم في الجملة ذاتها لئلا تتلوثي بذكرهم ”
وترافق مع صوت دانيار ذلك صوت والدها مجددًا وهو ينظر لها هامسًا بصوت خافت :
” لا أحد سيرى أنكِ إنسانة صالحة، هم فقط سيرون أنكِ منبوذة فاسدة بنيتي ”
والحمدلله أن والدها رحل قبل أن يرى بعيونه صدق حديثه، لا أحد يهتم بأي شكل تربت أو أنها تخجل وتتبرأ من اصل والدها، الجميع فقط يرى جزءها السييء، حتى دانيار ..
ودانيار الذي قال تلك الكلمات فقط لأنها رفض في نفسه أن تتشبه فتاة شجاعة رائعة وقوية كزمرد بهؤلاء القذرين، ونفس بصوت مرتفع :
” أنا لم أقصد أن أتحدث معكِ بشكل حاد، لكن فقط كنت أريد أن…”
قاطعته زمرد تقول بصوت خافت ووجع كبير، وفي صدرها حاجة كبيرة للصراخ في وجهه أنها ليست كما يقول، تود أن تتخلص من هذا الحمل الذي يجثم فوق صدرها .
” لا، لا بأس، أنت محق، ما كان عليّ أن أشبه نفسي بهذا النوع من الأشخاص، فإن فعلت سأتلوث مثلهم”
صمتت ثم رفعت عيونها له تقول بجدية :
” يبدو أنك تمقتهم بشكل خاص ”
رفع دانيار حاجبه يتساءل بعدم فهم :
” أي شكل خاص هذا ؟؟ هؤلاء الأشخاص دمروا بلاد وقتلوا اخوتي وشردوا نساءنا، تتحدثين كما لو أنكِ لا تدركين ما يفعلون ”
” بلى، افعل، صدقني لا احد يدرك ما يفعلون بقدري”
ولم يفقه دانيار الجملة الأخيرة لها ولا ما تحاول إيصاله منها وهو يتساءل بجدية :
” ما الذي تقصدينه ؟؟”
ابتسمت له بسمة تقول بصوت خافت :
” لا …”
قطع جملتها التي لم تكن تعلم لها من تكملة صوت اقتحام كهرمان للمكان بخوف شديد :
” كيف هي حالة برلنت ؟؟؟”
نظرت زمرد صوبها بلهفة شديد وقد شعرت أن أنفاسها عادت للانتظام، لتنهض وتتحرك صوبها بصدمة وهي تهتف باسمها :
” كهرمان، لقد عدتي، يا الله أنا لا اصدق، هل أنتِ بخير؟ هل تعرض لكِ أحدهم ؟! يا الله سأقتلهم بيديّ هاتين ”
نظرت لها كهرمان بحب تضمها مجددًا لها تطمئن بوجودها وهي تحاول أخذ أنفاسها براحة، بينما دانيار تحرك صوب الغرفة يطرق الباب يقول بصوت خافت :
” تميم يحتاجوننا في اجتماع هام ”
دقيقة وخرج تميم يشير له بالتحرك، ودانيار بالفعل تحرك معه دون أن يلقي نظرة أخيرة حتى على زمرد التي اختفتت بأحضان كهرمان منه، اتخذتها درعًا لتقي قلبها شر نظراته، لكن هل سيطول هروبها؟! هي تشعر أن لحظة معرفته الحقيقة اقتربت، اقتربت أكثر مما تتخيل …
__________________
” لقد علمت أنه يمكنني العثور على إجابات لديك أيها العريف ”
ترك العريف ما يحمل من يده ثم قال بصوت حانق وهو حقًا يشعر بالملل :
” ومن أخبرك بهذا يا ترى؟! صدقيني من فعل كان يكذب عليكِ ”
تنهدت تبارك بصوت مرتفع تنظر داخل عيونه بقوة وكأنها تستجوبه :
” حسنًا اسمعني، أنت تعلم شيئًا ما وتخفيه، لا يعقل أن تكون ارسلت سالار لاحضاري لأجل لا شيء، اخبرتني سابقًا أن وجودي هنا ليس خطأ البتة، مالي أرى نفسي عديمة الفائدة ؟؟”
نظر العريف داخل عيونه يجيب سؤالها بسؤال خاص :
” ما الذي تشاهدينه في احلامك ؟!”
بُهت وجه تبارك وهي تهمس بصوت غير واعي :
” ماذا ؟؟”
” لقد أخبرتني سابقًا أنكِ تشاهدين احلامًا غريبة، هل يمكنكِ اخباري بها؟؟”
لم تعلم تبارك ما يجب قوله لكنها فقط تحدثت بشك :
” لماذا ؟؟ ”
لم يتحدث العريف بشكل مباشر، بل فقط فعل ما يبرع به طوال الوقت ويتقنه وبشدة، ألا وهو الدوران حول الموضوع :
” فقط لأنني أدرك أن الاحلام هي بوابتنا على العقل الباطن، وأنه ليست جميع الاحلام أضغاث وليست جميع الاضغاث رؤى، كل شيء لسبب وكل همسة تخفي خلفها احاديث يا ابنتي ”
نظرت له تبارك بشك كبير وهي تشعر أن هذا الرجل مريب بعض الشيء :
” حسنًا أنت الآن تخيفني أكثر مما كنت تفعل سابقًا ”
انضم لهم مرجان الذي وضع كتابه أعلى الطاولة التي يجتمع عليها الاثنين وقال بهدوء وهو يحلق بنظراته عليهما :
” فعليًا الاحلام تحمل لأصحابها العديد من الرسائل، فأنا مثلا في أحد الأيام رأيت أنني اركض خلف قلم ولم استطع اللحاق به، وانظري إليّ تحقق حلمي ”
ونظرات تبارك الموجهة له أخبرته أن رسالته لها لم تصل لها واضحة فقال بكل بساطة :
” أعني القلم هذا هو مكانة العريف وأنا اركض خلف هذه المكانة ولا استطيع الوصول لها ”
صمت يميل عليها هامسًا تحت أعين العريف الحانقة:
” هذا لأن العريف يتمسك بالحياة تمسك الأرنب بجزرة، ولكي احصل على مكانته يجب أن يرحل هو عن عالمنا أولًا ”
فجأة أطلق تأوهًا عاليًا حين شعر بالكتاب يسقط على رأسه وصوت العريف خرج حانقًا مغتاظًا :
” أيها الغبي الحقير تود التخلص مني لأجل مصالحك الشخصية ؟؟ لا ينقصك سوى أن تسمني لتصل لغرضك ”
فرك مرجان رأسه يحاول أن يردعه عن ضربة أخرى، لكنه فشل حين هبط العريف بضربته أعلى رأسه قائلًا :
” هذا فقط لتفكر قبل حديثك، فأنا إن أردت سأخبر الجميع أنك لا تليق بدور العريف لهذه المملكة وأقطع عليك احلامك بالكامل ”
صرخ مرجان وهو يمسك يد العريف برجاء :
” لا لا اعتذر لك، اقسم أنني لم اقصد كل ذلك، أنا فقط أخبرها بالأمر كمعلومة، فهي لم تفهم الحلم الخاص بي و…”
قاطعه العريف بملل شديد :
” هيا انهض من هنا يا فتى وأكمل دراستك، هيا هيا”
دفعه وهو يجبره على الرحيل إذ ود الاختلاء بتبارك، وفعل مرجان ذلك سريعًا وهو يعتذر منه، وحين رحل ابتسم العريف بسمة لم تعجبها لتبارك وهو يقول :
” إذن ما الذي كنا نتحدث به ؟؟ نعم احلامك، قصي عليّ احلامك يا ابنتي ”
ورغم أن لهجته الحنونة المهتمة الغريبة لم ترح تبارك إلا أنها فكرت في الأمر بشكل سريع، فإن كان هناك من يستطيع مساعدتها في هذا الأمر هنا فهو العريف .
تنهدت تقول بصوت منخفض وخجل بعض الشيء :
” حسنًا الأمر أنني قبل أن آتي إلى هنا ببعض الوقت بدأت الاحلام تراودني بشكل غريب، احلام مريبة و…تبدو كما لو كانت حقيقية ”
ومن بعد تلك الكلمات أخبرت تبارك العريف بكل شيء وهو يستمع لها بهدوء شديد، دون لمحة استنكار أو دهشة أو غيرها وكأنه كان يتوقع حديثها هذا، حتى انتهت ورأت على وجهه بسمة مريبة وسمعت همسة لا تدري إن كانت كما سمعت أم هي أخطأ السمع :
” إذن ما رأيته صحيحًا ”
” ماذا ؟؟”
نظر لها العريف بلهفة يردد :
” اصدقيني القول يا ابنتي، هل …هل تعرفين ذلك الرجل الذي يظهر لكِ في احلامك ؟؟ ”
ترددت تبارك في القول لكنها اكتفت بهزة رأس صغيرة ولم تزد عليها فأدرك العريف ما تضمر وقال لها بصوت خافت :
” ما ترينه في احلامك ما هي إلا رؤى يا ابنتي، الله يرسل لكِ إشارات بما يجب فعله فأحسني التصرف ”
” ماذا تقصد ؟! ما أراه لا يمكن أن يتحقق فهو …”
قاطعها العريف بغموض :
” ما كان لحلم أن يتحقق إلا بإرادة الله، ما ترينه حقيقة مؤجلة، فقط آمني بها ودعي الأيام تريكِ إياها..”
شردت تبارك بعيدًا عنه وهي تفكر في احتمالية أن يكون سالار هو زوجها ؟؟ هل يعقل؟! لكنها وعلى حسب ما سمعت ستتزوج الملك بعد أيام قليلة و…
انتفضت حين وردت لها تلك الفكرة تشعر بنفورها الشديد من هذا الزواج، ليس نفورًا من إيفان كشخصية بقدر نفورها من فكرة الزواج نفسها بغير سالار، يا الله هي أحبته ولا تستطيع تخيل نفسها تُزف لآخر، لكن ماذا عنه هو ؟؟؟ هل يراها ملكته فقط ؟؟؟
خرجت من المكتبة وهي تحاول أن تفكر في الأمر، العريف أخبرها أن ما تراه صحيحًا وحقيقيًا، لكن كيف وهي بعد أيام فقط سـ .، لا لحظة هي لن تخوض هذا النقاش الآن وفي هذه اللحظة، لتعود أولًا لغرفتها ثم تفكر في سالار الذي يتحرك أمامها الآن بكل قوة والجميع حوله ينظر له باحترام، يسير وكأنه يمتلك المكان ولا يأبه بمن حوله، وما كانت تبارك لتطيل النظر به هكذا لولا أنها لمحت بطرف عيونها توقف بعض النساء على مسافة منه يتهامسون وهم يشيرون صوبه .
اتسعت عيونها تنظر لهن بصدمة تتساءل عن شجاعة النساء في النظر له، فعلى حد معرفتها الجميع هنا يكره مروره بهن ويهابونه، وهي بالفعل لم تكن استثنائًا، كانت كذلك حتى آلفته .
مر بها سالار وابصر حيرتها وكاد يكمل سيره، لولا أنه رأى نظراتها على شيء خلفه، فنظر بفضول شديد يبحث عمن تنظر له ليبصر نساء في ثياب ملونة مميزة ليرفع حاجبه :
” ما الذي تنظرين له ؟!”
نظرت له تبارك بصدمة تتعجب كيف وصل لها دون شعورها ؟!
” أنا فقط …أنا …من هؤلاء النساء ؟؟”
كانت تسأل بغضب شديد غير ظاهر، وهو قابلها بغضب أشد غير مفهوم :
” وما شأنك بهم ؟؟ ”
اتسعت أعينها لا تصدق كم الوقاحة به :
” ما الذي تعنيه أنت ؟؟ أنا فقط أسألك لأنني… لأنني تعجبت ثيابهم هذه و…”
” إياكِ ”
نظرت له بعدم فهم ليكرر هو كلماته بشر كبير يرفض أن تفكر حتى مجرد تفكير في الاعجاب بهن أو الذهاب معهن، فهو يدرك أنها تنجذب لكن شيء حولها وتحب تجربته دون الاهتمام بكينونته :
” هؤلاء النسوة لهن عمل في القصر لا تتدخلي به، لا من قريب أو بعيد، إياكِ أن تقتربي منهن، دعيهم ينتهون من عملهن ويرحلن بسلام حسنًا ؟؟”
وبهذه الكلمات أثار فضول تبارك أكثر وهي تتساءل بجدية :
” وما هو عملهن هذا يا ترى ؟؟”
لم يحب سالار أن يخوض هذا الحديث معها وقال :
” هن نساء لإحياء حفلات النساء ولا أعتقد أن هذه معلومة قد تفيدك في شيء أو تلزمك في شيء، لذا رجاءً لا أود رؤيتك تحاولين الاقتراب من النسوة ”
نظرت له تبارك بصدمة هامسة :
” هل تستحقر النسوة أم أنني اتوهم ؟؟”
اتسعت أعين سالار بقوة رافضًا لهذا التحليل وهو يدافع عن نفسه :
” ماذا ؟؟ أنا لا أفعل، هن لا يفعلن شيء خاطئ لاحتقرهن البتة، بل لا افكر حتى فيما يخصهن، لكن أنتِ …”
” أنا ماذا ؟؟”
لا أحب رؤيتك تفعلين مثل النساء ولو أمام نساء مثلك، هكذا أراد أن يقول، لكنه كبت كل هذا يبعد عيونه عنها :
” لا شيء فقط …يمكنك الاهتمام بتدريباتك التي اهملتيها بشكل ملحوظ منذ أيام، خيرًا من كل هذا، والآن استأذنك الرحيل مولاتي ”
وبهذه الكلمات ختم وجوده وهو يتحرك بعيدًا عنها بسرعة كبيرة وهي تنظر له بتفكير لا تفهم سبب ما فعل، قبل أن تعود للنساء بعيونها تراهن يتحركن بعيدًا:
” هذا الرجل معقد بشكل لا يمكن فهمه حقًا ….”
_______________
يجلس أعلى عرشه وهي واقفة أمامه وحوله جميع رجاله وبحضور والدته، لم يغفل عن أحدهم، تنفس بصوت مرتفع :
” داخل جدران قصري وبين اسوار مملكتي تم خطف امرأة، ومن العائلة المالكية في مشكى، وهذه الجريمة لا يمكن التغاضي عنها، بالإضافة إلى إصابة امرأة أخرى والتي تكون هي نفسها زوجة صانع الأسلحة، جريمة أخرى تضاف لسجلكم، والآن إن كانت لديكم حجة تنقذون بها أنفسكم فأسمعوني إياها”
تبادل الرجال النظرات فيما بينهم، قبل أن تتحرك أعين أحدهم صوب شهرزاد التي كانت تجلس شاحبة الوجه تحاول أن تتغافل عن نظراتهم التي التقطها إيفان بكل سهولة فأسرها في نفسه يقول بصوت جامد قوي :
” قلتم أن أمر أخذ الأميرة كهرمان لسبز كان أمرًا ملكيًا، ولا أتذكر أنني أعطيت الأمر بذلك، فممن أخذتم ذلك الأمر؟؟”
ابتلعت شهرزاد ريقها وقد أدركت في هذه اللحظة أنها هالكة لا محالة، وحينما نظرت لأحدهم رأت نظراته الكارهة لها فشعرت بقرب نهايتها، كاد ذلك الرجل يتحدث :
” مولاي إنـ ”
لكن يد رفيقه أمسكت مرفقه وقاطعته عن الحديث قائلًا بجدية كبيرة :
” لا احد مولاي ”
رفع إيفان حاجبه وهو ينظر بطرف عيونه صوب الملكة ليقول :
” لم يكن هذا حديثكم حين أمسكت بكم ”
” لقد أخطأنا وقتها، نحن لم نأخذ أوامر من أحد ”
ابتسم إيفان بسخرية لاذعة :
” إذن ما سبب اخذكم للأميرة صوب حدود سبز ؟؟”
نظرت لهم كهرمان بجدية كبيرة تنتظر منه ردًا، لكن جاءها الرد قاتلًا، إذ ابتسم الرجل الذي يقف أسفل عرش إيفان وهو يقول بصوت هادئ وكأن ما يقوله أمر مسلم به مشيرًا صوب أحد الرجال معهم والذي كان صامتًا منذ بداية المحاكمة :
” مولاي نحن لم نعلم أنها أميرة مشكى سوى منك، هي كانت تعمل هنا عاملة وقد أوقعت رفيقي في شباكها واتفقت معه على الهرب لسبز والزواج هناك ، وهي تحركت معنا بهدوء ورضى، لم نجبرها ”
اتسعت أعين كهرمان بشدة وكذلك زمرد التي انتفضت عن مكانها تصرخ بصوت مرتفع متجاهلة كل من حولها في المكان أو أنها حتى في حضرة الملك ولا تقف أمام والدها في قريتها التي لا يحكمها قوانين :
” أنت أيها الوسخ تتهم الأميرة بمرافقة هذا الرجل جوارك، بل وتتهمها بمرافقته والهرب معه للزواج ؟! ”
كانت تتحدث وهي تتحرك بنية اخراج خنجر من ثيابها بغضب شديد وقد اغضبها أن يتهم أحدهم كهرمان التي تقف هكذا صامتة دون أن تبدي ردة فعل، وما لم تدركه زمرد أو تجاهلته، أن كهرمان لم تصمت حزنًا أو ضعفًا منها، بل لأنها تدرك أن الصراخ والتدخل في حكم الملك لن يزيد الأمور إلا سوءًا .
وبنظرة سريعة صوب دانيار الذي حذرها بعيونه حين رأى الخنجر الذي ستخرجه في قاعة الحكم وأمام الملك ورجاله، أعادت زمرد الخنجر مجددًا بملامح غاضبة وهي تضيف على حديثها السابق :
” هذا الرجل كاذ…”
قاطعها إيفان بصوت قوي صارم :
” كلمة إضافية وتُطردين من المكان، وإن تجرأتي وتدخلتي في شؤون الحكم ستقضين ليلتك في سجن القصر ”
نظرت له زمرد بسخرية لاذعة ولم تكد تخبره أنها لا تهتم حتى قاطعتها كهرمان بسرعة :
” اعتذر منك مولاي، لكن صديقتي فقط سريعة الغضب ولم تقصد أي إهانة أو تخطي لجميع الموجودين ”
ونظرة زمرد غير الراضية أخبرتها جيدًا أنها لا تهتم بكل ذلك .
تنفس إيفان بقوة، ثم تجاهل كل ذلك يعود بعيونه صوب الرجل يمنحه بسمة صغيرة :
” نعم اكمل ما كنت تقوله، قلت أن الأميرة هربت مع رفيقك للزواج في سبز صحيح ؟؟”
ابتلع الرجل ريقه يهز رأسه بنعم :
” صحيح مولاي، لكنه لم يكن يعرف أنها أميرة اقسم لك ”
اومأ له إيفان يقول بجدية :
” لا بأس، أدرك أن لا أحد كان يعلم أنها أميرة، لكنني لا أتذكر أنني أصدرت اوامري من قبل بإلغاء الزواج في المملكة ”
نظر صوب إمام القصر والشيخ يقول بجدية ساخرة وجهل مصطنع :
” هل سبق واصدرنا قوانين تُحرم الزواج هنا يا عم ؟؟”
نفى الإمام يحرك مسبحته بين أصابعه:
” لم يحدث يا مولاي ”
ابتسم إيفان يعود بنظراته صوب الرجل يقول بجدية :
” وايضًا منذ متى نزف نساءنا في عربات خشبية مغلقة كالسجن ونغلق عليهن ؟؟ ”
ابتسم له بسخرية :
” أقدر مروءتك وغيرتك ودماءك الحارة يا رجل، لكن ليس لهذه الدرجة، هي سلمت لك ووافقت على مرافقتك والزواج بك في سبز لماذا السجن إذن ؟؟”
ابتلع الرجل ريقه وشعر أنه حوصر، وتغافل عن أن شيئًا غبيًا كالذي ذكره ما كان ليمر على إيفان بسهولة، اكمل إيفان بكل هدوء لا يظهر أي انفعال يدور داخله كعادته :
” لنفترض أن تلك هي إحدى طرقك في التعبير عن حبك العنيف لها، وهي وضعها في سجن أثناء الذهاب لعقد قرانكم في سبز بعدما منعت الزواج داخل حدود مملكتي، ما ذنب تلك المسكينة رفيقتها ليصيبها أذى أثناء تحرك الملكة معكم في هدوء شديد ورضى ؟؟”
ختم حديثه يبصر بطرف عيونه تحرك جسد تميم بشكل مستاء وكأنه يود النهوض والانقضاض عليهم، وعلى التوتر الأجواء وشعرت شهرزاد بالخطر يزداد، لكنها طمئنت نفسها أنهم لن يعترفوا عليها بعد كل تلك الأموال التي عرضتها عليهم مع مرسول لها داخل القصر .
وبعد صمت قصير أضاف إيفان:
” إذن وبما أن لا رد على حديثي فهذا يثبت ادانتكم بخطف امرأة، لذا سريعًا نحصر سويًا التهم الموجهة لكم، اولًا خطف امرأة، ثانيًا ضرب واذية امرأة أخرى بشكل بالغ تسبب في دخولها في حالة سبات غير محددة، ثالثًا تعديتم على قوانيني، رابعًا تعديتم على حرمة نساء القصر وامسكتم بها بشكل غير لائق، خامسًا خرجتم من القصر دون أمر مني، سادسًا حبستم الأميرة بشكل مهين في إحدى العربات وهذا من شأنه أن يتسبب في حروب بين ممالك، سابعًا تبجحتم وقصفتم محصنات امامي وأمام الجميع واتهمتم امرأة شريفة بأنها ترافق رجلًا وهربت معه، و أخذتم أوامر من غيري داخل هذا القصر ”
اتسعت أعين الرجال وشعروا بالصدمة من كل تلك التهم التي وُجهت لهم، يا الله لن يكفيهم عمرهم لدفع كل ذلك، سيفنى عمرهم وهم يحاولون التكفير عن كل تلك التهم ..
و يبدو أن الخوف يتغلب احيانًا على الطمع فقد تقدم أحدهم يجلس ارضًا على قدمه برعب شديد :
” مولاي أتوسل إليك اغفر لي، اقسم أنني لم أفعل ذلك إلا لحاجتي للمال ”
نظر له إيفان بجدية يقول :
” منذ متى قصدني أحد الرجال في مساعدة ورددته خائبًا؟؟ هل طلبت مالًا من صندوق المساعدات في المسجد ورفض الشيخ اعطائك ؟؟”
نكس الرجل رأسه ولم يتحدث وإيفان قال بهدوء يخفي خلفه عاصفته :
” من الذي امرك بفعل ذلك ؟؟”
صمت الكل وشعر الرجل بالخطر يقترب منه :
” مولاي أنا ارجوك ا…”
” من ؟؟”
كلمة نبثها ببرود وملامح لا تعابير فيها، ليرفع الرجل وجهه صوب شهرزاد التي هربت خفقة مرتعبة منها وهي تحاول أن تنسحب من المكان لولا همسة الرجل الذي قال :
” الملكة الأم، هي …هي من أمرتنا بأخذ الخادمة صوب سبز واخبرتنا أنها ستهديها لزوجة الملك بارق لتعمل لديها ”
سقطت الكلمات على رؤوس الجميع بصدمة كبيرة وكهرمان التي رمقت الملكة بازدراء واستنكار شديد، لم تظن أن كرهها سيصل بها لهذه المرحلة .
وإيفان لم ينظر لها نظرة واحدة وهو يحدق أمامه بكل هدوء ورباطة جأش يُحسد عليها وهو يصدر حكمه :
” عشرة أعوام هي المدة التي ستقضونها خلف قضبان سجوني مع ارسال باقي مستحقاتكم لعائلاتكم، ومن يعيل منكم أسرة مالها سواه فسوف يتم إرسال لها مبلغًا شهريًا، يسدده رب الأسرة بعد خروجه من السجن والعمل، هذا لخطفكم أميرة وتجرأكم على قوانيني، وسيتم جلد ذلك الذي تجرأ ورمى المحصنات ثمانين جلدة جراء تعديه على حرمة العرض وقذف امرأة شريفة بالباطل، وسيكون للأميرة حق تقرير التعويض الذي يرضيها لما عانته، أما فيما يخص عقوبة التعدي على امرأة بالضرب فهذا سيتحدد حين تتحدد حالتها الصحية وحينها يُترك القصاص لصاحب الحق وهو القائد تميم ”
صمت ثم أخذ نفس طويل يتجاهل أي نظرات تحدق به وخاصة كهرمان :
” أما عن الملكة الأم تُجرد من جميع الامتيازات التي مُنحت لها وتُعزل تحت حراسة مشددة في المنزل الجنوبي وفي إقامة جبرية إلى أجل غير مسمى، وسيتم منح عائلات الرجال الذين اغوتهم عن الحق باتباعها، اموالًا من أموالها الخاصة، وتُمنع من التحرك داخل البلاد إلا بأمر مني، هذا كل شيء من يرى منكم إني ظلمت أحدهم بالحكم فليتقدم ويعترض ”
وعم الصمت إلا من بعض الهمسات المنخفضة ليهز إيفان رأسه، ثم وقف يقول بهدوء شديد :
” جيد إذن، انتهت المحاكمة يا سادة ”
تحرك خارج المكان بقوة متجاهلًا نظرات والدته المصدومة وعيونها الدامعة، تجاهل كل ذلك ولم يفكر فيه حتى، يكفيه ما يعانيه الآن جراء ما قال، لكنه لن يظلم أحدهم لأجل والدته، ولو كان هذا الاحدهم طفل صغير .
تنفس بصوت مرتفع يتحرك صوب الجناح الخاص به ليقابل في طريقه سالار الذي لم يحضر المحاكمة :
” مولاي هل أجهز للاجتماع و …”
قاطعه إيفان وهو يتحرك بعيدًا بتعب وإرهاق نفسي :
” نعم سالار بعد ساعة نجتمع ”
نظر له سالار بعدم فهم وود لو يلحق به، لكنه لم يفعل إذ شعر أنه بحاجة للانفراد بنفسه في هذه اللحظة …
___________________
بعد ساعة تقريبًا..
” اقترب العيد الوطني واقترب معه الكثير والكثير، بعد يومين سيكون هناك الكثير من الأمور لنحتفل بها يا رجال”
ختم إيفان حديثه ببسمة يراقب أمامه جميع رجال قصره أصحاب المكانة العالية وبلا استثناء، الجميع كان حاضرًا سواء قادة جيوشه أو العريف ومساعده، وكذلك المستشارين الخاصين به ..
دار بعينه بينهم يقول بسعادة طاغية :
” لذا أريد من الجميع أن يعمل على خروج الاحتفال بأفضل شكل ممكن، انشروا البهجة في المملكة، زينوا جميع الطرقات، أريد أن تصل اصوات الاحتفالات الخاصة بنا للجميع، فاليوم الوطني لا يأتي كل يوم ”
كان الجميع يراقبه بهدوء وملامح حاد، وإيفان يقول ببساطة شديد :
” اليوم مساءً سأرسل لكل واحدٍ منكم دوره خلال هذا اليوم، كلٌ على حدة سينال مهمته وليس هنا ”
تعجب الجميع الأمر فهذه المرة الأولى التي يتبع بها الملك هذه السياسة في التخطيط، بينما إيفان لم يهتم وهو يضع العديد من الاحتمالات لوجود خائن بينهم، هو لن يترك الأمر للحظ، لذلك هو سيوزع المهام بشكل منفصل حتى لا يدرك أحدهم ما يحدث حوله، هو فقط سيهتم بدوره، هذا بالطبع باستثناء سالار الذي وضع معه تخطيط لهذا اليوم .
” كل شيء واضح يا رجال ؟؟”
هز الجميع رؤوسهم بهدوء ولم يجرؤ أحدهم على الاعتراض، ليهز إيفان رأسه:
” إذن لينتظر كلٌ دوره في المساء كي يأتي لجناحي، والآن يمكنكم الرحيل ”
تحرك الجميع عن مقعده صوب الخارج والهمسات تدور بينهم عما يخطط له الملك، والبعض ممن لم يفهم مقصد إيفان ظل يتحدث عن العيد بحماس .
وبمجرد خروجهم نظر إيفان صوب سالار الذي تبقى من بين الجميع يقول :
” إذن هل تعلم دورك سالار ؟؟”
” احفظه مولاي ”
ابتسم له إيفان بسمة واسعة وقبل أن يتحدث بكلمة اقتحم القاعة الفارغة إلا منه ومن سالار جسد يهجم عليهم وكأنه جاء يعلن حربًا، وقد كان بالفعل ..
كان القادم هو نفسه آزار الذي هتف بصوت حاد وملامح غاضبة وهو يصرخ بغضب شديد :
” أنت يا إيفان لن يهدأ لك بال حتى اهدم مملكتي أعلى رأسك ورأس من بها ”
ختم حديثه ينظر بطرف عيونه صوب سالار وكأنه يلمح له ليبتسم سالار بسمة واسعة وكأن ازار للتو مدحه أو ما شابه .
اقتحم حراس إيفان المكان بسرعة كبيرة لإحباط أي هجوم أو خطر قد يصدر عن ازار، بينما آزار ابتسم بسخرية يهتف فيهم :
” حتى وأنا وحدي دون جنودي تخشونني ؟؟ يبدو أنني أثير رعبًا في قلوبكم ”
أطلق سالار ضحكات صاخبة رنت في المكان بأكمله، ليرمقه آزار بشر في حين هتف إيفان ببرود شديد وبسمة لا معنى لها وهو يشير صوب حراسه للخروج :
” للخارج ..”
نظروا له بتردد ليهتم هو بجدية وغضب :
” للخارج واغلقوا ابواب القاعة فيبدو أن هناك حساب سيتم تصفيته مع ملك آبى ”
ارتفع حاجب آزار بشكل ساخر وهو يحرك كفه صوب السيف الخاص به، بينما إيفان يراقبه بهدوء شديد حتى ارتفع صوت غلق الباب في المكان .
وبمجرد أن أغلق الجنود الباب تحرك إيفان بخطوات قوية بطيئة صوب آزار وهو ينظر لعيونه بهدوء :
” إذن ملك آزار، ها أنا صرفت الجنود ولم يتبق سوانا في المكان، هيا افض بما جئت لأجله ”
اسودت نظرات ازار وهو يحرك عيونه بين سالار وإيفان ثم قال :
” حدودك جميعها تخطيتها معي إيفان ”
” أوه حقًا، يبدو أنني لم انتبه لها ملك آزار ارجو المعذرة ”
ابتسم له ازار بسخرية لاذعة قبل أن ينظر له ولسالار :
” لا اعتقد أن ما فعلته أنت ورجالك معي ملك إيفان يصلحه مجرد اعتذار واهي كما فعلت ”
سايره إيفان في الحديث وكأنه بالفعل يسعى لهذا الصلح معه :
” وكيف نصلح ما ارتكبناه ملك آزار يا ترى ؟؟”
ابتسم آزار بسمة وصمت فترة طويلة يحرك نظراته بينهم، ثم رفع حاجبه بشكل غريب حين توقفت أنظاره فترة لا بأس بها على وجه سالار الذي كان يضم ذراعيه في انتظار حديثه .
واخيرًا قال آزار بعد صمته :
” أن يُقبل سالار يدي ويعتذر مني ”
اتسعت أعين إيفان بقوة وكذلك سالار الذي ابتسم بسمة لا معنى لها، وبعد لحظات معدودة ارتفعت ضحكات إيفان بقوة على كلمات آزار :
” أوه هذا فقط ؟؟ حسنًا لا بأس، هيا سالار أذهب وقبل يد الملك آزار واعتذر منه على وقاحتك معه الفترة السابقة ”
نظر له سالار ثم عاد بنظراته صوب آزار يبتسم له، تحرك صوبه حتى توقف أمامه وفجأة امسك سالار كف آزار يرفعه صوب فمه مقبلًا إياه وبعدها قبل رأسه يهمس له بكل احترام وتقدير :
” آسف …”
اتسعت بسمة آزار بقوة، ثم فتح ذراعيه يجذب سالار بينهما بقوة، وقد كان طوله المساوي لطول سالار مساعدًا له حتى يستطيع أن يضمه له بسهولة، خاصة مع جسد آزار القوي والصلب .
ربت على سالار يهمس له بحب شديد :
” لا تعتذر بني، افديكِ بحياتي سالار ”
ابتسم سالار بسمة واسعة يضم له آزار، ثم قال بصوت خافت يعتذر عن كل ما فعله سابقًا :
” بخصوص ذلك اليوم في اجتماع مملكتك أنا فقط كنت …”
ضحك آزار بصوت قوي وهو يتذكر اخراج سالار للسيوف الخاصة به على الطاولة :
” لا لا، لا تعتذر، لقد اعجبني ما حدث ”
ابتسم إيفان بسمة واسعة وهو يردد بسخرية :
” لقد كنت مؤديًا رائعًا للدور مولاي ”
ابتسم له ازار بسمة صغيرة، ثم ابتعد عن سالار الذي كانت نظراته له مختلفة عن العادة، كانت نظراته تضج بالاحترام قبل أن يقول بجدية :
” إذن هل أنت مستعد للخطوة القادمة…. خالي ؟؟؟؟؟؟؟”
_____________________
سحبة خيط تخبرك بكامل الحقائق، فترقبها ….
واعلم أنها ( حرب إما أن تنتصر أو تنتصر، لا خيار ثالث أمامك…)
يتبع…
دارت عيون آزار بين الاثنين قبل أن يستقر بعيونه على ولد شقيقته العزيز، يربت على كتفه بهدوء شديد وقد ملئ نبرته بعض الإرهاق مما يمر به منذ ايام طويلة :
” لقد طلبت حضوري لأجل اخباري بخطتك أنت سالار، لذا قل ما أردت يا بني ”
ابتسم له سالار يقبل يده باحترام شديد :
” العفو خالي، أنت الكبير هنا والكلمة كلمتك ”
ابتسم له آزار بحب :
” وأنت الافقه هنا سالار، لذا ليس من الخطأ أن أتبع حديثك، ماذا تظن أنت إيفان ؟!”
هز إيفان رأسه وهو يشير للجميع بالتحرك صوب المقاعد يقول بصوت جاد :
” اوافقك الرأي ملك آزار، ثم سالار هو من طلب استدعائك على وجه السرعة وقد تطلب احضارك دون إثارة بلبلة الكثير ”
ابتسم آزار بسخرية وهو يتذكر صراخه في القصر بأن اخبار وصلته بما حدث في بلاده بفعل جنود سفيد، ثم حمل أسلحته وتحرك متوعدًا للجميع بالويل، وحين دخل سفيد ترك جنوده بأمر ملكي على ابواب القصر وجاء هو هنا .
جلس كلٌ من آزار وإيفان أمام بعضها البعض وفي مقدمة الطاولة وقف سالار يقول ببسمة واسعة :
” وصلت اخبار فرقتنا وعداوتنا لبافل وادخلنا السرور على قلبه بعداوتنا الوهمية، وبهذا خففنا من تجهيزاته للحرب وكسبنا لصالحنا عنصر المفاجأة، وايضًا اعطينا ذلك الخائن بطاقة خضراء ليكمل ما فعل معتقدًا أن لا أحد منتبه له وقد تراشقنا الاتهامات بيننا منذ سقوط مشكى .”
ختم حديثه ليهز آزار رأسه موافقًا حديث سالار وهو يقول بجدية :
” لقد جاء العريف لمملكتي منذ أيام واصل لي الكتاب الذي يحوي خطة الحرب، وايضًا أخبرني برغبتكم في مجيئ ”
صمت ثم نظر لعيون سالار والذي كان يفتخر به طوال الوقت، فهذا الشاب الذي تربى على يده ايام قبل أن يحضر هنا حيث بلاد والده ليحقق رغبة الاخير أن يكون ذو شأن عظيم .
” إذن ما الخطوة القادمة سالار ؟؟”
نظر له سالار، ثم تحرك بنظراته صوب إيفان الذي كان صامتًا يستمع لكل شيء وكأنه يخزن ما يحدث برأسه حتى يستخدمه لاحقًا بطريقته .
” الخطوة القادمة لن نتناقش بها هنا ”
نظر له الاثنان بعدم فهم وتحدث إيفان واخيرًا :
” ما الذي تقصده سالار ؟؟ أين سنفعل برأيك ؟؟ لقد أرسلنا للملك آزار ليأتي لنا لأجل مناقشة الخطوة القادمة ”
تنهد سالار بصوت قلق من ردة فعل إيفان:
” سوف نناقشها في …الكوخ الخاص بوالديّ ”
رمقه ازار بغموض وهو يدرك أن سالار يخفي شيئًا، فليس هو من يشارك ذلك المكان الخاص به مع أحدهم، إلا في الضرورة القصوى ..
وإيفان ينظر لملامح سالار والذي كان لمرته الاولى يحاول تجنب عيونه :
” سالار ما الذي يحدث من خلف ظهري ؟؟ لقد كنت أدرك أنك تخفي عني شيئًا بسبب خروجك في الآونة الأخيرة واختفائك بشكل غريب ودون كلمات، لم أرد التطفل عليك، لكن امنيتي أنك لم تفعل شيئًا دون العودة لي ”
ابتلع سالار ريقه وكل فكره تحرك إلى ردة فعل إيفان، هو لم يقصد إخفاء الأمر عنه، نعم في البداية أراد أن يعلمه درسًا لما فعل مثله مثل أرسلان، وانتظر كذلك أن يفيق أرسلان، وحين فعل دخلوا في دوامات كثيرة هنا ولم تُتاح له فرصة البوح بما يكن في صدره ..
” حسنًا سأخبرك، لكن ليس هنا إيفان، حينما نصل سوف أخبرك ”
نظر له إيفان بريبة ينهض عن مقعده يتحرك صوبه وهو يقول بانتباه شديد يتفحص ملامح سالار هامسًا :
” هل هذا السر خطير لدرجة أنك لا تريد النظر في عيوني سالار ؟؟”
رفع سالار عيونه وإيفان يقول بصوت منخفض :
” لا إيفان، لكنني أخشى فقط أن يُساء فهمي، لقد فعلت ما فعلت لاجلك صدقني ”
ضرب إيفان الطاولة بغضب من هذا الحديث الملتف حول نقطة وهمية :
” ما الذي تقصده أنت سالار، تحدث بكلمات واضحة رجاءً وتوقف عن الحديث بهذا الشكل الذي يشعرني أنك ارتكبت شيء لا يُغتفر ”
تنفس سالار بصوت مرتفع يقول :
” فقط لنتحرك صوب الكوخ وحينها اخبرك بما يحدث ”
نظر له إيفان وكاد يرفض بغضب شديد لإخفاء سالار شيئًا عنه، لكن سالار نظر له في عيونه برجاء :
” رجاءً إيفان..”
أبعد إيفان عيونه عن سالار يتنفس بصوت مرتفع :
” اقسم إن كان ذلك الشيء به أذى لك سالار فلن اسامحك، لن اسامحك، ليس هذه المرة أيضًا”
ختم حديثه مشيرًا للحرب الأخيرة التي خاضتها الممالك والتي وضع بها سالار خطة انتحارية له، حينها كاد القصر أن يُهدم فوق رؤوس من به بسبب صراخ إيفان وغضبه، الجميع أخفى عنه تلك الخطة بأمر من سالار والذي نجى بأعجوبة .
ابتسم له سالار يربت على كتفه :
” لا تقلق الأمر ليس متعلقًا بي، لكن قبل الذهاب نحتاج لمرافق آخر”
نظر له إيفان بفضول ليحرك سالار عيونه بعيدًا عنه خشية أن تلتمع بمشاعر يرفضها حين نطقه باسمها :
” الملكة تبارك، نحتاجها معنا فمهيار ليس هنا حسب اعتقادي و…”
صمت ثم قال بهدوء :
” وكذلك الأميرة كهرمان ..”
_____________________
” ابتعدي من أمامي تبارك والله لن اتركها تنجو من أسفل قبضتي، تلك الـ…كدتي تلقي بنفسك في كارثة أيتها الغبية بسبب لسانك السليط ”
دفعتها تبارك للخلف وهي تحاول الحديث بهدوء :
” اهدأي عزيزتي سوف تلقي بنفسك في التهلكة بسبب زمرد ؟؟”
هزت زمرد رأسها وهي تقف خلف تبارك كي لا تفلت كهرمان منها وتهجم عليها، وكل ذلك في غرفة برلنت المسكينة التي كانت لاتعي ما يحدث حولها وهم لم يراعوا ذلك حتى :
” نعم اخبريها لتلك الحمقاء، سوف تُجرد من لقبها كأميرة كما حدث مع تلك الحرباء شهرزاد فقط لأنها قتلت فتاة مثلي ”
تنفست كهرمان بصوت مرتفع تمسح وجهها وهي تقول بجدية :
” أوتعلمين أنتِ محقة، لا يعقل أن تتلوث يدي على آخر الزمان بدمائك زمرد ”
ابتسمت زمرد ولم تكد تضيف كلمة أخرى حتى انقضت عليها كهرمان صارخة بغضب :
“لذلك سوف اخنقك حتى الموت، هكذا دون دماء ”
اتسعت أعين تبارك ولم تستوعب ما حدث وهي تركض تجذب كهرمان تحاول أن تهدئها، صارخة بغضب شديد وقد كادت كهرمان تخلع ذراعيها وهي تقاوم تكبيلها :
” يا الله ما الذي ألقى بي في كل هذا ؟؟ أنا فقط كنت أريد النوم بسلام ورؤية برلنت قبل ذلك، ليتني ذهبت للنوم فقط ”
تحدثت زمرد بغضب شديد وهي تشير لكهرمان بحنق :
” كل هذا لأنني دافعت عنك أمام ذلك الملك الذي ينظر للجميع بشكل مخيف، اقسم أنني شعرته سيخرج نيران من عيونه ويحرقني حين تحدثت بكلمة، لا ادري ما هذه القوانين الغبية التي تمنع البشر من الحديث في وجوده لذلك الملك، ولا ادري ما الذي يدور في عقلك لتحـ ”
فجأة شعرت زمرد أنها تتحرك بلسانها في طريق بعيد وأمام تبارك التي التقطت تلك الكلمة الغير منطوقة، بينما كهرمان أغمضت عيونها بغضب شديد وخوف أن تكون تبارك انتبهت لحماقة زمرد .
وزمرد أبعدت عيونها بسرعة عنها تشعر أنها حقًا أفسدت الأجواء تتحرك صوب فراش برلنت بسرعة تقول بشفقة :
” برلنت الحبيبة، يا ويلي مما اصابك يا صغيرة، اقسم أنني سأذهب بنفسي وألقن هؤلاء الرجال درسًا لن ينسونه حبيبتي ”
ابتلعت تبارك ريقها وهي تبصر ملامح كهرمان المتغضنة وقبضتها المضمومة، هل ما شعرت به حقيقة ؟؟
هي الأخرى تحب الملك، ما هذه المتاهة التي يدور بها الجميع ؟؟
هي في الحقيقة لم تشعر بغيرة البتة، لم تشعر بشيء سوى الشفقة على حالتها وحالة كهرمان إن تم هذا الزواج، هي التي لا ترى الملك سوى شقيق لها، شخص لطيف وسيكون بمثابة شقيق حنون، لكن أبدًا لا تتخيل زوجًا لها سواه هو .
تأوهت تبارك دون وعي وهي تمسك جهة قلبها تخشى تلك اللحظة التي ستصبح زوجته للملك فقط لأجل أسطورة ورؤية حمقاء .
وكهرمان التي امتلئت عيونها دموعًا نظرت صوب تبارك بخوف أن تكرهها أو تنبذها، لذا ابتلعت ريقها تقول بصوت منخفض :
” تبارك عزيزتي، هذه زمرد فقط …”
” هل تحبينه للملك ؟؟”
نظرت لها كهرمان بعيون واسعة مصدومة وكأن تلك الحقيقة كانت مستبعدة عن عقلها، ابتلعت ريقها تقول بتوتر :
” تبارك ما الذي تـ ..”
اقتربت منها تبارك تهمس لها بجدية :
” هل تحبينه ؟!”
نظرت كهرمان في عيونها ورأت وجعًا فسرته أنه وجع خذلان منها أو ربما مشاعر كره لها، سقطت دموعها تقول كاذبة :
” لا، لا أفعل، أنا في الأساس لا احب حتى النظر لوجهه و…صدقيني لا أفعل تبارك، أنا لستُ حقيرة لهذه الدرجة، أنا لا …”
وقبل أن تكمل حديثها هتفت تبارك بصوت موجوع ونبرة خافتة وهي تربت على كتفها :
” اعتقد أنه هو أيضًا يبادلك هذه المشاعر كهرمان ”
وكهرمان المسكينة التي ألقتها كلمات تبارك في هوة سحيقة كانت تحاول التنفس بشكل طبيعي، هل ما فهمته صحيحًا، أم أن كلمات تبارك بخصوص مشاعر إيفان تقصد بها أنه هو كذلك لا يحب النظر لوجهها ؟؟
نظرت لوجه تبارك ولم تكد تطالبها باستفسار حتى قاطعهم صوت طرق على الباب جعل زمرد تنتفض عن مكانها مشفقة على الاثنتين مما يحدث .
فتحت الباب بهدوء لتجد أمامه تميم ودانيار الذي قال بهدوء متعجبًا ملامحها الغريبة :
” الملك يستدعي الملكة والأميرة كهرمان ”
شعرت كهرمان بقرب توقف قلبها وهي تحدق في تبارك بعدم فهم، بينما تبارك لم تفهم سبب استدعاء الملك لها مع كهرمان، ابتلعت ريقها وقد بدأ قلبها ينتفض وهو يفكر أنه ربما، ربما أدرك أن هذا الزواج سيكون سببًا لدمار الكثير .
خرجت الفتاتين مع تميم الذي ألقى نظرة على برلنت يطمئن أنها بخير، ثم تحرك معهما، بينما بقي دانيار يحدق في زمرد بشكل غريب ورحل تاركًا الأخيرة تجلس جوار برلنت تربت على رأسها بشرود وشعور قوي بالذنب :
” لو حدث شيء بين تبارك وكهرمان لن أسامح نفسي ما حييت …”
___________________
كانت أوامر سالار أن يرحل هو مع إيفان وآزار قبل الفتيات ليتخطى جزء صدمة إيفان بنجاة أرسلان، ومن ثم يحين دور كهرمان، وأحضر تبارك لتكون موجودة إن حدث أي مكروه لارسلان بعد معرفته انشغال مهيار في إحضار بعض الأعشاب ..
تنفس بصوت مرتفع وهو يقترب من الكوخ، يشعر بضربات قلبه ترتفع وهو ينظر صوب إيفان الذي كان ينظر حوله بفضول شديد ..
بينما آزار كان في عالم بعيد عنهم وهو يقترب من المكان الذي فقد به شقيقته الحبيبة، اغمض عيونه يحاول ألا يضعف، لكن صوتها وهي تناديه بلقبها الخاص يرن في أذنه، ضحكاتها وبسماتها، صغيرته الحبيبة التي عاش معها طفولتها كاملة وسلمها بيده لزوجها الذي اختارته وأصرت عليه دون غيره، عناقها له وركضها نحوه وهي تهتف بسعادة كبيرة حينما اقتحمت عليه ساحة التدريب :
” آزي العزيز خمن من سيصبح خال ؟؟”
سقط السيف من يد آزار بصدمة كبيرة وهو يستدير خلفه يرى عائشة تتقدم نحوه بوجه مشرق وسعادة طاغية جعلته يقول بعدم تصديق :
” خال ؟؟ أنا ؟!”
أطلقت عائشة ضحكات عالية وهي تلقي نفسها بين أحضان ازار الذي لم يستوعب بعد ما يحدث وهي تهتف بصوت يتراقص فرحًا :
” لقد علمت منذ يومين أنني احمل طفلًا آزي ولم أرد أخبارك مثل هذا الخبر السعيد في رسالة فجئتك من سفيد خصيصًا لأرى نظراتك تلك ”
وآزار كان فقط يحدق في عيونها بشحوب :
” ستصبحين أمًا ؟؟”
” تخيل، الصغيرة كبرت وستصبح أمًا قبلك آزي ”
هبطت دموع آزار بعدم تصديق وهو يحمل عائشة يدور بها بسعادة يصرخ بعدم تصديق :
” يا ويلي سيصبح لصغيرتي طفل؟؟ سيناديني بالخال آزار .. أنا لا اصدق، سوف اوزع على شعب المملكة بأكملها هدايا وغلال، سأشارك كل من في الممالك سعادتي عائش، سوف يفرح الجميع لميلاده، لن يكون هنالك شخصًا واحدًا في الممالك الأربعة إلا وقد نال هديته لمولد الصغير..”
” خالي …خالي، هل أنت بخير ؟! لقد وصلنا ”
استفاق آزار وهو ينظر حوله بأعين دامعة مسحها بسرعة قبل أن يبصرها أحدهم، لكن كان الأوان قد فات فتظاهر إيفان أنه يربط حصانه ولم ير ما يحدث، بينما سالار نظر له بحب يقول :
” كانت تحبك كثيرًا ”
حاول ازار ألا ينهار باكيًا كطفل صغير، ليس الآن وليس أمام أحد، هو ليس بطفل ليبكي فقدان شقيقته أمام الجميع .
تنفس بصوت مرتفع :
” وهي كانت لي الحياة بأكملها، رحمة الله عليها وعلى والدك بني ”
هز سالار رأسه ثم هبط عن فرسه وتبعه ازار، بينما إيفان يترقب ما يحدث في انتظار أي إشارة تدل على سبب وجودهم في هذا الكوخ، نظر لهما سالار ثم قال بصوت منخفض :
” لحظة لحين اعود لكما ”
تحرك بسرعة داخل الكوخ يتفقد أرسلان، فهو يدرك أنه إن جعل أحدهم يراه في صورة قد تظهر ولو بنسبة ضئيلة تعبه، سوف يحيل حياته لجحيم بصراخه .
وحين دخل وجد أرسلان يجلس على سجادة الصلاة الخاصة به رغم تهدل جسده، وجلوسه بشكل غير مستقيم .
ابتسم سالار يدرك أن لا صورة أكثر قوة مما يرى الآن له، خرج يشير لايفان وآزار بالتقدم .
دخل الاثنان والجهل يعلو وجوههم وسالار يقف على باب غرفة أرسلان يقول بصوت منخفض :
” هناك من ينتظر وصولك مولاي ”
نظر له إيفان بعدم فهم وشك، يتحرك صوب الغرفة التي يشير لها سالار، بينما الاخير سحب آزار ليجلس به بعيدًا حتى ينتهي هذا اللقاء العاصف بينهما .
تحرك إيفان داخل الغرفة يحدق بذلك الجسد الذي يصلي ارضًا، ورغم أنه يواجهه بظهره إلا أنه يعلمه، يا الله هو يعلمه، شعر إيفان بموجة كهرباء تمر بجسده.
قد سُحب الهواء فجأة من المكان، نظر خلفه بسرعة يبحث عن سالار ليؤكد له أنه لا يحلم، لكنه اكتشفت أنه وحده في هذه الغرفة مع …أرسلان ؟؟؟
انتهى أرسلان من صلاته وقد ارتفع صوته الاجش وهو يقول :
” السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم و رحمة الله”
وبهذه الكلمات ختم صلاته يهتف بصوت منخفض يحاول النهوض ليعتدل :
” جئت سالار ؟؟”
لكن ما كاد ينهض حتى شعر بوجع يضرب معدته ليتأوه وهو يستند على الفراش، لكن فجأة شعر بجسد يمسكه من الخلف بسرعة ولهفة كبيرة جعلته يبتسم :
” هل تظنني ضعيفًا يا هذا ؟؟ أنا فقط شعرت بـ ”
ولم يكمل كلمته حين أبصر وجه من ساعده، اتسعت أعين إيفان وشعر أنه يحلم، هو يحلم الآن لشدة يأسه، أرسلان حي ؟؟ الله سمع بكاءه ودعاءه ؟؟
وكتأكيد أخير همس بصوت خافت :
” أرسلان ؟؟”
ورغم صدمة أرسلان إلا أنه ابتسم شيئًا فشيء يلقي كامل ثقله على كتف إيفان يدرك جيدًا أنه سيتحمله رغم كل شيء :
” مرحبًا إيفان ”
ابتلع إيفان ريقه، ينظر حوله يحاول البحث عن ردود فعل مناسبة، عن كلمات يقولها، يحتاج لشيء يكسر هذا الصمت .
وقد تطوع أرسلان للتحدث قائلًا بصوت خافت وندم شديد وهو ينظر في وجه إيفان بحب اخوي كبير يطرق الحديد ساخنًا :
” أنا آسف إيفان، ليتني فقدت يدي في حربٍ من تلك الحروب التي خضتها بتهور كما تقول ولا لمست وجنتك بسوءٍ أخي ”
نظر له إيفان بصمت، بينما أرسلان ابتعد عنه يستقيم وحده وهو يقول بنبرة لينة :
” إيفان…”
وقطع كلمته صفعة عنيفة سقطت على وجهه جعلت عيونه تتسع بصدمة، وقبل أن يتخذ ردة فعل عليها جذب إيفان جسده لاحضانه بقوة يصرخ بلهفة :
” أيها الحقير أنت حي ؟؟ أنت حي أرسلان ؟؟ يا ويلي أنت حي ؟”
قال أرسلان بصوت ممازح حانق :
” نعم حي، لقد صفعتني للتو ”
سقطت دموع إيفان بقوة وهو يصرخ دون شعور :
” أنا …أنا لقد …يا الله كدت أموت كمدًا على رحيلك أرسلان، كيف استطعت البقاء كل ذلك الوقت بعيدًا دون اخباري أنك حي، يا الله الحمدلله، الحمدلله ”
شعر أرسلان بوجع قلبه وهو يسمع نبرة إيفان الباكية ليضمه له بشكل يحتمله بسبب جروحه :
” أخبرتك أنك لن تتخلص مني بسهولة إيفان، ليس قبل أن تغفر لي غباءي ”
ابتعد عنه إيفان ينظر لوجهه وهو يحرك عيونه عليه ولأول مرة لا يخجل من نزول دموعه أمام أحدهم، أو بالأحرى لا يهتم وهو يفحصه بدقة :
” أنت..كيف …كيف نجوت لقد …”
فجأة تركه إيفان وخر ساجدًا يشكر الله على نجاة صديقه، يشعر أن الدنيا لا تسع سعادته، قلبه يرتجف صدمة وسعادة، أرسلان حي، أعطاه الله فرصة ثانية .
كان أرسلان يتابع ما يفعل إيفان وقلبه يرتجف تأثرًا، جلس ببطء ارضًا يضم جسد إيفان الساجد :
” لم اعتقد أن حياتي ستسعدك بهذا الشكل إيفان ”
رفع إيفان جسده ينظر له بصدمة وهو يجذب ثيابه بعنف شديد صارخًا من أسفل أسنانه بشكل جعل أرسلان يُصدم، فهو من كان منذ ثواني يبكي ساجدًا لأجل نجاته .
” أيها الحقير، من تظنني ؟؟ هل تعتقد أنك لا تفرق معي؟ لقد بكيتك ليالٍ يا قذر، ظللت ابكي حتى كادت تفقأ عينايّ ”
ابتسم أرسلان له يضمه دون مقدمات :
” خفت أن أموت دون أن أعتذر منك إيفان، خفت الرحيل دون أن تقتص مني، خفت أن نقف أمام الله متخاصمين يا اخي، خفت أن نخون العهد ولا نكون متحابين في الله ”
ختم حديثه لينفجر في البكاء وقد ضمه إيفان هذه المرة وهو يحاول أن يهدأه ويهدأ نفسه، من قال أن الرجال لا يبكون، ما كان الله استعاذ من قهر الرجال، هم يبكون ويضعفون، لكن الفرق أنهم يكتمون بكاءهم وصرخاتهم داخل صدورهم حتى تحين لحظة الانفجار .
ظل الإثنان متعانقين قبل أن ينتبه إيفان لشيء مبعدًا عنه أرسلان بقوة جعلت الاخير يسقط ارضًا صارخًا بغضب شديد :
” أيها القذر انتبه، أنا مازلت مصابًا ”
وإيفان كان ينظر له بغضب شديد :
” أنت وسالار اخفيتم عني حقيقة أنك حي لكل تلك الأيام ؟؟ يا ويلي كيف فعلتم هذا بي أيها الحقيرين ؟؟”
صُدم أرسلان يقول بغضب :
” احفظ لسانك وأنت تتحدث معي إيفان، لا اسمح لك بسبي”
انتفض إيفان يركض للخارج صوب سالار صارخًا :
” سبك ؟؟ يا ليتها تتوقف على السب يا بني، سوف أحيل المتبقي من حياتكما لجحيم ….”
_____________
هي الآن وحيدة لا يوجد شيئًا تفعله عدا عملها الذي لا تقوم به في الأوقات العادية وحقًا لا تدري حتى الآن سبب احتفاظهم بها بعد كل ذلك الإهمال من ناحيتها، على كلٍ بما أن لا شيء لفعله _ كالمعتاد_ فهي الآن مضطرة لأخذ قصاص رفاقها.
منحت برلنت قبلة صغيرة لطيفة في جبهتها، ثم تحركت بعيدًا عن الفراش وهي تشعر بالوجع عليها، فهي لم تستيقظ منذ ما حدث وهذا يرعبها، ابتلعت ريقها تخرج من المكان لتبصر طبيبة القصر تتحرك صوب الغرفة الخاصة ببرلنت، اطمئنت أنها أصبحت معها، ثم تحركت هي لتحضر سلاحها وتتحرك لترى كيف ستتخطى الجميع وتذهب لأخذ قصاصها .
وها هي بعد دقائق قليلة تقف أمام السجون تراقب الجميع وما باليد حيلة للدخول جميع الجنود يقفون أمام السجن يشكلون عقبة لها :
” يا الله ما الذي يجب فعله الآن ؟”
نظرت حولها تبحث لها عن حل في المكان، فهي المرة السابقة كانت طعمًا لتبعدهم من أجل كهرمان، والآن ماذا ؟؟ لا يوجد لديها طعم لتفعل ما فعلت اخر مرة .
” ما الذي تفعلينه هنا أنتِ ؟؟”
انتفض جسد زمرد بفزع وهي تنظر خلفها صوب دانيار الذي كان يدرك أنها ستفعل شيئًا متهورًا وترقبه، وها هي ذا .
نظرت زمرد حولها تحاول افتعال حجة لمجيئها، وهو قطع عليها كافة السبل لذلك :
” هل تحاولين خرق القوانين وفعل شيء غبي ؟؟”
ابتسمت له زمرد بسمة صغيرة تبحث لها عن حجة في رأسها :
” هذا يعتمد على أسس تصنيفك لشيء بالغبي، فمثلًا أنا اصنف الشيء بالغبي حين لا يخضع لرغبتي ويتسبب في غضبي و..”
قاطعها دانيار ببسمة مخيفة :
” أوه ياللصدف، هذه نفس أسس تصنيفي للشيء بالغبي، ألا يخضع لرغبتي ويتسبب في إثارة غضبي، تمامًا كما تفعلين ”
اتسعت أعين زمرد بشكل ملحوظ تحرك عيونها في المحيط تتبين إن كان أحدهم يراقبهم قبل أن تهتف من أسفل أسنانها :
” هل وصفتني للتو بالغبية ؟؟”
” نعم فعلت ”
هذا كان مفاجئًا لها، هو لم ينكر أو يتهرب من السؤال واجابها بكل صراحة وهذا جعلها تقف عاجزة أمامه لا تدري ما يجب فعله، هي لم تحضر لتلك الإجابة .
رأى دانيار ردة فعلها وابتسم بسمة جانبية يقول من أسفل أسنانه :
” فقط اريدك أن تختفي من المكان والآن”
حدقت به زمرد باعتراض شديد، هي لم تأت هنا كي ترحل وبأمر منها، هي لا أحد يأمرها، بل لم يتجرأ أحدهم على فعلها حتى ..
