رواية ابابيل كاملة جميع الفصول بقلم احمد آل حمدان

رواية ابابيل كاملة جميع الفصول بقلم احمد آل حمدان


رواية ابابيل كاملة جميع الفصول هى رواية من تأليف المؤلفة المميزة احمد آل حمدان رواية ابابيل كاملة جميع الفصول صدرت لاول مرة على فيسبوك الشهير رواية ابابيل كاملة جميع الفصول حققت نجاحا كبيرا في موقع فيسبوك وايضا زاد البحث عنها في محرك البحث جوجل لذلك سنعرض لكم رواية ابابيل كاملة جميع الفصول

رواية ابابيل كاملة جميع الفصول

تمهيد

لم يكن طفلاً عادياً أبداً فهو لم يخرج رحم والدتة باكياً مثل بقية المواليد ، بل خرج صامتاً يقلب بصرة في الأشياء مدهوشاً كما لو أنه تفاجأ بوجود  کوکب آخر،  غير الكوكب المظلم الضيق الذي كان يعيش فيه.
161
وبينما كان الطفل لا يزال ساكنا بين يدي القابلة إذ وقعت عيناه على والدته المستلقية بظهرها فوق الأرض والغارقة في عرقها اللانهائي ، فانتفض جسده الصغير اللزج الملطخ بدماء الولادة مثل سمكة زينة صغيرة أخرجوها للتو من حوضها المائي ..
24
زحفت والدته على مؤخرتها بصعوبة بالغة حتى أسندت ظهرها على حائط الطين القديم ، غطت بطرف اللحاف عري ثدييها الممتلثين بالحليب ، ثم رفعت يديها المرتجفتين في الهواء :
43
- دعيني أراه - قالت جومانا - هل هو بصحة جيدة يا ماريا ؟!
43
أجابت القابلة وهي تنحني لتضعه برفق بين يدي أمه وتهمس : "انظري لعينيه إنهما تشبهان عينيك كثيراً يا سيدة جومانا "
21
عندما أصبح بين يدي والدته مد أصابعه الصغيرة نحو خصلة نافرة من شعرها الناعم وألقى القبض عليها بقوة لا تتوافر لدى طفل في مثل عمره ، وبينما هو يمسك بخصلة شعرها النافرة تلك إذ جعل يتدبر بصمت وخشوع راهب في عينيها البندقيتي اللون كما لو أنه في تلك اللحظة كان يقرأ فيهما البداية والنهاية ..
36
بعد وقت قصير اقترحت القابلة :
- ما رأيك في أن آخذه لغرفة أخرى ريثما ترتاحين قليلاً ؟!
5
وحينها فقط ، بكى الطفل بصوت عالٍ كما لو أنه يعترض .
5
- لا بأس دعيه - قالت جومانا ببراءة -أنا لا أشعر بالتعب
2
- ألن يأتي السيد بحر ليطمئن عليك وعلى الطفل ؟!
43
لم تفسح جومانا مجالاً لذلك السؤال بأن يعكر عليها صفو فرحتها بالقادم الجديد :
- عندما يجد والده فسحة من الوقت سيأتي بالتأكيد .
4
- وهل فكرت بالاسم الذي ستطلقينه عليه ؟!
في الحقيقة كانت جومانا قد قررت في وقت سابق أن أحدا لن يسميه غير زوجها ؛ لذلك سوف تظل تطلق عليه لقب « الطفل » حتى يعود والده من غيابه ويختار له اسماً ..
22
لم تبح بقرارها ذاك إلى القابلة ؛ لكي تجنب على نفسها مغبة أسئلة كثيرة لن تنتهى غير أن القابلة ماريا سألت كما لو أنها استطاعت قراءة ما يدور في عقل سيدتها:
1
- هل تفكرين بتأجيل تسميته حتى يعود أبوه ويسميه بنفسه ؟!
8
وبنبرة جادة تشي بعدم رغبتها في الإجابة قالت : ربما !!
3
- يا إلهي إن شهورا كثيرة قد مضت على غياب السيد بحر ، ولا أحد يعلم متى قد يعود  . . .
13
- يبدو أنك بذلت مجهودا معي طيلة اليوم يا ماريا
– قاطعت جومانا ثرثرة القابلة بأدب
2
- والآن وقد تأخر الوقت تستطيعين الانصراف لبيتك لأخذ قسط من الراحة وسأرسل لك أجرتك في الغد .
9
أرادت أن تقول بأنها تفضل البقاء للمساعدة ، لكن جومانا حدست ذلك فسبقتها بالقول :
3
- لا تقلقي إذا احتجتك لاحقاً فسأجد من أرسله في طلبك .
لملمت القابلة أدوات الولادة البدائية التي جلبتها معها ، ثم وضعتها في كيس واسع من القماش حملته فوق كتفها بعد أن أحكمت إغلاقه جداً التفتت نحو جومانا وسألت بلطف:
4
- هل تريدين مني شيئا آخر قبل أن أذهب ؟!
3
وهي تمرر يدها على رأس طفلها الناعم طلبت جومانا منها:
- أريد منك إطفاء القناديل ، فالنار يجب أن تطفأ قبل النوم كما تعلمين !!
6
- معك حق - قالت ذلك ثم ذهبت لتنفذ ما طلب منها .
1
لم يستغرق الأمر كثيرا من الوقت حتى كانت ماريا قد أطفأت جميع النيران المنبعثة من القناديل المتآكلة المعلقة على حيطان المنزل فأصبح البيت مظلما باستثناء إضاءة خافتة كانت تنبعث بهدوء من نافذة الغرفة التي تجلس فيها جومانا مع ابنها ..
1
ولما لم يعد هناك شيء آخر لتفعله القابلة فإنها اتجهت نحو باب الفناء استعداداً للمغادرة ، ولكنها ما أن فتحت الباب حتى خفق قلبها بقوة وسقط من يدها كيس القماش الذي كانت تحمله فوق كتفها ، اتسعت عيناها بسبب المفاجأة ...
3
لقد شاهدت خلف الباب شيئا لم تتوقعه أبدا ...
64
............
3
«أنتهى»
«رأيكم كبداية؟»
متنساش ان الرواية موجودة كاملة في قناة التلجرام والواتساب
«ذات الطائر الأحمر»!!

شاهدت أمامها أقدم جنية عرفها أهالي قرية الجساسة كانت امرأة يطلقون عليها لقب ذات الطائر الأحمر ، اسمها الحقيقي « تاج » وكان جميع من في القرية يخافون منها ويحاولون قدر الإمكان اجتناب غضبها ، ورغم تقدمها في العمر إلا أنها لا تزال تحتفظ بقدر كبير من الجمال يخبرنا بأنها كانت شديدة الفتنة عندما كانت أصغر سنا : لها شعر غجري أسود اللون يتخلله بعض خصل الشيب الرمادية ، وبشرة بيضاء مشدودة مثل جلد حصان سباق ، وملامح هادئة تشبه وقت غروب الشمس ..
47
تمتلك طائراً نادراً أحمر اللون مرقشاً بحبات ريش برتقالية ، كان ذلك الطائر من فصيلة العنقاء اسمه
« إكليل»، وقد قامت بسرقته من عش والدته عندما كان لا يزال داخل البيضة ، لذلك استطاعت ترويضه وجعله خادماً لها ..
14
ثم ولأن ذلك الطائر الأحمر لم يكن يفارق تاج ، وكان مثل ظلها تماماً يذهب معها أينما تذهب فإن أهالي قرية الجساسة مع الوقت نسوا اسمها الحقيقي نهائياً ، وأصبحوا يطلقون عليها لقب ذات الطائر الأحمر ..
5
قالت القابلة ماريا بخوف شدید :
ما الذي جاء بك إلى هنا ؟!
- تعلمي ، أن لا تحشري أنفك في الأمور التي لا تخصك يا ماريا ، فلو أنكِ قبل قليل لم تأتي بذكر غياب زوجها بحر لما قامت جومانا بطردك .
42
لم تتفاجأ القابلة كثيراً لمعرفة ذات الطائر الأحمر بذلك الأمر ، فقد كان من الطبيعي جداً أن تعرف تلك الجنية بأكثر الأشياء السرية التي تدور خلف الأبواب المغلقة.
1
حاولت ماريا الدفاع عن كرامتها :
- السيدة جومانا لم تقم بطردي لقد صرفتني فقط لأنها تشعر بالتعب
21
- نعم بالتأكيد - قالت ذات الطائر الأحمر ساخرة
- لا بد أنها شعرت بالتعب من ثرثراتك التي لا تنتهي !!
7
لم تحاول القابلة أن تجادل في الأمر أكثر :
- م م .. معك حق أنا ثرثارة وكلامي لا ينتهي !!
13
قالت ذلك ماريا بتوتر واضح ثم هرولت مبتعدة وقد أنساها الخوف أن تحمل معها كيس القماش من على الأرض .
6
-إكليل - قالت الجنية تحادث طائرها الأحمر
–أبقى هنا ريثما أعود زعق إكليل وهو يرفرف بجناحيه الطويلين في الهواء فقالت :
- لا لن أتأخر سأنجز ما جئت من أجله ثم نرحل سريعاً
9
******
سارت بخفة في ساحة البيت الداخلية متجهة نحو الغرفة التي ينبعث من نافذتها إضاءة خافتة والتي تجلس فيها جومانا وحيدة مع ابنها الرضيع ، وكانت ذات الطائر الأحمر في كل مرة تمضي فيها بجوار قنديل مطفأ معلق على الحائط تعود النار للاشتعال فيه فورا وبهذه الطريقة ما كادت تصل تلك الغرفة أصبح جميع البيت مضاء من جديد .
فتحت باب الغرفة نظرت نحو الطفل وقالت :
- يبدو أنه في صحة جيدة يا جومانا !!
8
التفتت جومانا نحو مصدر الصوت بدهشة :
-أنت بالذات ليس مرحباً بك هنا - همست بنبرة حادة.
26
تساءلت ذات الطائر الأحمر ببرود لا يلائم حساسية الموقف :
-ألا أستطيع الاطمئنان عليك حتى في مثل هذا اليوم ؟!
- لا أريدك أن تطمئني علي – ثم أضافت بتوتر :
لقد حذرتك أكثر من مرة بأن لا تحاولي الاقتراب مني !!
13
- متى تفهمين أيتها الحمقاء أنني لن أقوم بأذيتك ؟؟
- ولكنك قد تؤذيني بقدومك إلى هنا ، فلن تسير الأمور على ما يرام لو عرف زوجي بالحقيقة !!
7
- أين هو زوجك هاه  -تساءلت بحنق- لقد مضت شهور كبيرة على اختفائه !!
8
بخيبة أمل سحيقة نظرت جومانا نحو الأرض وهمست : - ولكنه قد يأتي في أي لحظة !!
1
- وماذا سيحدث لو أنه عرف بالحقيقة ألا تقولين بأنه يحبك ؟!
11
- نعم يحبني ولكنني لا أريده أن يكتشف بعد كل هذه السنين الطويلة التي قضيتها معه ، أنني ..
أقصد أننا .. أعني أنكِ
38
لم تعد تعلم ماذا يجب عليها أن تقول لذلك فإنها أخذت نفساً عميقاً ، ثم أكملت جملتها قائلة :
أنت تعلمين ما الذي أريد قوله بالضبط !!
4
- لماذا تخجلين ؟! لا أحد يخجل من حقيقة أصله قولي له بأنكِ ...
11
قاطعتها جومانا قبل أن تكمل جملتها :
- لماذا لا تقولين لي أنت عن سبب مجيئك هنا هذه الليلة ؟!
4
- من أجله
– قالت الجنية العجوز وهي تشير بإصبعها ذي الظفر الطويل نحو الطفل النائم ، ثم أردفت :
هل أستطيع إلقاء نظرة عليه أم أنكِ ستحرميني من ذلك أيضا ؟!
5
ولأنها تعلم بأن ذات الطائر الأحمر لن تؤذي طفلها وبأنها لن ترحل قبل أن تحقق ما جاءت من أجله ، فإنها مدته نحوها وهي تقول لها باستسلام ومن أن يساور قلبها الشك بحقيقة ما هو قادم :
1
- حسنا - وأردفت بحزم :
ولكن بسرعة !!
حملته بين يديها وهي تبتسم
تأملت فيه قليلاً ثم- همست متسائلة :
-هل ستقولين له عندما يكبر بأنه مختلف عن البقية وبأنه ...
60
صرخت عليها مقاطعة حديثها قبل أن تكمل :
-هذا يكفي يا ذات الطائر الأحمر !!
أدركت أنها أغضبت جومانا كثيراً فقالت لتغير الموضوع : - هل أستطيع أن أتمنى له في أذنه أن يعيش حياة سعيدة ؟؟
3
كانت تلك إحدى عادات الولادة في قرية الجساسة حيث تقوم الأم باختيار الصديقة الأقرب لقلبها وتطلب منها أن تتمنى في أذن مولودها أن يعيش حياة سعيدة ، وكانت الأم تحرص كثيرا في انتقاء تلك الصديقة لأنهم كانوا يعتقدون بأن شقاء المولود وسعادته مربوطان بصلاح قلب الشخص الذي سوف يتمنى له ..
6
- وسترحلين بعدها ؟-
-نعم سأرحل-
2
رفعت ذات الطائر الأحمر الطفل إلى مستوى فمها ثم بدأت تتمتم في أذنه بصوت منخفض متظاهرة بأنها تتمنى له أن يعيش حياة سعيدة ولكن في الواقع لا أحد غير الرب يعلم ماذا كانت تلك الجنية العجوز تقول في أذنه بالضبط ...
46
وحين انتهت من وشوشته ألصقت أذنها على صدره وأصاخت السمع لصوت دقات قلبه ..
5
في الحقيقة لم يكن أحد يستمع في العادة لصوت دقات قلوب المواليد بعد الانتهاء من التمني لهم في آذانهم ، لهذا ربما تساءلت جومانا بشك :
-ماذا تفعلين
2
أجابت بتوتر :
- ششش ، اصمتي قليلاً !!
1
وبعد فترة من الوقت ابتسمت ذات الطائر الأحمر أخيراً وتنفست الصعداء إذ إنها تحققت مما جاءت من أجله ، أعادته إليها ثم غادرت دون أن تتكلم ..
ولو أن الطفل فقط استيقظ في تلك اللحظة من نومه وفتح عينيه ، لكانت أمه سوف تشاهد في عينه اليسرى وهجاً أحمر اللون غريب ..
53
............
«أنتهى»
«لقاء»

_ثم وبعد عشرة أعوام_
22
كان الطفل حينها يرتدي ثوباً يصل إلى منتصف ساقه يحمل بيده سراج قديماً متأكلًا فيه قبس من نار يطوف به ساحة البيت الواسعة كعادته كل ليلة قبل النوم ؛ ليتحقق مما إذا كانت أبواب ونوافذ البيت مغلقة وما إذا كانت القناديل المعلقة على الحيطان مطفأة ، وبينما لا يزال في جولته التفقدية تلك إذ سمع صوتاً عند الباب .
4
كان الوقت متأخراً جداً من تلك الليلة الباردة ولم يتعود الطفل حوال سنواته العشر الماضية على الزيارات المفاجئة .. لذلك فإنه وضع السراج جانباً  ، أنحنى ليلتقط فردة حذائه بيده ووقف في مكانه متخذاً وضعية مقاتل ، ثم زمجر قلقاً وهو ينظر نحو الباب كشبل أسد صغير التقطت أذناه حفيف خطوات غريبة تقترب من عرين الأسود :
5

- لص !!
11
***

رغم الظلام الحالك إلا أن ضوء القمر الناعم ساعده على رؤية ملامح ذلك اللص وهو يقفز من فوق حائط البيت :
1
كان رجلا طويل القامة نحيل يرتدي ثيابا سوداء ويلف حول عنقه شالاً صوفياً ، يمتلك ملامح وجه حادة كما لو أنه استعارها من نسر : أنف معقوف ، عينان قاسيتان ، حاجبان مرسومان بدقة وشارب ثقيل متصل بلحية خفيفة .
35
حدق الطفل فيه بحذر لأكثر من خمس دقائق مثل ملاكم في حلبة قتال يتحين قرع الجرس للهجوم على خصمه ، ابتسم اللص مرتبكاً :
- كيف حالك أيها الصغير ؟ !
8
ثم ومن دون مقدمات هجم عليه مستعيناً بفردة حذائه ، فلم يملك ذلك اللص حينها إلا أن يهرب من أمامه ..
14
كادت تلك المطاردة أن تمتد طويلا في ساحة البيت الداخلية لولا أن اعترض أحدهم طريق الطفل :
1
-ماذا تفعل - صاحت جومانا في وجهه - توقف إنه أبوك !!
38
جلست على الأرض لفت ذراعيها حول ابنها بحنو وجعلت تحاول إقناعه بأن ذلك الرجل هو والده وبأنه ليس لها كما يظن ، وحين اقتنع بعد فترة طويلة من الجدال لم يشعر بالخجل ولم يعتذر عن سوء تصرفه ، كل ما قاله هو :
-لم أكن أعرف .
4
كانت جومانا سلفاً قد حضرت كلمات العتاب التي ستقولها أمام زوجها عندما يعود من غيابه ولكن عندما جاء ، مات الكلام في صدرها ذلك أن كل معارك المرأة دائما ما تنتهي بانتصارات الحب .
23
تمنت لو أنها في تلك اللحظة تستطيع أن تركض نحوه وتعانقه بقوة لتخبره بالعناق فقط كم هي مشتاقة إليه وكم صلت في غيابه حتى يعود إليها بخير ، وكم كانت تطيل النظر في القمر كل يوم لربما كان زوجها ينظر للقمر بتلك اللحظة فيعانق طرفه في السماء البعيدة طرفها ، وكم ثرثرت عنه في ليالي الحنين مع الشهب والنيازك والأفلاك المسيرة ، وكيف أنها في كل مرة كانت تخبر النجمات - نجمة نجمة – بأنه أشد الأشياء عشقاً وقرباً وحباً إلى فؤادها وروحها وقلبها .
لم يمضي الكثير من الوقت حتى طرق شخص غريب عليهم الباب قاطعاً على جومانا أحلامها ..
3
التفت بحر نحو مصدر الصوت وهمس بعد أن اتسعت عيناه من القلق وظهرت على جبينه خطوط تجاعيد خفيفة تشي بخوفه :
1
- يبدو أنه صديقي أيوب .
9
نهضت جومانا من جوار ابنها لتدخل إحدى الغرف وهي تقول :
- هل أعد لكما شيئاً للأكل ؟!
سار الطفل خلف أمه يتبعها فأمره والده بالبقاء :
2
- أبقى لتلقي التحية على صديقي أيها الصغير .
3
أرسل نظرة عاصية لوالده دون أن يتكلم ثم أكمل سيره خلف أمه :
7
-اسمع الكلام
قالت جومانا وهي توقف الطفل في مكانه وتنظر إليه بحدة - اسمع كلام أبوك .
6
- ولكنني لا أعرف من يكون حتى أسمع كلامه يا أمي !!
14
- قلت لك بأنه أبوك !!
6
-دعیه یا جومانا - همس بحر
- الصغير معه حق فهو لا يعرفني .
10
-بل سيسمع كلامك رغماً عنه
ثم أرسلت نحو ابنها نظرة معاتبه
-بل ستبقى هنا لتلقي التحية على صديق أبوك
5
-لأجلك فقط -همس - لأجلك سأفعل
15
حين فتح بحر الباب ظهر له رجل ضخم مثل غول ما أن رآه الطفل حتى أعتقد في نفسه بأن صديق والده ذاك يملك طولاً وعرضاً لا ينبغي لمخلوق بشري أن يمتلكهما :
8
كان أسود اللون حليق الذقن والشارب له شعر طويل يبقيه على هيئة ضفائر ويشده إلى الخلف ، وقد بدا شكل مظهره العام يشبه شكل محارب كان في طريقه للذهاب نحو معركة حيث يعلق على ظهره قوساً يصل طوله لستة أقدام وكنانة يضع بداخلها ثلاثة عشر سهماً ، بالإضافة لسيف ضخم يحمله على خاصرته .
17
دخل أيوب البيت ثائراً ولكنه ما أن لاحظ وجود الطفل أمامة حتى هدأ قليلاً وأبتسم کاشفاً أسنان ناصعة البياض بينها سن واحدة ذهبية ، تساءل قليلاً وابتسم بأندهاش بالغ:
2
- هل هذا هو ابنك ؟!
1
- نعم  ، هز بحر رأسه - هذا ابني
2
مد أيوب يده الكبيرة في إيماءة مصافحة فتقدم الطفل نحو اليد الممدودة في الهواء وحين صافحها شعر بأن يده سقطت في بئر عميقة مظلمة ..
وعندما انتهت المصافحة وعاد لأمه كان يتفحص يده في الطريق حتى يتأكد من أنها ما زالت في مكانها، وأنها لم تسقط في تلك البئر العميقة المظلمة.
37
ما أن دخل الطفل للغرفة التي تجلس فيها والدته وأصبح الجو في الخارج آمناً بعض الشيء لتبادل الكلام، حتى التفت بحر نحو صديقه أيوب وسأله بأندفاع :
-ما الذي جاء بك هنا؟
-أنت من يجب عليه الإجابة عن هذا السؤال يا بحر 
2
أجاب ایوب بحنق ثم أضاف بعد أن أخفض صوته قليلاً: لقد كسرت ميثاق الدم خاصتك بزيارتك المتهورة هذه، هل تعلم ما الذي قد يفعله بك ناب الفيل وبعائلتك لو اكتشف الأمر ؟!
10
بوجه يملؤه القهر رد بحر :
- لقد مضت أكثر من عشرة أعوام لم أرى فيها زوجتي ولا ابني، ولم يعد في مقدوري احتمال المزيد !!
2
- أنت من أوقعت نفسك في هذه الورطة منذ البداية
قال بلهجة مؤنبة :
- لقد نصحتك بأن لا تتزوج هذه المرأة ، لا تورطها معك في مشكلاتك ولكنك لا تصغي لأحد !
8
-هل عرضت نفسك للخطر ولحقتني إلى هنا حتى تعاتبني ؟!
2
- لا بل جئت لأنقذك وأنقذ عائلتك من الدمار الذي قد يلحق بهم بسببك 
ثم أضاف: 
-أنت يجب أن تغادر هذا البيت بسرعة !!
-لن أذهب إلى أي مكان أنا سأبقى هنا
- كف عن عناد الأطفال هذا يا بحر
قال بصوت خرج من تحت أسنانه ، ثم أردف متسائلاً :
هل ستكون سعيداً عندما يقوم ناب الفيل بقتل زوجتك وابنك بعد أن يكتشف أمر زيارتك هذه ؟!
7
في الغرفة المجاورة كانت جومانا تجلس قرب النافذة تحاول استراق السمع لتلك المحادثة التي تدور بين زوجها وصديقه أيوب، لكنها لم تتمكن من فهم كلمة واحدة وذلك بسبب أصواتهما التي ترتفع تارة ، ثم تنخفض تارة أخرى ..
ولو أنها فقط واصلت استراقها السمع لفترة أطول لربما كان هناك احتمال كبير في أن تفهم كل شيء ...
غير أن ابنها الذي بدا متضايقاً من وجود أغراب في البيت قرر فجأة أن يندفع إلى خارج الغرفة ويضع حداً لوجودهما هناك من دون حتى أن يعطي لوالدته فرصة إيقافه :
- أنتما الاثنان - صاح عليهما - إنكما تسببان لنا الإزعاج !!
4
صمت أيوب قليلاً ثم قال معتذراً وهو ينهض :
- لم أكن أقصد إزعاجكم في هذا الوقت المتأخر على كل حال
اتجة نحو الباب وقبل أن يغادر أوقفه بحر معتذراً :
- آسف كان يجب علي أن لا أشركك في هذا الأمر منذ البداية
- الأصدقاء ليسوا في حاجة للاعتذار يا صديقي 
رد أيوب بكياسة ثم تابع :
كنت أعلم سلفاً بأنني أعرض حياتي للخطر، ومع هذا اخترت أن أقف معك .
3
حرر أيوب المزلاج الحديدي للباب ولكنه قبل أن يدفع بجسده للخارج التفت نحو الطفل مبتسماً وقال :

- يا لك من قملة صغيرة مزعجة !!
47

***

كانت ليلة فارسة البرودة حالكة الظلام وحده شعاع القمر الناعس المرهق هو من كان يثير تلك البقعة من كوكب الأرض، أراد بحر الدخول لغرفة نوم زوجته غير أن الطفل وقف أمامه معترضاً طريقه :
- اذهب إلى غرفة أخرى هنا أنام أنا وأمي فقط !!
13
فقال بحر محاولاً تقديم رشوة لذلك الحارس العنيد :
- سأشتري لك حماراّ مثل بقية الأولاد إن سمحت لي بالدخول لم يتكلم الطفل ...
- سأشتري لك ثياباً جديدة لو أنك ابتعدت !!
لم يتكلم أيضاً ..
- سأقوم برسمك لو أنك نفذت ما أطلبه منك !!
- هل تعرف حقاً ؟!
- ألم تخبرك أمك بأنني أجيد الرسم ؟!
كان الطفل مسحوراً بفن الرسم وكان يرسم من وقت لآخر بعض الرسومات على ورق البردي مستخدماً الفحم والريشة ودواة الحبر وكانت جومانا - على الرغم من سوء رسماته -  إلا أنها تشعر بالكثير من الرضا ، عندما تشاهده يمارس تلك الموهبة التي تذكرها بوالده .
1
- هاه ماذا قلت ؟! هل أنت موافق ؟!
المقابل الذي يجب عليه دفعه مقابل الرسمة
- نعم نعم أريدك أن ترسمني - هتف بحماس .
- سأفعل ولكن بعد أن تسمح لي بالدخول !!
- أوه لا - قال متذكراً وهو يستعيد عناده
-  أنت لن تدخل هنا أبداً !!
5
أطال النظر بحر في عيني ابنه البندقيتي اللون واللتين تشبهان كثيراً عيني زوجته محاولاً أن يقرأ فيهما طريقة يستطيع من خلالها الدخول للغرفة، وقد كان مستعداً لأن يستمر عمليات التفاوض تلك لوقت طويل ولكن جومانا التي أزاحت ستارة النافذة وظهرت له من خلف الشباك أومأت له برأسها تخبره بأن لا يتعب نفسه ؛ فالطفل يراه شخصاً غريباً وهو لن يسمح لشخص غريب بالنوم في فراش أمه.
13

****
في الصباح :
كان الطفل يغط في نوم عميق عندما نهضت والدته من جواره وجعلت تتسحب بهدوء لخارج الغرفة ..
وعندما تأكدت من أنها أصبحت في أمان وأن ابنها لم
ينتبه على حركتها أكملت طريقها نحو غرفة زوجها مشياً على أطراف أصابع قدميها ..
4
لم تكن تعلم إن كانت ستجده مستيقظاً أم أنه لا يزال نائماً ؛ لذلك فضلت أولاً أن تلقي نظرة عليه من خلال النافذة لتتحققة ..
وعندما فعلت وجدتة يضع لمساته الأخيرة على ثيابه وهو ينظر إلى نفسه من خلال انعکاس المرآة المتسخ سطحها بالغبار ، فعرفت أنه كان يستعد للرحيل مرة أخرى .
2
لم ينتبه إليها في بداية الأمر ولكنه عندما انتهى من وضع اللمسات الأخيرة على ثيابه واستدار لينصرف وجدها تنظر إليه من خلال النافذة وما أن التقي العين بالعين حتى سقطت أول دمعة من عينيها، ورغم أن حائطاً وباباً ومسافة كانت تفصل بعضهما عن بعض إلا أنه خيل إليه سماع صوت ارتطام دمعتها بالأرض.
2
فتح الباب واتجه نحوها بمزيد من الحذر لكي لا يكتشف الطفل الأمر توقف أمامها مباشرة تاركاً بينه وبينها مسافة قبلة، رفع وجهها الحزين الناعم بيده الخشنة وراح يتأمل في عينيها البندقيتي اللون واستطاع رغم الدموع
المحتشدة فيهما قراءة هذه الجملة، والمكونة من ست كلمات :
1
«أبقى ففي رحيلك لا أمان لنا»
13
تجاهل تلك الكلمات الست المكتوبة في عينيها وقال :
5
هل تعلمين بأنك ثاني أجمل امرأة رأيتها ؟!
1
قالت بغيرة وقد ازداد حزنها :
- ومن عساها تكون الأولى ؟!
أجاب مبتسماً :
- أنتِ - صمت قليلاً ثم أضاف :
ولكن عندما تبتسمين !!
27
ابتسمت واختفى بريق الحزن من عينيها :
-لقد اشتقت إليك يا بحر - اعترفت بلهفة .
3
- وأنا اشتقت إليكِ أيضاً - ثم تنفس ملء رئتيه وأضاف: ما زالت رائحة الياسمين تنبعث منك !!
- أنا بستان الياسمين الذي تطاردك رائحته أينما ذهبت وتعيدك إليه مكبلاً مثل أسير حرب .. أتذكر ؟!
7
وهو يبتسم لها بحنو : 
أنا دائماً اذكر .
كانت رائحة زهرة الياسمين تنبعث دائماً وبطريقة سرية من جسدها وكان بحر وبطريقة غامضة يستطيع التقاط تلك الرائحة حتى وهو في أقاصي الأرض، وعندما كان يعود إليها في كل مرة فإنه يقول :
3
- في الغياب كانت رائحتك تصلني يا جومانا وعندما كان يشاهد في عينيها دهشة الأطفال يبتسم ويضيف :
- أنتِ بستان الياسمين الذي تطاردني رائحته أينما ذهبت ويعيدني إليه مكبلاً مثل أسير حرب.
12
ثم وبينما كانا يقفان في ساحة البيت الداخلية يتذكران تلك الأيام البعيدة إذ مدت يداً مرتعشة أمسكت بها زوجها من ثيابه السوداء، بالقوة ذاتها التي أمسك الطفل فيها خصلة شعرها النافرة عندما حملته بين يديها لأول مرة.
1
بینما كانت جومانا فتاة طاغية الجاذبية للحد الذي جعل بحر يجد صعوبة بالثبات متوازناً في مكانه عندما شاهدها لأول مرة:
1
عيناها البندقيتا اللون وشفتاها البارزتان وأنفها المستقيم ووجهها الأبيض المرقط بحبات النمش الخفيفة المنتشرة على وجنتيها وأجزاء معينة من رقبتها كل ذلك كان يجعل من جمالها شيئاً نادرًا ..
4
لها جسد نحيل يبرز منه صدر نافر مستدير يشبه فاكهة شمام ناضجة وتملك شعراً رمادي اللون طويل عندما تجعله مسترسلاً فوق كتفيها، تصبح كما لو أنها فتاة من السماء تلقي على الأرض نظرة من وراء سحب الليل الرمادية المتراكمة ..
17
أمام سطوة زوجها أخفضت جومانا خطوط دفاعاتها تماماً ، اقترب بحر منها أكثر حتى بات يستطيع رؤية نفسه في حدقتي عينيها، تخالطت أنفاسهما ببعض حتى أصبح كل واحد منهما يتنفس زفير الآخر، ولكن قبل أن يضع قبلته عليها :
4
- أنت - صرخ الطفل من ورائهما - ابتعد عنها !!
86
ثم انحنى ملتقطاً فردة حذائه وراح يركض باتجاه والده والذي ما أن رآه حتى هرب نحو الباب ..
3
أزال المزلاج والتفت نحو زوجته ليلقي عليها نظرة الوداع فوجدها تضع يدها عند فمها وتضحك ..
1
ابتسم سعيداً من أجلها ثم وقبل أن يكمل هروبه أجابها على تلك الجملة التي قرأها في عينيها والمكونة من :
-لا أخشى عليكِ مغبةِ رحيلي وبجانبكِ هذا المفترس
36

.........
«أنتهى»
«دعوه»

بعد فترة طويلة من غياب بحر وفي أحد المساءات الهادئة ، طرق أحدهم بنقر خفيف الباب الخشبي للبيت ، ورغم بعد الغرفة التي كان الطفل وأمه يجلسان فيها بتلك اللحظة ، إلا أن الطفل تمكن من سماع ذلك النقر ..
3
- ماذا بك ؟! - سألت عندما شاهدته يشب قائماً 
- هناك من يطرق الباب - قال .
عندما ذهب ليفتح الباب وجد أمامه فتاة شابة ربما كانت في مثل عمر والدته تقريباً تحمل بين يديها جرة ماء وطبقا من الطعام.
-حيث تبادل الأطعمة بين بيوت قرية الجساسة كان إحدى أكثر العادات ثباتاً ورسوخاً هناك –
6
وقد كان من الطبيعي جداً في أحيان كثيرة أن يفتح الطفل باب البيت ويأخذ أطباق الطعام وجرار الماء من فوق العتبة ويدخلها للمطبخ دون حتى أن يعرف هوية
مُرسلها ...
أخذ منها جرة الماء وطبق الطعام :
- شكرا - قال وهو يهم بإغلاق الباب بقدمه .
- لحظة - قالت الفتاة الشابة - أريد الحديث مع والدتك .
عندما جاءت جومانا قالت لها تلك الفتاة بأن والدتها تدعوها للانضمام إليهن في الغد حيث سيجتمع في بيتهم بعض نساء القرية .
وحين سألتها عن سبب تلك الدعوة فإن الفتاة أجابت :
- إنه اجتماع دوري نقوم به كل شهر - وأضافت بلطف : وقد اشتقنا إليكِ كثيراً فقد مضى زمن طويل لم نجتمع فيه معكِ .
2
في الحقيقة كانت جومانا ایضاً قد اشتاقت لصديقاتها من نساء القرية و كانت تشعر بالحاجة إلى الترويح من نفسها قليلاً برفقتهن، غير أنها في الوقت ذاته تعلم بأن ابنها لن يوافق على أن تتركه وحيداً في البيت ريثما تذهب و تعود ..
1
لهذا فإنها فتحت فمها لتعتذر من تلبية الدعوة، لكن يبدو أن الطفل الذي أحس برغبة والدته في الذهاب تكلم قائلاً :
  - سوف تلبي أمي الدعوة !!
15
- حقاً- هتفت الفتاة - هل ستحضرين غداً یا جومانا 
نظرت والدته بدهشة نحوه وسألته بصوت منخفض للتأكد :
- هل موافق على البقاء وحيداً في البيت ريثما أقوم بتلك الزيارة ؟!
-لا ، بل سآتي معك .
25
ولأنها كانت تخاف من أن يتسبب لها بالمتاعب هناك فإنها قالت : 
-  سآخذك معي بشرط أن لا تثيرا المتاعب، اتفقنا ؟!
+
- أتفقنا
وهكذا أكدت جومانا للفتاة بحماس عن نيتها في القدوم غداً ، وهي لا تعلم أبدا ما الذي كان ينتظرها هي وابنها هناك.
17

****
في مساء اليوم التالي:
كان المجلس يعج بالكثير من النساء وبالثرثراث الفارغة والأحاديث التي لاتنتهي .
جلس الطفل بجوار والدته وقد أبدى التزاماً بوعده لها بعدم إثارة المتاعب ..
ولكن بعض النساء اللاتي كن يرغين بالتمتع بالخصوصية في تناقل الأحاديث الخاصة قد أبدين احتجاجاً على وجود ذلك الولد وسطهن.
1
قالت إحدى النساء:
- لماذا لا يذهب ابنك للعب مع الأولاد يا جومانا ؟!
التفتت نحو ابنها وهمست :
- اذهب للعب مع بقية الأولاد يا صغيري
- لا أريد  - همس في أذنها - أريد البقاء معك
ولكي تبرر إصراره على البقاء معها فإنها قالت لهن بأنه يمر بوعكة صحية لذا فهو لا يشعر بالرغبة في اللعب مع بقية الأولاد فاضطرت النساء في ذلك اليوم إلى خوض أحاديثهن الخاصة وهن يستخدمن لغة يعتقدن بأنها سرية ، ولكن في الحقيقة كان الطفل يسجل في رأسه ويفهم كل كلمة يسمعها .
36
أثناء تلك الزيارة وبينما النساء يواصلن أحاديثهن تلك إذ حدث ما لم يكن أحد يتوقعه أبداً حيث اقتحمت ذات الطائر الأحمر المكان فجأة دون أن تتلقى منهن دعوة أو تطرق عليهن الباب طالبة الإذن بالدخول :
4
-أرى أن هنا الكثير من نساء الجساسة
قالت وهي تدخل ولأنهن كن يشعرن بالخوف منها فإن واحدة منهن لم تبدي اعتراضاً على مجيئها ، باستثناء جومانا التي تعرف بأن تلك الجنية لم تأتي إلا من أجلها :
- سأعود لبيتي - قالت وهي تستعد للمغادرة .
ثم وفي محاولة لتلطيف الأجواء حاول بعض النسوة استبقاءها قليلاً بينهن غير أن ذات الطائر الأحمر قالت وهي تتخذ لنفسها مكاناً تجلس فيه وبنبرة صوت من جاء يفتش عن المتاعب :
- دعوها تأخذ أحمقها الصغير وتذهب به إلى البراز .
ومن غير أن تعلق جومانا أمسكت يد ابنها وغادرت المجلس متجهة نحو الباب لتغادر ، ولكنها لم تتمكن من فتح الباب أو تحريكه كما لو أنه كانت هناك الكثير من الأيادي الخفية التي تمنع مفاصله عن الحركة ..
لم تتساءل عن تلك الظاهرة الغريبة فقد كانت تعرف السبب :
- اتركوا الباب - همست بنبرة منفعلة
- أنا آمركم بأن تتركوه الآن !!
9
- إلى من تتحدثين ؟! ليس هناك أحد
- سأل الطفل ببراءة وهو يرى أمه تتحدث مع الهواء .
كانت جومانا تعرف الكلام الذي يجب عليها أن تقوله لتصرف تلك الأيادي الخفية والتي بأمر مباشر من ذات الطائر الأحمر كانوا يمنعون الباب عن الحركة ، غير أنها لم تكن تريد أن تتكلم حتى لا تثير انتباه ابنها لأسرار كان غافلها ، قالت بغضب وهي تعود لحيث يجلس النساء : اتبعني !!
أما ذات الطائر الأحمر فإنها ما أن شاهدت جومانا وهي تعود للمجلس حتى قالت ساخرة :
-يبدو أن هناك من غير رأيه !!
- أنتِ تعلمين لماذا عدت - ردت بحنق
- الباب مقفل !! - لم لا تحاولين فتحه ؟!
قالت ذلك ثم ضحكت بصوت عالٍ كما لو أنها ألقت دعابة مضحكة وعندما وجدت نفسها الوحيدة التي تضحك في المجلس فإنها غضبت وأمرت يقية النساء بأن يضحكن :
4
- لم لا تشاركني الضحك ؟!
انتبه بقية النساء للأمر ولفرط الخوف قمن بمشاركتها الضحك حتى إن أحداهن بالغت في الأمر قليلاً وكادت أن تؤذي نفسها ، عندما سقطت على وجهها لكثرة ما ضحكت .
31
نظرت ذات الطائر الأحمر نحو الطفل وقالت بمكر :
- لم لا تذهب للعب مع بقية الأولاد أيها الصغير ؟!
أخفت جومانا ابنها خلفها وهي تقول :
- لا شأن لكِ به !!
- دعي الولد يجيب أم أنكِ قصصت لسانه ؟!
- ثم أعادت الجنية العجوز السؤال وهي تنظر نحوه :
لم لا تدع أمك تجلس مع النساء وتذهب للعب مع بقية الأولاد ؟!
- أريد البقاء معها - همس بخجل وهو يتشبث بثيابها .
1
وهنا قالت ذات الطائر الأحمر بطريقة قاسية وهي تنظر نحو أمه :
- يجب أن يختلط ابنك هذا الرخو مع بقية الأولاد يا جومانا ، حتى لا يصبح من كبار المخنثين في المستقبل !!
16
  تلقت جومانا ذلك الخطاب القاسي بألم شديد وشعرت بأنها تريد الدفاع عن ابنها بأي طريقة لكنها لم تكن تعلم بماذا كان يجب عليها أن تجيب ، أما الطفل الذي شعر بالوجع الذي تسببت فيه تلك المرأة لوالدته فإنه انحنى ليلتقط فردة حذائه ..
38
-هيه أنتِ لا تتحدثي معها بهذه الطريقة !!
2
هكذا صرخ في وجه الجنية وهو يحاول مهاجمتها مستخدماً فردة الحذاء أما والدته وبقية النسوة فإنهن حاولن الإمساك به وجره بعيداً حتى لا تقوم ذات الطائر الأحمر بإيذائه ، غير أنه كان قوياً بما يكفي ليتحرر من قبضة النساء ويتدفع بشراسة نحو العجوز محاولاً ضربها بفردة حذائه ، صاحت جومانا :
2
- أرجوك لا تفعل !!
توقف الطفل قبل أن يصل إلى هدفه بخطوتين :
- لا أحد يؤذيك وينجو بفعلته
21
- قال من غير أن يلتفت للخلف ابتسمت ذات الطائر الأحمر وهي تنظر للطفل إذ إنها رأت فيه العلامة الثانية التي تؤكد صحة ما تعتقده بشأنه فقد تحولت عينه اليسرى عند الغضب للون الأحمر القاتم ، ولو أنه التفت لوالدته في تلك اللحظة لكانت هي ستشاهد ذلك التحول المخيف في عينه ولكنه لم يلتفت إليها وظل يحدق بغضب نحو ذات الطائر الأحمر ..
4
لقد كان يشعر برغبة غريبة وشديدة في رؤية الدماء تتفجر منها ، وفي الوقت نفسه لا يريد أن يعصي أمر والدته لذا فإنه استطاع أخيراً بعد صراع طويل مع الوحش الذي بداخله أن يهدأ .
أخذ نفساً عميقاً وعادت عينه للونها الطبيعي ، انتعل فردة حذائه ثم استدار نحو الخلف عائداً إلى أمه نظر مباشرة إليها وهمس بصوت حادة :
- لأجلكِ فقط !!
10
في  الحقيقة كان ذلك كله مدبراً ومخططاً له من ذات الطائر الأحمر ، إذ إنها لم تلقي كل تلك الإهانات إلا لكي تختبر شيئاً ما في نفس الطفل قالت غير مكترثة بالنساء اللاتي كن يسمعنها :
1
- لقد أخبرتكِ من قبل يا جومانا هذا الولد مخت ...
2
- لا أريد أن أسمع هذه السخافات !!
صاحت جومانا في وجهها قبل أن تتم جملتها ، ثم أمسكت ابنها من يده واتجهت به نحو الباب ، حاولت فتحه للمرة الثانية غير أنه كان لا يزال مغلقاً بواسطة تلك الأيادي الخفية ولكن ولأنها - هذه المرة تحديداً - كانت تريد الخروج من هناك بأي ثمن فإنها قالت دون تفكير بالعواقب :
- أنا جومانا ابنة الملك جبار الأباطرة ، أمركم بالابتعاد والسماح لنا بالخروج !
8
ما أن قالت ذلك حتى انفتح الباب من تلقاء نفسه ، وسمع ابنها صوتاً ثقيلاً ينبعث من الهواء يقول :
- اقبلي اعتذارنا ..
9
عندما عادا إلى البيت نظرت جومانا نحو ابنها وكان واضحاً أن لديه الكثير الأسئلة تدور داخل عقله ، وربما هذا أيضا كان من ضمن خطة ذات الطائر الأحمر ، إذ إنها أرادت بتصرفها ذاك أن تخلق الأسئلة في داخله حتى يعرف الحقيقة ويكتشف السر الذي تحاول والدته إخفاءه عنه ..
من وفي حقيقة الأمر لقد نجحت ذات الطائر الأحمر إلى حد كبير بإثارة فضوله ، ولكن جومانا التي تعرف جيداً كيف تتعامل معه فإنها جلست على ركبتيها من أجل أن تصبح في مثل طوله ، وضعت يدها على كتفه لتجعل كلماتها أكثر تأثيراً عليه ، ثم أمرته ولكن بنبرة متوسلة :
- سوف ننسى كل الأشياء التي شاهدتها وسمعتها هناك !!
- ولكني أريد أن أعرف من هو الملك جبار الذي قلت بأنك ..
3
قاطعت جومانا كلامه بشكل صارم :
- أعلم بأن لديك الكثير من الأسئلة تقفز في رأسك ولكني أريد منك أن تنساها ، اتفقنا ؟
- ليس قبل أن تخبريني عن الملك جبار هذا الذي قلت بأنكِ ابنته وعن الصوت الذي تكلم في الهواء وقال لكِ اقبلي اعتذارنا ، وأريد أن تخبريني عن تلك المرأة ولماذا كانت تهينك بتلك الطريقة ، ولماذا لم تسمحي لي بضربها ، أريد أن أعرف لماذا كان الباب موصداً رغم أن المزلاج لم يكن ....
1
قاطعته للمرة الثانية وهي تنظر إلى عينيه :
- وإذا قلت لك من أجلي ؟!
كان من الصعب عليه أن ينسى كل تلك الأسئلة التي في رأسه أو تلك النظرات الغربية التي كانت ترسلها ذات الطائر الأحمر إليه وإلى والدته :
1
لقد كانت تنظر إليهما بحب عميق لا يستطيع أن يجد له تبريراً مقنعاً ورغم هذا إلا أنه مستعد لأن يفعل أي شيء من أجل والدته لذلك فإنه همس قائلاً :
1
- لأجلك فقط ..
18
كانت جومانا تدرك أهمية القصة في تهذيب النفس وتأديبها ، لذلك كانت كل ليلة طوال السنوات الماضية تقص على ابنها قصة ما قبل النوم وعندما تنتهي فإنها تضع قبلة على جبينه وتخبره بالجملة الختامية والتي يفهم من خلالها دائماً ، أن القصة انتهت وأن موعد النوم قد حان :
1
« تذكر طوال عمرك يا بني أن الرب ، يجيب دعوة الداعي إذا دعاه »
55
ثم تصمت قليلاً لتضمن أن تلك الجملة سوف تستقر في رأسه فلا ينساها طيلة ما تبقى من حياته ، وتقول أخيراً
« اتفقنا ؟! » ..
أما هو فإنه رغم ظلام الغرفة الدامس إلا أنه كان يغلق عينيه في كل مرة ، ويحلل تلك الجملة الصغير تحليلاً دقيقاً وبعد أن يفهمها جيداً ويستوعب معناها بشكل تام ، يفتح عينيه في الظلام ويسأل هامساً :
- بجيب الرب أي دعوة يا أمي ؟!
- نعم أي دعوة
.......
+
«أنتهى»
«رسمة»