فكرت في الرحيل من أمامه الآن، لكنها عادت وتوقفت تطيل النظر له قبل أن تقول بكل بساطة :
” حسنًا إليك ما سيحدث، أنا لي قصاص مع الأشخاص بالداخل ولن ارحل حتى آخذه، وإن رحلت الآن فسأعود لاحقًا حينما ترحل أنت، فإما أن تساعدني لافعل ما اريد وتتجنب أكبر قدر ممكن من المصائب، أو نتظاهر كلينا أنني رحلت بالفعل واعود لاتسبب في المزيد من الكوارث، ما رأيك ؟؟”
اشتد ذهول دانيار لحديثها وهو يتساءل عن مقدار جرئتها لعرض ذلك الحديث عليها، ابتسم يقول بعدم تصديق :
” هل تساومينني الآن ؟؟ ومن أخبرك أنني سأرضخ لكِ؟؟ ”
” رغبتك في تجنب أكبر قدر ممكن من مصائبي، أليس أنت من يقول أنك ستقفز في أي كارثة لتجرني منها جرًا؟؟ ها أنا امنحك خيار دخول الكارثة معي لسحبي حين انتهي ”
ختمت حديثها ببسمة واسعة وبراءة شديدة على ملامحه، وهو يتابع ملامحها بصدمة شديدة، هي محقة هو لن يراقبها وهي تفتعل الكوارث، بل سيسارع ليلتقطها منها .
ابتلع ريقه يميل بنصف جسده العلوي صوب الممر الذي ينتهي بالسجن، بلل شفتيه وهو يفكر في الأمر، إن رفض الأمر ستفعلها وحدها وقد تُعاقب، على الأقل يضمن أنها ستكون أسفل عينه .
عاد بنظره لها وهي ابتسمت في انتظار كلمته ليقول بعد تنهيدة مرتفعة :
” حسنًا .”
ابتسمت بانتصار لكن فجأة انمحت تلك البسمة حين قال هو بصرامة وجدية كبيرة :
” لكن كل ذلك سيتم وفق قوانيني الخاصة …..”
__________________
كانت نظرات تبارك تحلق حول تميم الذي يقودهم صوب الكوخ والذي تتذكره جيدًا، ولولا أن المرة التي أتت بها هنا كانت سرًا بينها وبين سالار ولا يفترض بأحدهم أن يعلم بها، لكان كفت تميم تعب تلك الرحلة وأخبرته أن يبقى جوار زوجته وهي ستقود الرحلة أو ربما لا فهي حقًا لا تتذكر سوى طرق قليلة فجميع الأشجار متشابهة هنا .
حركت عيونها صوب كهرمان التي كانت تتحرك دون فهم لما يحدث، ما سبب ارسال الملك لها ؟ ومع تبارك ؟! وفي هذه الغابة صوب وجهة لا تعلمها ؟؟ وتبارك أيضًا تتحرك بهدوء شديد ليس وكأنها تُقاد صوب مكان تجهله، أو أنها تفعل ؟؟
نظرت لها كهرمان تحاول أن تخترق عقل تبارك، بينما ملامح تبارك العادية لم تكن تشي بما تفكر به فقط تتحرك بهدوء خلف تميم متظاهرة أنها تجهل الطريق، بينما عقلها يسجل علامات واضحة للمكان كي تحفظه هذه المرة، والسبب ؟؟ لا تدري حقًا لكنها فقط تحب أن تعلم كيف تصل للمكان الذي ينأى به سالار بنفسه ..
” هل اقتربنا من وجهتنا ؟؟”
كان ذلك السؤال صادر من كهرمان والتي فقدت صبرها تود معرفة ما الذي يحدث هنا، وتميم الذي كان كمن انطفئ بعد ما حدث لبرلنت، أجابها بهزة صغيرة من رأسه وكلمات مقتضبة ووجه جامد :
” كدنا نصل مولاتي .”
هذا، ثم صمت لا يقطعه إلا صوت اصطدام حوافر الحصان بالارض اسفلهم حتى أبصرت تبارك الكوخ يقترب فابتسمت تلقائيًا وهي تتذكر المرة السابقة لها مع سالار هنا .
هزت رأسها على كلمات تميم الذي زاد من سرعته يضيف بجدية :
” وصلنا …”
نظرت كهرمان صوب الكوخ بعدم فهم وقد بدأت ضربات قلبها تضطرب بشكل غير مفهوم، يا الله تشعر بمشاعر غريبة، ربما الريبة من المجهول …
وداخل الكوخ .
تحرك إيفان خارج الغرفة بثورة صوب سالار وقبل أن ينطق الاخير بكلمة جذبه إيفان من ثيابه بقوة جعلت جسد آزار ينتفض ويهب لمساعدة ابن شقيقته لولا كف سالار الذي ارتفع بشكل غير ظاهر لايفان .
يبتسم بسمة صغيرة وهو يتحدث :
” حسبت أن مفاجأة كهذه ستسعدك مولاي ”
” بل ستؤلمني سالار، سيؤلمني معرفة أن رفيقي الأقرب ويدي اليمنى لا يثق بي، لم يشفق على حالتي طوال هذه الأيام، لم تهتم لوجعي سالار واستمررت في الاخفاء عني ”
كان سالار يستمع له بهدوء شديد تاركًا له حرية التعبير عن غضبه، يدرك ما يفكر به في هذه اللحظة ليجيب بعدما توقف إيفان عن الحديث بلهفة :
” إيفان، والله ما فعلت ذلك إلا مضطرًا، حين وصلت لارسلان كانت حالته سيئة بشكل مثير للشفقة …”
قاطعه أرسلان عن استكمال حديثه وهو يستند على إطار باب غرفته بغضب شديد وصوت جهوري :
” خسئت، ليس الملك أرسلان من يثير شفقة أحدهم، ما لي وشفقتك يا هذا ؟؟”
رمقه سالار بغضب شديد يخبره بعيونه أن يتنحى مع كبريائه جانبًا في هذه اللحظات حتى يهدأ من روع إيفان، لكن أرسلان لم يكن يقبل على نفسه أن يخبره أحدهم أنه مثير للشفقة، هو لا يحتاج شفقة أحدهم :
” لا تنظر لي بهذا الشكل، أنت تعلم أن إيفان لن يهدأ الآن إلا عندما يذهب لغرفته ويسجن نفسه ويعيد الشريط على عقله المجتهد ليحلله ويدرك من المخطئ من المصيب”
استدار له إيفان بغضب صارخًا :
” هل تمزح معي ؟؟ اخفيتم عني أمور تعنيني أكثر من أي شخص وتنتظرون مني تقبل عطفكم بإخباري بها في آخر لحظة والصمت ؟؟ ”
هز أرسلان كتفه مشيرًا صوب سالار الذي كان يغمض عيونه محاولًا الهدوء :
” أنا لا انتظر منك شيئًا، بل سالار هو من يفعل، ثم لا تصرخ في وجهي بهذا الشكل، أنا كنت مُلقى على الفراش في الداخل لشهور لا ادري عددها، واستيقظت منذ أيام قليلة ”
جذب سالار انتباه إيفان بسرعة وهو يمسك كتفيه يقول بهدوء :
” إيفان، انظر إليّ”
طالعه إيفان بقوة ليتحدث سالار بجدية :
” اقسم بالله أنني ما أخفيت الأمر عنك قصدًا، لكنني أدرك أن ما يحدث في المملكة هذه الأيام معقد، فرأيت أن ننتظر حتى يستيقظ أرسلان كي لا اشغلك بحالته فأنت يكفيك ما بك، أعلم أنك إن علمت بإصابته كنت ستترك كل شيء وترابط جواره ”
ابتسم أرسلان بسخرية :
” ذو مروءة هذا الإيفان، ليس مثلك تأتي يومًا وتختفي دهرًا ”
تنفس سالار بتعب يكمل مشيرًا لارسلان :
” وهذا القذر خلفك الذي لا يحفظ الجميل لم يستيقظ سوى منذ أيام قليلة حاولت خلالها تحين الفرص لاخبارك ولم استطع إلا الآن، صدقني لم اقصد أن أخفي عنك يا اخي ”
نظر له إيفان بلوم، وأبى أن يهدأ أو يرضخ في هذه اللحظة فابعد يد سالار عن كتفه واستدار نصف استدارة لارسلان الذي يراقبهم بهدوء في انتظار القادم .
لكن قاطع كل ذلك طرق على الباب وصوت تميم يأذن بالدخول، وعلى ذكر تميم تذكر إيفان فجأة كهرمان ..
ازدادت ضربات قلبه وهو يراقب الباب بأعين متلهفة ينتظر أن تطل عليهم، بينما جواره تراجع سالار للخلف يتوارى عن الأعين لا يود أن يراها الآن وأمام كل هذه الأعين خشية أن تظهر نظراته المهتمة بها لهم ..
وارسلان لم يكن يهتم لكل ذلك وهو يفكر بالعودة لفراشه كي يريح جسده الذي يأن وجعًا، لكن لحظة، هي لحظة التي استغرقها قلبه ليعود للخفقان مجددًا بعد توقفه لثواني .
تهدلت كتفيه وهو يراها تدخل للمكان بطلتها المميزة، ورغم اللثام الذي يخفي ملامحها إلا أنه ما كان له أن يخطأ ملامحها .
شعر أرسلان بالعالم بأكمله يظلم حوله ولم يتبقى سوى نقطة واحدة مضيئة وهذه النقطة تمثلت في ” كهرمان الحبيبة ” ..
شقيقته، وابنته الصغيرة حية ؟؟
تأوه أرسلان يهمس اسمها بعدم تصديق، يراقبها بأعين مشدوهة تتقدم داخل الكوخ بتأني وخجل، ولم يفكر في هذه اللحظة بكيف جاءت أو ماذا تفعل، بل ما فكر به هو أنها أمامه الآن..
” كهرمان ؟؟”
كانت همسة واحدة، لكنها لها كانت كرشفة من اكسير الحياة الذي جعل ضربات قلبها تتسارع كما لو كانت على وشك الموت وتم إنعاش قلبها في اللحظات الأخيرة .
توقفت اقدام كهرمان بصدمة تنظر حولها بحثًا عن صاحب الهمسة والذي تعلمه دون البحث عنه، لكن قلبها المسكين أبى أن يصدق أن أحلامه ودعواته صارت واقعًا .
وقعت عيونها عليه مستندًا على إطار الباب يناظرها بصدمة تماثل صدمتها، كانت كهرمان تراقبه وهي تتقدم منه بتأني وخوف أن يتلاشى حين تصل له كالسراب، مدت يدها ببطء وهو فقط يراقبها يخاف أن يتحرك فتختفي صورتها .
وحين وصلت له كهرمان استغرقت دقيقة كاملة لتأمله ولم تتجرأ على لمسة وكأنها تأبى أن تكتشف فجأة أنها تتخيله.
هبطت دموعها بقوة تقول بصوت هامس :
” أرسلان ؟!”
ابتسم لها وعيونه ملتمعة بالدموع يبادر بمد يده وإمساك وجهها بلطف شديد :
” مابكِ تزدادين جمالًا كل يوم صغيرتي؟؟”
شعرت كهرمان أن تنفسها أصبح صعبًا وهي تسمع جملته المعهودة، نظرت ليده تحاول التأكد أنه يلمسها بالفعل، حتى وفجأة غامت الدنيا حولها وهي تسقط ارضًا، لولا يد أرسلان الذي تلقفها بسرعة كبيرة يصرخ بهلع ورعب وكأنه خرج فجأة من الفقاعة التي كانت تحيطه وشقيقته :
” يا الله رحمتك، كهرمان حبيبتي ما بكِ ؟؟؟”
راقب سالار ما يحدث وهو يمسح وجهه بحنق، لم يكن هذا ما خطط لحدوثه، كان من المفترض أن يخبر أرسلان قبل مجيئها ويخرج هو لاستقبالها وتمهيد الأمر، لكن غضب إيفان أنساه كل شيء ..
وعلى ذكر إيفان، كانت ردة فعل الاخير هي أكثر ما أثار ريبته وهو يرى انتفاضة جسده الملحوظة وشحوب ملامحه وعيونه التي تعلقت بكهرمان، لتتردد في عقله جملة شهرزاد التي تحدثت بها حوله وحول كهرمان .
اتسعت عيونه يتشدق بذهول :
” أيُعقل ؟؟؟؟”
_______________________
” أي جزء من حديثي لم تفهمي ؟؟ أخبرتك أن تترقبي اشارتي ومن ثم تتحركين ”
كانت تلك كلمات دانيار الغاضبة لزمرد والتي تبعته في الممر المؤدي للسجن، إذ كان يتحرك بجدية صوب البوابة الخاصة بالسجون قبل أن يشعر بخطواتها خلفه .
توقف بسرعة وهو يستدير لها بشر كبير وهي توقفت بتفاجئ تهمس له :
” ماذا ؟؟”
مسح دانيار وجهه يستغفر ربه بصوت وصل لها واضحًا وهي تنظر له بترقب، بينما هو يحاول أن يتخطى كل تلك المشاعر السلبية التي تدفعه للشجار معها الآن..
” ما الذي أخبرتك به أنا ؟! قلت انتظريني حتى أجد لكِ مدخلًا يا امرأة”
التوى ثغر زمرد بحنق شديد لتلقيها تلك الأوامر التي ترفض كليًا، لكنها رغم ذلك تنفست بصوت مرتفع وهي ترفع وجهها له مبتسمة :
” حسنًا لا بأس، سوف اختبأ هناك في بداية الممر حتى تأذن لي بالمجئ، اتفقنا ؟؟ ”
رمقها بشر مشيرًا لها بعيونه أن تتحرك بعيدًا عن وجهه وهي ابتسمت له بسمة أوسع مخافة أن تظهر غضبها واستياءها فيرفض مساعدتها ..
تحرك دانيار يدرك جيدًا أنه يرتكب أكثر من خطأ في الوقت ذاته، قربه منها رغم رفضها الزواج منه أكثر من مرة صراحة، ومساعدتها في دخول السجون لهو أمر لا يجب أن يحدث، ها هو يرتكب العديد من الأخطاء لأجلها ..
تنفس بصوت مرتفع وهو يتوقف أمام أبواب السجن، ثم تحدث بضع كلمات مع الرجال لم يصلوا لها، وبعد ثواني أبصرت تحرك الجميع بعيدًا عن بوابة الشجن دون أن تدري ما قاله لهم .
ابتسم دانيار بسمة صغيرة، ثم استدار ينظر لها نظرة صغيرة مشيرًا لها بالاقتراب ..
تحركت هي بتردد صوبه وهو ابتسم بتشجيع لها حتى وصلت للباب وهي تنظر له بلهفة كبيرة :
” هل رحلوا تمامًا ؟؟ ”
” لا ليس تمامًا، نصف ساعة ويعودون، هيا لتنتهي مما جئنا لأجله ”
أشارت زمرد لنفسها تقول بصوت جاد وهي تضغط على حروفها :
” بل لانتهي مما جئت أنا لأجله، وليس ننتهي، لا تقحم نفسك في قصاصي ”
رمقها دانيار بشر كبير وهي لم تهتم تتحرك داخل المكان وهو يحدق في الفراغ الذي خلفته خلفها، يشعر بالغضب يساعدها وترفض أن تدعه يتدخل لأجل مصلحتها ؟؟
تنفس بصوت مرتفع يلحق بها داخل السجن وهي تسير بين الممرات ليس وكأنه منزلها الثاني، والغريب في الأمر أنها لم تتراجع من مرأى الرجال والمجرمين حولها، لم تهلع أو تفزع و…
سخر دانيار من نفسه وهو يردد داخله :
” تهلع ؟! لقد كانت تسرق الخناجر من الجنود مرتين يوميًا وتأتي لتهددك بها، هذه المرأة هي مشروع قاطع طرق غير مكتمل ”
فجأة توقفت زمرد بشكل جعله يتوقف واستدارت له تقول بتسائل :
” اين هم هؤلاء الرجال ؟؟”
أشار دانيار على أحد الأبواب في جانب الممر يقول :
” هم هناك خلف هذه البوابة و…”
لم يكد يكمل حديثه إذ تقدمت زمرد بسرعة لكن قبل أن تخطو خطوة إضافية أوقفها هو يقول :
” مهلًا، قبل فعل أي شيء عليكِ معرفة شروطي على مساعدتك تلك ”
توقفت زمرد وهي تنظر له يترقب وغضب بدأ ينتشر على ملامحه وشعور أنه يستغل حاجتها قد بدأ يسيطر عليها، لكن دانيار لم يهتم بكل تلك النظرات يقول بجدية :
” سوف تأخذين قصاصك بيدك وهذا حقك، لكن لن تتمادي أو تتسببي لأحدهم في إعاقة، فالملك لن يصمت إن حدث هذا وسيحضرك ويعاقبك، حين آمرك بالتوقف تتوقفين، فهمتي ؟؟”
نظرت له باعتراض لكنه أصر وهو ينظر لها بقوة فتنفست بقلة حيلة تقول بصوت منخفض :
” مفهوم، هل استطيع المواصلة الآن رجاءً ؟؟”
هز رأسه لها بهدوء وهي تحركت بسرعة صوب تلك الغرفة تتأكد من لثامها وهو لحق بها ليراقب ما يحدث تحسبًا لأي غدر من الرجال .
فتح لها دانيار الباب وهي وبمجرد أن حدث ذلك استغلت الظلمة لتهجم عليهم بغضب تأخذ قصاص برلنت وكهرمان ودانيار يراقبها في الخلف بترقب ..
وبعد مرور عشر دقائق فقط قال دانيار :
” هذا يكفي، توقفي ..”
تشنج جسد زمرد بقوة وهي تستدير له باعتراض ولم تتحدث بكلمة، لكنه فقط أشار للخارج دون إضافة أمر آخر، وهي عضت شفتيها بغضب شديد، ثم رفعت قدمها وضربت معدة أحدهم بغضب شديد تتحرك للخارج بعصبية ملحوظة، بينما دانيار نظر للرجال نظرات باردة ثم اغلق الباب وتحرك خلفها يقودها للخارج وهي تتمتم ببعض الكلمات الحانقة والغاضبة وهو فقط مبتسم بسمة مستفزة، يسعده أن يراها غاضبة بهذا الشكل .
كاد يطلق ضحكات على صوتها الذي بدأ يعلو لولا أن قاطع تلك الضحكات صوت أحد المساجين وهو يهتف بنبرة غريبة :
” يا ويلي انظروا يا رجال من هنا ؟؟ أوليست هذه هي العزيزة زمرد ؟؟”
توقفت اقدام زمرد بصدمة كبيرة وكذا دانيار الذي نقل أنظاره بين زمرد وهؤلاء الرجال الذي يدركهم جيدًا هم أنفسهم الاسرى الذين نجوا من قبضة سالار يوم الهجوم، هم نفسهم المنبوذون .
شعر دانيار بعدم الفهم يملئ عقله، وهو يبصر تجمد جسد زمرد وشحوب وجهها الذي ظهر له في ظلام السجن، بل ونظراتها الزائغة التي ظهرت بعد سقوط لثامها، كل هذا كان في كفة، وكلمات ذلك الرجل في كفة أخرى وهو يهتف بصوت خبيث :
” مرحبًا بابنة زعيمنا العزيزة، هل أحلم أم أنكِ جئتي لتنقذي أبناء شعبك من أسر هؤلاء القوم ؟؟ سيكون القائد بافل سعيدًا وفخورًا بكِ، بل وربما يغفر لكِ كامل ذلاتك القديمة إن اخرجتينا من هنا ”
شعر دانيار أنه انفصل عن محيطه وتلك الكلمات تدور حوله في محاولة منها لإيجاد مدخل إلى عقله، لا يعي ما يحدث هو فقط لا يعي ما يسمع، هل …هل ما فهمه صحيحًا، أم أن فهمه في هذه الآونة أضحى ضعيفًا .
نظر ببطء صوب زمرد التي كانت تحاول التنفس بصعوبة وقد امتلئت عيونها بالدموع، وهي تحدق بالرجال الذين لم يتوقفوا عن الحديث لها ..
نظر أحدهم لدانيار وهو يقول بغيظ وكره :
” أوليس هذا أحد جنود سفيد ؟؟ ما الذي تفعلينه معه؟! هل امسك بكِ أيضًا ؟؟”
تحدث آخر وهو يقبع في آخر السجن :
” لا تقلقي زمرد سيأتي الزعيم بافل وينقذنا هو أخبرنا بذلك، رغم أنه يكرهك، إلا أنكِ في النهاية شقيقته ونحن رجاله، لن يتخلى عنا، سمعت يا هذا الزعيم لن يتخلى عنا ”
كان يصرخ بصوت مرتفع وهو يوجه كلماته لدانيار الذي توقفت حدود استيعابه عند الكلمات التي خرجت منه ..
شقيقته ؟؟ شقيقته ؟؟ شقيقة بافل ؟؟ ابنة زعيمهم ؟؟ زمرد ؟؟
وزمرد في هذه اللحظة كانت دموعها تهبط بقوة، لقد تعرت حقيقتها أمام الشخص الوحيد الذي تمنت موتها على معرفته لها، الشخص الوحيد الذي دعت الله ألا يبصر حقيقتها .
شعرت بالانهيار وهي تنظر له تهمس بصوت مرتعش ونبرة خائفة تحاول الحديث :
” دانيار …”
” لم تكن مزحة ؟؟”
نظرت له من بين دموعها بعدم فهم وهو ابتسم يتذكر كلماتها التي ألقتها له ذات يوم :
” تلك الكلمات عن أنكِ واحدة من هذا الشعب القذر لم تكن مزحة ؟! لقد ..لقد خدعتني ؟!”
سقطت دموعها تقول بصوت خرج مذبوحًا تترجاه ألا يفعل هذا بها، ليس هو يا الله :
” لا دانيار، أنا ارجوك ليس ما …”
لكن دانيار لم يكن يسمع لها، بل فقط تقدم بسرعة منها لتتراجع هي بسرعة للخلف مطلقة صرخة مرتفعة وهي تخفي وجهها خلف يدها :
” لا لا ارجوك، لا ارجوك أنا آسفة، لم اقصد كل ذلك …”
توقف دانيار عن تقدمه حين أبصر ردة فعلها ونظر حوله وهو يشعر بالاختناق والعجز، يشعر أن التنفس أصبح رغبة بعيدة المنال، ابتلع ريقه، ثم نظر لها نظرة أخيرة ذبحت آخر عرق في جسدها ومن ثم غادر بسرعة تاركًا إياها في ظلمة السجن تنظر لاثره بملامح شاحبة وصدمة كبيرة ..
وبمجرد خروجه انهار جسد زمرد ارضًا بقوة وهي تطلق صرخات ونواح هز جدران السجن بقوة، لقد ضاع …ضاع منها دانيار، الشخص الوحيد الذي أحبته أبصر حقيقتها المخزية ……
_______________
النظرات المتراشقة بين الجميع كانت كافية ليحل الصمت عليهم، فها هم منذ سقطت كهرمان بين ذراعي شقيقها من صدمة ما رأت وهم ينظرون لبعضهم البعض دون كلمة واحدة، وارسلان يرابط بالداخل جوار كهرمان رافضًا التحرك خطوة واحدة بعيدًا عنها ..
إيفان كانت نظراته تصف للجميع مقدار الصراع الذي يتعايش معه في هذه اللحظة .
وآزار يراقب كل ذلك بنظرات غامضة، ثم تحرك بنظراته لسالار يميل عليه هامسًا بكلمات قليلة جعلت الاخير تتسع عيونه وهو يحرك نظراته بين الجميع، ثم هز رأسه..
وتبارك تجلس في أحد الأركان تضم يديها بكل هدوء خشية أن تتحدث دون وعي فتلفت انتباه الجميع لوجودها وتقطع حرب العيون تلك …
” إذن سالار هل لديك ما تخبرني به ؟؟ اعتذار مثلًا تبرير سخيف آخر ؟؟”
رفع سالار عيونه للملك يحاول الحديث، لكن فجأة وقعت عيونه على تبارك التي انتبهت لهما، ليبتسم هو بسمة صغيرة قائلًا :
” أنا آسف مولاي ”
ضحك إيفان ضحكة قصيرة مغتاظة :
” أوه نعم أنت آسف، لا سالار، لا يا عزيزي أنت أكثر من أسف، لقد را…..”
وقبل أن يكمل كلماته اندفعت قذيفة من الغرفة المجاورة لهما صوب سالار بقوة مخيفة تسببت في سقوط جسد سالار ارضًا وفوقه جسد أرسلان الذي كان يجذب تلابيبه بقوة صارخًا :
” كنت تعلم ؟؟ كنت تعلم أنها حية ولم تخبرني ؟؟ كيف فعلتها ؟؟ بالله عليك كيف استطعت رؤيتي أعاني بهذا الشكل وتتركني لأفكاري يا حقير ؟؟”
نظر له سالار وهو مسطح ارضًا يجيب عليه ببسمة صغيرة :
” نحن لن ننتهي من هذا بسرعة صحيح ؟؟”
رمقه أرسلان بشر وهو يجذبه لينهض، وقد اقترب منهما إيفان ليشعر سالار أنه سقط بين المطرقة والسندان يقول بجدية وهو يرفع ذراعيه يضعهما على اكتاف الاثنين :
” اسمعا كلاكما، لقد حدث ما حدث وانتهى، وأنا ما فعلت ذلك هباءً، بل كله بسبب وانتم تعلمون ذلك، لكن إن أردتم مني اعتذارًا …”
ربت على اكتافهما باستخفاف يكمل :
” ففي جنة الخلد بإذن الله، جمعنا الله بها يا رجال ”
ختم حديثه يبتعد عنهما تاركًا الإثنين ينظران لبعضها البعض بغيظ شديد، وقبل أن يتحرك أحدهما خطوة تحدث سالار :
” مولاتي …”
فجأة تحولت جميع الأنظار صوب تبارك التي انتفضت بقوة وكأنها لا تصدق أن أحدهم انتبه لها، تلقي بنظرات اللوم والعتاب لسالار أن لفت أنظار الجميع لها ..
ابتسم الاخير يقول بصوت عادي بعض الشيء :
” هلّا قمتي بفحص الملك أرسلان ؟؟”
نظر لها أرسلان بملامح رافضة وهي تراجعت لرؤية تلك الملامح فابتسم سالار يزجر أرسلان بنظرات غاضبة :
” لا تخافي مولاتي فالملك أرسلان لا يأكل الصغار ”
اعترض أرسلان على كل ذلك وهو يشير صوب الغرفة :
” بل الافضل أن تذهب لتفحص كهرمان وتطمئن قلبي عليها ”
نظرت لهما تبارك لا تدري ما يجب فعله وكلٌ يلقي بها للآخر، لكنها في النهاية قررت الركض والاحتماء بالغرفة التي تقبع بها كهرمان مغلقة الباب خلفها بقوة جعلت الجميع يبعدون أنظارهم عنه، ليقول آزار وهو يجذب انتباه الجميع له :
” إذن لنتحدث فيما جئنا لأجله ”
نظر له الثلاثة فابتسم وهو يردد بجدية :
” الحرب يا رجال …”
رفع أرسلان قبضته يضرب به كتف سالار في قوة وعيونه ترسل رسالات تحذير قبل أن يتحرك صوب الأريكة :
” لم ننتهي بعد ”
ومن ثم رفع إيفان قبضته هو الآخر يصيب بها كتف سالار بنفس القوة وبنفس النبرة قال :
” تمامًا كما قال هذا الثور، لم ننتهي بعد …”
تركه وتحرك صوب الأريكة هو الآخر يجاور أرسلان وكلاهما يعقدان ءراعيهما بشكل جعل سالار يطلق ضحكات صاخبة يضرب كف بالآخر، ثم تحرك وجلس أمامهما جوار آزار الذي ربت على كتفه بحنان :
” إذن هل نبدأ ؟؟”
تنفس سالار بصوت مرتفع وهو ينظر للجميع بعدما هدأت النفوس رغم أن الغضب ما يزال مُسطرًا فوق الوجوه، لكن ما هي إلا ثواني حتى جذب انتباههم بنطقه لكلمات صغيرة تعني الكثير لجميع الجالسين في المكان :
” غدًا العيد الوطني ….”
___________________
داخل طرقات مشكى ..
كان يتحرك بكل هدوء وقد انسلخ بين أفراد هذا الشعب يتحدث لهجتهم ويرتدي ثيابهم، لعب دوره باحتراف شديد حتى كاد يصدق أنه منهم .
ابتسم المعتصم وهو يتوقف أمام أحد المنازل المتواضعة يحمل فوق ظهره حقيبة قماشية ممتلئة باشياء مجهولة ..
طرق الباب وانتظر ردًا حتى سمع صوت رجولي يجيبه، ومن ثم فُتح الباب ونظر له الرجل بتعجب :
” تفضل ؟؟”
ابتسم له المعتصم ينزل الحقيبة من على ظهره مدعيًا الوجع والارهاق وهو يردد بصوت ضعيف بعض الشيء :
” مرحبًا أيها الشاب جئتكم بأفخم انواع القماش في المدينة، ما رأيك أن تلقي نظرة علّ أحد قطع قماشي نالت إعجابك واشتريتها مني ؟!”
تناقلت نظرات الشاب بين الحقيبة والمعتصم حتى لانت ملامحه بعض الشيء وهو يقول بتفكير :
” هل تحمل الكتان يا رجل ؟!’
” أفخم انواع الكتان في الممالك اجمع، ستجدها هنا في حقيبتي ”
ابتسم له الشاب يبتعد عن الباب قليلًا يشير له بالتقدم :
” إذن تفضل لأرى ما تحمل ”
ابتسم له المعتصم يتقدم للمنزل مخفضًا رأسه مصدرًا صوتًا مسموعًا للجميع، ثم تحرك صوب أحد الارائك يضع عليها الحقيبة، حين سمع صوت اغلاق الباب، استدار صوب الشاب الذي ابتسم له وهو يشير على باب يقبع في أحد أركان المنزل :
” من هنا ..”
تحرك الشاب وخلفه المعتصم والذي كان يخفضه نظره حتى شعر بالشاب يفتح أحد الأبواب والشمس تصطدم في وجهه مخبرة إياه أنه أصبح في مكانٍ مفتوح ..
رفع عيونه ليبصر باحة خلفية محاطة بأسوار عالية واسعة المساحة وممتلئة بالنخيل تحوي أجساد الكثير والكثير من رجال مشكى الأوفياء الذين لبوا نداءه .
ابتسم المعتصم يبعد غطاء وجهه عنه، ثم قال بصوت قوي وهو يحرك نظراته بينهم :
” مرحبًا برجال مشكى، سعيد أنكم لبيتم النداء ”
نطق أحد الرجال بصوت قوي لكن هادئ بعض الشيء لئلا يُكشف أمرهم :
” نحن جاهزون لكل ما تريده يا قائد، فقط ارنا كيف نبدأ وحينها نحن من سنقود تلك الحرب .”
ابتسم المعتصم بسمة واسعة يردد بفخر بمن أمامه :
” لكم ذلك وحوش مشكى ……”
________________
” أنت ما الذي تفعله هنا ؟؟”
كانت هذه هي الجملة الوحيدة التي خرجت من فم تميم والذي تحرك صوب ذلك الجسد الذي يهيمن على زوجته صارخا به بعضب شديد :
” أنت ما الذي تفعله بزوجتي ؟؟ يدك عنها ؟! اتركها ما الذي تفعله ؟؟”
رمقه عبدالله بشر وهو ما يزال يحاول رفع جسد ابنته عن الفراش مصرًا على ما جاء لفعله :
” ابتعد عن طريقي أنا سآخذ ابنتي وارحل عن هذا المكان المقيت، ابتعد ”
وكاد يضع كلماته حيز التنفيذ حتى وجد تميم يمسك يده مبعدًا إياها عن جسد برلنت، ثم سارع وجذب جسد عبدالله الآخر بعيدًا صارخًا في وجهه بجنون :
” تأخذها إلى أين ايها المجنون ؟! ابنتك لا يجب أن تتحرك عن الفراش ؟؟ هل تنتوي قتلها أم ماذا ؟! هيا أخرج من هنا، من الأساس ما الذي اخرجك من سجنك ؟؟ ستجعلني اعض أناملي ندمًا لتنازلي عن حقي ”
نظر له عبدالله بشر وغضب وقد بدأ الشيطان يشعل ذلك الغضب بأحقاد قديمة وهو يدفع جسد تميم للخلف بقوة لم تحرك بالاخير شعرة واحدة وهو ما يزال يهيمن على عبدالله :
” هذه ابنتي منذ ارتبط اسمها باسمك وهي لم تر يومًا واحدًا سعيدًا، أحلت حياة صغيرتي للتعاسة بحجة ذلك الحب السخيف الذي تتغنى به، لكن أوتدري ؟؟ الخطأ ليس خطأك أنت، بل خطأي أنني وافقت من البداية على تزويجها لك أيها الحقير، أنت مثلك مثل والدك، تدعي فضيلة واخلاق ولكننكم من الداخل مجرد قذرين وأنا لن أترك ابنتي بين يديّ حقير مثلك ”
كان تميم يتابع تلك الكلمات مصدومًا من مقدرة عبدالله عن تخزين كل تلك الأحقاد والغضب داخل صدره، هذا الرجل أمامه وبدون مبالغة يمقته ويقت والده ..
استطاع عبدالله بكل ذلك الشر أن يصمت لسان تميم والذي عجز عن الرد على تلك الكلمات إلا ببعض الاحرف الهادئة التي يخفي خلفها صدمته :
” حسنًا، اعتذر بشأن اضطرارك للتعامل مع القذرين أمثالي وأبي، لكن تلك المرأة خلفك هي امرأتي أنا، زوجتي أنا، وبن تتحرك خطوة واحدة من شأنها أن أبعدها عني، والآن هل سترحل أم انادي الحراس ليسحبوك صوب سجنك المظلم مجددًا ؟؟”
وتلك الكلمات لم تساهم إلا في إشعال المزيد من احطاب غضب عبدالله والذي زين له الشيطان في تلك اللحظة قتل تميم، زين له قتله وأراه أنه السبيل الوحيد لتعود له صغيرته، هو العائق الوحيد في طريق حياته السعيدة مع عائلته الصغيرة .
لذا ودون تفكير بدأ يلتفت حوله بحثًا عما يعينه لتنفيذ جريمته النكراء تلك لولا صوت هامس ضعيف خرج من ذلك الجسد المسطح على الفراش :
” تميم ….”
ها هي همسة أخرى وسبب آخر يُضاف لقائمة طويلة عند عبدالله عن الأسباب التي قد تدفعه لقتل تميم، ابنته الصغيرة تذكرت ذلك النكرة قبله ونادت باسمه، وها هو الاخير يسارع صوب الفراش بلهفة مقززة يضم كف ابنته وهو يحدثها بكلمات أصابته بالغضب..
ولم يكد يخطو صوبهم ليأخذ أي ردة فعل حتى سمع الجميع قرع الباب يتبعه صوت الحارس وهو يقول بنبرة جامدة :
” هل انتهيت من الاطمئنان على ابنتك يا عم ؟؟”
نظر عبدالله صوب فراش برلنت والتي عادت لنومتها مجددًا بين احضان تميم، وكأنها ما استيقظت سوى لتنقذه من بين يديه، وتطمئن أنه جوارها ثم تعود لغفوتها، شعر بالوجع وهو يتحرك صوب الباب ببطء شديد يسلم نفسه للحارس الذي تناسى أنه يقف هناك في انتظاره .
تحرك معه بعيدًا تاركًا تميم يراقبه بأعين مفكرة، وهو يرى أن ذلك الرجل أصبح خطرًا عليه وعلى زوجته وعلى علاقتهما، الأمور تزداد سوءًا هنا والحرب تقترب وخوفه على زوجته يتضاعف ..
اغمض عيونه وهو يضم له جسد برلنت بشكل أقوى يقبل رأسها بحنان هامسًا :
” سيكون كل شيء بخير صغيرتي، اعدك لن ادع شيئًا يمسك بسوء ..”
_____________________
كانت تجلس جوار كهرمان وهي تربت على رأسها بحنان لا تدرك ما يحدث في الخارج حقًا بين الرجال وقد هدأت أصواتهم فجأة وبشكل غريب، شكل جعل أعينها تضيق وهي تفكر في استراق السمع، لكنها تراجعت بسرعة وهي تشعر بغباء ما تفكر به .
عادت مكانها تنظر لكهرمان بشفقة كبيرة تنتظر أن تفيق وهي تفكر في ذلك الذي يجلس في الخارج وتلك الجملة التي اخترقت مسامعها قبل أن يغرق الجميع في الصمت ..
غدًا العيد الوطني.
وهذا يعني أن موعد ذبحها اقترب وهي لن تسمح بذلك أن يحدث طالما هناك أنفاس في صدرها .
كلمات رددتها تبارك داخل صدرها بقوة وقد بدأت أعينها تشد وتنفسها يزداد، هي جاءت هنا رغمًا عنها، تعلمت أمورهم رغمًا عنها، عاشت حياة لم تتمناها في الحقيقة، كل شيء كان دون إرادتها، لكن القادم ….
سيتم وفق إرادتها هي ..وفقط .
في الخارج كان الجميع يتحدث عما سيحدث في العيد الوطني غدًا بأصوات منخفضة، سالار يوضح لهم خطته والباقون يستمعون باهتمام شديد .
” هذا ما فكرت به بالطبع بمساعدة إيفان، فهو من ساهم في وضع النقاط الأخيرة ”
ابتسم له إيفان بسمة صغيرة وهو يشرد في كل شيء سيحدث غدًا وقد بدأ عقله يعرض له صور كثيرة، ورأسه يتحرك في اتجاهات مختلفة .
وصوت أرسلان يصدح بينهما يضيف ببسمة مفتخرة:
” لطالما مثلتما فريقًا حربيًا لا يُستهان به يا رجال، أنتما الاثنان تكملان بعضكما البعض ”
هز سالار رأسه يقول بصدق :
” إيفان ملك بعقل فذ، يستطيع أن يقود البلاد للسلام في احلك الحروب، كما أنه يمكنه إشعال حرب وقتما شاء، هو باختصار ملك ولا يليق المُلك إلا به”
ارتسمت بسمة ساخرة على فم أرسلان وآزار الذي التوت تعابيره بغيظ ليطلق إيفان ضحكات مرتفعة يشير بيده محاولًا تصحيح ما قال سالار :
” هو لا يقصد ما وصل لكما، هو فقط يتحدث عن سفيد بالطبع، لكن مشكى وآبى بالطبع لا ملوك لهما عداكما ”
ابتسم سالار يهز رأسه وهو ينظر لهما :
” هذا صحيح، مشكى لم تحصل على مدى عصورها على ملك مثلك أرسلان والجميع رأى بعيونه كيف تحركت بها من عصور الظلام للنور، وكذلك مملكة آبى التي كانت من أكثر الممالك ضعفًا، الآن تنافس بقوتها أي مملكة وهذا بسبب قيادتك ملك آزار، باختصار الجميع وُجد حيث يجب أن يكون ”
اتسعت بسمة آزار بفخر وهو يرمق ولد شقيقته، قبل أن يربت ازار على اكتاف سالار باستحسان :
” أحسنت يا بني، عقلك هذا حربي بامتياز، تمامًا كخالك، هكذا هم رجال آبى ”
ابتسم سالار بسمة واسعة وهو يستمع لكلمات آزار، ولم يكد يجيبه، حتى أبصر إيفان يضع قدم فوق الأخرى يبدأ حربه المعروفة مع ازار :
” عفوًا ملك آزار، لكن اعتقد أنك نسيت ابن من هو سالار ؟؟ هذا الرجل تسير في أوردته دماء القائد السابق لجيوش سفيد القائد جوبان، لذا ما يحدث الآن هو ناتج تعب واجتهاد قائد جيوشنا، وسالار هو أحد رجال سفيد ابًا عن جد، من أين جئت أنت برجال آبى هذه ؟؟ ”
ابتسم أرسلان وهو يتابع ما يحدث باهتمام شديد هامسًا في أذن سالار :
” ها نحن بدأنا مجددًا ”
تنهد سالار بصوت مرتفع يقول قاطعًا لتلك الحرب قبل أن تبدأ مجددًا :
” نعم صحيح يا خالي أنا بالفعل ورثت عنك قوتك كما فعلت وورثت عن والدي نفس الشيء، أنا محظوظ أنني احمل جينات رائعة من كلا الجانبين، والدتي أميرة آبى ووالدي قائد لجيوش سفيد ”
قال حديثه ببسمة وهو يقمع أي محاولة للتحدث، قبل أن يقول إيفان بقوة ودون أي مزاح :
” وابن عم ملك سفيد السابق، والدك لم يكن مجرد قائد جيوش سالار، بل كان ابن عم والدي، وأحد أفراد الأسرة الحاكمة لسفيد، كان أحد الأمراء العظماء الذين سيخلد التاريخ اسماءهم وذكراهم بأحرف من ذهب يا اخي ”
ابتسم له سالار يهز رأسه هزة صغيرة وهو يحاول تلاشي تلك النقطة التي ستفتح عليه بحار من الذكريات والاوجاع القديمة، وآزار أبصر ذلك ليربت على كتفه قائلًا ببسمة مؤازرة وحنان شديد :
” والدك كان الرجل الوحيد الذي أجبرني على التخلي عن جوهرتي الثمينة وتزويجها له، الوحيد الذي واجهني وجابهني بكل شراسة مطالبًا بها دون اهتمام لشيء، بل ووقف في وجهي يخبرني أنه سيعلنها حربًا عليّ إن اقتضى الأمر فقط ليحصل على عائشة”
صمت يضحك ضحكة صغيرة وهو ينظر لايفان بسخرية :
” و ابن عمه العزيز الذي من المفترض أنه ملك حكيم، كل ما استطاع فعله أنه هز رأسه يقول بكل بساطة أنه سيعطيه كامل جيوش سفيد إن أراد فقط ليحصل ابن عمه على من يريد ”
ضحك سالار وهو يمسح وجهه يتذكر مدى صعوبة حصول والده على والدته، يتذكر كل الحكايات التي كان يقصها عليه ببسمة وهو يرمق والدته بطرف عيونه، يخبره أنه كان سيحارب العالم أجمع ليفوز بأميرته التي حازت قلبه، يومًا ما حينما يعشق هو الآخر عليه بسلب من يريد من فم القدر .
دار سالار بعيونه بين الجميع يراقب بسمات إيفان الحبيب، لازار واحاديثهم التي لم تكن تصل لاذنه البتة، يفكر هل يستطيع أن يفعل كوالده، أن يحارب الجميع لأجل المرأة التي يحب ؟؟
لكن …لكن هو لن يحارب الجميع، بل سيحارب ابن عمه وشقيقه وملكه .
هل سيحارب إيفان لأجل المرأة الوحيدة التي أحب ؟؟
أم هل سيتنازل عنها لأجله، كما تنازل قديمًا عن الحكم لأجله كذلك ؟؟؟
_____________________
هي خطوة… تجرأ وخذها .
يتبع…
ما بين اليقظة والحلم كان .
قويًا كعادته رغم تلك الجروح البارزة في وجهه، بأعين تفيض حنانًا رغم ذلك الخوف والقلق الذي يملؤها، كان كما هو لا شيء تغير به سوى أن الزمان أبى إلا أن يذيقه مرارته ويترك أثره على وجهه، عدا ذلك كان هو، كان أرسلان الحبيب ..
شقيقها الحنون يجلس هنا على فراشها يربت على خصلات شعرها ويحدق في ملامحها بحب، حلم تتمنى ألا ينتهي يومًا، لا تصدق أن الاحلام قد تبدو حقيقية يومًا بهذا الشكل .
تلك اللمسات كما لو أنها واقعًا بالفعل .
أغمضت كهرمان عيونها ببطء تتساقط منها الدموع وهي تحاول التنفس بشكل طبيعي تهمس لنفسها :
” أنتِ بخير كهرمان، لن ينال منك الضعف الآن، ليس الآن”
” وليس أبدًا حبيبتي لن ينال منكِ الضعف طالما حييت وكانت هناك أنفاس بصدري ”
سقطت دموع كهرمان أكثر وبدأت اصوات البكاء تخرج منها وهي تهتف دون وعي وكأنها بحلم :
” آه يا أرسلان، لقد …لقد اشتقت لك يا أخي، لقد تعبت، لقد تعبت اقسم لك، أنا لا أريد أن اخذلك أرسلان، لكنني تعبت يا اخي، تعبت في بعدكم ”
ختمت حديثها تنفجر في بكاء عنيف بصوت مرتفع وهي تنهض عن الفراش تلقى برأسها على قدم أرسلان، تضمها لها وهي تقول كلمات غير مفهومة تكتمها في قدمة .
وهو يشعر بقلبه يرتجف وجعًا لأجل دموعها، أين كانت مدللته الحبيبة وعلى أي حال أصبحت !؟
اغمض عيونه وهو يهتف بصوت هامس :
” ياالله رحمتك ”
رفع أرسلان يده يربت على شعرها وهي تهتز في أحضانه تبكي بعنف شديد تهتف بكلمات مختلطة بشهقات باكية غير مفهومة .
دقائق مرت على هذا الوضع قبل أن ترفع هي رأسها تهتف بجدية :
” أريد الرحيل معك أرسلان، لقد …لقد سئمت من هذه الحياة أخي، خذني معك أتوسل إليك”
ابتسم لها أرسلان بسمة صغيرة يهتف وهو يداعب وجنتها بحنان :
” سوف نرحل سويًا جميلتي، سوف نعود للوطن، قريبًا جدًا وهذا وعدٌ قطعته على نفسي جوهرتي الغالية”
سقطت دموع كهرمان تهمس بصوت منخفض موجوع :
” لقد اشتقت لبلادي، اشتقت لحياتي القديمة أرسلان، مللت تلك الحياة، اشتقت لك ولامي، لا اريد العودة لتلك الحياة التي أحيا بها كعاملة، لا اريد العودة لتلك الحياة الباهتة دونكما، خذني معك ارجوك ”
كان أرسلان يستمع لها وهو يحاول فهم تلك الكلمة التي نطقتها :
” عاملة !! أي عاملة تلك !!”
هزت رأسها تقول بصوت منخفض وعقلها لم يستوعب بعد أنها لا تحلم وأن كل ما يحدث حولها حقيقة وواقع :
” لقد ذهبت لسفيد وعشت هناك كعاملة في القصر اخي و…”
صمتت فجأة حينما اندفعت العديد من الصور لعيونها، صور كثيرة لايامها في القصر، وجميع تلك الصور كانت تحتويه هو، بنظراته الجادة القوية، وبسماته وهدوءه وجديته وكل لفتة كانت تصدر منه، أغمضت عيونها بقوة وهي تفتحها مجددًا ولم تكد تتحدث بكلمة حتى انتفض جسد أرسلان بقوة عن الفراش يهتف بشر وصوت مرتفع :
” إيفان أيها الحـــقيــر ”
تحرك بسرعة خارج الغرفة صارخًا بجنون :
” ايها القذر هل تركت شقيقتي تعمل خادمة في قصرك ايها النذل ؟؟”
فتح الباب بشر وهو يبحث بعيونه عن إيفان الذي تركه مع سالار وآزار وتبارك التي رأت أن تتركه مع شقيقته وحدهما .
كل ذلك تحت نظرات كهرمان المصدومة مما يحدث، تنظر حولها تحاول أن تستوعب أين هي ؟! هل نادى إيفان منذ ثواني ؟؟
انتفضت تلحق به وهي تراه يمسك بثياب إيفان بشر وسالار يحاول أبعاده صارخًا، هل …هل هو حي ؟؟ هل أرسلان حي حقًا ؟؟
لحظة إدراك متأخرة ضربتها وهي تحدق بشقيقها لا ترى في المكان سواه ولا تبصر ما يفعل ولا تدرك ما يحدث، كل ما تراه وتدركه الآن أنه حي …
كان الغضب في تلك اللحظة هو ما يسيطر على صوت أرسلان الذي يصرخ بجنون :
” أنت تركت شقيقتي تعمل خادمة لديك أيها النذل الحقير ؟؟ كان آخر من تبقي لي من عائلتي ولم ترعها ؟؟ هل تلك امانتي التي تركتها في عصمتك يومًا إيفان ؟! ”
تنفس بصوت مرتفع واعين حمراء والقهر يملئ صدره، مدللته الأغلى سُحب منها دلالها وعملت كخادمة في قصر رفيقه ؟!
” لقد أخبرتك يومًا، إن حدث لي شيئًا، فكهرمان وصيتي لك، اوصيتك بها أنت وذلك القذر الآخر، تحدث ”
ختم حديثه ينظر بشر لسالار الذي كان يحاول إبعاده عن إيفان، حتى سمع سبته فتركه يقول بتهكم :
” لعنة الله على الكافرين ”
بينما إيفان يترك له نفسه بهدوء شديد ويهتف ببرود أشد :
” فقط تحدث معي بلسانك وسأتحدث ”
رمقه أرسلان بشر يشدد من جذبه له تحت أعين كهرمان المتسعة بصدمة كبيرة والدنيا تدور حولها حتى أنها كادت تسقط في اغماء آخر…
” يبدو أن شقيقتك عزيزي أرسلان لم تخبرك أنها أحبت ذلك الدور الذي لعبته أسفل سقف قصري ؟! هل أخبرتك أنها لجئت لحمايتي وأنا نبذتها واجبرتها على العمل كعاملة ؟؟”
نظر له أرسلان بعدم فهم فابعد إيفان يده يهتف بضيق :
” شقيقتك لم ترث منك عنادك وغباءك فقط أرسلان، بل ورثت منك نفس الكبرياء اللعين الذي جعلها تدخل القصر كعاملة وتحيا به كعاملة وترفض حتى أن تخبرني أنها شقيقتك ”
ختم حديثه ليستدير أرسلان ببطء صوب كهرمان التي لم تكن تعي ما يحدث حولها، ابتلع أرسلان ريقه يهتف لها بتسائل :
” هل هذا صحيح كهرمان ؟!”
حرّكت كهرمان عيونها له تهتف بصدمة كبيرة :
” أنت….حقيقة ؟؟”
نظر لها أرسلان بعدم فهم لتقترب منه كهرمان تنظر له بحرص خوفًا أن يتلاشى، ثم حدثت في إيفان تسأله برجاء :
” هل ما يحدث حلم ؟؟ أخبرني أنها حقيقة ارجوك ؟!”
سقطت دموعها ليتوجع إيفان لأجلها، يكفيه اصوات بكائها التي أصابته في مقتل منذ دقائق حين كانت بالغرفة مع أرسلان .
تنهد بصوت مرتفع يخفف غصته هاتفًا :
” أرسلان حي سمو الأميرة..”
ارتعشت كهرمان ليمسكها أرسلان وهو يضمها له يهمس بحب شديد وخوف :
” كهرمان عزيزتي، أنا هنا غاليتي، أنا جوارك حبيبتي”
نظرت له كهرمان تهمس بدموع :
” أرسلان ؟؟”
” نعم حبيبتي، هذا أنا أرسلان ”
فجأة ودون مقدمات وللمرة الثانية تنفجر كهرمان في البكاء ليجذب أرسلان رأسها لصدره وهو يقبلها هامسًا :
” لقد انتهى كل شيء، انتهى كل شيء حبيبتي، كل شيء سيصبح بخير الآن”
بكت كهرمان أكثر وهي تهتف بوجع :
” أرسلان، لقد عدت، الحمدلله .. الحمدلله”
سقطت دموع تبارك التي كانت تراقب كل ذلك واعين سالار الذي تحرك لأحد الأركان تراقبها، انعزل عن الجميع يراقب هذا المشهد بهدوء شديد دون أن يبادر بقول كلمة .
جسده كان هنا، وعقله غدًا في الاحتفال الوطني.حيث من المفترض أن يكون يوم نحر قلبه…..
___________________________
كان يتحرك بعيدًا عن السجن وهو لا يرى أمامه، الحياة بدأت تتحول الاسود أمام عيونه في تلك اللحظة .
من المنبوذين ؟؟ واحدة منهم ؟! لا لا ليست واحدة منهم، بل ابنة زعيمهم وشقيقة بافل ؟!
توقفت اقدام دانيار عن التحرك وشعر فجأة بعدم قدرته على أخذ ذرة اكسجين واحدة، قبض على صدره جهة قلبه تحديدًا وهو يحاول التنفس .
” كيف؟؟ كيف حدث كل ذلك ؟؟”
تحرك بشرود لا يشعر بقدمه أين تتحرك أو بعقله فيما يفكر .
كان ما يزال مأسورًا في تلك اللحظة التي سمع بها صوت ذلك الرجل ينطق تلك الكلمات .
ودون أن يشعر وجد نفسه يتوقف في الحديقة التي كان يقابلها فيها يحرك عيونه في المكان بحثًا عن طيفها القديم، طيف تلك الشرسة التي رآها هنا منذ أشهر تتحرك بكل قوة، والتي استمرت على مدار الأيام السابقة في تحديه بشجاعة أعجبته وبشدة ..
أين هي الآن من تلك الصورة التي اقتحمت عقله لفتاة تربت وترعرعت بين فئة لا يستحسن أن يمسهم نعاله…
مسح وجهه يدفن وجهه بين قدمية بعدما ارتكن لإحدى الأشجار يهتف بينه وبين نفسه بكلمات خرجت منه يائسة :
” ربما اخطأت الفهم، ربما …هي …ليست مثلهم، تلك الفتاة التي ..التي علمتها منذ اشهر ليست مثلهم، ولا يمكن أن تكون بمثل تلك الخسة والوضاعة التي يسبح بها هؤلاء الأشخاص القذرين”
انتفض جسده بأمل كبير وقد انتعش داخل صدره شعور أنه ربما أخطأ الفهم، هو سيذهب لها ويعلم منها ما حدث وما يقصد، لن يتركها هذه المرة إلا بعدما تخبره كل ما يتعلق بها وبماضيها ….
وعندها هي ..
وبعد انهيار لحظات وسماعها لأصوات الضحكات الخاصة برجال شقيقها :
” يبدو أنني زدت الأمور سوءًا زمرد صحيح ؟؟”
تحدث آخر بسخرية لاذعة :
” ألم يكن ذلك الرجل يعلم حقيقتك القذرة زمرد ؟! هل أتوهم أم أنكِ بتِ تخجلين من حقيقتك ؟!”
ضحك الاول بصوت أكثر ارتفاعًا وهو يجيب :
” ومنذ متى افتخرت تلك الناكرة للجميل بنا يا صديقي ؟! لكن انظر اليها الأن ؟؟ خسرت كل شيء، خسرت صفنا وصفهم وأضحت منبوذة حقًا ليس اسمًا فقط ”
نهضت زمرد ببطء تحاول أن تتماسك لتغادر ذلك المكان، لكن وقبل تحركها ازدادت الضحكات بشكل جعل عقال صبرها يفلت من بين أناملها لتنقض على القضبان تخرج الخنجر الخاص بها تمسك ثياب الرجل تمنعه من الإبتعاد عن القضبان، تغرز خنجرها في معدته تضغط على أسنانها بقوة هامسة بصوت مرعب :
” ربما انحدر منكم بالفعل، لكنني يومًا لن أصبح مثلكم أبدًا مهما وصلت بوضاعتي وحقارتي، فما لكم من منافس يا رجال ..”
ختمت حديثها تسحب خنجرها من معدته تسلب من فمه صرخات هزت جدران السجن، ثم دفعته بقوة ترمي الباقيين بنظرات مرعبة، ومن بعدها تحركت ركضًا خارج المكان .
وقبل أن تنهي السلم، ابصرته يقف على بدايته وهو ينظر لها بصدمة، بينما هي ابتسمت بسمة صغيرة موجوعة له وقد أدركت أنه رأى ما فعلت منذ ثواني :
” أمل أن يكون ذلك العرض اعجبك سيدي القائد، عرض مبتذل لشجار بعض المنبوذين بين بعضهم البعض ”
صمتت ثم رفعت عيونها له تقول بعدم اهتمام ظاهري :
” على كلٍ لقد انتهيت مما جئت لأجله بالفعل، والآن اعذرني عليّ الرحيل من هنا قبل عودة الجنود لئلا ينتهي بي الأمر في أحد سجون المملكة مع باقي قبيلتي وقومي .”
ابتسمت تتحرك ببساطة من أمام عيونه تاركة إياه يحدق في الفراغ الذي خلفته خلفها بصدمة ولم تعطه حتى فرصة نطق كلمة واحدة ..
أما عنها فبمجرد أن خطت الممر الخارجي حتى أطلقت لساقيها الريح وهي تركض بشكل جنوني تشعر بعدم قدرتها على التنفس وقد بدأت الدموع تتجمع في عيونها مجددًا ..
لحظات هي حتى وجدت نفسها أمام فراشها تلقي جسدها عليه لتنفجر في بكاء عنيف وهي تكتم صرخاتها .
تضغط على العقد الذي تخفيه أسفل ثيابها تهتف بوجع :
” امي.. أين أنتِ ؟؟ ليتك ما رحلتي وتركتني وحيدة”
سقطت دموعها أكثر وهي تزداد في البكاء وصوت والدتها يرن في أذنها وهي تردد لها بعض الآيات لتنام ..
________________
وها هي ليلة مرت على الجميع بكآبة للبعض وترقب للآخر، ليأتي اليوم المرتقب للجميع والذي سيقرر شأن الكثير منهم .
تقف أمام المرآة لا تصدق ما تراه أمامها في هذه اللحظة، كيف وصلت لهنا ؟؟ هي ترى أمامها فتاة تشبهها بكل شيء، لكن للعجب تلك الفتاة كانت ترتدي ثوب زفاف وتضع على وجهها حجاب يخفي ملامحها المزينة، هيئة كانت ستحبها تبارك في حياة أخرى..
ابتسمت تبارك بعدم تصديق وهي تنظر حولها للجميع تطلب منهم تأكيد لما تراه، هل هذه نهايتها ؟! تُزف لمن لا تحب ؟!
ربما في الحياة الأخرى كانت ستحب الزواج من شخص كإيفان، لكن ليس في هذه الحياة، ليس الآن وهي بالفعل تحبه هو، هو دون غيره من يسكن قلبها .
شعرت أن نبضات قلبها تزداد وهي تستدير حولها صوب جميع الفتيات اللواتي كن يساعدنها في التجهز، ودون مقدمات تحركت بسرعة بعيدًا عنهم صوب الباب الخاص بالجناح دون الاهتمام بأي نداء يعلو خلفها وامامها لا ترى طريق سوى طريق غرفته هو .
تتحرك دون توقف وفي عيونها إصرار شديد، هي لن تتزوج إيفان اليوم لن يحدث كل هذا، لن يتم شيء دون إرادتها .
ألم يعلمها سالار طوال تلك الشهور أن تصبح صاحبة قرار وجادة، وها هي ستطبق اول قراراته عليهم .
توقفت أمام جناحه تتنفس بصوت عالي، رفعت يدها تطرق بجنون على باب الجناح، وبعد ثواني من الطرق المستمر فتح هو الباب بغضب شديد، هو منذ الصباح لا يطيق همسة جوار أذنه.
فجأة اتسعت عيونه بصدمة حين أبصرها بفستان زفافها على اعتاب غرفته، ابتلع ريقه يشعر أنه جُنّ لشدة تفكيره بها منذ الأمس .
فتح فمه ينطق بصوت هامس :
” مولاتي …”
” لا أريد الزواج ”
كانت كلمات قاطعة نطقت بها وهي تستند به مستخدمة عيونها، وهو يحدق في وجهها بصدمة وشحوب، الآن وفي هذه اللحظة تعترض ؟؟
قال باستنكار شديد رغم ضربات قلبه التي هللت بسعادة كبيرة وعقله الذي بدأ يرسم خطط عديدة عن كيفية اخذها والهرب بها من المكان بأكمله والاختفاء عن الجميع معها :
” ماذا ؟! ما الذي تقولينه ؟! هل تعلمين ما …”
” نعم أعلم ما اقول، أنا بكل بساطة اود الرحيل من هنا قبل الزواج، لا اريد أن يتم هذا الزواج ”
اشتد جنون سالار من كلماتها تلك رغم حديث قلبه وعقله له الآن:
” أنتِ بالطبع تمزحين معي؟!”
نظرت له بقوة في عيونه :
” لا أفعل، أنا أتحدث بجدية، هل ستساعدني في التملص من هذا الزواج ام أفعل أنا ما قررت له ؟!”
” وما الذي قررتيه يا ترى ؟! ”
نظرت له بإصرار تكرر كلماتها :
” لن تساعدني !!”
” مولاتي ..”
” لن تساعدني ؟!”
ابتلع ريقه وهو يحدق بعيونها طويلًا وشعور قوي بالخيانة ملئ حلقه، هو الآن داخل صدره قد اتخذ قراره، ليُصنف خائنًا لهم، ولا يخونها هي .
وتبارك التي فهمت صمته الطويل بشكل خاطئ هزت رأسها بكل جمود وقوة تتراجع للخلف بظهرها مرددة :
” جيد إذن، سترى بعينيك ما سأفعل، أراك في الزفاف يا …قائد ”
ختمت حديثها تتحرك من أمام عيونه تحت نظرات مدهوشة من سالار الذي صُدم مما فعلت، هل تركته للتو قبل أن يخبرها أنه سيساعدها ؟؟
بل هل نظرت له بتحدي منذ ثواني ؟! تبارك بدأت تتغير بشكل …مخيف .
________________
الكثير من أفراد الشعب كانوا يجتمعون بساحة القصر يهللون ويحتفلون باليوم الوطني للمملكة، مثلهم كباقي الممالك .
ومن النافذة فوق كان يقف إيفان يحدق بهم بأعين ضبابية قليلًا قبل أن يتحرك صوب المرآة يحمل تاجه يرتديه بكل رقي، ومن ثم فتح الابواب يتحرك للخارج وخلفه تحرك بعض الحراس في ممرات القصر يقابل في طريقه العريف الذي ابتسم له بسمة صغيرة ينحني له نصف انحناءة وكذلك فعل مرجان.
هز لهم إيفان رأسه ببسمة صغيرة شبه جامدة، يقابل دانيار الذي كانت ملامحه غير مُفسرة، لكنه أجل الحديث حتى ينتهوا من اليوم الطويل ذاك .
ودانيار فقط ارتدى ثياب الاحتفال الخاصة به يتحرك خلف الملك بهدوء شديد صوب الشرفة التي تطل على الجميع .
في الوقت الذي خرج عليهم تميم والذي ترك برلنت مع مهيار وبعض الحراس لحين انتهاء هذا الاحتفال، وقد بدأت حالتها تثير رعبه، وجنونه يشعر أنه سيُجن إن لم تستيقظ، وقد قرر أنه وبعد انتهاء هذا اليوم سيذهب ليترجاها أن تستيقظ ولن يتحرك حتى تفيق.
وقف إيفان يراقب المكان الذي زُين خصيصًا لأجل زفافه من تبارك والجميع يرتقب، كان المكان أشبه بخيمة من القماش الابيض المطرز بالخيوط الذهبية بها طاولة واريكة وكل ما يلزم لعقد قرآن الملك .
استند ايفان على سور الشرفة وهو يحدق في المكان أمامه يقول بهدوء شديد :
” أين هو سالار ؟؟”
سمع صوت من خلفه يهتف بهدوء شديد :
” هنا مولاي ..”
ابتسم إيفان يستدير له ثم قال بجدية :
” إذن هل نبدأ ؟!”
ورغم ضربات قلبه التي تزايدت مع تلك الكلمة نطق سالار بالتزامن مع اقتراب خطوات تبارك منهم وخلفها زمرد التي اخرجتها بصعوبة من غرفتها وكهرمان التي لا تدرك سبب إصرار تبارك على حضورها وتركها شقيقها، رغم كل ذلك إلا أن سالار نطق بجمود نسبي وصوت واضح للجميع :
” لنبدأ مولاي فالجميع ينتظر وصولكم في الاسفل .”
__________________
عيونها تراقب الانوار الواضحة من بعيد، حيث القصر الخاص بولدها أو بالأحرى الملك الذي تسبب في عزلها عن قصرها .
ابتسمت شهرزاد بسمة غير مستوعبة بعد لما حدث، طفلها الذي ضحت لأجله بالكثيرين يلقي بها بهذا الشكل المخزي ؟! لقد ..لقد خسرت كل شيء لأجله هو، باعت الجميع واشترته .
عند هذه النقطة أطلقت شهرزاد صرخة مرتفع وهي تدفع طاولة زجاجية أمامها تسقطها ارضًا لتتهشم جزيئاتها مصدرة صوتًا صاخبًا ذكرها بصوت مشابه نابع من ماضيها ..
كانت تسير بين طرقات القصر حتى سمعت صوت تحطم جعل رأسها تستدير وهي تنظر لتلك الفتاة التي تساويها عمرًا أو تكبرها بعام لتصرخ في وجهها بجنون :
” أيتها الغبية ما لكِ تتحركين دون وعي ؟! هل تدركين ثمن ما حطمتي الآن ؟!”
نظرت لها الخادمة برعب وهي تحاول الحديث :
” أنا… أنا لم اقصد، اقسم لكِ لم اقصد أن..”
ولأن شهرزاد في هذه اللحظة كانت في أشد حالاتها غضبًا قاطعت كلمات الخادمة بصرخة غاضبة أشد من السابقة :
” وتجادلين أيضًا ؟؟ هل جننتي أيتها الوضيعة؟؟” ”
” شهــــرزاد ”
توقفت شهرزاد عن الحديث بصدمة حين سمعت تلك الصرخة الجهورية والتي جعلت جسدها يرتجف كجميع الأجساد الاخرى استدارت ببطء صوب الخلف وهي تنظر جهة زوجها برعب، بينما الأخير رمى بنظرة للعاملة يأمرها أن ترحل، ثم أشار لها أن تلحق به دون كلمة واحدة ورحل .
هكذا كان ” تقيّ الدين ” يتميز بالجمود والتجبر، رجل مخيف لا يمتلك ذرة لين ومشاعر واحدة في صدره .
أو هي من فشلت في إخراج كل ذلك منه، حتى جاءت أخرى ونجحت فيما فشلت هي به .
تقدمت شهرزاد من جناحهما بارتجاف وهي تهمس بصوت منخفض :
” تقيّ الـ ”
قاطعها صوته الهادئ المخيف بحق وهو يردد :
” كم مرة عليّ أخبارك أن تنتبهي لتصرفاتك مع الجميع ؟! أنتِ هنا الملكة فانتبهي لنفسك وتصرفاتك”
” لقد …لقد فقط كنت …أنا ..”
كانت تبكي مرتجفة تردد بصوت منخفض وهي تفرك كفيها معًا :
” لقد مررت فقط بوقت سييء و…هي …والدتك لقد كانت ..”
صمتت وهي تنظر لملامحه الباردة وهو ينتظر أن تكمل باقي حديثها وبالفعل كان حين قالت :
” لقد كانت تتحدث معي عن الإنجاب و…”
تحرك تقيّ عن مقعده بشكل جعلها تنتفض للخلف رغم أنه فقط نهض ليواجهها، رفع حاجبه بتعجب ولا يدرك حقًا سبب رعبها الكبير منه رغم تلك الأشهر التي مرت على زواجهما ولم يعاملها خلالهما يومًا بشكل سييء .
” لا تتراجعي حين اتقدم لكِ، وتوقفي عن التفكير بأمور هي في الأساس بإرادة الله، الانجاب والأطفال رزق من الله، يرزق به من يشاء ويحرمه من يشاء لحكمة لا يعلمها إلا هو، فلا تسلمي أذنك لأمي ”
كاد يتحرك صوب المرحاض لولا كلماتها التي نطقت بها وهي تقول بصوت مرتجف باكي :
” لقد …لقد أخبرتني أنني سأكون السبب في ضياع الحكم منك ومن ذريتك وسينتقل لعائلة ابن عمك، فهو بالفعل رُزق بصبي منذ أشهر وبهذا يصبح الوريث، وأنت لم …”
نظر لها تقيّ بشر وهو يهمس من بين أسنانه:
” وإن كان ؟! ما دخل النساء بأمور الحكم ؟! إن أردت أنا تخليت عن الحكم لعائلة ابن عمي ولا شأن لكم بما افعل، ثم أنا بالفعل انتوي أن أجعل الحكم لسالار حتى إن رزقني الله بطفل، فحسب القوانين هو الأكبر في الجيل القادم من رجال العائلة وهو من يحب أن يتولى الحكم كما حدث وتوليته أنا لأنني اسبق ابن عمي في العمر، الحكم هنا ليس وراثة، بل استحقاق وقوة، وسالار إن استحقه، اخذه”
ختم حديثه يتحرك بعيدًا عنها تاركًا إياها تراقب ظهره وقلبها ينتفض رعبًا من تلك الفكرة، ليس بعدما عانت كل ذلك يأتي طفلها ليصبح مجرد تابع لابن جوبان، هي لن تأتي بطفلها ليتجرع الذل، الحكم سيكون له ولو رغم أنف زوجها …
استفاقت شهرزاد على حقيقة واقعها، الطفل الذي حاربت القوانين لأجله جاء هو ليحاربها لأجل فتاة، لكن ليس هذه المرة، لن تهدأ حتى تعود لمكانتها ولو كلفها ذلك أن تتحد مع الشيطان …مجددًا .
________________
كان يقف عند سفح الجبل الذي يقبع أعلاه قصر سفيد يقود خلفه جيوش مختلطة ما بين رجاله ورجال حليفه العزيز، يراقب الجبل ببسمة واسعة وهو يهتف :
” هل انتم جاهزون يا رجال ؟!”
ارتفعت الأصوات خلف بافل بتهليل وسعادة وقد قرروا استغلال الاحتفال ليحيلوا المتبقي من ايام شعب سفيد لجحيم :
” جاهزون يا سيدي …”
وفي الاعلى حيث قصر سفيد وفي المكان المخصص للاحتفال بالزواج كانت تتحرك هي بقوة تخفض رأسها ارضًا وخلفها صديقاتها صوب الجزء المخصص لعقد القرآن، وفي عيونها إصرار مخيف .
وسالار يقف خلف مقعد إيفان يراقبها تتهادى صوبهم لتُزف لرجل غيره، شعور جعل يده تتحرك دون شعور صوب السيف الخاص به، وفي هذه اللحظة تحديدًا كان على استعداد تام لاعلانها حرب على الجميع .
وإيفان كان شاردًا لا يبصر في الجميع سواها، تزف له عروسه بيدها، ياللسخرية …
بينما دانيار اختفى الجميع من حوله وهو يراقبها تتجنب النظر له، وفي هذه اللحظة كان لا يدرك شعوره نحوها، شعور مبهم بالفقد والكره لذاته لما فعل، أحب أحدهم .
نطق الشيخ بصوت مرتفع :
” اجتمعنا اليوم جميعًا لنحتفل بعقد قرآن الملك إيفان”
كلمات كان ينطق بها الشيخ وهو يخطب بينهم عن أسس الزواج وغيرها من الأمور التي لم تصل لعقل سالار وهو يراها قد اقتربت بالفعل لتأخذ مكانها مقابل إيفان، الشيء الذي جعله ينتفض وقد فاض صبره وعقد العزم على سلبها من بين الجميع الآن ولو حدثت حرب في هذه اللحظة .
لكن وقبل أن يتحرك خطوة شعر بمن يجذبه بسرعة للخلف مكبلًا إياه بقوة .
نظر بصدمة ليبصر تميم الذي نظر له بدهشة لما سيفعل بينما دانيار جذب يده الأخرى بعيدًا عن الجميع، وسالار يقاومهم بشر :
” ما بكما دعاني، اتركني تميم هذا أمر”
تحدث دانيار برعب من تلك الكارثة الوشيكة وهو يجذب سالار بعيدًا عن المكان لأحد اركان الساحة :
” لا تفعل تميم، يا ويلي ستحدث كارثة، لنبعده من هنا ”
وعند هذه الكلمات شعر سالار بروحه تُسحب، كان يظن أنه يستطيع فعلها والتحمل، لكن لا والله الأمر اصعب من قدرته على التحمل .
المرأة الوحيدة التي أحبها اضاعها بكل غباء .
في هذه اللحظة أزاح سالار العقل جانبًا وهو يندفع بجنون يحاول العودة صوب الجميع لينتزعها من بينهم، لولا دانيار الذي كان ينظر له برجاء :
” ما بك يا قائد، أفق أنا ارجوك، سوف تدمر كل شيء، توقف عن هذا الجنون يا قائد ”
ختم حديثه بصرخة جعلت سالار ينظر له بأعين حمراء بعدما كان يراقب من بعيد موكب الزفاف ليهتف بصوت مرعوب :
” سوف يأخذونها مني، ابتعد عني دانيار، اقسم إن خسرت تبارك لاحطمن البلاد فوق رؤوس من بها، ابتعد عن طريقي ”
صرخ به دانيار بجنون وهو يدفع للجدار يمنعه عن أي فعل قد يدمر حياته ويؤدي به إلى حتفه :
” الآن وقد ضاعت منك، أفقت الآن ؟؟ هل تمازحني ؟!”
نظر له سالار وهو يردد بلهفة ورعب من تلك الفكرة :
” ستضيع مني دانيار، اتركني، ابتعد، ابتعد تميم، دعاني ارحل ”
وللعجب ابتعد عنه تميم بشكل جعل أعين دانيار تتسع وهو يصرخ فيه :
” ما الذي تفعله أنت تميم؟! هل جننت ؟!”
دعه يذهب دانيار لا يمكنك أن تكون انانيًا بهذا الشكل وتحرم القائد من المرأة الوحيدة التي أحب”
صرخ به دانيار بجنون وهو يحاول السيطرة على سالار الذي كان يود الاندفاع صوب الجميع كرجل كهف يختطف امرأته من بينهم .
” اناني ؟؟ أيها الغبي إن فعل القائد ما يريده سيكون بمثابة خيانة وسيُحاكم عليها وقد تضيع حياته ”
كانت يتحدث وهو يحاول أن يعيد لتميم عقله، لكن الأخير كان يدرك شعور أن تفقد الشخص الذي تحب:
” حينها سيكون مرتاحًا على الأقل، لا تجبره على الموت حيًا دانيار، توقف عن الأنانية ”
نظر له دانيار بصدمة وقبل أن يتحدث أحدهم بكلمة ارتفعت أصوات صرخات قوية آتية من الساحة جعلت جميع الأعين تتحرك صوبها لتتسع بصدمة حين أبصروا النيران التي بدأت تلتهم المكان بمن فيه وخاصة..موكب الزفاف الذي تقبع هي به .
وصرخته الهلعة تلاشت بين الصرخات الأخرى وهو ينادي اسمها كالمجنون .
” تـــــبــارك ”
عند تبارك كانت تسمع كلمات الشيخ وهي تنظر حولها تتحسس ذلك الخنجر الذي أخذته من زمرد وهي ترى تحفز جسد زمرد التي تخفي بين ثيابها سيفها .
زمرد العزيزة التي أبت أن تُسجن تبارك وحدها لمخالفة القوانين فاقسمت على المحاربة معها لأجل حبها، وكهرمان التي لا تدرك شيئًا كانت تحاول التحلي بالجمود والصبر .
قررت الاعتراض وإن فشلت ستنتفض .
نظرت تبارك لزمرد نظرة جانبية لتبتسم الأخيرة وهي تردد داخل صدرها ( إن لم أستطع أنا الفوز بحبي، فلأساعد تبارك وكهرمان على الأقل لفعل ذلك )
وفي ثواني كانت تبارك تصرخ بصوت مرتفع :
” توقف يا عم لـ …”
وقبل أن تكمل كلماتها التي جذبت جميع الأنظار لها، أبصر الجميع قذائف نارية تسقط فوق رؤوسهم بشكل مرعب جعل الصرخات تعلو بشكل مخيف والجميع يتفرق هلعين .
فتحت زمرد فمها بصدمة وهي تعود للخلف بريبة قبل أن تركض صارخة :
” اركضوا جميعـــًا ”
انتشر الجميع وتفرقوا، بينما أنتفض جسد إيفان يلقي عن اكتافه العباءة وهو يستل سيفه صارخًا بصوت جهوري :
” كلٌ لمكانه …احملوا الأسلحة .”
ختم حديثه وهو يرى بالفعل أفراد شعبه حوله وقد اخرجوا أسلحتهم، والذين كانوا في الأساس من جنوده حسب خطته ..
أشار للجميع وهو يركض بين الطرقات صارخًا بهم أن يتخذوا ساترًا لهم :
” ليتحرك كلٌ لمكانه، أمنوا النساء، الملكة والجميع أمنوا النساء ”
كان يصرخ وهو يحرك نظراته بين الجميع ليبصر فجأة قذيفة تتحرك صوب الموكب بشكل مرعب جعله يصرخ بصوت مرتفع وهو يرى تبارك التي تجاهد للتحرك بفستانها .
لحظات هي علت بها صرخات زمرد و كهرمان باسم تبارك وصدمة إيفان الذي ما كاد يتقدم خطوة واحدة صوبها حتى أبصر سالار يركض لها بلهفة ارعبته، ينطق اسمها بنبرة جمدته ارضًا ..
وسالار الذي كان يركض صوب تبارك التقط جسدها بسرعة كبيرة يجذبها بعيدًا عن الأعمدة التي تحمل أفرع الزينة المحترقة والتي بدأت تتساقط على الجميع، جذبها بسرعة قبل انهيار أحد الأعمدة عليها وهي التي ظلت مصدومة لا تستطيع التحرك خطوة بعدما شلها الفزع .
شعرت بيد تلتف حول خصرها تجذبها للخلف بلهفة، حتى أنهما سقطا ارضًا يزحف ذلك الشخص بها للخلف..
وصوت يردد كلمات غير مفهومة لها في هذه اللحظات، فقط كل ما تراه هو العمود الخشبي المشتعل الذي كاد يسقط فوقها وأصوات الصرخات حولها وتلك اليد التي تجذبها لصدر صلب والرائحة التي تألفها، والصوت الهامس لها .
” أنتِ بخير، أنتِ بخير، لن أتركك، لن أفعل، أنتِ بخير عزيزتي، لا تقلقي ”
كانت تبارك في هذه اللحظة لا تعي سوى أنها بين أحضانه يضمها له بحنان، وبعد تلك اللحظات التي كانت قاسية على اعصابها، وما رأته الآن، شعرت واخيرًا بالراحة تتسرب لها وهي تهمس دون وعي :
” سالار ”
هتف سالار بصوت مرتجف وهو يحاول أن يطمئن قلبه أنه لم يفقدها ويده ترتعش بعدم استقرار لما عاشه :
” حياته أنتِ تبارك ”
وهذه الكلمات كانت أكثر من كافية لها لتبتسم وهي تترك لعقلها واخيرًا حرية التوقف عن العمل وتسقط في اغماءة سريعة جعلت أعين سالار تتسع برعب وهو يهزها :
” يا ويلي تبارك، تبارك ما بكِ، هل أنتِ بخير ؟؟ ارجوكِ لا تفعلي هذا بي، تبارك أنا آسف، اقسم أنني ما كنت لاسمح لهم باخذك مني، أنا آسف ارجوكِ ”
كان يهزها برفق يترجاها أن تستيقظ، ولم يشعر سوى بمن يسحبها منه، وقبل أن يصرخ معترضًا حدجه إيفان بنظرة قوية صارخًا في وجهه :
” قم وأحمل سيفك سالار ودع تبارك لهم ليعالجوها ”
نظر سالار صوب كهرمان وزمرد اللتين حملتا تبارك متحركتين صوب المشفى، بينما هو يجلس ارضًا بصدمة مما حدث كان كمن تجمد، ولم ير سوى سيف أُلقي أمامه وصوت إيفان خرج منه غاضبًا ساخرًا :
” أحمل سيفك وقم يا قائد، الحرب لن تنتظر أن تلملم شتات نفسك ”
رفع له سالار عيونه بصدمة مما حدث منذ ثواني، كيف حدث كل هذا له، اغمض عيونه بقوة يحاول تمالك نفسه، يستغفر ربه يحتقر ذاته، قبل أن يمد يده ويمسك السيف بقوة يفتح عيونه بشكل مرعب ينهض وهو ينفض ثيابه يتحرك لصفوف الجيش المجهزة مسبقًا يهتف بصوت قوي مرتفع بينهم :
” هذه حربـكم، وارضكم، وانتم هنا اليد العليا، اروهم كيف يحارب الرجال يا قوم، لا أريد أن يبصر هؤلاء القذرين شيئًا عدا الجحيم، اجعلوا سفيد مقبرة تضم أجسادهم العفنة، ولا تأخذكم بهم رأفة….”
ختم تلك الكلمات وهو يقف أمام بوابة سفيد وقد تجمع خلفه الكتيبة الاولى بقيادته يصرخ في حراس الابواب :
” افتحــوا الابـــواب ..”
وبالفعل فُتحت الابواب الخاصة بقلعة سفيد ليظهر من خلفها بافل ورجاله والذي ابتسم يقول بشكل مقزز :
” مرحبًا بسالار العزيز ..”
بادله سالار البسمة يرفعه سيفه عاليًا معلنًا بذلك بدء الحرب وهو يردد بصوت ساخر :
” أخبرتك أنه القائد سالار بالنسبة لك، يبدو أنك من ذلك النوع الغبي بافل، لا تفهم الحديث إلا حينما يتبعه صفعة، وهذه الصفعة أنا من سيرميك بها ….”
_____________________
كانت تحمل تبارك بمساعدة كهرمان والتي كانت ترتجف برعب مما يحدث في الخارج تناجي ربها وتنادي شقيقها..
وصل الجميع للمشفى وبمجرد أن وضعوا تبارك على الفراش تحركت زمرد بسرعة مرعبة للخارج جعلت كهرمان تمسك يدها وهي تصرخ باكية :
” إلى أين ؟! لا تتحركي من هنا، لقد …لقد سمعت الجنود المرابطين في الابراج يقولون أن بافل هو من يقود الجيوش في الخارج، لا تتحركي زمرد ابقي هنا”
نظرت لها زمرد بأعين حمراء وغضب تغلب على قهرها تصرخ بصوت هائج وهي تبعد يد كهرمان عنها دون اهتمام :
” لهذا بالتحديد سأخرج، لن اقف هنا مقيدة بينما أحدهم في الخارج يقتل ذلك القذر، بافل لي أنا، أنا فقط من يحق له قتله، ليس بعد كل تلك السنوات يموت بهذا الشكل، ليس دون أن انتقم لروح والدتي”
ختمت حديثها تركض بسرعة كبيرة تاركة كهرمان تحدق في أثرها بصدمة جعلت جسدها ينتفض راكضة خلفها وهي تصرخ بصوت مرتفع :
” لا زمرد، لا تفعلي، ارجوكِ لا تفعليها زمرد ”
لكن زمرد في تلك اللحظة كانت بالفعل في طريقها للخارج تنتزع سيفها تتحرك بين الجميع دون الاهتمام بإمكانية موتها والتي كانت كبيرة للحق، فهذا ليس شجار بين أفراد عشيرتها والذي كانت تخرج منه مدمرة بالمناسبة، بل هذه حرب رجال فقط، وهي لا مكان لها بها، لكنها أخذت على نفسها عهدًا قديمًا، والآن فقط ستنفذه، موت بافل على يديها ..
في الساحة تحول أفراد الشعب الذين جاءوا لحضور زفاف الملك والعيد الوطني، لجنود مسلحين في ثواني معدودة حسب خطة إيفان.
فبعدما نشروا في المملكة اكملها أن العيد في موعده وتأكدوا أن الأخبار وصلت لبافل، نشر إيفان جنود لأسر المتبقي من المنبوذين بين الشعب وأعلن بشكل طارئ توقف تجهيزات العيد بشكل ظاهري، وفي الداخل رتب هو لاحتفال خاص به وبجنوده كمصيدة لهم .
وها هم يحتفلون به مع رجال بافل، وأعوانه .
كان بافل يرابط أمام باب القصر وخلفه الآلاف الرجال الذين يحملون أسلحة حازوا عليها بالسرقة والخديعة، وخلف هؤلاء الرجال الذين سيستخدمهم كمجرد إلهاء حتى يفسح الطريق، رجال آخرون أشداء مُدربون على تلك الحروب ينتظرون أن تنتشر الفوضى ليفرضوا سيطرتهم على المكان، خطة استخدمها بافل سابقًا مع مشكى والآن مع سفيد، والوقت واحد، في مشكى داهمهم في صلاة الفجر وفي سفيد ها هو يدق أبوابهم يوم عيدهم الوطني .
وبالفعل بمجرد أن فُتحت الابواب كان هو مبتسمًا ينتظر أن يرى الدمار يعم المكان والتشتت عنوانهم، لكن ما حدث هو أنه لم يقابل سوى جيش يقوده سالار .
ورغم صدمة بافل الكبرى في هذه اللحظة إلا أنه تداركها يقول ببسمة واسعة :
” مرحبًا بسالار العزيز ..”
فوق القصر كان يقف دانيار وهو ينظر صوب بافل ورجاله بأعين مخيفة يحمل سهامه وخلفه جزء من جيش الرماة الخاص به، وعلى المبنى المقابل له باقي الجيش .
يحدق بوجه بافل الذي يظهر له ضبابي لبعد المسافة بينهما، لكنه كان يراه بشكل جيد، وسؤال يدور داخل عقله، ترى هل تشبهه هي ؟؟
كان يبحث دون إرادة في ذلك الرجل المقيت عن أي علاقة بينهما والنتيجة لا شيء، لا شيء في هذا الخسيس يمت لزمردته بصلة ..
في الاسفل تحرك بخطوات هادئة يتقدم من مقدمة الجيش يقف جوار سالار الذي كانت ملامحه لا توحي بشيء، وبافل ينتظر منهم إشارة البداية .
ابتسم إيفان يقول بهدوء :
” أوه هذا بافل هنا في قصري ؟؟ يا ويلي ما هذه المفاجأة ؟! غير متوقعة بالمرة ”
رفع بافل حاجبه بسخرية وهو يرمق الرجال الذين احاطوا به والجيوش التي تتوسط المباني في الأعلى ثم قال :
” حقًا، كل هذا وغير متوقع ؟! ماذا إن توقعت مجيئ ؟!”
ابتسم له إيفان يجيب بهدوء شديد وهو يحرك سيفه بين قبضته :
” ما هذا السؤال بافل ؟؟ إن توقعت ما كنت لادع قدمك تلك تلوث تراب سفيد ”
شعر بافل بالغضب من حديث إيفان، لكنه لم يعلق عليه وقال دون مقدمات :
” لا بأس في المستقبل ستعتاد سفيد على تلك الاقدام التي ستخطوها يوميًا بعدما تصبح لي ”
أطلق إيفان ضحكات صاخبة رنت في المكان بأكمله وهو ينظر حوله لجنوده الذين كانوا ينتظرون كلمة واحدة منه :
” أنت ومن يا ترى ؟! جيش الخراف الذي تقوده ؟!”
” لا تستهن بعدوك إيفان فهذا العدو هو نفسه من أسقط رفيقك ودهسه أسفل أقدامه وكان ذلك مجرد فرقة إصبع فقط ”
ابتسم له إيفان بسمة جانبية وهو يقول بصوت متسائل :
” أتلمح بحديثك هذا لارسلان ؟؟”
ابتسم له بافل بسمة مقيتة، بينما إيفان نظر صوب سالار يقول بتسائل :
” ما هذا الحديث سالار ؟؟ هل أخبرك أرسلان بشيء من هذا القبيل ؟؟ أي اقدام تلك التي دهسه الحقير أسفلها ؟!”
ابتسم له سالار يقول بهدوء شديد :
” لا مولاي لم يذكر المرحوم أرسلان أي شيء بخصوص اقدام بافل عدا أنه ترك له ذكرى لا تُمحى على مقدمة ساقه اليسرى ”
ختم سالار حديثه يميل بعض الشيء وهو ينظر لساق بافل وكأنه يبحث عن ذلك الأثر بالفعل، و بافل يسمع هذا الحديث وهو لا يفهم شيئًا، احاديث تدور حوله لا يدرك مقصدهم بها :
” وكيف سيخبركم رفيقكم ما حدث له على يدي وهو قد تبخرت عظامه ؟!”
اتسعت بسمة إيفان بشكل جعل بافل يخشى القادم، وقد كان محقًا في خوفه ذلك إذ قال إيفان بصوت قوي :
” أتقصد الملك أرسلان الذي يتوسط عرش مشكى في اللحظة التي اتحدث أنا بها لك الآن ؟! ”
انتفض جسد بافل بشكل قوي ورجاله حوله قد بدأوا يتهامسون بعدم فهم ولا أحد في الواقفين يدرك ما يحدث في هذه اللحظة .
بينما إيفان لم يوضح لهم شيئًا وهو يخرج سيفه من غمده بقوة جعلت جميع الرجال خلفه يفعلون المثل وهم يخرجون سيوفهم كذلك وصوت سالار يهتف بينهم بصوت جهوري :
” هذا الحقير جاء بلادكم مُغير تسبقه نيته السيئة، فماذا أنتم فاعلون يا رجال ؟!”
ارتفعت أصوات الرجال الجهورية والصيحات القوية التي تسببت في تراجع اقدام بافل بشكل تلقائي للخلف وهو يرمقهم بريبة يهتف لهم محاولًا الثبات :
” إن ظننتم أنني سأكون لقمة سائغة في افواهكم، فاللعنة عليكم أجمعين، أنا جئتكم اليوم قاتلًا أو مقتولًا ”
أخرج سالار سيفه بسرعة وهو يقول بسخرية :
” الخيار الثاني سيكون مناسبًا لي اكثر”
ابتسم لهم بافل وهو يقول بصوت ساخر قوي ولم يتنحى كبرياؤه بعد عن الساحة :
” إن ظننتم أنني جئتكم اليوم دون تخطيط فأنتم مخطئون، أنا جئت اليوم لسفيد ولن أرحل عنها إلا عندما تكون لي ولرجالي ”
صحح له إيفان بهدوء وهو يحرك إصبعه في الهواء ببساطة :
” تصحيح، تقصد رجال الملك آزار وبعض الذكور من جانبك ”
وبمجرد أن ختم إيفان حديثه بدأ الرجال الحلفاء لبافل والذين كانوا يحتلون مؤخرة جيشه يرفعون أسلحتهم على بافل ورجاله، ليصبحوا بين المطرقة والسندان .
اتسعت أعين بافل بصدمة وهو يرى انقلاب الجنود عليه وقد بدأت ضربات قلبه تتباطؤ بشكل مخيف حين سمع صوتًا يهتف من الخلف :
” مالك ورجالي بافل ؟؟ إن أردت أخذ شيء فخذه بنفسك وتوقف عن الزج برجال مملكتي في مشاكلك كما فعلت سابقًا بموافقة ذلك الحقير الذي وضع يده في يدك ”
نظر بافل صوب آزار والذي كان يتقدم منهم بهامته المرتفعة وهو يرتدي ثوب الحرب يحمل سيوفه في حزامه يحيط به رجاله .
وحين وصل صوب إيفان ابتسم يقول :
” عيبٌ عليك بافل، تستغل سذاجة بني وتسحبه لصفك ؟؟ هل ظننت من كل عقلك أن نزار يمتلك سيطرة على جيشي أكثر مني ؟؟ ”
كان بافل في هذه اللحظات لا يعي ما يقال أمامه لتعلو صرخة آزار الذي تلقى ضربته الموجعة حين اكتشف أن من وضع يده في يد بافل ودمر مملكة مشكى واسقطها هو نفسه نزار ابنه وبعضٌ من جنوده القذرين .
” هل تعتقد أنني سأسمح لكم أن تلوثوا اسم آبى بقذارتكما تلك ؟! تبًا لك وله واللعنة عليكما سويًا، ليس آزار من يرتبط حرف من أحرف اسمه بكما، حتى وإن كان ذلك الرابط هو ولي عهده الوحيد ”
ختم حديثه بملامح محتدة ودماؤه تتحرك داخل أوردته بشراسة لا يرى أمامه، منذ اكتشافه لما حدث وللفساد الذي كان يعم مملكته بسبب ولده وهو يشعر بالغضب، ولده الذي كان يفرض على الشعب ضرائب ويصعب عليهم حياتهم تحت اسمه، بل وطعنه في ظهره وتعاون مع ذلك الحقير لإسقاط مملكة رفيقه وحاول قتل ابن رفيقه .
أخرج آزار سيفه وهو يصرخ :
” أنت وذلك القذر ستنالون نفس المصير ”
تراجع بافل للخلف وهو يشعر بأن نهايته اقتربت وبشدة، الرجال خلفه لن يحمونه في هذه اللحظة، هو يدرك جيدًا أنهم الآن يرتجفون أكثر منه .
” وهل تظن أنني اخافك أنت ومن معك آزار ؟؟ لم يولد بعد من يتحدى بافل ”
ختم بافل حديثه يسحب السيف لتشتعل الحرب في لحظات حتى أن الجميع لم يبصروا ما حدث، فجأة التحم الجيشان بشكل مخيف، وذلك كان فرصة له لينفذ خطته المتبعة في مثل هذه الحروب منذ قديم الزمان، خطة اعتمدها بافل هو ووالده حينما كانت جيوشهم الضعيفة تلتحم في حرب خاسرة مع جيوش الممالك، ألا وهي محاولة التلاشي بين الجميع والهرب، ونجح ذلك مئات المرات، لكن كيف الآن وجميع الأعين كانت تحلق حوله هو تحديدًا، خاصة عيونها هي والتي كانت تنتظر فرصتها لتشفي صدرها ……
________________________
ابتسم وهو يتحرك يقف أمام القصر وخلفه عدد الرجال الذين جمعهم منذ أيام .
المعتصم يتقدم رجال مشكى يتحركون صوب القصر بكل قوة، يحملون السيوف التي دخلت لهم عن طريق حدودهم مع سفيد، الجميع يلتمع في عيونه الاصرار والغضب .
واخيرًا وصلوا لبوابة القصر ليتوقفوا خلف المعتصم الذي هتف بصوت قوي :
” ها هي بوابتكم للتحرر من هؤلاء القذرين يا رجال، إن فاقوكم عددًا، فقتوهم قوة وإيمانًا، الله أكبر”
وبهذه الكلمة أشعل المعتصم النيران داخل صدور الشعب ليندفع الجميع صوب القصر كالسيل الجارف يزيحون من أمامهم، والذين كانوا اعدادًا لا يُستهان بهم، تركهم بافل ليحموا عرشه الذي سلبه بصعوبة من فك أرسلان.
والآن جاءوا هم ليعيدوا العرش .
كان رجال بافل يقفون أمام البوابة يحمونها وهم ينتظرون عودة جيش بافل منتصرًا يتضاحكون ويسخرون، لكن فجأة علت أصوات صاخبة مهللة تقترب منهم، نظر الجميع صوب تلك الأصوات لتتسع الأعين صدمة مما رأوا حتى أن أحدهم همس بارتجاف :
” يا ويلي، هل هذه القيامة ؟!”
انطلقت الصيحات رجال مشكى بالتكبير وهم يركضون صوبهم بشكل جعل أحد الرجال يلقي السيف ارضًا وهو يراقبهم بأعين متسعة .
كان مظهر الرجال ورغم أنهم مجرد رجال مسالمون وليسوا رجال حرب، إلا أن ركضهم بهذا الشكل جعل عقيدتهم الواهنة تهتز واحدهم يهتف برعب :
” حرب، الحرب …هذه حرب، جيوش الممالك الأخرى تهجم علينا، احتموا بالقعلة بسرعة ”
كان الغضب يحرك رجال مشكى، جثث ذويهم ورماد منازل، صرخات الصغار ونحيب النساء وقلة حيلة الكبار كانت تلوح أمامهم .
حتى أن دموع أحد الرجال سقطت وهو يهبط في رأس أحدهم بالسيف صارخًا بقهر :
” هذه لأجل زوجتي ورضيعي ”
والصغير تاج الدين الذي أبصر استشهاد والده وشقيقته أمام عيونه، كان يحمل سيفًا يفوقه حجمًا يصيب به من تصل له يده دون أن يهتم باحتمالية موته، طالما سينال قصاص عائلته .
كان الحقد والغضب في أعين الرجال مرعب، مرعب بحق، كان الأمر أشبه بحبسك لعشيرة اسود في أقفاص وقتلك اشبالهم على مرأى ومسمع منهم لاطمئنانك أن القضبان تحميك، وفجأة وعلى حين غرة منك تُفتح الابواب لينقضوا عليك ..
والخوف يا عزيزي كان المايسترو الاول للأخطاء، فها هو الرعب يحرك رجال بافل صوب الخطأ، إذ فتحوا الابواب ليحتموا بالقلعة وأعطوا لشعب مشكى الفرصة لدخول القلعة كذلك واندفعوا للداخل بشكل جعل بعض الرجال يحاولون تدارك الأمر، سارعوا يغلقون الابواب، لكن وقبل أن تنغلق اتسعت أعين أحدهم وهو يصرخ بهاع متراجعًا للخلف صارخًا :
” شبح …شبح .”
نظر له رفاقه برعب واحدهم يصرخ به :
” أيها الحقير تعال واغلق معنا الباب، أي شبح هذا الذي تتحدث عنه، نحن من سنصبح اشباحًا إن لم تسارع وتساعدنا ”
لكن الرجل كانت عيونه معلقة بتلك الفتحة الصغيرة في بوابة القصر والتي كانت تظهر له من خلف أجساد الرجال فرس يهرول صوبهم يحمل فوق ظهره فارسًا مشهرًا سيفه وفي عيونه تلتمع قوة جعلته يرتجف وهو يهمس :
” هذا …هذا أرسلان ”
كان يتحدث مشيرًا للخارج لتلتفت جميع الأعين صوب المكان الذي أشار إليه، وعلت الصدمة أعين جميع الرجال وخاصة رجال مشكى الذين صرخوا باسمه وقد ظن البعض منهم أن روح الملك جاءت لتساندهم في القتال..
إذ كان ملكهم يتقدم جيش ضخم من الرجال الأشداء، جيش سبز الذي يقودهم بارق خلف أرسلان، بعدما ذهب آزار بجيشه لمساندة سفيد .
صرخ بارق بصوت جهوري :
” خذوا قصاصكم من هؤلاء القذرين يا رجال ”
و أرسلان رفع سيفه يهتف لهم بصوت مرعب رنّ صداه في المكان :
” مرحبًا بكم في جحيمي يا أوساخ…”
___________________
كانت فكرة هروبه ممكنة بالفعل وقد كاد ينجح ويتسلل من بين جنوده لينجو بجسده وروحه، لولا صوتها الذي اخترق مسامعه وهي تمسك به على أطراف القلعة قبل الهروب تجذبه بعيدًا عن حصانه مسقطة إياه ارضًا بغضب شديد صارخة :
” مرحبًا يا أخي، هل اشتقت لي ؟؟”
تجمد جسد بافل وهو يستدير ببطء صوب الخلف ليراها تقف وهي تحمل سيفها، كما هي لم تتغير مقدار شعرة واحدة، نفس وقفتها ونفس طريقة حملها للسيف، ابتسم بسمة جانبية يقول :
” لا تخبريني أنكِ جئتِ هنا لتنقذي شقيقك المسكين من هذا العالم؟!”
” بل جئت لانقذ العالم من شقيقي المسكين بافل ”
رفع بافل حاجبه يقول بسخرية لاذعة :
” فشل الجميع في مسي بخدشٍ وأنتِ هي من ستفعل ؟! حقًا زمرد ؟! ”
” ما رأيك أن نجرب ؟! ”
نظر لها بافل طويلًا قبل أن يبتسم باستهانة يستدير ليكمل هروبه صوب أي حصان قد يحمله بعيدًا عن تلك المعمعة :
” لا لست متفرغًا لالعابك تلك زمرد، اذهبي واكملي اختبائك عند هؤلاء القوم، واحرصي ألا تظهري في وجهي مجددًا فالمرة القادمة لن تنجي من بين قبضتي ”
وما كاد يخطو خطوة إضافية حتى شعر فجأة بضربة تصيب ظهره، أطلق صرخة مرتفعة يستدير صوبها بصدمة ليرى في عيونها إصرار مخيف جعله يخرج سيفه وهو يصرخ بجنون :
” سأقتلك … سأقتلك أيتها الوسخة يا ابنة الساقطة”
ختم حديثه يتحرك صوبها بقوة مرعبة، يصرخ بصوت مرتفع وهي رفعت سيفها تصد ضرباته تهتف من أسفل أسنانها :
” هذه المرأة كانت أشرف من عشيرتك بأكملها يا حقير، اقسم أن نهايتك على يدي ”
ابتسم لها بافل وهو يقول بصوت خافت يقترب منها :
” كنت أود أن ارحمك مني اليوم، لكن يبدو أنكِ تتعجلين نهايتك زمرد ”
انتهى يرفع قدمه فجأة يضربها بها في معدتها بشكل جعل جسدها يندفع بقوة للخلف مصطدمًا في جدار القلعة لتعلو صرخة زمرد التي لم تتوقع ما فعل .
رفعت رأسها بسرعة لتتحدث لكن توقفت كلماتها حين هبط هو بقبضة السيف على رأسها متسببًا في سقوطها ارضًا .
غدّار، وما يليق الغدر بسواه، المرة الأولى التي تتغافل هي عن الغدر مع سيد الغدر وها هي تلقت عقابها، سقطت دموع زمرد مختلطة بدمائها وصوت بافل جوارها يهمس بشر :
” قذرة تمامًا كوالدتك، لولا أن والدي كان يحب ترويض المهور الشرسة ما جئتِ أنتِ لهذه الحياة، أنتِ الخطأ الأكبر الذي ارتكبه أبي، ليتني قتلتك منذ لحظة ولادتك الاولى واتبعت والدتك الفاسقة بكِ يا وسخة ”
سقطت دموع زمرد وهي ترى نهايتها ووالدتها تضمها وهي تهمس لها أنها اطهر من الجميع هنا، هي اطهرهم وانقاهم، هي أفضلهم واكثرهم طيبة، هي اقواهم .
” ربما هم اليد العليا هنا يا ابنتي، ربما تعالى ذاك القذر الذي يسمى والدك، لكن فوق كل كبير هناك من هو أكبر وفوق الجميع الله أكبر، فلا تظني يومًا أنهم قد يتعالون في هذه الأرض دون رد من الله إنما يؤخرهم ليوم تشخص به الأبصار، ويل للمنبوذين من يوم تجتمع فيه الخصوم، والله لأكونن خصيمة هذا الشعب فرد فرد، موعدنا يوم المحشر، الله حسبي ووكيلي ”
سقطت دموع زمرد بقوة وهي تشعر أن القصاص الوحيد الذي قد تناله سيكون يوم تنال والدتها القصاص من الله، لن تناله في هذه الحياة، لقد غرتها الحياة واقنعتها قوتها الواهية أنها قد تنافس الرجال قوة .
فجأة سمعت صوت ضحكات بافل المرتفعة وهو ينهض يقف على قدميه يهمس لها. :
” أتدرين الشيء الوحيد الذي ورثتيه عن والدتك كان جمالك الشرس هذا، لكن القوة هي تفوقك بها، يا ويلي كانت جميلة بشكل يغوي القديس لا عجب أن والدي سقط لها وأبى قتلها يوم مقتل زوجها ”
رفعت زمرد عيونها له بصدمة من تلك الكلمات القذرة وهو فقط رفع سيفه لا يهتم لتلك النظرات، يريها مقدار الشر في عيونه والحقد ولم يكد يهبط بضربته فوق ظهرها حتى ارتفع صوت قنابل مرعب في المكان جعل جسده يتدحرج للخلف بشكل أعطاها الفرصة لتمسك سيفها وتنهض بسرعة .
كان السقوط هذه المرة من نصيب بافل، نظرت له زمرد من الاعلى وهي تهمس بصوت منخفض :
” أتدري أن الشيء الوحيد الذي أصاب به أقذر والدك هو تسميتك ببافل ؟؟ نعم أنت حقًا بافل ولايليق بسواك أن يكون بافل أنت الوحيد الذي يليق به أن يكون صغير حقير قذر ”
وبهذه الكلمات ختمت زمرد حديثها لتهبط بالسيف فوق جسد بافل مصيبة إياه بجرح انطلقت على إثره صرخة تلاشت بين اصوات القنابل .
ابتسمت بسعادة وقد انتفض صدرها احتفالًا بما يحدث ولم تكد تهبط بالضرب الثانية حتى شعرت هي بتلقي ضربة من الخلف اتسعت على إثرها عيونها، استدارت ببطء تبصر الصغير شقيق بافل والذي تسلل خلف شقيقه للهرب فابصر ما يحدث .
تحركت عيون زمرد للاسفل تحاول أن تتماسك لكن ذلك الوجع الذي أصابها لم تتحمله ليسقط جسدها ارضًا بقوة وكان آخر ما ابصرته هروب بافل بمساعدة شقيقه ….
_______________________
في طرف القصر الآخر كان تميم يقف يراقب ما يحدث مبتسمًا فدوره في هذه الحروب كان زرع القنابل في أماكن الخروج الجانبية لمنع هروب أي قذر منهم، وقد نجحت تلك الخطوة فبمجرد اقتراب أحدهم من باب جانبي كانت القنابل تنفجر بهم أجمعين..
الأمر كان أشبه بمذبحة وتطهير عرقي لهؤلاء القذرين اجمعين .
حرك تميم القنبلة بين أنامله وهو يبتسم بسمة متسعة، ثم تحرك بعيدًا عن الجميع يطمئن أن كل شيء أصبح بخير، لكن وقبل تحركه عن مكانه جوار البوابات الجانبية تفاجئ لرؤيته جسد متكوم ارضًا، رفع حاجبه محاولًا رؤية ما يقبع في ذلك الركن، تحرك ببطء يخرج سيفه بتحفز شديد قبل أن يتوقف أمام ذلك الجسد متسع الأعين هامسًا بصدمة :
” أليست هذه هي نفسها صديقة برلنت ؟؟ ”
صمت يحاول تذكر اسمها، لكن حالتها التي ابصرها منعته من مواصلة التفكير وهو ينحني بسرعة يحمل جسدها بعدما وضع السيف في الغمد، يركض بها بين الطرقات صوب المشفى وهو يصرخ باسم مهيار :
” مهيار …مهيار ساعدني، مهيار النجدة الفتاة تكاد تلفظ أنفاسها .”
استدار له مهيار والذي كان يستقبل الجرحى ليعالجهم، يتعجب صراخ تميم، لكن فجأة وحين وصل له تميم وابصر تلك الفتاة التي تتوسط ذراعيه والتي تعرف عليها من نظرة واحدة، وكيف لا وهي نفسها الفتاة التي يعشقها شقيقه .
همس دون وعي في اللحظة التي اقترب بها دانيار ليطمئن عليه :
” هل هذه …”
قاطعه صوت دانيار الصارخ والمرتعب :
” زمرد …..”
______________________
فتحت عيونها منتفضة عن الفراش بسبب اصوات القنابل في الخارج لتجد نفسها في الغرفة وحدها، أبعدت تبارك الغطاء عنها وهي تتذكر ما حدث، ارتجف جسدها وهي تركض للخارج بسرعة تهمس باسمه في رعب شديد متذكرة ذلك المشهد في الهجوم الأخير حين تكالبوا على سالار للإطاحة به :
” سالار ….سالار ”
خرجت من المشفى ليقابلها مشهد خرج من الجحيم بالخطأ، ساحة القصر كانت أشبه بقطعة من الجحيم، ابتلعت ريقها تركض بين الأجساد تبحث عنه برعب شديد وقد انقبض صدرها بشكل مخيف تمسك اول سيف أبصرته ارضًا وهي تبكي مرتعبة عليه :
” يا قائد”
تناديه باكية خائفة وقد نست أن الخوف المستحق الآن عليها هي وليس هو، وأن هذا الذي تبكي رعبًا على مكروهًا قد يصيبه، هو نفسه قائد الجيوش الذي خاض في حياته معارك وخرج منها منتصرًا بفضل الله .
فجأة وأثناء بحثها بعيونها وسط هذه المعمعة عن سالار أبصرت الكثيرون يتكالبون حول إيفان لتركض بصعوبة صوبه وهي تصرخ :
” مولاي …خلفك ”
استدار إيفان بسرعة كبيرة يشق من يقف خلفه لنصفين دون الوقوف متعجبًا وجود الملكة بين كل هذا، وحين تأكد أنه بخير نظر لها بصدمة وشر يهتف في وجهها صارخًا للمرة الأولى :
” ما الذي تفعلينه في هذه الحرب ؟! هل جننتي يا امرأة ؟!”
وهي لم تتوقف عن صراخه، ولم تهتم به حقًا بل قالت برجاء بخوف :
” سالار … أين سالار، هو …هو بخير ؟! هم يريدون قتله، الهجوم السابق كان هو هدفهم الوحيد، أين هو ؟!”
اهتز جسد إيفان لوهلة بسبب تلك المشاعر التي انبثقت من عيون تبارك، كانت مرعبة، كان يرى أمامه امرأة قد تقتل الجميع لأجل سالار، وهذه الحقيقة صفعته لا يصدق أنه اغفلها طوال هذا الوقت …
ابتلع ريقه يقول بصوت حاول جعله جامدًا :
” عودي للقصر سمو الأميرة، والقائد ليس طفلًا تخشين عليه الإصابة ”
اتسعت أعين تبارك لا تستوعب ما يقول، وإن كان يعتقد أنها ستمسك طرف فستانها المزعج الان وتنحني نصف انحناءة وتقول له ( أمرك مولاي ) فهو مخطئ، ابتسمت له بسمة شرسة وهي تهتف :
” آسفة مولاي، لكنني الآن لست في مزاج يسمح لي بتنفيذ أوامرك، وبما أنك لن تساعدني في الوصول لسالار، فسأجده وحدي ”
ختمت حديثها تركض بعيدًا عنه تاركة فم إيفان مفتوح بصدمة يراقب تصرفات تبارك التي كانت تخجل النظر في عيونه ثواني، ولم يستطع منع بسمته وهو يردد بذهول :
” سالار آخر ؟؟”
وعند هذا السالار الآخر، كانت تتحرك بين الجميع تضرب بسيفها من يعترض طريقها تبحث عنه بين الجميع، وقد هداها عقلها أن تبحث عن اكبر تجمع وستجده في المنتصف، وقد كان ….
ها هو تجمع من الضباع المتشردة حول أسد بغية إسقاطه للتغذي عليه، لكن ليس وهي تتنفس .
انطلقت لهم تصرخ بصوت مرتفع مسقطة اول من قابلها ارضًا دون اهتزاز أو ارتجاف .
وسالار الذي كان في المنتصف اتسعت عيونه بصدمة وهو يراها تهجم على الرجال بشراسة ليهتز قلبه خوفًا للمرة الأولى وهو يرفع سيوفه يقاتل بها :
” ما الذي تفعلينه هنا ؟! عودي للقصر والآن، اذهبي أيتها الغبية ”
نظرت له تبارك برفض ولم تكد تتشدق بكلمة واحدة حتى شعرت بيد سالار تجذبها صوب ظهره بسرعة كبيرة وهو يمثل لها جدار وعيونه تطلق شرارًا صوب الجميع :
” سأؤمن لكِ طريق العودة وأنتِ غادري للقصر ”
كان يتحدث وهو يقاتل من أمامه والإعداد تتزايد ينتظر منها إشارة الموافقة على حديثه، لكن اعينه اتسعت حين سمع همستها له من الخلف :
” لا ”
الذهول الذي ملئ نفسه في هذه اللحظة جعله يتناسى أنه في حرب ولا يجب عليه أن يبعد عيونه عن خصمه، استدار لها يحدجها بأعين مصدومة متسائلة عن هوية تلك الـ ( لا ) التي نطقت بها .
وهي لم تهتم تخرج من حمايته ترفع سيفها قائلة بنبرة ثابتة قوية :
” إما أن اساعدك ونخرج من هذه الحرب سويًا، أو أموت واسبقك أنا، وصدقني لن اقبل بخيار ثالث ”
ختمت حديثها تندفع صوب أحد الرجال تقاتلهم بشراسة جعلت سالار يخشى عليها، لكن في الحرب لا فرصة أمامه للتفكير فيما تفعله هي، لا يجب عليه أن يتوقف عن القتال لئلا يتكالبون عليه .
كان يقاتل، عين على العدو، وعين على الحبيب ….
مشاعر الحماية التي تلبست سالار في هذه اللحظة جعلته يدق الأعناق بقوة دون اهتمام وهو يضرب الرجال أمامه ويبعدهم من أمام تبارك، والتي على عكس مرتها الأولى كانت تقتل من يقابلها دون أن تتردد، إن كان الهدف سالار، فاللعنة عليهم أجمعين .
مرت دقائق والحرب مستمرة، انتفض سالار وهو يبعد عنه اخر الرجال ثم انطلق صوب تبارك يجذب الرجل الذي يقاتلها من ثيابه وقبل أن ينطق الرجل بكلمة كان سيف سالار يصمته للأبد..
نظر لها تتنفس بصوت مرتفع، ليبتسم هو لها يقول :
” ربما أخبرتك بهذا مرات معدودة فقط، لكنني يومًا لم افخر بتلميذ لي كما أفعل معكِ، وفي الحقيقة ليست مشاعر الفخر هي ما تملئ صدري فقط في هذه اللحظة ”
رفعت تبارك رأسها له بصدمة من كلماته تحاول أن تقنع نفسها أنه لا يقصد ما تريد هي سماعه، وهو شرد بملامحها يبتسم وصوته حين أخبر أرسلان أنه لا يريد أميرة مدللة، بل يريدها مقاتلة قوية، يرن في أذنه .
وفي الحقيقة في هذه اللحظة أدرك سالار أنه حتى لو كانت تبارك أميرة مدللة كان سيسقط لها بنفس الشكل ولن يهتم .
دار بعيونه حوله يبصر جنوده يتوسطون الساحة بعدما أسقطوا من أسقطوا وبدأت نيران الحرب تهدأ.
” لست ذلك الرجل الذي قد يغير رأيه في شيء بسهولة أو يتنازل عن شيء لأجل أحد، لكن في الحقيقة، هذا المشهد الذي أراه امامي قد يدفعني لتغيير التاريخ، فما بالك بتغيير رأيي ؟!”
” لا افهم ما تقوله سالار ”
تبارك التي كانت تتنفس بصوت مرتفع لم تكن تفهم ما يقول هو، بينما سالار ابتسم لها وقد التمعت عيونه بتصميم يقترب منها يطيل النظر لعيونها يخبرها بصوت خافت :
” هل تعلمين عدد الحروب التي خضتها سابقًا مولاتي ؟؟”
نظرت له بشرود ولم تاتي بأي ردة فعل من صدمتها لتلك النبرة وتلك الكلمات وهو ابتسم لها يقول ببساطة ضاربًا بكل ما يحدث عرض الحائط إن كانت هي الهدف:
” خضت في حياتي مائة واثنين وعشرين معركة، خسرت بهما ثلاث معارك فقط، واحدة يوم رأيتك للمرة الأولى، والثانية عندما أبصرت عيونك عن قرب، والثالثة تتجدد خسارتها مع كل مرة اسمع اسمي منكِ….”
فقدت تبارك الشعور بما حولها ليزيد سالار طينتها بلًا بكلماته الأخيرة :
” فما رأيك بإعلان الحرب المائة وثلاثة وعشرين ؟!”
______________________
إذن الحرب المائة وثلاثة وعشرين ؟؟
يتبع…
كانت الجملة التي نطق بها سالار في هذه اللحظة أعلى من مستوى تفكير تبارك التي ازداد تنفسها بشكل مريب تحت أعين سالار الذي ابتسم لها، يحرك كتفه بهدوء :
” نعم ستكون حربًا ”
ختم جملته المعقدة تلك وتحرك بعيدًا عن تبارك تاركًا إياها تقف في منتصف الساحة وحدها، وحولها تنتشر العديد من الجثث لكثير من الأشخاص، نظرت في محيطها تحاول أن تتنفس بشكل طبيعي، قبل أن تبصر من مكانها إيفان الذي قطع طريق سالار .
وأصبح الإثنان في مواجهة بعضهما البعض في تلك اللحظة، وهذا ما جعلها تبتلع ريقها بخوف شديد وهي تقترب بتأني وقلق شديد، هل يعقل أنها قد تتسبب بغبائها في شقاق بينهما .
اقتربت أكثر ليصل لها صوت إيفان الذي كان يضم ذراعيه لصدره مبتسمًا بسمة مريبة :
” احسنت يا قائد، أتممت دورك كقائد للجيش، وفشلت في دورك كصديق، وبالطبع أخفقت في دورك كشقيق لي سالار”
اتسعت أعين سالار بقوة من قوة تلك الكلمات، يمسك مرفق إيفان بسرعة قبل أن يتحرك الاخير :
” لا لا مهلا إيفان، ما …ما الذي … أنا…..ليس بهذا الشكل، أنت لا تعلم شيئًا لقد ..”
جذب منه إيفان مرفقه بقوة يقول بملامح متكدرة ووجه مقتضب واعين حادة :
” هذا هو مربط الفرس سالار، أنا بالفعل لا اعلم شيئًا فأنت لم تتكرم وتخبرني بشيء، اسررتها بنفسك، ورأيت أنني لا استحق معرفة مشاعرك تجاه …”
صمت ينظر للخلف حيث تبارك التي كانت شاحبة الوجه :
” تجاه المرأة التي كادت تصبح زوجتي ”
ختم حديثه ينظر في محيطه، ثم رأى أن يتحرك قبل أن يتجاوز أحدهما في حق الأخر على مرأى ومسمع من الجميع:
” لا اعتقد أن الوقت أو المكان مناسبين لمناقشة مثل هذه الأمور يا قائد، هيا لنكمل العمل ”
صمت ينظر صوب تبارك مرة أخرى يقول بصوت مسموع وواضح لها :
” تحركي صوب القصر سمو الأميرة، فساحة الحرب لا تناسب النساء ”
ختم حديثه يتحرك من المكان بأكمله تاركًا الجميع خلفه يحدقون في أثره، وقد شعر سالار في هذه اللحظة بفداحة ما حدث، استدار نصف استدارة يبصر أعين تبارك التي بدأت تمتلئ دموع، فابتلع ريقه يردد بصوت خافت :
” سمعتي أمر الملك مولاتي، عودي للقصر رجاءً”
فتحت فمها بغية التحدث، لكنه في هذه اللحظة لم يكن حقًا في مزاج يسمح له بالحديث مع أحد :
” رجاءً نفذي ما اقول دون نقاش ”
سقطت واخيرًا دموعها التي حبستها طوال هذا الوقت، تهز رأسها بهدوء وهي تتحرك بخطوات بطيئة ميتة صوب القصر وسيفها مهدل يقطر دماءً وقد كانت أشبه بجندي عاد من حربه خاسرًا وحيدًا بعدما فقد فيها كل عزيز، وكذلك فقد نفسه، وتبارك التي لم تكن شيئًا في الوقت الحالي كان ذلك اقرب وصف لها ..فقدت نفسها .
وسالار الذي كان يتابع كل ذلك تألم من اعماق قلبه لنظرتها، لكن في الوقت الحالي لا شيء ليفعله بشأن ذلك، ابتلع ريقه ينظر حوله في الساحة وقد خمدت الحرب، وهرب بافل، جذر الفساد لم يُقطع بعد …
تنفس بصوت عالي وهو يبصر جنوده ينتشلون أجساد شهدائهم الطاهرة من الأرض لدفنهم في مكان استشهادهم، ويبدو أن ارض سفيد ستحفظ الكثير من الجثث الطاهرة اليوم .