في ذلك الزمن البعيد عاشت مملكة أبابيل في عصور لا نهائية من الانحطاط والظلام والجهل ، حيث كان من النادر جداً أن يهتم أحد من أفراد الشعب بتحصيل العلوم والمعرفة ، وربما العلم الوحيد الذي يسعى للحصول عليه هو تعلم الفنون القتالية كالرماية والمبارزة بالسيف وركوب الخيل ..
3
وكانت تجارة الجواري والعبيد وأنواع التجارات القليلة الأخرى كبيع المواشي والجلود والصوف والأواني الخزفية البدائية ذات الصناعات اليدوية هي الشغل الشاغل لهم ...
ورغم ذلك إلا أن جومانا حرصت على تمكين ابنها من تعلم القراءة والكتابة ، ولم تكتف عند ذلك القدر فحسب ، بل أرادت أن تقوم بإرساله إلى الجد نوفل وهو رجل طاعن في السن يشاع بأنه يعتنق إحدى الديانات السماوية القديمة وهو الشخص الوحيد المتعلم في قرية الجساسة ..
غير أن الطفل كان له رأي آخر في هذه المسألة :
- لقد قمتي بتعليمي القراءة والكتابة وهذا يكفي !!
فقالت جومانا وهي تمسك أرنبة أنفه بلطافة :
نعم لقد أصبحت تجيد القراءة والكتابة أيها الرائع ، ولكن هناك الكثير من العلوم المهمة الأخرى ، والتي سوف تتلقاها بشكل أفضل لو أنك ذهبت للجد نوفل ..
كان هناك شيء غريب وجذاب في طريقة حديث جومانا يجعل ابنها يحب النظر إليها وهي تتكلم معه ، فهي طوال الوقت تحافظ على طيف ابتسامة لا يغادر وجهها ، وتصب كل تركيز عينيها عليه فتجعله يشعر وهو يتحدث معها كما لو أنه أهم شيء في الدنيا ..
2
أكملت قائلة:
- لن تبقى صغيراً طوال عمرك يا بني ستكبر يوماً ما وسوف تحتاج حينها لعقلك في هذه الحياة
- ثم أضافت وهي تلكز بإصبعها رأسه وتقول بطريقة محبة :
1
ولن يصبح عقلك هذا مفيداً من غير أن تغذيه بمزيد من العلوم والمعرفة ، اتفقنا ؟
4
- وإذا وافقت على الذهاب للجد نوفل فهل ستأتين معي ؟!
1
- لقد أصبحت أكبر من أن تحتاج لمرافقة والدتك.
أجابت بحنو
- لا أزال صغيرا فأنا في الرابعة عشرة من عمري فقط
- ثم أضاف متسائلاً هل ستأتين معي عند الجد نوفل أم لا ؟!
8
- ستذهب وحدك وسأظل في انتظارك هنا حتى تعود وتخبرني بالأشياء التي تعلمتها هناك ، اتفقنا ؟!
لا لم تنفق - قال بعناد - لن أذهب إلى مكان لا تكونين فيه معي
6
- وإذا قلت لك من أجلي ؟؟
- أنا أفعل أي شيء من أجلك ولكن ليس هذا الطلب أرجوك .
3
قال ذلك ثم صمت فجأة إذ سمع هسيس أقدام تتحرك عند عتبة باب البيت .
- ماذا هناك ؟ ! - تساءلت أمه .
- ابقي مكانك
- أجاب وهو ينهض ثم أمسك فردة حذائه وذهب ليستطلع الأمر وبعد قليل هتف :
50
-أنه بحر يا أمي.
2
ومثل عرائس الماريونيت والتي يتحكم بها شخص ما عبر خيوط دقيقة من خلف الستار ، راح الحنين بخيوطه اللامرئية يحرك جومانا نحو زوجها ..
بدا وجهه المتعرق بفعل حرارة الشمس أكثر شحوباً من المرة الماضية عندما جاء لزيارتهما قبل أربع سنوات ، وأسفل عينيه الحادتين ترتسم دائرتان بلون البنفسج تدلان على إرهاقه ، ورغم ذلك الذبول إلا أن تينك العينين كانتا ولا تزالان نقطة ضعفها....
قال بحر وهو ينظر إلى أبنة:
- لقد كبرت كثيراً !!
- لقد مضت أربع سنوات - قالت تعاتبه
- بالطبع سيكبر.
اقترب منهما محاولاً معانقتهما لكن الابن وقف بالمرصاد
- أبقى بعيداً لا تقترب منا !!
حاولت أمه أن تذكره بأحترام والده ، لكنه حدس ذلك فالتفت إليها قبل أن تتكلم
- هذا ليس أبي لقد تركنا منذ زمن طويل ورحل عنا !!
7
لم يبرر بحر غيابه كل ما فعله هو أنة قال مستسلماً
- حسنا سوف أبقى بعيداً
- ثم أضاف : إن كان هذا ما يرضيك .
صاح بحدة : ما الذي جاء بك ؟؟
- صاحت جومانا بانفعال :
اصمت يا ولد
- جئت كي أرسمك. أجاب مبرراً
- وسأغادر في اليوم التالي أعدك
- أبقى معنا لا ترحل مجدداً يا بحر !!
نظر إليها وابتسم محاولاً أن يخفي عنها آبار أحزانه الجوفية ، هو لا يستطيع أن يكشف لها أسباب الغياب بالطبع لأنه يعلم جيدا قطاعة ما قد يحدث لها ولابنه إن فعل ذلك قال بتماسك مزيف :
- لا أستطيع البقاء !!
2
بنبرة صوت باكية قالت :
- كفاك غياباً !!
- لدي الكثير من التجارة التي يجب علي الاهتمام بها.
كان يجب عليه وهو يكذب أن يغمض عينيه حتى لا تقرأ زوجته الكذب فيهما ، لقد فاته أن يتذكر أن الإناث يستطعن بغرائزهن قراءة لغات العيون وأن أكاذيب الذكور لا تنطلي عليهن أبداً ، قالت :
8
- قل الحقيقة ربما نستطيع مساعدتك !!
تدخل ابنها معانياً :
- توقفي عن التشبث بيد تريد الرحيل !!
28
صمت بحر ولم يعلق بينما قرأت جومانا في عينيه تبريراً :
- عندما تعرفان الحقيقة ، ستغفران لي كل شيء ...
2
أخرج من تحت ثيابه رقعة من ورق البردي وحجر فحم أسود :
- قف إلى جوار والدتك أيها الصغير
- ثم أضاف وهو ينظر لزوجته :
ابتسمي لكي تصبح الرسمة أجمل !!
7
مستخدماً حجر الفحم جعل يخطط أبعاد الرسمة بشكل خافت وحين انتهى من رسم الخطوط الأولية راح يهتم بالتفاصيل الدقيقة للملامح وخربشات الشعر ثم ولكي يضفي مزيداً من الواقعية على رسمته فإنه رسم الظلال بكثير من الاهتمام ، وعندما انتهى مسح بإصبعه الخطوط غير المرغوب فيها ..
وفي حقيقة الأمر لم يكن بحر أصلاً بحاجة لرؤية ابنه وزوجته حتى يقوم برسمهما ، فهو يجيد الرسم مستعيناً بقوة ذاكرته غير أنه كان يريد استغلال تلك الفرصة ليتأمل عائلته من غير أن يمنعه أحد من فعل ذلك ....
3
وعندما انتهى تقدم إلى حيث كان الابن يقف بجوار أمه ، مد رقعة ورق البردي إليه وراح يراقب ردة فعله من خلال تعابير وجهه ، لم يتمكن الابن من إخفاء مدى انبهاره بروعة الرسمة فلفرط براعتها شعر بأنه كان ينظر لولد وامرأة حقيقيين يسكنان داخل تلك الورقة ..
بدا مبتسما في الرسمة رغم أنه في الواقع كان يقف مقطب الحاجبين ..
واكتشف في تلك اللحظة فقط وهو يحدق في صورته أنه ورث عن والدته الكثير من تفاصيل وجهها الجميل الأمر الذي جعل ملامحه كانت ستبدو منطقيه لو أنها على فتاة أكثر من كونها على ذكر ..
سأله:
- ما رأيك في الرسمة ؟؟
فأجاب بكبرياء ومن غير أن يعيدها لوالده :
- أستطيع أن أرسم أفضل منها ..
1
ربت والده على شعره وقال بحنو
- أنا واثق من أنك تستطيع ..
3
في تلك الليلة لم يحاول بحر الاقتراب من غرفة زوجته لأنه كان متأكداً من أن ابنه لن يسمح له بالدخول ، لهذا فإنه لجأ لحيلة أشد مكراً أخبر أمك بأنني أريد وسادة أضعها تحت رأسي أيها الصغير .
تناهى ذلك الكلام لأذن جومانا التي كانت لم تخلد للنوم بعد وأدركت على الفور ما كان يرمي إليه زوجها من وراء ذلك الطلب ، فقامت بتمرير وسادتها البيضاء الخاصة إلى ابنها وقالت :
- أعطي أبوك هذه الوسادة .
احتضن بحر الوسادة العابقة برائحة زوجته الياسمينية ثم غط بنوم عميق ، وبهذه الطريقة سوف يتمكن من استدعائها في أحلامة من غير أن تكون هناك قوة في العالم تستطيع منعه من فعل ما يريد ..
7
******
في صباح اليوم التالي ، خرج بحر من غرفته منتشياً ، وكأن كل ما مارسه في أحلامه كان حقيقياً ..
34
كان الطفل حينها يجلس بجوار والدته يمسك الرسمة بيد بينما يحاول باليد الأخرى أن يرسم واحدة أفضل منها لكي يقهر بها والده ..
اقترب بحر منه وأستطاع أن يشاهد رسمة ابنه البدائية والتي تدعو للضحك أكثر من كونها تدعو لأي شيء آخر :
- لقد كنت محقاً حين قلت بأنك تستطيع أن ترسم أفضل مني !!
قال ذلك ثم خطف رقعة ورق البردي خاصته من يد ابنه طواها بعناية وخبأها في أحد جيوب ثيابه :
- منذ الآن وصاعداً عندما أشتاق إليكما سأنظر لهذه الرسمة
- وأنا ماذا أفعل عندما أشتاق إليك ؟! - سألت .
لم يجبها واتجه نحو الباب ليغادر لكنه توقف بعض الوقت ، استدار إلى الخلف بتردد كما لو أنه كان يريد أن يفعل شيئاً ليس واثقاً من عواقب نتيجته ،
ثم فجأة وبعد صمت امتد للحظات صاح بكل صوته مفزعاً بذلك الطيور التي كانت تستريح على حائط البيت :
- أحبكِ يا جومانا !!
18
فتح الباب ، ابتسم وهو يجيل النظر في دروب القرية وكأن تلك الكلمة التي باحَ بها للتو قد نجحت في إنعاش قلبه ، التفت مرة أخرى نحوها كانت عيناه تنيضان بالحياة أكثر من أي وقت سابق أجابها عن سؤالها قائلاً :
غني لي يا جومانا .. غني وسيحضر طيفي ليراقصك !!
6
طبع قبلة مطولة على راحة يده وأرسلها لزوجته عبر الهواء ، ابتسم للمرة ألثانية ثم غادر ..
1
أما الطفل فإنه وثب قائماً وأخذ يلكم الهواء بيديه كيفما اتفق حتى يشتت القبلة الهوائية تلك ويمنعها من الوصول لوالدته ..
52
بينما نظرت هي إلى الأرض لتخفي خجلها بعد أن شعرت بحرارة تلك القبلة وهي تهبط بسلام لمعانقة شفتيها...
10
*******
حين حل الظلام وجاء وقت النوم خرج الطفل كعادته مرتدياً الثوب الذي يصل طوله إلى منتصف ساقه يحمل في يده السراج المتآكل ليستعين بضوئه الخافت على الرؤية ..
طاف أرجاء البيت ليتأكد من إغلاق النوافذ والأبواب ومن إطفاء قناديل الحائط ..
1
انتهى من جولته التفقدية سريعا ثم عاد لوالدته حشر نفسه معها تحت اللحاف وهمس يسألها :
3
- ما هي قصة اليوم ؟!
1
كانت جومانا في تلك الليلة مشغولة البال تفكر في أمر ما وليست في مزاج جيد يتيح لها الكلام أبدا ، غير أنها في الوقت ذاته كانت تعلم أيضا بان ابنها لن يغلق عينيه وينام قبل أن تحكي له قصة فقالت :
- منذ وقت طويل .. طويل جدا .. كان هناك جيش كبير من البشر والجن والطير والرياح ، كانوا جميعهم يسيرون خلف رجل واحد اسمه النبي سليمان ..
13
متخيلاً ذلك الجيش الكبير وهو يسير تحت قيادة رجل واحد ردد الطفل اسم النبي مندهشا :
سليمان ؟!
قلت : كان ذلك الجيش الكبير يعبر من خلال وادٍ ضخم ،
اسمه وادي النمل.
فصآحت آنذاك نملة تدعى جرسًا:
-جرسا؟!
-نعم جرسا - أكدت والدته ، ثم تابعت :
صاحت جرسا بصوتها كله تخاطب بقية أفراد النمل :
{ ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون}.
حين سمع النبي سليمان كلام النملة ابتسم وشـ ...
- ولكن يا أمي - قاطعها متسائلاً
- كيف سمعها النبي سليمان وهي نملة صغيرة لها صوت صغير ؟ !
- الرياح - أجابت - الرياح هي من وضعت الكلام في أذنه ...
1
- الرياح ؟ !
- نعم إنها أحد جنود النبي !!
ردد متعجباً : الرياح !!
- حين سمع النبي سليمان كلام النملة ابتسم وشكر الرب على هذه القدرة التي خصه بها ، وأمر الجنود بالتوقف ..
فتوقف كامل الجيش ، ريثما يدخل النمل مساكنهم ...
ثم ولأنها كانت تريد الانتهاء من القصة بأسرع وقت
ممكن فإنها صمتت قليلاً قبل أن تقول الجملة الختامية والتي يفهم ابنها من خلالها أن القصة انتهت وأن موعد النوم قد حان :
- تذكر طوال عمرك يا بني أن الرب يجي ...
- أهذا كل شيء ؟ -اعترض
- هل انتهت قصة النوم ؟!
1
- يجب عليك أن تنام الآن لقد تأخر الوقت كثيرا !!
- ولكني أريد أن أعرف ما الذي حصل بعد ذلك ؟!
- سأخبرك غداً ...
- ولكن .... قاطعته قبل أن يكمل :
- يجب عليك أن تنام الآن وغداً سوف أكمل لك القصة .. استسلم أخيرا وهو يغطي نفسه باللحاف ..
بينما قالت أمه : تذكر طوال عمرك يا بني أن الرب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه
- ثم أضافت : اتفقنا ؟!
1
صحيح أنه لم يكن راضياً عن مدة القصة ونهايتها السريعة ، إلا أنه تفاعل مع جملة والدته الختامية ، فأغلق عينيه وجعل يحلل كل كلمة من تلك الجملة في عقله تحليلاً دقيقاً وحين استوعب وفهم كل معانيها سأل كعادته :
- أي دعوة يا أمي ؟!
- نعم أي دعوة
- اتفقنا !!
في تلك الليلة بالذات لم تتمكن جومانا من الخلود للنوم فقد كانت مشغولة البال تفكر في أمر ما :
« في الحقيقة التي يخبئها زوجها بحر عنها ، لقد شعرت اليوم وهي تنظر إليه بأنه متورط بشيء كبير جداً فقد كان ذلك واضحا من خلال تعابير وجهه المرهق وعينيه اللتين يقطنهما الخوف ..
كانت تائهة لا تعرف ما الذي يجب عليها أن تفعله ، ضائعة مثل فتاة صغيرة أفلتت يد والدتها وسط الزحام ..
ورغم كل ذلك التيه والشتات إلا أنها كانت تعلم جيدا إلى من يجب عليها أن تلجأ في مثل هذه الحالات .
تسحبت من جوار ابنها برشاقة لبؤة ثم سارت على أطراف أصابعها نحو باب البيت ، فتحته بحذر حتى لا تصدر مفاصله صوتاً يفضح خطتها التفتت يمينا وشمالًا لتتحقق من خلو الطريق ، وعندما تيقنت من أن أحدا لا يراها سارت بعيدا ..
15
لقد ذهبت شرقاً نحو المكان الذي لم يكن عليها أبداً أن تفكر بالذهاب إليه ...
...............
+
«أنتهى»
«أجتماع الأباطرة»