تحرك سالار ببطء يراقب الأجساد حوله، هذا كان تلميذه، وهذا تحدث معه بالأمس، وهذا جاء له يومًا يطالبه بإجازة لأجل ولادة طفله، آباء وأبناء وأخوة رحلوا اليوم، عائلات كثيرة ستبيت ليلتها باكية، فقدوا الكثير ومازالوا يفقدون .
جلس سالار ارضًا جوار أحد الأجساد والذي كان يعود لشاب في التاسعة عشر من عمره انضم لهم قبل عام واحد آنفًا كارهًا، مازالت صدى كلماته ترن في أذنه..
” ابي هو من أراد أن انضم لجيش المملكة، لكنني لا أريد ذلك، أبي شيخ واخي طفل، من يتكفل بهم إن حدث لي مكروه ؟!”
وبعد مرور اشهر على وجوده تعلق قلب الفتى بالجهاد وأبى إلا أن يستمر في الجيش، ورغم أن إيفان كان رافضًا أن يكون المعيل الوحيد لأسرته في الجيش إلا أن إصرار الفتى منعه من الاعتراض .
ابتسم سالار بسمة صغيرة وهو يتأمل الشاب بأعين ملتمعة بعدة مشاعر هامسًا وكأنه يجيب سؤاله بعد مرور عام كامل :
” يتكفل بهم الله يا فتى، وأنت هنيئًا لك الشهادة يا بني ..”
تنفس بصوت مرتفع وهو ينهض حين وصل الجنود لانتشال جسد الشاب من أمامه، وسالار يحرك عيونه في المكان يدرك أن إيفان يتكفل بشكل كامل بجميع أسر الشهداء والسجناء، لكن أي كفالة تلك تعوضهم غياب احبائهم .
” رحمة الله عليكم ..”
___________________
كان في هذه اللحظة لا يستوعب ما يحدث، مظهر زمرد مضجرة في دمائها بين ذراعي تميم قتله، ليقترب منهم يصرخ باسمها دون وعي وقبل أن يأخذ خطوة إضافية لها سمع صوت مهيار يركض في الممرات وهو يشير لتميم أن يتبعه :
” من هنا تميم بسرعة ”
كان يركض وتمتم يركض خلفه بجسد زمرد وهو ما يزال يقف أمام المشفى كالجماد لا يأتي بأية حركة، لكن حالته تلك لم تستمر إلا ثواني معدودة قبل أن ينتفض يركض بسرعة كبيرة خلفهم وهو يصرخ باسمها في جنون تام، يهذي بكلمات غير مفهومة :
” ماذا فعلتم لها، من …من أصابها ؟! كيف …خرجت لماذا؟! تميم ما الذي فعلته ؟؟”
وضع تميم جسد زمرد على الفراش تاركًا إياها لمهيار وهو يدفع بدانيار للخارج تحت كلمات مهيار الذي قال بسرعة :
” ليرسل أحدكم في إحضار المزيد من المساعدة فالجرحى كُثر، أرسلوا أيضًا في احضار الملكة ”
ختم حديثه تزامنًا مع غلق باب الغرفة من قبل تميم الذي نظر بغضب لدانيار والذي كان يحاول الإفلات منه ودخول الغرفة مجددًا :
” دانيار توقف بالله عليك، دع شقيقك ينتهي من عمله في الداخل ”
نظر له دانيار بانهيار وهو يشير للداخل برعب :
” لقد كانت …لقد …كيف حدث هذا؟! أين كانت ؟! لِمَ خرجت و..”
فجأة ودون سابق إنذار توقف هزيان دانيار عند نقطة أضاءت في عقله وهو يحاول تخيل ما يحدث، فما حدث منذ دقائق كان مع قومها و…شقيقها، أيعقل ؟؟
كانت تلك الفكرة في حد ذاتها سبب ليشعر دانيار بقرب جنونه، يستند على الجدار خلفه وهو يحاول التماسك من هول ما يحدث، قبل أن يسمع صوت تميم الذي جاء من بعيد :
” لقد وجدتها جوار أحد الأبواب الجانبية ملقاة ارضًا في دمائها جوار سيفٍ ما بهذه الحالة ”
كلمات وكلمات وكلمات لكنها تصل مشوشة له، وهو الذي انهار شيئًا فشيء حتى سقط ارضًا يمسك رأسه بين يديه وقد شعر في تلك اللحظة بالرعب، بل كان الرعب كلمة لا تصل لمقدار المشاعر التي يختزنها دانيار داخله .
” ياالله، يا الله ”
كانت همسات تخرج منه دون وعي، كيف تجاهل هذه النقطة ؟! كيف تجاهل طبيعة زمرد المتهورة والتي لا تنفك تجد حرب فتقفز بها، فما بالكم بحرب تخصها ؟؟
ابتلع ريقه وهو متأكد أن السبب في حالتها تلك هو أحد أفراد ذلك الشعب النجس إن لم يكن شقيقها، فما كان لرجالهم أن يرفعوا سيفًا على امرأة.
ساعات قضاها في الخارج وهو يتجاهل كل ما يحدث حوله، فقط يهيم في ذكرياته معه، ويجلد روحه بسياط الندم لتركها تتحرك ذلك اليوم دون أن يخبرها أنه يريد معرفة الحقيقة بالكامل .
طال الوقت أو هذا ما شعر به، ولم يشعر بتميم الذي تحرك ليطمئن على زوجته، ثم يعود، كل ذلك وهو يجلس دون أن يبدي أي ردة فعل ..
كان هذا حتى سمع صوت مهيار يخرج ومعه تبارك التي لم يعلم متى جاءت بالتحديد وهو هنا لم يتحرك، هز رأسه دون اهتمام يتساءل بلهفة ورعب :
” مهيار كيف هي ؟! هي بخير ..صحيح ؟؟”
نظر له مهيار بشفقة، يشفق عليه من نفسه وعقله، تنهد يربت على كتفه :
” ستكون بخير لا تقلق، السيف لم يصب أنسجة حيوية، لكن الجرح ليس بالصغير أو البسيط، بل هو عميق بعض الشيء سيستلزم وقت لشفائه ”
هز رأسه وهو ينظر له بلهفة ورجاء :
” يمكنني الدخول لها صحيح ؟؟”
صُدم مهيار من كلمات شقيقه والذي لا يبدو في وعيه :
” الدخول إلى أين دانيار ؟! هذه امرأة أجنبية عنك يا أخي، أفق لا يمكنك الدخول عليها بالطبع ”
شعر دانيار بعالمه يتهشم هامسًا بصوت خافت متوسل :
” إذن يمكنني الزواج بها إن كان ذلك سيتيح لي رؤيتها ”
” حسنًا عندما تستيقظ أخبرها بذلك، فنحن لن نزوجها إياك وهي لا حول لها ولا قوة ”
شعر دانيار أنه لن يتحمل كل ذلك الوقت حاول البحث عن شيء في عقله يساعده، وخابت جميع آماله وهو يستند على الجدار بتعب يسمع صوت تبارك له :
” لا تقلق دانيار هي ستكون بخير، فقط تحتاج وقت لتلتئم الجروح ومن نعمة الله عليها أنها الآن لا تعي ما يحدث حولها كي لا تتوجع لجرحها الذي ما يزال حيًا، دعواتك لها وستصبح بخير، أنا سأذهب لاطمئن على برلنت ومن ثم سأعود لها مجددًا ”
هز دانيار رأسه هزة صغيرة يقول بصوت خافت موجوع:
” حسنًا لا بأس، شكرًا لكِ مولاتي ”
ابتسمت له تبارك بسمة صغيرة وهي تتحرك لترى برلنت ومن ثم ستباشر معالجة الجنود، كل ذلك وقلبها يمتلئ بالعديد من المشاعر المشوشة، لكن لربما كان كل ذلك فضل من الله لتنشغل عن أفكارها بالعمل.
رحلت ومازال دانيار يقف محدقًا بباب غرفتها لا يسمع كلمات مهيار الذي يتحدث له منذ رحلت تبارك، كل ما يراه هو جسدها المصاب وعقله يعرض له صورتها التي وصفها تميم وهي في وسط بركة دمائها وسيفها مـ
فجأة توقفت أفكاره وانتفض يهمس بإدراك لأهمية السيف لها والذي كادت تفقد روحها لأجله، السيف نفسه الذي قربه منها :
” سيفها ؟؟؟ السيف أين هو ؟!”
____________________
صوت اقتحام المكتبة تسبب في انتفاضة جسد العريف بقوة وهو يلتقط السيف الذي كان مستقرًا على الطاولة للدفاع عن نفسه، تحرك ببطء صوب الباب صارخًا بصوت جهوري :
” اظهر نفسك، هل تظن أنني عجوز أعجز عن قتالك يا هذا ؟؟ ”
ختم حديثه ينظر صوب الباب بشر كبير وتحفز اكبر وقد اتخذ وضع الهجوم ممسكًا بالسيف، لكن شيئًا فشيء تهدلت كتفه وهو يبصر ذلك الجسد الذي يتوسط مدخل المكتبة بملامح كئيبة متعبة .
انزل العريف السيف وهو يحدق في صاحب الجسد بخوف هامسًا :
” ما بك؟! هل حدث شيء في الخارج ؟!”
رفع صاحب الجسد رأسه يهمس بصوت متعب :
” نعم، لقد خسرت ”
فزع العريف من تلك الكلمة يركض بسرعة صوب ابواب المكتبة وقد ظن في رأسه أنهم خسروا الحرب وجسده بأكمله يرتجف :
” يا الله رحمتك بنا، خسرنا ؟؟ كيف لقد كان الملك يخطط لكل شيء بدقة و…”
” لا لا ليس الملك، أنا فقط من خسرت، أنا الخاسر الوحيد اليوم يا عم ”
شعر العريف بضربة قوية توجه لصدره وهو يغلق أبواب المكتبة بسرعة كبيرة بعدما تأكد أن لا أحد يتبعه، يجذب يده صوب الداخل يهتف بخوف من تلك الملامح والجسد المرهق بشكل مريب :
” بني، ما الذي حدث لك ؟؟ لا أراك الله خسارة يا عزيزي، ما الذي تسبب لك في كل ذلك الوجع الذي أراه!!”
رفع سالار رأسه يهمس له بصوت موجوع يجاهد كل تلك الصراعات داخله :
” ألم اكن وصية ابي وابنك لك يا عم ؟؟ ”
هز العريف رأسه وقد بدأ صدره يرتجف على ذكرى والد سالار وولده هو، يرفع كفه يمسك وجه سالار بحنان :
” أنت اغلى ما امتلك سالار ”
” إذن لِمَ ارتضيت لي الوجع يا أبا دارا ؟؟”
كانت تلك الكلمات هي اقسى ضربة تلقاها العريف، كلمات سالار بهذا الشكل وهذه الطريقة جعلت يتراجع بصدمة ووجه شاحب يهز رأسه رافضًا مرتجفًا :
” ماذا ؟؟ أنا ؟؟ أنا لم أفعل يومًا معك بني، يا ويلي ليقبض الله روحي قبل أن أمسك بسوء أنت لست فقط وصية جوبان ودارا لي، بل أنت رفيق حياتي وبني الذي عوضني فقدان أحبتي سالار ”
سقطت دموع سالار يهتف بوجع :
” لماذا إذن يا عم شهدان ؟؟ لماذا إذن فعلت كل هذا بي ؟؟”
ابتلع ريقه يهتف بصوت متألم متقطع :
” لماذا ارسلتني أنا لاحضرها، لماذا ألقيت بي في دهاليز لا علم لي بها، مالي أنا ومال تلك المشاعر ؟! أخبرتك أنني فقط هنا كي انتقم لوالدي، وأنت…”
صمت ثواني بقهر قبل أن يضرب طاولة جانبية بقدمة في عنف مخيف يصرخ بصوت مرتفع :
” وأنت فقط ألقيت بي بين غياهب الحب، ارسلتني متعمدًا في رحلة لن ينالني منها سوى الوجع، كنت تعلم، كنت تعلم أنني سأفعلها، كنت تدرك أنني سأسقط في حبها ورغم ذلك ارسلتني، كنت تعلم أنني سأأثم ورغم ذلك أقنعت الملك بأرسالي، لقد دمرتني، دمرتني، والآن أنا هنا بين شقيّ الرحى، إما أن اتنحى جانبًا واترك المرأة الوحيدة التي احببت لآخر، أو احارب ذلك الآخر والذي للصدفة هو نفسه أخي الذي كنت على استعداد للتخلي عن حياتي لأجله، لكن ليس هي …”
صرخ بجنون وهو يضرب ما أمامه:
” ليس هي أيها العريف، أنت السبب في كل ذلك، لو أنك لم تقترح عليه أن يرسلني أنا لها، لو أنني لم أرها ذاك اليوم تبكي كالطفلة، لو أنني لم اقترب منها، يا الله ما الذي فعلته بي، لقد أصبحت آثمًا، جعلتني آثمًا لأجل حب يا عم ”
كان العريف يتابع كل ذلك بملامح متغضنة يرى أمامه الشخص الوحيد الذي حارب لأجله منهارًا وعلى وشك السقوط، عادت ذاكرته في لحظة لذلك اليوم الذي أبصر ولده دارا والذي كان قائدًا للرماة في الجيش سابقًا، يدخل عليه المنزل وهو يمسك بيد سالار باكيًا بصوت موجوع وهو يصرخ :
” لقد فقدت جوبان يا أبي، فقدت قائدي وصديقي، لقد قتلوه هؤلاء الملاعين، قتلوه وقتلوا الأميرة عائشة ”
منذ تلك اللحظة التي أبصر بها العريف ولده مدمرًا لأجل رفيقه وابصر ارتجاف الصغير سالار بين يده، وضمه لصدره وقد تعهد لنفسه ألا يدع مكروهًا يصيبه، وأقنع الجميع بمن فيهم تلك الحرباء شهرزاد أنه ابعد طفل جوبان عن المملكة مقابل أن تدعه هي جانبًا، وهذا بعدما اكتشفت هي أنه الناجي الوحيد من تلك المعركة، لكن هل فعل وأبعده حقًا ؟؟
بل أحضره والقاه بين الصبية الذين جاءوا لتعلم القتال وجعله يلتحق بالجيش مثله كأي طفل صغير ولم يقترب منه يومًا إلا في الخفاء، وسالار لم يخيب آمال والده ودون تدخل من أحد حاز مكانة والده السابقة عن جدارة واستحقاق ليصبح خليفة له في ساحات القتال، يقتص لوالديه ولولده دارا الذي قُتل غدرًا ولحق بهما .
اقترب العريف من سالار الذي لم يكن يبصر أمامه سوى سواد وإثم سيطيح به، ضم وجنتيه بين يديه بحنان شديد :
” لم أكن أعلم، اقسم بالله أنني في البداية لم أكن أعلم أنها هي المقدرة لك يا بني، لو علمت لاخبرتك وارسلتك لتحضرها لكن كزوجتك أنت، لم اعلم إلا بعدما جاءت ورأيتها و…ابصرتها تُزف لك في أحد الاحلام، عندما تذكرت تلك الرؤية بخصوص الملكة من عالم المفسدين، خانني عقلي وظننتها تقصد إيفان، ونسيت أنك الملك المقدر هنا وليس إيفان، إذن هي لك أنت يا سالار منذ البداية وليست لايفان ”
عض سالار شفتيه يهمس :
” من سيخبر الجميع بذلك يا أبا دارا، فأنا سأصبح في أعين الجميع مجرد حقير خان ملكه واحب زوجته المقدرة، سأصبح مجرد قذر خائن نظر لمن لا تخصه، و…”
صمت يهتف ببسمة موجوعة :
” أوتعلم، سيكون لهم كامل الحق في هذا الاعتقاد، فأنا بالفعل اخطأت وبشدة، لو أنني فقط تعاملت معها كما تعاملت مع الجميع، لو أنني ما سلمت نفسي للشيطان واحببتها، أيا ليتني قُتلت في إحدى المعارك التي اتفاخر بها وما وقعت في هذا الإثم ”
أضاف باكثر نبرة متألمة سمعها العريف :
” لقد …لقد …لقد تجاوزت الكثير في حبها، يا ويلي لقد عانقتها في الخارج مرتجفًا على مرأى ومسمع من الجميع، كنت ا…”
صمت يدفن وجهه بخزي بين ذراعيه، أيًا كانت المشاعر اللعينة التي يمتلكها تجاهها ما كان عليه التجاوز لهذه النقطة، كان يمكنه إنقاذها دون أن يظهر ضعفه تجاهها للجميع، دون أن يظهر ذلك الخزي أمام الجميع وخاصة إيفان الذي أبصر نظرة خذلان تعتلي عيونه قبل أن يقذف له بسيفه ..
” ما الذي سأفعله الأن ؟! أنا لا أستطيع أن أرفع وجهي في وجه أحدهم بعد الآن، لقد خذلت الجميع وقبلهم نفسي، خذلت إيفان وأخذت منه زوجته ”
” هي زوجتك أنت بـ ”
قاطعه سالار صارخًا بجنون :
” لكنها كانت أمام الجميع وأمامي زوجته المستقبلية، حتى لو أنها المقدرة لي ما كان على ذلك أن يدفعني صوب الوقوع في حبها وأنا أدرك داخلي أنها للملك ”
ابتلع العريف ريقه يقول :
” ملك غير الملك وملكة لا تمت للملكة بصلة، المقصود بهذه الكلمات هو إيفان وكهرمان ”
نظر له سالار بعدم فهم ليتابع العريف بصوت منخفض :
” ملك غير الملك هو إيفان، وملكة لا تمت للملكة بصلة يُقصد بها كهرمان، فالملك الحقيقي هو أنت والملكة هي تبارك ”
ابتسم سالار بعدم تصديق لما يُقال أمامه:
” هل كنت تستمتع بمشاهدتي أعاني يا أبا دارا ؟؟ هل كانت أوجاعي وصراعاتي الداخلية تستهويك لدرجة أنك لم تفكر يومًا في مصارحتي بكل ذلك ؟؟”
رفع العريف عيونه الدامعة لسالار :
” ما كان لي أن أتدخل في علم الغيب يا بني، كل تلك كانت مجرد احلام ورؤى والغيب بيد الله، كلها مصائر ما كان لي أن أتدخل بها، ثم إن أخبرتك أو أخبرت أحدهم بما رأيته لأجله كان سيسارع ليحارب مصيره، وهذه إرادة الله فوق كل شيء، لذلك كان من المفترض للحياة أن تسير دون أي تغيير في الأقدار ”
انهار سالار ارضًا بقوة وهو يشعر بالمكان يدور به، يهتف دون شعور منه :
” ليتني رفضت الذهاب وإحضارها، ليتني لم أرها، ما كان عليّ أن آثم بهذا الشكل ”
” إثم ؟؟ هل تسمي معرفتك لي إثم سالار ؟!”
تجمد جسد سالار للحظة يستمع لصوتها وهو يبتلع ريقه، يغمض عيونه بقوة يستند برأسه على أحد ارفف الكتب خلفه :
” هل سيسعدك العلم أنني بالفعل آثم وهذا الإثم كان حبك ؟؟”
تأوهت تبارك تبتسم بعدم تصديق، هي من كانت تبكي بخوف عليه، قبل أن تقرر المجئ للعريف واللجوء له وأخذ نصيحته، لتكتشف أنها إثم.
” لا، لن يسعدني معرفة أن قائد جيوش سفيد أصبح آثمًا في حبي، لن يسعدني أن أصبح إثم لمن لا إثم له”
ابتلعت ريقها تحاول الحديث :
” لكن في النهاية أنت بشري والجميع يخطأ سالار، الجميع يأثم نحن لسنا في المدينة الفاضلة ”
ضحك سالار بقهر يهمس لها وهو يحرك يديه أمامه :
” وأنا يا سيدتي عشت في مملكة؛ حيث لا آثام ولا آثمين، فكنت أول الآثمين وكان إثمي الحب ”
سقطت دموع تبارك بقوة تشعر بشدة القهر في نبرته، والوجع المتمثل في حركات يده، كل ذلك قتلها ببساطة، لقد دمرت بمجيئها هذه المملكة وقلبتها رأسًا على عقب .
رفعت عيونها صوب العريف الذي كان يراقب كل ذلك بوجع شديد لا يملك شيء يساعدهم به :
” هل هذا كان قصدك ؟؟”
رفع العريف عيونه لتبارك بعدم فهم، لتقول بوجع مقتربة منه :
” حين أخبرتني أنني سأغير تاريخ سفيد، هل هذا ما كنت تقصده ؟! لم تخبرني أنني سأدمر البلاد يا عريف بوجودي ؟؟ ”
ابتسم العريف بسمة صغيرة من بين نظراته الموجوعة:
” ما حدث كان بداية التغيير يا ابنتي ”
هزت تبارك رأسها ببطء تقول :
” أنا..لا اريد أن أفعل هذا، لا أريد تغيير تاريخ سفيد، أريد فقط أن… أرحل، اعدني لمنزلي يا قائد وليعد كل شيء لما كان عليه ”
رفع سالار رأسه التي كانت مستندة على قدمه في صدمة شديدة يهتف :
” ماذا ؟؟”
” كما سمعت، أريد الابتعاد قبل أن تسوء الأمور بسببي أكثر، كل شيء سيصبح بخير حينما أغادر ”
نهض سالار من مكانه كالملسوع يصرخ بجنون في وجهها :
” ما الذي تهزين به يا امرأة ؟! هل تظنين أن رحيلك سيصلح كل ما فسد ؟؟ لقد حدث وفسد وانتهينا، ورحيلك لن يغير شيء فيما حدث، لن يفعل شيء ”
نظرت له بدموع تتراجع للخلف بعيدًا عن امواج غضبه وهو ما يزال يتحدث بجدية من أسفل أسنانه بغضب شديد :
” ذهابك لن يؤثر بشيء، هو لن يفعل شيء سوى أنه
….سيقتلني أنا، هذا ما سيفعله رحيلك ”
رفعت تبارك عيونها له بصدمة ليقول سالار وهو يشعر أنه يتمادى في اثمه، لكن إن كانت هي إثم، فهو يتقبله بصدر رحب ولتصبح هي أول آثامه، وهو أول الآثمين .
” أنا لن احارب هنا واقاتل لأجل لا شيء، أنتِ لن ترحلي وتتركيني في هذه الحرب وحدي، لا اطالبك بالقتال، لكن على الأقل اريدك أن تنتظريني حين العودة من تلك الحرب بأدويتك لتعالجي جروحي، أوليست هذه مهنتك ؟؟ تعالجين الجرحى ؟؟ وأنا بعد هذه المعركة سأكون ملئ بالجراح تبارك ”
انهارت تبارك في هذه اللحظة وقد شعرت بالوجع في صدرها، لا تدري ما الذي يجب فعله، يقتلها رؤيته بهذا الشكل، وتلك الكلمات التي خرجت منه بهذا الشكل اوجعتها واصابتها في مقتل ..
” أنا لا…”
” هل ستنتظرين عودتي تبارك ؟؟ ”
رفعت عيونها له موجوعة تشفق عليه كل هذه المعارك التي يخوضها لأجلها :
” بل أريد خوضها معك إن استطعت يا قائد ……”
ابتسم لها سالار بسمة صغيرة باهتة يفرك وجهه :
” هذه الحرب الوحيدة التي لن أسمح لكِ أن تشاركيني فيها …مولاتي .”
__________________
يتحرك بين الممرات وهو ينظر أمامه نظرات جامدة بين الجنود من حوله يتجنبون الاحتكاك به ولو دون قصد وهو فقط لا يبصر أمامه سوى مشهد سالار الذي يضم تبارك لصدره وكأنها ستتلاشى .
ابتسم يتذكر كلمات والدته التي بدأت ترن في أذنه نزع سترته الخاصة بالحروب يلقيها دون اهتمام أين تسقط وسيفه يقطر دمًا لا يعلم لمن يعود، لكنه يعلم أنه ملوث بالفعل .
وفجأة وفي وسط موجة الأفكار التي عصفت بإيفان ابصرها تسير أمامه لتذكره بأن سالار لم يكن الآثم الوحيد في هذا القصر .
وعند هذه النقطة أطلق إيفان ضحكة صاخبة رنت بين جدران قصره تسببت في جعل الجميع ينظر له بذهول وخاصة هي التي شعرت أن هناك شيء خاطئ يحدث، نظرت حولها بريبة تقول :
” مولاي، هل أنت بخير ؟؟”
رفع إيفان عيونه لها يقول بنبرة بها أثر لضحك :
” في الحقيقة هذا سبب ضحكاتي، هل أنا بخير ؟؟ هل تسير الأمور على ما يرام ؟! ”
لم تفهم كهرمان ما يقول وقد شعرت أن هناك شيء مريب به :
” مولاي هل ….هل تلقيت ضربة على رأسك خلال الحرب ؟!”
نظر لها إيفان بصدمة كبيرة سرعان ما انقلبت لضحكات أعلى وأكثر صخبًا من السابقة، وهي تتابعه بعدم فهم وقد بدأت تتراجع بخوف من ضحكاته ونظراته تلك، لكن قبل الرحيل بشكل كامل أوقفها إيفان بسرعة يقول :
” لا لا، مهلًا مهلًا أنا فقط آسف، يبدو أنني فقط مرهق مما حدث و..”
صمت يتنحنح ليعود إلى وجهه الراقي والهادئ والجاد، لكنه لم يستطع التحمل لأكثر من ثواني لينفجر مجددًا في الضحك وهو يستند على الجدار خلفه :
” أنا فقط ….فقط أشعر أنني كنت اركض في دوامة و ..”
رفع عيونه لكهرمان يقول دون مقدمات أو حاجة لقول ذلك :
” هل أبدو مريبًا الآن لكِ ؟؟”
ورغم أنها لا يجب أن تفعل ذلك إلا أنها اومأت له بنعم، وهو ابتسم يقول براحة وكأنه كان ينتظر اجابتها تلك :
” جيد إذن، واستغلالًا لتلك الحالة التي تجعلني أبدو لكِ كالمجنون في هذه اللحظة، دعيني أخبرك أنني كنت اعاني كثيرًا في التحدث معكِ دون القول أنكِ رقيقة للغاية سمو الاميرة، هذا حقيقة عانيت كثيرًا في كتمها عنك رغبة مني ألا اتجاوز حدود ديني وحدود لباقتي، لكن الآن ليس على المجنون حرج، و…اعتقد أنه يحق لي قول ذلك للفتاة التي ارغبها ولو لمرة واحدة صحيح ؟؟”
كانت نظرات كهرمان له مريبة وكأنه للتو أخبرها أن السماء تمطر زهور أو أن الجبال تحولت لحلوى، وفي الحقيقة ما نطق به إيفان للتو فاق كل ذلك جنونًا، لكن إيفان في هذه اللحظة لم يشعر بنفسه سوى وهو يعبر لها عما يضمر .
” أنا الآن وقح حقير تعديت على حرمة صديقي وغازلت شقيقته، و…هذا أكبر خطأ أنا آسف حقًا، سوف اتحدث لارسلان واعتذر منه عن ذلك وأخبره أنني أخطأت وغازلتك”
كانت كلمات إيفان في هذه اللحظة مريبة غريبة لكهرمان بشكل غير طبيعي، هذا الرجل الذي يهزي بكلمات غير متزنة أمامها، ليس هو نفسه الملك الذي كان يجعل الجميع يفغر فاهه من مقدار حكمته وخبثه .
وإيفان في هذه اللحظة لم يكن حقًا يدرك ما يخرج من فمه، فقط هز رأسه وتحرك صوب مخدعه وهو يردد كلمات لم تصل لها واضحة، تاركًا إياها تعاني الحيرة جراء ما قال، لكنها لم تتوقف كثيرًا وهي تتحرك بعيدًا عن المكان بخجل شديد تشكر لثامها الذي أخفى احمرار وجنتيها عن الأعين حولها .
بينما الجنود في الممر كانوا مصدومين مما يحدث، في البداية قائد الجيوش والآن الملك، ما الذي أصاب رجال هذا القصر يا ترى ؟؟
_______________________
تحرك داخل غرفتها يستشعر هدوء كبير ليبتسم بحنان وهو يهمس :
” الحرب في الخارج والسلام في غرفتك برلنت ”
اقترب من الفراش يميل عليها مقبلًا رأسها يهتف بصوت خافت وصل لها واضحًا، إذ كانت تدعي النوم لترى ما يفعل :
” كيف حال صغيرتي اليوم، يبدو أنكِ كنتِ تشتاقين النوم كثيرًا، أنتِ هكذا منذ أيام طويلة، تنامين دون شعور لمن جافاه النوم لأجلك ”
شعرت برلنت بالصدمة وهي تستمع لكلماته، رددت بصوت هامس دون شعور و بصدمة كبيرة :
” أيام ؟؟”
ربت تميم على شعرها بلطف:
” تحبين رؤية خوفي عليكِ، لذلك تستمرين في النوم تاركة إياي اعاني بعدك هنا ؟؟”
حاولت برلنت كبت بسمتها على كلماته التي جعلتها تسعد، وهو مال عليها يقبل رأسها بحنان :
” لكن لا بأس صغيرتي، يمكنك النوم كما تريدين إن كان ذلك يريحك ولاذهب أنا للجحيم ”
صمت ثم قال مجددًا :
” أنا فقط أخشى أن انشغل يومًا عنكِ واهملك بيرلي، لذا اتخذت قراري صغيرتي، لو كان عملي سيمنعني عنكِ.. سأتزوج بأخرى تعتني بكِ لأجلي ريثما انتهي من عملي ”
في هذه اللحظة أبصر تميم اهتزاز جسد برلنت بقوة ليبتسم ساخرًا :
” ومن يعلم، ربما تكون من اللطف لتعتني بي كذلك، وأنا بالفعل قد وجدت تلك الزوجة الصالحة التي سـ ”
فجأة فتحت برلنت عيونها بقوة وكأنها لم تغلقها يومًا تقول بصوت خرج منها غاضبًا رغم ضعفه :
” ما الذي قلته ؟؟ تريد الزواج بأخرى فقط لأنني تعبت لأيام ؟؟ ماذا إن مت؟؟ ستتزوجها لتقوم بواجب العزاء تميم ؟؟”
ابتسم تميم بسمة واسعة لها يقول وهو يميل ليقبل وجنتها بحنان :
” مرحبًا بعودتك بيرلي ”
نظرت له برلنت بغضب تبعده عنها وهي تحاول الاعتدال في جلستها، لكن فجأة شعرت بدوار كبير يصيبها لتسقط مجددًا على الفراش بشكل جعل تميم يزجرها هاتفًا :
” هل جننتي أنتِ ؟؟ مازال جرحك حيًا ”
رمقته برلنت بتعب شديد وقد ازداد دوار رأسها تمسك رأسها بشكل جعل تميم ينتفض بخوف وهو ينادي :
” ما بك بيرلي ؟؟ مهيار …مهيار ساعدني ”
أمسكت برلنت يده وهي تقول بصوت منخفض :
” أنا بخير لا تقلق، فقط شعرت بدوار وتعب شديد يصيب رأسي، لا تقلق ”
نظر لها بتردد وهي ابتسمت له تقول :
” تخاف وتريد إحضار زوجة أخرى لك تميم ؟! كم أنت خائن حنون ”
نظر لها تميم ثواني قبل أن يضحك ضحكة صغيرة يقترب منها يجاورها على الفراش يضم جسدها له :
” فقط كي تعتني بكِ ”
نظرت له بحنق تردد :
” إن رأيتني انازع الموت وزواجك من أخرى هو ما سيحييني، فلتجهز لي قبري افضل تميم ”
حدجها تميم بشر مانعًا إياها من نطق تلك الكلمات :
” أطال الله في عمرك بيرلي، لا أراني الله بكِ سوءًا، لقد كدت أموت رعبًا حين أبصرت ما حدث لكِ ”
تنهدت برلنت ترتاح برأسها ببطء شديد على صدره، ثم قالت بصوت منخفض هامس:
” هل غبت كثيرًا عن القصر ؟؟ أين الفتيات ؟؟ لا أحد هنا سواك ”
نظر لها بشفقة ولم يرد أن يخبرها عما حدث خلال تلك الأيام كي لا يسبب لها وجعًا أو إرهاقًا :
” كانوا هنا منذ ساعات قليلة وأنا من طلبت منهم أن ينالوا قسطًا من الراحة، فهم يرابطون عند غرفتك منذ ما اصابك”
ابتسمت برلنت بحب شديد تستكين قبل أن تهتف بصوت منخفض :
” وابي وامي ؟! هل …هل جاء أحدهم ليراني تميم ؟؟”
توقفت يد تميم عن مداعبة وجنتها فجأة وكأنها باغتته بهذا السؤال، ابتلع ريقه يجيب على نصفه متجنبًا النصف الآخر :
” لا اعتقد أن أحدهم أخبر والدتك بما حدث لكِ، وهذا يذكرنا أننا اغفلنا جزء والدتك ولم يتحدث لها أحد بعدما جاء والدك ولا بد أنها وحيدة قلقة خائفة”
ضربت برلنت تلك الفكرة بعنف لترتجف بإدراك:
” أمي، يا ويلي لقد كان والدي انيسها الوحيد، ترى ما حالتها الآن ؟! لا بد أنها مرتعبة مما يمكن أن يحدث ”
هز لها تميم رأسه بحنان :
” لا بأس بيرلي أنا سأذهب لها بنفسي واحضرها هنا إن اردتي و…”
توقف ثواني لا يدرك وقع ما سيقوله عليها خاصة أنه حين قاله للمرة الأولى لم تكن هي واعية :
” وكذلك سأحضر ابي وأمي لرؤيتك ”
كلمات بسيطة خرجت منه لتترك برلنت شاحبة وهي تشعر أنها أخطأت السمع ربما، فوالد تميم مات و..والدته من المفترض أنها تأثرت بموته ولحقت به، أو هذا على الأقل ما علمته من والدها :
” و…والديك ؟؟؟؟”
____________________
يتوسط عرشه الذي صُنع خصيصًا ليحتوي جسده وأمامه يركع الجميع بكل خزي وجبن، ترتجف أجسادهم مما ينتظرهم على يد ذلك المتجبر الذي يحدق بهم .
ابتسم أرسلان بسمة واسعة وجواره يجلس الملك بارق ينظر لهم بتشفي، هؤلاء الذين هاجموا بلاده مرارًا وتكرارًا ليضعفوه وقد كادوا ينجحون لولا دعم إيفان له بالعديد من جنوده ليدافعوا عن بلاده لحين يسترد جيشه قوته وقد كان .
صدح صوت أرسلان يهز جدران القاعة التي تلوثت بمعاصي وآثام القوم :
” يا ويلي من قذارتكم، سلبتم مني قصرًا واعدتموه لي حظيرة، لكن على من العتب ومن سكنه كان حفنة من الحيوانات اعاذنا الله، وعذرًا للحيوانات لتشبيهها بقومٍ امثالكم، والآن أين هو قائدكم الهمام الشجاع الذي قادكم نحو مملكتي ؟؟”
لم ينطق أحدهم بكلمة واحدة فابتسم لهم أرسلان بسمة واسعة يهتف :
” تدور الدنيا ويعود كلٌ لمكانه، أنا لعرشي، وأنتم أسفل النعال، والآن للمرة الأخيرة سأكون رحيمًا مع امثالكم”
صمت يطيل النظر في عيونهم المرتقبة :
” أين يمكن أن يختبأ ذلك الحشرة بافل؟؟ أخبروني بمكانه ولكم مني وعد بالرحمة ”
ولم يتحدث أحدهم، بل فقط اخفضوا رؤوسهم لتشتعل أعين أرسلان يقول بكل هدوء وتجبر :
” لا بأس كانت تلك فرصة أخيرة مني لكم، على كلٍ لا ثأر لي معكم في الحقيقة، ثأري مع بافل فقط، أما أنتم فلا شأن لي بكم ولن امسكم بسوء ”
تعجب الرجال الجالسين ارضًا من حديثه وتعجب جنود أرسلان مما سمعوا وكذلك جنود بارق، عدا بارق الذي نظر نظرة غامضة صوب أرسلان يدرك جيدًا أنه يخفي شيئًا داخل صدره .
رفع أرسلان رأسه يقول :
” أطلقوا سراحهم يا رجال، لا ثأر لنا معهم ”
علت الهمهمات بين الجميع وقد ازدادت الاصوات، وارسلان لم يضف كلمة أخرى، حتى تحرك المعتصم قبل الجميع يفك وثاق الرجال اجمعين والذين لم يصدقوا أنه تركهم، أرسلان الذي سمعوا عن تجبره يتركهم وشأنهم ؟؟
نظر لهم أرسلان يشير لهم بالخروج، وهم شعروا بالغدر فتحدث أحدهم بشك :
” وما ادرانا أنك لا تنصب لنا فخًا أنت أو رجالك ؟!”
ابتسم له أرسلان ببساطة :
” لك كلمتي ألا يمسك سوءًا مني أو رجالي حتى تخرج من المملكة ”
وهذا كان أكثر من كافيًا لتنتفض أجساد الرجال راكضين بسرعة مخيفة خارج القصر غير مصدقين لما سمعوا، لكن حتى ولو كان فخًا فسوف يحاولون الفكاك منه، كانوا من اليأس الذي جعلهم يفتحون ابواب القصر الداخلية وينطلقون للساحة دون أن يمسهم أحد رجال أرسلان كما وعدهم .
كل ذلك وارسلان يراقبهم من نفس الشرفة التي كان يتخذها بافل نقطة ليراقب بعيونه معاناة شعبه، ها هو يقف يراقب بها نهاية قومه .
اتسعت افواه الرجال بسعادة كبيرة يبصرون باب القصر الخارجي يقترب منهم، وأصوات الحرية تناديهم من خلفه، لكن لم يكادوا يصلوا صوب تلك البوابات حتى وجدوها فُتحت فجأة، وكأن ابواب الجحيم فُتحت عليهم ليروا سيل من شعب مشكى ينتظرونهم أمام بوابات القصر بنظرات قاتلة وعيون متقدة بالكره والغضب والمقت، أجساد مشتدة وعروق نافرة وثأر يلتمع بالاعين، الآن وقد حان وقت القصاص، جاء كل من فقد عزيز ليأخذ بثأره، الصدور كانت ممتلئة بغضب لا مثيل له ..
صدح صوت أرسلان الجهوري في المكان وهو يتمسك بإطار الشرفة :
” اخبرتكم أن ثأري ليس معكم، ولا أنا أو أحد رجالي سيمسكم بسوءٍ، لكن هم ….هم ثأرهم معكم وهم شعبي وليسوا جنودي، لذا لعنة الله عليكم جميعًا إن ظننتم أنني سأسلب شعبي حق القصاص لذويهم، لتحترقوا في الجحيم مع امثالكم من الكفار ”
صمت ثم أطلق صرخة غاضبة :
” خذوا ثأركم، لا تدعوا تضحية ذويكم تذهب هدر ”
وبهذه الكلمات أعلن أرسلان بداية طوفان شعب مشكى، الذين عانوا لشهور طويلة، حتى فاضت كؤوس صبرهم.
بكاء الليالي ودعوات القهر وصرخات الوجع ومشاهد الموت كلها مرت أمام أعين شعب مشكى الذين فاضوا كالسيل على من تبقى من رجال بافل .
صرخاتهم التي كانت تصل لارسلان في الاعلى جعلت ملامحه تزداد تجمدًا حتى سمع صوت بارق خلفه يقول :
” والآن ماذا أرسلان ؟؟”
طالت نظرات أرسلان لبلاده التي تحولت لخراب، دمار ومنازل مهدمة، لقد جعلوا البلدة كبلدة اشباح، بلاده التي كانت عنوان الرخاء أضحت مقابر جماعية لساكنيها ..
استدار أرسلان ينظر خلفه لرجال شعبه الذين تحولوا لجنود ومقاتلين بتدريب من المعتصم والذي كان أحد قادة جيش سفيد الأقوياء، ابتسم له أرسلان يقول بنبرة ابعد ما تكون عن بسمته :
” الآن سنعيد بناء مشكى على أنقاض رجال بافل…”
___________________
” قائد الجيوش يطلب الأذن في رؤيتك مولاي ”
ابتسم إيفان بسمة لا معنى لها وهو يهتف :
” مرحبًا بقائد الجيوش دعه يدخل ”
فجأة فُتحت الابواب تكشف عن سالار خلفها والذي رفع عيونه صوب إيفان يرسم بسمة أخرى مماثلة لخاصة إيفان قائلًا :
” مولاي ..”
” مرحبًا بابن العم، انتظرت مجيئك منذ انتهاء الحرب، تعال”
تقدم سالار داخل الجناح حتى توقفت أقدامه أمام المقعد الذي يتوسطه إيفان، ثم جلس دون كلمة واحدة أو دون أن ينتظر أمر من إيفان، ليرتفع حاجب إيفان، ليس استنكارًا لما فعل فهو بالفعل يمنح سالار امتيازات لا يمنحها لأحد، بل لأن سالار الذي يعلمه ما كان ليتجاوزه بهذا الشكل .
بينما سالار نظر لها بهدوء ثواني قبل أن يقول :
” إذن هل يمكننا التحدث كأشقاء وليس كملك وقائد جيوشه ؟؟”
ابتسم له إيفان يجيب بسخرية :
” جيد أنك مازلت تتذكر أننا أشقاء سالار ”
” ما تفكر به داخل عقلك ليس صحيحًا إيفان، دعني أوضح لك ما رأيته”
رفع إيفان حاجبه بسخرية :
” وهل هناك شيء غير واضح فيما رأيت ؟؟ هل هناك صورة أخرى تختبأ حول احتضان قائد جيوشي لزوجتي المستقبلية في منتصف الساحة على مرأى ومسمع من الجميع، بل ونظراتك لها بكل حب ؟؟”
بُهت وجه سالار بخزي مما فعل، هو بالفعل لن يسامح نفسه على هذه الذلة أبدًا :
” أنا…أنا لم أكن بوعيي حين فعلت هذا إيفان و…”
صمت ولم يحسن اختيار كلماته بينما إيفان كان يراقبه بهدوء شديد قبل أن يقول بجدية شديد :
” منذ متى سالار ؟؟”
رفع سالار عيونه له يبصر شك يلوح بعيونه ليسارع منتفضًا وهو يصرخ دون وعي :
” إياك إيفان، إياك وأن يدفعك شيطانك صوب تلك النقطة، والله الذي لا إله إلا هو، ما أذنبت يومًا في حق نفسي قبلًا متعمدًا، وأنني يومًا لم أبح لها بما اضمره، وحتى اللحظة الأخيرة كنت بعيدًا عن المشهد، والله ما خنتك متعمدًا إيفان، فلا تسولن لك نفسك بمثل هذه الاتهامات ”
نهض إيفان يواجهه بقوة وقد كان ينافس سالار طولًا ينظر في عيونه بترقب:
” إذن أخبرني منذ متى تضمر كل هذا في نفسك ؟؟”
شحبت ملامح سالار بقوة يتراجع للخلف بينما إيفان ينظر له بقوة منتظرًا منه إجابة تشفي نيران صدره :
” منذ متى اضمرت كل ذلك في نفسك سالار ؟؟ هل لهذه الدرجة أصبحت بعيدًا عنك، لتكتم عني مثل هذا الأمر الخطر ؟؟”
ابتلع سالار ريقه وهو يبعد عيونه عن إيفان رافضًا أن يواجهه في هذه اللحظة، ابتلع ريقه يغير هذا الحديث :
” إيفان اسمعني أنا..”
وإيفان لم يكن في حالة تسمح له بسماع شيء، بل اندفع بقوة يجذب سالار من تلابيبه صارخًا بجنون :
” اسمع ماذا ؟؟ اسمع ماذا ؟؟ اسمع كيف أخفى شقيقي عني حقيقة حبه للمرأة التي كانت ستصبح زوجتي ؟؟ اسمع ماذا سالار ؟؟ لقد كدت تلقي بنا في الهاوية أيها الحقير”
ازدادت صرخاته جنونًا :
“أيها الحقير كيف كنت سأنظر في عيونك وعيونها إذا اكتشفت هذا بعد زواجي بها ؟؟ ماذا كان سيحدث لي حين اكتشف أن المرأة التي تزوجت وتسكن أسفل سقف غرفتي تسكن كذلك في قلب قائد جيوشي وشقيقي؟؟ كيف كنت سأنظر لنفسي حين أدرك أنني تزوجت المرأة التي أحببت أنت، وأنت…”
صمت ثواني يرى نظرات سالار تتسع بقوة وكأنه للتو استوعب ما كان سيحدث إذا تم هذا الزواج، هو بالفعل لم يكن سيستطيع النظر في عيونه، بل ربما كان سيترك القصر بأكمله للجميع ويعتزل على الحدود مع جيشه .
ارتجف جسده لهذه الفكرة وصوت إيفان يهدر بصوت مرعب :
” وأنت كيف كنت ستنظر لي وقتها سالار ها ؟؟ هل كنت ستراني الملك الخاص بك وشقيقك، أم كنت ستنظر لي نظرة كره وحقد لسرقة المرأة الوحيدة التي احببت ؟!”
تنفس سالار بصوت مرتفع :
” أنا فقط لم …لم أرد أن أصبح خائنًا في عيونك إيفان ؟؟”
هدر إيفان بجنون وهو يلقيه للخلف صارخًا :
” فاخترت أن تجعلني مغفلًا في عيون نفسي، وحقيرًا في عيونك بعدما اسلبك إياها ؟؟ ما الذي فعلته بنا سالار ؟؟ ما الذي كان سيحدث لو أنك جئت لي واخبرتني أنك تحبها وهي تبادلك المشاعر ؟؟ هل كنت سأقتلكما ؟؟ يا ويلي ما الذي فعلته بنا، كيف اوصلتنا لهذه النقطة ؟؟ لقد شاهدك الجميع في الساحة تضمها لك مرتجفًا ومشاعرك تنعكس في عيونك ..”
نظر سالار أمامه وللمرة الأولى يعترف أنه أذنب وأخطأ في حق نفسه قبل الجميع، ضم يديه يواجهه خطأه بكل قوة وهو ينتظر حكم إيفان :
” أنا جاهز لأي حكم تصدره مولاي ”
نظر له إيفان وهو يمسح وجهه بقوة وقد شعر في هذه اللحظة برغبة عارمة في ضربه، لذا هو لم يتأخر في تنفيذ رغبته إذ رفع يده بلكمة قوية على وجه سالار صارخًا :
” لقد اسقطتنا في مشكلة كبيرة بعدما ابصرك الجميع، لقد سمعت بأذني الجنود يتحدثون في الأمر، لو أنني علمت مسبقًا لكنت تدبرت الأمر سالار، أنت الآن في أعين الجميع مذنب بالنظر لزوجة الملك أيها الحقير ”
كان غضب إيفان من سالار في هذه اللحظة نابعًا من خوفه عليه، يا الله هو لا يود أن تتبدل نظرات الجميع لسالار بعد كل تلك السنوات التي افناها في بناء مكانته .
ابتلع ريقه يقول بصوت منخفض :
” أوتعلم سالار، جميعنا آثمين، لا الومك أن خنتني وقد خنت بالفعل نفسي وتبارك، احببت غيرها وخنتها، ربما نحن متعادلان الآن ”
نظر له سالار ولم يبدي أي ردة فعل، بل فقط قال بهدوء ينذر أن القادم لن يكون هينًا بأي شكل من الأشكال :
” والآن ماذا ؟؟”
نظر له إيفان ولم يغفر له بعد ذلته تلك التي كادت تودي بعلاقتهما للجحيم :
” الآن ستتعرض للمحاكمة الملكية أمام الجميع لنصمت جميع الألسنة سالار، وستنال حكمًا عادلًا …”
_______________________
تحركت داخل المشفى بسرعة تحمل العديد من الاعشاب بين يديها وهي تبحث عنه بين الجميع حتى أبصرته يخرج من إحدى الحجرات فانطلقت تعدو صوبه متحدثة بسرعة ولهفة :
” سيدي الطبيب ”
رفع مهيار عيونه بسرعة صوب ذاك الصوت الذي يدرك صاحبته جيدًا لكنه لا يدرك سبب وجودها في مثل هذه الظروف هنا :
” ليلا ؟! ما الذي تفعلينه هنا ؟؟”
ابتلعت ليلا ريقها تشير للجندي الذي يحمل الاعشاب خلفها :
” لقد جئت أوصل لك الاعشاب التي تحتاجها و…ربما اساعدك إن احتجت لذلك ”
نظر لها مهيار برفض ولم يكد يتحدث بكلمة حتى أبصر الفوضى التي تعم حوله فقال بسرعة :
” تستطيعين ؟!”
ابتسمت له ليلا بسمة واسعة تهز رأسها بسرعة :
” نعم، استطيع لا تقلق ”
تنهد مهيار بصوت مرتفع يشير صوب إحدى الغرف :
” في هذه الغرفة مريضة تعرضت لضربة سيف قوية، وقد أصيبت على إثرها بحمى عنيفة، يمكنك الاعتناء بها واعطاءها الاعشاب اللازمة ؟؟”
هزت ليلا رأسها بسرعة وهي تتحرك صوب غرفة زمرد تضم الاعشاب لصدرها، وفي عيونها يلتمع حماس كبير لمساندة مهيار الذي ابتسم لها بسمة صغيرة، ثم هرول يكمل ما كان يفعل .
وليلا دخلت الغرفة بسرعة تضع الاعشاب على الطاولة، ثم انتقت من بينهم الوعاء المخصص لحالة زمرد وشرعت تطحن تلك الأعشاب وتضعها بالشكل الصحيح لزمرد والذي كان يستلزم أن تفرد جزء منها على مقدمة رقبتها لتنزع ليلا العقد وتنظر حولها بحثًا عن مكان تضعه به حتى استقرت أن تضعه في ثوبها، ثم تسلمه لذويها .
وبالفعل اندمجت ليلا في وضع الاعشاب لزمرد التي كانت قد بدأت تهذي بكلمات غير مفهومة وتردد كلمة معينة بشكل متكرر ( منبوذة ).
نظرت لها ليلا بعدم فهم، لكنها لم تعبأ فقط استمرت في وضع الاعشاب لها بسرعة كبيرة، ثم حينما انتهت حملت باقي الاعشاب وخرجت تبحث عن مهيار تسأله ما يمكن فعله ..
وهكذا استمرت ليلا لساعات طويلة تساعد مهيار في معالجة بعض المرضى، وهي تدور يمينًا ويسارًا، حتى شعرت بالتعب الشديد لترتكن لأحد الجدران تلتقط أنفاسها، حتى فجأة أبصرت مهيار يخرج من إحدى الغرف يحاول هو كذلك التقاط أنفاسه، كان الأمر صعبًا كونه المسؤول الأول في مثل تلك الحالات، وربما كان الوقت غير مناسبًا لقول ذلك، لكنه بهذه الحالة وهذه النظرات كان أكثر من وسيم في عيونها و…عيون تلك المرأة التي تقترب منه مبتسمة يشكل مستفز تتحدث بكلمات وصلت بها إذ كانت تجلس بالقرب منهما:
” أحسنت سيد مهيار، لقد تداركنا الوضع تقريبا وبعد ساعة يمكننا المرور مرة إضافية على الحالات أجمع و….”
” مهيار لقد انتهيت للتو مما وكلتني به ”
ورغم أنها لم تكن معتادة على نطق اسمه مجردًا بهذا الشكل، إلا أن الغيرة المندفعة لصدرها في هذه اللحظة قاسية لتتحمل تلك النظرات .
ابتسم مهيار بارهاق شديد دون أن يبصر نظراتها التي توجهها صوب طبيبة القصر :
” احسنتي ليلا، لقد ساعدتيني اليوم أكثر مما كنت اتوقع، أنا حقًا مدين لكِ بالكثير ”
نظرت له ليلا ثم تحركت عيونها صوب الطبيبة تقول دون شعور وبلا مقدمات :
” لا بأس مهيار فهذا واجبي كزوجة لك، لا شكر بيننا صحيح ؟؟”
صُدم مهيار تلك الكلمات التي تخرجها للمرة الأولى صراحة، بينما الطبيبة شعرت بالذهول لتقول :
” زوجة ؟؟”
” نعم زوجته، ألم يخبرك مهيار أننا سنعقد القرآن قريبًا جدًا؟! لقد كان من المفترض فعل ذلك منذ أيام مضت، لكنكِ تعلمين أن الحرب حالت ما دون ذلك، لكن لا بأس ها نحن انتهينا منها وانتصرنا بفضل الله والآن نحن سنتزوج وأنتِ بالطبع مدعوة، أليس كذلك مهيار ؟؟”
هز مهيار رأسه ببسمة يتحدث للطبيية :
” نعم صحيح، سأكون سعيدًا إن أنرتنا بوجودك ”
شحب وجه الطبيبة، لكنها رغم ذلك ابتسمت تقول كلمات مقتضبة قبل أن تتحرك بعيدًا عنهما تاركة ليلا ترمقها بشر وبمجرد أن اختفت عن الأنظار استدار لها مهيار مبتسمًا :
” لقد فاجئتني برغبتك في تعجيل الزواج، ما رأيك بعدما تفيق زوجة أخي نـ ”
لكن ليلا نظرت له بشر تقول :
” تعلم أن تضع حدودًا بينك وبين النساء سيدي الطبيب، وتوقف عن حديثك المعسول هذا مع أي امرأة تقابلها كي لا ترتفع طموحاتهن ”
اتسعت عين مهيار لا يفهم ما تقصد وقبل أن يطالبها بتوضيح تركته ليلا تتحرك بسرعة مبتعدة عنه بغضب، وهو فقط تساءل بصوت مرتفع :
” مهلًا إلى أين ليلا ؟؟”
” إلى مرجان فقد انتهيت هنا، لقد كان على حق بأنك شخص عابث ”
اتسعت أعين مهيار بعدم فهم، بينما هي تجاهلت كل ذلك تخرج صوب المكتبة وقد كان صدرها مشتعلًا بالغيرة …
___________________
بعد ساعة من انتهاء كل تلك الفوضى بالقصر وأخيرًا تماسكت لتتحرك صوب كهرمان تخبرها ما حدث، وها هي كهرمان تركض بين طرقات القصر مرتعبة بعدما قضت الساعة السابقة تبحث عنها في كل مكان .
كانت تركض باكية وهي تلوم نفسها :
” يا ويلي كل هذا بسببي، ما كان عليّ أن اسمح لها بالرحيل، أنا السبب في كل ما حدث لها، لن اسامح نفسي إن أصابها سوء ”
توقفت أمام غرفة زمرد التي كان يرابط عندها دانيار يضم سيفها منتظرًا أي إشارة تدل على أنها بخير، حتى تفاجئ باندفاع جسد كهرمان للغرفة تصرخ باسمها :
” زمرد عزيزتي، أنا آسفة، يا ويلي ما كان عليّ تركك ترحلين، سامحيني زمرد، سامحيني حبيبتي ”
كانت تميل على رأس زمرد تقبلها باكية تهمس لها بالعديد من الكلمات، وتبارك تقف أمام الباب تراقب كل ذلك بأعين دامعة، حتى رأت أن ترحل تاركة الاثنتين وحدهما ..
وبالفعل خرجت وتحركت بعيدًا عن المكان بأكمله وهي تشعر بضيق شديد يجثم أعلى صدرها، تشعر أنها لا تستطيع التنفس الاحزان تراكمت والخوف حُشد على أبواب قلبها والمستقبل مجهول، لكنها تثق به، تثق أن كل شيء سيكون بخير .
أو ربما لا ……
تلك النظرات التي يرميها البعض بها جعلتها مرتابة، فالبعض يحدق بها ويهمس، والآخر يطيل النظر بها دون سبب وجيه، أسرعت تبارك من خطواتها في المكان وهي تحاول تلاشي كل تلك النظرات .
ومن بين خطواتها تلك سمعت صوتًا يخترق أذنها بكلمات زلزت كيانها ( لقد ابصر الجميع القائد يعانقها في الساحة دون خجل، ربما كانت تربطهما علاقة أو ما شابه، لا أحد يدرك الحقيقة و..)
و..لا شيء، لم تقف لتسمع باقية الحديث وهي تركض بضيق وقد عادت لها ذكريات الحارة المجيدة حين كانت النسوة تتهامس على اخبارها، لكنها ما كانت تهتم وقتها وقد اعتادت الحديث، لكن الآن وهو في هذه الحسبة، تغيرت جميع الأمور وأصبحت تهتم، فإن لم يكن لأجلها، فلاجله .
سقطت دموعها تركض بسرعة بين الممرات تبحث بعيونها عن غرفة الملك تدعو الله أن تجده هذه المرة وليس كالمرة السابقة حين جاءت تخبره بعدم رغبتها في الزواج .
تذكرت حين تحركت من أمام جناح سالار مسرعة صوب القاعة وجناح الملك لتتفقده وتخبره بقرارها، لكنها لم تجده وقد أخبرها الجنود أنه تحرك بالفعل صوب مكان الاحتفال، لو أنها فقط لحقت به حينها، ابتلعت ريقها تمسح دموعها وهي تشعر باهتزاز صدرها بالخوف، هي لم تكن ستدع الزواج يتم وكانت ستقاطعه وتطالب الملك بحديث خاص بعيدًا عن الجميع وترفض، كانت سترفض بعيدًا عن سالار كي لا يتأذى، لكن فات الأوان لذلك .
________________________
كان يجلس مع العريف في المكتبة وقد ثارت ثائرة الاخير ينتفض عن مقعده بغضب شديد تسبب في طيران بومته بعيدًا بخوف :
” هل جُن إيفان ؟؟ يعرضك لمحاكمة ملكية ؟! لقد جن بالطبع ”
ابتلع سالار ريقه يحاول أن يُهدأ العريف :
” إيفان لا يفعل ذلك سوى ليساعدني، فقد تأزمت الأمور في القصر، والاخبار تنتشر كالنار في الهشيم، ولكي يدفن الأقاويل في أرضها عليه أن يصدر حكمه على مرأى ومسمع من الجميع .”
رفض العريف وشعر بأن الأمور قد بدأت تزداد سوءًا :
” لكن الجميع سوف … أنا لا اقبل بهذا الشيء وسوف اعترض في المحاكمة بموجب السلطة المخولة لي كعريف لهذه المملكة، سوف اعترض عن المحاكمة بأكملها و…”
” وماذا أيها العريف ؟؟ هل ستستطيع أن تصمت جميع الأفواه في هذه المملكة ؟؟”
رفع العريف رأسه بسرعة صوب إيفان الذي ظهر في منتصف المكتبة فجأة، ينظر لهما بترقب بينما العريف اشتعل غضبًا يضرب الطاولة :
” سأفعل كل ما استطيع لأبعد أي شر عن بني إيفان”
نظر له إيفان ثواني دون ردة فعل ليتدخل سالار بسرعة كارهًا ذلك الحديث :
” ما بك يا عم، إيفان لا يطمح لاذيتي، لا تنس أنه يفعل كل ذلك لأجل مصلحتي ”
صرخ العريف وقد جُن جنونه لا يعي لما يحدث حوله سوى أن سالار سيتحول لمحاكمة قد تؤدي إلى تدمير اسمه ومكانته التي عكف على بنائها طوال سنوات عمره عملًا بوصية والده :
” لا، أنا لن أهدأ حتى يتعهد الملك امامي في هذه اللحظة أنه لن يمسك بسوء وأن هذه المحاكمة مجرد أمر صوري لن يمس مكانتك واسمك في المملكة”
نظر له إيفان مطولًا يهمس :
” يبدو أن ثقتك بي كانت أقل مما توقعت أيها العريف ”
” أنا لا اثق بأحد ولا اطمئن لأحد في هذا القصر عدا ولدي أيها الملك، وخاصة أحد أفراد العائلة الملكية الذين لا يضمرون لسالار سوى الشر، وأنت سيد العالمين ”
انتفض جسد سالار بقوة وقد شعر أن العريف تجاوز حدوده صوب نقطة محذورة بالفعل :
” يا عم، رجاءً توقف، إيفان اخي وأنا أثق به أكثر من نفسي، وهو لن يؤذني يومًا، فوالله الذي لا إله إلا هو لو طلب مني إلقاء نفسي في بركان لادركت أن نيران تلك البركان ستكون بردًا وسلامًا عليّ أكثر من بحيرة باردة”
شعر إيفان بالوجع يوجه لمنتصف صدره لكلمات العريف، فابتسم بسمة صغيرة يقول :
” لا بأس سالار أنا أدرك جيدًا ما يقصد العريف، دعه يتحدث بما يريد فلربما ساهم ذاك في إطفاء نيران غضبه ”
تنفس العريف بصوت مرتفع وهو يبعد عيونه عن إيفان، وقد ازدادت بسمة إيفان في هذه اللحظة سوداوية .
وفي هذه الثانية التي كان الجميع يتحدث بها اقتحمت ليلا المكان دون أن يشعر بها أحد، وحين رأت أن الساحة مشتعلة بالفعل بين الجميع تراجعت بشكل تلقائي تتنفس بصعوبة وقد رأت أن تعود لاحقًا .
لكن ما كادت تخطو للخارج حتى سمعت صوت الملك يهتف بنبرة خالية من أي مشاعر :
” أنا أقدر خوفك على سالار من جميع أفراد الأسرة الملكية أيها العريف، لكنك تدرك جيدًا في نفسك أنني يومًا لن اتسبب في أذية سالار ولو كان المقابل حياتي، كما تدرك أفضل من الجميع هنا ما يحدث لست أنا المتسبب به ولم اختره بملء إرادتي، ولو كان الخيار لي لاخترت ضرري على أذية سالار ”
انتفض سالار يقترب منه بسرعة هامسًا :
” إيفان…”
قاطعه إيفان يرفع في وجهه قبضة يده :
” لا بأس سالار، أنا بالفعل أدرك كل ما يحدث حولي، والعريف يدرك ذلك، هو يعلم، يعلم أنني ما اخترت أن ما اخترت أيًا مما أعيشه الآن، وانما أجبرت على ذلك ”
نظر له العريف وقد شعر بالوجع لأجله، وشعر أنه تجاوز حدوده فقال بصوت خفيض، فهذا إيفان طفله كذلك وهو يدرك جيدًا كيف هو، لقد تجاوز واعماه خوفه على سالار :
” إيفان أنا….”
قاطع كل الكلمات التي كانت على وشك الخروج من العريف صوت تحطيم قوي جاء من الخلف جعل الرؤوس بأكملها تستدر بقوة .
نظر الجميع لبعضهم البعض قبل أن تحلق الأعين حول ليلا التي نهضت بسرعة تعتذر بخجل بعدما أصم في الطاولة أثناء خروجها :
” اعتذر منكم، أنا فقط جئت لرؤية اخي، لكن يبدو أنه ليس هنا، أنا…أنا آسفة سوف…سوف ارحل ”
ختمت حديثها تركض بسرعة تحت أعين الجميع التي كانت مصدومة من سماعها لما حدث، ولم يكد إيفان يعود لحديثه، حتى أبصرت عيونه شيئًا ساقطًا جذب أنظاره ..
تحرك ببطء يلتقط ذلك الشيء الساقط يطيل النظر به في شرود، ثواني أو دقائق لا يدرك كم كان عددها يطيل النظر لذلك الشيء وهو يحاول معرفة أين أبصره من قبل، هو يدركه جيدًا، وكيف ينساه وهو آخر ذكرى من بقايا حب والده الاسطوري ؟!
فجأة وعند هذه اللحظة، لمع الإدراك في عقل إيفان وسقطت صاعقة أعلى رأسه وصوت قوي يضرب رأسه ينتفض بشكل مخيف وهو يصرخ صرخة هزت جدران المكان بأكمله:
” أنـــــــــتِ توقــفـــي ”
انتفض جسد ليلا التي كانت تهرول في الممرات وقد شعرت فجأة بقرب توقف ضربات صدرها حين سمعت هدير الملك خلفها، استدارت ببطء تبصر ركض الملك لها وهو يرفع شيء في الهواء متسائلًا بشراسة :
” من أين احضرته ؟؟ من أين احضرتي هذا العقد؟؟”
نظرت ليلا للعقد بيده قبل أن تتحسس جيب ثوبها لتشهق وهي تقول بسرعة :
” اقسم أنني احضرته من مريضة في مشفى القصر، أنا لم اسرقه أنا فقط احتفظت به حتى تستيقظ ”
ردد إيفان بشحوب :
” مريضة ؟؟ أي مريضة تلك ؟؟”
في هذه اللحظة اقترب منه سالار وهو يتساءل عما يحدث ليسمع صوت ليلا تقول بارتجاف :
” هذه فتاة أُصيبت بطعنة وكنت اساعدها في وضع الاعشاب، احتفظت بهذا العقد فقط حتى تستيقظ و…..”
وقبل أن تكمل كلماتها تركها إيفان وهرول بجنون في طرقات القصر كما لو أن شبحًا يلحق به، كان يركض وهو لا يرى أمامه حتى وصل صوب المشفى يتخبط بين الغرفة يبحث عمن يرشده، يرى مهيار ليمسك به يتحدث وهو يرفع العقد في وجهه :
” أين صاحبة هذا العقد مهيار ؟!”
نظر مهيار للعقد بجهل :
” اي عقد هذا ؟؟ أنا لا اعلم عما تتحدث مولاي و…”
“تلك الفتاة شقيقة مرجان أخبرتني أنها أخذته وهي نعالج فتاة مصابة بطعنة هنا ”
فكر مهيار ثواني قبل أن يتساءل بجدية :
” زمرد ؟؟”
” اسمها زمرد ؟؟ أين هي ؟؟”
أشارت مهيار على غرفة زمرد بعدم فهم لينطلق لها إيفان غير عابئًا بأحد حوله وسالار يلحق به بعدم فهم، اقترب من الغرفة بتردد شديد وهو يشعر بالجنون قد أصابه منذ أبصر ذلك العقد الذي يعلمه تمام العلم، توقف أمام الغرفة يبصر جسد دانيار الذي كان يضم بين ذراعيه سيف لم يبصره بسبب ضبابية الرؤية .
وقبل أن يتحدث بكلمة سمع صوت سالار خلفه يقول بتسائل :
” إيفان ما الذي يحدث معك هنا؟؟ ما هذا العقد وما سبب جنونك حين رأيته بهذا الشكل ؟!”
استدار له إيفان ببطء وهو يرفع العقد له يقول بصوت خافت وجسد مرتجف:
” هذا …هذا العقد …هذا العقد صنعه والدي خصيصًا لأمي سالار ”
هتف سالار وهو يقترب منه بهمس وريبة :
” الملكة شهرزاد ؟؟”
سقطت دمعة من عيون إيفان يقول بصوت مرتجف وهو يهمس لسالار بصوت لم يصل لغيره وعيونه مثبتة على العقد يضم قبضته عليه بقوة :
” لا بل آمنة، أمي الحقيقية سالار، هذا عقد والدتي…….”
_____________________
الكل آثم …والاثم واحد .
يتبع…
” حتى في المدينة الفاضلة، حيث لا ذنوب ولا عصيان، ستراودك نفسك الامارة بالسوء أن تغادر أسوار المدينة وتجرب المتعة اللحظية التي تمنحك إياها المعصية ”
وهي كانت من اوائل من عبروا تلك الأسوار، أبت أن تلعب دور المسكينة طويلًا واستهوت نفسها دور الشرير في هذه الحكاية .
تستند على فراشها تحدق في المكان أمامها بشرود لا تسمع سوى اصوات الماضي ولا ترى إلا صور عذابها، عذابها الذي بدأ على يد تلك الخادمة التي استطاعت سلب ما لم تستطع هي أخذه…قلب تقيّ الدين .
انهارت ارضًا وهي تترجاه ألا يفعل بها هذا :
” ارجوك تقيّ الدين أنا ارجوك، لقد …أنا فقط سأفعل كل ما تريده فقط لا تفعل هذا بي ”
تألم تقيّ الدين من نظراتها وتنهد وهو ينحني يرفعها من كتفيها بود :
” شهرزاد، اقسم بالله أنني سأعدل بينكما ما استطعت، فلا تعتقدي أنني يومًا قد اظلمك، والله لن أفعل، لكن فقط … إن اردتي التحرر مني سأتفهم هذا شهرزاد و…”
نفت ورفضت شهرزاد بقوة صارخة :
” لا، لن أفعل ولن اتحرر منك، أنت لن تتخلص مني بهذه السهولة تقي الدين”
فزع تقي الدين من نظراتها المريبة وهو يردد بعد تنهيدة قصيرة :
” إذن شهرزاد أنتِ ستتقبلين أن تصبحي زوجتي الأولى، وآمنة ستصبح زوجتي الثانية ”
وقد كان، تزوج بها تقي الدين، وأصبحت تلك الخادمة التي لم ترتقي يومًا لتجاورها في السير، ندًا لها وزوجة للملك، الملك الذي عكف على تعليمها كل ما يؤهلها لتصبح ملكة كالقتال والفروسية وغيرها، ورغم أنه يومًا لم ينتقص من حق شهرزاد أو يظلمها، إلا أن ذلك لم يكن كافيًا لها.
شهرزاد التي دفنت جميع شياطينها في أعمق نقطة في ابارها قبل الزواج منه، ها هي تستخرج كل تلك الشياطين الآن، وخاصة بعد أن علمت أن تلك الخادمة تحمل وريث الملك الاول .
وما هي إلا أيام مرت لتكتشف شهرزاد أنها تحمل كذلك بطفلها، فسارعت تنشر الخبر بين الجميع أنها تحمل الطفل قبل آمنة ولكنها أسرتها في نفسها حتى تتأكد، أخبار نشرتها بين الجميع فقط ليعلموا أن البكر سيكون ولدها هي .
وتمر الشهور وشهرزاد تدفن نوايها في أعمق مناطق بئرها، حتى جاء اليوم المنتظر وحان موعد ولادتها المبكرة بسبب تناولها لبعض الاعشاب التي سهلت الأمر، لتعتزل بنفسها في المنزل الجنوبي حتى بعد ولادتها لطفلها الاول واعلنت أنها حصلت للملك على ولي عهد، مستغلة غياب الملك في أحد الحروب .
حتى وصلتها اخبار مولد آمنة لطفلها فعادت متخفية للقصر وقد جهزت كل شيء لهذه اللحظات .
ابتسمت آمنة بتعب تسمع صوت المرأة التي ساعدتها في وضع ولدها :
” مبارك مولاتي لقد رزقك الله بفتاة ”
نظرت لها آمنة نظرات شبه واعية تردد من بين ضباب عيونه :
” فتاة ؟؟”
وقبل أن تتساءل عما تقصد سقطت في غفوة غير معلومة السبب، غفوة لم تمنحها حتى فرصة التأكد مما سمعت .
في تلك اللحظة تحركت مرأة داخل الجناح تحمل بين ذراعيها فتاة صغيرة عمرها يومين تقريبا تضعها في الفراش الخاص بالصغير، وخرجت بالفتى الذي انجبته آمنة وتحركت بهدوء دون أن يوقفها أحدهم أو يوجه لها كلمة .
وقد أبصر ما حدث العريف والذي كان في طريقه صوب مكتبته وتعجب دخول الخادمة بطفل وخروجها بطفل كذلك من غرفة الملكة، لكنه لم يفكر في الأمر كثيرًا وتحرك صوب وجهته .
بينما الخادمة وصلت صوب جناح شهرزاد التي اتسعت بسمتها بمجرد أن أبصرت الصغير يتوسط ذراع الخادمة لتهتف بلهفة :
” الصبي ؟؟”
” نعم مولاتي هذا هو طفل الملكة آمنة ”
حدجتها شهرزاد بنظرات غاضبة مريضة وهي تنتزع منها الصغير صارخة :
” هذه الحقيرة ليست ملكة، وهذا ليس طفلها، من هذه اللحظة هذا ولدي أنا، طفلي أنا سمعتي ؟؟”
هزت الخادمة رأسها في رعب شديد، فالمرأة التي دبرت لكل هذا بدقة مخيفة، لا يجب أن يعارضها أحد وإلا ناله منها ما لا يسره .
وشهرزاد لم تهتم بنظرات الخادمة لها تضم الصغير لصدرها وهي تهتف له ببسمة مريضة :
” مرحبًا بك يا صغيري في أحضان والدتك، سوف تكون ولي عهد هذه المملكة وصغيري العزيز .”
فتح الطفل عيونه ببطء ينظر لها دون إصدار أي صوت وهي اخذت تدور به فرحة لا تصدق أن القدر ابتسم لها، فبعدما انعزلت في المنزل الجنوبي لتلد قبل آمنة وتحصل على طفلها أولًا، اكتشفت أنها فتاة فازداد سخطها وقررت ترقب مولد طفل آمنة، وحين علمت أنها أحضرت فتى سارعت للخطة البديلة وها هي، حازت طفلها الصغير لم يتبقى أمامها سوى التخلص من غريمتها وهذا تعلم جيدًا كيف تفعله ….
كل شيء كان مخطط له، رحيل الملك في هذا الوقت تحديدًا، وحصولها على الصغير، وما تبقى كالتخلص من آمنة لن يكون صعبًا .
أفاقت شهرزاد من أفكارها وهي ما تزال تحدق أمامها، تحاول أن تخرج من حالة الحنون التي اصابتها، تعقد أصابعها على مفرش السرير وهي تهتز بجسدها :
” فعلت كل هذا لأجل لا شيء ؟؟ ضحيت بكل ما امتلك، نبذت ابنتي وفقدت زوجي لأجل أن ينبذني بهذا الشكل ؟؟ لن أسمح له، لن أسمح لك يا ابن آمنة أن تفعل ”
انتفضت عن الفراش تتحرك بسرعة خارج الجناح بأكمله وهي تتحرك بغضب مخيف تهتف بصوت مرتفع في الجميع :
” ليجهز لي أحدهم موكبي سأعود للقصر ”
تحدث أحد الحراس في الممر الخاص بالمنزل الجنوبي :
” لكن مولاتي لقد أمرنا الملك …”
قاطعته بجنون وهي تصرخ في وجهه :
” اخبرتكم أن تجهزوا لي موكبي، أي كلمة مما قلت لم تفهموا ؟؟ اسرع قبل أن أصدر أوامري بحرقكم احياء، أنا هنا الملكة الأم”
نظر لها الجندي باعتراض ولم يشأ اخبارها أنها بالفعل فقدت كل تلك الامتيازات التي تتغنى بها، لكنه فقط اكتفى يقول :
” حسنًا مولاتي، لكن الملك بالفعل أمر بعدم تحركك إلا بأمر شخصي منه هو، لذا نحن نعتذر حقًا لا يمكننا تنفيذ أوامرك في الوقت الحالي ”
وهذه الكلمات كانت أكثر من كافية لتشتعل شهرزاد وهي تتراجع ببطء لا يعكس ما تضمر في صدرها :
” أنت محق، لا بأس إذن نفذ أوامر ملكك ”
تحركت بعيدًا عنه صوب الغرفة تحت نظرات الجندي المتعجبة رضوخها بهذا الشكل، لكنه لم يهتم كثيرًا وهو يعود لعمله.
بينما شهرزاد عادت للجناح تقول بنظرات مخيفة :
” يبدو أن الطرق الملتوية هي ما تجبركم على الطاعة أيها القذرين، سأريكم …..”
_____________________
صدمة سالار في هذه اللحظات تركته مشلولًا لا يقدر على النطق، عُقد الملكة آمنة ؟!
ابتلع ريقه يهمس لايفان بصوت خافت وبشدة وهو يجذبه بعيدًا عن باب غرفة زمرد بصعوبة :
” إيفان رجاءً تريث، ربما هو عقد مشابه لخاصة والدتك، ما الذي سيأتي بعقد والدتك لهذه الفتاة في الداخل ”
قال إيفان بصوت مرتعش متوتر لاول مرة وقد فقد اتزانه:
” هذا ما اريد معرفته، ربما …ربما تعلم مكان والدتي، ربما وجدت هذا العقد في مكان يمكنني الوصول لوالدتي فيه، ربما أخذته منها، أنا فقط …”
امسك سالار إيفان من كتفه يحدثه بصوت جاد وهو ينظر في عيونه بشكل صارم :
” إيفان عزيزي والدتك رحمة الله عليها ماتت وأنت طفل رضيع في إحدى الغارات، لقد قُتلت أمام أعين والدك ولولا رحمة الله به لكان رحل هو كذلك في اليوم ذاته ”
ارتجف إيفان وهو يهمس له :
” لكن هذا العقد …”
” ربما هو مجرد عقد مماثل لخاصة والدتك و…”
” مستحيل، مستحيل أن يكون، سالار انظر ”
ختم حديثه يشير صوب الجزء الخلفي في العقد مرددًا :
” هذا نقش بأحرف والدي، النقش الذي اعتاد وضعه على سيوفه الخاصة وما يصنع، اقسم بالله أن هذا العقد يعود لوالدتي ولا يوجد أحد قد يصنع مثله، أنا أعلمه من كل تلك الرسومات التي تظهر والدتي بها رفقة أبي ”
صمت ثم أشار للداخل يقول بصوت مرتفع :
” هذه الفتاة بالداخل بالتأكيد تعرف ما حدث لها، ربما …ربما هي حية، هم لم يجدوا جثتها، ربما لم تمت بعد”
في هذه اللحظة أفاق دانيار على حديثهم يحاول أن يفهم ما يقال والذي كان يتعلق بزمرد:
” ما الذي تتحدثون عنه، وما علاقة زمرد بما تقولونه و ..هذا العقد، هذا العقد خاص بها، كيف جاء لكم ؟!”
استدار إيفان صوب المتحدث بسرعة وهو يستوعب الآن أنه دانيار ليقول بترقب :
” هل تعلم ..هل تعلم هوية الفتاة بالداخل ؟!”
شعر دانيار بالخوف يملئ صدره وقد خشي للحظات أن يكون الملك قد جاء ليوقع عقاب عليها، فقط مرتاب من نظرات إيفان تلك التي لا يدرك لها سببًا .
ابتلع ريقه يهز رأسه بهدوء شديد :
” هي …هي …ما الذي فعلته لتتساءل عن هويتها مولاي ؟!”
رفع إيفان العقد أمام أعين دانيار دون مقدمات لتشتعل أعين الاخير بنظرات التقطها إيفان :
” هل هذا العقد يخصها ؟؟”
مد دانيار يدها ليلتقطه منه، لكن إيفان أبعده بسرعة وكأنه يأبى أن يفارق كفه :
” نعم هو لها، و…هل يمكنك اعطاءه لي مولاي ؟؟ فهي متعلقة بهذا العقد أكثر من أي شيء وستحزن إن فقدته، رجاءً”
أضاءت أعين إيفان بنظرات غامضة :
” ترى ما سبب تعلقها بهذا العقد ؟! ومن أين لفتاة عادية كتلك الفتاة بالداخل أن تحصل على مثل هذا العقد الثمين، وما سبب إصابة تلك الفتاة بطعنة يا ترى ؟؟”
اسئلة كثيرة سقطت فوق رأس دانيار الذي هز رأسه وهو يحاول أن يخرج بإجابة ترضي إيفان وفي الوقت ذاته لا تضر بزمرد:
” هذا …هذا العقد متوارث من والدتها، وهي فقط متعلقة به لأنه آخر ما تمتلك منها، وهي في الداخل لأنها فقط أُصيبت بطعنة طائشة و….”
كلمات كثيرة نطق بها دانيار وهو يحاول التبرير لإيفان الذي لم يكن يعي من حديثه سوى الجملة الأولى، هل قال والدتها ؟؟ كيف ذلك ؟! هذا العقد يعود لوالدته هو .
نظر صوب سالار وكأنه يطلب منه الدعم، كأنه يترجاه المساعدة فيما يحدث له، وسالار كان عاجزًا عن فعل شيء سوى فقط التساؤل بشك :
” هل الفتاة بالداخل هي نفسها رفيقة الأميرة كهرمان ؟؟”
هز دانيار رأسها بهدوء شديد وتردد لتتسع أعين إيفان وهو يهمس بشحوب :
” أي واحدة تقصد ؟! هل هي نفسها زوجة تميم و….”
قاطعه دانيار نافيًا برأسه:
” بل الأخرى، نفسها الفتاة التي كانت تعترض أثناء محاكمة خاطفي الأميرة كهرمان ”
ضربت ذكرى ذلك اليوم إيفان وهو يحاول تذكر تلك الفتاة التي يتحدث عنها، حتى سمع صوتها يتردد في أذنه وهي تعترض بكل تبجح وتصرخ في وجه الرجال، نفسها الفتاة التي تبجحت سابقًا في حادثة السرقة لزوجة تميم .
عند هذه النقطة تحرك إيفان بسرعة عن باب الغرفة وهو يهتف بأمر قوي اللهجة :
” اعلموني حين تفيق الفتاة ”
ودون انتظار رد انطلق يعدو في القصر بشكل مخيف جعل سالار يلحق به بسرعة خوفًا أن يتسبب لنفسه في ضرر، لكن إيفان لم يكن يهتم بكل هذا وهو يتحرك صوب المكتبة يقتحمها بقوة دون أن يهتم بجسد تبارك الباكية التي انتفضت عن موضعها جوار مرجان والذي كان يحاول مراضاتها..
اقتحم إيفان المكتبة يصرخ باسم العريف والذي خرج له سريعًا متعجبًا :
” ما الذي يحدث هنا ؟! هل قررت العودة للانتقام من كلماتي التي …”
لكن إيفان قاطعه وهو يتحرك له بسرعة يجذبه صوب أحد الأركان تاركًا خلفه سالار الذي توقف ينظر لتبارك بشر هامسًا :
” ما الذي تفعلينه خارج جناحك مولاتي في هذا الوقت ؟!”
رفعت تبارك عيونها له بعدم فهم ليهتف هو بغضب وقد كان لا ينقصها حقًا في هذه اللحظة أن تسمع صرخاته :
” عفواً ؟؟”
” عفواً أنتِ مولاتي، لكن وجودك الآن خارج الجناح أمر مرفوض بالمرة”
نهضت تبارك عن مقعدها تجابهه صارخة بوجع مما تتعرض له :
” ومن يا ترى الذي أصدر هذا الأمر ؟!”
أجابها سالار بقوة :
” أنا”
ابتسم له بسمة صغيرة تبادله العناد بالمثل :
” حين يتخلى الملك عن الحكم لاجلك، وقتها سأنفذ أوامرك يا قائد ”
ختمت حديثها تتحرك عائدة صوب مرجان الذي لم يكن يفهم أيًا مما يحدث حتى سمع صوت سالار يقول :
” وكلمة الزوج تعلو كلمة الملك، تبارك ”
توقفت اقدام تبارك بصدمة كبيرة لتلك الكلمات تستدير له بملامح متشنجة متسائلة، وهو منحها بسمة صغيرة :
” وانا في مكانة زوجك المستقلبي في الوقت الحالي، لذا رجاءً توجهي لغرفتك دون التسبب في مشاكل آنسة تبارك”
ابتسمت له تبارك بسمة واسعة مغتاظة :
” أرى أنك تمنح نفسك العديد من الحقوق التي لم امنحها أنا لك يا قائد ”
” يحق لي، تبارك ”
” حق أخذته دون شورى أو وجه حق لا يُعد حق”
اقترب منها سالار يجيب بجدية كبيرة وهو ينظر لعيونها متحديًا :
” هذا لم يكن حديثك حين عرضتي عليّ مشاركتي الحرب تبارك ”
” وهل الزواج حرب يا قائد ؟!”
ابتسم لها بغضب مما يحدث الآن في هذه اللحظة وهو لم ينتهي بعد من اتفاقه مع إيفان، هتف ببساطة قبل أن يلقي مرجان بنظرة تحذيرية تعني الكثير وتخفي الكثير :
” سيكون كذلك إن كان منكِ ”
ختم حديثه يتحرك بعيدًا عنهما تاركًا مرجان يحاول الهرب من المكان بأسره ليتجنب أي مخاطر على تفسه، وما كاد يتحرك حتى أوقفته تبارك وهي تقول :
” إلى أين مرجان، لم انتهي من شكوتي بعد ؟!”
” أنا…أنا فقط تذكرت فجأة أن ابي طلب عودتي اليوم للمنزل سالمًا، فأردت أن اطمئنه أنني مازلت حيًا، لذا استأذنك بالرحيل مولاتي ”
ركض سريعًا عقب كلماته وتبارك تنظر في أثره بعدم فهم، ثم استدارت صوب الجهة التي تحرك لها الجميع تفكر في الرحيل لئلا تتطفل عليهم، لذا تحركت خارج المكتبة تقرر الذهاب لتفحص حالة زمرد وكذلك برلنت .
_____________________
” والآن ماذا سيدي ؟؟”
ارتشف بافل ما تبقى في كأسه يجيب والنيران تملئ صدره :
” الآن سننتظر حتى تتحول نيران غضبهم لرماد، وحينها نهجم ونضربهم ضربتنا ”
اعترض أحد الرجال الذين فروا من مشكى لمخبئهم :
” نضرب ماذا ؟؟ نضربهم ضربتنا ؟؟ تقصد نريهم خيبتنا”
ختم حديثه يضحك بسخرية ثم أكمل :
” نحن وكنا كاملي الصفوف هُزمنا على الجانبين، الآن وقد اصبحنا كالقطيع المشرد تود أن نهجم عليهم ؟؟ معذرة يا بافل أنت في هذا وحدك يا عزيزي ”
وبمجرد أن نطق تلك الكلمة حتى ارتفعت الصيحات المؤيدة والجميع يؤكد رفضه التام لأخذ أي خطوة إضافية صوب الممالك، يعبرون جميعهم عن غضبهم باستياء شديد :
” نعم هذا ما سيحدث لا قبل لنا في الاقتراب من الممالك، لنتعايش كما كنا وننسى ما حدث، فغضبنا لن يفيدنا على أية حال ”
علت الهمهمات المؤكدة لحديثه والجميع يوافق، بينما بافل ينظر لهم بأعين حمراء وقلبه ينتفض غضبًا وذلًا لن يخمد إلا بالانتقام .
دار بعيونه بين الجميع قبل أن يبصق ارضًا هامسًا :
” حفنة من الجبناء الضعفاء الوسخين، وتتعجبون أن هُزمنا ؟؟ حمدًا لله أننا لم نفنى بعد ايها القذرين ”
صمت يتنهد بصدر يجيش بالكثير :
” لكن أنا، أنا لست مثلكم، ولن أكون، وثأري سآخذه وبيدي هذه …..”
____________________
” هل قصدت ما سمعته للتو تميم ؟؟”
نظر لها تميم لحظات قبل أن يهز رأسه بهدوء وفي عقله أفكار كثيرة تتقاذفه ظنونه، وحين أبصر نظرات الصدمة تعلو وجه برلنت سارع للقول :
” أبي بخير ولم يُعدم بيرلي، هو بخير لقد عفى عنه الملك حين علم أنه مظلوم و..”
” وعشت حياتي اجلد نفسي بسياط الندم لأجل شيء لم يحدث ؟؟”
كانت كلمات برلنت خافتة مكسورة النبرة ودموعها التمعت بحسرة داخل عيونها، حسرة على ايام ضاعت من حياتها بين دوامات الندم والحزن والقهر، يا الله لقد عانت لشهرين كاملين من كوابيس قاتلة كادت تودي بصحتها النفسية .
ابتلعت ريقها تقول بصوت منخفض :
” لقد كدت أموت حسرة في أحد الأيام لولا أن اغاثتني والدتي و….”
صمتت برلنت فجأة وهي تدفن وجهها بين يديها ليتحرك تميم يجاورها بتردد يجذب رأسها لصدره هامسًا :
” بيرلي، صغيرتي لا تبكي رجاءً ”
صرخت برلنت باكية دافعة إياه بعيدًا :
” لا تطالبني بالتوقف تميم، فهذه حياتي التي تدمرت هنا وليست خاصتك ”
تنفست بصوت مرتفع وهي تهتف :
” هنت وهانت حسرتي عليك تميم لتخفي عني كل هذا ؟؟ أنا فقط أشعر بالـ ”
توقفت ثواني تحاول أن تتوازن وتدرك ما تشعر حقًا في تلك اللحظة، ليراودها شعور مبهم من السعادة بالتحرر من ذاك الذنب الذي كبلها، مختلطًا بشعور الحسرة على سنوات ضاعت بسبب ذلك الذنب نفسه، هي فقط تشعر دون إرادة منها أنها حزينة ومقهورة، حتى وإن ظن البعض في تلك اللحظة أن مشاعرها سخيفة مبالغ بها .
” تميم أنا ….أنا فقط سعيدة لأجل والدك، وكذلك والدتك، أنا سعيدة لأجل عائلتك”
وتعيسة لما أصاب عائلتي، لكن هل تلومه على ما أصاب عائلتها ووالدها هو من تسبب في كل ذلك ؟! لا فهو عانى وعائلته جراء مكر والدها، لكن الله يمهل ولا يهمل، وها هي عائلة والدها تدمرت، وعائلة تميم نجت .
سقطت دموعها بحزن وقهر تحت أعين تميم المتفهمة لكل الأفكار التي قد تمر في عقلها الآن، يدرك التخبط والحسرة التي تملئ نفسها، وهو ابدًا لم يكن على استعداد ليتحمل كل ذلك ..
اجبرها تميم على الخضوع لاحضانه وهو يهمس لها :
” ارجوكِ بيرلي اسمعيني وتوقفي عن البكاء، انى أرجوكِ اقسم أنني سأخبرك كل شيء لكن فقط توقفي عن هذا البكاء فهذا ليس بالشيء الجيد وقد استيقظتي للتو بعد أيام مرض ”
بكت برلنت أكثر وكأنه أمرها بذلك تتحدث بتقطع من بين نبرتها :
” أنا لا يمكنني تخيل أنني طوال هذه السنوات عشت بشعور الخزي والقهر لأجل لا شيء، تحملت رؤيتك أمامي دون التقدم والتحدث بكلمة لأجل لا شيء، اضعت حياتي هباءً لأجل لا شيء، تميم لقد …لقد توقفت حياتي منذ ذلك اليوم الذي أدركت ما فعلت بالعم مؤمن ”
ضمها تميم وهو يشعر بالغضب يستحوذ عليه من أجل ما تعاني، ولم يتحدث بكلمة قد تثقل من مشاعرها، ولم يخبرها أن والدها كان يعلم الأمر واستمر بإخفائه :
” أنا آسف حقًا بيرلي ”
بكت برلنت أكثر وهي تهمس :
” لِمَ أخفيت عني تميم، لماذا لم ترحم حالتي السيئة وتخبرني ؟؟”
ابتلع تميم ريقه يقول :
” ظننتك تعرفين و…”
” من أين لي بتلك المعرفة وانا غادرت القرية قبل أن نسمع الحكم على والدك، أنا بالكاد علمت ما حدث من أبي و….”
صمتت فجأة وقد ضربها الإدراك فجأة لتتأوه بصوت موجوع مجروح :
” اوه، ابي …لا بد أنه كان …كان يعلم صحيح ؟؟”
أبعد تميم عيونه عنها ولم يكد يتحدث بكلمة حتى سمع صوت طرقات على الباب قاطعت حديثهم، تنهد تميم براحة أن تخلص مؤقتًا من حصارها يتحرك صوب الباب ليفتح، وتفاجئ بوجود تبارك التي ابتسمت له بسمة صغيرة تقول بصوت منخفض :
” مرحبًا تميم، هل يمكنني فحص برلنت ؟؟”
نظر لها تميم ثواني قبل أن يبتعد عن المدخل مشيرًا صوب الفراش :
” نعم رجاءً كنت سأستدعي أحدهم ليفعل ”
ابتسمت تبارك تخطو للغرفة ولم تكد تتحدث حتى سمعت صوتًا افتقدته يقول بلهفة :
“تبارك ”
نظرت تبارك جهة الفراش لتتسع بسمة هاتفة :
” برلنت ؟؟ يا ويلي أنتِ بخير ؟؟ أنا لا اصدق، متى استيقظتي ؟؟”
أجاب تميم براحة وقد فرح أن شغلتها تبارك عن التفكير في ما حدث :
” للتو فعلت، هل يمكنك فحصها ؟؟”
” نعم بالطبع سأفعل، الحمدلله على سلامتك والعقبى لزمرد إن شاء الله ”
كانت تتحدث بعفوية كبيرة وهي تتحرك صوب الفراش قبل أن ينتفض جسدها للخلف بقوة كبيرة على إثر صرخات برلنت الهادرة :
” مهلًا ماذا ؟؟ ما الذي قلته للتو ؟! زمرد ؟؟ ما الذي أصاب زمرد ؟؟”
أبصرت تبارك نظرات تميم الذي اغمض عينه بقوة وكأنه بذلك يتجنب صراخها، لتعض شفتيها وهي تكرر بصوت منخفض وقد تعزز عندها شعور أنها تسبب المشاكل للجميع حولها حتى وإن لم تتعمد ذلك :
” هل قلت شيئًا لا يجب قوله !؟”
نظر لها تميم بيأس فتمتعت بصوت منخفض خجل :
” آسفة …”
_______________________
في أحد أركان المكتبة كان يدفع جسده صوب الجدار يحاصره بعيونه غاضبًا ثائرًا يبحث عن الحقيقة بين نظراته وكأنه سيستطيع استخلاصها منه بالفعل:
” أخبرني إذن..”
” أخبرك ماذا أيها الـ ”
صمت العريف حين أبصر نظرات إيفان له ليبتلع ريقه مدركًا أنه الآن ليس واعيًا وأنه يمر بحالة جنون نادرة في الوقت الحالي :
” مولاي، إن كان غضبك بشأن ما حدث وما قلت لك منذ وقت قصير، فأنا فقط كنت غاضبًا، اقسم لك إيفان أنني أثق بك ثقة عمياء، أرجوك ألا تحزن من غبائي، أنت بني مثلك كسالار اقسم بالله و…”
” توقف عن الحديث الكثير أيها العريف ليس هذا ما عدت لأجله فكلماتك تلك لم أتوقف عندها لكثير من الوقت لمعرفتي أنك أضحيت عجوز خرف في أواخر حياته لا يدرك ما يتفوه به، فلا بأس بما قلت ”
تغضنت ملامح العريف وقبل أن يتحدث اقترب سالار منهم يقول بصوت جاد :
” إيفان ما الذي تفعله ؟؟ دع العم شهدان وشأنه ”
نظر له إيفان بشر ومن ثم نظر لشهدان يقول:
” ليس قبل أن يتحدث بكل ما يعلم ”
اجابه سالار وهو يقترب منهم يحرر العريف من بين أنامل إيفان بجدية كبيرة :
” دعه فقط رجاءً وهو سيتحدث بكل شيء دون حاجتك للتعامل بهذا الشكل الغير لائق بالمرة ”
كان العريف يحرك عيونه بينهما وهو يحاول معرفة ما يتحدثون به :
” هل يمكنني فقط أن أعلم ما الذي يدور الآن حولي حتى أدرك ما يجب قوله ”
استدار له إيفان بسرعة كبيرة ليتراجع العريف بريبة :
” أنت أيها الشاب أضحيت خطيرًا منذ تلك الحرب، ليهدك الله يا بني ”
تحدث إيفان يقترب من العريف الذي ظل واقفًا ثابتًا دون حركة، ينظر له ينتظر حركته، وإيفان فقط همس له بصوت منخفض :
” هل كان لي شقيقة ؟!”
نظر له العريف ثواني وكأنه لم يستوعب ما قيل حتى الآن، ومن ثم تساءل بسرعة :
” تقصد تلك الفتاة التي انجبتها شهرزاد وبدلتك بها و…”
” لا، لا ليس هذه، أنا فقط أتساءل إن أنجبت والدتي فتاة، هل لي شقيقة من أمي ؟؟”
نظر له العريف ثواني قبل أن يقول بصوت خافت :
” هل تقصد الملكة آمنة؟!”
” نعم، هل كانت تحمل طفلًا بعدي ؟؟”
غامت أعين العريف بمشاعر حزن عميقة هامسًا :
” لقد كانت تحمل طفلًا وقت الهجوم على المملكة حين فقدناها، لم نعلم إن كان هذا الطفل صبي أم فتاة، لكنه قُتل مع والدتك ”
تراجع إيفان يحاول أن يستوعب ما سمع للتو، وعقله يدور في داوئر مفرغة، ولحظات الحقيقة تُعاد أمام عيونه، حين تولى العرش في عمر المراهقة بعد موت والده، تلك اللحظة كان في نظر العريف مؤهلًا ليتحمل الحقيقة التي دفنها ..
” أخبروني أنك تريد رؤيتي أيها الملك ؟!”
رفع إيفان والذي كان في تلك اللحظة في بداية حكمه للبلاد مجرد مراهق يشعر بالحيرة مما يدور حوله :
” نعم رجاءً يا عم اجلس، أود الحديث معك في عدة أشياء بخصوص الحكم و لقد علمت أنك كنت تود مقابلتي منذ أيام ولم تكن هناك فرصة لذلك و…”
قاطعه العريف جالسًا على مقعد في جناح إيفان يقول بجدية :
” أسمع يا بني، اعلم من نظراتك الآن أنك كالغريق، تحتاج لقشة تتعلق بها كطوق نجاة، لكن صدقني إن كنت تعتقد أن هذا الطوق هو أنا فأنت مخطأ، أنا عريف هذه المملكة ولست ملكًا لاساعدك، ولا أدري شيء بخصوص كل هذه الأمور، لكنني أعتقد أنني اعلم من يمكنه مساعدتك ”
كام إيفان يسمع كلماته وهو يحاول فهم ما يريد الوصول له حتى قال بجدية :
” من تقصد ؟؟ امي ؟؟”
اشتعل غضب العريف لتلك النظرة التي خص بها والدته عند ذكرها:
” لا ليست الملكة شهرزاد وصدقني هذه آخر شخص قد تود الاعتماد عليه أو طلب مساعدته بشيء ”
نظر له إيفان برفض لكل ذلك الكره الذي انبثق من نظراته يدافع عن والدته:
“أيها العريف من تتحدث عنها هي أمي والملكة الأم هنا و….”
” لا ”
همس إيفان بعدم فهم لتلك الكلمة الاعتراضية التي لم تكن في موضعها الآن:
” لا ؟؟”
” نعم، لا، هذه المرأة ليست ملكة أم وليست والدتك حتى ”
ارتجف جسد إيفان بصدمة كبيرة حين سمع تلك الكلمات لينتفض صارخًا بصوت هز المكان وغضب كبير :
” ما الذي تهزي به أيها العجوز ؟! يبدو أنك بدأت تشيخ وتتحدث بما ليس له معنى، وأنا لن أسمح لك أن تمس والدتي بكلمة واحدة تسيئ لمكانتها هنا ”
ابتسم العريف وظهر التصميم في عيونه :
” اعتقد أنه حان الوقت لتأخذ صفعتك التي ستفيقك أيها الشاب، انتظرت سنوات الوقت المناسب ولا أعتقد أنني سأستطيع مواصلة الصبر حتى تغرقك تلك المرأة القذرة ”
هنا وكفى اندفع جسد إيفان صوب العريف يجذب ثيابه بغضب حتى كاد يخنقه :
” هذه المرأة التي ذكرتها بالسوء للتو هي …”
” لصة ”
كلمة نطقها العريف بأعين معاندة مصرة دون أن يخشى شر إيفان المرعب الذي يلتمع في عيونه، يبتسم له مكملًا :
” هذه المرأة مجرد مجرمة لصة سرقت طفل من والدته ومن بعدها تخلصت منها، أي أنك الآن تنادي امي للمرأة التي قتلت والدتك بدم بارد .”
شحب وجه إيفان وقد بدأت يده تترك ثياب العريف ببطء، يشعر أن المكان يدور حوله، هو يكذب عليه ؟؟ لكن كيف والعريف لم يفعلها يومًا هو ليس ذلك الغر أو المخادع و…هي أمه ؟؟ هو يتهم والدته الآن بأنها لصة وقاتلة ؟؟
دارت الغرفة بإيفان حتى أنه كاد يسقط ارضًا لولا يد العريف الذي امسكه بسرعة وهو يهمس له برعب :
” مولاي ..”
نظر له إيفان يحاول إبعاده عنه بعناد :
” أنت فقط تحاول خداعي؟؟ أنت فقط تلفق تهم لا يتقبلها أي عقل فقط لتصل لهدفك ”
نظر له العريف بشفقة وقد أبصر في عيونه نظرات توسل ورجاء، يترجاه بصمت أن يجيب بالموافقة ويخبره أنه محق وأن كل تلك الكلمات لا تعني شيئًا .
لكن العريف في هذه اللحظة كان مصرًا على تحطيم ذلك السور من الأوهام الذي احاطته به شهرزاد .
” كل كلمة قلتها هي حقيقة مولاي، والدتك ليست شهرزاد اللعينة، بل هي الملكة آمنة ”
شحب وجه إيفان أكثر يستدير صوب العريف يهمس بصدمة أخرى:
” آمنة ؟! زوجة أبي الثانية !!”
” ووالدتك، الملكة آمنة هي نفسها والدتك الحقيقية ”
شعر إيفان أنه عاش عمرًا طويلًا كالمغيب، المرأة التي كان يسمع كل ليلة شهرزاد تبكي وتلعن بها، وتتهمها أنها سرقت منها زوجها وحتى بعد موتها لم ينسها وصنع لها محراب لعشقها، كانت دائمًا تردد أنها فقدت تقيّ الدين يوم فقد هو آمنة، تلك المرأة التي مقتها لأنها سلبت سعادة شهرزاد هي نفسها والدته ؟!
المرأة التي كان يسمع والده يصف حبها ليل نهار والدته ؟؟ المرأة التي رحل والده مبتسمًا فقط لأنه علم أنه سيلقاها في الحياة الأخرى والدته ؟؟
سقطت دموع إيفان واخيرًا ينهار ارضًا ببطء وقد جاءت كلمات العريف التالية من بعيد وكأنه يتحدث له على بعد أميال كثيرة :
” إن لم تصدقني سآخذك للمرأة التي بدلت بينك وبين شقيقتك من شهرزاد، هي ستخبرك بكل ما خططت له شهرزاد، تلك القذرة وضعت ابنتها المريضة والتي ولدتها مبكرًا عن قصد في فراشك لتقنع والدتك أنها أنجبت فتاة، واخذتك هي لتربيتك، ومن ثم تخلصت من والدتك ولم تهتم أن ابنتها الحقيقية قُتلت ذلك اليوم أيضًا وكاد والدك يُقتل في نفس اليوم كذلك ”
كانت كلمات كثيرة تحدث بها العريف وهو يرى إيفان الساقط ارضًا مستند على الفراش ينظر أمامه بنظرات غريبة، يحدق أمامه بشكل بدا له كما لو أنه انفصل عن الواقع .
ولم يشعر إيفان بالوقت الذي جلس به هكذا حتى وجد أحد الأجساد تجذبه صوب صدر حنون وصوت هامس يخبره :
” عزيزي هل أنت بخير ؟!”
رفع إيفان عيونه ببطء صوب ذاك الصوت ليبصر سالار، صديقه المقرب والذي كان يرمقه بشفقة وحنان، في هذه اللحظة لم يجد إيفان أنسب من صدر سالار لينفجر في البكاء عليه بحسرة وقد رنت اصوات بكائه في المكان بأكمله …
وكأن ما حدث بالماضي داخل عقل إيفان، انعكس في الحاضر، إذ تحرك سالار بسرعة يجذبه لصدره وهو يشعر بما يمر به فهو منذ طفولته لم يهنأ بحياة عادية هادئة، جذبه له يقول بصوت منخفض :
” إيفان يا عزيزي ”
رفع إيفان عيونه لسالار يهتف بنبرة امتلئت بوجع يكاد سالار يقسم أنه لم يسمعه بصوت إنسان من قبل، نبرة من أدرك للتو ما حدث حوله وما يدور، عقل إيفان حسبها بشكل سريع وهو يجمع كل الخيوط يتحدث بوجع متمنيًا أن يكون ما فهمه خاطئًا :
” لو أن ما افكر فيه صحيح، إذن والدتي كانت حية بين أيديهم كل تلك السنوات، و…تلك الفتاة إن كانت هي نفسها الطفل الذي كانت تحمله وقت الهجوم إذن هي تماثلني بالعمر تقريبا، لكنها …لكنها تبدو أصغر من ذلك، هي اصغر من أن تكون في عمر الثلاثين، و…هي إن لم تكن شقيقتي من أبي إذن هي شقيقتي من والدتي و………”
ازداد احمرار وجهه ليهتف قبل أن ينهار باكيًا بإدراك لفكرة كونها عقله في ثواني :
” كانت بين أيديهم وانتهكوها، يا ويلي ”
انهار إيفان ارضًا بعنف بينما سالار انهار معه يضمه له بقوة وصوت صرخات إيفان وبكائه ترن في المكان وهو فقط يضمه كما الماضي، صورتان متجاورتان لنفس المشهد، لكن الوجع اختلف، الوجع أضحى اسوء أعمق .
وصوت بكاء إيفان اختلف بكلماته المكسورة :
” انتهكوها وكسروني، يا ويلي ”
ضمه له سالار بقوة وهو يربت على ظهره بصمت وقد شعر بالوجع والدموع تحرق عيونه، يبصر قهر الرجال قولًا وفعلًا، صديقه الشامخ الذي كان يأبى طوال حياته منذ نضج أن يظهر فقط نظرة ضعف لأحدهم، ها هو ينتحب بين أحضانه بقهر ووجع .
فاللهم نعوذ بك من قهر الرجال .
تنفس وهو يحاول أن يهدأ إيفان بكلمات هو نفسه غير مقتنع بها :
” إيفان، هل سنفترض افتراضات الآن ونتوجع منها ؟؟ علينا التأكد في البداية من كل ذلك، أنت لم تستبق حكم شيء من قبل فما لك تفعلها الآن ؟؟ ”
رفع إيفان عيونه له يقول :
” كل شيء يقود لتلك الحقيقة، يا ويلي لو صدقت سأتحطم لاشلاء ”
رفض سالار تلك الكلمات وهو يضمه أكثر:
” الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، ولو حدث وصدقت كل تلك التكهنات، فهذا لأن الله اعلم مني ومنك وكلفك ما تستطيع تحمله، والآن انهض لنفهم ما يحدث هنا ”
كان العريف يراقب ما يحدث بحسرة على ما أصاب الجميع، فالأمر أشبه باعصار دمر كل شيء، ابتلع ريقه يقول بصوت منخفض وهو ينحني يربت على رأس إيفان بحنان وكأنه يعتذر له ضمنيًا عن كلماته:
” ربما يستطيع دانيار مساعدتكم في هذا ..”
نظر له الاثنان وكأنهما نسيا للحظات وجوده قبل أن يهز سالار رأسه بإصرار، ينهض وهو يجذب معه إيفان يهندم له ثيابه ويرتب له هيئته رافضًا أن يخرج بهذا الشكل المذري أمام الجميع :
” هيا سنذهب ونعلم كل شيء من دانيار، تعال معي”
تحرك يجذب خلفه إيفان الذي كان يسير كالجثة وكل عقله في أن ما سيعلمه لن يزيده إلا كسرة .
وصل سالار به لباب المكتبة ليتوقف فجأة، ثم استدار له يتراجع للخلف وهو يدفعه يقول بصوت قوي :
” الملك دائمًا في المقدمة إيفان”
نظر له إيفان بملامح باهتة قبل أن يتقدمه يفتح باب المكتبة يحاول أن يصلب هامته وهو يتحرك بين الممرات أسفل نظرات الجنود الذين اعتدلوا في وقفتهم يستقبلون الملك وقائد الجيوش الذي يلحق به بكل قوة ..
وإيفان يسير بينهم مرفوع الرأس كعادته، بقوة وهيبة كما اعتاد الجميع منه، لكن في داخله كان كل ذلك مجرد غطاء واهي يخفي خلفه قهره وكسرته …
_________________
كان دانيار وبعد رحيل الجميع لا يفهم ما يحدث فقط يقف أمام الغرفة بهدوء يحدق بالباب بانتظار أي همسة تصدر منها .
فجأة أبصر اقتراب تميم منه وهو يسند زوجته التي كانت تبكي بصوت مرتفع مطالبة بوجود زمرد وتبارك تسير جوارهم وملامح الذنب تملئ وجهها .
وبمجرد أن وصل الجميع للغرفة حتى ابتعدت برلنت عن تميم تتمسك بيد تبارك باكية :
” ساعديني للوصول لها تبارك، ارجوكِ اريد رؤيتها ”
أمسكتها تبارك تتأسف على حالتها وحالة كهرمان وحالة زمرد وحالتها وحالة الجميع، وكأن سحابة سوداء اصطدمت بالقصر .
استغفرت ربها تتحرك مع برلنت صوب الداخل تحت أعين تميم الحزينة، وبمجرد أن اختفوا داخل الغرفة حتى أبصر تميم ملامح دانيار التي بدأت تتحول للشحوب، مظهره كان مروّعًا :
” دانيار لا اعتقد أن ما تفعله بنفسك شيء جيد، تحتاج للراحة ”
استدار له دانيار يحدق في وجهه، ثم نظر للباب مرة أخرى يقول بصوت منخفض :
” أنا سبب كل ما يحدث، لو أنني فقط لم أنبذها، لو أنني فقط تفهمت كل شيء واخبرتها ألا تتحرك، لو أنني كبحت جماحها في اليوم الأول الذي ابصرتها تقاتل كالرجال، لو أنني ما أغفلت عنها خلال تلك الحرب، لو أن كل ذلك حدث ما كنا هنا الآن، لكانت الآن في طريقها لتصبح زوجتي ”
تنهد تميم بصوت مرتفع :
” ما الذي يحدث هنا دانيار، ما سبب نبذك لتلك الفتاة؟! لا اعتقد أن كونها عاملة في القصر هو ما تسبب في ذلك النبذ الذي تتحدث عنه، خاصة أنك كنت في البداية تتحدث معها بفخر، إذن ما الجديد الذي جعلك تقول هذه الكلمات عن نبذها ؟!”
نظر له دانيار ثواني قبل أن يبتسم بسمة لا تليق بالموقف حقًا :
،” يبدو أن رؤية العريف تتحقق يا اخي، فأنا احببت أحد القراصنة، وها هي نهايتي تقترب على يدها، لم أكن اعرف أنها منهم، ولا اعتقد أن معرفتي كانت ستغير شيئًا فها أنا بعد معرفتي حقيقتها مازلت غارقًا حتى أذنيّ بهوسي بها ”
نظر له تميم بعدم فهم ولم يكد يتحدث حتى سمع الجميع صوت إيفان القوي يصدر :
” نعم هذا بالتحديد ما أريد معرفته، ما هي حقيقتها تلك دانيار ؟؟؟”
في الداخل .
بمجرد أن أبصرت برلنت ما يحدث حتى انفجرت في بكاء حاد وهي تقترب بسرعة من فراش زمرد تهتف باسمها في لهفة ولوعة :
” حبيبتي، ما الذي حدث لك زمرد؟! من ذا الذي اطفأ شعلتك، اطفأ الله نيران حياته ”
أستدارت كهرمان والتي كانت تقرأ في أحد المصاحف جوار فراش زمرد، تبصر تقدم برلنت منها لتترك المصحف بهدوء جوار جسد زمرد تهم لبرلنت تفتح أحضانها بسعادة وخوف :
” برلنت عزيزتي، أنتِ بخير ؟؟ متى استفقتي ؟؟”
نظرت لها برلنت باكية :
” للتو فعلت ولم يخبرني أحدهم بما حدث لزمرد لولا تبارك ”
ابتسمت تبارك بخجل شديد هامسة :
” لست فخورة بهذا في الحقيقة ”
صمت كهرمان برلنت لها بقوة وهي تهمس لها :
” حمدًا لله على سلامتك حبيبتي، العقبى لزمرد إن شاء الله، الأن هدأ جزء من قلبي وتبقى الجزء الآخر”
نظرت لها تبارك تقول بصوت خافت وقد شعرت أنها إن لم تنتهي من أمر كهرمان والملك ستنفجر، وها هو المكان هادئ مؤهل لذلك :
هذا الجزء متعلق بزمرد أم الملك ؟!”
اتسعت أعين كهرمان بقوة مخيفة لتتحرك برلنت تستريح على مقعد كهرمان الذي كانت تتوسطه سابقًا تمسك يده زمرد وتقبلها بحب، ثم مسدت خصلاتها بحنان شديد .
تراقب ما يدور بين كهرمان وتبارك .
” تبارك ما الذي …ما الذي تقولينه أنتِ هذا ليس مـ ..”
” هو كذلك يحبك كهرمان، لطالما فعل، لكنه كان يشعر بالمسؤولية تجاهي وأنا احرره واحررك من كل هذا ”
شحب وجه كهرمان مما تسمع:
” تبارك، يا ويلي لا …اقسم أنني لست كما تظنيني، أنا لست خائنة لاقع في حب زو…”
” ليس زوجي ولن يكون كهرمان، فلا أنا أراه زوجًا لي، ولا هو يتقبل سواكِ زوجة له، لذا لنوفر الوجع على الجميع ونتقبل هذه الحقيقة ”
شهقت كهرمان وهي تضع يدها على رأسها تحاول الاستيعاب :
” ما الذي تقصدينه أنتِ ؟؟ أنتِ المقدرة له و…”
” هراء، كل هذا هراء في الأساس، أنا لست مقدرة له، الله سبحانه وتعالى يقدرنا لمن يشبهنا ويليق بنا، وانا لا اليق بإيفان، أنا لا يليق بي أن أكون ملكة لسفيد بأي شكل من الاشكال، ربما الكثيرون قالوا هذا، ورغم حزني في البداية إلا أنني الآن اتقبل هذا ببسمة وسعادة، أنا لا يليق بي أن أكون ملكة، أنتِ فقط من تستحقين أن تصبحي ملكة، وزوجة له ”
” يا ويلي هل غفر الله كامل ذنوبي وذهبت للنعيم حيث النفوس الصافية والاحباء جميعهم متجمعين ؟؟”
كانت هذه الكلمات الصادرة بخفوت صادرة من جهة الفراش لتتحرك جميع الأعين صوب برلنت التي كانت تحدق بهما بعدم فهم :
” ماذا ؟!”
قالت كهرمان بريبة :
” هل قلتِ شيئًا برلنت ؟!”
هزت برلنت رأسها برفض ليعلو صوت زمرد مرة أخرى بينما تجاهد لفتح عيونها :
” هل نومي لساعات على هذا الفراش جعلكِ تجهلين صوتي ؟؟ هل ظننتم أنكم تخلصتم مني أيها الاوغاد ؟؟”
اتسعت الأعين وارتفعت الأصوات المصدومة وهم يهجومون عليها بسرعة وكهرمان تصيح بعدم تصديق باكية :
” يا ويلي زمردة العزيزة ”
عانقت زمرد بقوة بينما ارتفع طرف شفاة زمرد بحنق وتشنج :
” تكلفت والدتي الكثير لتسميني زمرد، وتأتين أنتِ لتجعليني زمردة واحدة فقط ؟! أنتِ تحطين من قيمتي بهذا الشكل ”
ضحكت تبارك ضحكة سعيدة وهي تقترب منها بسرعة تدفع كهرمان بعيدًا :
” ابتعدي لاطمئن أن كل شيء بخير كهرمان ”
نظرت لها زمرد بحنق ورغم أنها تشعر بالجحيم يشتعل في جسدها من الوجع :
” هل تقللين من شأني أيتها الملكة المدللة، هذه الطعنة أقل ما تلقيت في حياتي، جسدي هذا تربى على الاوجاع لتعلمي فقط ”
وكلماتها تلك التي تحدثت بها لتقنع الجميع أنها قوية لم تتسبب إلا في جلب الوجع لهم، وانفجار برلنت في البكاء :
” عسى أن تُشل يده لذلك القذر الذي اصابك يا زمرد، يا ويلي لقد كدنا نفقدك بسبب حقير ”
نظرت لها زمرد بسعادة تمسك كفها بحب لأنها بخير :
” سعيدة أيضًا لرؤيتك سالمة بيرلي، لقد انتقمت لكِ ممن مسك، والآن حان وقت رد الدين، فماذا أنتِ فاعلة بمن أصابني يا امرأة ؟؟”
نظرت لها برلنت باكية :
” والله لو رأيته لانتزعن أصابعه لذلك الحقير ”
نفخت كهرمان بقوة وهي تقترب من زمرد في الوقت الذي بدأت تبارك تحاول أن تطمئن عليها وعلى حرارتها التي كانت مشتعلة في الساعات السابقة :
” من هذا الذي فعل بكِ هذا زمرد ؟؟”
نظرت لهم زمرد قبل أن تقول بنبرة سوداوية :
” أنه ذلك الصغير القذر اخي الصغير، والله لاقطعنه اربًا على مرأى ومسمع من بافل ومن ثم سأتبع الاخير به، صبرًا فحربي لم تنتهي معهم بعد ”
صرخت بها كهرمان بغضب شديد رافضة أن تقحم نفسها في هذه الامور مرة أخرى :
” لا رجاءً اكتفينا من كل ذلك، دعي هذا لرجال المملكة فأظن أنهم جميعهم يمتلكون الكثير معه بالفعل”
” أبدًا لن اتركه لأحد، هو لي، بافل موته على يدي أنا”
كانت تتحدث بغضب رغم ملامح الوجع التي تعلو وجهها، والتعرق الذي بدأ يظهر على وجهها، لتتحرك تبارك بسرعة للخارج وهي تردد بلهفة :
” سأذهب لأرى أي شيء قد يسكن اوجاعها ”
وبالفعل تحركت بينما اقتربت كهرمان منها تجفف قطرات عرقها بطرف حجابها، ثم مالت تقبل رأسها هامسة :
” إن فعلتيها سأكون معكِ المرة القادمة زمرد ”
ابتسمت لها زمرد بسمة صغيرة متعبة وهي تحاول التحدث، لكنها بالفعل كانت مستنزفة بعدما تلاشى مفعول الاعشاب المهدئة من دمها بالكامل …
في الخارج عند الرجال ..
كان إيفان يستمع بصدمة من دانيار كل شيء يخص زمرد، شعر بقلبه يتضخم بالوجع .
شقيقة بافل ؟؟ من في الداخل والتي من المحتمل أنها شقيقة له أو تربطها بوالدته علاقة غير مباشرة هي نفسها شقيقة أكثر أهل الأرض فساد ؟؟ شقيقة عدوه الوحيد، وابنة عدوه السابق الذي حرمه من والدته ؟؟
كاد إيفان ينهار متراجعًا للخلف لولا يد سالار الذي امسكه جيدًا يحاول أن يدعمه ببعض القوة، ودانيار الذي ظن أن الملك يتساءل لأجل معاقبتها، تعجب ملامح الشحوب التي علت نظراته إيفان.
ما الذي تخفيه له الحياة من مصائب أخرى ؟؟
ابتسم دون شعور وهو يحاول التنفس :
” هل أخبرتك شيئًا عن والدتها دانيار ؟؟”
نظر له دانيار بشك وقد بدأ عقله يعمل في أكثر من اتجاه :
” شيء كماذا مولاي ؟!”
” أي شيء عنها، اسم والدتها أو أصلها، هل هي منهم كذلك ؟؟ ”
كان يتحدث بصوت منخفض به نبرة بكاء مستترة خلف جنوده الظاهر، حتى سمع صوت دانيار الذي أجاب عليه بالحقيقة كاملة بعدما شعر بنظراته التائهة :
” لا شيء عن والدتها سوى عقدها و…سيفها ”
نظر له إيفان وقد بدأ قلبه ينبض بعنف :
” سيفها ؟! هل لدى والدتها سيف ؟؟”
هز دانيار رأسه بريبة من ملامحه، يتحرك صوب الجدار يحضر السيف الذي تركه مستندًا هناك يقول :
” نعم هذا هو السيف، أخبرتني مسبقًا أنه يخص والدتها ويعني لها الكثير، لذلك كانت متعلقة به نفس تعلقها بالقلادة ”
امسك إيفان من يده السيف وقد كانت ترتجف وهو يدعو الله في صدره أن تخيب ظنونه، فهذا الوجع هو لم يستعد له .