لم يكن القمر حاضراً في تلك الليلة المرعبة لذلك انتشرت النجوم في السماء على مد البصر ، والقرية التي كان سكانها نائمين بدت في ذلك الوقت المتأخر جداً من الليل كما لو أنها مكان قديم هجره البشر ..
اتجهت شرقاً نحو الغابة التي لم يسبق لبشري من قبل ان دخلها وخرج منها حياً الغابة المظلمة وهي أرض فسيحة تغطيها الأشجار العالية المتشابكة تقع في منتصفها قلعة حجرية كبيرة ذات طابقين سكنتها قديماً عائلة ملكية من الجن اسمها « عائلة الأباطرة » ..
2
دخلت الغابة من ممرها الواسع والذي يشبه مدخل كهف كبير ، غير مبالية بالأخطار التي تحفها أو ربما تحدث لها بالداخل ..
2
كانت تسير بخطوات ثابتة وسط الظلام وحفيف اصطكاك الرياح بأوراق الأشجار ، والأصوات الصاخبة لنقيق الضفادع ، والهسيس المنخفض لأجنحة الخفافيش ..
كانت جومانا تعرف أن هناك من يراقبها بعينين باردتين من وراء الأشياء ، ولكنها لم تبالي !!
3
******
ما أن اقتربت من تلك القلعة الصخرية ذات الطابقين حتى سمعت صوت يشبه زمجرة أسد غاضب ، رفعت بصرها نحو مصدر الصوت بقلق فرأت طائر ضخماً يجلس على قمة القلعة وينظر نحوها بغضب كما لو أنه يحاول تحذيرها من مغبة الاقتراب أكثر ..
ولكن لأنها تريد التحدث مع صاحبة تلك القلعة بأي ثمن فإنها أكملت سيرها غير مكترثة بالتحذير ..
فما كان من ذلك الطائر حين شاهدها تقترب ، إلا أن قفز من مكانه ضارباً الهواء بجناحيه الطويلين ، منطلقاً نحوها شاهراً في وجهها مخالب سوداء معقوفة ذات نهايات قاتلة :
2
- إكليل . صاح أحدهم ، من داخل القلعة
- عد إلى مكانك !!
وقبل أن يغرس الطائر مخالبه في جسدها أستجاب لذلك النداء فصفق الهواء مرة أخرى بجناحيه الطويلين ، ليرتفع بضعة أمتار نحو الأعلى ويستدير في الجو عائداً إلى مكانه ..
ثم ولأن أحداً لم يظهر في الأرجاء فإن جومانا تكلمت بصوت مرتفع
- أين أنتِ ؟!
4
وعندما لم تتلق جومانا غير الصرير الخافت الذي تبعثه حشرة الليل ، فإنها اقتربت بخطوات حذرة نحو بوابة القلعة ، وقالت بهمس يملؤه الرجاء :
- أرجوك أريد التحدث إليك !!
فتحت ذات الطائر الأحمر البوابة وقالت بقلق :
- ما هو الأمر الخطير جدا الذي دفعك للمجيء إلى هنا ؟!
2
- أليس مرحباً بي هنا ؟!  سألت جومانا بحياء .
ابتسمت لها ذات الطائر الأحمر بحنان بالغ وقالت :
- أنت تعلمين بأن أمك سترحب بك دائما أيتها الحمقاء ..
الشيء الذي كانت جومانا تحاول إخفاءه عن الجميع ، هو أن ذات الطائر الأحمر في الحقيقة تكون والدتها ، أما السبب الذي كان يدفعها لصدها دائماً عنها فهو لأنها تخاف من أن يقوم بحر بهجرها في أحد الأيام لو عرف بحقيقة كونها جنية ..
14
لقد تخلت في الماضي عن كونها فرداً من أفراد عائلة الأباطرة الملكية من أجل الزواج به ، وهي الآن ليست مستعدة لخسارته مهما كانت الأسباب ، قالت متوسلة:
- لم يعد في استطاعة قلبي أن يحتمل المزيد !!
- أظنك تتحدثين بشأن بحر 
هزت رأسها بضعف فبصقت ذات الطائر الأحمر على الأرض :
-تباً للرجال
- ثم أردفت : أتعلمين ؟! يجب ان نعاملهم مثل تعامل إناث العناكب مع ذكورها ، إنها تقوم بقتلهم بعد أن تأخذ منهم حاجتها !!
32
تجاهلت نصيحة والدتها الثمينة تلك وقالت :
- احتاج إليك يا تاج أنقذيني إن الوساوس تأكلني ابتسمت ذات الطائر لأحمر وهي تقول :
- مضى زمن طويل لم ينطق فيه أحد اسمي الحقيقي.
2
– ثم أفسحت مجالاً وأضافت : ادخلي وأخبريني ما الذي حدث معك ..
- لا أستطيع الدخول لا أملك الكثير من الوقت ، فقد يستيقظ ابني في أي لحظة ولن تجري الأمور بخير إذا استيقظ من نومه ولم يجدني !!
ابتسمت تاج ساخرة :
- ذلك الأحمق الصغير ماذا كان يظن عندما حاول مهاجمتي ؟!
- أعتذر لك بالنيابة عن الطفل
- لقد أصبح في عامه الرابع عشر وأنت لا تزالين تنادينه الطفل
- لقد قررت أن لا يسمية أحداً غير والده
6
- اختاري له اسما مؤقتاً على الأقل ، ما رأيك بأساطير كاسم أخوك ؟!
- البشر لا يسمون بهذه الأسامي - حسنا ما رأيك بس ... 
- لم آتي لأناقش معك اختيار اسم له
- معك حق .. حسناً ما الذي تريدين مني أن أفعلة
- بالطفل ؟!
- تبا لكِ وللطفل يا جومانا أقصد زوجك ..
ما الذي فعله بحقك وما الذي تريدين أن أفعله به ؟!
1
- لا لم يفعل شيئاً ، كل ما في الأمر هو أن قلبي غير مطمئن !!
ضحكت تاج ساخرة :
- هذا ما يحدث لقلب الأنثى عادة عندما يسكنه رجل
– ثم أردفت متسائلة : ولكن لماذا الآن ؟!
- ماذا تقصدين ؟!
- لقد صبرتي عليه كثيراً لماذا الآن بدا قلبك غير مطمئن ؟!
- عندما جاء بحر لزيارتنا اليوم ....
قاطعت حديث ابنتها والدهشة واضحة في سؤالها :
- بحر جاء لزيارتكما اليوم ؟!
- نعم وقال شيئاً لم أتمكن من فهمه ، وهذا ما دفعني للقدوم إليك قالت ذلك ثم أخفضت رأسها دليلا على تأثرها
- أرفعي رأسك وأخبريني عن الذي قاله !!
رفعت جومانا رأسها ثم حركت شفتيها سامحة للكلمات بالخروج :
- قالت عيناه لنا « عندما تعرفان الحقيقة ، ستغفران لي كل شيء »
3
- وأنت ما الذي تريدين مني أن أفعله ؟!
- أريد منك أن تخبريني بالحقيقة !!
بعد تردد قصیر همست تاج بحزم :
- أحضري لي شيئاً فيه من رائحة بحر !!
15
- شيئا فيه من رائحة بحر - تساءلت بغرابة – مثل ماذا ؟!
1
- لا أعلم .. أي شيء قطعة من ثيابه القديمة مثلاً .
كانت جومانا قد قامت منذ وقت طويل بغسل جميع الثياب القليلة التي يمتلكها زوجها ، لذلك فإنها لم تكن تمتلك شيئا فيه من رائحته :
- أعتقد أني لا أملك طلبك هذا !!
- فكري بحل فمن غير رائحته لن أتمكن من العثور عليه 
تذكرت شيئاً :
- لقد نام على وسادتي البارحة أستطيع أن أجلبها لك لو أردت .
- هذا جيد .. بقليل من الحظ قد يفي هذا بالغرض !!
- لن أتأخر - قالت وهي تستعد للعودة لبيتها ،
ث
م أضافت : سأحضر الوسادة وأعود بأسرع وقت ممكن .
وقبل أن تذهب أوقفتها تاج :
- ما الذي ستقدمينه لي مقابل هذه الخدمة ؟!
فأنت كما تعلمين أنا لا ألم خدماتي دون مقابل !!
التفتت إليها جومانا وقد بدا وجهها جاداً وهي تقول :
- ما الذي تريدينه ؟ 
ظلت تاج صامتة لبعض الوقت كانها تفكر في الثمن الذي سوف تطلبة وعندما طال صمتها ذالك كثيرا قالت جومانا بنفاد صبرة.
- اطلبي !!
- أريد منك أن تتوقفي عن مناداتي بـ تاج أو ذات الطائر الأحمر
- وكيف تريدين مني أن أناديك ؟
همست بخجل : أمي - وأضافت : هذا هو الثمن ..
32
ابتسم شيء ما بداخل جومانا كان طلب تاج لطيفاً هذا ما فكرت به
- ساجلب لك الوسادة وأعود بسرعة يا أمي !!
5
شعرت تاج عند سماع تلك الكلمة بشيء لا يمكن للكلمات وصفه لقد سمعت للتو الكلمة التي كانت كل يوم تستيقظ من نومها وهي تحلم بسماعها ولكن جومانا قالت وكأنها تضع خطًا تحت شرط مهم :
- ولكني سأقولها لك فقط عندما تكون وحدنا اتفقنا ؟ !
2
- وأنا سأحرص دائما على أن نكون وحدنا ..
4
أرادت أن تعود للبيت من أجل أن تجلب الوسادة التي نام عليها زوجها البارحة ولكن والدتها اقترحت عليها أن لا تذهب مشيا على الأقدام فقد يستغرق ذلك وقتا طويلا :
- دعي حصاني سابح يوصلكِ للبيت ..
- لا فليس من الحكمة أن يشاهدني أحد من القرية وأنا بداخل عربتك
- لا تقلقي لن يراكِ أحد
- قالت بثقة ثم صاحت : صابح !!
3
سمعت جومانا صوت عجلات عربة تقترب يجرها حصان أبيض ضخم يهز الأرض بحوافره الأربعة ، فتحت تاج باب العربة بيد ومدت يدها الأخرى لمساعدة ابنتها في الصعود إلى الداخل ، ثم همست في أذن الحصان :
لا تدع أحد يراك ..
8
*******
وضعت قدماً فوق قدم وهي تجلس فوق أحد المقاعد المريحة للعربة وتشاهد من خلال النافذة الأشجار المرتفعة المتشابكة للغابة المظلمة ، وهي  تسير إلى الخلف بسرعة ..
ثم وبينما هي تجلس هناك إذ راحت تسترجع في ذاكرتها تلك الأيام البعيدة عندما عرض عليها بحر الزواج.
- جومانا لقد فعلت في حياتي كل الأشياء القطيعة والتي قد تضمن لي دخول الجحيم من أوسع أبوابه ، لكنني لم أتخيل أبدا أنني سأكون شريرا للحد الذي يجعلني أفكر يوما بالزواج !!
بدهشة ممزوجة بغضب قالت حينها :
- ولماذا تريد أن تتزوجني طالما أنك ترى بأن الزواج شر ؟!
لأني أحبك – ثم أردف : أنا العاصي بكل شيء أدخليني جحيمك !!
30
في اليوم التالي وعلى أضواء النيران المشتعلة ، عقدت عائلة الأباطرة اجتماعا طارئا في الغابة ليناقشوا فيه أمر ارتباط ابنتهم الجنية ذات السلالة الملكية بمخلوق بشري ، وكانت تلك الحالة الأولى التي تشهدها العائلة منذ أن جاؤوا قبل سنين طويلة واستوطنوا أراضي الغابة المظلمة ..
1
اجتمع يومها جبار وكبراء الأباطرة حول الصخرة السوداء والتي كان منظرها يشبه لحد ما منظر طاولة اجتماعات كبيرة ..
اتجهت جميع الأنظار نحو جومانا والتي جلست وحيدة في الجهة المقابلة لهم ، مثل متهمة  التحقيق معها سألها جبار :
- هل تعلمين أن زواجك بمخلوق الطين ذاك ....
3
- إن له اسما يا أبي - قاطعت حديث والدها – بحر ، اسمه بحر !!
أحدثت تلك المقاطعة بعض الجلبة في الاجتماع حيث كان كبراء العائلة يتساءلون فيما بينهم حول موضوع واحد وهو :
كيف تجرأت جومانا على أن تقاطع حديت كبير  الجان!!
-هدوء أيها السادة- قال بغضب مكتوم وهو يشد بقبضة يدة الضخمة ،  ثم تابع قائلاً  بعد أن ألتزم الجميع الصمت
-هل تعلمين أن زواجك من بحر سوف يكلفك قوة النار خاصتك ، وبأن عينيك الحمراء ستنطفئان إلى الأبد ولن يكون في استطاعتك إشعالها مجددا وبأنك ....
- وبأنني سأصبح عاجزة مثل البشر تماماً
- قالت تكمل عن والدها .
3
وتضيف : أعلم كل ذلك يا أبي !!
- وهل تعلمين أيضا بأن قراراً كهذا ربما قد يحرم أطفالك قوة النار
- لا أريدهم أن يحصلوا عليها - قالت ذلك ثم
أضافت : وإن حدث ورزقت بمولود يحملها فإني سأبذل قصارى جهدي حتى ابقي الحقيقة عنه سراً فلا يستخدم قوته أبدا !!
  سرت همهمة في الاجتماع بين كبراء العائلة عندما سمعوا أن جومانا لا  تريد لأطفالها الحصول على قوة النار ، وأنها إن رزقت يوما بمولود يحمل القوة بداخله فإنها لن تخبره بالحقيقة ..
ضرب جبار صخرة الاجتماعات السوداء بقبضة يده الضخمة :
- هدوء أيها السادة - ثم اضاف وهو ينظر نحو ابنته بفضول : دعونا نفهم منها لماذا لا تريد لأطفالها أن يحصلوا على القوة ؟!
التزم الجميع الصمت ، فتكلمت قائلة : - حصول أحد أبنائي على قوة استثنائية خارقة للطبيعة البشرية ، سوف يثير بالتأكيد شكوك زوجي ، وقد يعرض أمري للافتضاح أصيب جبار بالدهشة مما سمعة للتو:
- هذا يعني أنك ستخفين حقيقة أصلك عن بحر ولن تخبريه بأنك من  الجن ؟!
- إنه يكره الجن - بررت - وأخاف أن يهجرني إن عرف بالحقيقة .
1
وهنا ومن اللاشيء اقتحمت تاج عليهم الاجتماع :
- وهل تعلمين أيتها الحمقاء بأن زواجك من مخلوق الطين ذاك ....
- بحر - صرخت مقاطعة
- لديه اسم يا أمي إنه يدعى بحر !!
11
- تبا لك يا جومانا - ردت تاج وأردفت بغضب : وهل تعلمين أن زواجك منه يعني التخلي عن كونك فرداً من أفراد عائلة الأباطرة ؟!
وهنا صمتت جومانا لبعض الوقت وكأنها كانت تعرف ذلك القانون جيدا أجابت بثقة :
- سيصبح بحر حينها عائلتي وسنكون أنا وهو عائلتنا الخاصة
- وهل يعرف أبوك من هو يحر -
قالت كمن يدفع شخصاً من قمة رأس جبل
- انظري إلى عينيه وأخبريه !!
استرعت تلك الكلمات انتباه جبار الذي نظر نحو ابنته وسأل :
- هل هناك شيء لا أعرفه ؟!
بتوتر لم تتمكن من إخفاءه همست :
- نعم لقد كان بحر في السابق يعمل مع الجاثوم !!
11
اتسعت عينا جبار ولم يعلق لفرط الفاجعة بينما أصيب كبراء عائلة الأباطرة بالخرس لهول المفاجأة ، فقالت تاج تخبرهم بالمعلومة الناقصة التي لم تقلها
- بل إنه كان واحدا من أكبر قادات الجاثوم !!
9
دافعت جومانا :
- وأخبرني بأنه نادم على ذلك يا أمي ولقد قطع لي وعداً بعدم العودة للعمل معهم
- ثم أضافت بعناد : وأنا أثق به وسأتزوجه !!
4
- لا تصدقي وعداً يقطعه لك رجل !!
35
قالت ذلك ثم التفتت نحو زوجها جبار بعتب
- قل شيئا لماذا تبدو موافقاً كيف تسمح لأبنتك بالوقوع في هذه المصيبة.
وتابعت بحسرة :
ألا يكفي الابن الذي خسرناه من قبل ولم نعد نعلم عنه  شيئاً ؟!
5
تمتم جبار بحدة وكأنه لم يكن راضياً عن وجود تاج بينهم :
يكفي !! غير أنها لم تكتفي وأكملت وهي تنظر مباشرة لعينيه :
- هل ستدع ابنتك تتزوج ذلك البشري دون أن تحرك ساكنا .
تدخلت جومانا : قلت لك بأن له اسماً يا أمي !!
9
- اصمتي أنتِ
- صرخت في وجهها كافعى تدافع عن بيضها ثم أضافت بغضب منفجر:
- هل تظنين أننا سنقف أنا وأبوك مكتوفي الأيدي بينما نشاهدك تقفزين نحو الهاوية ؟ !
1
ضرب جبار الصخرة السوداء بقوة كادت تقسمها لنصفين ، فصمتت تاج والتفتت جميع الرؤوس نحوه حبست الأنفاس في انتظار قراره الاخير والذي سينفذه الجميع من غير مناقشة ، قال وهو يوزع نظره في وجوه كبراء العائلة
- جميعنا سنحترم ما تقرره جومانا طالما أن الأمر لن يضر احدا من أفراد عائلتنا
2
- وأضاف : فلتتزوج من تشاء هذه حياتها ولديها كامل الحرية في أن تعيشها بالطريقة التي تراها مناسبة ،
ولكن جومانا منذ اليوم ووفقاً لقانون العائلة فإنها لم تعد واحدة منا ..
12
لقد تخلت عن كونها فرداً من أفراد الأباطرة بموافقتها على الزواج من مخلوق بشري !! حاولت تاج أن تطعن في القرار :
- إنها لا تعرف مصلحة نفس ...
-أصمتي أيتها اللعينة
8
قاطعها وهو ينظر إليها بحقد ، فأحنت رأسها بحزن
- واختفت .. ثم نهض من مكانه وهو يقول :
- سوف نرحل عن هذه الغابة فلن تعيش عائلة الأباطرة بجوار البشر مرة أخرى ، يكفي ما خسرناه حتى الآن سنجد لنفسنا مكانا آخر نختبئ فيه ، وهنا ينتهي الاجتماع !!
لم يأتي اليوم التالي إلا وقد غادر جميع أفراد عائلة الأباطرة خلف جبار باستثناء تاج التي قررت أنها لن تغادر وذلك من أجل البقاء قريبة من ابنتهاء ورغم أن جومانا أخبرتها بأنها لن تعترف بها ، وبأنها سوف تقوم بصدها في المستقبل كلما حاولت الاقتراب منها ، إلا أنها لم تكترث لذلك وقالت بحنان أم لا تغضب من أبنائها مهما عقوها :
31
-يكفيني أن أتنفس من نفس الهواء الذي تتنفسين منة....
25
******
وصلت جومانا إلى بيتها أخيراً تسلك بحذر إلى الداخل حتى لا يستيقظ الطفل ويفسد عليها الأمر ...
أخذت الوسادة التي نام عليها زوجها البارحة وعادت للجلوس في العربة لينطلق بها سابح عائد نحو القلعة ...
وفي الطريق حاولت أن تصفي عقلها من الذكريات حتى تبدو متماسكة وثابتة أمام والدتها ..
وعندما وصلت للقلعة وجدت أمها لا تزال تقف في مكانها تنتضرها هبطت جومانا من العربة :
- خذي - قالت وهي تمد الوسادة - لا تزال رائحته فيها
- هذا جيد – قالت تاج - سأزورك غداً في المساء ومعي الخبر
- بقيت هناك مشكلة واحدة يا أمي - أعربت عن قلقها
- الطفل لن يسمح لك بالدخول ، إنه لا يسمح لأحد بالاقتراب مني بالإضافة إلى أنه سيسألني عن سبب وجودك في البيت !!
- لا عليك هذه ليست مشكلة سأتصرف معه ..
******
في مساء اليوم التالي :
كان الطفل جالسا بجوار والدته يرسم بحجر الفحم على ورق البردي ، محاولا تطوير مهاراته في الرسم عندما لاحظ أمراً غريباً فقد كانت أمه لا تكف عن التحديق عبر النافذة ، تنظر بنفاد صبر نحو باب البيت كما لو أنها  تنتظر قدوم شخص ما ، سألها :
- هل كل شيء على ما يرام ؟! لم يتلقى منها إجابة فتأكد أكثر بأن ثمة شيئا غير عادي يحدث :
- هل تنتظرين قدوم أحد - لم تجب عليه للمرة الثانية ، فأضاف بعصبية : أمي ما بك ؟!
انتبهت عليه فأجابت بتوتر دون أن تكف عن التحديق نحو الباب :
- لا شيء يا صغيري لا تشغل بالك ..
وفي تلك اللحظة بالضبط طرق أحدهم الباب ، قالت وهي تنهض
-واصل  تمرينك في الرسم بينما أذهب لأرى من هناك أمسكها من طرف ثوبها قبل أن تبتعد
- رجال البيت هم من يفتحون الأبواب – قال .
74
******
حين فتح الباب وجد امرأة كبيرة في السن تحمل في يدها وسادة بيضاء وفوق رأسها بأمتار يرفرف طائر أحمر اللون ذو أجنحة طويلة ..
تذكرها فوراً إنها تلك المرأة التي تهجمت عليه وعلى أمه في ذلك اليوم قالت :
- هل أمك هنا أيها العفريت الجميل ؟!
3
كان يريد أن يغلق في وجهها الباب ولكنه لم يتمكن من ذلك ، لأن الباب تجمد في مكانه فجأة ..
اقتربت منه تاج وهي تردد بصوت منخفض كلمات غير مفهومة وحين انتهت نفشت في وجهه من ريقها ، وأعادت تطرح السؤال عليه :
- هل أمك هنا أيها العفريت الجميل ؟!
- نعم - قال بشرود ، ثم أشار نحو الغرفة – هي تجلس هناك. 
على الرغم من أنه كان يتنفس بطريقة جيدة وجميع وظائفه الحيوية تعمل بكفاءة عالية ، إلا أنه لم يعد في استطاعته تحريك أطرافه أو الشعور بشيء مما يدور حوله .
- تمتلكين ابناً مزعجا قالت وهي تدخل - سامحيني على ما فعلته به ..
من خلال النافذة نظرت جومانا نحو ابنها ، فوجدته متصلبا في مكانه لا . يتحرك : - ويلي .. ما الذي فعلته به ؟!
4
- تعويذة بسيطة ستضمن لنا بقاء هادئاً ريثما ننتهي من حديثنا
3
- أتوسل إليك يا أمي أن لا تفعلي به شيئا سيئا
- أتعلمين ؟! إنه يذكرني بك كثيرا يا جومانا فعندما كنت بمثل عمره كنت شيئاً مزعجاً للغاية
– ثم أضافت تطمئنها على كل حال لن يحدث له شيء سأعيده لك مثل ما كان قبل أن أرحل.
أعادت الوسادة البيضاء لابنتها
- خذي لقد استفدنا منها كثيرا - وأضافت : من غيرها ما كان في أستطاعتي العثور علية
- وما الذي توصلت له ؟!
أجابت تاج ببرود وهي تجلس : لقد عاد بحر للعمل مع الجاثوم وأنت وابنك في خطر مميت
10
- ثم أضافت : زوجك يعيش الآن في بيت واحد مع فتاة سمراء من قرية الساحرات إسمها أيار تقص شعرها مثل الصبيان ، ورغم نحالتها إلا أن عليها اللعنة تمتلك مؤخرة ضخمة تشبه مؤخرة فرس نهر .
109
**********
«أنتهى»
«الغابة المظلمة»

كان بحر في الماضي يعد أحد أكبر القادات في منظمة كبيرة اسمها الجاثوم تقوم بممارسة الجريمة في جميع مدن وقرى مملكة أبابيل ، من غير أن تتمكن أجهزة الدولة - رغم الجهود المبذولة - من إلقاء القبض عليها أو على أحد أفرادها نظراً للبراعة والخفة التي يتمتعون بها ..
3
ولكن بعد أن التقى بجومانا وأصابهما الحب بسهامه اختلف كل شيء ، فقد أقلع عن العمل مع منظمة الجاثوم نهائياً ، وقطع لها وعداً بأن لا يعود لهم ..
لذلك أصاب الإحباط قلبها وهي تسمع الخبر
- هل أنتِ واثقة من ذلك ؟!
- ما كنت لأنقل لك خبراً مثل هذا لو لم أكن واثقة !!
- ولكنه وعدني بأن لا يعود للعمل معهم ..
- أخبرتك من قبل أن لا تصدقي وعداً يقطعه لك رجل !!
5
صمتت جومانا لبعض الوقت ثم سألت :
- ما الذي يجب علي أن أفعله ؟!
- عليك أن تحزمي حقائبك وتأتي للعيش معي في القلعة-قالت تاج
وأضافت: فهناك في الغابة ومع وجودي أنا وإكليل لن يستطيع أحد الاقتراب منكِ أو من أبنكِ  .
1
عندما سألت جومانا قبل قليل : « ما الذي يجب علي أن أفعلة» كانت تقصد أن تقول ما الذي يجب عليها أن تفعلة مع  زوجها وما هي الطريقة الأنسب  للتصرف معه ولم تكن تقصد الشيء الذي فهمته تاج ، قالت:
سأبقى حتى يعود زوجي وأتحدث معه بخصوص هذا الأمر ..
الحب بالنسبة للمرأة هو أهم معركة في حياتها ،والمرأة بطبعها العنيد لا تنسحب ابداً من معاركها ، حتى وإن كانت خسارتها مؤكدة ...
16
كانت تلك  ،  إحدى أكثر معادلات الحب التي لم تتمكن تاج من استيعابها لذلك فإنها قالت بغضب:
تباً لكِ ولزوجكِ يا جومانا ولهذا القلب الذي تمتلكينه أقول لكِ أن زوجكِ عاد للعمل مع منظمة الجاثوم ، وبأنكِ وأببكِ في خطر مميت وأنت تقولين لي بأنكِ سوف تنظرينة حتى يعود ، لو كنت مكانكِ لهربت !!
3
- تقولين ذلك لأنكِ لم تجربى أن يتعلق قلبكِ بأحدهم !!
8
-هل أبدو لك غبية للحد الذي يجعل قلبي يتعلق بأحدهم  ؟!
27
  تجاهلت النقاش مع والدتها في ذلك الأمر وسألت :
- فقط قولي لي أين أستطيع العثور على بحر ؟!
- لن أخبركِ ..
- لماذا ؟
قالت معترضة - هذا ما جئتك البارحة من أجله !!
لأنك سوف تموتين لو حاولت اكتشاف الحقيقة ..
رغم الكلام الخطير الذي نقلته إليها تاج إلا أنها لم تكن تفكر فقط في أمر عودة زوجها للعمل مع المنظمة ، بل كان ثمة شيء آخر يشغل بالها وهو :
  تلك الفتاة التي اسمها أيار والتي يعيش معها زوجها في بيت واحد ، وعن الأشياء التي قد يفعلانها خلف الأبواب المغلقة عندما يحل الليل عليهما وتقرع الشهوة طبولها ..
23
لقد اشتعلت الغيرة في قلبها ولا شيء يصبح أكثر جنوناً وغباء من امرأة تغار :
3

- حدثيني عن تلك التي تسكن مع زوجي
6
انفجرت عليها تاج :
- هل هذا وقت الغيرة أيتها الحمقاء ؟!
2
تعلم بأن والدتها على حق ولكن من يقنع قلبها بذلك ، فقد كانت الغيرة تحرقها مثل عصير ليمونة فوق جرح نازف .. ورغم هذا إلا أنها لا تستطيع أن تكف عقلها عن التفكير بهذا الأمر  ...
9
كان ثمة شعور داخلي يقول لها بأن هناك شيئاً ما أجبر زوجها حتى يعو للعمل مع  منظمة الجاثوم ، ورغم أن ذلك لم يكن يتعدى كونه مجرد أحساس فقط إلا أنها كانت واثقة من صدق إحساسها ، قالت :
2
- أريدك أن ترتبي لي موعداً لمقابلة أبي !!
- لماذا تريدين مقابلته ؟!
- أريده في أمر .. أتوسل إليك أن ترتبي لي موعداً معه -
أنت تعلمين بأن الشخص الوحيد الذي يستطيع فعل ذلك هي الوزيرة خیزران ..
- وأين هي خيزران وكيف أستطيع العثور عليها ؟!
انزعجت تاج من ذلك الطلب فقالت :
- أخبريني بصراحة ما الذي تريدينه من والدك ؟!
- أريده أن يحارب الجاثوم فهذه الطريقة الوحيدة التي قد تعيد لي بحر ....
لن يوافقوا- قالت قاطعة عليها الأمل - فأنت لم تعودي واحدة من العائلة حتى يوافقوا على مساعدتك ، كما أنك تعرفين بالأمور الفظيعة التي حدثت قدم بين الأباطرة والجاثوم ، وهم ليسوا مستعدين لتكرار تلك التجربة مرة أخرى ....
أحست بخوف ابنتها التي صمتت ولم تقل شيئا :
- ليس ضرورياً أن تأتيان للقلعة أستطيع البقاء هنا لحمايتكما إن أردت .
- لا .. فقد يأتي بحر في أي وقت ولن يكون مسروراً لو جاء ورآك هنا
7
- لن يراني ، سأغادر في اللحظة التي يدخل فيها من الباب
- والطفل ماذا سأقول له حين يسألني عنك ؟!
- أنا أمك يا جومانا ، وأنا جدته أيضا .. ...
- هو لا يعرف ولا أريده أن يعرف بأنك جدته - قالت جومانا ذلك ثم وضعت يدها على فمها ، نظرت نحو والدتها بندم وكأنها انتبهت للخطأ الفظيع الذي وقعت فيه
– أقصد أن أقول بـ ...
- لا تقولِ شيئاً – قاطعتها .
-لا تسيئي فهمي كل الأمر هو أني لا أريده أن يعرف أنك ...
جنية - قالت تاج ثم همست بوجع : لقد حفظت الدرس جيداً لا داعي لأن تكرريه على كلما التقينا ..
12
- أرجوك لا تغضبي مني يا أمي . 
تجاهلت تاج الأمر ثم قالت في محاولة أخيرة لمساعدة ابنتها :
- خذيه وأهربي به بعيداً  .
لم تكن الفكرة مناسبة بالنسبة لها فهي ليست من النوع الذي يعالج مشاكلها بالهرب ، وفي الوقت ذاته تعلم بانها مهما ابتعدت كثير فإن جميع الطرق في النهاية ستعيدها نحو الذي يسكن قلبها ..
3
همست بخيبة :
- الأمور لا تسير بهذه البساطة يا أمي .
2
أيقنت تاج أخيراً بأن لا فائدة ترجى من الحديث مع ابنتها لذلك فإنها سارت نحو الباب الخشبي لتغادر ..
ولكنها قبل أن تذهب توقفت مباشرة أمام الطفل الذي لا يزال متصلبا في مكانه مثل تمثال شمع ، وقالت :
- إنه جميل جداً يا جومانا فبالرغم من كونه ذكر إلا أنه يشبهك كثيراً
3
- ماذا أقول له حين يستيقظ من غفوته هذه ؟!
- لا تقلقي لن يكون من السهل عليه أن يتذكر وقبل أن تزيل عن حفيدها  مفعول تعويذتها قالت :
- هل أنت متأكدة من أنك لا تريدين إخباره بالحقيقة ؟!
- لقد انتهينا من هذا الحديث يا أمي !!
- إنه يستحق أن يعرف بأنه مختلف يا ابنتي !!
- إنه ابن بحر ابن الطين هل نسيتِ ؟!
2
ابتسمت تاج بمكر وهي تقول :
- يبدو أن هناك خللاً يصيب عقول الذين يقعون في الحب.
7
- ماذا تقصدين ؟! 
- أنتِ التي انطفأت عيناكِ وزالت قوة النار خاصتكِ نهائياً بعد ارتباطكِ ببحر
- ثم وضعت يدها فوق قلب حفيدها وتابعت :
ولكن هذا الولد يمتلكها .
-وما أداركِ أنتِ ؟! سألت بشك .
-لأنني سمعتها في صدرة عندما قمت بحملة بين يدي لأول مرة !!
وهنا فهمت جومانا الأمر وعرفت لماذا جاءت والدتها لزيارتها في ذلك اليوم لقد جاءت فقط لكي تتحقق مما إذا كان حفيدها يمتلك القوة بداخلة أم لا، لهذا طلبت أن تتمنى له حياة سعيدة بينما في الحقيقة لم تفعل ذلك قد ألقت في  أذنه التعويذة التي اكتشفت من خلالها بانه مخلوق مختلف  يمتلك في داخله الطين والنار !!
قالت بغضب من تعرض لخيانة :
لقد فهمت سبب مجيئك إلي في  ذلك اليوم 
لم تحاول تاج الدفاع عن نفسها وقالت معترفة :
هذا الولد يستطيع أن يصبح قويا جدا يا جومانا لو أنكِ سمحتي لي  بتحريك النار وإشعالها بشكل دائم في داخله قبل أن يتجاوز مرحلة البلوغ  عندها ذلك الأمر مستحيلاً !!
رفعت جومانا يدها نحو الباب، ثم قالت من غير أن تعلق : - ارحلي من هنا !!
9
حاولت الأم أن لا يبدو عليها الحزن، وهي تشاهد ابنتها تقوم بطردها  من البيت ورغم ذلك إلا أنها قالت بكبرياء، لا يخلو من انكسار واضح :
3
- كما تشائين ...
ثم وضعت يدها فوق رأس الطفل وقرأت بينها وبين نفسها كلاماً بصوت منخفض وقالت قبل أن تغادر :
- سوف يحتاج لبعض الوقت حتى يختفي مفعول التعويذة عنه ..
بعد قليل من الوقت بدأت عيناه تستعيدان قدرتهما على الرؤية، وبدأ يشعر بالدم وهو يجري في عروق جسده ثم شيئاً فشيئاً بات في مقدوره الإحساس بالأشياء من حوله .
- هل أنت بخير - قالت أمه
- هل تريد أن أخذك إلى حكيم القرية؟!
لم يتكلم بل راح يركض نحو الباب ..
فتحه لكنه لم يجد أحداً قال:
-كانت هناك امرأة تقف في الخـ ...
- لا ، لم يكن هناك أحد في الخارج - قاطعته . .
-ولكني رأيتها وكان معها عصفور كبير لونه أحمر.
1
طوقته بين ذراعيها وهمست :
إنها تخيلات لم يكن هناك أحداً .
كان يؤمن بأن أمة لن تكذب عليه لذا فإنه صدقها وكذب عينيه : تمتم " لم يكن هناك أحد إنها تخيلات !!
3
هل أستطيع أن أطلب منك شيئاً يا صغيري ؟!
- أي شيء لأجلك !!
1
- أبوك
- ما به ؟!
- فتش عنه .. اعثر عليه حتى ولو كان مختبئاً تحت الأرض !!
12
انطلق للتفتيش عن والده في دروب القرية المتشابكة ولفرط حماسه في البحث فإنه قد ابتعد كثيراً حتى وصل لنقطة اختفت فيها البيوت تماما عن مجال نظره ووجد نفسه وحيداً أمام غابة كبيرة كان منظرها من الخارج يغريه بالدخول إليها ، ولكنه ما كاد يتقدم خطوتين باتجاهها حتى سمع فحيح صوت أنثوي مهيب ينبعث من عمق الغابة ، يقول محذراً :
- لا تدخل أيها الصغير !!
- من أنت ؟ - سأل .
- اسمي تارا وأنت ابن جومانا أليس كذلك ؟!
2
- كيف عرفتِ ؟! - قال مندهشا .
- أنت تشبه أمك كثيراً
- تعرفين أمي ؟!
- أنا وسمو الأميرة جومانا كنا صديقتين
- أمي أميرة ؟!
2
لم يجبه أحد وأمتد الصمت طويلاً وكأن صاحبة ذلك الصوت اكتشفت أنها قالت شيئاً ما كان ينبغي لها أن تقوله ، حاول الطفل أن يحقق معها بشأن تلك المعلومة ، غير أنه بدا كما لو كان يتحدث وحده مع الأشجار العالية لتلك لغابة ثم فجأة عاد الصوت مجددا بعد انقطاع :
- ما الذي جاء بك لهذه المنطقة ؟ !
- كنت أبحث عن بحر عندما وجدت نفسي مصادفة هنا .
- أمك طلبت منك أن تفتش عنه ؟!
- أجاب - هي طلبت مني ذلك !!
- عد إليها وقل لها بأن لا تفتش عن زوجها أبدا !!
هنا وفي هذه اللحظات سمع صوتاً آتياً من الخلف يقول :
- ماذا تفعل القملة الصغيرة في مكان خطير مثل هذا ؟!
4
كان سعيدا بلقاء أيوب ، للحد الذي جعله يركض من غير شعور نحوه لمعانقته .
- هل كنت تتحدث مع أحدهم ؟!
- كنت أتحدث مع تارا - قال وهو يشير بإصبعه نحو الغابة .
- هذه الغابة مهجورة ولا يسكنها أحد .
- ولكني واثق من أنني كنت أتحدث مع أحدهم !!
أخبره أيوب بأن تلك المنطقة اسمها الغابة المظلمة وهي مهجورة منذ زمن بعيد وبأن أحدا لم يسبق له من قبل أن دخلها وخرج منها حياً لذلك فلا أحد يعرف ما فيها .. وعندما سأل الطفل عن سبب تسميتها بالغابة المظلمة أجابه قائلا :
- لأنها مظلمة طوال الوقت فحتى أشعة الشمس بالكاد تستطيع الدخول إليها بسبب الأشجار الكثيفة والتي تغطي مساحتها
- ثم سأله خارجا موضوع الغابة : ولكن لم تقل لي ما الذي أخرجك من البيت ؟
تذكر طلب والدته فقال :
- للبحث عن بحر – وأضاف : هل تعرف أين أجده ؟!
- لا لا لا ، أنا لا أعرف مكان والدك كما أني لم أره منذ مدة طويلة. كانت أدوات النفي الكثيرة المستخدمة في الإجابة دليلا على أنه يكذب .
  ـ أنت لا تقول الحقيقة -قال
- أخبرني أين أجده !!
- أخبرتك بأني لا أعرف
وهنا قال مهدداً :
- ألم تخبرك أمك إلى أي مكان مخيف يذهب أولئك الذين يكذبون؟!
صمت أيوب قليلاً يتذكر ما حدث له قبل أعوام طويلة حين كان صبيا يُباع ويُشتري في أسواق الجواري والعبيد.. إنه لا يذكر شيئا عن ماضيه السحيق ولم يجرب طيلة حياته معنى أن تكون له عائلة:
- لا، لم تخبرني
- كان يجب عليها أن تخبرك بأن الكاذب يذهب إلى الجحيم يا أيوب إلى الجحيم أتفهم؟!
5
ابتسم أيوب، وهو يشاهد عصبية الطفل
- سأكرر سؤالي مرة أخرى وأريدك أن تكون صادقاً في إجابتك معي هذه المرة اتفقنا ؟!
هز أيوب رأسه موافقاً بينما صاح في وجهه معترضاً :
- لماذا لا تقول اتفقنا؟!
- اتفقنا ..
-  اتفقنا !!
کرر سؤاله :
- هل تعرف أين أجد بحر ؟!
كان أيوب يدرك في قرارة نفسه أنه من الخطير جداً إخباره عن المكان الذي يقيم فيه أبوه ، ورغم ذلك إلا أنه لم يتمكن من مواصلة الكذب فقد كانت هناك طاقة غريبة تنبعث من الطفل وتؤثر في عقله مباشرة وتجبره على قول الحقيقة قال أيوب وهو يبتعد:
- اتبعني سأقودك إلى مكانه ..
بعد مسافة طويلة جداً قطعاها معاً سيراً على الأقدام، توقف أيوب فوق إحدى الهضاب المرتفعة المكسوة بالأعشاب والمروج الخضراء، وأشار بأصبع ضخم كما حبة الكوسة كان ينهض وحيداً بالقرب من أحد الأنهار
- تجده هناك - ثم أضاف: ولكن هب يجب علي أن أحذرك
من الفتاة التي ستفتح لك الباب
- الفتاة التي ستفتح لي الباب؟!
- اسمها آيار - قال أيوب ثم أضاف:
اسألها عن موعد عودة أبوك وأياك أن تقول لها بأنه أبوك، هل تفهم ؟!
-ماذا أقول لها إذاً
- لا أعرف .. أي شيء ولكن المهم هو أن لا تقول لها بأنه أبوك - ثم تابع كما يجب عليك أن لا تجب عن أي سؤال آخر توجهه إليك
1
- لماذا
- كف عن طرح الأسئلة أيها المزعج، وافعل كما أخبرتك !!
سار الطفل نحو البيت الذي أشار إليه أيوب كان بيتاً صغيراً صنع من الحجارة والطين وجذوع الأشجار، وكان منظره الصامت من قريب يوحي بأن لا أحد يسكنه، الأمر الذي جعله يلتفت للخلف نحو أيوب ويقول :
- هل أنت واثق من أن بحر يسكن هذا البيت ؟!
لكن أيوب كان قد اختفي من مكانه فتساءل الطفل :
- أيوب أين أنت ؟؟
- وعندما لم يجد جواباً صاح :
- أين ذهبت ؟!
- اخفض صوتك أيها المزعج - قال أيوب الذي كان يختبئ خلف الشجرة :
- سوف أبقى هنا ريثما تطرق باب البيت وتعثر على والدك ..
- لماذا تختبئ ؟!
كان أيوب يريد شرح الأسباب ، ولكنه تذكر أن الطفل لن يفهم شيئاً .
- اطرق الباب فقط، ولا تنسى الأشياء التي أخبرتك بها !!
- أي أشياء؟!
2
عاد يكرر عليه:
- لا تخبرها بأنه أبوك، لا تجب عن أي سؤال توجهه لك ..
طرق باب البيت لأكثر من مرة دون فائدة وقد كان في طريقه لأن يستدير عائداً وينسحب من هناك، لولا أن سمع في آخر لحظة أصوات أقدام تقترب ...
فتحت له الباب فتاة سمراء نحيفة ترتدي فستانا قصير بفتحة صدر واسعة يظهر أغلب مناطق جسدها السرية ...
3
- هل بحر يسكن هنا؟! - سأل وهو يختلس نظرة للداخل .
- نعم ولكنه ليس هنا الآن - ثم سألت : ولكن من أنت ؟!
أراد الكذب لكنه لم يكن معتادا على ذلك فقال :
- بحر .. إن ه... هو ... أبي !
10
تبدل وجه آيار وهي تقول :
- أنت ابن عقربة الجن إذا ؟!
3
لم يفهم ما الذي كانت تقصده بقولها عقربة الجن، فقال متجاهلاً :
- أريد أن أتحدث مع بحر في أمر مهم، هل هو هنا ؟!
إنه ليس هنا الآن - ثم أضافت بمكر لكي تستدرجه في الكلام: ولكنني أستطيع أن أخبره بما تريد عندما يعود .
انطلت تلك الحيلة عليه فقال :
- أخبريه بأن أمي ترغب في رؤيته مرة أخرى ..
ارتفع حاجباها للأعلى
وقالت كمن يقع على سر خطير :
- هل جاء والدك لزيارتكم في الأيام الماضية؟!
- نعم - قال - جاء لزيارتنا مرتين .
15
أصابتها الصدمة عندما عرفت بأن بحر قام بزيارة عائلته سألت :
- وكيف عرفت أنه يسكن هنا هل هو من أخبركم ؟!
- أيوب أخبرني !!
- أيوب أخبرك - سألت مندهشة: وأين هو؟!
أشار نحو الشجرة التي يختبئ خلفها :
30
- هناك خلف تلك الشجرة ...
60
عندما عرفت أن أيوب خلف الشجرة فإنها دخلت البيت وتناولت شيئاً ما في يدها لم يعرف الطفل ما هو لأنها دسته تحت قطعة من قماش وخبئتة خلف ظهرها..
اتجهت نحو الشجرة تسير بحذر على أطراف أصابعها، ولكنها عندما نظرت للجهة الأخرى لم تجد أحداً:
- لا يوجد أحد هنا هل كنت تكذب ؟!
- لا أنا لا أكذب ..
اختفت آيار من مكانها بتأثير السحر ثم ظهرت أمامه بلمح البصر، وربما اقترابها الشديد منه آنذاك هو ما سمح له برؤية العروق السوداء الدقيقة والتي لفرط غضبها أصبحت تغطي وجهها ..
أمسكته من تلابيب ثيابه بيد واحدة ورفعته بضع بوصات عن الأرض، ثم وباليد الأخرى التي كانت تخبئها خلف ظهرها، جعلت تقرب من عند رقبته خنجراً حاد النصل :
- سأقتلك إن لم تخبرني عن هوية الشخص الذي ذلك على هذا البيت
- أنا لا أكذب إنه أيوب !!
ضغطت بالخنجر على رقبته أكثر :
«لا تكذب،» قالت وجهها منه حتى لعقت بلسانها الطويل شفتيه المكتنزة وكأن آيار بتلك الطريقة كانت تتذوق الصدق في كلامه، شعر الطفل بالاشمئزاز وهو يمسح شفتيه بكف يده :
12
- صدقيني - قال بخوف .
أفلتته من يدها وقالت قبل أن تدخل للبيت وتغلق الباب في وجهه :
- من الأفضل لك أن لا تدعني أراك مرة أخرى ..
بعد ذلك ذهبت نحو مطبخها فتحت درجاً صغيراً أخرجت منه قارورة مستطيلة مرسوم على زجاجها صورة لعظمتين متقاطعتين وجمجمة مكتوب أسفلها كلمة من حرفين :
(سُم) ثم أخرجت جرة ماء صغيرة بنية اللون،
وطبقاً من الطعام لونه أبيض ..
  لقد أخطأ أيوب كثيرا عندما دل الطفل على البيت الذي يسكن فيه والده ،ولكنه لم يفعل ذلك إلا لأنه حقاً كان تحت تأثير شيء غامض ينبعث من عينيه
البندقيتي اللون يجبره على قول الصدق ...
وما يجعله الآن يشعر بالخوف أكثر هو إدراكه أن الساحرة آيار لن تسكت، بعد أن عرفت بأن بحر ذهب لزيارة عائلته وأن جومانا تسعى لاكتشاف الحقيقة ..
2
عندما قام أيوب بأيصال الطفل إلى البيت أنتبه لجرة ماء صغيرة بنية اللون وطبق من الطعام لونه أبيض كانا يقفان عند عتبة الباب :
- لمن هذا الطبق وهذه الجرة ؟! - تساءل بشك .
أما الطفل الذي كان معتادا على أن يستقبل كل يوم من الجيران أطباق الأطعمة وجرار الماء، ويدخلها للبيت من غير حتى أن يعرف هوية مرسلها فإنه أجاب قائلا :
4
«يبدو أن إحدى صديقات أمي تركت الأكل هناك كالعادة»..
3
هز أيوب رأسه وابتعد إذ إنه لم يكن يعتقد أبدا أن آيار ستنفذ حكم الإعدام، بتلك السرعة !!
دفع الطفل باب البيت بقدمه، واتجه نحو المطبخ حاملاً بيده الجرة وطبق الطعام وضعهما هناك، ثم ذهب لينقل لوالدته الأخبار .
. فقص عليها كل شيء منذ اللحظة التي غادر فيها البيت وحتى عاد، إلا أنه نسي إخبارها بما حدث عند الغابة المظلمة وذاك الحديث الذي دار بينه وبين تارا ..
1
شعرت جومانا بالغيرة أكثر من أي وقت مضى خصوصاً عندما أكد لها ابنها أن تلك الفتاة السمراء التي اسمها آيار تعيش فعلاً في بيت واحد مع والده :
- صف لي تلك الفتاة
- لقد كانت طوال الوقت غاضبة !!
- أريد أن أعرف من أجمل هي أم أنا ؟!
- أنتِ لأنك لا تغضبين علي مثلها .
- لا أحدثك عن هذا قل لي من الأجمل ؟!
-أنتِ لأنك لا تقفلين الباب بوجهي .
وهنا أمسكت أبنها من ثيابة جرتة إلى الخارج  تدفعة ركلاً بقدمها على مؤخرته،  وما كاد يلتفت نحوها محتجًا حتى صفعته بقوة أسالت الدماء من عند فمة .
- لماذا تفعلين هذا بي ؟!
22
لم تجب عليه وأغلقت في وجهه باب البيت كما فعلت معه آيار تماماً
- الآن أصبحت أنا وهي متعادلتين  - قالت جومانا من خلف الباب ،  ثم سألت:
قل لي من هي الأجمل أنا أم تلك الفتاة ؟!
14
أخذ يبكي بصوت غير مسموع ..
1
بينما قالت :
- لقد غضبت عليك وأغلقت الباب بوجهك مثلما فعلت أيار معك أخبرني الآن من الأجمل هي أم أنا ؟!
1
- أنا لا أحبك !!
8
كانت تلك الكلمة التي قالها أبنها أشبه بصفعة يتلقاها شخص استيقظ للتو من نوم طويل، لم تصدق أمه ما سمعته، فتحت الباب على مهل أطلت برأسها للخارج وقالت بدهشة :
- ماذا قلت ؟!
- لماذا تفعلين هذا بي - صاح في وجهها - أنا أكرهك !!
قال ذلك ثم راح يركض عنها بعيدا دون أن يستمع إليها وهي تهمس:
- لا تذهب أرجوك !!
فتحت الباب لتلحق به ولكن صوتاً ما جاءها من الخلف أوقفها :
- جومانا - قال أحدهم .
خفق قلب جومانا بشدة إذ إنها كانت تعرف جيدا رنين ذلك الصوت الأشبه بفحيح أفعى، التفتت للوراء ببطء شديد واحتاجت للكثير من الوقت حتى استوعبت أن الذي قد تشاهده أمامها حقيقة وليس وهماً تصوره لها ذاكرة الحنين سألت غير مصدقة :
13
- أنت ؟!
- هناك أمر خطير جئت لأخبرك به .
+
..........
«أنتهى»
«الكأس الأخير»

ظنت جومانا أنه مهما كان ابنها غاضبا منها فإنه سيعود إليها قبل غروب الشمس ..
ولكن الشمس غربت منذ أكثر من خمس ساعات ولم يعد ، فبدا وجهها أكثر شحوباً وأصبحت نظراتها شاردة كما لو أنها سوف تصاب بعد قليل بالعمى ..
+
ما الذي أصابها حتى تصفعه على وجهه وتطرده خارج البيت بتلك الطريقة ؟!
3
هي لا تملك إجابة عن تلك الأسئلة التي تدور في عقلها ، ولكنها كانت تعرف شيئاً واحداً فقط وهو أنها أصبحت شخصا آخر عندما بدأ قلبها يشتعل بالغيرة ..
- لا تبكي
1
رفعت رأسها ونظرت نحوه بندم :
- آسفة لم أكن أقصد أن .....
وبينما كانت مشغولة بالبكاء والندم على ما فعلته به لم تنتبه جومانا ، إلى صرير مفاصل باب البيت وهي تطلق أنة خفيفة تشي ! بأن أحدهم قد جاء ..
ثم فجأة امتدت يد في الهواء وربتت على شعرها الرمادي الناعم : اغلق فمها بيده الصغيرة العابقة برائحة الدموع والتراب والحزن :
- أنت أجمل منها - قال الطفل - أنت أجمل أم في الدنيا كلها !!
11
- ما الذي أفعله لكي تسامحني ؟!
قصة - قال متبسماً ثم مد يده كي يساعدها على النهوض : اتفقنا ؟!
تمسك ذراعه وتستعين بها لتنهض - اتفقنا
- قالت ولكن قبل أن يذهبا لغرفة النوم توقف الطفل مكانه وقال :
هناك شيء آخر أريده منك يا أمي
- أي شيء لأجلك !!
1
- أريدك أن تنسيه - ثم أضاف بصوت جاد : أعني بحر
جلست على ركبتيها حتى تصبح في مستوى طوله ، وقالت:
- والدك في خطر وهو بحاجة للمساعدة !!
- أي خطر ؟
لست متأكدة - قالت بتردد ورغم أنه لم يكن يحب والده إلا أنه أيضا لم يكن يتمنى له الشر
- إذا دعينا نذهب إليه حتى نرى ما به !!
- لقد تأخر الوقت .. سننام وعندما نستيقظ نذهب إليه ، اتفقنا ؟!
- اتفقنا - قال
كانت جومانا في تلك اللحظة تشعر بالضعف أكثر من أي وقت مضى بالأحداث التي تدور حولها تخاف من كل شيء وليست واثقة من قدرتها على الصمود أو كتم الأسرار في صدرها ، تشعر بأنها تائهة في فضاء مظلم حيث لا إثارة ولا إشارة تهتدي بها للطريق الصحيح ، تتمنى من كل قلبها لو كان بإمكانها وضع حد لكل الأشياء التي تحيط بها ، نظرت نحو ابنها وقالت:
- احضر لي بعض الماء ثم تعال لأحكي لك قصة .
ذهب إلى المطبخ ، أمسك يجهل جرة الماء البنية التي كانت الساحرة آيار قد وضعت فيها السم ، ثم صب الماء لوالدته منها وعاد ليعطيها الكأس ، وهو لا يعلم بأنه كان يقدم لها الكأس الأخيرة !!
38
*******
وعندما أفرغت والدته كأس الماء في جوفها ،
سألها ببراءة : - هل أحضر لك المزيد ؟!
5
ردت وهي تمسح فمها بكف يدها :
- لا ، هذا يكفي .
ثم ولان موعد النوم اقترب فإنها قالت :
- هل أنت مستعد لسماع القصة ؟!
- ليس قبل أن أطفئ قناديل الحائط وأغلق الأبواب والنوافذ . !!
أما جومانا التي بدأت تشعر بزوبعة خفيفة تدور في رأسها ، فإنها قالت لطفلها قبل أن يغادر :
لا تتأخر !!
  حين عاد إليها بعد أن أكمل مهمته التفقدية على مرافق البيت ، وجدها ممددة فوق فراش النوم تمسك بطنها بكلتا يديها ، وتتألم بشدة سألها :
- ما بك ، هل تشعرين بالتعب ؟!
ولأنها لم تكن تريد أن يقلق عليها فإنها أبعدت يديها من عند بطنها ، واستوت في جلستها متكئة بظهرها على حائط الطين الذي اتكأت عليه عندما حملته بين يديها لأول مرة ، صنعت على وجهها المرهق ابتسامة زائفة ، وقالت:
- لا تقلق أنا بخير هل أنت مستعد لسماع القصة ؟!
تمدد بجوارها مثل جرو ، صغير يتمدد بجوار المدفأة في ليلة شتائية
- مستعد ، أكثر من أي وقت مضى - قال بحماس .
2
بدأت جومانا قصتها :
- منذ وقت طويل .. طويل جداً .. كان هناك طفل صغير ، وأم تحبه .. تحبه جداً ، كانا يعيشان في كوخ بعيد ، بعيد جداً ، ذات يوم رحلت تلك الأم عن ابنها الصغير ، وتركت له عند صديقتها سراً خطيراً ، خطيراً جداً .
نظرت لعيني ابنها وسألته كمعلم يختبر تركيز أحد طلابه :
- ماذا تركت تلك الأم لطفلها الصغير ؟!
- تركت له عند صديقتها سراً خطيراً .. خطيراً جداً !!
- انظر إلى عيني وأعد علي القصة - قالت وقد بدأ مفعول السم في الظهور  ،
ثم أضاف وهو يمد يده إلى جبينها
- أنت تتعرقين - همس جبينك ساخن .
وهي تبعد يده عن جبينها :
- لا تهتم .. انظر إلى عيني وأعد علي القصة .
وهو ينظر إلى عينيها : منذ وقت طويل .. طويل جداً .. كان هناك طفل صغير - صمت
- أكمل ، لماذا سكت ؟!
أكمل ببطء وترو محاولاً أن يتذكر تفاصيل القصة :
- كان هناك طفل صغير .. وام تحبه .. تحبه جداً ، كانا يعيشان في كوخ بعيد .. بعيد جداً ،
فساعدته جومانا هامسة وهي تهز رأسها :
- رحلت تلك الأم عن ابنها الصغير ، هاه وماذا بعد ؟؟
- آه نعم تذكرت .. رحلت تلك الأم عن ابنها الصغير ، وتركت له عند صديقتها سراً خطيراً .. خطيراً جداً !!
أعطته قبلة على جبينه مثل مكافأة ثم قالت :
- لن تنسى هذه القصة يا صغيري أليس كذلك ؟!
5
- لن أنساها - همس بحيرة
ثم ولأن جومانا لم تقل هذه المرة جملتها الختامية والتي يفهم الطفل من خلالها أن القصة انتهت ، وأن موعد النوم حان فإنه قال باستغراب شديدة:
- هل انتهت القصة ؟!
لا ، لم تنتهي
- أكملي إذاً !!
- ستكملها أنت يوماً وتصنع نهايتها بنفسك ..
لم يفهم تلك الأحجية ولكنه حرك رأسه موافقاً
وقال بقلق :
- لا تجهدي نفسك ارتاحي الآن !!
صحيح أن بطنها كان يؤلمها وكانت تشعر بأن هناك سكاكين حادة  تنغرس في جدار معدتها ولكنها تظاهرت بأنها بخير حتى لا يصاب أبنها  بالجزع ،
أغمضت عينيها وهي لا تزال تتكئ بظهرها على حائط الطين :
- هل تحبين بحر يا أمي - فاجأها بسؤال مباغت .
- لا ... لا أحبه !!
1
همست بتردد ثم مددت جسدها على فراش النوم ، فذهب لكي يجلب لها وسادة يضعها أسفل رأسها ولكنه عن غير قصد جلب لها الوسادة البيضاء ذاتها التي كانت تعبق برائحة والده ، وما أن دسها تحت رأس أمه حتى التقط أنفها رائحة زوجها العابقة فيها فمررت أطراف أصابعها على ظهر الوسادة ، كما لو أنها تتخيل نفسها تصافح صدره ثم تمتمت بهمس خافت :
- ها أنت ذا جئت يا بحر لقد اشتقت إليك كثيراً ، للتو سألني الطفل إذا ما كنت أحبك أم لا ،
قلت له : « لا » حتى لا أثير حفيظته بينما في الحقيقة كنت أقصد ألف ألف نعم !!
2
*****
حين استيقظ من نومه مساء اليوم التالي وجد والدته على غير العادة لا تزال نائمة فلم يشأ أن يوقظها من نومها ، وقرر أن ينتظر بجوارها في صمت حتى تفيق من تلقاء نفسها ، ولكن غروب الشمس قد اقترب ومر الكثير من الوقت وجومانا لم تستيقظ بعد فسأل بشك :
- أمي ؟!
وعندما لم تجب على نداءاته المتكررة ، أزال الغطاء عن وجهها فشاهد شيئاً غريباً :
كان وجهها قد أصبح شاحبا تحيط به هالة زرقاء اللون ، وهناك زغب خفيف عند زاوية فمها ، وحين وضع أذنه عند صدرها لم يستمع لصوت دقات قلبها ..
28
انتابه الخوف فوثب قائما وهو يقول :
- يجب ، أن يأتي الحكيم لرؤيتك !!
3
..........
«أنتهى»
«ليلة مرعبة»