وبمجرد أن أمسك السيف وابصره شعر إيفان بالأرض أسفل تتحرك لاسفل وكأنها تبتلعه، شعور غريب أصابه وهو يهمس بصوت منخفض :
” هذا….هذا سيف …سيف جدي الذي اورثه لأبي وفقده يوم الهجوم ”
نظر صوب سالار يقول بصوت منخفض :
” سيف أبي وعائلتي المتوارث ما الذي يفعله معها ؟؟ كيف …كيف وصل لها و…”
وقبل أن يكمل باقي سؤاله اندفعت تبارك من داخل الغرفة بشكل قوي لتتوقف فجأة بشحوب حين وجدتهم يسدون المخرج، تراجعت بسرعة للخلف تقول مبتلعة ريقها :
” أنا…أنا آسفة فقط، فقط لم اعلم أنكم تقفون أمام باب الخروج مباشرة و…”
كانت تتحدث وهي تعدل من وضعية حجابها بتوتر ودون شعور منها، بينما سالار يراقبها باهتمام شديد هاتفًا :
” هل تحتاجين لشيء ؟!”
رفعت انظارها له تتذكر مواجهتهم في المكتبة، يا الله لا تدرك ما الذي حدث وقتها لتتحدث معه بهذا الشكل :
” أنا فقط أردت سؤال مهيار عن بعض الأعشاب المهدئة لأن زمرد عادت للتوجع”
بمجرد ذكرها لاسم زمرد حتى اندفع إيفان بشكل مخيف صوبها :
” مابها ؟! هل استيقظت ؟!”
تراجعت تبارك للخلف بسرعة وصدمة، بينما مد سالار يده بسرعة لتكون حائلًا بينهما، يهتف في أذن إيفان بكلمات غير مسموعة لغيره .
ابتلعت تبارك ريقها تبدل نظراتها بينهما :
” هي استيقظت منذ دقائق قليلة ويبدو أن مفعول المهدأ يتلاشى من دمها .”
تنفست تبارك تحاول الهدوء والثبات :
” فقط احتاج لمساعدة من مهيار في إحضار الاعشاب رجاءً، لأنه إن استمر الوجع سيكون هذا أكثر من قدرتها على التحمل ”
شعر إيفان بالحيرة وهو ينظر حوله بلهفة غريبة يصرخ بصوت هائج :
” أين مهيار ؟؟ أين ذلك الرجل ؟؟”
ودانيار الذي كان في حالة يُرثى لها تحرك حول نفسه يبحث عنه بعيونه تحت صرخات إيفان له :
” أين شقيقك دانيار، أين ذلك الغبي ؟؟”
ركض دانيار بين ممرات المشفى وهو يهتف من أسفل أسنانه :
” ذلك الطبيب الفاشل الوغد يظل يقفز أمام عيوني دون الحاجة له، وحين يتطلب الموقف وجوده يختفي كالزئبق، سأقتله بيدي هاتين ..”
___________________
ابتعد مهيار بعض الشيء عن الرجل الذي كان متسطحًا على أحد الأسرة يقول بجدية تحت أعين ليلا المنبهرة به، واعين مرجان الحانقة :
” لا بأس يا عم أنت بخير حال، تحتاج فقط للتأكد من تناولك الاعشاب المناسبة كل يوم ”
ابتسمت ليلا بسمة واسعة وهي تهتف بصوت منخفض :
” هل ترى ما يفعل مرجان ؟!”
نظر مرجان صوب مهيار الذي كان ينتقي بعض الأعشاب للرجل بجدية، وقد التوى ثغره بغيظ شديد:
” أرى ماذا عزيزتي ؟؟ طبيب يقوم بعمله ”
نظرت له ليلا بحنق شديد :
” هل حقًا هذا كل ما تراه ؟! يبدو أن العمى اصابك مرجان، انظر إليه الرجل تبارك الله هيبة وجاد في عمله يبدو كما لو أنه يؤدي مهمة وطنية ”
خرج صوت حانق من فم مرجان :
” هذا ما ترينه أنتِ فقط عزيزتي، أما أنا أراه طبيب كأي طبيب في هذه المملكة ”
” بل هو افضل الأطباء، هو هيبة وشموخ على قدمين مرجان ”
فجأة اقتحم العيادة دانيار الذي كان محمر الوجه غاضب الملامح يصرخ بجنون :
” مهيار أيها الفاشل، أين تذهب، تعال لتفحص زمرد أنها تتألم ”
ختم حديثه يجذب شقيقه خلفه من ثيابه بقوة خارج المكان ومهيار يسير معه بصدمة ولم يستوعب بعد ما يحدث، بينما ليلا تنظر أمامها بعدم فهم :
” ما الذي حدث للتو ؟!”
قال مرجان ببسمة واسعة :
” أحدهم اقتحم المكان جارًا الشموخ الذي يسير على قدمين خلفه ”
انطلقت ضحكات صاخبة بعد تلك الكلمات وصوت مرجان رن في المكان بأكمله، بينما ليلا رمته بنظرة مشتعلة تصرخ في وجهه بغضب أنه يقصد أعضابها، ليصرخ هو بالمثل في وجهها، وفي ثواني اندلع شجار معتاد بين الاثنين ليجذب كلٌ منهم الآخر بغضب تحت أعين المريض الذي ما يزال متسطحًا على الفراش دون فهم لما يحدث .
” إذن هل سيعطيني أحدكم الاعشاب المطلوبة أم ماذا؟!”
___________________
يتحرك في بلاده فوق حصانه وأصوات الشعب حوله المبتهجة تطرب أذنه وتشعره برجفة سعادة تمر بين أوردته، شعب وفيّ صامد أبيّ، ابتسم أرسلان لشعبه يهز رأسه لهم، ثم وعندما وصل لمنتصف السوق توقف ليهبط عن حصانه دون أن يهتم بشيء، يتحرك بينهم وقد بدأ الشعب يهتفون باسمه ويهللون لعودته وقد ظنوا أن الظلام سيبتلعهم بالكامل، لكن ها هو فجرهم يشرق بعد ليلة طويلة ظلماء ..
ابتسم إيفان لهم يهز رأسه لهم باحترام وتقدير يهتف بينهم :
” شكرًا لكم أجمعين، أنا ممتن أنكم لم تنحنوا يومًا أو ترضخوا له، ممتن أنكم أبيتم الخضوع، شكرًا لكم ”
صمت يدير عيونه بين المنازل المهدمة والاجساد الجائعة الضعيفة والمساجد المدمرة وكل الخراب من حوله وكأنه في مدينة أشباح، ليبتلع غصته يقول بصوت مرتفع كي يصل للجميع :
” ستعود مشكى يا قوم، من بناها مرة يستطيع إعادة بنائها الآلاف المرات، سنبنيها وتعود افضل مما سبق، وفيما يخص السلع الغذائية فستتوفر بوفرة للجميع ولمدة شهرين وحتى نعود للتجارة، سوف يتم توزيع السلع الغذائية مجانًا على جميع سكان المملكة، وكل من يواجه تعسرًا في شيء يأتي لي فقصري سيكون مفتوحًا طوال الأيام لسماع طلباتكم وتنفيذها، وحتى تمر تلك النكبة ونعود لما كنا عليه سنتعاون جميعًا بما نقدر عليه ”
ختم حديثه ليعلو هتاف الشعب في المكان باسمه وهو فقط ينظر أمامه بشرود يبتسم لهم وفي عقله تدور حسابات كثيرة عن الطريقة التي سيعيد لها بناء كل ذلك، تحرك في المكان وخلفه بعض الرجال الذين تطوعوا ليصبحوا جنودًا له بعد مقتل رجاله المخلصين اجمعين، همس للمعتصم وبارق بصوت منخفض :
” سوف اتحرك بشكل سري مساءً صوب سفيد، سأتحدث لايفان بخصوص تمويل البلاد بسلع غذائية وأسلحة لشهرين كاملين، سأعقد معه صفقة، افرغوا خزائن البلاد من الذهب واحضروه، سنشتري ما استطعنا من غذاء الممالك حولنا حتى يعود الفلاحين للزراعة ”
توقف ينظر جواره لبارق الذي كان يجاوره حتى يتأكد أنه أتم دوره معه :
” و..ملك بارق ”
ابتسم له بارق دون أن يسمع باقي جملته يربت على كتفه :
” خير الله يكفينا جميعًا ملك أرسلان، ارسل قوافلك لأخذ ما تريد من مزروعات سبز ولا تحمل همًا، ولا ترسل معهم أموال أو ذهب، سأنتظر لتنهض وحينها يكون لنا حديث آخر”
كانت الجملة الأخيرة التي قالها بارق هي البطاقة الذهبية التي سيقنع بها أرسلان ذو الكبرياء المتورم على قبول مساعدته دون دفع أموال في الوقت الحالي .
وارسلان قدر له هذا وبشدة فهو بالفعل لديه الكثير ليحضره وهذا يوفر عليه الكثير، في وقت آخر لم يكن ليقبل ولو قبّلوا يده، لكن هذا شعبه وهم الآن في كارثة حقيقية :
” أقدر لك هذا ملك بارق، هذا سيكون دينًا في رقبتي”
ابتسم له بارق يدرك أن أرسلان لن ينسى الأمر، لكن لحين يتذكر مجددًا تكون تلك النكبة قد مرت .
أبعد أرسلان عيونه صوب المدينة يتأملها، ثم قال بكلمات مقتضبة :
” لا يلحقن بي أحد رجاءً ”
ختم حديثه يتحرر من عبائته الملكية يتركها لأحد الرجال، ثم سار بعيدًا عن الجميع، يخرج من السوق دون أن يهتم لشيء، يتحرك في المكان حتى وصل واخيرًا لطرق المدينة حيث السهول الخضراء، أو هذا ما كانت عليه قبل أن تتحول لرماد عقب نيران يبدو أنها نشبت بها .
طالت عيونه يبصر المكان حوله يتفقد بقاياه القديمة، يستدعي صورته التي كانت تريحه بعد تعبٍ طويل، لكن لا شيء فقط سواد ورماد، بافل ورجاله لم يتمكنوا من تدمير الحاضر فقط، لكنهم دمروا الماضي كذلك .
ضغط على كفه يهمس بصوت منخفض ملئ بالاصرار :
” لكن المستقبل لنا، ستعود مشكى لسابق عهدها، وهذا وعدي ….”
_______________________
بمجرد عودة دانيار ساحبًا مهيار خلفه، انتفض جسد إيفان وهو يصرخ :
” أين كنت مهيار كل هذا الوقت ؟!”
تعجب مهيار تجمع الكل أمام غرفة زمرد، وملامح الملك وسؤاله :
” هل يمكن أن يتشرف أحدكم ويخبرني ما يحدث رجاءً ؟؟”
تحدث إيفان وهو يدفعه بخشونة صوب الغرفة :
” هيا اذهب لترى كيف حالها للفتاة في الداخل، هي تتألم، هيا ادخل بسرعة ”
نظر له مهيار بتعجب، ومن ثم نظر لدانيار ينتظر منه تفسيرًا على ما يحدث، لكنه فقط ساعد الملك في دفعه صوب الغرفة التي تقف تبارك على بابها:
” سمعت ما قال الملك هيا تقدم ”
وما كاد يتقدم لينتهي من كل هذا حتى سمع صوت إيفان يقول فجأة :
” انتظر إلي أين ؟!”
توقف مهيار يحدجه بنظرات غاضبة كبتها لعلمه أنه أمام الملك :
” انفذ أوامرك مولاي ”
” نعم، لكن انتظر لنتأكد أنها بحجابها، سمو الأميرة رجاءً تفقدي الفتاة في الداخل اذا كانت تضع حجابها ام لا ؟؟”
كانت كلماته موجهة لتبارك التي ما تزال تراقب ما يحدث بانتباه شديد دون أن تنتبه أن حديث إيفان كان لها، فهي غير معتادة على سمو الأميرة تلك، فقط تنتظر أن يعود مهيار ليدخلوا لغرفة زمرد، وإيفان يحدق بها في عدم فهم :
” سمو الأميرة …سمو الأميرة ؟!”
زفر سالار بغضب شديد وهو لا يعجبه أن تظل واقفة بهذا الشكل تحدق في الجميع هكذا ليقول دون السيطرة على نفسه :
‘ مولاتي …”
انتفض جسد تبارك تنظر له بانتباه :
” ماذا ؟؟”
رفع سالار حاجبه يقول بصوت هادئ ظاهريًا فقط :
” رجاءً مولاتي اذهبي للداخل وتفقدي إن كانت المريضة تضع حجابها أو لا ؟!”
هزت تبارك رأسها بسرعة ثم تحركت للغرفة وغابت بها ثواني، استغلها إيفان في النظر لسالار بحيرة، نظرات جعلت سالار يهتم بغيظ :
” ماذا !!”
ابتسم له إيفان بسخرية لا تليق حقًا بوضعه في هذه اللحظة :
” يبدو أنك تمتلك طرقك مع الأميرة تبارك ها !!”
رمقه سالار بشر يهمس له بصوت منخفض :
” ليس الآن إيفان، ليس وأنا لا امتلك حقي فيها لاضربك، وبالطبع ليس وأنت بهذه الحالة …مولاي ”
رمقه إيفان بنفس النظرات الجانبية الساخرة حتى عادت تبارك تقول بصوت منخفض خجل مما حدث :
” يمكنك الدخول مهيار ”
” الطبيب مـ ”
توقف سالار عن التحدث بسرعة قبل أن ينتبه له أحد مدركًا أن اللحظة غير مناسبة ليوضح لها حدودها مع رجال المملكة، صمت وتراجع لكن إيفان ابتسم بسمة صغيرة بعدما التقط ما كان على وشك النطق به، فقط ينتهي من كل ذلك ومن ثم يتفرغ لأمر سالار وتبارك .
غاب مهيار واخيرًا خلف الأبواب المغلقة والتي تخفي لإيفان الكثير والكثير ….
_____________________
بعد ساعات قليلة ..
كان يقف أمام المقابر يحدق بها، انحنى على ركبتيه يجلس أمامهما، ثم ابتسم بسمة صغيرة يلقي على قاطنيها التحية :
” مساء الخير أبي، كيف حالك أنت وأمي ؟؟ اشتقت لكما بشدة، لكن عسى الله أن يجمعني بكم في جنات النعيم”
صمت يتنفس بصوت مرتفع بعض الشيء ورغم برودة الأجواء التي بدأت تزداد في هذا الوقت من العام قال ببسمة:
” لقد دارت الدنيا وتحقق ما تنبأت به يا أبي، ها أنا أقيم حربًا لأجل الفوز بمن احب، تمامًا كما فعلت مع أمي، لكن اعتقد أن حربي أشد شراسة من خاصتك ”
صمت يهمس بصوت منخفض وخجل وكأنه أمام والده حقًا :
” لستُ فخورًا بما أوصلني لهذه المرحلة وسأعيش حياتي استغفر ربي على ما أذنبت به في حق نفسي، كانت لحظة ضعف استغلها الشيطان بمهارة، لكن والله لاقسمن ظهره بتوتبي ”
تنهد بصوت مرتفع يبتسم مجددًا :
” على كلٍ أنا فقط جئت أخبركم أنني اشتاق لكما، وأنني الآن رغم كل ما يحدث معي لأول مرة سعيد، سعيد أنني وجدت من يمكنه مشاركتي وحدتي المقيتة تلك ”
سقطت دمعة من عيون سالار يبتسم لمرأى اسماء والديه منقوشة أمامه، اغمض عيونه يدعو لهما في قلبه وهو يتذكر كل ما مر به بعد وفاتهما ومن ثم مقتل العم دارا وانتقاله لعناية العريف.
حتى جاءه العريف يومًا يخبره أنه عليه الذهاب للقاء خاله، وقتها شعر بالتعجب من ذلك اللقب وقد كاد عقله الصغير ينسى وجود آزار نهائيًا، خرج متخفيًا من المملكة مع العريف وتحركا صوب آبى .
وبمجرد أن خطى لهناك شعر أن جميع الأماكن مألوفة بشكل كبير، سنتين فقط منذ كان هنا آخر مرة مع والديه لزيارة خاله..
ثواني حتى امسك العريف يده وتحرك داخل حجرة الملك آزار بعدما انبأه منذ يومين أنه يود الانفراد به بعيدًا عن الأعين..
وها هو يقف في منتصف غرفته يراقب نظرات آزار المتعجبة له :
” خير يا شهدان هل حدث شيء في المملكة ؟؟”
نظر له العريف ثواني قبل أن يقول بجدية :
” لا كل شيء بخير، لكنني جئت امنحك أمانة شقيقتك.”
انتفض جسد آزار بقوة وهو ينظر له بصدمة وقد سحب وجهه وارتجف ومازال مظهر شقيقته المضجرة في دمائها لا يُمحى من عقله :
” عائش ؟!”
” نعم، في الحقيقة شقيقتك رحلت وكذلك زوجها، وتركوا لك أمانة معي، وحان الوقت لتتسلمها ”
نظر له آزار بلهفة ليلمح في هذه اللحظة صغير في الثامنة من عمره تقريبًا يخرج من خلف العريف على استحياء، كان تمامًا كعائشة ملامحها ونظراتها التي جعلت آزار يسقط على ركبتيه ارضًا سريعًا وهو يمد يده يتحسس الصغير الذي قلب البلاد رأسًا على عقب بعد دفن شقيقته وزوجها وقام بغارات على المنبوذين بحثًا عنه كالمجنون حتى يأس، لكن والله لم يستسلم ..
سقطت دموع آزار يهتم بحب :
” سالار ؟؟”
نظر سالار للعريف مترددًا قبل أن يقترب من آزار ويعانقه وهو يقول :
” مرحبًا خالي ”
انفجرت مشاعر آزار كلها في ثواني وهو يبكي بصوت مرتفع يضم الصغير له يقبله ويتلمس به طيف شقيقته وقد بدأ قلبه يهدأ واخيرًا بعد عامين .
وكان هذا اللقاء العاصف بداية تحول سالار من طفل لرجل على يد آزار الذي تولى تدريبه بشراسة ليصبح مقاتلًا، مع الاحتفاظ بحقيقته لنفسه دون معرفة أحد، مستغلًا أن لا أحد بالفعل يعلمه بشكل شخصي داخل المملكة عدا زوجته والتي توفاها الله بعد عامين من مجيئه، ونزار الذي كان طفلًا لا يتذكر شيئًا عنه.
وهكذا ظل سالار يتدرب مع خاله ويحيا بآبى لأعوام طويلة حتى أصبح في سن يسمح له بالتطوع في جيوش سفيد فتقدم لها لينال مكانته .
ابتسم يخرج من شروده ينهض عن الأرض يلقي السلام على والديه مودعًا إياهم بحب :
” المرة القادمة سأعود لكما بزوجتي، تمنيا لي الحظ الجيد في القادم ”
تحرك صوب حصانه يعود للقصر ليرى أين وصل إيفان، فهو وبعدما أخبرهم مهيار أنها نامت بتأثير بعض الأعشاب، رحل الجميع عدا إيفان ودانيار اللذين اصرا على البقاء أمام غرفتها .
توقف بعد نصف ساعة تقريبًا أمام القصر ليبصر حصان يقترب منه يحمل جسدًا يتشح بالسواد مخفيًا وجهه خلف قلنسوة سوداء كذلك، ابتسم سالار يتعرف على صاحب الجسد من العلامة الذهبية التي تعلو طرف معطفه الاسود .
” مرحبًا بأسد مشكى ”
توقف أرسلان أمام سالار بقوة ينتزع القلنسوة الخاصة به مبتسمًا بسمة واسعة :
” مرحبًا بحامي حمى سفيد، ما الذي تفعله خارج القصر في هذا الوقت ؟!”
تحرك سالار داخل القصر بعدما أصدر أمره بفتح الأبواب وهو يجيب أرسلان :
” كنت في زيارة لوالديّ ”
هز أرسلان رأسه :
” رحمة الله عليهما، إذن وصلتني اخبار انتصاركم، نفع الله بكم الأمة رجال سفيد ”
” وبك جلالة الملك، فقد وصلتنا كذلك اخبار انتصارك وتسلمك عرشك مجددًا ”
صمت ثم تساءل :
” جئت لأخذ الأميرة ؟!”
” نعم لهذا، ولسبب آخر، اريد مقابلة إيفان”
صمت سالار ثواني يفكر في حالة إيفان في هذا الوقت، يحاول التفكير في شيء يجيب به أرسلان دوو أن يخوض في أمور إيفان الخاصة :
‘ هو في الحقيقة ..لا اعتقد أن إيفان سيكون متفرغًا هذه الأيام لأيٍ مما يحدث حوله، حتى أنه غير متفرغ لمحاكمتي ”
فجأة توقف حصان أرسلان بقوة وبشكل مخيف يهتف مصدومًا :
‘ ماذا ؟! محاكمة من ؟؟ من سيحاكمك ؟؟ هل تمزح معي ؟؟”
ابتسم له سالار يتنهد بصوت مرتفع :
” فاتك الكثير مولاي، هذه حكاية طويلة، اقصها عليك لاحقًا ”
” سالار هل تتلاعب بي ؟؟ جننت أنت وإيفان ؟! من سيحاكم من ولماذا ؟؟”
لم يجبه سالار بل نظر أمامه بجمود قبل أن يتوقف بحصانه يسلمه لعامل الاسطبل وكذلك فعل أرسلان :
” يمكنك القول أنني اخطئت ولاكفر عن خطأي احتاج لهذا ”
قال كلماته وهو يتحرك صوب المشفى وخلفه أرسلان الذي يزيد من خطواته صارخًا :
” أيًا كان ما فعلته، لا يحق لإيفان أن يعرضك لمثل هذه المحاكمة، أنت بهذا الشكل ستعرض نفسك للقيل والقال هذا لا يمكن أن يحدث سالار ”
” صدقني حين أخبرك أن سبب هذه المحاكمة هي القيل والقال ”
” ما الذي حدث لأجل هذا، أي إثم قد يجعل الملك يحاكمك سالار ؟؟”
توقف سالار ثواني ثم استدار له وقال :
” أحببت..”
تفاجئ أرسلان من كلماته وتراجع للخلف :
” أحببت ؟؟ أنت ؟؟ وهل …هل هذا إثم يستحق المحاكمة ؟!”
هز سالار رأسه يجيبه ببساطة لا تمت للموضوع بصلة :
” حينما تكون الملكة المستقبلية للبلاد هي المعنية من الامر فنعم هذا إثم يستحق المحاكمة ”
انتهى من كلماته يتحرك داخل المشفى وخلفه أرسلان الذي سار بحيرة لا يفهم ما سمع يحاول أن يوازن الكلمات داخل عقله .
” الملكة المستقبلية للبلاد ؟؟ أنت تحب الكلمة المستقبلية للبلاد ؟؟ تلك التي احضرتها لمساعدتي صحيح ؟؟ يا ويلي كيف لم انتبه ؟؟ كيف فعلت هذا سالار ؟؟ ما الذي ألقاك في مثل هذا الإثم يا أخي، كيف تفعل بإيفان هذا ؟؟ احببت المرأة التي يحب ؟!”
كانت كلمات أرسلان مستنكرة بشكل كبير ليتوقف سالار فجأة في منتصف الممر بالمشفى، واستدار نصف استدارة لارسلان يقول ببسمة صغيرة :
” لا، لا تقلق، فإيفان لم يحب تبارك يومًا، هو يحب امرأة أخرى وكان سيتزوج تبارك لاحساسه بالذنب تجاهها، لكنه في الأساس لا يمتلك لها أي مشاعر، فجميع مشاعره بالفعل تمتلكها أمرأة أخرى وهو قرر الزواج منها بمجرد انتهاء كل ما يحدث أسفل سقف هذا القصر ”
شعر أرسلان برأسه يدور بسبب كل ما سمع :
” أنا لا افهم ما تردد، أنت تحب امرأة وهذه المرأة الأولى هي نفسها زوجة إيفان المقدرة، وإيفان لا يحب هذه المرأة وانما فقط يشعر بالذنب تجاهها، وهو يحب امرأة أخرى ؟؟ ما هذا الذي يحدث هنا؟! لِمَ لل يحب كلٌ منكما الفتاة التي يريد ببساطة ؟؟”
ابتسم له سالار يجيب :
” هذا لأننا نعشق المصائب ونهوى المشاكل ارسلان، فقط انتظر حتى تعلم هوية المرأة التي يحب إيفان”
لحق به أرسلان حتى وصل أمام الغرفة ليبصر إيفان بملامح لا تفسر ويهمس بعدم فهم :
” من يا ترى ؟! لا تخبرني أنه يحب زوجة رجل آخر ؟؟”
غامت عيون سالار بنظرات غير مفسرة يهمس وهو يرى قرب معركة أخرى في الطريق :
” لا تتعجل، فأنت في النهاية ستعلم بها …”
تمتم أرسلان بتعجب وهو يسير خلفه :
” وأين كنت أنا من كل هذا ؟؟”
” حسنًا لنقل أنك تصبح اعمى حين يتعلق الأمر بالمشاعر ”
نفخ أرسلان بحنق :
” هذه سخافة ”
ابتسم سالار يهز رأسه:
” صبرًا حتى تسقط في هذه السخافة ”
” نعم، حتى وإن فعلت لن ينفي هذا أنها سخافة ”
في هذه اللحظة فُتح باب الغرفة بقوة لتخرج تبارك تقول ببسمة واسعة للجميع بعد انتظار ساعات لتفيق زمرد :
” لقد استفاقت زمرد …”
ودون أن يمنح إيفان أحدهم الفرصة للتنفس بعد كلمات تبارك كان ينطلق صوب الغرفة بسرعة وهو يقول بصوت قاطع وملامح قاتمة :
” الجميع للخارج …”
ارتفعت عيون زمرد صوب الباب تنظر صوب الملك بتعجب لاقتحامه غرفتها وطرده الجميع، ولم تكد تتحدث بكلمة واحدة حتى قاطعها إيفان بكلمات حادة لاذعة صارخًا فيهم بجنون ولم يعد يستطيع الانتظار أكثر ليعلم الحقيقة ويقطع الشك باليقين :
” ألم تسمعوا ما قلت، كلٌ للخارج ”
تعجب الجميع أوامره وصراخه ورغم ذلك خرجوا دون قول كلمة تاركين الباب مفتوح لئلا يُقفل على رجل وامرأة باب واحد دون رابطة بينهما .
وحين خرجت كهرمان وابصرت أرسلان ابتسمت بسعادة تهتف باسمه :
” أرسلان ؟؟”
رفع أرسلان عيونه لها ليقول بصدمة :
” مهلًا هل كانت شقيقتي واحدة ممن طرد إيفان ؟! ايها القذر ”
قال كلماته يهم بالتحرك صوب الغرفة ليحصل على قصاصه من إيفان ويريه كيف يرفع صوته ويطرد شقيقته من مكان، لكن سالار امسك يده يهمس له :
” دعه يكفيه ما يعيشه في هذه اللحظة ..”
نظر له أرسلان بجهل .
بينما دانيار كان يقف مشتعلًا كالجمر أمام الباب يود فقط لو يراها، منزعجًا من بقاء الملك معها وهو هنا بالخارج ..
بينما في الداخل نظر إيفان لها ولأول مرة يبصر وجهها دون غطاء ليتوقف عن التنفس لثواني، فهذه هي نفسها الملامح التي يحتفظ والده برسومات كثيرة لها، ابتلع ريقه يقترب منها بشكل جعل زمرد تشعر بالريبة وهي تنظر حولها بحثًا عما تحمي به نفسها وكل ما يدور في عقلها هو أنه اكتشف حقيقتها .
فتحت فمها لتصرخ في وجهه بالخروج والابتعاد عنها وتردد لبعض التهديدات الغبية، لكن قطع كل ذلك صوت إيفان يسألها أكثر سؤال مريب في هذه الحياة :
” ما اسم والدتك ؟!”
نظرت له زمرد وشعرت بالخوف من نظراته تهمس بصوت مهتز :
” أنت… أنت…ما شأنك لها و…”
” ما اسم والدتك، تحدثي دون جدال يا امرأة”
نظرت له زمرد برفض ولم يعجبها أن يأمرها أو أن يأتي على ذكر والدتها، فتحت فمها لتلقي باعتراضها في وجهه لولا صوت صراخ إيفان الجنوني وقد فاض كيله وهو يود معرفة إن كان ما يشك فيه صحيح او لا، صراخه ليس غضبًا منها أو بقصد اخافتها بقدر ما كان نفاذ صبر وقلة حيلة.
” ما اسم والدتك تحدثي قبل أن يجن جنوني”
ودون شعور نطقت زمرد بارتجاف وخوف وهي تتمسك بالغطاء، نطقت بكلمة لا يدري إيفان أتحييه أم قتلته ..
” آمنة … اسمها آمنة ”
_____________________
اسرار …وكُشفت .
يتبع…
تلك الكلمات التي سمعها تخرج من فيها، ورُغم أنها كانت متوقعة، إلا أن صداها شابه صدى إلقاء قنبلة مدوية في وسط غرفة فارغة .
تراجع إيفان للخلف يحاول أن يستوعب ما سمع، ينظر لملامحها التي أجابت سؤاله قبل لسانها، ملامحها التي أعادته لذلك الوقت الذي كان يجاور والده في غرفته يرى صورة لوجهها في خزانته الخاصة، ملامح كان يحقد عليها في وقتٍ من الأوقات ظنًا أنها السبب الأساسي في تعاسة والدته، حتى اكتشف أن تلك الملامح لم تكن الأقرب لوالده فقط، بل وله أيضًا .
ابتلع ريقه تحت نظرات زمرد التي بدأت تشعر بالريبة منه ومن تشنجات جسده، وقررت أن تنهض وتبحث عن شيء تحتمي به، حتى إذا قرر أن يتخذ أي خطوة مريبة صوبها تلقيه بها في وجهه …
” والدتك ؟؟ هي نفسها والدتك التي أنجبتك ؟!”
بالنسبة لإيفان كان سؤاله يحمل سر خلفه، أما لها فهي رمقته فقط بسخرية لا تدرك ما يدور حوله هامسة في نفسها :
” مرحى يا كهرمان تسببتي في جنون الرجل ”
زفرت تقول بصوت منخفض حتى تنتهي من هذا التحقيق :
” نعم، وهل هناك والدة غير تلك التي أنجبتك ؟! ما تعريف الأم بالنسبة لك إن لم تكن هي نفسها من أنجبتك ؟؟”
رفع إيفان عيونه لها يبتسم بسمة لم تفهمها هي ولم تفهم إن كانت ساخرة أم موجوعة، هو فقط هز كتفه لها يتحرك صوب الفراش الخاص بها بشكل جعلها تشعر بالريبة وهي تتراجع، تسمع صوته يقول بهدوء :
” هل ستصدقيني إن أخبرتك أن لا تعريف للأم لدي؟؟ فأنا لم اعلم حتى هذه اللحظة كيف تكون الأم، هل هي من انجبتني حقًا ؟! وإن كان هذا هو التعريف الحقيقي للأم فأنا لم احصل على واحدة كالجميع، لم أكن محظوظًا لأفعل، وإن كان تعريف الأم أنها هي من تعتني بك، فهذا أيضًا لم احصل عليه فلم تعتني بي أم، لذا أخبريني أنتِ هل …”
توقف ثواني وكأنه يحاول اخراج الاسم من فمه دون أن يخرج غصته معه :
“هل آمنة هي والدتك التي أنجبتك ؟!”
شعرت زمرد بالوجع يتسرب من أحرف إيفان صوبها، لتشعر وللمرة الأولى بالشفقة عليه، وقد تحطمت صورة الملك المتجبر أمامها لترى إنسان طبيعي يشعر كالجميع:
” ما علاقتك بوالدتي ؟! لِمَ كل هذه الأسئلة عنها ؟! هل ؟؟ هل تعرفها ؟؟”
أخرج إيفان العقد الذي كان يخفيه بين طيات ثوبه :
” هل هذا العقد يعود لها ؟!”
اتسعت أعين زمرد بفزع تتحسس رقبتها الفارغة وقد بدأت نبضات قلبها تزداد بشكل مرعب تمد يدها لتلتقطه بقوة من بيت أنامله، لكنه أعاده للخلف بسرعة بشكل جعل انتفاضة جسدها تصبح اقوى واقوى مما جعل وجعها يزيد وهي تتمسك بمعدتها تطلق صرخة مرتفعة، ازداد رعب إيفان على إثرها :
” يا ويلي هل أنتِ بخير ؟؟ اجلسي مكانك وتوقفي عن الحركة ”
رفعت زمرد عيونها له وهي تستند على الجدار خلفها تحاول التحرز لنزع عقد والدتها من بين أصابعه، لكنه كان فقط مشغولًا في النظر لها بقلق آثار ريبتها :
” اعطني هذا العقد، إنه لي أنا ؟! كيف تتجرأ وتسرقه مني ؟؟”
نظر لها إيفان بصدمة يصرخ مذهولًا من استنتاجها ذاك :
” سرقته ؟؟ هل تمزحين معي ؟؟ كيف يسرق الإنسان ما يخصه ؟!”
اشتعلت أعين زمرد بالشر وقد بدأ غضبها يزداد منه :
” يخص من أيها اللص ؟! إن كنت تعتقد أنني سأصمت خوفًا من مكانتك هنا، فقد اخطأت هذا العقد يخص والدتي وهي من اورثته لي، هيا اعطني إياه ”
” إذن هذا العقد يعود لوالدتك آمنة صحيح ؟؟”
كانت أعين زمرد مشتعلة لا تستطيع الانخراط معه في حوار هادئ تصرخ وهي تحاول النهوض بغضب أشد من السابق :
” اللعنة عليك اعطني هذا العقد ”
اتسعت أعين إيفان بقوة وغصب مماثل يصرخ في وجهها بصرامة :
” احفظي لسانك يا امرأة وتأدبي حين حديثك مع ملك بلادك ”
وزمرد التي كادت تجن وهي تراه يقبض على عقد والدتها وكأنه يرفض أن يحرره :
” اللعنة على بلادك أنا لا انتمي لها وأنت لست ملكي ولم انتمي يومًا لها وقوانينكم لا تسري عليه، لا تتوقع مني أن اتبع قوانين لبلاد لا يهمني فيها سوى اسم والدتي الذي اقترن بها في يوم من الأيام ”
ومن بين كل تلك الجمل الغاضبة التي كانت تخرج من شدة قهرتها، التقط إيفان ما يريده بمهارة شديدة :
” إذن والدتك كانت تنتمي لسفيد ؟؟”
” أنت…”
كادت تطلق سبة احكمتها بمهارة منقطة النظير، ثم قالت بغضب :
” ما شأنك وامي يا هذا ؟! ما لك تتحدث عنها ؟؟ هل تعرفها ؟؟”
كان السؤال الأخير خافتًا مصدومًا وكأنها خلال حديثها أدركت أن الملك ربما يكون على علم بوالدتها حقًا، وإيفان اطال النظر بها قبل أن يتحرك بكل بساطة خارج الغرفة معه عقدها دون قول كلمة واحدة، وحين خرج نظر له الجميع بفضول لكنه فقط نطق بكل بساطة :
” لا يقتربن أحدكم من غرفتها حتى اعود ”
تحرك بعيدًا عنهم تاركًا جميع الأعين تحدق به في فصول وتعجب شديد، حتى قاطع أرسلان كل ذلك يقول :
” جُن الفتى …”
ودانيار الذي كان يتابع كل ذلك لم يستطع أن يهدأ، إذ نظر صوب كهرمان يقول بجدية فقد كانت أقرب النساء له :
” هل يمكنك الدخول والتأكد أنها ترتدي حجابها؟! اود فقط الاطمئنان عليها رجاءً ”
جذب أرسلان كهرمان جواره أكثر وهو يحدق في وجه دانيار بحنق :
” بالطبع هي ترتدي حجابها أيها الغبي، فقد خرج إيفان من غرفتها للتو، بالطبع لم يكن كل ذلك يقف أمامها دون أن تكون متسترة بحجابها، هل توقف عقلك عن العمل؟؟ ”
كاد دانيار يجيبه على حديثه، لكن فجأة أبصر الجميع جسد إيفان يندفع للغرفة مجددًا دون كلمة واحدة يحمل بين يديه صندوق متوسط الحجم ودخل الغرفة مرة أخرى .
وارسلان يلوي شفتيه ثم نظر لسالار يقول:
” هل يمكنك اخباري ما يحدث هنا ؟؟ ما الذي يجعل الملك يقتحم غرفة فتاة لا تحل له بهذه الطريقة دون حتى أن يستأذن الدخول ؟؟ هل جُن إيفان؟! ”
فتح سالار فمه يحاول تبرير تصرفات إيفان للجميع، وقد حان الوقت ليدافع هو أن إيفان أمام الجميع :
” ليس الأمر كما تظن أرسلان، إيفان بالفعل يدرك ذلك، ربما هو أخبرها بعودته لها بالفعل، لذلك دخل دون استئذان منها فهي على علم بعودته، كما أنه يدرك الصواب من الخطأ ويعلم حدوده و…”
فجأة انتفضت جميع الاصوات على صوت غلق عنيف لباب الغرفة جعل الأعين تتسع بصدمة كبيرة، وجنون دانيار يزداد وهو ما يزال متصنمًا أمام الباب .
رمى أرسلان نظرة للباب وهو يتحدث بجدية :
” يعلم حدوده ؟؟ حينما ذكرت أمر المحاكمة بينك وبين إيفان، من كنت تقصد بالآثم وقتها ؟؟ أنت أم إيفان ؟؟ ومن ذا الذي سيحاكم الآخر ؟!”
ابتسم له سالار بسمة صغيرة يخبره بجدية :
” آه بخصوص هذا …”
صمت ينظر لارسلان بجدية :
” هل تمانع أن تتولى أنت الحكم عليّ أنا وإيفان ؟؟؟؟”
ومن بين كل تلك الحوارات الكثيرة استغلت تبارك انشغال الجميع بما يحدث وتحركت بهدوء شديد بعيدًا عنهم صوب جناحها تحاول أن تتماسك وقد بدأ الشحوب يزحف لوجهها بشكل مريب .
وحين رحلت وظنت أنها نجحت في الهروب من الأعين لم تدرك أن أعين سالار كانت تبحث عنها كل ثانية لتطمئن بوجودها في الحوار وحين اختفت انتفض جسده يبحث عنها بريبة حوله ….
______________________
بمجرد أن خرجت من المشفى استنشقت تبارك أكبر قدر من الهواء، ودون شعور ورغم كل ذلك الدوار والألم الذي يداهمها ابتسمت، ابتسمت بسمة واسعة تستقبل مساء صافي كما اعتادت منذ جاءت، لا شيء يحيل بينها وبين النجوم، مشهد لو كانت ابصرته في عز صراعها في الطفولة لكان خفف عليها الكثير والكثير …
” هل أنتِ بخير ؟؟”
ابتسمت تبارك بسمة أوسع وأوسع دون أن تستدير صوبه وقد أدركت مجيئه خلفها دون الحاجة لسماع صوته في الحقيقة وهذه الفكرة جعلتها تبتسم معترفة :
” إما أنك أصبحت تسير مصطنعًا اصواتًا صاخبة، أو أنني أنا من أضحى ماهرًا في كشف المتسللين خلف ظهري ”
ابتسم سالار بسمة أوسع من خاصتها رغم أنه لم يرها في الحقيقة، وظل على بعد مناسب منها يضع يده خلف ظهره يقول :
” سأتظاهر إذن أنه الخيار الثاني وأفخر بكِ…مولاتي”
توقفت تلك الكلمة في منتصف حلق تبارك :
” لست كذلك …”
رفع سالار حاجبه لتستدير هي ببطء شديد تقول بصوت منخفض وهي ترفع عيونها على استحياء به :
” لست ملكة وهذا لا يجعلني مولاتك سالار، انتهى هذا الفصل من حياتي، وأنا الآن فقط تبارك ”
وكلمات كثيرة تزاحمت في عقل سالار في هذه اللحظة، لكنه لم ينطق بها ولجم كامل شياطينه يبعد عيونه عنها يقول بصوت خافت :
” لم تفقدي بعد لقبك مولاتي، مازلتِ تحتفظين به”
نظرت له بتعجب ولم تدرك مقصده، وهو لم يخض معها هذا الحديث، ليس الآن، ليس وهو لا يحق حتى أن ينظر لها مجرد نظرة عابرة، لكن عسى الله أن يحدث بعد ذلك أمرًا .
” غدًا المحاكمة ومن بعدها يمكنني أن أخبرك ما يزيل نظرات الحيرة هذه عن عيونك ”
نظرت له ولم تهتم بكل تلك الجملة سوى كلمة (المحاكمة )، أي محاكمة يقصد ؟!
” هل حان وقت محاكمة المنبوذين ؟؟”
ارتسمت بسمة واسعة على فم سالار ولم تكن بالسعيدة ولكنها كانت ساخرة بالكامل، وشيئًا فشيء تحولت تلك البسمة الساخرة لضحكة صغيرة :
” لا، موعد محاكمة المنبوذين ليس الآن، بل هي محاكمة لي أنا”
انتفض جسد تبارك بقوة للخلف تقول بعدم فهم :
” محاكمة لك ؟؟ محاكمة ماذا ؟! لماذا ؟! هل .. هل تعلنون الترقيات خلال المحاكمات هنا أم ماذا ؟؟”
استدار سالار صوبها فجأة يتساءل عن معنى تلك الجملة قبل أن يرى نظراتها البريئة تنتظر منه تأكيدًا على كلماتها التي نبثت بها للتو، ودون أن يشعر انطلقت ضحكات سالار الصاخبة أكثر وأكثر:
” هل تعتقدين أن محاكمتي لترقيتي ؟؟ لا لا ليس لهذا، لا اعتقد أن مسمى محاكمة يختلف عن ذلك في عالمك صحيح ؟؟”
اقتربت تبارك منه بفزع خطوات تراجعها هو بسرعة للخلف يحاول أن يجعل بينهما منفذًا وألا يمنح الشيطان فرصته الثانية لإيقاعه في شركه :
” هل …هل تمزح معي ؟! ما سبب محاكمتك ؟! لقد كنت تحارب معهم ببسالة في المعركة، لولا وجودك لكانوا خسروا ..”
صحح لها سالار بملامح جامدة أعادت لها سالار القديم الذي كانت ترمقه بغيظ ثم تستدير راحلة، لكن الآن لا يمكنها حتى أن تفعل ولو تحول لمستذئب أمامها :
” النصر بيد الله وجنودي رجال أشداء على الكفار، سواء بوجودي أو لا كانوا سينتصرون بفضل من الله وتوفيقه، وجودي بينهم كقائد كان عامل منظم للحرب، وليس سبب للنصر ”
لم تهتم تبارك بكل ذلك بل فقط قالت :
” ونعم بالله، لكن ما علاقة كل ذلك بمحاكمتك ؟! ما الخطأ الذي دفع بك صوب المحاكمة ؟! هل …. ”
” أنتِ ”
كلمة قاطع بها سالار سيل كلمات تبارك التي اتسعت عيونها بشدة تشعر بالصدمة مما سمعت، ونظراتها المستفهمة جعلته يوضح أكثر من يقصد :
” تسائلتي عن نوع الخطأ الذي قد يلقي بي في محاكمة ملكية، واخبرتك أنه أنتِ هذا الخطأ”
تأوهت تبارك بصدمة كبيرة تتراجع للخلف دون شعور، يا الله هل سيُحاكم بسببها هي ؟!
” أوه، يبدو هذا أوضح الآن”
شعر سالار أن الطريقة التي أخبرها بشأن الأمر جعلت الأمر اصعب عليها، لذا سارع يقول بجدية :
” لا تأخذي الأمر بشكل شخصي رجاءً، أنتِ ربما السبب لهذه المحاكمة، لكنك لستِ المتسببة في الإثم، الإثم اثمي والخطأ خطأي، أنا المخطئ وأنا الآثم، وأنتِ …”
رفعت عيونها له تقول بصوت خرج بصعوبة بسبب غصتها :
” إثمك الوحيد …”
ابتسم لها بسمة صغيرة وكأنها للتو مدحته ولم تصف نفسها بالاثم :
” الإثم الوحيد ؟؟ لقب كبير مولاتي، لا يوجد انسان خالي من الآثام، أنا لست ملاكًا ولست معصومًا من الخطأ، بالطبع أخطأت في الكثير من المرات سابقًا، وارتكبت العديد من الآثام لولا ستر الله لي، لكن ….ربما هذا إثمي الوحيد الذي لا رغبة لي بالتوبة منه ”
تنهد بصوت مرتفع يقول :
” فنعم، إن اعتبرنا وجودك إثم، فمرحبًا بالآثام من هذا النوع …”
نظرت له تبارك بأعين دامعة :
” صدقني لو كنت مكانك الآن لكرهت اليوم الذي أبصرت فيه وجهي، لقد حولتك من بطل يستحق وسام لشاجعته، إلى آثم سيتعرض لمحاكمة على مرأى ومسمع للجميع ”
” صدقيني أنتِ، أنا لا اهتم إن كانت تلك المحاكمة ستنتهي بفوزي بكِ، إذن أنا مستعد لخوضها، ولست على استعداد لخسارة حرب رابعة بعد خسارتي لثلاثة امامك بالفعل، ومن الأفضل أن أخرج غدًا منتصرًا بحقي فيكِ حتى أتمكن وقتها من أخبارك كل شيء بشكله الصحيح دون أن اضطر للوقوف معكِ هنا في هذا المكان واصفًا لكِ كم أنتِ إثم مرغوب به ”
وهذه الكلمات كانت لتسعد تبارك في أي وقت باعتبارها كلمات ( شبه رومانسية ) أو ربما مقارنة بكلمات سالار السابقة، تُعد هذه كلمات مقبولة بعض الشيء، لكن في هذه اللحظة وهي تفكر في المحاكمة كل ما استطاعت قوله هو كلمات متبوعة بغصة بكاء :
” إن قلت في المحاكمة أنني أنا المخطئة ذلك اليوم هل يخفف هذا عنك ؟!”
” بل سيثقل الأمر عليّ فلا تفعلينها رجاءً ”
تنهد بصوت مرتفع شفق عليها من تفكيرها الذي تسبب في بكائها في هذه اللحظة يقول بصوت خافت خرج دون شعور منه بحنان :
” مولاتي …”
هنا وانفجرت تبارك في البكاء تقول بصوت مختنق غير مفهوم من بين أصوات بكائها :
” أنا آسفة من وقت ما جيت هنا وأنت بتعاني، من وقت ما جبتني وانا بسبب ليك مشاكل، أنا آسفة، مكانش لازم اكون هنا، مكانش لازم اوافق اجي معاك”
كانت تتحدث باكية أمامه وهو يراقبها بشفقة يقول بصوت منخفض :
” ربما وجودك في هذا الوقت كان خطئًا تبارك ”
ازداد بكاء تبارك بقوة تجلس ارضًا ترتكن لأحد الجدران تدفن وجهها في أقدامها تحاول تدارك موجة البكاء التي أصابتها وهو فقط تنفس بصوت مرتفع يحاول أن يخرجها ويخرج نفسه من كل هذا .
وهي لا تحاول حتى أن ترفع وجهها، تخشى أن وجودها هنا لم يكن له سبب، هي منذ جاءت لم تشعر نفسها منهم، وحين بدأت تشعر بالألفة معهم وتعتاد المكان وتشعر أنها يمكنها أن تقضي المتبقي من حياتها هنا، كان ذلك الشعور فقط لأجله هو، لأنها شعرت بالانتماء له هو، كان هو المتسبب الأول في هذا الشعور، لاول مرة تشعر أن هناك من يهتم بأمرها، لأول مرة تشعر أنها مرغوبة وليست ضيف ثقيل على أحد، وماذا كافئته بمنحها هذا الشعور ؟؟ حولته من بطل لبلاده إلى مجرم سيُحاكم ..
” نعم كان وجودك في هذا الوقت خطئًا، فأنا احتجتك منذ سنوات ولم أجدك تبارك، لذا عدم وجودك من البداية كان خطئًا أكبر من وجودك الآن في هذا الوقت وبهذه الطريقة ”
رفعت تبارك عيونها بعيدًا عن قدمها بتعجب ترمقه من بين عيونها الدامعة، وهو ومن مكانه الذي يبعد عنها بعض الشيء جلس القرفصاء كي يكون مقابلًا لها، يحاول ألا يطيل هذه الجلسة كثيرًا، يخرج من جيب سترته منديل أبيض مطرز بحواف فضية يمده لها تاركًا إياها على زهرة مستقرة أمامها يقول بصوت خافت :
” تماسكي مولاتي فنحن في بداية الحرب، وأنا مصر على الفوز بها …وبكِ ”
نهض بعد هذه الكلمات يتحرك بعيدًا عنها مجبرًا نفسه على عدم الانقياد خلفه اصوات عقله التي تخبره ألا يرحل ويأخذها لغرفتها حتى يطمئن عليها :
” عودي لغرفتك وتناولي ادويتك فوجهك شاحب مولاتي ”
نظرت تبارك لظهره من بين دموعها لا تدرك ما يجب فعله في هذه اللحظة، أمسكت المنديل الذي وضعه لها لتطيل النظر به طويلًا تلمح اسم منقوش بخط عربي جميل، نطقته بصوت خافت تتعجبه :
” جوبان ؟؟”
______________________
انتفض جسد زمرد بمجرد رجوع إيفان للغرفة مرة أخرى، لترفع حاجبها بتحفز ولم تكد تتحدث كلمة حتى وجدته يلقي بصندوق على الفراش، ثم تحرك صوب الباب الخاص بالغرفة يقول بصوت خافت لا يدري هل وصل لمن بالخارج أم لا :
” استئذنكم جميعًا ..”
ومن ثم صدح صوت اغلاق الباب بقوة جعلت جسد زمرد يتراجع للخلف أكثر حتى اعتقدت أنها قد تحفر الجدار وتهرب منه، بينما إيفان تحرك صوبها يشمر أمامه بشكل جعلها تخشاه وحقًا، ربما في السابق كانت تخشى والدها وتخشى بافل وتخشى جميع الرجال، وتكرههم جميعهم بلا استثناء _ عدا دانيار بالطبع _ إلا أنها يومًا لم تظهر ذلك لهم، كما ظهر عليها الآن أمامه.
” ما الذي تريده مني ؟؟ وكيف …كيف تغلق الباب بهذا الشكل، اقسم إن اقتربت مني خطوة لأصرخن وأخبر الجميع أنك تحاول الـ…”
قاطع إيفان كل كلماتها تلك جلوسه ببساطة شديدة على مقعد أمام فراشها وأمام الصندوق الذي أحضره يقول بصوت خافت خرج بنبرة غريبة :
” اصمتي قليلًا رجاءً ”
ابتلعت ريقها تراقبه يفتح الصندوق أمامها، ثم أخرج منه رسمة صغيرة لوجه لم يكن واضحًا لها حتى وضع الرسمة أمام عيونها يهتف بصوت مختنق بغصة بكاء أو هذا ما شعرته هي فالملك لن يبكي أمامها بالطبع :
” هل هذه هي ؟؟”
نظرت له ثواني قبل أن تحرك نظراتها صوب الصورة بين أنامله تتأملها بهدوء، ومن ثم اتسعت عيونها ببطء تختطف الصورة من يده وقد بدأت عيونها تمتلئ بالدموع وهناك بسمة واسعة ترتسم على فمها كأنها لا تصدق أنها تراها مجددًا بعد كل هذا الوقت :
” أمي؟؟ هذه أمي، كيف …كيف وجدت هذه الرسمة لها ؟؟ من رسمها ؟؟ هل …هل يمكنني أن احتفظ بها رجاءً ”
صمتت لتسقط دموعها تقول برجاء وهي تضم الصورة لصدرها :
” يمكنني …يمكنني ترك العقد لك مقابل رسمتها تلك ارجوك، فأنا… أنا اشتاقها وبشدة ”
رمقها إيفان ثواني يعض شفتيه، ثم دفع الصندوق الخاص بوالده صوبها والذي كان ممتلئًا بالعديد من الرسومات لها وللعقد يقول بصوت خافت :
” كله لكِ ”
نظرت زمرد للصندوق بتعجب شديد وهي تحاول فهم ما يحدث، لكنها رغم ذلك قالت ودموعها تتساقط من عيونها :
” حقًا ؟؟ يمكنني ؟؟ أنت كيف حصلت على كل هذه الرسومات لأمي ؟؟ هل تعرفها ؟؟”
نظر لها إيفان ثواني وقد فشل في إحكام سيطرته على دموعه :
” أمي ”
رفعت زمرد عيونها عن الصورة ترمقه بعدم فهم :
” ماذا قلت؟؟”
قال إيفان بصوت خرج صعبًا بعدما تأكدت ظنونه بشأن كل شيء :
” هي … أمي، آمنة هي والدتي ”
شعرت زمرد بقلبها ينتفض وهي تضم صورة والدتها لصدرها ترمقه بشر وغضب :
” ما الذي تهزي به أنت ؟؟ هل جننت ؟؟ هذه أمي أنا فقط، نعم هذه والدتي، ثم ما الذي تطمح له من ادعائك هذا ؟؟ كل هذا لأجل العقد ؟! أخبرتك خذه مقابل الرسومات و….”
صمتت فجأة حينما أبصرت انهيار إيفان الماجئ أمامها بشكل جعل أعينها تتسع وهي تراه يدفن وجهه بين يديه يبكي بصوت متقطع وهي فقط ترمقه بأعين دامعة وقد بدأ قلبها يرتجف لرؤيته بهذه الطريقة تقول بصوت متردد مرتجف :
” أمي لم تنجب سواي و…هي كان لديها أبناء وجميعهم قتلوا يوم خطفها أبي و…هي أخبرتني أن جميع ابنائها قتلوا ذلك اليوم مع زوجها، طفلها وجنينها وزوجها، الجميع قُتل يوم خطفها ”
رفع إيفان عيونه لها وقد كان الاحمرار قد غزاها وبشدة يهتف بصوت مرتجف :
” هل أخبرتك من يكون زوجها ؟! كيف عاشت هناك ولم يعلم عنها أحد شيئًا لقد …لقد خاض أبي غارات عديدة عليهم ولم يعثر لها على أثر، كيف حدث ذلك ؟!”
” هي …هي لم تخبرني سوى أنها كانت تمتلك عائلة وجميعهم قُتلوا ذلك اليوم، وقد اجهضت جنينها الذي كانت تحمل به قبلي، وهي …هي حاولت الهرب مرارًا وتكرارًا من أبي، لكنه كان يحبط هروبها كل مرة وآخر مرة تسبب لها في إصابة بالغة في يدها وهددها بي و…استسلمت لقدرها حتى …”
صمتت ولا تعلم سبب اخبارها له بكل تلك الأسرار وهي التي لم تأمن لصديقاتها إلا بعد معرفة اشهر طويلة، وها هي تقص على الملك كل شيء عنها دون حتى أن تعلم السبب.
وإيفان كان يمسك المفرش بين قبضتيه بقوة مخيفة، يشعر بجسده يرتجف بشدة لما يسمع :
” حتى ماذا ؟؟ ما الذي حدث لها، وأين هي الأن ؟؟”
نظرت له زمرد تشعر أنها تعاصر وجعها على والدتها من خلاله تهمس له بصوت موجوع مقتول :
” قتلها ذلك الوسخ المُسمى أبي ”
كان أمل صغير بناه إيفان داخل صدره، والآن فقط تهدم، كان فقط يأمل أن يراها مرة واحدة وتضمه، أمل تهدم الآن واحترق صدره بالوجع وهو يهتف بآهٍ خرجت من اعماق صدره بدفن وجهه بالفراش بالقرب من قدم زمرد، يكتم صرخاته به، وهي تراقبه بوجع ترتعش لما تراه تهتف بصوت منخفض :
” هل …هل هي والدتك حقًا ؟؟ هي …هي كانت تحبك ”
في الحقيقة هي لم تكن واثقة، لكنها تدرك أن والدتها كانت لتحب أي طفل لها، لقد كانت تبكيهم ليل نهار، كانت تصرخ وتناجي الله لأجلهم .
ارتعشت يد زمرد وهي تمدها ببطء صوب إيفان تضعها على رأسه بتوتر، مرتعشة غير ثابتة، لتُصدم فجأة وهي تجد إيفان يرفع رأسه عن الفراش يدفنها في أحضانها يتلمس بها أثر والدته ورائحتها باكيًا .
يبكي جميع اعتقداته التي تأكدت الآن، والدته أُنتهكت دون حتى أن يعلموا أنها حية، والآن هو له شقيقة الله وحده يعلم كيف نشأت بين هؤلاء القوم وكيف عاشت .
وزمرد ارتجفت تحاول دفعه للخلف برعب وهستيرية، لكنه أبى الابتعاد يردد :
” لا تفعلي ارجوكِ ”
” أنت… أنت لا يمكنك …هذا خطأ ابتعد، لا يمكنك، يا ويلي، ابتعد ”
” ليس خطئًا، أنا شقيقك الأكبر ”
وهذه الكلمات ورغم أنها لم تفهم بعد حقيقتها إلا أنها جعلت جسدها يسترخي بشكل غريب وهي تنظر له بتعجب تحاول إدراك ما يحدث، وشيئًا فشيء تحركت يدها صوب خصلات شعره تربت عليها بتردد هامسة له وكأنها تحتاج الكلمات أكثر منه :
” هي الآن بخير، لقد أراحها الله من كل شيء، هي بخير وقد نالت قصاصها، هي بخير …”
_______________________
” انتهينا يا فتى، هيا عد لمنزلك وارتح حتى الغد ”
ابتسم مرجان وهو يحمل بعض الكتب كي يقرأهم في المساء :
” لأول مرة تخبرني أن ارتاح أيها العريف، لقد تغيرت على مدار هذه الأيام، أشعر أن الحرب التي نشبت في القصر بدلت الكثير والكثير في المكان، حتى أن الهواء لم يعد كما كان ”
نظر له العريف بغموض يقول مبتسمًا:
” انظر إليك يا مرجان ؟! بدأت تدرك الأمور بشكل اوضح، يبدو أنك تسير في طريقك لتصبح عريفًا لهذه البلاد ”
ختم حديثه يتحسس ريش البومة أمامه والتي أصدرت اصواتًا مستمتعة، ومرجان ابتسم بسمة واسعة بسعادة شديدة، ثم اقترب منه يردد بجدية :
” حقًا أيها العريف !!”
نفخ العريف يقول بسخرية :
” لا أيها الفتى أنا لا افكر في ترك الأمر في الوقت القريب ”
التوى ثغر مرجان، لكنه عاد وابتسم يقول :
” حسنًا وانا لا افكر في العمل كعريف في الوقت القريب، لم انتهي بعد من قراءة جميع الكتب هنا ”
استدار له العريف بعدما كان يتحرك في المكان ليقول ببسمة ساخرة :
” هل تظن أنني سبق وقرأت كل تلك الكتب مرجان ؟!”
رمقه مرجان بحيرة :
” بالطبع فعلت فأنت العريف، وتدرك جميع العلوم ؟!”