كان المطر في تلك الليلة يصب بقوة كما لو أن أحداً فتح جميع صنابير السماء دفعة واحدة ، وكان البلل الذي أصاب جسد الطفل قد ضاعف من قسوة البرد عليه ، ورغم الشائعات التي يرددها جميع نساء ورجال القرية في تلك الفترة ، والتي تقول بأن الوحوش تفضل ليالي المطر في اصطياد فرائسها ، إلا أنه لم يفكر بالاختباء في البيت حتى يهدأ الطقس قليلاً ، بل راح يركض بكل سرعته في أرجاء القرية مفتشاً عن بيت الحكيم ..
وبينما هو يركض إذ أطلق الرعد صوتاً مرتفعاً أدخل الرعب إلى قلبه ، فأغمض عينيه من شدة الخوف لكنه لم يتوقف بل واصل الركض تحت المطر ، ثم وبسبب انعدام الرؤية لديه تعثرت قدمه بحجارة بارزة لم ينتبه إليها ، فسقط أرضاً ..
1
أستعان بيديه لينهض ألا أنهما كانتا أضعف بكثير من أن تحملا جسده في تلك اللحظة ، وربما بسبب البرد والجوع والمطر استسلم وسقط مغشياً عليه . . .
بعد وقت قصير :
استيقظ من نومه خائفاً بسبب مدافع الرعد التي توالت بشكل مرعب في السماء ، وأحتاج لبعض الوقت حتى يتذكر السبب الذي من أجله وجد نفسه خارج البيت ممدداً فوق بركة من الوحل والطين مستلقياً تحت وطأة المطر الغزير :
الحكيم !! - هتف متذكرا .
بمزيد من الجهد استطاع أن يسند نفسه على يديه ويثب منتصباً ليكمل رحلة البحث عن حكيم القرية ، ولكنه ما كاد يخطو خطوتين نحو الأمام حتى سمع
أصوات أقدام تقترب منه :
- من هناك ؟! - صاح متسائلا ،
كان المطر لا يزال يضرب بقوة وكأنه يريد أن يلقن الأرض درساً لا تنساه ، وكان الليل شديد الظلمة وكأن هناك من أطفاً  جميع أضواء الكواكب ..
وحدها رياح الشتاء الباردة كانت تغني قصيدة الخوف ، والحجارة والصخور والأشجار يرددون خلفها آخر بيت في تلك القصيدة   . . .
2
كرر سؤاله من تحت المطر بصوتاً أعلى :
- من هناك ؟ ! 
لم يجب عليه أحد هذه المرة أيضا ولكن وقع الاقدام ظل يقترب منه أكثر ..
وعندما لمعت عروق البرق في السماء وأضاءت حوله المكان أستطاع مشاهدة الحقيقة ، حيث كانت تقف أمامه أربعة ذئاب تنظر إليه سعيدة بوجبتها السهلة ، راح أكبرهم يتقدم نحوه
- لا يبدو أن جرو البشر هذا فيه الكثير من اللحم يا رفاق - قال الذئب الأكبر لرفاقه
– ولكنه سيفي بالغرض على كل حال أليس كذلك ؟! 
- بلی سيفي بالغرض – كررت الذئاب كلام زعيمها بحماس .
أما الغريب في الأمر فهو أن الطفل خيل إليه أنه استطاع فهم ما تقوله تلك الحيوانات المفترسة كلمة كلمة حرفاً حرفاً ، ولكنه لم يصدق ذلك الأمر بالطبع وفسره على أنه تخیلات ..
ورغم أن الطفل يعلم بأنه سيكون وجبتهم القادمة ، إلا أنه لم يشعر بالخوف بل كان يشعر بالغضب ...
كان غاضباً لأنه يعتقد أن الوقت ليس مناسبا للموت ،
لقد شعر بأنه سيقوم بخيانة والدته لو أنه مات قبل أن يقدم لها المساعدة يجب عليه أن يواصل البحث عن بيت الحكيم مهما كلفه الثمن ..
أنحنى ليأخذ فردة حذائه وعندما رفع رأسه كانت عينه اليسرى قد تحولت للون الأحمر القاتم ، ثم راح يهجم قافزا في الهواء بكل قوة نحو الذئب ، وبالتالي قفز الذئب الأكبر باتجاهه ولكن وقبل أن يصطدم الاثنان في الهواء حدث شيء ما كان من شأنه أن يقلب الموازين رأساً على عقب  ..
1
*****
قبل أن يشتبك الأثنان في الهواء بلحظة واحدة كان هناك سهم قد انطلق من مكان ما شق له طريقاً من بين قطرات المطر ، ليستقر أخيراً في عنق الذئب الأكبر ويسقطه أرضاً
« اللعنة اهربوا يا رفاق »
2
-هذا ما قالته بقية الذئاب بعضها البعض بصوت عالي ، وهي ترى قائدها مستلقياً على الارض تتفجر من رقبته الدماء
- « انجوا بفرائكم !! »
9
وقف الطفل مدهوشإ لا يعلم ما الذي حدث تكلم أحدهم تحت المطر وهو يقترب منه ماسكاً في يده قوساً طوله ستة أقدام :
- كم أنتِ شجاعة أيتها القملة الصغيرة المزعجة !!
1
- أيوب - هتف الطفل ، ثم قال بحيرة :
ولكن كيف عرفت أني هنا ؟!
كان أيوب طوال الوقت يحرس بيتهم من بعيد خوفاً عليهم من غدر منظمة الجاثوم ..
وأثناء تلك المراقبة استطاع أن يشاهد الطفل وهو يخرج من باب البيت فقرر اللحاق به لحمايته من أي حماقة قد يرتكبها :
- أخبرتني السماء بأنك هنا - ثم أضاف :
ولكنها لم تخبرني إلى أي مكان تريد الذهاب إليه في هذه الليلة المرعبة ؟!
- أمي مريضة - قال - وخرجت لطلب المساعدة
- ما الذي حدث ؟ - سأل باهتمام يشي بخوفه من شيء ما .
- لا وقت لأشرح لك ولكن إن كنت تريد مساعدتي فخذني للحكيم .
******
عند زاوية الطريق كان هناك منزل صغير ، بدا أنه كان يقاوم بصعوبة واضحة هجمات المطر القوية ..
مد أيوب أصبعاً في الهواء مشيراً نحوه :
- ذاك هو منزل الحكيم !!
راح يطرق الباب بكل قوة كما لو أنه كان يريد تحطيمه :
- لتصيبك السماء بشلل في أصابعك يا من تطرق الباب بهذه الطريقة
- جاء الصوت من الداخل .
10
-هل هذا منزل الحكيم  ؟!- سأل
فتح أحدهم الباب وكان رجلاً طويلاً في أواخر الأربعينات من عمره جسده نحيل مثل ساق قصب سكر  وشعره منفوش غير مصفف يجعل منظره العام أشبه بمكنسة أوساخ  ...
3
لديه لحية تشبة لحية عنز فحل  وكان شاربه الحليق هو الأمر الذي أكسب أنفه بروزاً مبالغاً به .
4
نعم هذا منزل الحكيم - قال
-وأنت هو الحكيم أليس كذلك ؟!
- بل زوجته
28
- ثم أردف بحدة أنت تضيع وقتي ماذا تريد ؟
كان حينها يرتدي ثوباً طويلاً أخضر اللون ويحمل في يده اليسرى كتاباً ضخماً منقوشاً على غلافه اسم
« الترجمان » وفي قبضة يده اليمنى يحمل سراجاً ينبعث من فتيله المشتغل هسيس ضوء خافت :
- من أنت ؟ - تساءل وهو يقرب السراج من وجه الطفل ثم أضاف :
وما الذي يفعله صبي في مثل عمرك هنا وفي هذا الوقت المتأخر  ؟!
جئت آخذك لترى أمي إنها مريضة !!
- ادخل حتى يهدأ الطقس قليلا ثم تذهب لاحقا لرؤيتها . وأضاف متذمراً  ولكن بهمس منخفض :
لتقضي السماء على أمهات هذه الأيام ، كيف يسمحن لأولادهن بالخروج في مثل هذه الأجواء الخطيرة ؟!
6
- لا تتكلم عن أمي بهذه الطريقة !!
أما الحكيم الذي عرف أنه جرح مشاعره فإنه قال :
- آسف لم أكن أعني ذلك تعال ادخل ريثما يخف المطر .
- هي لم تسمح لي - همس وكأنه قبل اعتذاره ،
وأضاف معطيا العذر لوالدته
- لقد جئتك وهي نائمة !!
ثم ولكي يقنعه بالذهاب  معه الآن وبأسرع وقت ممكن فإنه جعل يشرح الحالة التي ترك والدته عليها ، قال له بأنها لا تتكلم وبأن قلبها متوقف كلياً عن النبض وأخبره عن الهالة الزرقاء التي تحيط بوجهها الشاحب ،
وعندما انتهى من كلامه لم يكن لدى الحكيم أدنى شك بأن والدة هذا الصبي لم تكن تعاني من مرض ما بل كانت ميتة ...
6
ثم وكنوع من العزاء وضع الكتاب والسراج جانباً شمر عن أكمامه وقال :
- حسنا أيها المتهور سآتي معك ، خذني إليها !!
6

******
ما كاد الاثنان يسيران تحت المطر بضع خطوات ، حتى صاح الحكيم وهو يشير بإصبعه نحو الأمام :
- يا للسماء لم أكن أعرف أن في قريتنا غوريلات !!
19
أعترض أيوب :
- أنا لست غوريلا !!
- إنها تتكلم - قال الحكيم وهو يمسك الطفل من يده ويجره عائدا نحو المنزل : غوريلا تتكلم !!
8
صاح الطفل :
- هذا صديقي أيوب وهو الذي ساعدني في الوصول إليك .
- اسمها أيوب ؟!
17
- أنا لست غوريلا - قال أيوب بغضب .
اقترب الحكيم منه كما لو أنه يريد أن يتحقق ثم قال بطريقة مستفزة :
- يا للسماء أنت تشبهها حتى من القريب !!
7
- أنت تملك لساناً طويلاً أيها الحكيم !!
- وأشياء أخرى أيضا هل تريد رؤيتها ؟!
52
اقترب أيوب منه وقال بنبرة مهددة :
- لو لم يكن الولد بحاجة لمساعدتك لكنت سألقنك درساً في الأدب !!
فأجاب الحكيم بنبرة الصوت نفسها :
- لو لم تكن الغوريلات شيئاً نادراً لكنت سأركل لك مؤخرتك المبللة !!
17
تدخل الطفل بينهما منهياً الشجار :
- هيا يجب أن نذهب بسرعة أمي مريضة !!
+
.........
«أنتهى»
متنساش ان الرواية موجودة كاملة في قناة التلجرام والواتساب
«مرض الموت»

في أحد أيام الجمعة وبعد منتصف الليل بقليل وبينما المطر لا يزال منهمراً في الخارج بقوة ، قال الحكيم بنبرة آسفة كما لو أنه يعتذر نيابة عن القدر للطفل الذي كان يحدق به منتظراً نتيجة الفحص :
- لقد ماتت !!
5
أما الطفل الذي لم يدرك معنى الموت فإنه ردد ببراءة :
- ماتت ؟!
1
- لقد فارقت والدتك الحياة منذ البارحة أيها الصغير ..
لفرط ما كان يحب والدته فإنه لم يتخيل حتى في أكثر كوابيسه رعباً أنه قد يفقدها يوماً ، لذلك لم يستوعب ما قاله الحكيم وذهب في  الاعتقاد إلى والدته ربما تكون مصابة بمرض اسمه « الموت » فغادر الغرفة لبعض الوقت ، وحين عاد كان يحمل بين يديه بعض النقود المعدنية :
- خذ - قال وهو يمدها نحو الحكيم - إنها جميع ما نملك من مال
بدهشة سأل الحكيم :
- وما الذي تريد مني أن أفعل بكل هذا المال ؟!
- اشفها - همس متوسلاً - اشفها من الموت .
45
******
شعر الحكيم بأنه ما كان يجب عليه أن يوافق على القدوم مع ذلك الصغير منذ البداية ، وفكر في أن ينسحب عائداً إلى منزله ، غير أنه لن يفعل قبل أن يكشف عن السر الخطير الذي اكتشفه ..
- أين أبوك ؟ ! .. أليس لديكم رجل كبير يهتم بأمركم هنا ؟!
3
- سيقودك إليه أيوب
- هل ستتركني أذهب وحدي مع ذلك الشخص المخيف ؟
- لا أستطيع مغادرة البيت فربما استيقظت أمي واحتاجت مساعدتي
6
كاد أن يصرخ في وجهه قائلاً بأن والدته لن تستيقظ مجدداً ، كان يريد أن يشرح له علمياً معنى الموت غير أنه فضل أن لا يكون هو الشخص الذي يوقظ  الصبي من أحلامه ..
******
  أما أيوب الذي لم يكن يعلم بعد عن المصيبة التي حدثت بالداخل فإنه ما إن شاهد باب البيت يفتح ، حتى هرول نحو الحكيم :
- هل سارت الأمور على ما يرام ، هل أصبحت جومانا بخير ؟!
- تلك السيدة لم تكن مريضة منذ البداية بل كانت ميتة ..
- ولكنه أخبرني بأنها ..
- ذلك الصغير لا يعرف شيئاً - قاطعه الحكيم بنفاذ صبر ثم أضاف : 
- إنه أبله يظن بأن قلب والدته قرر أخذ قسطٍ من الراحة ، وأنه قد يعاود النبض مجدداً في أي لحظة .
سأل والفاجعة تتسلق متن حباله الصوتية :
- وماذا يجب علينا أن نفعل ؟!
- يجب أن تسارعوا في الدفن ولكن قبل ذلك أريد مقابلة زوجها لم يشعر بالاطمئنان من طلب الحكيم فقال متسائلاً :
- تريد مقابلة بحر ؟! حرك الحكيم رأسه وأوضح :
- هناك شيء يجب أن يعرفه زوجها .
- شيء - تساءل بحيرة بالغة – مثل ماذا ؟!
- لا أستطيع إخبارك إنها أخلاقيات المهنة كما تعلم .
- فهمت - قال أيوب ، وهو يسير - حسنا تعال آخذك إليه
- هل سنقطع مسافة طويلة تحت هذا المطر مجدداً ؟؟
- نعم فلنحن لن نصل إليه قبل شروق الشمس
- في هذه الحالة استطيع التنازل عن أخلاقياتي
- قال الحكيم : وأضاف :
سأخبرك عن السر بشرط أن تنقله لزوجها لاحقا !!
14
أخبره الحكيم بانه من خلال الفحص الذي أجراه على جثة جومانا اكتشف أن سبب وفاتها لم يكن طبيعياً ، بل كان بسبب تسمم حاد أصاب وظائفها الحيوية ..
وما يجعل الأمر أكثر خطورة هو أنه يعتقد أنها لم تتسمم عن طريق الخطأ أو المصادفة ، بل يعتقد أن هناك من عمد لتسميمها :
- إننا نقف أمام قتل مدبر
- قال معلناً عن نتيجة الفحص النهائي
في تلك اللحظة عرف أيوب أن منظمة الجاثوم استطاعت بطريقة ما الوصول لجومانا وقتلها ، بعد أن وصلهم خبر زيارة بحر لعائلته ومحاولة اکتشاف زوجته للحقيقة ..
تكلم الحكيم مقاطعاً حبال أفكار أيوب :
- وهناك شيء آخر !!
- ماذا ؟!
- جومانا
- ما بها ؟!
- إنها ليست بشرية .
13
******
كان الطفل لا يزال يجلس بجوار والدته ينتظر بفارغ الصبر تحسن حالتها عندما سمع صوت تحطم باب البيت فذهب ليستطلع الأمر ..
شاهد والده يقف صامتاً في منتصف الساحة الداخلية للمنزل ، وبجواره يقف أيوب وقد عرف من خلال المنظر العام لهما ، أن هناك شيئا سيئاً قد وقع .
حاول كعادته منع والده من الدخول إلى الغرفة فما كان من بحر إلا أن ضربه بقوة على رأسه مستخدما حافة يده ليسقط الابن أرضاً في مكانه فاقداً الوعي ..
18
وحين دخل بحر الغرفة وشاهد ملامح وجه زوجته الشاحبة المصطبغة بهالة زرقاء ، عرف أن الحكيم كان محقا بشأن السم :
5
- تعال أيوب - صاح مناديا على صديقه .
حاول أيوب قدر الإمكان أن لا ينظر نحو جثة جومانا ، وكأنه لم يكن يريد أن تحتفظ ذاكرته بمنظرها وهي ميتة ، اقترب من صديقه أكثر ، وقال معزياً :
1
- إن الحب شيء عظيم تعطيه لنا الحياة مرة واحدة ، أعلم بأن خسارتك كبيرة ولكن الوقت وحده يا صديقي هو من سيخفف عنك مصائبك
- ثم أضاف : ربما ترى كلامي صعباً في البداية ، ولكن الايام ستأكد لك صحة ما أقول ..
انحنى بحر ليضع قبلة الوداع على مفرق شعر جومانا ثم أغلق عينيها براحة یده برفق وقال :
- ربما تقول ذلك لأنك لم تجرب الحب يا أيوب لا شيء في الدنيا يخفف عنا مصائب الفراق إننا نحملهم في قلوبنا ، ونظل نتذكرهم حتى ونحن أموات في قبورنا
9
- وأضاف وهو يغطي جسد زوجته باللحاف :
دع النساء يقمن بغسلها ، واطلب من رجال القرية دفنها ..
تساءل أيوب :
- ألن نشارك معهم في الدفن ؟!
أمسك بحر مقبض سيفه وقال :
- لا ، فنحن لدينا حساب نصفيه مع ناب الفيل !!
8
- هل تفكر بمحاربته ؟!
- وهل لدينا خيار آخر ؟!
- ولكنك تعرف أن الوقوف ضده انتحار !!
- ما زال في إمكانك الانسحاب
- لقد أخبرتك من قبل بأن الرجل الأسود لا يتخلى عن صديقه !!
1
- لماذا أقرأ في كلامك الخوف إذا ؟!
- لست خائفاً ولكنني أريد أن أعرف ما تفكر به !!
- سنذهب غرباً نحو سلسلة الجبال المحرمة لطلب المساعدة
- تقصد قبائل الأشاوس ؟ ! - سال بدهشة . ..
1
- أميرتهم تدين لي ولك بمعروف كبير وهي الوحيدة التي تستطيع الوقوف معنا !!
4
وهكذا امتطى بحر وصديقه أيوب صهوتي جواديهما واتجها غرباً لأخر حدود المملكة حيث سلسلة الجبال المحرمة والتي يغرب خلفها نجم شمس أبابيل ..
4
ذهبا ليطلبا مساعدة قبائل الأشاوس لتشارك معهما في الحرب القادمة ، من غير أن يتوقع أحد منهما نوع المفاجاة التي كانت في انتظارهما بالطريق ."
2

******
عندما زال أثر الضربة التي تلقاها الطفل على رأسه وفتح عينيه وجد نفسه ممداً في ساحة البيت ، وكان أول شيء قد فعله هو أن دخل الغرفة التي تنام فيها والدته ، وعندما لم يجدها شعر بالفرح معتقداً أنها أصبحت بخير وأنها استطاعت أخيراً أن تنهض من فراشها :
11
- أمي - راح يناديها - أمي ؟!
8
وعندما لم يعثر عليها عرف أنه كان مخطئاً في اعتقاده وأنها ليست بخير وهناك أمر كبير قد حدث لكنه لا يعرف بالضبط ما هو ..
فتح باب البيت وراح يفتش عنها في الخارج ..
ورغم أن الوقت كان لا يزال ظهراً إلا أن قرية الجساسة بدت على غير العادة خالية من الناس ، ثم وبينما هو يفتش عنها إذ عثر عن طريق المصادفة على تلك المرأة المتقدمة في العمر والتي كان أهالي القرية يطلقون عليها لقب ذات الطائر الأحمر تسير حافية القدمين تتلحف بالسواد والحزن باد عليها  .
1
- لا تقلق أنا معك - همست وهي تمد ذراعيها إليه .
ركض نحوها ولكن ليس ليحتضنها كما كانت تريد أن تفعل معه بل ليضربها بفردة حذائه ..
10
ولكنه قبل أن يتمكن من الوصول إليها شعر بشيء حاد أمسكتة من عند ظهره يشبه كماشة حديدية ورفعتة عالياً ، لقد حمله طائر  العنقاء بمخالبه وطار به متجهاً نحو مقابر قرية الجساسة وعندما وصل به لهناك تركه يسقط من بين مخالبه ثم استدار في الهواء وحلق مبتعداً ، لم يتألم الطفل كثيراً عندما ارتطم بالأرض بل نهض بسرعة ليقذف الطائر بالحذاء ولكنه لم يفعل ..
ليس لأن الطائر الأحمر ذاك كان قد اختفى عن مجال الرؤية فقط ، بل لأن الطفل شاهد أمامه شيئاً لم يرى مثله من قبل ..
كان هناك عدد كبير من الرجال يسيرون نحو مكان واحد ، يحملون فوق أكتافهم شيئاً خشبياً يشبه السرير ، يتمدد عليه جسد لا يتحرك مغتلي بقماش أسود وتفوح منه وبقوة رائحة الياسمين :
2
- أمي - قالها وهو يحدق نحو التابوت .
- أمي - قالها بصوت خافت كما لو أنه يوقظ شخصا نائما .
1
- أمي - قالها للمرة الثالثة ثم بكى .
9
لم تترك له رائحة الياسمين مجالا للشك في أن ذلك الشيء الذي كان أولئك الرجال يحملونه فوق أكتافهم ليس إلا جسد والدته جومانا ، لقد اعتقد  للحظة أنهم يسرقونها منه لهذا فإنه راح مثل فارس من المغول يهاجم بكل شراسة أجسادهم الصلبة برأسه ، عض بأسنانه سيقانهم المتعرقة الحامضة بطعم الخل والغبار والشعر ، تمدد أمامهم ليعيق تقدمهم لكن شيئا من تلك المحاولات لم ينجح ...
8
لذلك فكر في طريقة أخرى لإيقافهم ، وبينما هو يحاول إيجاد الطريقة المناسبة إذ ضرب بحذائه عن طريق المصادفة عانة أحد الرجال ..
فسقط ذلك الرجل أمامه صريعا لا يستطيع أخذ أنفاسه ، وهذا ما جعل الطفل يمسح دموعه بكم ثيابه ويبتسم .. لقد عرف الطريقة !!
6
في وقت قصير جداً استطاع أن يسقط خمسة عشر رجلاً بتكراره الضرب في تلك المنطقة الحساسة ، وحين أصبح وجوده عائقاً حقيقياً أمام موكب الدفن فإنهم وضعوا الجثة جانباً وراحوا يطاردونه وكل واحد منهم يضع يداً أسفل حزام بطنه حتى يحمي بها نفسه من الضربات الغادرة ..
32
ألقوا عليه القبض بعد نصف ساعة من الملاحقة المتواصلة ، ثم ولكي لا يثير وجوده عائقاً أمامهم مرة أخرى ، فقد تبرع خمسة من الرجال بتقييد أطرافه إلى أن ينتهي الباقون من دفن الجثة ..
وبينما هو مقيد الأطراف يراقب الرجال وهم يقومون بدفن أمه ، إذ حدث شيء غريب معه حيث اختفى فجاة ضجيج الأصوات من حوله ، وسمع صوتاً واحداً فقط يتردد في الارجاء وكأنه قادم من خلف السحاب إنه صوت والدته جومانا وهي تقول :
« لا تبكي يا صغيري ربما سأغيب عنك الآن ، لكننا سنلتقي في السماء يوماً  ...أتفقنا ؟!  »
33
ثم اختفى صوتها وعاد ضجيج أصوات الرجال إلى أذنه ..
كان يراقبهم بخيبة أمل وهم يهيلون التراب عليها ،
وكان يستطيع في تلك اللحظة أن يشعر بكل حبة رمل وهي تحط فوقها كما لو أنهم كانوا يدفنونه هو حياً ..
ورغم الغبار المتطاير والذي يصل عينيه مع الهواء ، إلا أن عينيه ظلتا مفتوحتين طوال الوقت ولم يرمش بهما ولو لمرة واحدة ..
وحين أصبحت جومانا تحت التراب تماما ،
ولم يعد الرجال الخمسة أو بقية الرجال الآخرين يخافون من إزعاجه لهم فإنهم حرروا أطرافه ،
لكنه لم يتحرك من مكانه وكل ما فعله هو أنه صرخ باتجاه القبر :
- لا ، لم تتفق !!
8
ربما تلك الصدمة القاسية التي تلقاها والحزن والوحدة وسطوة الشمس الحارقة ، الأشياء التي جعلته يسقط في مكانه مغشياً عليه ..
ذهبت جومانا هي إذاً ولم يعد لديه ملجأ آمن يأوي إليه ، لقد كبر ألف سنة في لحظة واحدة ذلك أن كل الأبناء يشيخون فجأة في اللحظة التي يفقدون فيها أمهاتهم ..
49
.........
«أنتهى» 
«شراب النسيان»