ابتسم له العريف يقول ببسمة :
” لم أفعل، بما ستفيدك كثرة الكتب إن كان نصفها فارغًا من الداخل ؟! ”
اقترب يقول بجدية محدثًا مرجان :
” ثقافتك لا ترتبط بعدد ما قرأت من كُتب مرجان، بل ترتبط بقدرتك على انتقاء ما يفيدك من كل الكتب التي قرأت، فهمت يا بني ؟؟”
نظر له مرجان يحاول أن يدرك الجملة داخل عقله، قبل أن يبتسم بسمة واسعة جعلت العريف يربت على كتفه قائلًا :
” والآن انصرف فقد اكتفيت من البشر لهذا اليوم الذي لا ينتهي ”
فتح مرجان فمه ليجيبه، لكن قاطع كل ذلك صوت خطوات اقتحم هدوء مكتبته ليمد العريف عيونه يبصر من أتى، التوى ثغره بغيظ واشمئزاز :
” يا ويلي الآن افضل النوم بين أحضان مرجان على قضاء ثانية مع هذه القذرة ”
” مرحبًا أيها العريف ..”
زفر العريف يقول بجدية :
” ظننت أن الملك قد عاقبك بالفعل وعزلك عن المملكة في المنزل الجنوبي الذي تخفين قذارتك به يا امرأة ”
اتسعت أعين مرجان بصدمة كبيرة من طريقة حديث العريف مع الملكة الأم ولم يكد ينطق بكلمة حتى رمقه العريف يقول :
” ارحل يا بني كي لا يتلوث عقلك الصافي بمقدار القذارة في المكان، وخذ معك بومتي حتى لا تفزع”
اتسعت أعين مرجان وكذلك شهرزاد التي تعجبت إفصاح العريف عن كرهه علنية أمام مساعده بعدما كان يلتزم بادعاء الاحترام أمام الجميع، هل فاتها الكثير ؟؟
ابتلع مرجان ريقه يمسك البومة يضعها على كتفه يتحرك للخارج بتوتر وحين مر بشهرزاد لم يكد يهز رأسه لها في تحية احترام، حتى أصدرت البومة صوتًا قويًا غاضبًا جعله يمسكها ويركض بها للخارج مغلقًا الباب .
اقتربت شهرزاد من العريف الذي ابتسم لها يقول :
” أي الاعيب مارستي لتصلي إلى مكتبتي شهرزاد ؟؟”
” هل تود حقًا سماع ما فعلت ؟!”
” إن سئلتني عما أود حقًا سماعه في هذه اللحظة فسيكون صوت غلق الباب خلفك وأنتِ راحلة ”
ابتسمت له شهرزاد بسمة مقيتة تقول :
” يبدو أنك لم تعد تخشاني أيها العريف وأصبحت تعلن عصيانك عليّ ”
” ومنذ متى خفتك أيتها المرأة ؟؟ يا الله أنتِ حتمًا النقطة السوداء في حياة الملك بارق، جيد أنه تبرأ من معرفتك منذ سنوات ”
اشتعلت أعين شهرزاد حين سمعت اسم ابن عمها الذي كان يخجل منها ويخجل من اخبار الجميع أنها تحمل دماء سبز في أوردتها وأنها ابنة عمه، والعريف يدرك غضبها من ذاك الأمر لذا تعمد لذكره.
” آه بارق ذلك الحقير الضعيف الذي يخشى رفع مشرطًا في وجه انسان ؟؟ لقد كدت انسى أنه يحيا معنا هنا في هذا العالم، رجل ضعيف لا يستطيع أن يفرض وجوده بين الممالك، لطالما كان ضعيفًا”
” بل قويًا، الملك بارق هو أكثر الملوك قوة بصبره وحكمته وحُلمه، يكفيه أنه تحملك حتى تخلص منك، هذه أمور لا يفهما الشياطين أمثالك ”
تنفست شهرزاد بغضب ليبتسم العريف وقد حاز نقطة أخرى يقول وهو يتحرك صوب أحد المقاعد بارهاق شديد :
” إذن ما الذي جعل مكتبتي وجهتك الأولى في القصر مولاتي ؟؟”
” إيفان ؟؟”
رفع العريف عيونه لها يقول :
” ولد الملكة آمنة ؟؟ خير ما الذي فعله هذا الفتى ؟؟”
اشتعلت غضب شهرزاد تصرخ بصوت صاخب :
” أنت أيها الحقير لقد وعدتني، لقد وعدتني أنك لن تأتي على ذكر هذا الأمر، ما لك تعيد ذكره الان ؟؟ هذا ولدي أنا فقط سمعت ؟؟ ”
” هل فعلت ؟؟ ربما كنتُ كاذبًا حقًا، لا أحد عاقل قد يأمن لي مولاتي، هذا خطأك ”
نظرت له شهرزاد بعدم فهم، وهو ابتسم لها بسمة جعلتها تتراجع بصدمة تشعر بالمكان يدور بها، هي جاءت هنا لتخبره أن يعترض على قرار عزلها فهي تدرك أن اعتراض العريف على أمر ملكي قد يعيد الحكم مرة أخرى، فهو سلطة منفصلة عن السلطة الملكية في المملكة، جاءت تمسك بين يديها بطاقة ابن جوبان لتهدده بها، لكن تلك النظرات في عيونه جعلتها تهمس برعب :
” أنت… أنت لم تفعلها، لم تخبر أحدًا صحيح ؟؟”
ابتسم لها يقول بصوت منخفض حتى يجعلها تأمن وتسعد فتأتيها الطامة اقوى من معرفتها الآن منه وتتخذ حذرها :
” نعم لم أفعل، لم أخبر أحدًا، لكن إن استمريتِ فيما تفعلين أخبرت الجميع واولهم إيفان”
شعرت شهرزاد بالأرض تدور أسفلها تقول بصدمة ورعب :
” لقد …لقد اتفقنا و… أنت الآن تهددني و تخلي بجزئك من الاتفاق و…ابن جوبان أنت حقًا لا تدرك بأي كارثة تلقي به، أنت تدرك ما يمكنني فعله إن افشيت سري ”
نهض العريف عن مقعده يبصر مقدار غباء تلك المرأة:
” هل حقًا ظننتي يومًا أنني ابعدت ابن القائد جوبان عن القصر أو أنني أخشى منكِ ؟؟ يا امرأة هذا ابن القائد جوبان والأحق بالعرش، وابن الأميرة عائشة أميرة مملكة آبى، وخاله هو الملك آزار ملك آبى، هل تعتقدين أنني قد أخشى من حشرة مثلك على فتى بمكانة سالار ؟؟”
نظرت له وهي تشعر بقلبها على وشك التوقف رعبًا مما يحدث، صوّر لها غرورها أن العريف قد يخشاها حقًا ويسارع لإخفاء ابن جوبان عنها.
ضحكت بصخب تدرك ما ابصرته وانكرته، طوال هذه السنوات كانت تشك وتدرك أنه لا يمكنه الاستمرار في وعده، ورغم ذلك صمتت وادعت الجهل طالما هو بعيد عن الحكم، كانت تحاول الإيقاع به مرات عديدة، شكت به بالطبع هي ليست غبية لهذه الدرجة كي تجهل ظهوره المفاجئ في القصر .
سالار القائد هو نفسه سالار جوبان .
” أنت… أنت، لقد كنت اعلم…لقد أدركت أنك لن…”
قاطعها العريف يخبرها ببساطة :
” لقد أبعدته عنكِ بالفعل لسنوات طويلة بعد استشهاد جوبان والأميرة عائشة، وحين أبصرت اطمئنانك للأمر، عاد وحش سفيد لينال مكانته المستحقة بين الجميع ”
نظرت له بوجه شاحب ليبتسم هو قائلًا :
” القائد سالار والذي ترعرع أسفل سقف القصر كصبي في الجيش بعيدًا عن الأعين نضج وكبر وحاز مكانته المستحقة في الجيش ليصبح قائدًا لجميع جيوش بلاده ويتقلد مكانة والده بكل بسالة، وكل ذلك بمباركة منكِ مولاتي ”
شحب وجه شهرزاد وهي ترى الآن ما كانت تشك به يتأكد أمام عيونها، كيف، كيف لم تتأكد، لم تنتبه للأمر، الاسم والقوى نفسها، لكن …هي …كيف لها أن تفعل ؟؟ العديد من الرجال يمتلكون نفس الاسم، و…ملامحه لا تمت لجوبان أو عائشة بصلة، أم هي من عمت عن الأمر ولم تهتم يومًا لتبصر ملامحه من تلك الجهة ؟!
في هذه اللحظة تمثل أمام شهرزاد وجه سالار وهو يبتسم لها بسمة ساخرة وشعرت أن روح عائشة وجوبان تجسدتا له لتتراجع للخلف وهي تشعر بقلبها يكاد يتوقف ولم تكد تتحدث كلمة، حتى سمعت صوت أحد الجنود يدخل المكتبة يقول بجدية :
” سيدي العريف الملك يخبرك أن محاكمة قائد الجيوش غدًا في العاشرة صباحًا، ويستدعيك للحضور”
اتسعت أعين شهرزاد تستدر صوب الجندي تردد بحيرة وعدم فهم :
” محاكمة قائد الجيوش ؟؟؟ ما الذي يحدث هنا في المملكة ؟؟”
_______________________
انتهى اليوم وأخيرًا للجميع، انتهى ورحلت معه الآلام وتجددت أخرى، رحلت دون أن يدرك البعض ما سر اختفاء إيفان في غرفة زمرد بالساعات، وما سر خروجه منها في النهاية بوجه جامد دون كلمة واحدة ومن بعدها سمح للنساء بالدخول وسحب معه الرجال بعيدًا دون كلمة واحدة .
وزمرد تلقت كل اسئلتهم بملامح تعلوها صدمة وحيرة مما علمت وسمعت، لتخبر كهرمان الجميع أن يدعوها الآن لترتاح قليلًا فهي بالفعل تبدو شاحبة الوجه بشكل مخيف …
وهكذا مر الليل، ثقيلًا على البعض كدانيار الذي يتزحزح من أمام غرفتها، بل فقط جلس ارضًا ينتظر أن تطل عليه وتخبره أنها بخير، أنها تسامحه لأنه تخلى عنها وتسبب لها بكل هذا الوجع.
وها هي محاكمة قائد الجيوش التي ترقبها الجميع قد حانت ….
خرجت من غرفتها تتحرك في الممرات تنظر أمامها تدعي أنها لا ترى أو تسمع أحدًا، هي فقط انفصلت عن الجميع مؤقتًا حتى وصلت لقاعة العرش لتبصر الجميع يحدقون صوب الباب .
شعرت بالتوتر يمليء صدرها وكادت تتراجع لولا صوت الملك الذي قال بنبرته المعهودة القوية :
” تقدمي سمو الأميرة، كنا في انتظارك ”
نظرت تبارك حولها تحاول أن تعلم إن كان يتحدث عنها أم لا، قبل أن تبصر بسمة إيفان والذي أخبرها بعيونه أنه بالفعل كان يتحدث معها.
حسنًا يبدو أنها ستأخذ وقتًا طويلًا حتى تتأقلم على تلك ” سمو الأميرة ” كما فعلت مع مولاتي سابقًا .
تقدمت ببطء شديد حتى توقفت في منتصف القاعة ليشير لها إيفان أن تجلس على مقعد جوار العريف .
وقبل أن يتحدث أحدهم بكلمة أبصروا وبشكل مفاجئ دخول الملكة الأم والتي قالت بصوت ثابت قوي :
” اتمنى ألا يكون قد فاتني شيء ما هنا ”
ابتسم لها إيفان بسمة صغيرة بسيطة :
” بالطبع لا مولاتي، نحن لم نبدأ بعد، وجيد أنك أتيتِ كنت سأستدعيكِ من المنزل الجنوبي على أية حال ”
نظرت له بحاجب مرفوع ورغم ذلك تقدمت لتجلس في مكانها المعروف، لكن إيفان أوقفها يقول بجدية وبسمة صغيرة :
” لا ”
رفعت عيونها له ومن ثم نظرت حولها بصدمة تردد كلمته :
” لا ؟؟”
” نعم، لا، معذرة مولاتي لا يمكنك الجلوس على هذا المقعد ”
” والسبب؟”
ابتسم لها يقول ببساطة :
” لم ننظفه منذ رحلتي، لذا أخشى على ثيابك الثمينة أن تُلوث، اجلسي هناك في هذا المقعد الفارغ ”
تحركت أعين شهرزاد مع إصبع إيفان حتى توقفت على مقعد في مؤخرة القاعة بعيدًا عن الجميع، اشتعل صدرها بالغضب ورغم ذلك لم تتحدث بكلمة وهي تتحرك بهدوء كي لا تثير الأقاويل حولها، هي فقط جاءت تشهد إذلال طفل عائشة وجوبان .
ثواني وارتفع صوت أحد الجنود يقول بقوة :
” قائد الجيوش الاعلى يطلب الدخول …”
ابتسم إيفان يهز رأسه له، ثواني هي حتى أبصر الجميع تقدم سالار داخل القاعة بكل هدوء وقوة لا ينظر يمينًا أو يسارًا حتى وصل أمام العرش يجمع كفيه خلف ظهره يقول بصوت هادئ ثابت :
” مولاي ..”
نظر له إيفان بجدية يزيل جانبًا أي مشاعر قد يتخذها أحدهم ذريعة في الاعتراض على حكمه :
” القائد سالار أنت تدرك سبب وجودك هنا في هذه اللحظة صحيح ”
استقام سالار في وقفته يرفع رأسه بقوة دون أن يخفضها لحظة واحدة أمام أعين احد، بينما عين تبارك تحوم حوله وهي تفرك كفها بتوتر.
” نعم مولاي ”
” وما ردك على ما قيل في حقك وحق الأميرة تبارك؟؟”
نظر له سالار بقوة يجيب :
” إن كان ما قيل في حقنا يخص ما حدث خلال الحرب فقط حينما جذبت الملكة بعيدًا عن الموكب المحترق، فلا رد عندي، الحلال بين والحرام بين، والجميع في هذا المكان يدرك أن مجرد لمسي لها دون سبب لهو إثم يعاقبني الله عليه، وأنا ما كنت لابرر في حياتي كلها إثم ولو جُزت عنقي بسببه، لذا فيما يخص هذه النقطة، فأنا على كامل الاستعداد لتحمل أي عقاب تسقطه عليّ مولاي ولا اعترض معاذ الله ”
صُدمت تبارك من حديثه وقد بدأت يدها تضغط على المقعد الذي تجلس فوقه وكأنها تخشى أن يتحرك جسدها دون إرادة منها ويهب ليدافع عنه .
بينما سالار استمر في حديثه ولم تهتز نبرته لجزء من الثانية وهو يكمل كلماته بنفس القوة التي بدأ بها :
” وإن كنت تقصد ردي على ما قيل في حقي وحق الملكة مولاي بشكل عام، فلا رد لي سوى أن من يمتلك الشجاعة ليتحدث بكلمة واحدة عن عرضي وشرفي المتمثل بزوجتي المستقبلية ليأتي ويتحدث في وجهي وحينها اجيبه بنفسي ”
كبت إيفان بسمته يقول بصوت قوي :
” قلت لي زوجتك سالار ؟؟”
رفع سالار عيونه لإيفان يتبادل معه نظرات صارمة ثم قال بهدوء ما اتفق عليه مع إيفان :
” ألم يقل العريف أنها زوجة الملك المقدرة مولاي ؟؟”
هنا وابتسم إيفان بسمة واسعة يجيبه :
” هذا صحيح ”
” إذن الملكة تبارك جاءت هنا لتصبح زوجتي أنا ومنذ اليوم الذي ذهبت واحضرتها وقد كتبها الله لي، منذ ذلك اليوم أنا من دربتها وجهزتها لتصبح زوجتي، والجميع هنا يدرك ذلك صحيح ؟؟”
علت نظرات البلاهة أوجه جميع الحاضرين، وشهرزاد تتبادل النظرات مع الأشخاص حولها تنتظر أن يعترض أحدهم على هذه المهزلة التي تشهدها، لكن إيفان قاطع هذه الهمسات والنظرات بصوت صارم :
” هدوء رجاءً يا سادة، الأمور جميعها ستتضح الآن ولا أود أن أسمع صوتًا حتى تنتهي المحاكمة ”
ختم حديثه ينظر صوب سالار بقوة :
” قلت لي أنها زوجة الملك المقدرة سالار ؟؟ ”
” نعم مولاي ”
هز إيفان رأسه يقول :
” أنت لست خائفًا بوقوفك أمامي وأمام الجميع بهذا الشكل معلنًا عن مشاعرك تجاه المرأة التي جاءت لتصبح زوجتي؟! هل هذه إشارة منك إلى أنك خائنٌ سالار ؟؟”
رفع سالار عيونه له يدافع عن نفسه ومشاعره أمام الملك والجميع :
” والله ما خنت بلادي لحظة والجميع في هذا المكان يشهد على صدق كلماتي، حاربت كل من سولت له نفسه الاقتراب من حبة رمل واحدة من رمال سفيد، وإن صنفنا حبي للملكة خيانة فأنا ارتضي بالخيانة مصيرًا مولاي ”
نظر إيفان لعيونه يقول بصوت قوي :
” تعلم أن عقاب الخيانة هو الموت سالار ”
تحكم سالار في جميع نظراته وردات فعله وقد اشتد جسده بقوة يقول :
” ليكن إذن، وليشهد التاريخ على محاربٍ عاش مخلصًا، وسيموت عاشقًا ”
عند هذه الكلمات انتفض جسد تبارك بقوة تصرخ في المكان :
” أنا اعترض مولاي ”
نظر لها سالار بقوة وتحذير أن تجلس، لكن إيفان استدار ببطء لها يقول بصوت هادئ :
” وما هو اعتراضك سمو الأميرة ؟؟”
نظرت له تبارك بقوة تقول :
” ما عهدتك ظالمًا مولاي، بعد كل ما قدمه القائد سالار للمملكة تصنفه وجنودك خائنًا؟؟ هذا ليس عدلًا، هو لم يخطأ، اقسم أنه يومًا لم يخطأ أو يقترب مني بشكل يـ”
نهضت شهرزاد في هذه اللحظة تستغل الفوضى اللحظية التي صنعتها تبارك :
” لكنه خان الملك والمملكة وأحب المرأة التي كُتبت للملك، هذه خيانة عظمى، خان الملك الذي استأمنه على تدريب زوجته على المبارزة ومد اعينه لها ”
اشتدت أعين دانيار الذي تحركت يده دون شعور صوب سهامه حين رأى تحفز أجساد من بالقاعة وكأنهم يوافقون ضمنيًا على حديث تلك المشعوذة، بينما تميم يدور بعيونه بين الجميع يدرك أنه إن قامت حرب في هذه القاعة فهو يعلم جيدًا لاي صف سينضم هو ودانيار .
همس دانيار بغضب شديد :
” تلك المشعوذة النكراء ”
” اصمت دانيار لئلا يسمعنك أحدهم ”
نظر له دانيار بشر يهمس :
” لطالما كرهت تلك المرأة، لا ادري كيف يمكن أن يتحملها بشر ؟! كان الله في عون الملك ”
تحركت عين سالار صوب شهرزاد، يرميها بنظرات قوية يقول بصوت قوي :
” دليل برائتي في حديثك مولاتي ”
نظرت له شهرزاد دون فهم ليقاطع إيفان كل ذلك بصوت صاخب :
” الجميع يصمت …”
وبالفعل عادت القاعة لتغرق بالصمت إلا من أصوات انفاس تبارك المرتفعة، وإيفان نظر للجميع يقول :
” الجميع حاضر والجميع بلا استثناء رأى ما حدث في ساحة الحرب، القائد سالار فعل ما فعل لينقذ الأميرة تبارك، والتي جاءت لتصبح زوجة الملك أي زوجة سالار وليست زوجتي أنا ”
علت نظرات البلاهة أعين الجميع وقد شعروا للحظة أنهم لا يدركون ما يحدث هنا، ليهتف إيفان بقوة بينهم :
” القائد سالار ابن الأمير جوبان هو الأحق بالملك مني، وقد سبق وتنازل لي عن العرش حين تقلدته، أبى أن يحكم البلاد وتنازل عنه لأجلي وارتضى أن يقود هو جيوش المملكة، لكن وحسب قوانين العائلة والمملكة فالاكبر من عائلة الملك سفيد الأول هو من يرث العرش، لذا حين نطق العريف بأن الأسطورة تخص الملك كان يقصد الملك سالار وليس أنا ”
ارتفعت الشهقات في المكان وقد بدأت نظرات الصدمة والدهشة تحلق حول سالار وإيفان الذي يعلو عرشه، كانت تلك الطريقة الوحيدة ليمحو لها إيفان نظرات الجميع لسالار فهو يدرك أنه حتى إن برأ سالار أمامهم وتنازل عن تبارك له، بل واعترف أنه لم يحبها واحب امرأة اخرى، ستظل هناك فئة تصف سالار بالخائن .
إذن إن كانت الحقيقة المختبئة ستنقذ سالار، فليكن .
اكمل إيفان كلماته كي ينتهي من كل ذلك :
” سالار منذ اللحظة التي احضر فيها الملكة تبارك، أحضرها لتكون زوجته هو، وليس أنا وما حدث في البداية كان ظن خاطئ منا جميعًا وكنا على وشك حله أمام الجميع، لولا ما مرت به البلاد من حروب وتقلبات، فرأينا أن نكمل تلك اللعبة كستار نخدع به المنبوذين، لذا في هذه القصة إن كان هناك من يمكن أن نصنفه دخيلًا على الحكاية فهو أنا ”
رفع سالار عيونه له رافضًا أن يصف نفسه بهذا الوصف فقط ليخلصه من جميع الأحاديث :
” العفو مولاي، أنا لم أتنازل عن العرش لك شفقة مني أو تكرمًا معاذ الله، بل تنازلت عنه لثقة مني أن لا أحد يستحق أن يعتلي عرش سفيد إلاك، ولا يليق الملك بسواك ملك إيفان، وهذه القوانين التي وضعت لاختيار الملك ليست ضرورية اتباعها، الأهم هو أن تحصل سفيد على تلك عادل حكيم مثلك، لذا فالملك الان هو أنت مولاي ”
ابتسم له إيفان بسمة واسعة يهبط عن العرش يقترب من سالار يربت كتفه، ليجذبه لصدره بحب :
” إن أخترت المُلك كنت لتصبح ملكًا رائعًا سالار أثق في ذلك ”
أجابه سالار بثقة وقوة وصدق ظهر للجميع في نبرته وقد أوضح في هذه اللحظة أن أي شقاق بينه وبين الملك سيكون بموت أحدهما :
” وضع الله كلٌ في المكان الذي يليق به مولاي، فلا أنا كنت سأحب أن أصبح ملكًا ولا كنت سأطيق العيش خارج ساحة الحرب ”
تنهد إيفان يبتعد عنه يراقب الأعين التي كانت تتابعهم بتأثر وتقدير واحترام، ثم نطق بصوت قوي :
” رحبوا بقائد الجيوش وابن الأمير جوبان يا رجال، واعدوا العدة لاستقبال الافراح والاحتفال بزواجه من الأميرة تبارك ”
نهض الجميع ينظرون لسالار بتقدير بعدما كان البعض يرمقه باستنكار، استطاعوا أن يحولوا نظرات الرفض لنظرات تقبل وترحيب ..
ضم سالار إيفان وهو ينظر نظرات مسروقة صوب تبارك التي كانت تقف تحاول أن تستوعب ما سمعت وما يحدث، لكنها فشلت، فرأت أن تنتظر حتى تفهم ما يحدث ثم ترى ما يجب فعله، لكن في هذه اللحظة
فقط عليها السعادة لأجل ما قيل ..
هي ستصبح زوجة قائد الجيوش وأمير سفيد، هل هناك خبر أكثر روعة من هذا !!
كل هذا كان يحدث على مرأى ومسمع من الجميع، وتميم الذي اندفع صوب القاعة يحتضن سالار ببسمة واسعة وقد كان منذ لحظات يجلس على جمر جوار دانيار والاثنان على أتم الاستعداد للانقلاب على جميع من بالقاعة لأجل قائدهما ..
” مبارك يا قائد ”
ابتسم سالار يضم له تميم بحب :
” اشكرك تميم، العقبى لزفافك يا اخي ”
ابتسم له تميم يتنحى جانبًا مفسحًا لدانيار الطريق وقد اقترب الاخير يعانق سالار وهو يردد له بصوت خافت :
” جيد أن الملك حل الأمر، فلا أظن أن سهامي كانت ستكفي جميع من بالقاعة ”
أطلق سالار ضحكات مرتفعة يربت على ظهر دانيار :
” احفظ سهامك لأجل حروبك يا فتى فسيفي يكفي الجميع، لكننا لا نرفع سلاحًا في وجه مسلم دانيار ”
ابتسم له دانيار يهز رأسه مخبرًا إياه بعيونه أنه فقط كان يمزح وسالار تفهم الأمر يستدير صوب تبارك التي كانت تراقب كل ما يحدث دون أن تدرك ردة الفعل التي يجب أن تتخذها .
ومن بين كل تلك الاحتفالات والمشاركات كانت هي تقبع في مؤخرة المجلس تشعر أن ما كل ما بنته في سنوات يتهدم فوق رأسها في ثواني، الجميع يعرف الآن حقيقة سالار والتي اطمئنت أنه لن ينبث بها يومًا .
لكن ها هو وقد حدث ما خشيت منه، إذن ما الخطوة القادمة ؟؟
______________
خرج يهرول من القاعة وعيونه تسبقه صوب غرفتها التي ما تزال متسطحة بها، وبمجرد أن وصل هناك حتى تنفس بصوت مرتفع يطرق الباب الخاص بها وانتظر الرد…
ثواني ووصل له صوت كهرمان تقترب من الباب لتجيب، وحين ابصرها تسد الرؤية عنه عاد للخلف خطوات صغيرة يخفض رأسه قائلًا :
” مرحبًا سمو الأميرة، هل استيقظت زمرد ؟؟”
نظرت له كهرمان ثواني قبل أن تبتسم وتقول ببساطة :
” نعم فعلت منذ ساعة تقريبًا”
تردد في طرح سؤاله التالي، لكنه رغم ذلك تحدث وقال بجدية :
” هل …هل يمكنني أن اقابلها رجاءً ؟؟”
ورغم أنها كانت تبصر رغبته واضحة في عيونه إلا أنها تعجبت صراحته المبالغ بها وقال بهدوء :
” هو …هل يمكنك الانتظار بعض الوقت رجاءً ؟؟”
هز دانيار رأسه وهو يتراجع أكثر للخلف مانحًا إياها كل الوقت لتعود له بموافقة تسعده، وما هي إلا ثواني حتى عادت كهرمان تفتح الباب لنهايته وهي تبتسم له بسمة صغيرة مشيرة صوب الفراش الذي تجلس عليه زمرد قائلة :
” تفضل ”
ابتلع دانيار ريقه يتقدم من الغرفة وحين خطى لها شعر بضربات قلبه تزداد أكثر بشكل ازعجه بعض الشيء، رفع رأسه ببطء حتى استقرت عيونه وأخيرًا على وجهها الحبيب الذي افتقده وكاد يفقده .
” مرحبًا ”
كلمة خرجت دون وعي منه وكأن قلبه أبى إلا أن يلقي عليها تحيته بعد غياب، وزمرد توترت وهي تهمس له :
” مرحبًا بك ”
نظر دانيار حوله وهو يسأل نفسه عن الخطوة القادمة، فهو بالفعل جاء هنا لا يدرك ما يريده سوى أنه يود رؤيتها، ومن بعد ذلك لم يجهز شيئًا .
مد يده يداعب خصلاته بحيرة وهو يردد :
” كيف …كيف حالك ؟؟”
ابتسمت زمرد تبصر توتره :
” بخير، هل جئت لتطمئن إن كنت حية أم لا !!”
نظر لها ثواني وهز رأسه بنعم، ثم لا بسرعة وقال :
” لا أنا فقط جئت اطمئن عليكِ، هل أنتِ بخير؟!”
” أنت لا تظن أن طعنة من يدٍ ضعيفة كيد ذلك الخنزير قد تقتلني صحيح ؟؟”
اطال لها دانيار النظر قبل أن يبتسم بسمة سلبت لبها بكل بساطة وقد شعرت بعيونه تضيء كما لو أن ضوءًا انعكس عليها :
” لا، لا اعتقد ذلك أبدًا فأنا أدرك أي نوع من الأشخاص أنتِ ”
” أي نوع يا ترى سيدي القائد ؟؟”
” ذاك النوع القوي الذي لا يُخشى عليه من مصائب الحياة ”
ابتسمت له زمرد بسمة واسعة وقد شعرت بالاطراء ولا تعلم السبب لكنها احببت كلماته كثيرًا ولم تكد تتساءل عن سبب تغيره بهذا الشكل، لكنه قاطع كل ذلك يقول بجدية :
” بل إن اردتي الصدق، فالاجدر بالإنسان أن يخشى على مصائب الحياة منكِ ”
كانت ضربة موفقة أصابت منتصف الهدف لتتلاشى بسمة زمرد وهي تقول بغيظ شديد :
” هل جئت لي خصيصًا كي تعكر لي مزاجي ؟؟ للتو نهضت من مرض وأنت تأتي لتزيده عليّ؟؟”
اتسعت أعين دانيار والذي كان يتحدث معها بتلقائية كبيرة دون أن يشعر وقال :
” لا أنا لا أفعل، أنا فقط جئت …جئت …”
صمت يحاول أن يخبرها سبب مجيئه، أنه فقط لم يأتي سوى ليقر عينه برؤيتها مسالمة ولتهدأ ضربات قلبه المضطربة لأجلها، اسباب كثيرة اختصرها لسانه في كلمات معدودة إذ قال :
” فقط أردت التأكد أن الله كتب لي عمرًا اضافيًا ”
نظرت له زمرد بعدم فهم وكادت تتحدث متسائلة ما علاقته بها، إلا أن دانيار نظر حوله يدرك أنه بالفعل اطال وجوده هنا دون سبب وعليه الرحيل، لكنه سيعود مجددًا .
” حسنًا أنا سأذهب الآن، ولاحقًا أعود، حينما تستطيعين التماسك والنهوض على قدمين لتسيري إلى موكب زفافنا ”
هزت هي رأسها بهدوء تريحها للخلف :
” لا بأس فقط ….مــــاذا ؟! ما الذي تفضلت به منذ ثواني ؟؟”
ابتسم لها دانيار يجيب بكل بساطة :
” سنتزوج ؟؟”
” سنتـ ماذا أنت ؟؟ هل تمزح معي ؟! أليس هناك رأي تنتظره مني أو ما شابه ؟؟”
توقفت اقدام دانيار ونظر لها بتعجب ودهشة وكأنها نطقت بشيء مريب او عجيب :
” مهلًا ألم يكن سبب رفضك للزواج هو خوفك كما تخفينه ؟؟ وها أنا بالفعل أعلمه واتقبله وسنتزوج ”
بدا الأمر لزمرد في هذه اللحظة كما لو أنه يجبرها على الزواج منه :
” ومن أخبرك أنني اوافق على ما تريد أو أن عائلتي ستوافق على زواجي منك ؟!”
اشتعلت أعين دانيار وشعر بالغضب يملئ صدره، يا الله ليس مجددًا لقد تحمل من هذه المرأة عدد مرات رفض لا حدود لها .
” أنتِ يا امرأة ما مشكلتك الآن ؟؟ لقد كان سبب رفضك لأنني أجهل حقيقتك، وأنا بالفعل اعلمها الآن ولا تهمني بشيء، تبًا لكل شيء قد يمنعني الزواج بكِ زمرد ”
كان يتحدث صارخًا في وجهها واعينه تكاد تخرج من محاجرهما، وقد احمر وجهه بالفعل، وشعر أنه على استعداد لقتلها وقتل نفسه في هذه اللحظة .
فجأة هدأ جسده ليقول بصوت غريب :
” مهلًا هل قلتِ للتو عائلتك ؟! أي عائلة تقصدين ؟؟ من هذا الذي قد يمنعك عني زمرد بعد كل ما تكبدته في هذه القصة المريبة ؟!”
” أنا…”
هي كلمة فقط سمعها دانيار تصدر من خلفه بصوتٍ يدركه جيدًا ليستدير ببطء وريبة يبصر الملك يتوسط مدخل الغرفة وهو يضم يديه لصدره مبتسمًا بسمة باردة :
” أنا من سأمنعك دانيار، هل تمتلك اعتراضًا على الأمر ؟؟؟”
نظر له دانيار بأعين غاضبة وقد شعر أن الجميع يحاول دفعه بعيدًا عنه وهذا ما زاد جنونه اضعافًا ليتحدث بقوة في وجه الملك :
” لا اقصد التبجح مولاي، لكن بصفتك من قد تمنعني من الزواج بالمرأة التي أريد ؟! لا اعتقد أن مكانتك كملك هنا تؤهلك لفعل ذلك ؟؟”
ابتسم له إيفان يهز رأسه هزة صغيرة يتحرك صوب فراش زمرد، ثم جلس جوارها تحت أعين دانيار المتسعة ومال عليها قبل رأسها بحب يجذب رأسها لاحضانه يقول بشكل جعل أعين دانيار المظلمة تتسع بصدمة :
” بصفتي شقيقها الأكبر لزمرد ….”
____________________
خرجت من القاعة تشعر أنها على وشك الطيران، تتحرك بين الجميع تستقبل بسماتهم ببسمة مشابهة، وقد شعرت لشدة سعادتها أن القصر بحجمه الكبير لا يتسع لسعادتها .
دخلت المحاكمة منبوذة تقريبًا مُدانة حزينة، خرجت منها منتصرة سعيدة على وشك الفوز بحملها الوحيد الذي تمنته منذ جاءت لهذه البلاد .
كانت تتحرك بسرعة كبيرة صوب القصر تود الوصول لغرفتها كي تلقي ذاتها على الفراش تتمرغ به تستوعب ما حدث لها، لكن وقبل أن تفعل ذلك أبصرت جسد يقاطع طريقها وصوت تألفه أكثر من أي شيء يقول :
” ها أنتِ ذا، كنت أبحث عنكِ ”
رفعت تبارك عيونها ببطء صوب وجهه تقول بصوت خافت خرج منها مُحملًا بالعديد والعديد من المشاعر دون شعور منها وقد دعت ألا ينتبه لنبرتها :
” مرحبًا يا قائد”
ابتسم لها سالار بسمة صغيرة رأتها هي في قمة اللطف :
” مرحبًا مولاتي ..”
” اعتقد أنني الآن تخليت عن هذا اللقب بالكامل يا قائد، لم اعد الملكة بعد الآن، نادني تبارك ”
لكن سالار تعمد تجاهل تلك النقطة يقول بجدية وهو يخرج من جيب ثوبه عقد ذهبي يبتسم لها بلطف :
” كنت ابحث عنك لأجل هذا ”
نظرت تبارك ليده بتعجب تمد كفها له ليترك هو العقد به يقول مجييًا اسئلتها غير المنطوقة :
” هذا عقد امي المتوارث، اعتادت نساء عائلتها ارتدائه يوم الزفاف، ربما تحبين ارتدائه ”
التمعت عيون تبارك بقوة وهي تحدق بالعقد، ثم رفعت عيونها له تقول :
” هو لي ؟!”
” نعم، هو لكِ ”
ابتسمت بسمة واسعة له وقد بدأت عيونها تزداد لمعانًا، لكن هذه المرة بدموعها تهمس بصوت منخفض :
” أنا حقًا …حقًا اشكرك من قلبي يا قائد ..”
” سالار ..”
” ماذا ؟؟”
” نادني سالار، فلا يعقل أن تنادي الرجل الذي سيصبح زوجك بعد قليل بلقبه الحربي صحيح ؟!”
هزت تبارك رأسها تمسح دموعها مبتسمة :
” أنا فقط اقولها دون شعور و….”
فجأة شعرت بضربة توجه لرأسها حين استوعبت ما قيل تهمس دون فهم :
” ماذا ؟! بعد قليل ؟؟”
ابتسم لها سالار يميل ببطء محتفظًا بمسافة بينهما هامسًا بصوت منخفض وكأنه يلقي لها بأحد أسراره الحربية :
” أنتِ بالطبع تدركين مكانتي في القصر صحيح ؟!”
هزت تبارك رأسها تضم لها العقد دون فهم، ليبتسم هو هامسًا :
” إذن أنتِ لن يعجبك أن تتسببي في تحويل القائد الأعلى هنا للمحاكمة كل دقيقة لأن الجنود شاهدوه يتعدى حدوده مع المرأة التي يريد صحيح ؟؟”
وتبارك فقط تحدق فيه بعدم فهم تحاول فهم ما يريد الوصول له، بينما هو ابتسم لها يقول بمزاح، وجانب لأول مرة تلمسه به :
” بالطبع أنا لن أفعل ذلك، لكن للضمان أن الشيطان لن يجد لي مدخلًا من جانبك، فأنا قررت أن يصبح عقد قرآننا اليوم بعد صلاة الظهر، والزفاف سيكون لاحقًا حينما نتجهز له، فقط سأتكد أنكِ لن تتركي جانبي وحينها اطمئن، حسنًا ؟؟”
لكن تبارك لم تكن تستوعب كل ما قيل فقط تحدق فيه بصدمة كبيرة وهو ابتسم لها بإحراج شديد وقد شعر أنه يضغط عليها بهذا الشكل، لكنه حقًا يود التعجل بعقد القرآن، وقد خرج من القاعة على شيخ القصر ليخبره برغبته تلك .
ابتلع ريقه يقول بجدية شديدة :
” أنا لا أريد أن أشعر أنني اجبرك على الأمر، لا تقلقي مازال لدينا الكثير حتى صلاة الظهر، فقط لا تتوتري الـ ”
قاطع حديثه صوت شجي يصدح في المكان بأكمله معلنًا وقت صلاة الظهر ليبتسم لها سالار يقول وهو ينظر حوله يحاول إيجاد مخرج له، فهي فقط تحدق به بأعين متسعة دون كلمة واحدة :
” أو يمكنك التوتر….”
نظر حوله قبل أن يبصر الرجال يهرولون صوب المسجد، ليفعل هو المثل قبل أن يقول لها :
” سوف …انتظرك، لقد أخبرت الأميرة كهرمان والنساء ليساعدونك بالفعل، إذن اراكِ حسنًا ؟؟”
لكن لا رد من تبارك فقط كالصخرة تراقبه وهو ابتسم لها يتحرك من أمامها بسرعة، لكنه فجأة توقف يستدير لها يقول :
” و…تبارك أنا لا اضغط عليكِ صحيح ؟؟”
رمقته بملامحها المصدومة ليبتسم هو متنهدًا براحة :
” حسنًا إذن ألقاكِ على خير …”
وبهذه الكلمات ختم حديثه تاركًا تبارك في مكانها تحاول استيعاب ما قيل منذ ثواني، قبل أن تبتسم د دون وعي تردد :
” أنا سأصبح زوجة القائد رسميًا خلال دقائق معدودة ؟؟؟؟؟؟”
___________________
زفاف وسعادة و….ربما حرب أخيرة.
يتبع…
نفس الوقفة ونفس نظرات الصدمة وعدم التصديق، نفس كل شيء يُعاد وكأن الزمن توقف عند تلك اللحظة وظل يعيد نفسه مرات ومرات .
لكن هل حقًا تتشابه المرتان ؟!
شتان بين مرة قضتها بقلبٍ وجل قلق انتهت بحرب وكارثة كبرى، ومرة تقضيها بقلبٍ مضطرب متلهف ستنتهي بانتمائها له هو، الرجل الوحيد الذي شعرت أنها لا تنتمي لسواه .
نظرت تبارك لنفسها في المرآة تتأمل ثوبها الابيض الذي أحضرته لأجلها كهرمان، لا تصدق ما تبصره، الأن فقط يمكنها القول إنها سعيدة، من اعماق قلبها سعيدة .
ابتسمت تبصر شريط حياتها منذ قابلت سالار يمر في المرآة امامها، منذ تلك اللحظة التي كانت تجلس في الاستقبال حتى تعود صديقتها وابصرت جسدًا يخيم عليها، وملامح صهباء مبهرة تطل أمام عيونها، ورجل ينظر لها بشكل لا تفهمه، ومن ثم أخرج من فمه اغرب جملة قد تسمعها في حياتها ..
” جلالة الملكة، بحثنا عنكِ في كل مكان حتى كدنا نفقد الأمل في العثور عليكِ، والآن وحينما علمنا من الكرة أنكِ بهذا العالم، جئنا على وجه السرعة لأخذك لملكنا ”
أطلقت تبارك ضحكات صاخبة غير مفهومة لمن حولها، وهي تشعر أن الزمن مر سريعًا منذ تلك الجملة الاولى منه وحتى الجملة الأخيرة له وهو يخبرها بشأن زواجهما، يا الله لا تصدق أنها ذلك الوقت كانت ستدفع أي شيء لتهرب منه، الآن هي على استعداد لدفع عمرها بالكامل لأجل كل ثانية جواره .
نظرت كهرمان صوب تبارك تبتسم وقد ادمعت عيونها بتأثر لتلك النظرات السعيدة في عيون تبارك، هي حتى الثانية السابقة كانت تشعر بالخوف مما يحدث حولها والتردد، لكن تلك النظرات في أعين تبارك جعلتها تتنفس الصعداء مبتسمة واخيرًا .
استدارت لها تبارك تقول ببسمة واسعة :
” كيف أبدو ؟؟”
ابتسمت لها كهرمان تجيبها بحنان شديد وكأنها تراقب ابنتها تُزف ورغم معرفتها القصيرة لتبارك، إلا أنها تدرك أي نوع من الأشخاص الأنقياء هي :
” وكأنكِ خُلقتي لتكوني عروس تبارك ”
اتسعت بسمة تبارك أكثر وكأن بسمتها يمكن أن تكون أكبر، فجأة سمع الاثنان صوت الحارس المخصص لغرفة تبارك والتي لم تتغير منذ جاءت يطلب الأذن بدخول بعض النساء لها .
أذنت له تبارك رغم أنها أخبرت الجميع أنها تستطيع تولي أمرها بمساعدة كهرمان فقط ..
فُتح الباب ليطل عليها برلنت التي كانت تسند زمرد والتي تسير بصعوبة كبيرة تقول بحنق :
” برلنت هل أنتِ حمقاء ؟؟ ابعدي يدك عن معدتي يا امرأة، يا ويلي لا ينقصك سوى أن تضغطي على جرحي مباشرة ”
زفرت برلنت وهي تبعد كفها قدر الإمكان عن جرحها تمسك بها بغيظ :
” أقسم إن سمعت منكِ كلمة تذمر واحدة إضافية سألقي بكِ ارضًا ”
اتسعت أعين كهرمان مما ترى :
” ما الذي جاء بكما هنا ؟!”
رفعت زمرد عيونها صوب كهرمان بحنق وغضب :
” ماذا ؟! تريدين حضور الزفاف وحدك، ونحن ملقيات على فراش المرضى في المشفى ؟! أنتِ حقيرة كهرمان ”
صُدمت كهرمان من كلمات زمرد تقول :
” ماذا قلت أنا ؟! أنا فقط متعجبة أنكم تركتم الفراش بهذه الحالة، يالله ستحضرون الزفاف بهذه الهيئة ؟!”
نظرت زمرد لنفسها إذ كانت ترتدي ثوب من اللون الاخضر الباهت مع بعض الاشغال اليدوية البيضاء فقد كان ثوبًا بسيطًا، لكنه جميل، ومن ثم نظرت لبرلنت التي ترتدي فستان من اللون الأزرق الباهر والذي اشتراه لها تميم سابقًا تقول بحنق :
” معها حق، بالله عليكِ برلنت ما هذا الثوب البشع الذي ترتدينة ؟!”
اتسعت أعين برلنت وهي تنظر صوب الثوب الذي ترتديه تصرخ بحنق :
” اياكِ، بل إياكم جميعًا أن يوجه أحدكم كلمة واحدة لثوبي العزيز والذي أحضره لي تميم بنفسه ”
” لهذا أخبرك أنه بشع، يا امرأة كيف ترتدين ثوب بذوق رجالي؟؟”
حدجتها برلنت محذرة إياها أن تتمادى، لكن زمرد لم تهتم، وهي تتحرك ببطء صوب الفراش كي تتمدد عليه وتريح جسدها قبل أن ينهار مطالبًا بالراحة .
وبرلنت تقف في منتصف الغرفة مصدومة من كلمات زمرد التي اصلحتها كهرمان بسرعة :
” يا ويلي ليس هذا ما قصدت حين أشرت لهيئتكما، كنت اقصد الشحوب والتعب الواضح على ملامحكما، وبرلنت لا تهتمي لكلمات زمرد هي تستفزك فقط، ثوبك في غاية الجمال والرقة، اتضح أن تميم يمتلك ذوقًا رفيعًا ”
ابتسمت برلنت بسمة واسعة وهي تستدر صوب تبارك تهم عليها بالمباركة والقبلات وتبعتها زمرد بذلك تهمس لها بلطف لا يناسب الشخصية التي تدعيها أمام الجميع :
” أنتِ تبدين في غاية الرقة تبارك، مبارك لكِ ”
” اشكرك حقًا زمرد، وجودك في عقد قرآني رغم جروحك يعني لي أكثر مما تظنين حقًا ”
ابتسمت لها زمرد بسمة واسعة وقد بدأت كهرمان تعود لعملها في تجهيز تبارك وهي تردد :
” حسنًا كفانا تلكئًا يا نساء ودعونا نكمل تجهيز العروس قبل أن يفرغ الجميع من صلاة الظهر ”
___________________
في المسجد الخاص بالقصر .
كان الجميع مصطف لأداء الصلاة بنفسٍ خاشعة مستقرة مطمئنة لجوار ربها، وبعدما فرغوا دار سالار بعيونه في المكان بأكمله يتأمل المصليين براحة شديدة، ثم خر ساجدًا لربه يشكر نعمه التي أنعم بها عليهم، وأن ابدلهم خوفهم امنًا .
فجأة شعر بيد تربت على كتفه :
” مرحبًا بالعريس ”
رفع سالار رأسه صوب المتحدث ليبصر آزار الذي استقبله بالاحضان والبسمات، يضمه له بحب شديد وهو يربت أعلى ظهره مرددًا :
” مبارك يا بني، الحمدلله الذي أحياني ليوم أراك به وقد كوّنت اسرتك ”
ضمه سالار بحب شديد يهمس بصوت خافت :
” خالي العزيز، اشكر وجودك اليوم جواري ”
” وكيف لي أن افوت يومًا كهذا اليوم، بالله لو كانت حربٌ لأجلتها لأجل زواجك”
ابتسم له سالار يبتعد قليلًا مرددًا :
” وأنا ما كنت لانعم بزواجي وأنت تُحيي حروبك ملك آزار، لشاركتك بها بروحي ”
ابتسم له آزار بتأثر يهمس من بين دموعها المتلألئة :
“عوضني الله بك عن بذرتي الفاسدة سالار، ادامك الله لي وقر عيني برؤية صغارك يا بني ”
ابتسم له سالار بحزن شاب نظراته وقد علم أن آزار ما يزال يستثقل ما فعل نزار، وهو يقدر كل ذلك، ففي النهاية هذا ولده الذي رباه واعتنى به، لذا قرر في نفسه الانتهاء من الزفاف، ومن ثم سيتدخل ليساعد خاله بكل ما يملك لتمر تلك الفترة الصعبة عليه .
أبصر سالار أرسلان الذي خطى للمسجد يخلع نعله، ثم وضعه في مكانه المخصص يتحرك صوب سالار مبتسمًا فاتحًا ذراعيه :
” لو أخبرني أحدهم أنك ستكون أول من يتزوج بنا، لكذبته وسخرت منه ”
أطلق سالار ضحكات صاخبة يستقبل احضان أرسلان بالمثل :
” العقبى لك أرسلان، عسى أن تجد من تجرك جرًا صوب الزواج يا اخي ”
ابتسم أرسلان يربت على ظهره متحدثًا بنبرة ممازحة :
” خسئت، لم تُولد بعد من تجر أرسلان صوب مصيرٍ لا يرتضيه، بل أنا وإن اردتها جررتها صوب ما ابتغيه”
ابتعد عنه سالار ضاحكًا :
” في النهاية النتيجة واحدة ”
هز أرسلان رأسه:
” ربما، لكن لا اعتقد أن هذا قريب ما يزال عليّ الانتهاء من الكثير من الأمور قبل التفكير والانشغال بذاتي ”
صمت يتنهد بصوت منخفض، ثم نظر حوله يقول :
” سأذهب لأرى أين هو إيفان واعود لك ”
هز سالار رأسه وقبل رحيل أرسلان تساءل :
” هل قضيت صلاة الظهر، إذا أردت يمكنك الصلاة بالغرفة الجانبية بعيدًا عن الضوضاء ”
” اقمتها بطريقي مع الرجال سالار ”
هز له سالار رأسه يراه يتحرك صوب إيفان يدرك في قرارة نفسه أنها مسألة وقت وتشتعل الحرب بينهما على الأميرة .
هز كتفيه ببسمة يتحرك غير مهتمًا لكل ذلك :
” الاهم أن يحدث هذا بعد عقد قرآني..”
نظر حوله يبحث عن أحدهم، حتى وقعت عيونه عليه ليقول بصوت عالي يرفع يده مناديًا ذلك الشخص :
” عم شهدان…”
توقف العريف والذي كان على وشك التحرك صوب شيخ المسجد للتحدث معه، ثم غير طريقه صوب سالار مبتسمًا:
” تبدو وسيمًا بهذا الثوب سالار ”
نظر سالار لنفسه إذ كان يرتدي ثياب من اللون البني الغامق، ثم رفع عيونه لشهدان يقول بجدية وبسمة :
” شكرًا لك يا عم، احتاجك في خدمة ”
نظر له العريف بفضول ليقترب منه سالار هامسًا ببعض الكلمات له في أذنه، وهو يشعر أنه لم يعد قادرًا على التحمل أكثر، ليحضروها وينتهوا من كل ذلك ..
_________________
كان إيفان يقف على أحد الجوانب يضم يده لصدره يراقب كل شيء حوله بأعين متفحصة منتظرًا بدء مراسم عقد القرآن، وفجاة سمع صوتًا جواره يهتف :
” مولاي .”
زفر إيفان بحنق مصطنع، ثم استدار لدانيار يقول :
” ماذا دانيار ؟! ”
ضغط دانيار على شفتيه بغضب شديد يمنع نفسه الرد القاسي لعدة أسباب أهمها أنه الملك وشقيقها والذي لا يصدق حتى الآن كيف نال تلك المكانة .
” كنت فقط أود التحدث معك بشأني أنا وزمر….”
” الأميرة زمرد دانيار، ولا تجمع أختي معك في جملة واحدة رجاءً، فهي امرأة غريبة عنك ولا يجوز لك أن تحل لنفسك ذكرها دون حدود بهذا الشكل ”
ضيق دانيار عيونه بسخرية وغضب شديد ولم يكد يتحدث كلمة حتى قال إيفان متعمدًا استفزازه :
” والآن أخبرني ما تريده من أختي لأن الزفاف سيبدأ ”
همس دانيار في نفسه بعدة سبات لا يعلم لمن يوجهها؟! لنفسه التي نبذت زمرد دون وعي وقد كان من الممكن الزواج منها قبل كل ذلك، ام يسب زمرد التي كانت في غاية سعادتها منذ ساعات حين واجه الملك، أم الملك نفسه الذي يلعب دور والد العروس ويعرقل كل محاولاته لها .
” مولاي أنت تعلم ما اريد من اختك، اريدها هي لتصبح زوجتي ”
نظر له إيفان ثواني قبل أن يقول بجدية :
” لا اعتقد أن الموقف والمكان مناسبين لمثل هذه الأحاديث دانيار، لكن اختصارًا لجهودك فأختي ليست فتاة عادية، ولا اقصد بهذا أنها أميرة أو غيره فأنا لا انظر لمثل تلك الأمور الغبية، وأنت في النهاية لست بمكانة متدنية، أنت بالفعل قائد الرماة، أي تمتلك مكانة كبيرة داخل القصر، لكن كل ما في الأمر …”
صمت ينظر لاعين دانيار الذي انتبه بكل حواسه له، ثم قال ببساطة شديدة وبكلمات ينهي بها هذا النقاش في الوقت الحالي :
” أختي أميرة لن ازوجها سوى لمن يحنو عليها، ويدللها كما ادللها أنا، وبما أنه لا يوجد أحدهم قد يحنو عليها مثلي أو يدللها كما أفعل، فلن تتزوج على أية حال، انتهى النقاش دانيار ”
ختم حديثه يتحرك بعيدًا عن دانيار الذي اتسعت عيونه وفغر فاهه بصدمة كبيرة مما سمع، وشعر بنيران تشتغل في صدره هامسًا لشدة غضبه :
” اللعنة عـ …استغفر الله العظيم، الآن صدقت أنها شقيقتك فلا أحد يستطيع إثارة جنوني كما تفعلون، ليخرجني الله سالمًا من بينكما ”
بينما إيفان تحرك في المسجد صوب سالار ليطمئن أن كل شيء يسير على ما يرام، لكنه خلال ذلك قابل أرسلان الذي أوقفه يقول بجدية :
” جيد أنني وجدتك قبل انشغالك إيفان، أردت فقط اعلامك أنني سآخذ كهرمان معي اليوم بعد نهاية عقد القرآن، هذا في حالة لم استطع اخبارك قبل رحيلي، للعلم فقط ”
نظر له إيفان بأعين متسعة وقلب مضطرب وكأنه لم يكن يعتقد أن هذا اليوم سيأتي أبدًا، وكأنه آمن أنها ستظل جواره للنهاية، ابتلع ريقه يرفع عيونه صوب أرسلان الذي كان يتحدث بكلمات مشوشة لم تصل له وكأنه كان يتحدث من على بعد أميال، فقط لا يرى سواها وهي تبتعد عن القصر تاركة إياه يتلمس أثرها بعد رحيلها..
نطق فجأة من بين أفكاره:
” لا ”
توقف أرسلان عن الحديث يقول بعدم فهم :
” لا ؟؟ لن تعطيني صفقة الأسلحة ؟!”
نظر له إيفان بأعين محتارة لا يفهم ما يقول :
” ماذا ؟؟ أسلحة ماذا ؟!”
” أنت ما الذي تقوله إيفان، هل أنت واعي لما قلت منذ ثواني ؟؟ كنت أخبرك أنني أريد شراء صفقة أسلحة لتمويل جيشي بها وأنت فجأة قلت لي لا، ما معنى لا هذه أيها القذر ؟!”
رمقه إيفان بحيرة لا يدرك ما يحدث حوله في اللحظة التي تقدم منهم دانيار يقول ببسمة متسعة وقد وصل له ما قيل :
” مرحبًا ملك أرسلان، أنرت سفيد بوجودك ”
ابتسم أرسلان يرحب بدانيار الذي رمى إيفان بنظرة جانبية يقول وقد أدرك سبب حالته فجأة :
” إذن سترحل مع الأميرة كهرمان ؟!”
” نعم أنا فقط تركتها لأجل البقاء مع رفيقتها المريضة، والآن عليها العودة لبلادها والاستقرار بها ”
اشتعلت أعين إيفان وازدادت سعادة دانيار بهذه النظرات وكأنه سعيد أن انكوى إيفان بنفس النيران التي اشعله بها منذ ثواني .
” خيرًا ما ستفعل ملك أرسلان، تصحبكم السلامة ”
نظر له إيفان بشر فابتسم دانيار يقول :
” هذا القائد يشير لي هناك ؟! اعذروني عليّ الرحيل”
تحرك مبتعدًا بينما عاد أرسلان لإيفان يقول بحاجب مرتفع وصوت جاد أجش :
” ستعطني الأسلحة أم لا إيفان ؟!”
نظر له إيفان وكم ود لو يخبره أن يأخذ أسلحته كلها ويترك له الأميرة …
_____________________
طرقات صغيرة على الباب أدت لانتفاضة جسد تبارك خاصة أنها كانت متحفزة بشكل كبير بعدما سمعت اصوات انتهاء الصلاة في الخارج .
تحركت كهرمان لفتح الباب فقابلت العريف الذي ابتسم لها يقول :
” مرحبًا بسمو الأميرة ”
نظرت له كهرمان ببسمة اختفت خلف لثامها ترحب به :
” مرحبًا بك أيها العريف ”
” إذن هل العروس جاهزة ؟؟”
نظرت له كهرمان بحيرة لثواني قبل أن تومأ بإيجاب :
” نعم هي كذلك في الداخل ”
تنحنح العريف يقول :
” إذن هل لكِ أن تناديها ؟! فأنا من سيقودها صوب زوجها ”
ورغم تعجب كهرمان إلا أنها تحركت للداخل صوب تبارك المرتعبة تقول بصوت حنون مساند :
” تبارك، هيا عزيزتي حان الوقت .”
انتفض جسد تبارك تقول بتوتر شديد :
” هل سالار بالخارج ؟!”
رمقتها زمرد بتعجب تقول :
” يا ويلي الفتاة مرتعبة، هل تُقاد لذبحها أم ماذا ؟؟ هل اجبرك ذلك الرجل على زواجه ؟؟”
نظرت لها تبارك برفض ولم تكد تتحدث حتى قاطعتهما كهرمان بتأفف :
” دعكِ منها تبارك واهدأي الأمر ابسط مما يكون سوف تتحركين صوب المسجد وهناك سيعقد الشيخ قرآنكما وانتهينا، ولا ليس سالار من بالخارج بل هو العريف من جاء لاخذك”
رددت تبارك وهي تتحرك صوب الباب بتعجب :
” العريف ؟؟”
ابتسم العريف حين رآها تطل عليه ليقول مبتسمًا :
” مرحبًا يا ابنتي، تبدين في غاية الجمال ”
رمقته تبارك بنظرات متعجبة، فمن أمامها ليس نفسه العريف الذي يمقت جميع البشر، بل يبدو انسانًا طبيعيًا، ثواني قبل أن تتلاشى تقضيبتها وتتحول لبسمة واسعة .
” شكرًا لك يا عم ”
اتسعت بسمة العريف بشكل جعل تبارك تتعجبها، فهي المرة الأولى لها التي تبصر بها هذه البسمة على وجه العريف، وهو تقدم منها يقول :
” الشخص الوحيد الذي يناديني عم هو سالار، والآن سأتقبلها منه، فأنتِ خليلته ونصفه الآخر في النهاية، صحيح ؟!”
ارتجف جسد تبارك جراء تلك الكلمات التي خرجت من العريف بتلقائية، وابتلعت ريقها تراه يقف جوارها على بُعد مناسب يشير للطريق قائلًا :
” هل تمنحيني شرف اصطحابك صوب المسجد وازفك بنفسي لولدي ؟!”
اتسعت أعين تبارك وشعرت بقلبها يرتجف وعيونها تمتلئ دموع دون شعور، تنظر صوب الفتيات وقد ابتسم الجميع لها بتشجيع، ابتلعت غصة استحكمت حلقها دون شعور تقول بصوت خافت :
” لي الشرف يا عم ”
ابتسم العريف يشير لها بالتحرك جواره، وبمجرد خروجهم من الجناح وجدوا صفين من النساء بسلات الزهور التي بدأت تتناثر فوق رأس تبارك والتي كانت تلتفت يمينًا ويسارًا بذهول لتسمع صوت العريف يقول :
” لم يستطع سالار أن يصنع لكِ زفة ملكية من الجنود وهو ليس بزوجك بعد، لذا اقترح عليه الملك فعل هذا و….”
صمت يقول بمزحة صغيرة :
” اعتقد أن إيفان يمتلك بعض الذوق في النهاية ”
ضحكت زمرد في الخلف وهي تسير مع الفتيات خلف تبارك والعريف، تغمز لكهرمان :
” نعم انت محق الملك يمتلك الكثير من الذوق، لكن البعض مصر على التعامي عن الأمر ”
اشتعلت وجنتي كهرمان تحدق في وجه زمرد بتعجب شديد، فهي بالأمس كانت تلعن بجميع الرجال واليوم تكاد تطلق اشعارًا في حق الملك .
وزمرد التقطت حيرتها تلك وقالت :
” سأخبركم بكل شيء بعد عقد القرآن، الآن لنهتم بتبارك فقط ”
وبالفعل سار الجميع خلف تبارك والتي كانت تشعر أنها تعيش أحلام اليقظة الخاصة بها، بل إن الواقع تجاوز بكثير أحلامها، فمتى رأت هي أحلامًا بهذه الروعة إذا استثنينا أحلامها بسالار، فنعم هذا اجمل من جميع احلام يقظتها وتخيلاتها ليوم زفاف .
كانت أقصى أحلامها أن تنال فارسًا يصنع لها زفاف صغير بينهما بعيدًا عن نساء حارتها والتي لم تكن لتسلم لسانهم حتى يوم زفافها .
في هذه اللحظة وصلت تبارك للساحة أمام المسجد، تحركت بقلب وجل صوب الداخل تتذكر الآن فقط ما شعرت به برلنت وهي تحاول طمئنتها .
وبمجرد أن رأته يقف يتوسط الجميع في المسجد حيث افرغوا لهم المكان بأكمله واختفت النساء خلف الستار شعرت بقلبها يسقط في قدمها وهي تدرك في هذه اللحظة، أنها لم تنل فارس أحلامها المعهود …
بل نالت قائد جميع الفرسان .
ابتسم لها سالار بسمة حنونة لطيفة وهو يشعر أن خطواتها تلك، تخطوها فوق قلبه، رفع عيونه ببطء لها يحاول التنفس بشكل طبيعي، يحاول الاحتفاظ بصورته المعهودة أمام الجميع، حاول وحاول حتى أدرك أنه فشل، فابعد عيونه ببطء عنها صوب الجميع يبتسم لهم يتلقى بسمتهم بطيب نفس، ونظرات إيفان له كانت تعني له الكثير، فقد كان يبدو كمن يشاهد زفاف ولده ..
وفي نفسه كان سالار يدين بسعادته هذه لله ومن ثم إيفان الذي غفر له كل شيء، بل وسارع لمساعدته حتى ولو على حساب نفسه، وهذا يذكره أنه يدين بالكثير لإيفان.
تحرك واخيرًا بعيونه عن العالم حوله صوب عالمه الخاص الذي توقف واخيرًا أمامه برأس منخفضة، ابتسم ولم يتحدث بكلمة حين بدأ صوت الشيخ يصدح لينتبه له الجميع وهو هز رأسه بتحية صغيرة يتركها تتحرك مع النساء خلف الستار، ثم تحرك ليجلس مع الرجال ليتم عقد القرآن..
تحرك العريف يقول بصوت هادئ ردًا على تسائل الشيخ :
” أنا وكيل العروس يا شيخ ..”
وتحرك آزار ليساند ابن شقيقته وكذلك أرسلان وإيفان وتميم ودانيار ومهيار، تحرك الجميع صوب سالار الذي جلس على ركبتيه ارضًا أمام العريف والذي كان يعيش في هذه اللحظة اسعد لحظات حياته .
بدأت كلمات الشيخ تعلو في المسجد حول الزواج وخطبته المعهود، وتبارك تجلس خلف الستار تسمع نفس الكلمات التي ترددت منذ يوم فقط، لكن في هذه اللحظة كانت تشعر بها تلامس قلبها من الداخل، دقائق حتى بدأ الشيخ يبدأ مراسم عقد القرآن وحين بدأ صوت سالار الاجش والذي كان قديمًا يخيفها، يصدح في المكان بكلمات ستربطهما البقية من عمرهما شعرت بنبضات صدرها تنتفض على وقع كلماته حتى وجدت العريف يقترب منها مع أرسلان وإيفان يسألونها الموافقة .
وهي ما استطاعت سوى نطق كلمة خافتة تنظر ارضًا بخجل شديد :
” موافقة ”
ومن بعد هذه الكلمة اختفى الجميع مجددًا واختفت جميع الاصوات من أذن تبارك عدا صوت ضربات قلبها المرتفعة، وصوت الشيخ الذي أعلنها أمام الجميع :
” بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير ”
وبعد هذه الكلمات لم تسمع تبارك سوى صوت المباركات حولها ولم ترى سوى كهرمان التي سحبتها بهدوء شديد لا تدري إلى أين، لكنها سارت خلفها تتقبل التهاني ببسمة واسعة، ترى الجميع ينظر لها بسعادة وحب، نظرات كانت تحتاجها أكثر من أي شيء في حياتها .
وبعد خطوات لا تدري عددها وجدت تبارك نفسها في إحدى الغرف التي لا تدرك هويتها ولم تمر ثواني حتى سمعت صوت الباب يُفتح وهو يطل عليها بهيئته التي سحرتها طوال الوقت، يتقدم منها خطوات جعلتها تشعر أنها ستنهار إن اقترب خطوة إضافية .
وسالار وكأنه تفهم نظراتها تلك فتوقف مبتسمًا يقول بصوت منخفض :
” مرحبًا مولاتي ”
وصوته في هذه اللحظة كان أقرب ما يكون لاحلامها، بل هذا المشهد بأكمله وهذه النظرات والبسمات وكأنها تحيا أحلامها..
” أنت… أنت..هل أنا مازلت احلم ؟!”
رفع سالار حاجبه بتعجب لتهمس دون وعي :
” أنت كما …..تمامًا كما كنت في أحلامي”
اتسعت أعين سالار بصدمة كبيرة لهذه الكلمات قبل أن تتلاشى الصدمة ويحل الإدراك ويتذكر كلمات جارتها تلك عن رجل أحلامها وكلماتها هي سابقًا، فابتسم دون وعي يهمس لها بصوت جعلها ترتجف مستوعبة ما قالت :
” يسعدني الآن معرفة أن زائر احلام امرأتي لم يكن غريبًا عنها، بل كان أنا….”
_______________________
انفض الجميع عن المسجد وذهب كلٌ لعمله سعيد مبتهج بهذه الأحداث التي تدور في المملكة بعد حربٍ كادت تودي بالجميع ..
وهناك حيث كان يتوسط طاولة الاجتماعات مع الجميع عدا سالار بالطبع والذي استثناه هذا اليوم من مهامه، سمع إيفان صوت الحارس يعلن وصول الملك بارق ..
تقدم بارق من الجميع ببسمته المعهودة ونظرات هادئة :
” مرحبًا بالجميع، إنه لمن السار رؤيتكم هكذا دون قتال كعادتكم”
أطلق آزار ضحكات مرتفعة يقول :
” ربما لأن الشخص الذي كان يشعل الشجارات كل مرة مشغول الآن مع عروسه ”
هز بارق رأسه يجلس على مقعده الذي تركه إيفان فارغًا لأجله :
” نعم وبخصوص هذا، مبارك لسالار واعتذر أنني تأخرت، لكن ابنتي كانت مريضة بعض الشيء واضطررت للبقاء جوارها حتى اطمئن ”
ردد أرسلان بصوت خافت مؤازر :
” شفاها الله وغفاها ملك بارق، عسى ألا يريك الله سوءًا في أحبتك ”
” اشكرك أرسلان ولك بالمثل إن شاء الله ”
ابتسم إيفان لحالة الود تلك يقول :
” إذن بما أن الجميع هنا في هذه اللحظة، دعوني ابدأ حديثي بشكركم لتكبدكم عناء المجيء لمملكتي وتشريفكم لي بالحضور ”
صمت ينظر في الوجوه ثم استرسل في حديثه :
” لكن الأمر جد مهم ليعلمه الجميع ”
انتبهت جميع الحوار ودار إيفان بعيونه بين رجاله والعريف وجميع من حضر من طرفه يقول :
” تميم ارسل أوامره بالفعل لتكثيف العمل في مصانع الاسلحة، وسنرسل لارسلان وجميع الممالك ما يكفيهم من الأسلحة بعدما أُستهلكت القديمة في الحرب بالفعل، أما فيما يخص الحرب الأخيرة فلا اعتقد أن هناك حديث يُقال بشأنها وقد وفقنا الله بها، لكن …”
صمت يتنفس بصوت مرتفع ليقاطع أرسلان ما يود قوله هو ويضيف :
” بافل …”
ابتسم له إيفان وقد كان سعيدًا أن أرسلان أدرك ما يريد دون الحاجة للحديث :
” بالضبط، بافل هذا الحقير ما يزال حيًا وأكاد أجزم أنه لن يصمت عما حدث له ولقومه في المعركة الأخيرة وسيعود، والخوف كل الخوف أن يعود دون شعورٍ منا، لذا نحن لن نرخي دفاعاتنا البتة وسنظل في حالة تحفز ليل نهار حتى نتخلص منه ونتأكد أنه لم يعد موجودًا ”
اشتعلت أعين أرسلان بقوة يهمس من أسفل أسنانه :
” ومن أخبرك أنه قد يهنأ لي بالٌ أو يرف لي جفنٌ وهذا القذر حيٌ يرزق؟! لقد دمر بلادي وقتل أبناء شعبي وخرب حياة الاحياء منهم و…قتل أمي وجميع نساء العائلة، ولولا فضل الله عليّ وتلك الفتاة التي ساعدت كهرمان لكنت فقدت اخر من تبقى لي من عائلتي ”
ارتجف جسد إيفان لثانية يبتلع ريقه لهذه الخاطرة البشعة التي مرت به، لولا رحمة الله به لكان عاش هائمًا المتبقي من عمره يبحث عن نصفه المفقود دون أن يعي أنه بالفعل خسره .
انتفض على هذه الخاطرة وهو يسمع صوت أرسلان يقول :
” اقسم أنني لن اصمت حتى أحضره أسفل أقدامي، سأريه من جحيمي ألوانًا لذلك القذر ”
ختم حديثه يضرب الطاولة بشدة، حتى أن إيفان ظن أنها تحطمت، لولا أنه لم يبصر شقوقها بعيونه .
تنهد يقول :
” نجده ثم نرى من سيتخلص منه، فأنا كذلك امتلك ثأري الخاص معه ”
نظر له أرسلان بغضب ورفض أن يشاركه أحدهم ثأره، قبل أن يقول مقترحًا :
” نقسمه بيننا ”
رمقه إيفان ثواني يبحث عن لمحة مزاح تعلو وجهه، لكنه كان جادًا بشكل مرعب جعل إيفان يطلق ضحكات صاخبة :
” يا الله أنت حقًا مختل ”
تنهد بصوت مرتفع ثم مسح وجهه يقول وهو يوجه حديثه لبارق تحديدًا :
” حسنًا سنعتمد فكرة تقسيمه حتى نجده، والآن الجزء الآخر من الاجتماع ”
شعر بارق من نظرات إيفان أن هناك شيء لن يعجبه سيحدث، وقد كان .
” الملكة شهرزاد ”
اشتدت ملامح بارق التي كانت طوال الوقت هادئة، واستحال لون وجهه للأحمر حين سمع اسمها .
انتبه آزار لنظراته تلك يقول بصوت هامس في أذن أرسلان :
” يا ويلي تلك الحرباء هي الشخص الوحيد الذي يستطيع اخراج بارق عن طور هدوءه ”
ابتسم ارسلان يردد بصوت خافت :
” النقطة السوداء في صفحة بارق ناصعة البياض ”
تنفس بارق بصوت مرتفع يقول دون أن يبتسم كعادته :
” ما الذي فعلته هذه المرة ؟!”
نظر له إيفان ثواني لا يدرك أيجب قول ما يريده أمام الجميع هكذا ؟! لكن ما سيقوله مهم للجميع، وسيمهد لهم قراره التالي :
” لقد …لقد قتلت والدتي وأنا اطالبك الآن بالتخلي عن حماية سبز لها لاسقط عقابًا في حقها ”
كلمات كثيرة نطق بها إيفان على مسامع الجميع والتي علت الحيرة رؤوسهم دون فهم لما يُقال والجميع ينتظر تفسير لتلك الكلمات الغامضة، عدا العريف الذي ضم كفيه يتابع ما يحدث بهدوء ينتظر نهاية هذا الحديث .
وبارق انتفض عن الطاولة يصرخ بعدم فهم :
” ماذا قلت أنت ؟! قتلت من ؟! إيفان هل تمزح معي ؟! تتهم والدتك بقتل والدتك !! أي عقل هذا الذي تتحدث به أنت ؟!”
انتفض إيفان في المقابل يتحدث بكلمات هادئة رغم الغضب الكامن بها، لكنه لا يريد أن يجابه الملك بارق والذي يدرك أن هذه المرأة في النهاية من عائلته، وحسب قوانين الممالك لا يمكن أخذ قرار في حق مواطن من مملكة أخرى إلا بعد أن ترفع المملكة الأخرى حمايتها عنه وتتركه لصالح المملكة التي أساء لها وهي من تعاقبه، وشهرزاد ليست مواطن عادي في سبز، بل أميرة من الأسرة الحاكمة .
” هذه المرأة ليست والدتي ولا يشرفني أن أحمل اسمها بأي شكل من الأشكال ”
اشتعلت الأعين بالجهل وبارق نظر حوله بوجه احمر وقد اتقدت عيونه يحاول أن يهدأ :
” أنت لا تحسن الأمور بتحدثك هكذا وبهذه الالغاز إيفان، تحدث بشكل مباشر كي لا يتولى الشيطان الأمور في عقلي ”
تنهد إيفان يقول بصوت جامد وكأن لا مشاعر به :
” ابنة عمك ليست والدتي ملك بارق، بل كانت الملكة آمنة رحمة الله عليها ”
اعتدل أرسلان في جلسته وقد تحفز جسده لما يسمع بينما عم صمت قاتل على الجميع وبارق يحاول معرفة ما يقصد إيفان، والذي ابتسم يكمل دون الحاجة لطلب أحدهم لذلك :
” الأميرة شهرزاد هي من استبدلت ابنتها الرضيعة بي حين ولدتني أمي، وادعت أنها أمي، وهي نفسها من دبرت للهجوم الذي قُتلت به أمي وأختي من أبي وكاد أبي يُقتل به، كل ذلك لتتخلص من آخر شيء يربطني بوالدتي ”
اتسعت أعين بارق وهو لا يصدق مقدار الحقارة الذي وصلت لها ابنة عمه، يهمس بملامح مصدومة :
” أنت… أنت هل …هل أنت متأكد مما تقول ؟!”
هز رأسه يضيف ببسمة كارهة مشمئزة :
” ليس ذلك فقط بل تحالفها مع المنبوذين ذلك الوقت ودخولهم للملكة أتاح لهم الهجوم على كوخ الأمير جوبان وقتله هو وزوجته، ولولا رحمة الله لكان الأمير سالار ضحية لهم، أي أنها بشكل غير مباشر تسببت في مقتل فردين آخرين غير والدتي وأختي وأخي الجنين الذي رحل مع والدتي ”
انهار بارق على المقعد يحاول ابتلاع كل تلك الصدمات، هو سبق وتبرأ منها، لكنها في النهاية كانت وصية عمه له، ولولا أنه ولرحمة الله به لم يكن نوعها المفضل من الرجال لكانت أصبحت زوجته هو، الحمدلله أن أبعدها عنه، لكن ما ذنب الملك تقي الدين ليقع في شرك تلك الشيطانة ؟؟
‘ أنا لا ..لا أصدق أن الحقارة وصلت بها لهذه الدرجة، يا الله هذه المرأة…مخيفة بحق، أنت كيف سمحت لها بالعيش كل ذلك الوقت تحت سقف القصر هنا ؟؟:”
تنفس إيفان بصوت مرتفع :
” للاسف منذ معرفتي بالأمر كنت احاول الإيقاع بها، لكنها كانت حقيرة لدرجة أن أخفت كل الأدلة التي يمكنني إدانتها بها أمام الجميع، لقد أغلقت في وجهي جميع الحجج التي تسمح لي بمعاقبتها، لا استطيع الوقوف أمام شعبي وتوجيه اتهامات فارغة دون دليل، فهي لن تصمت وسترد كلمتي بعشرة ولن استفاد سوى أنها ستصبح أكثر حذرًا ”
تحدث أرسلان بصوت غاضب يضرب الطاولة وكأن الغدر اصابه هو لا إيفان :
” بالله عليك إيفان، دع التعقل جانبًا، بالله لو كنت أنا لاخذت قصاصي منها بأسوء الطرق التي قد تطرأ على رأس إنسان ”
نظر له إيفان بأعين شبه ميتة :
” لكلٍ طريقته في الانتقام أرسلان ”
همس بارق بصوت يحمل خزيًا وعارًا لارتباط تلك المرأة به ولو بالاسم :
” إذن ما الذي جعلك تغير رأيك وتخبرنا بكل ذلك بعد هذه الفترة ؟!”
وكانت الإجابة من إيفان كلمة واحدة :
” أمي آمنة ”
نظر له الجميع بجهل ليوضح لهم بصوت خافت مكسور :
” لقد اكتشفت أنها كانت طوال هذه الوقت حية وتُعذب و…اكتشفت أن لي أخت من أمي نالها من العذاب ما يطيح بالجبال وكل ذلك بسبب تلك القذرة التي تسمى نفسها ظلمًا ملكة أم، لذا قصاصي من شهرزاد سيبدأ…”
____________________
لا السيف يفعلُ بي ما أنت فاعلهٌ
ولا لقاءُ عدوّي مثل لُقياك
لو باتَ سهمٌ من الاعداءِ في كَبدي
ما نالَ مِنَيَ ما نالتْه عيناك…..
«المتنبي»
تراجعت تبارك للخلف بصدمة كبيرة تضع يدها على فمه تحاول إدراك ما تحدثت به، كيف خرج كل ذلك من فمها، ابتلعت ريقها تقول بصوت منخفض :
” أنا لم … أنا فقط ..”
صمتت ولم تجد ما تقوله بعدما اوقعها لسانها في هذا الموقف وسالار ابتسم يقترب منها ببطء للتراجع هي الخطوات السابقة بالمثل وقد نسيت للحظات أنها الآن تقف أمام زوجها ..
” توقفي عن العودة للخلف ”
توقفت تبارك بالفعل وكأنها كانت تنتظر أمره، ليضحك عليها سالار ضحكة قصيرة يقترب منها خطوات إضافية تقربه من حلمه المستحيل الذي تحقق .
” تبدين … في غاية الـ …”
توقف عن الحديث مجددًا وكأنه يعاني مشاكل في اختيار كلماته، قبل أن يبتسم قائلًا ببساطة :
” تبدين تبارك ..”
رفرفت تبارك برموشها تحاول فهم ما يقصد، وقد تلاشى فجأة الخجل الذي كان يحيطها تقول :
” معذرة ؟! ما الذي تقصده بأنني أبدو تبارك ؟؟ وهل كنت أبدو لك سابقًا العريف !!”
حدث بها سالار ثواني قبل أن ينفجر في الضحك بصوت مرتفع جعلها تبتسم دون شعور منها وهو حاول التحدث، لكن بالنظر مجددًا لوجهها المبتسم بشرود وسعادة جعل ضحكاته تزداد وهو يقترب منها يمسك بيدها وقبل أن تفهم ما يحدث جذبها سالار لاحضانه يردد بعد هدوءه من تلك الموجة التي أصابته :
” أنا فقط لا أجد تصنيفًا للجمال افضل منكِ، لذلك أنتِ تبدين تبارك ”
صمت يضمها أكثر هامسًا، دون انتباهه لصدمتها من جملته :
” مرحبًا بكِ في مملكتك مولاي ”
ارتعش جسد تبارك لثواني قبل أن تستكين بين أحضانه هامسة:
” أنا لست ملكـ …”
” ربما لستِ ملكة في سفيد، لكنكِ كذلك في قلبي ”
ختم حديثه يطبع قبلة صغيرة أعلى وجنتها جعلتها تنتفض للخلف وهو ابتسم لها بحنان يمد يده لها مجددًا يدعوها للعودة إلى أحضانه، وهي نظرت له بصدمة :
” أنا آسفة، فقط شعرت بالـ ..”
قاطعها مجددًا :
” اقتربي تبارك، هل ما تزالين تخشيني ؟؟”
نظرت تبارك ليده، ومن ثم لعيونه قبل أن تمسك يده تطيل النظر به هامسة دون وعي :
” ربما كنت أفعل في البداية، فما احتمال أن يقفز رجل ضخم ذو خصلات حمراء وبأعين خضراء ووجه وسيم أمام عيونك في حياتك المملة البائسة يخبرك أن الجميع ينتظرونك في المملكة ؟؟”
ابتسم سالار يقول بصوت حنون :
” ربما حينها كنت اقصد بالجميع، أنا وقلبي ”
نظرت تبارك لعيونه لا تصدق أن من ينطق تلك الكلمات هو نفسه سالار، يالله ذلك الرجل كان جبلًا لا يخفض عيونه ولا يتحرك ولا يبتسم، كان جامدًا بشكل غريب، وإن تحدث كان حديثه مقتضبًا وبشدة .
” لكن لا اعتقد أن الأمر أصبح كما السابق، فإن كان البقاء جوارك مرعبًا بالأمس، فاليوم الرعب الحقيقي هو غيابك عن ناظري ”
تأوه سالار وهو يبتسم لها، يرفع يده بتردد وكأنه لم يستوعب بعد أن كل ذلك أضحى حقه، يتلمس وجنتها بحنان :
” يبدو أنني لست الوحيد الذي تحول هنا، ها أنتِ تخرجين كلمات ما ظننت يومًا أنني قد اسمعها منك”
” صدقني مهما وصلت غرابة كلماتي لك، لن تصل لمقدار غرابة الكلمات التي كنت اسمعها منك في احلامي لاستيقظ على واقعك وأنت تصرخ في وجهي ”
شعر سالار بالفضول يملئه وبشدة :
” ما الذي كنت أفعله بالضبط في احلامك ؟!”
ابتسمت تبارك وقالت بصوت منخفض وخجل جعل سالار يرمقها بأعين متسعة مترقبة :
” ربما لاحقًا أخبرك بالأمر ”
نظر سالار حوله ثم ابتسم لها :
” لا بأس لدي حياة بأكملها لاحياها رفقتك ”
شعرت تبارك أن تلك الكلمات تسقط على قلبها وقع الموسيقى وكم أسعدها أن تسمع هذا منه، وهو نظر لعيونها ثواني قبل أن يبتعد خطوات قليلة يخرج سيفه من غمده بشكل فاجئ تبارك، ثم رأته يطيل النظر لها قبل أن يجلس على ركبته أمامها بشكل جعلها ترمقه بحيرة وهو فقط رفع سيفه لها يقول بكلمات بسيطة ونظرات صادقة :
” تستحقينه وعن جدارة مولاتي ”
هل سمعتم يومًا أو شعرتم أن موجة كهرباء أصابت جسدك بالكامل، لأن هذا ما تشعره تبارك في هذه اللحظة وهي تنظر لاعين ذلك الرجل الذي ما انحنى لاعتى العواصف يومًا، والآن يجلس على ركبتيه يقدم لها سيفه الخاص الذي خاض به كل حروبه …
في هذه اللحظة شعرت أن موجة ذكريات اجتاحتها واعادت لها ذكرى بعيدة عن العقل، قريبة من القلب حين كانوا في طريقهم للمملكة، حين كانوا في بداية الحكاية .
” وأنت بتنتصر في حروبك ؟!”
توقف سالار ونظر لها ببسمة صغيرة يقول بثقة كبيرة وفخر أكبر بذاته وما حققه وهو بالكاد بلغ الثالثة والثلاثين من عمره :
” لم أخسر حربًا في سنوات عمري الثالثة والثلاثين”
” ولا واحدة ؟؟”
” ولا واحدة”
نظرت لعيونه بقوة، ثم همست دون وعي تفكر في عقلية ذلك الرجل الذي يستطيع خوض حروبًا ضارية في ظروف قاتلة دون خسارة واحدة حتى :
” ولو حصل وخسرت في يوم حرب، هيحصل ايه ؟؟ يعني ممكن تعيدوا الحرب تاني ولا كده خلاص ؟؟”
حدق بها سالار ثواني قبل أن يطلق ضحكات صاخبة جعلت أعين تبارك تتسع فهذه هي المرة الأولى التي تراه يضحك بهذه الطريقة، هو فقط كان يمن عليها ببسمات محسوبة جامدة أو ساخرة ..
” حسنًا، لا يوجد شيء يُسمى إعادة حرب، هي ليست باللعبة، لكن إن حدث وخسرت حربًا …”
نظر لعيونها بجدية وقال :
” سأقف بكل شجاعة أمام عدوي وانظر لعيونه و أحييه على مهاراته العالية التي حطمت عزيمتي، سأمنحه سيفي والذي هو شرفي وكبريائي وأخبره أنه كان الأول الذي هزمني، ثم انهض واحارب مرة أخرى، أنا رجل واواجه خسارتي بكل جسارة ولا يضيرني هزيمة مفردة، فبعده نصر بأمر الله سبحانه وتعالى ”
التمعت أعين تبارك بالدموع ليهمس هو لها ببسمة واسعة معيدًا إياها لواقعها :
” فعلتيها وهزمتيني مرات عديدة، فعلتِ ما خسر به أعتى الرجال، نجحتي فيما فشلت به اقسى الحروب، والغريب أنني سعيد بهذه الخسارة إن كان الفائز بها أنتِ، لذا هذا سيفي لكِ، احتفظي به ذكرى فوزك لأنني لن أسمح لكِ بالفوز على قلبي مرة ثانية، يكفيني خيانة واحدة من جسدي ”
همست تبارك وهي تجلس ارضًا مقابله ترفض أن يظل هو منحنيًا ارضًا وهي تقف أمامه :
” سالار ..”
ابتسم لها يهمس :
” نعم ها هي خسارتي تتجدد ولم أكد اقطع وعدًا بالصمود أمامك منذ ثواني ”
صمت ينظر لعيونها هامسًا :
” ما هُزمت يومًا في حربٍ، سوى في تلك التي خضتها أمام عيونك، لطالما كان عقلي قائدًا مخضرمًا لجسدي، لكن العجب كل العجب أنه وحينما بدأت المعركة ضدك ألقى السلاح وانقلب عليّ محرضًا باقي جسدي للانحياز لكِ، وفي النهاية … ألقيت سيوفي، أسقط على ركبتيّ اعزلًا أمام عيونك ارتجي منهم رحمة .”
هنا ولم تتمكن تبارك من التحمل، إذ ألقت بجسدها بين أحضانه، وللمرة الأولى تكون هي المبادرة بالاقتراب منه تهمس له :
” كفاك الله شر الهزيمة يا قائد وإن كانت على يدي، فأنا اتخلى عن مكسبي وارتضي بخسارتي لاجلك ”
ابتسم سالار يضمها له وقد كانت هذه اللحظات أكثر مما تخيل سابقًا، هذا أكثر مما قد يتحمل، يا الله رجل عاش حياته منعزلًا الجميع والنساء، وحين يسقط لامرأة يسقط لسيدة النساء في عيونه …
فاز في حروب السيوف، وخسر في حروب القلوب، كان هذا عادلًا بما يكفي له .
رجل وما استسلمْتُ قَبلُ لفارسٍ
مالي أمام عيونها مستسلِمُ !؟
أأعودُ منتصِرا بكل معاركي
وأمام عَيْنيها البريئة أُهْزَمُ !؟
أنا شاعرٌ ما أسعفتْه حروفه
الحبُّ من لغة المشاعر أعظمُ
لي ألف بيتٍ بالفصيح أجدْتُها
لكنني في حبها أتلعثمُ !
«امرؤ القيس »
__________________________
خرج الجميع من غرفة الاجتماعات بوجوه واجمة وملامح غامضة تخفي الكثير خلفها، تحرك إيفان بهدوء شديد صوب غرفته وخلفه أرسلان الذي أراد الحديث معه ليطمئن فقط أنه بخير بسبب كل ما علم منذ ثواني، يشعر بالذنب أنه كان بعيدًا الفترة السابقة عن رفيقه حتى لو كان ذلك البعد دون إرادته .
تحرك خلفه ولم يكد الإثنان يصلا لغرفة إيفان حتى توقفا على صوت شهرزاد الذي ارتفع في المكان بصوت أخرجته طبيعيًا حنونًا مما جذب دهشة أرسلان وهو يستدير ببطء صوبها يهمس بصوت وصل واضحًا لإيفان:
” لكم لون تستطيع تلك الحرباء التلون !!”
أجابه إيفان بصوت منخفض :
” سيدهشك العدد حقًا ”
وحينما توقفت شهرزاد أمامهما قال إيفان ببسمة صغيرة :
” مولاتي …”
” مرحبًا بني اشتقت لك، ألم تفعل ؟!”
” وكيف لا أفعل مولاتي؟! لقد كدت أموت اشتياقًا لأمي بالطبع، لكنها الحياة كما تعلمين ”
نظرت له شهرزاد ليقول هو وقد برع في إخراج كلمات برسائل مختلطة :
” إذن كيف حالك، وكيف قضيتي الفترة السابقة في منزل الجبل ؟؟ اتمنى ألا يكون أحدهم قد ازعجك”
رمت شهرزاد نظرة جانبية صوب أرسلان تقول بصوت منخفض جاد ورسمي للغاية :
” مرحبًا ملك أرسلان”
هز أرسلان رأسه هزة بسيطة ولم يزعج نفسه بالرد عليها قائلًا :
” سأذهب لاخبر كهرمان أن تتجهز لحين تنتهي إيفان، بالاذن منك ”
ختم حديثه يتجاهل وجود شهرزاد بالكامل وهي فقط حدقت في ظهره بغضب متمتمة بضيق شديد :
” أنا حقًا لا اطيقه لهذا الشاب، أخبرتك مئات المرات منذ طفولتك ألا تصادقه، هو حقًا غليظ فظ لا يبتسم، يا الله لا اصدق أنني سأقول هذا، لكنه متجبر أكثر من والدك ”
رفع إيفان حاجبه يقول مدافعًا عن الاثنين :
” لا أبي كان متجبرًا ولا حتى أرسلان كذلك، الأمر يعتمد على مع من يتعاملان ”
نظرت له بعدم فهم :
” ما الذي تقصده ؟! أن والدك وهذا الشاب يتعمدان التعامل معي بهذا الأسلوب الصخري المستفز !! ولماذا يا ترى ما الذي فعلته لهما ؟!”
” لا شيء مولاتي، أخبريني فقط ما الذي تحتاجينه مني حتى اعود لارسلان ”
تنهدت شهرزاد بصوت مرتفع تنظر حولها بحنق :
” ليس هنا إيفان، الحق بي لغرفتي كي نتحدث بشكل لائق ”
أنهت جملتها تتحرك مبتعدة عنه، مفترضة أنه سيلحق بها للحديث، لكن إيفان لم يبرح مكانه يقول بتأفف حاول قد الإمكان كتمه عنها :
” عفواً مولاتي لكنني لستُ متفرغًا في الوقت الحالي، لذا لِمَ لا نختصر كل ذلك وتخبرينني مرة تريدين هنا والآن ؟؟”
اتسعت أعين شهرزاد بشدة وهي تحدق في إيفان وكأنها تبحث به عن ولدها المتعقل الهادئ :
” ما الذي تقصده !!”
” ما سمعتيه مولاتي، أنا حقًا منشغل كثيرًا عقب انتهاء الحرب و…”
قاطعته شهرزاد بقوة وهي ترفض أن يتخطى حدوده معها، ليس وكأنها هي من تفعل ذلك بالفعل :
” عفواً، أولم تتذكر انشغالك هذا حين زوجت قائد جيوشك في هذا الوقت من زوجتك الـ ”
” مولاتي ..”
قاطعها بتحذير شديد اللحظة واعين متقدة بالشر :
” لا تقحمي سالار في حديثنا، ولا تأتي على ذكر زوجته بالسوء أو تجمعيني بها في جملة واحدة، فهي زوجة سالار وعرضه الآن، فلا تفعلي، ثم هذه أمور المملكة لا يحق لأيٍ كان التدخل بها حتى ولو كان الملكة الأم، فما بالك وأنتِ بالفعل فقدتي هذا الحق؟!”
صدمات متتالية تلقتها شهرزاد، صدمة ابو الأخرى حتى كادت تنهار ارضًا، هل هذا ولدها الذي يتحدث لها ؟! هو نفسه من يتبجح أمامها بهذا الشكل ؟!
” إيفان أنت….ما الذي ….كيف تقول هذا لي ؟؟ أنت لم تتحدث معي بهذا الشكل من قبل ”
نظر لها إيفان بهدوء شديد وبسمة :
” أي شكل مولاتي؟! تعلمين أنني طوال الوقت اتحدث بهذا الشكل مع الجميع، أنتِ فقط من اصبحتي حساسة بعض الشيء منذ انتزاع امتيازاتك منكِ وعزلك بالمنزل الجنوبي، والآن يمكنك الذهاب والراحة في غرفتك لأنني في المساء أعقد اجتماعًا مهمًا لجميع من بالقصر سأخبرهم به ما سيحدث في الفترة المقبلة عقب الحرب ”
ختم حديثه يستأذن منها بصوت منخفض ثم تحرك للبحث عن أرسلان وقد قرر أن الوقت قد حان ليقضي لرفيقه بما يريد .
_______________________
بعد بحث قصير واخيرًا وصل لها ..
في غرفة رفيقتها مع جميع الفتيات .
استدعى أرسلان شقيقته لتخرج له وهو يبتسم لها بحب :
” مرحبًا بأميرتي الجميلة ”
” مرحبًا أرسلان، اشتقت لك يا وسيم ”
ضحك أرسلان يميل عليها مقبلًا رأسها بحنان شديد :
” وأنا اشتقت لكِ أكثر مما تتوقعين؛ لذا جئت اعيدك لبلادك كهرمان ”
شعرت كهرمان بارتجافة في قلبها ورغم أنها بالفعل اشتاقت لهواء بلادها وغرفتها، وحياتها السابقة إلا أنها وبشكلٍ ما اعتادت حياتها في هذا المكان مع الجميع، وستشعر بالوحدة إن عادت وتركت زمرد وبرلنت وتبارك و…. إيفان.
وعلى ذكر إيفان سمعت صوته يصدح وهو يقول :
” أرسلان ”
استدار أرسلان صوب الخلف يقول بتعجب :
” إيفان ؟؟ لقد كنت سأنتهي وآتي لغرفتك ”
هز إيفان رأسه وهو يقترب منه في الوقت ذاته الذي اقترب كلٌ من دانيار وتميم من غرفة زمرد والفتيات ليبصروا وقفة إيفان المتحفزة في وجه أرسلان وكأنه جاء يطالبه بحياته .
مال دانيار والذي يدرك كل شيء يحدث بطريقة ما يهمس لتميم :
” أركض وأحضر القائد سالار حالًا، أخبره أن حربًا على وشك الإطاحة بالمشفى فوق رؤوس الجميع، وإن قابلت مهيار في طريقك أخبره أن يخرج مرضاه من المشفى ”
نظر له تميم بعدم فهم لكن دانيار لم يكن يمزح وهو يهتف بجدية :
” ما الذي تنتظره تميم ؟؟ تحرك وأحضر القائد بسرعة يا رجل .”
وتميم الذي أبصر ما يحدث تحرك بالفعل وهو يحاول تذكر آخر مكان أبصر به سالار .
خرج راكضًا بين الممرات صوب غرفة سالار تحت نظرات الجنود المتعجبين، وحين اقترب من غرفة أرسلان ابصره يمسك بيد زوجته يجذبها خلفه بحنان صوب جناحه لكنه أوقفه يقول بجدية :
” سيدي القائد نحتاجك في المشفى ”
تحدث سالار بعدم فهم وفزع :
” المشفى ؟؟ لماذا؟؟ هل أصاب أحدهم سوءًا ؟؟”
” لا، لكنه سيحدث .”
وفي المشفى .
تقدم إيفان من أرسلان يقول له بجدية :
” أرسلان أنت تعلمني جيدًا صحيح ؟! تدرك أنني رجل لا أحيد عن الحق واتقي الله في جميع افعالي صحيح ؟؟”
تعجب أرسلان حديثه لكنه رغم ذلك قال :
” حشاك أن تفعل إيفان، ما الذي يحدث هنا ؟! هل فعلت مصيبة وتريد أن اساعدك بها ؟؟”
” لا لكنني سأفعل ”
” وما هي يا ترى ؟!”
ألقى إيفان الكلمات في وجه أرسلان دون أي مواراة أو تلميحات، فقط ألقاها بكل هدوء وبساطة :
” سأتزوج شقيقتك ….”
أطلقت كهرمان شهقة مرتفعة تتراجع بسرعة خلف جسد أرسلان تتخذ منه حماية لها من نظرات إيفان التي صوبها نحوها بسرعة كبيرة حين سماع شهقتها، بينما أرسلان كان كمن تضاعف حجمه بالنسبة لها في هذه اللحظة وهو يرمق رفيقه بريبة :
” ماذا قلت منذ ثواني ؟؟”
فتح إيفان فمه ليعيد جملته مجددًا، لكن تدخل سالار في اللحظة الحاسمة اوقف كل شيء، إذ اقتحم المعركة بينهما يجذب إيفان بعيدًا وهو يقول :
” مرحبًا أرسلان، رجاءً تجاهل ما قاله إيفان فهو هذه الآونة يعاني من مزاجٍ غير مستقرٍ ”
نظر له إيفان بسخرية وهو يحاول إبعاده عنه:
” ابتعد سالار ما بك ؟ أنا لا اطالبه بحرب لتخاف بهذا الشكل، أنا فقط اطالبه بشقيقته زوجة لي ”
فجأة اندفع أرسلان يجذب جسد إيفان من بين يديّ سالار بغضب مرعب وهو يصيح في وجهه :
” أيا ليتها كانت حربًا لكنت غفرت لك طيشك إيفان”
نظر إيفان ليد أرسلان بهدوء شديد يحاول إبعادها وهو يتشدق بصوت متماسك متعقل :
” يا ويلي تفضل الحرب معي على اعطائي شقيقتك ؟!”
” أنت…. أنت أيها القذر توقف عن ترديد تلك الكلمات، مالك وشقيقتي إيفان ؟؟ ”
تدخل سالار كعادته في المنتصف وهو يدفع أرسلان للخلف بصعوبة :
” وقت مستقطع رجاءً، فقط امنحه فرصة التحدث وهو سيخبرك كيف فعل هذا ؟!’
” امنحه ماذا ؟! لا أنا لن اقف هنا لاشاهده يكرر حديثه عليّ، كانت لديه فقط حتى يحافظ عليها لا أن يأتي ويطالبني الزواج بها ”
تحدث إيفان من خلف سالار وهو يحاول إبعاده عن وجهه زافرًا بضيق شديد :
” أنت يا رجل كثير للأستفزاز، تشعرني أنني اطالبك بشيء خاطئ”
” وهل هذا مكان مناسب لتطالبني بشيء صحيح إيفان ؟!”
نظر إيفان حوله، ثم عاد بنظراته لارسلان يقول ببساطة :
” أنا فقط أردت إعلامك قبل التقدم بخطوة رسمية”
صمت ثواني ثم قال بجدية :
” إذن ما رأيك بغرفتي ؟!”
صرخ أرسلان بغضب شديد يندفع صوب إيفان يصرخ بجنون وهو يجذبه من ثيابه وسالار في المنتصف يحاول دفعهما بعيدًا عن بعضهما البعض :
” توقفا، فقط توقفا عن هذه الأفعال بالله عليكما ”
كان كل ذلك يحدث على مرأى ومسمع من الجميع، حيث الفتيات مرتعبات مما يحدث والخوف يعلو وجوههن دون فهم أو إدراك أن ذلك يحدث دائمًا بينهم.
وتبارك فقط تراقب بأعين فزعة تخشى أن يُصاب سالار بضربة طائشة من أحدهما .
بينما دانيار وتميم ومهيار الذي جاء لتوه مصطحبًا ليلا كي يفحصها يشاهدون بأعين مترقبة لما سيحدث ..
وفي النهاية استطاع سالار وبخبرته الواسعة في فض الشباك بينهما، أن يبعد أرسلان عن إيفان وهو يصرخ بهما :
” فقط توقفا، الله ابتلى المملكتين بملكين مثلكما، يا الله يا مغيث ”
زفر إيفان وهو يحاول أن يدافع عن نفسه :
” أنا ما عرضت هذا الأمر بهذه الطريقة سوى لأنني علمت أنك ستأخذها وترحل فقط أخبرك قبل الرحيل وبعدها سآتي لمملكتك أطالب بها حسب المتعارف عليه ”
اعترض أرسلان بأعين متعجبة :
” وماذا في ذلك ؟! هذه شقيقتي ستعود لبلادها، هي كانت هنا ضيفة حتى تتحسن الأوضاع وانتهى كل شيء والحمدلله ”
” هي ليست ضيفة أرسلان هي ستكون ملكة هذه البلاد ”
استدار سالار صوبه يرمقه بغضب شديد :
” حقًا ؟؟ هل تحاول أن تثير غضبه أكثر إيفان ؟! توقف عن كلماتك هذه ”
ولم يكد إيفان يخبره أن كلماته هذه فقط ليوضح ما يحدث وما سيحدث لارسلان والذي كان كالثور الهائج بنظراته وتشنجات جسده .
فجأة توقف أرسلان عن كل ما يفعل وهو يتنفس بصوت مرتفع يجذب له كهرمان التي كانت تنظر ارضًا بخجل .
” إذا أردت أن تتقدم لشقيقتي، الأميرة كهرمان ستأتي إلى مملكتي تترجاني القبول وتتوسلني، ومن ثم تعود لمملكتك بعدما ارفضك وألقي طلبك في وجهك ”
اشتعلت ملامح إيفان يقول ببسمة غاضبة :
” تحلم، ليس الملك إيفان من يُرفض وخاصة منك أرسلان”
” وخاصة مني ؟؟”
ابتسم يقول باستفزاز وعناد يسير باوردته مجرى الدم :
” يبدو أنك ستحتاج أكثر من مجرد توسل احمق لتنال شقيقتي ولن تفعل إيفان ”
تقدم إيفان وقد أصبح في هذه اللحظة نسخة أخرى من أرسلان وقد بدا في الحقيقة أكثر عنادًا منه يقول من أسفل أسنانه:
” إذن نعلنها حربًا ؟!”
” لك ذلك أيها القذر الـ ”
” توقفا …فقط توقفـــا، لعنة الله على الكافرين ”
كانت تلك صرخة سالار الذي حال بينهما يصرخ في وجه كلٍ منهما :
” هل جننتما ؟؟ تعلنان حربًا لأجل شيء يُمكن أن يُحل في جلسة نقاش ودية ؟!”
نظر له إيفان ساخرًا، لكن سالار لم يهتم وهو يصرخ بهما وقد جن جنونه أن يتم مناقشة أمر كهذا بهذا الشكل وفي هذا المكان :
” ألم تتعظا أم يجب أن يُقتل أحدكما مجددا ليبكي الآخر على اطلاله ”
نظر إيفان وارسلان لبعضهما البعض بحنق وسخرية، قبل أن يسحب أرسلان يد كهرمان صوبه يقول بجدية :
” من يبتغي وصال شقيقتي، عليه أن يبذل أكثر من مجرد طلب في طرقات المشفى إيفان، أختي تُقطع بحار لأجلها عزيزي، لذا فقط كلف نفسك وتعال إلى مملكتي لتطلب ودها، حينها لنرى بأي الطرق سأرفضك ”
ختم حديثه ببسمة خبيثة مستفزة لإيفان الذي بادله البسمة بأخرى مشابه يقول بجدية :
” أوه حقًا، يبدو هذا مناسبًا لي، حسنًا لك ما تريد، كم أرسلان امتلك أنا ؟!”
أجابه أرسلان ببسمة مثيرة للاستفزاز:
” واحد فقط فالعالم بأسره يمتلك أرسلان واحد ”
ختم حديثه يتحرك بكهرمان بعيدًا عن الأعين وخلفه صوت إيفان الذي قال بعناد وسخرية :
” هذا من حسن حظه للعالم ”
فجأة وقبل رحيل واختفاء أرسلان أبصر النظرة الأخيرة لكهرمان، نظراته وعيونها جعلته يلين ويتناسى كل ما صدر من شقيقها في لحظات، يبتسم لها بسمة صغيرة وهو يهز رأسه وكأنه يعدها ضمنيًا أن الحرب الباردة التي أعلنها لم تنتهي، فهي لم تبدأ بعد …
__________________
مستغل وهذا ما يبرع به، فعندما أبصر الجميع يرحل منذ ساعة تقريبًا وانتهى هو من عمله في الجيش عاد مجددًا ليرى أين وصل حوارهما الاخير قبل أن يقتطعه الملك .
توقف أمام الباب يطرقه بهدوء منتظرًا ردًا من الداخل، وجاءه الرد من برلنت التي فتحت الباب تقول ببسمة :
” نعم تفضل ؟؟”
” مرحبًا برلنت، عسى كل امورك بخير، فقط كنت أتساءل إن كانت زمرد مستيقظة فأنا أريد التحدث معها ”
نظرت برلنت خلفها صوب زمرد التي انتفض جسدها بحذر حينما وصلها صوت دانيار، لتبتسم باتساع فهي أحبت أنه لم يستسلم لكلمات إيفان يتوقف عن المجئ .
هزت رأسها في إشارة منها أنها ترغب في رؤيته وكذلك فعلت برلنت التي تأكدت من وضع زمرد حجابها، ثم تنحت قليلًا تقول :
” تفضل ..”
دخل دانيار للمكان يتأمل ملامحها الحبيبة بشرود، ثم تأكد أن الباب مفتوح وبرلنت تجلس على مقعد جواره رفقتهما، اقترب من الفراش يقول :
” مرحبًا”
ابتسمت له زمرد بسمة صغيرة :
” مرحبًا ”
صمت ينظر حوله وهو يحاول البحث عن مدخل لحديثه، وقد بدأ اليأس يملئ صدره حقًا :
” إذن زمرد للمرة الأخيرة، هل توافقين على الزواج بي ؟؟”
نظرت له زمرد وقد شعرت بأنقباض صدرها من كلماته تلك، هل يأس من المحاولة معها بهذه السهولة ؟؟
والرد جاءها من عقلها هي موبخًا إياها بسخرية، أي سهولة تلك، لقد سلك الرجل كل طريق يؤدي لكِ وأنتِ لم تفعلي سوى أنكِ اغلقتي جميع هذه الطرق بوجهه .
” هل تخبرني أنني إن رفضت هذه المرة لن تحاول مجددًا ؟؟”
ابتسم لها دانيار يجيب ببساطة :
” وما نفع المحاولة في شيء لن احصل على نتيجة ترجى منه ؟؟ أعني، هل عرضي مرة أخرى سيغير شيئًا من رأيك ؟؟ ”
تنفس ببسمة لا معنى لها حقًا :
” يا ويلي زمرد أنا تلقيت عدد مرات رفض منكِ لم اتلقاها في حياتي بأكملها وهذا رقم قياسي لو تعلمين، أنا فقط لا أريد المحاولة في شيء ميئوس منه، لذا إن لم نكن سنحرز تقدمًا في هذا، فلنتوقف، فقط لنتوقف ”
نزلت دموع زمرد دون شعور منها وهي تهمس بصوت موجوع :
” لكنني اريدك أن تحاول من اجلي دانيار، اريد فقط الشعور أنني… أنني مرغوبة من أحدهم ليحاول من اجلي مرات ومرات دون يأس، ألا استحق ذلك !!”
نظر لها دانيار بحزن لدموعها تلك يقول بجدية :
” بلى، تستحقين، تستحقين أن افني حياتي في طلبك لي زمرد، لكنني فقط …. أنا فقط اريد كلمة تخبرني أنني بعد كل هذا الركض سأصل لخط النهاية واجدك ”
ختم حديثه وهو يقترب ليجلس على ركبتيه جوار الفراش يقول بصوت خافت :
” أريد فقط إشارة واحدة أنكِ لن تتخلي عني أو ترفضيني بشكل نهائي، وأنا سأعيد الكرة مرات ومرات دون يأس زمرد ”
نظرت دموع زمرد تقول بصوت خافت :
” أنا لا انتظرك في خط النهاية دانيار، أنا بالفعل أركض معك ”
ابتسم لها دانيار يتحدث بصوت هامس حنون :
” هل اعتبر هذا الرد نعم ؟؟”
ضحكت زمرد من بيت دموعها تقول :
” نعم ”
شعر دانيار بقلبه يكاد يتوقف من الصدمة، لا يصدق أنها قالت نعم حقًا، ابتلع ريقه يقول بصوت خافت :
‘ مجددًا زمرد رجاءً، هل قلتي نعم ؟! ”
ابتسم زمرد ترددها لأجله مرة أخرى:
” نعم، إن وافق أخي، فنعم دانيار ”
انتفض جسد دانيار بسعادة كبيرة وهو يتحرك بعيدًا عنها بعض الشيء هامسًا بحماس شديد يتحرك صوب الباب :
” لا تفكري بهذا الأمر، هو سيقبل شاء أو ابى، يكفيه أنه يتذوق الآن ما أمر به، الله يمهل ولا يهمل ”
رمقته زمرد بحنق شديد وقد كرهت داخلها أن يتحدث بهذا الشكل على إيفان والذي رغم فترة تقربها القصيرة، إلا أنه نجح بامتياز في دوره كأخ لها .
” لا تتحدث بهذا الشكل عن أخي دانيار ”
” بالله عليكِ لا توصيني على شقيقك، بل اوصيه بي خيرًا”
ابتسمت له تقول :
” هو يحاول اسعادي وإن علم أن ذلك يسعدني فلن يقف في طريقك دانيار ”
التوى ثغر دانيار بسخرية :
” يا ويلي لم أكن أدري أنكِ بريئة وحمقاء بهذا القدر زمرد، شقيقك سيتفنن بإذلالي، لكن لا بأس طالما أنكِ تسانديني بالفعل ”
ابتسمت له زمرد بسمة واسعة وهي تراقبه يتحرك للخلف بعدما القى لها نظرة أخيرة توحي بالكثير ورحل هكذا بكل بساطة آخذًا قلبها معه .
____________________
” حينما يأمن عدوك ويستكين، يكون ذلك أكثر وقتٍ مناسب لتضرب ضربتك ”
ابتسم أحد الرجال الذين يجاورون بافل وقد نالت تلك الخطة دعمه هو والقليل من الرجال معهم ممن وافقوا على الانضمام لهم، رغبة في إطفاء نيران ثأرهم .
وبافل تحرك صوب المرأة التي كانت تتمد على إحدى الارائك تراقب ما يحدث بانتباه متسائلًا :
” هل يمكنك أن تتولي هذا الأمر موري ؟!”
ابتسمت له موري تقول بصوت خافت :
” هذا يعتمد على ما ستمنحني بافل ”
امتدت يد بافل صوب وجهها يتلمسه بلطف شديد :
” حياتي إن أردتِ ”
” احتفظ بحياتك فما لي من حاجة بها، أنا فقط أريد ألف قطعة ذهبية و….”
صمتت تقترب منه هامسة بصوت منخفض :
” رأس اختك القذرة تحت قدمي ”
ابتسم لها بافل بسمة خبيثة يقول بصوت مريب مرعب لمن يعلمه :
” القطع الذهبية سهل أمرها، أعطيكِ إياها قبل أن تتحركِ خطوة واحدة، أما فيما يخص رأس زمرد، فلا أظن أنني يمكنني إحضارها، فآخر مرة رأيتها كانت حينما تخلص شقيقي منها ”
رمقته موري بسخرية لاذعة :
” هل رأيت روحها تخرج أمام عيونك ؟؟”
ضيق بافل عيونه يرمقها بريبة لتكمل هي له :
” هذه الفتاة لن اصدق أنها رحلت إلا حينما أراها بعيوني تلفظ أنفاسها الأخيرة ”
زفر بافل وقد كان لا يهتم بكل ذلك، هو فقط لا يهتم سوى بقصاصه :
” لا بأس إذن، اعدك إن وقعت أمام عيوني قتلتها واحضرت رأسها لكِ أسفل قدمك، حسنًا ؟؟”
نظرت له موري ثواني قبل أن تبتسم فجأة :
” اتفقنا إذن بافل ….”
___________________
فرغت من صلاتها ترتكن صوب الفراش مبتسمة براحة شديد وهي تحمل مصحفها تقرأ به براحة شديدة، راحة استشعرتها في كل حرف تنطق به .
حتى سمعت صوت طرق على باب غرفتها، وحينما نهضت تأذن للطارق بالدخول، ابصرته يدخل غرفتها بكل قوة كعادته، ولأول مرة يدخل غرفتها وحده ويغلق الباب خلفه .
ابتسم لها سالار يقول بصوت هادئ :
” السلام عليكم مولاتي ”
” عليكم السلام يا قائد ”
صمتت ثواني قبل أن تقول :
” لعل خيرًا ما جاء بك هنا !!”
ابتسم لها سالار يتقدم منها ببطء شديد قبل أن يبصر نظراتها الشاردة به وبمظهره العبثي بعض الشيء، فهذه المرة الأولى له التي يخرج عليها أو على أحد بمظهره المبعثرة هذا، انتهى لتوه من الاستحمام وقرر بشكل متهور أن يأتي يستغل امتيازاته الجديدة كزوجها .
وهذا لم يساعد تبارك على التركيز أبدًا، خصلاته الصهباء الرطبة وثيابه العادية بعيدًا عن ثياب الحروب وثيابه الرسمية كانت أكثر مما يمكنها التحمل بالفعل .
وهو فقط توقف أمامها ينظر لحجابها:
” هل يمكنني ؟؟”
نظرت له ثواني بعدم فهم وهو ابتسم يمد يده صوب رأسها بغية نزع الحجاب لتتراجع تبارك دون شعور بسرعة للخلف، وهو رفرف برموشه يقول بكلمات جادة :
” لا تقلقي سأنظر لخصلاتك فقط ”
نظرت له تبارك بريبة:
” فقط ؟؟ أنت كنت عايز تعمل ايه اكتر من أنك تشوفها ؟؟”
” هل تخجلين مني تبارك ؟؟”
هزت تبارك رأسها دون تردد ليبتسم لها بطلف :
” لا تقلقي، لن يسوءني رؤية خصلات شعرك بأي حالة كانت، أنا فقط أريد رؤية كيف تبدين دون حجاب .”
صمت ثم قال بتفكير :
” ستكون هذه المرة الأولى لي في حياتي أن أرى امرأة دون حجاب غير والدتي .. أو ربما الثانية ”
ضيقت تبارك عيونها بشك :
” المرة الثانية ؟؟ أنت شوفت مين غير والدتك !!”
أجابها سالار بهدوء وهو ما يزال يحدق بحجابها بشرود وكأنه يفكر في طريقة لنزعه عن رأسها، لا ينتبه بنظراتها المرتابة في أمره:
” أنتِ، تلك المرة حينما كنتِ بحديقة القصر في جزء النساء ووقع عنك حجابك رأيتك بخصلاتك الهائجة تلك ”
أبعد عيونه عن رأسها يتحدث بجدية غير منتبهًا لنظراتها المصدومة تلك :
” هل تلك هي طبيعة خصلاتك أم أنها كانت حالة استثنيائية ؟؟”
وتبارك شعرت كما لو أن أحدهم ربط لسانها بالفعل، تحاول الحديث مرات عديدة وتفشل، حاولت وحاولت حتى خرج منها كلمات مختنقة بخجلها :
” أنت…هذا ليس …هذا محرج ما قلته ”
نظر لها سالار بعدم فهم :
” لماذا ؟؟ ”
صمت ثم قال بصوت خافت وكأن هناك من يتلصص عليهم :
” أخبرك شيئًا ؟؟ أنا احببت خصلاتك الهائجة لا بأس”
وهذا لم يزد تبارك إلا ريبة منه تهمس في نفسها بقلق :
” هو ماله عامل زي رجل الكهف اللي عمره ما شاف ست في حياته ؟؟”
وسالار لم يكن يهتم بكل تلك الأفكار في رأسها وهو يركز على أهدافه الواضحة أمامه، ألا وهي نزع حجابها، ودون أن يشعر أو يعطي لها إشارة كانت أصابعه تتحرك لفك حجابها وتبارك حتى لم تستوعب الأمر لتعترض أو توافق فقط وجدت أنامله تخلع حجابها وهي فقط نظرت له متسعة الأعين ترفع يدها لترتيب خصلاتها شاكرة الله أنها مشطتها منذ ساعات فقط، ولولا خصلاتها الأمامية الهائجة لكان شعرها في هذه اللحظة مثاليًا .
لكن يبدو أن خصلاتها شبه المثالية تلك لم ترق سالار الذي نظر لها بتفكير يقول :
” كان أجمل في المرة السابقة ”
حسنًا هذا الرجل مريب أكثر مما كانت تتخيل، مريب بشكل مريب في الحقيقة .
وسالار لم يهتم وهو يقول ببسمة لها محاولًا أن يصلح جملته السابقة :
” لكنكِ تبدين جميلة دون حجاب”
ختم حديثه يربت على رأسها وكأنه يتحدث مع ابنته الصغيرة، وتبارك تنظر ليده دون كلمة، بينما هو نزع يده يقول ينظر لغرفتها :
” إذن هذه هي غرفتك ؟؟”
هزت تبارك رأسها وهي تحدق بوجهه شاردة في ملامحه في انتظار الخطوة الثانية منه والتي جاءت سريعة وهو يبتسم لها بسمة صغيرة يقول بلطف :
” تبدو جميلة، هل تريدين رؤية غرفتي ؟؟؟؟؟”
_________________
وعملًا بمقولة ضرب الحديد وهو ساخن ..
وعلى بُعد خطوات كان إيفان يتوسط عرشه وقد جمع كل من بالقصر ليخبرهم بآخر التطورات، مستبعدًا سالار لأجل عقد قرآنه الذي حدث اليوم، يكفيه معاناته معه وارسلان الحقير الذي أخذ اميرته ورحل، لكن صبرًا لينتهي ويريه.
ابتسم يدور بعيونه بين الجميع يتأكد أنهم موجودين، حتى أبصر شهرزاد تتحرك داخل القاعة بكل كبرياء وهي ترفع رأسها تتحرك صوب مقعدها تقول ببسمة مقيتة :
” اعتقد أن مقعدي قد نظفه أحدهم بالفعل ؟؟”
ابتسم لها إيفان يهز رأسه ثم قال بكل بساطة وهدوء شديد :
” نعم مولاتي، لقد نُظف بالفعل ”
تحركت شهرزاد بتكبر صوب المقعد ترفع طرف ثوبها كي تتوسطه، لكن وقبل أن تفعل أوقفها إيفان يقول :
” ليس هنا مولاتي، فهذا المقعد بالفعل مشغول”
” مشغول ؟! مشغول لمن ؟! هذا مقعدي أنا”
منحها إيفان بسمة أوسع من السابقة يهمس لها بكل جدية :
” ليس بعد اليوم ”
وقبل أن تعرب شهرزاد عن حيرتها التي علت ملامحها بالفعل، أبصرت إيفان يبعد عيونه عنها يقول بصوت جهوري .
” نحن لم ننتهي من الأخبار الجيدة اليوم، فبالإضافة لزواج القائد سالار لدينا المزيد ….”
صمت ثواني يتأكد أنه حاز اهتمام الجميع يقول بغموض وبسمة واسعة ونظراته تتحرك صوبها هي تحديدًا :
” لدينا فرد جديد في العائلة الملكية عليكم مقابلته …”
صمت ينظر حوله لنظرات الجميع والذين توقعوا القادم، الملك الآن سيعلن زواجه أو ربما حديثه هذا يخص انضمام سالار وتبارك لعائلة سفيد الملكية، لكن إن ظن البعض أن إيفان يمكن توقعه يومًا، فليعيدوا التفكير مئات، بل ملايين المرات .
ابتسم لهم إيفان يقول بصوت جهوري وهو يشير صوب بوابة القاعة وعيونه لا تترك أعين شهرزاد المترقبة :
” رحبوا معي بالاميرة زمرد، شقيقتي ….”
_____________________
ضربة ستصيب من تصيب، وتسقط من تسقط، والغلبة في النهاية، للأقوى ….
يتبع…

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-