غادر جميع رجال القرية أرض المقبرة وعاد كل واحد منهم لأستكمال عمله ، ولم ينتبه أحد منهم إلى الطفل عندما سقط على وجهه فاقد الوعي متأثراً بخسارته الفادحة ..
1
وحدها تلك اليد الممتلئة بعروق كثيرة هي من امتدت نحو جسده الممدد فوق الأرض ، ثم حملته وسارت به بعيداً ...
1
******
صعدت تاج إلى عربتها الخشبية بينما حفيدها نائماً بين يديها :
1
- خذنا إلى القلعة - أعطت أمراً لسابح .
صهل الحصان الأبيض بصوت عالٍ ثم انطلق يلاحق الريح مخلفاً وراءه عواصف من الغبار لا تنتهي .
- سنهتم بهذا الولد لبعض الوقت يا إكليل
- قالت تاج لطائرها الذي كان يحلق قريباً من العربة
– سنهتم به إلى أن يصبح قويا .. فهو لا يمكنه مواصلة الحياة من غير مساعدتنا !!
أطلق إكليل زئيراً عالياً فقالت تاج :
- كنت أعرف أنك ستقول ذلك !!
2
وهكذا أخذته إلى القلعة صعدت به للطابق الثاني حيث غرفتها نزعت عنه ثيابه قطعة قطعة حتى أصبح عارياً أمامها ..
مددته فوق سريرها الواسع ، وجعلت تتأمل ملامحه الحادة والناعمة والقريبة جداً من ملامح وجه أمه ...
10
وحين فرغت من تأملاتها قالت تكلم إكليل الذي كان يقف على إفريز النافذة :
-لولا تلك الدودة التي بين فخديه لاعتقدت أنه فتاة
107
- إنه يشبه والدته كثيراً يا سيدتي - قال إكليل
أثار ذلك الحديث أشجان تاج ، فقالت بصوت حزین
- الحمقاء لم تستمع إلى نصيحتي
- ثم أضافت بخيبة أمل :
كنت أعرف أن هذا ما سيحدث لها لو أنها فتشت وراء الحقيقة .
  لم يكن إكليل يعرف ما الذي يدور داخل عقل سيدته في تلك اللحظة لم  يكن يعرف ما هي الخطوة القادمة هل هي تفكر بالانتقام من الأشخاص الذين قتلوا ابنتها ،
أم أن لديها خطة أخرى :
- ما الذي تخططين لفعله يا سيدتي ؟!
تنهدت تاج بصوت مرتفع يبدو أنها هي نفسها لا تعرف : سأعد له بعضاً من سائل النسيان أولاً ، يجب أن ينسى هذا الولد ولو مؤقتاً كل الأحداث التي مر بها ...
5
- قرار صائب - أيدها إكليل الذي يعرف حاجة الطفل للنسيان خصوصاً هذه الفترة .
- من الجيد أنك توافقني على هذا القرار .
- لم أكن سأوافق لو أنك قررت محو ذاكرته إلى الأبد .
امتدت بينهما لحظات من الصمت شعر فيها إكليل بأن هناك كلاماً آخر تخبئه تاج ، ولكنها لا تعرف كيف تقوله ..
هو الذي عاش معها طيلة حياته منذ أن كان فرخاً صغيراً برتقالي اللون وحتى اليوم ، لن يصعب عليه قراءة التردد الواضح على ملامح وجهها :
- أشعر بأن هناك أمراً ما تريد سيدتي قوله !!
أخذت تاج نفساً عميقاً ثم قالت :
- هذا الولد مهدد بالخطر كما تعلم ....
- سنقوم بحمايته – قاطعها بأدب - سنكون في ظهره دائما
2
- لا تدع منظره الضعيف هذا يخدعك ربما يوحي لك شكله الآن بأنه في حاجة للمساعدة ولكنه سيكبر غداً وحينها لن تعجبه فكرة بقائنا الدائم معه .
- ما الذي تفكر سيدتي به ؟!
1
- افکر برماد العنقاء - قالت بحزم - اريده أن يكون قوياً جداً.
الذي يعرف إكليل جيداً يعلم بأنه يميل إلى الصمت في معظم الأحيان وبأنه لا يصاب بالدهشة كثيراً حتى من أكبر المفاجآت التي قد تطرأ ولكن الذهول هذه المرة كان واضحاً جدا في نبرة صوته وهو يحاول التحقق
مما سمعه .
- هل قلتِ رماد العنقاء ؟!
- أريد أن أحرك قوة النار بداخله
- ولكن ربما تكون النار ليست بداخله أصلاً حتى تقومي بتحريكها !!
- لقد سمعتها تشتعل في قلبه عندما حملته بين يدي لأول مرة
- لماذا لا تنتظرين لبعض الوقت ريثما تتحسن حالته ؟!
لا أستطيع يا إكليل أخاف أن يتجاوز مرحلة البلوغ وعندها تصبح فكرة تحريك النار بداخله مستحيلة
- وأضافت بتوتر: يجب ان نشكر الحظ لأنه على حتى الرغم من كونه في نهاية عامه الرابع عشر إلا أنه لم يبلغ حتى الآن.
9
- ولكنه فاقد للوعي وربما تقتله النار لو أنها تحركت بداخله ولم يكن جسده مستعداً لها.
- لن أحزن عليه وقتها فلا حاجة لي به إن كان لن يصبح قوياً !!
هو يعلم بأن فكرة تحريك النار بداخل الطفل لن تكون سهلة أبداً، إنها عملية خطيرة وحساسة وتتطلب تضحية كبيرة وجهداً عالياً وبأن نسبة نجاحها ليست مضمونة، والأخطر من كل  ذلك أنها قد تتسبب في قتله لو أن القوة تحركت بداخله ولم يكن جسده مستعداً لها..
لذلك عليه أن يحاول صرف نظر سيدته عن الموضوع بأي طريقة:
- لم تكن أمه لتوافقك الرأي لو أنها ما زالت على قيد الحياة !!
وهنا انفجرت تاج وهي تقول بصوت غاضب:
- كان يجب عليها أن لا توافق منذ البداية، عندما تقدم لها مخلوق الطين الأحمق ذاك للزواج، لكنها قالت بأنها وقعت في حبه انظر ماذا فعل بها الحب .
2
- لماذا كان زوجها غائبا عنها طوال تلك المدة ؟!
لماذا لم يقم بحمايتها ؟!
لأنه ببساطة عاد للعمل مع المنظمة !!
ولأن إكليل يشاطر تاج وقتها كلها، فإنه يعرف السر الذي خبأته عن ابنتها جومانا ولم تخبرها به حال أنه لم يعد للعمل معهم وهو أن منظمة الجاثوم هددت بحر بقتل زوجته وطفله  لذلك قال:
- لماذا لم تخبريها عن الحقيقة ، لقد كانت تستحق أن تعرف قبل بأن غياب زوجها عنها لم يكن إلا من أجل حمايتها هي وابنها !! بندم أجابت:
- كنت أعتقد أننى أحميها بإخفائي الحقيقة عليها، لم أكن أريدها أن  تعرف بأنه عاد رغماً عنه للعمل مع المنظمة حتی لا يتعلق قلبها به أكثر وتحاول مساعدته، كنت أريدها أن تهرب بعيداً وتبدأ حياة جديدة ولكن يبدو  أنني لم أفهم الحب جيداً !!
لم يسبق لتاج أن بكت أمام إكليل في حياتها بل لم يسبق لها إطلاقاً أن بكت أمام أحد من قبل ، ليس لأنها لا تملك قلباً أو عاطفة بل لأنها لم تكن تحب أن ينظر إليها أحد بعين الشفقة ..
3
ولكن هذه المرة لم تتمكن من كبت دموعها، وهي تستعد لرواية القصة التي جمعت جومانا بزوجها بحر قبل أعوام
طويلة جداً، قالت :
- كانت الجاثوم تفرض على أهالي القرية أن يدفعوا إتاوة كبيرة ....
- إتاوة؟! - سأل مقاطعاً.
- إنها مبلغ ضخم كانوا يقومون بدفعه للمنظمة بداية كل عام جديد من أجل تفادي الوقوع في المشكلات معهم، ولكن الأهالي الذين ضاقوا ذرعًا من هذا الظلم قرروا في أحد الأيام أن يفعلوا شيء آخر .
- ماذا فعلوا؟!
- قرروا إرسال وفد من أعيانهم لمقابلة «طاغين» ملك مملكة أبَابيل حتى يطلبوا منه أن يجد لهم حلاً لمشكلتهم تلك..
كان قصر الملك يقع في جزيرة الأرباب، وكانت الجزيرة ولدوافع أمنية مشددة تقع بعيداً جداً عن جميع
المدن والقرى ، وقد حصنها طاغين بجيوش جرارة من المقاتلين البشرين المدربين جيداً، ومن الشياطين والمردة والساحرات ضد أي هجوم محتمل عدو مهما كانت قوته. فأصبح ذلك المكان حصناً منيعاً يصعب على أي عدو مهما كانت قوتة أختراقه..
ذهب أعيان قرية الجساسة أولاً بقيادة شيخهم «همام» نحو قرية الساحرات حيث الميناء الوحيد الذي تستطيع القوارب الأنطلاق منه نحو الجزيرة ..
في ذلك اليوم تقدمت إليهم «شواهر» عميدة قرية الساحرات، وهي امرأة عجوز مسنة لديها فم صغير خال من الأسنان كأنها هي  بنفسها من قامت بشقة في وجهها بشكل أفقي بواسطة سكين، وكان لديها أسفل عينها اليمنى ثؤلول أسود كبير تطل منه أربع حبات شعر طويلة، وتمتلك أنفاً واسع المنخرين للحد الذي كان أستطاعة المرء مع قليل من الإنارة أن يشاهد عقلها من خلاله إذا  ما أرجعت رأسها للخلف قليلا.. قالت:
29
- ما هو الأمر الذي تريدون مقابلة جلالة الملك طاغين من أجله؟!
1
- ليجد لنا حلاً مع منظمة الجاثوم - أجابها الشيخ همام بوقار.

- لا بأس طلبكم مُجاب تستطيعون الذهاب للقائه
- قالت - ولكن يجب أن تنزعوا ملابسكم عن أجسادكم، وتذهبوا لمقابلته وأنتم عراة حتى نضمن أنكم لن تخبئوا سلاحًا تحت ثيابكم في الطريق..
9
بيد أن أعيان القرية رفضوا ذلك الشرط خصوصاً أن شيخهم كان معهم
فأصرت شواهر:
- لن تذهبوا لرؤية الملك طاغين إلا بهذا الشرط!!
1
وعندما رأى الشيخ همام أنه لا مناص من ذلك الشرط فإنه خلع ثيابه عن جسده الهزيل وهو يقول:
- إن كان هذا هو الثمن لحل موضوعنا فلا بأس في ذلك
2
- ثم فعل الجميع مثله وصعدوا للقارب.
كان يتطلب السفر نحو جزيرة الأرباب ثلاث ليالٍ كاملة على متن قارب خشبي يجلس فيه ستة من الرجال يجدفون بتواصل ومن غير توقف..
3
وعندما وصلوا أخيراً إلى هناك كان يجب عليهم أولاً قبل الوقوف بين يدي الملك ، يتحمموا فوق الشاطئ من رائحة العرق والشمس والملح العالقة بأجسادهم وأن ينظفوا أفواههم العابقة برائحة القيء ..
8
*****
عندما أصبحوا بين يدي الملك ركع أعيان قرية الجساسة له احتراماً و تقديراً ، وبعد قليل من الوقت هتف الحاجب عليهم :
- تستطيعون النظر إلى وجه جلالته !!
رفع الجميع رؤوسهم ينظرون نحوه بإجلال وإكبار ، طلب الشيخ همام الإذن بالحديث ، وحين سمح له قال :
- أيها الملك العظيم أنت تعرف الضائقة التي تمر بها البلاد وتعـ  ....
- لم لا توفر على نفسك عناء المقدمات أيها الشيخ - قال الملك قاطعاً .
- منظمة الجاثوم - قال همام .
- ما بها ؟!
- إنها تضعنا كل بداية عام جديد أمام خيارين إما الموت بحد سيوفهم أو الموت بحد الفقر والجوع والعطش ، أصبحنا نعمل طوال العام من أجل تأمين الإتاوة لهم ، وهذا الأمر يا مولاي لو استمر طويلاً فسيؤدي بنا إلى الفناء !!
كان الملك طاغين ذو العيون الزرقاء الناعسة والوجه الوسيم يطيب له الجلوس فوق عرشه ، ومراقبة مواطني مملكته وهم يقفون أمامه ويشتكون من سوء حال حياتهم ، كان يجد متعة كبيرة في تأمل أشكالهم الضعيفة والهزيلة كما لو أنه عالم حشرات يراقب كل يوم من خلف مجهرة سلوك حشرة اكتشفها حديثاً :
5
- أنتم تعلمون بأن حراسنا منذ فترة طويلة وهم يحاولون الإطاحة بالجاثوم ، غير أنهم لم يتمكنوا من ذلك بعد ولكنني أريد منك أن تعود لأهالي قريتك وتطمئنهم بأننا سنبذل مزيدا من الجهد للإطاحة بهم !!
حينها تجرأ همام واقترب من العرش خطوتين ، وقال بطريقة ودية وهو يفرك يديه مثل ذبابة :
- لو أنك أيها الملك تأمر ساحراتك ، لاستطعن الإمساك بهم !!
- بدأ الغضب يتسلل لقلبه :
- إن الساحرات أيها الشيخ مسخرات لخدمتي أنا وحدي !!
1
- ولكن يا مولاي أنت وشعبك واحد وما يضر شعبك يضرك !!
وثب من فوق عرشه :
- لا تشبهني بأحد أنا الرب يا همام !!
94
  انكمش الشيخ على نفسه والتزم الصمت هو لا يشعر بالخوف من أن ببطش به طاغين ، فقد عاش طويلاً ولم تعد فكرة الحياة تغريه مثل السابق ..
2
كل كما يخشاه في تلك اللحظة هو أن يقرر  في الملك عدم مساعدة أهالي قريته ، فتأتي منظمة الجاثوم بعد أيام ولا تجد معهم الأتاوه ويحل بهم الخراب والدمار
- أرجوك ساعدنا !!
- فلتساعدوا أنفسكم بأنفسكم
1
- كيف وقد منعت عنا السلاح ؟!
- هذا ليس من شأني !!
- أنت المسؤول عن حماية شعبك أنت الملك !!
قال طاغين وقد اشتد به الغضب :
- بل أنا الرب الذي يتولى رعايتكم وأنا حر فيما أفعل !!
24
وبعد أن عرف همام بأن لا فائدة ترجى منه فإنه صمت
- كلانا يعرف أنك لست الرب أجاب بعناد :
1
- استغفرني يا همام - ثم أضاف رافعا صوته :
أنا ربكم !!
10
- لست إلا خراء - قال ذلك ثم استدار منصرفاً .
69
  اشتد الغضب في قلب الملك بسبب الإهانة التي تلقاها وقرر أن يرد عليه الصفعة بأخرى أشد منها ..
فأمر الحرس بأن يلقوا القبض عليهم جميعاً ويقوموا بإعدامهم ..
ثم وفي الساحة الخارجية الفسيحة الممتدة أمام قصر مملكة أبابيل قام الجلاد بقص رؤوس اعيان قرية الجساسة واحداً واحداً ، وعندما جاء الدور على همام فإن طاغين اقترب منه وقال له شيئا في أذنه بصوت منخفض ، ثم أمر الجلاد بقص رأسه ...
1
تدحرج رأس الشيخ همام أرضاً وقد بدت ملامح وجهه الميتة وكأنها مصابة بالذهول بسبب ذلك السر الذي استمع إليه قبل أن يفصلوا رأسه عن جسده ..
3
لقد قال له :
- أنا لا أستطيع الوقوف ضد الجاثوم یا همام ، ليس أن حراس أبابيل لم يتمكنوا من الإمساك بهم مثل ما أخبرتك سابقاً ، بل لأننى أنا وناب الفيل شخص واحد ..
40
أنا هو رئيس منظمة الجاثوم !!
25
في اليوم التالي ولكي يخمد الملك طاغين احتمال قيام أي ثورة قد يشنها رجال قرية الجساسة عليه في المستقبل ، فإنه قام بتجهيز سرية كاملة من فرسان المنظمة قوامها ثلاث مئة مقاتل مدججين حتى آخرهم بالدروع والسلاح وأدوات الحرب الثقيلة ، وعين عليهم اثنين من أشد فرسانه رعباً وبطشاً
« بحر وأيوب»
18
وأعطاهما أمراً بقيادة السرية نحو قرية الجساسة وقتل كل الذكور فيها ..
4
كانت الساعات تمضي ثقيلة على أهالي القرية فقد كانوا ينتظرون بفارغ الصبر الأخبار التي سيعود بها الأعيان من قصر الملك ، غير أن وقتاً طويلاً كان قد انقضى بدون فائدة ..
ثم فجأة ومن حيث لا أحد يعلم انتشرت شائعات غريبة في كل مكان تقول بأن الملك طاغين قام بقص رؤوس كل أعيان قرية الجساسة ..
حاول عقلاء القرية تكذيب تلك الشائعات واقترحوا أن ينتظروا لعدة أيام أخرى للتثبت أكثر من صحة الخبر .
ولكن عند فجر اليوم ذاته انقطع الشك باليقين عندما شن ثلاث مئة مقاتل يرفعون رايات الجاثوم ، هجوماً ساحقاً ضد قرية الجساسة ..
حاول رجال القرية الصمود وحماية أنفسهم من ذلك العدوان ولكن المعركة كانت غير متكافئة القوى فقد كان أولئك الثلاث مئة مقاتل يحاربون بالسيوف والرماح ويصدون بدروعهم الحديدية الصلبة ، الهجمات المتواضعة التي يشنها عليهم رجال القرية من وقت لآخر بهروات الخشب البالية ...
كان النصر أكيداً للجاثوم وكان ذكور الجساسة في طريقهم نحو الفناء ولكن شيئاً ما وقع في تلك اللحظات غير سير المعركة تماماً ..
حيث قام أحد فرسان المنظمة  واسمه « غفران » بأختطاف فتاة عزلاء كانت تحاول النجاة بنفسها من الخطر ..
6
أثار صراخها الحاد انتباه الجميع فالتفت القائد بحر 
وحين شاهد الرعب في عينيها البندقيتي اللون شعر بالرحمة عليها ، وهو الذي لم يشعر بالرحمة يوماً :
1
- غفران دع الفتاة تذهب - قال القائد بحر .
- إنها لي لقد وجدتها أولاً - رد غفران - وسأضمها لبقية نسائي !!
1
كانت تلك الفتاة هي جومانا وكانت تستطيع استخدام قواها  تلك اللحظة للتخلص من قبضة غفران ، ولكن عائلة الأباطرة قد منعت أفرادها من استخدام قواهم الخاصة أمام البشر تحت أي ظرف كان ..
4
لهذا واحتراماً لقانون العائلة لم تفعل جومانا شيئاً من شأنه أن يلفت الانتباه لحقيقة كونها جنية ..
قالت تحادث القائد بحر :
- اطلب منه أن يتركني .. أرجوك ! !
- دعها تذهب غفران فنحن لم نأت لهنا من أجل سرقة النساء .
أغلق غفران فمها بيده المتسخة بالتراب والدم ، حملها فوق ظهر حصانه كغنيمة حرب :
- هذا لن يحدث يا بحر سوف أقوم بأخذها !!
قال ذلك وهو يركل خاصرة حصانه بكعبي قدميه محاولاً الهرب بها ولكن القائد بحر التلف عليه بسرعة ، وقام من غير أي مقدمات وبكل قوة يغرس سيفه في فتحة العين الصغيرة الموجودة في خوذة رأسه الحديدية ، لتخترق ذؤابة السيف حدقة عينه وتخرج من الجهة الخلفية لجمجمته خافت جومانا من منظر الدم وهو يتفجر من رأس ذلك الفارس :
7
« لا تخافي »
6
قال بحر لها ثم حملها بذراع واحدة وأجلسها خلفه على متن الحصان :
- تمسكي بي جيداً سأخرجك من هنا .
2
في هذه اللحظة وعندما شاهد الفرسان قائدهم يقتل أحد زملائهم من أجل الفتاة ، اعتبروها خيانة عظمى وقرروا فوراً تنفيذ حكم القتل عليه ، وهكذا انتقلت المعركة فجأة إلى داخل أعضاء الجاثوم ، حيث حاصر الفرسان قائدهم بحر  شاهرين سيوفهم ضده قال أحدهم :
- أسحرنك لتقتل غفران من أجلها ؟!
بحر يعلم بأن ما فعله يعتبر خيانة وبأنه مهما حاول تبرير فعلته لهم فإنهم لن يقتنعوا بكلامه ، هو يدرك أن لا سبيل للفكاك من تلك الورطة التي أدخله فيها تهوره غير الاشتباك المباشر معهم ..
صاح منادياً : - أيوب أين أنت ، أحتاج إليك !!
امن خلف فرسان منظمة الجاثوم ظهر فارس أسود اللون مهيب أخذ يخترق الصفوف بسيفه ودرعه حتى وقف بجوار صديقه ، قال وهو يرى الموت الذي يحيط بهما من جميع الجهات
- المنظر مخيف من هنا !!
- ما زال في إمكانك الانسحاب !!
ابتسم أيوب :
- الرجل الأسود لا يتخلى عن صديقه !!
23
بدأت المعركة وكان لأيوب وبحر البراعة الكافية والتي تضمن لهما الصمود ، ولكنهما ومهما بلغا من الصبر والقوة فإنهما لن يستطيعا المواصلة لأخر المعركة ..
حيث بدأ الصديقان بعد فترة طويلة من الكر والفر يشعران بالتعب والإرهاق :
- يبدو أن نهايتنا اقتربت يا أيوب - قال بحر لاهثاً وهو يواصل القتال
- آسف ما كان يجب علي أن أشركك في هذا الأمر !!
- لا عليك يا صديقي ، لا تعتذر سيكون من دواعي سروري أن أرافقك نحو الجحيم ..
9
وفي أثناء المعركة تعرض بحر لسهم غادر اخترق فخذه الأيمن قاطعاً شريانه الفخذي ، مما تسبب له في خسارة الكثير من الدماء الأمر الذي جعل قوته الدفاعية تنهار بشكل سريع ، فقال يحادث صديقه أيوب عندما بدأ يشعر بأقتراب الهزيمة  :
خذ الفتاة واهرب بها وأنا سأغطي ظهرك ريثما تبتعد !!
- پل سنبقى معاً حتى النهاية !!
- اسمع كلامي !!
- لا ، لن أتركك !!
1
بدأ بحر تدريجياً يفقد تركيزه ووعيه بالاشياء من حوله نتيجة لكمية الدم الكبيرة التي فقدها من جسده ..
وعندما انتبهت جومانا إلى ذلك وشاهدت بعينيها مقدار التضحية التي بذلها ذلك القائد من أجلها ، فإنها قررت كسر قانون عائلة الأباطرة واستخدام قوتها الخاصة في إنقاذ الموقف ..
1
توهجت عيناها البندقيتي اللون بلون أحمر مشع ثم أمسكت بيدها ثياب بحر الذي فقد أخيراً وعيه ، وصرخت تخاطب أيوب وهي تمد يديها الأخرى نحوه :
1
- أنت أمسك يدي !!
لم يفهم أيوب ذلك الطلب الغريب الذي تطلبه منه تلك الفتاة وهو يجابه وحده الهجوم الشرس الذي يشنه فرسان منظمة الجاثوم عليه وعلى صديقه الفاقد للوعي ..
كانت يد جومانا ممدودة نحو أيوب تنتظر منه فقط أن يمد يده لإمساكها ، صرخت مرة أخرى في وجهه :
- ثق بي أمسك يدي !!
فعل مثل ما طلبت منه ..
مد يده نحو يدها الممدودة وما إن أمسك بها حتی ، اختفى ثلاثتهم من وسط المعركة ليجد أيوب نفسه بعد لحظات وقد انتقل مع صديقه وتلك الفتاة لمكان آخر ..
سأل برعب :
عندما بدأ يشعر - كيف فعلت ذلك ؟!
- سأشرح لك لاحقاً
- صاحت بتوتر وهي تسد بيدها جرح بحر النازف يجب أن ننقذه بسرعة لقد فقد الكثير من الدماء ..
1
توقفت تاج عن الكلام كما لو أن الحديث عن الماضي بات يزعجها :
5
- لقد قلت لها بأن الحب هو التوأم اللطيف للموت لكن الشباب كعادتهم لا يقتنعون إلا بعد فوات الأوان .
11
- هذا يعني أن أيوب كان يعرف سر جومانا منذ البداية يا سيدتي ؟!
- نعم وهي التي طلبت منه أن يحتفظ بالسر لنفسه وأن لا يخبر به أحداً حتى بحر
1
- وهل استطاع فرسان منظمة الجاثوم قتل ذكور قرية الجساسة ؟!
أخذت تاج نفسا عميقا ثم قالت : عندما عرفت عائلة الأباطرة أن ابنتهم تورطت في ذلك النزاع انطلقوا للمعركة لإنقاذها ولكن عندما وصلوا إلى هناك ولم يعثروا عليها ظنوا أنها ماتت أو أن مكروهاً قد أصابها ، فقاموا بقتل جميع فرسان منظمة الجاثوم ومنذ ذلك اليوم وحتى يومنا هذا لم تتجرأ المنظمة على إرسال قواتها لقرية الجساسة مرة أخرى .
1
- وكيف وقع بحر وجومانا في الحب لاحقاً ؟!
1
- ليس هذا هو المهم - تملصت من الإجابة ثم نظرت نحو حفيدها الممدد وتابعت:
المهم هو أنني أريد أن أجعل هذا الولد أقوى
- ولكنكِ تعرفين أننا قد ...
- ثم صمت إكليل كما لو أنه يفكر في انتقاء الكلمة المناسبة ليكمل بها جملته ، وعندما فكر لبعض الوقت وخانته التعابير ولم يعد يعرف ما يقول ذيله الطويل والذي يشبه ذيل الطاووس وقال :
- أنتِ تعلمين ما الذي أريد قوله
1
- أعرف - قالت تاج - ولكنني تقدمت في العمر على كل حال ويجب أن يصبح لك سيد آخر حتى لا تجد نفسك ميتاً معي في يوم من الأيام
- ثم أضافت مداعبة : أليس ما أقوله صحيحاً يا إكليل ؟!
1
- شرف العنقاء أن يموت مع سيده - أجاب بنبرة حزينة .
1
لا تستطيع تاج تحضير رماد العنقاء إلا بطريقة واحدة وهي :
أن تقوم بأحراق طائرها إكليل ثم تأخذ الرماد المتبقي من جسده المحترق وتغطي به جسد حفيدها ، وهنا تكمن الخطورة فإذا استطاع جـده أن يمتص ذلك الرماد ،
تكون تاج قد نجحت في تحريك النار بداخله ، وفي حال لم يمتص جسده الرماد يكون ذلك معناه أن التجربة فشلت وأن الطفل في طريقه للموت .
1
- لم يسبق لي أن رفضت لكِ أمراً من قبل ..
ولن أرفض لك هذا الطلب الأخير ..
وكنوع من الوداع اقتربت منه سيدته ففتح جناحيه وعائقها :
- لقد كانت أياماً رائعة أليس كذلك ؟!
10
أجاب بثبات ولكنها تعلم بأنه منكسر :
- بالتأكيد كانت كذلك
- وأردف متسائلاً :
هل كان إكليل خادما مطيعاً سيدتي ؟
- لا - همست - لقد كان صديقاً وفياً وهذا ما يجعل فراقه أصعب
1
- ماذا سوف تسمين الفرخ الجديد ؟! - سأل بفضول .
أبتسمت له بحنان وهي توشوشه في أذنه كأنها تخبره بسر :
- الفرخ الذي سوف يولد من رمادك سيكون اسمه إكليل ؛ حتى أذكرك كل ما نظرت إليه أو ناداه أمامي أحد !!
ثم ولكي لا يجعل الوداع صعباً أكثر مما هو عليه ،
فإنه لم يدع ذلك العناق يمتد طويلا وراح يحلق من النافذة مبتعداً وهو يقول بنبرة محايدة لكي لا يشعرها بالذنب على التضحية به :
- سأجمع الحطب من الغابة وأنتظرك أمام القلعة .
12
- وأنا سأنتهي من إعداد سائل النسيان للولد ثم سألحق بك ...
هبطت إلى المطبخ تناولت قدراً حديدياً متوسط الحجم وضعت في جوفه سائلاً لزج له كثافة العسل لونه أحمر ، ثم خلطت معه :
بعض الزهور السوداء أشعلت نار هادئة تحت القدر وانتظرت قليلاً إلى أن بدأ الدخان في التصاعد أخرجت بعد ذلك عصا خشبية وبدأت تحرك بها السائل بشكل دائري وهي تردد تعويذة النسيان :
- ينسی ينسی یا نار ، يا زهرة سوداء يا سائل أحمر للنسيان .. اجعلوا ابن جومانا ينسى فلا شيء يشفي جروح القلب غير الموت أو النسيان .
11
ولم تتوقف عن التحريك إلا بعد أن أصبح لونه خمري داكن مثل لون نبيذ عنب مُعتق ..
غمست طرف اصبعها في السائل الساخن ثم لعقته بطرف لسانها كأم تختبر كمية الملح في الطعام :
- مر - قالت - ولكنه سيجعل جروحه تمر  ..
4
في  الطابق الثاني من القلعة وفي الغرفة الواسعة ذات الشبابيك الطويلة المفتوحة والتي ينفذ منها الهواء وأشعة الشمس ، اقتربت تاج من السرير تحمل في يدها شراب النسيان ..
جلست بالقرب من حفيدها الذي كان لا يزال فاقد للوعي أسندت ظهره بيد ثم قربت الكأس من عند فمه باليد الأخرى
- اشرب -تمتمت - هذا سيجعلك تنسى ...
4
وحين انتهت من دفع سائل النسيان إلى جوفه مددته مرة أخرى فوق السرير بشكل مستقيم ، ثم أحكمت الغطاء على جسده تحركت نحو النافذة ألفت نظرة على الساحة الأمامية للقلعة ، فوجدت إكليل ينتظرها في الخارج وقد جمع حوله الكثير من أحطاب الغابة ...
4
******
  لم تكن تاج تريد أن تكبد نفسها مزيداً من الحزن على فراق طائرها ، ريما لذلك لم تتكلم معه عندما هبطت إليه بل جعلت بصمت تشكل الأحطاب فوق الأرض بشكل هندسي استعداداً للمحرقة القادمة :
- دعنا ننتهي من هذا الأمر سريعاً - قالت عندما انتهت .
حرك إكليل جناحيه ليقفز فوق الأحطاب ..
ثم نظر نحوها
- ابدأ قالت بنبرة صارمة ، تعطيه شارة البدء .
بدأ وجهه الحاد المثلث يصبح أكثر جدية من أي وقت مضى اصطبغت عيناه باللون الأحمر الناري ثم فجأة أطلق زئيراً مخيفاً حتى إن تاج – وهي التي لا تخاف شيئا - شعرت بالخوف في تلك اللحظة ، ثم فتح إكليل منقاره فخرج منه لهب حارق أشعل به الأحطاب الكثيرة التي يقف فوقها ..
ولم يمضي الكثير من الوقت حتى قامت تلك النار بالتهامه كلياً .
8
من الصعب أن نصف مشاعر تاج وهي تشاهد صديقها الوفي يحترق أمام عينيها ،  ولكننا لا نستطيع أن نقول أبداً بأنها شعرت بالندم لاتخاذها ذلك القرار إذ أنها تدرك بأن الهدف الذي ترغب في تحقيقه من وراء ذلك الفعل يستحق منها كل تلك التضحية ..
عندما انطفأ الحريق وتحول إكليل أخيراً إلى رماد كان يجب عليها أن تتحرك سريعاً لتنفيذ الجزء الآخر من خطتها ..
اتجهت نحو ذلك الرماد حركته بيديها وكأنها تفتش عن شيء ما تحته وعندما وجدت ما تبحث عنه ابتسمت ...
كان فرخاً صغيراً بحجم قبضة الكف له ريش كثيف برتقالي اللون ناعم ، ويملك عينين مذعورتين تشبهان عيني أرنب خائف ولديه منقار صغير معقوق ويملك قدمين هزيلتين في كل واحدة منهما خمسة مخالب ضعيفة ..
1
ومن كان سيشاهد فرخ طائر العنقاء الصغير ذلك والذي ولد مرة أخرى من رماده ، له يأتِ في باله أبداً أن ذلك المخلوق اللطيف ، سوف يصبح سلاحا فتاكاً عندما يكبر ، قالت وهي تنظر إليه بحنو :
4
- مرحبا يا أنت !!
كان فرخ طائر العنقاء ينظر إليها بتعجب إنه لا يعرف أي شيء عن هذه المرأة العجوز ، ولا يعرف من تكون ولماذا هي تحدق فيه بهذه الطريقة الغريبة ..
أرادت تاج أن تربت على ريشه الناعم أن تحمله بين يديها لكنها لم تفعل لأنها كانت تخاف من أن تفعل ذلك فيتعلق بها الفرخ معتقداً أنها سيدته الجديدة ..
جمعت بيديها كل الرماد ثم سارت به نحو القلعة ، وعندما نظرت للوراء وجدته باقياً في مكانه يحدق بها فصاحت عليه :
5
- اتبعني أيها الفرخ .
كانت تاج تسير نحو القلعة خطوة خطوة وببطء شديد حتى يتمكن الفرخ من اللحاق بها صعدت إلى حيث كان حفيدها لا يزال ممدداً فوق السرير أزالت من عليه اللحاف وبدأت تغطيه بالرماد ، وقد حرصت على أن لا تترك بوصة واحدة في جسده إلا وتتيقن من أن الرماد يغطيها باستثناء المنطقة الصغيرة عند فتحتي أنفه وذلك حتى يكون في مقدوره التنفس ...
وعندما انتهت أخيراً من تغطية جسده غادرت الغرفة تاركة خلفها الفرخ وحدة مع الطفل :
إنها بتلك الطريقة تدرك بأن الرماد سوف يكون كفيلاً بأن يحرك قوة النار الراكدة داخل حفيدها وأن المدة الطويلة التي سيقضيها الاثنان معاً سوف تكون كافية لكي يتعرف فيها فرخ طائر العنقاء على سيده الجديد ...

33
.........
«أنتهى»
متنساش ان الرواية موجودة كاملة في قناة التلجرام والواتساب
«أمنية»

في اليوم التالي :
فتحت باب الغرفة بقلق وهي تحبس أنفاسها من الخوف أطلت برأسها لتلقي نظرة على جسد حفيدها وعندما لم تجد أثراً من الرماد عليه تنفست الصعداء ومسحت بإصبعها دمعتي فرح هبطتا على خديها ، لقد استجاب جسده لرماد العنقاء وأصبحت قوة النار في طريقها للتحرك بداخله وما هي إلا أيام قليلة ويكون بعدها مستعداً لتلقي التدريبات التي ستجعل منه جنياً قوياً ..
ولكن سعادتها لم تكتمل إذ إنها تنبهت للتو إلى أن هناك
مشكلة كبيرة تواجهها ، أنه لا يزال نائماً منذ اللحظة التي أخذته فيها من المقبرة وإلى هذه اللحظة ، لذلك كان يجب عليها أن تأخذه لحكيم القرية حتى يرى ما به ويحاول معالجته ..
مدت يدها نحوه لتحمله ولكنها ما كادت تفعل ذلك حتى وقعت لها مشكلة أخرى ..
 
لقد ظهر لها فجأة فرخ طائر العنقاء من أسفل السرير وقام بالهجوم عليها ..
1
عضها في يدها مستخدماً منقاره الصغير المعقوف وحاول أن ينشب مخالبه الخمسة الضعيفة في جسدها حتى يمنعها من لمس الطفل ، وسبب هجومه المتهور ذاك كسر عن طريق الخطأ أحد مخالب قدميه ..
إنه يقوم بالدفاع عن الطفل كيف غاب ذلك عن بالها ؟ ! ..
لن يكون من السهل إقناع ذلك الفرخ العنيد بأنها لا تريد أن تؤذي سيده الجديد ..
هي تعلم بأنه لا يزال ضعيفاً وبأنها تستطيع التغلب عليه بكل سهولة ، لكنها تعلم أيضاً بأن سلالة العنقاء لا تنسى أبداً ولا تغفر وبأن لها من الكرامة ما  يجعلها تعود مهما طال الزمان بها للانتقام من كل شخص حاول في يوم ما أذيتها ..
لذلك حاولت أن تشرح له الموقف :
- سيدك بحاجة لرعاية طبية .
حرك الفرخ رأسه يميناً وشمالاً كأنه يخبرها بأنه لا يثق بها فقالت :
1
- انظر إليه إنه لا يتحرك ، سآخذه فقط إلى الحكيم !!
وعندما بدا شكله أنه لا يزال غير مقتنع بكلامها فإنها قالت :
8
- تستطيع أن تأتي معنا لتتحقق بنفسك –
وأضافت : لن أسمح لأحد بالقيام بأذيته أعدك !!
******
أمام منزل صغير يقف عند زاوية الطريق ، توقفت العربة التي يجرها سابح بعد رحلة استغرقت الكثير من الوقت ..
هبطت من العربة تحمل حفيدها بين يديها بسهولة رغم ثقل وزنه ، يتبعها فرخ طائر العنقاء الذي بدا قلقاً ومتوتراً من هذه الزيارة ..
وما كادت تطرق باب المنزل حتى جاءها الصوت الساخط من الداخل :
- من هذا الحيوان الذي يطرق الباب بهذا الوقت ألا يستطيع الإنسان أن يرتاح قليلا في هذه القرية الغريبة ؟!
عندما فتح الحكيم الباب وشاهد من كان يقف أمامه شعر بفداحة الورطة التي أوقعه فيها لسانه الطويل :
- ذات الطائر الأحمر قال مرتبكاً
- أعتذر لم أكن أعرف أنه أنت لم تتكلم وظلت تحدق فيه لبعض الوقت باستياء فقال :
- إن كان هناك حيوان فإنه أنا
- وأضاف بخوف : كيف أخدمك ؟!
7
- هذا الولد ..
- ما به ؟ !
- اجعله يستيقظ !!
اقترب الحكيم ليلقي عليه نظرة فاستطاع أنفه أن يلتقط رائحة الرماد :
- يا للسماء ما هو سر هذه الرائحة الكريهة في جسده ؟ !
- لقد دهنته بشيء خاص !!
- ما اسم هذا الشيء الخاص - قال الحكيم بتقزز - براز؟ !
- سأقص لسانك الطويل هذا يا حكيم النحس !!
14
متجاهلاً ذلك التهديد ألقى الحكيم عليه نظرة ثانية وقال بخبث
- هل أنت مهتمة بسلامته كثيرا ؟!
أومأت برأسها فقال :
- دعينا إذا نعقد صفقة - أي نوع من الصفقات ؟ !
لقد بذلت في السابق جهداً كبيراً مع هذا المتهور دون مقابل .
- كم تريد من المال ؟! - سألت بنفاد صبر .
- سأكون أبلهاً لو أنني أطلب مالاً من جنية مثلك
- ما الذي تريده يا حكيم النحس ؟!
- أخبريني أنت ما الذي تستطيعين دفعه لي ؟!
- سأحقق لك أمنية واحدة - ثم أردفت : هل هذا يكفيك ؟!
- يكفي .. أدخليه دعينا نرى ما به
– قال وهو يفسح لها مجالاً للعبور .
صاح فرخ طائر العنقاء محتجاً فسأل الحكيم وقد انتبه إليه للتو :
- ما خطب طائر البرتقالة هذا ؟!
5
- إنه غاضب لأنك دعوتني للدخول ولم تقم بدعوته
3
- أوه آسف لم أنتبه ، تفضل بالدخول أنت أيضاً ..
14
******
كان فرخ طائر العنقاء يقف قريباً منهما يراقب بتركيز كل حركة يقوم بها الحكيم أما تاج فقد كانت تشعر بالقلق ..
إنها ليست واثقة مما فعلته بالطفل ، تخاف من أن تكون قد استعجلت في إعطائه سائل النسيان ، أو أن رماد العنقاء قد تسبب في إلحاق الضرر بوظائف جسده الحيوية ..
قام الحكيم بتمديده على السرير الذي يعالج فيه مرضاه :
سأبدأ بفحص العين أولاً - قال متباهياً بنفسه
– إنها نافذة الجسد الرئيسة كما تعلمين ومن خلالها يستط ...
تباً لك ولكلامك الكثير الذي لا ينتهي يا حكيم النحس - قاطعته يغضب ، ثم أمرته قائلة :
أبدأ بفحص الصغير بسرعة !!
5
رفع الحكيم إصبعاً مرتجفاً في وجهها وقال بنبرة باكية : بهذا الأسلوب لن أستطيع الكشف عن حالة الصبي بطريقة صحيحة وهذا سوف يكون بسببك انتِ
5
– ثم ولانه كان يريد أن يشتم احدا وهو يعرف أنه لا يتجرأ على توجيه الشتيمة لتاج فإنه حول إشارة إصبعه نحو فرخ طائر العنقاء وقال :
- وبسبب تلك النظرات الغريبة التي يرسلها لي هذا الطائر الأبله !!
اعترض فرخ طائر العنقاء بإطلاقه صوتاً يحمل نبرة استفهامية كما لو كان يريد أن يقول بأنه لم يفعل شيئاً سيئاً ، ليستحق ذلك التوبيخ ..
11
فقالت له تاج تعتذر :
لا لم يكن يقصد أن يسيء إليك كل ما في ا الأمر هو أن هذا الحكيم يمتلك لساناً طويلاً ، وهو يحتاج من وقت لآخر أن يمده قليلا خارج فمه .
تمتم الحكيم وهو لا يزال يشعر بحاجة للتنفيس عن غضبه :
- أمتلك شيئاً آخر طويل وإن كنت لن تمانعين أستطيع أيضا أن أمده قليلاً إلى الخارج .
30
أمسكت لسانه بيد ثم أمسكت بيدها الأخرى عضوه الآخر ذاك :
- واصل فحص الولد حتى لا أقص لك أشياءك الطويلة !!
48
- حثناً ، لا بأث ثأفعل .
6
- جيد - قالت تاج ثم أضافت وهي تبعد يديها عنه - ابدأ .
2
بدأ بفحص العين اليمنى أولاً ثم انتقل لفحص العين الأخرى ، ولكنه ما كاد أن يفتح الجفن الأيسر لعين الطفل حتى أصابته الدهشة :
- يا للسماء !!
- ما بك -تساءلت - هل ثمة خطب ؟!
- هناك شيء غريب - ثم أضاف بدهشة :
عينه اليسرى تصدر وهجاً لونه أحمر !!
لم تكترث لما قاله الحكيم لأنها تعلم بأن السبب الحقيقي وراء الأحمر في عينه ، هو إشارة للنار التي بدأت تتحرك داخله ،  قالت :
-دعك من هذا الأمر وابدأ في علاجه !!
رد الحكيم ممازحا وهو يحاول التقرب منها وكسر حاجز الخوف معها
- لما لا تفشين عليه بعضاً من تعاويذك ؟!
أم أنك أصبحت كبيرة في السن
- هل تريد مني أن أحولك إلى ضفدع لترى بعينيك مدى قوتي يا حكيم النحس ؟!
7
- كنت أمزح !!
- هذا ليس وقتاً مناسباً للمزاح أيها الأحمق !!
نظر الحكيم نحو الفرخ ليشتمه ولكن تاج حدست ذلك :
- إياك
3
– ثم أردفت وهي تشير بعينها نحو حفيدها :
افحص الولد !!
جلب الحكيم ربطة أعشاب مقوية وأخرج من أحد الجوارير ورقة صفراء صغيرة الحجم مطوية كان مكتوباً عليها بالزعفران وبخط دقيق جدا بعض الآيات التي جاء ذكرها في أحد الكتب السماوية وضع تلك الورقة مع الأعشاب داخل طبق فخار ، أضاف القليل من الماء المغلي ثم قام بخلطها مستخدماً يد نجر خشبية :
1
- هذا الدواء سوف يجعله يفيق
- تمتم وهو يسقيه من الوصفة تساءلت تاج :
هل هناك احتمال في أن يظل نائماً لفترة طويلة أيها الحكيم ؟
- لا أعلم - وأضاف :
لا بد أن خسارته لأمه كانت أكبر بكثير من أن  يستطيع قلبه وعقله تحملها
- وماذا في إمكاننا أن نفعل حيال ذلك ؟!
أن نصلي للسماء من أجله - وأضاف :
إنه الآن في عالم آخر ويجب علينا أن ننتظر حتى يجد بنفسه الطريق الصحيح للعودة لعالمنا  لا شيء غير هذا !!
- هل سيطول انتظارتا ؟
-قد يستيقظ بعد لحظات ..
وقد لا يستيقظ أبدا !!
******
بعد ساعات طويلة من الصمت تجرأ الحكيم قائلاً :
- هل هذا الصغير مثل والدته ؟ !
- ماذا تعني - قالت بتوتر - ماذا تعني بقولك مثل والدته ؟ !
ـ أنا أعرف الحقيقة يا ذات الطائر الأحمر جومانا لم تكن بشرية
- ما الذي يجعلك تقول كلاماً مثل هذا ، ماذا عساها تكون إذا ؟!
- لقد أفنيت عمري في هذه المهنة - قال بثقة
- كنت هناك حين مات الكثير من البشر ، ولم أشاهد في حياتي شيئاً يشبه موت جومانا من قبل ،
لقد كان قلبها متوقفاً عن النبض بينما يشع من عينيها وهج غريب لونه أحمر ، يشبه بالضبط الوهج الأحمر الذي يصدر من العين اليسرى لهذا الولد ...
- وهل هذا ما جعلك تفترض أنها ليست بشرية ؟!
- لقد قرأت عن هذه الظاهرة ذات مرة في أحد الكتب
- ماذا قرأت ؟!
- حين يموت الجن تظل أعينهم متوهجة لبعض الوقت بلون أحمر قاتم ، ثم تنطفئ نهائياً ولكن الشيء الوحيد الذي لا يجعلني متأكداً ولم أفهمه هو أنه كيف لجنية أن تموت بسم بشري ؟!
صمتت تاج قليلاً تفكر في الخروج من هذه الورطة ولكنها أدركت أخيراً أنها محاصرة من جميع الاتجاهات ، ولن تستطيع الكذب على الحكيم الذي كان يبدو أنه مطلع جيداً على تلك الأمور فقالت :
- لقد تخلت عن قوتها منذ وقت طويل منذ اللحظة التي وافقت فيها على الزواج من بحر .
- حتى لو أنها تخلت عن قوتها فإن جسدها لا يزال مكونا من النار .. والجن لا يموتون بسم بشري !!
التفتت تاج إليه وقالت بتوتر لم تستطع إخفاءه :
- ما الذي تقصد قوله ؟!
- أقصد أن أقول بأن هناك أحدا من الجن كان له يد في مقتل جومانا
أخذت نفسا عميقا قبل أن تقول بخيبة أمل :
- وبماذا يفيد هذا الكلام ؟!
لقد ماتت ولن تعود.
- هل هي ابنتك ؟!
في لحظة ضعف حرکت رأسها معترفة
بالسر فسأل الحكيم :
- وهل هذا الولد ينتمي للجن ؟!
- إنه مختلف ليس بشرياً تماماً وليس جنياً ، إنه كلاهما في الوقت نفسه !
- هل تقصدين أنه هجين ؟!
- بالضبط - أجابت - هجين !!
امتدت بينهما لحظة صمت طويلة حتى سألت تاج :
- قل لي أيها الحكيم هل جربت الحب يوما ؟!
- مرة واحدة قبل عشرين عاماً عندما كنت شاباً
- ثم أضاف مداعباً
- ولكنني الآن لست مرتبطاً بواحدة إن كنت تفكرين بالارتباط بي !!
12
ابتسمت تاج وهي تقول :
- لست حمقاء إلى هذا الحد
3
- لستِ حمقاء للوقوع في الحب أم للارتباط بي ؟!
- کلاهما بالطبع - قالت ثم سألت :
لماذا لم تجرب الحب مرة ثانية ؟!
- لأن القلوب تصبح فاسدة بعد الفراق ولا تصلح للحب
مرة أخرى
4
تنهدت :
ربما تكون محقاً
- ولكن لماذا سألت إن كنت قد وقعت في الحب من قبل ؟!
كنت أريد أن أعرف هل كان الحب يستحق من جومانا كل هذه التضحية أم لا ؟! -
1
- نحن الرجال لا نستحق أن يضحي أحد بحياته من أجلنا على كل حال .
44
قال ذلك ثم نهض من مكانه ليتفحص الطفل وحين عاد سأل :
- وأنتِ ؟!
- وأنا ماذا ؟!
- ألم تجربي الحب يوما ؟!
لم تجب عن ذلك السؤال وصمتت طويلاً للحد الذي اعتقد معه الحكيم ، أن صمتها ذاك إشارة منها إلى رغبتها بعدم الإجابة ، غير أنها في نهاية المطاف باعدت بين شفتيها وقالت بحياء :
1
- مرة واحدة وكان منذ زمن طويل ..
- ولماذا لم تجربي الحب مرة أخرى ؟!
لأن القلوب تصبح فاسدة بعد الفراق ولا تصلح للحب مرة أخرى ابتسم الحكيم بشرود وقال :
معك حق - ثم أضاف متسائلاً بنبرة مرحة :
ولكن أخبريني من يكون سيئ الحظ ذاك الذي وقع في حبه ؟!
- جبار الأباطرة
6
فقال الحكيم مدهوشاً :
- ملك أبابيل السابق ؟!
أومأت له برأسها فقال الحكيم مصعوقاً بذلك الخبر :
- متی ؟! اقصد كيف حدث ذلك ؟!
قالت وكأن هناك قصة تختبئ خلف نبرة صوتها :
إنه زوجي
– ثم أردفت بحزن سحيق :
ولكننا لم نعد مثل الأول !!
2
- لحظة واحدة .. لحظة لكي أستوعب ، هل اسمكِ تاج ؟!
همست تاج والتي كأن جميع من في القرية لا يعرفون إلا أن اسمها ذات الطائر الأحمر :
- أنا هي
- إذا أنت التي تزوجها الملك جبار قبل زوال حكمه بسنين قصيرة ؟!
انعطف الحديث بينهما لمناطق وعرة لم تكن ترغب في الحديث عنها لذلك قالت :
- لا أريد الكلام بهذا الشأن .
صمت الاثنان لبعض الوقت ،
حتى ابتسم الحكيم أخيراً وهو يشير بإصبعه نحو السرير :
- أنظري لقد بدأ يستعيد وعيه
فتح الطفل عينيه ووجد نفسه في غرفة كئيبة عابقة برائحة الأعشاب وبقايا حطب محترق ، مضاءة بواسطة شعاع الشمس العابر من خلال الزجاج المتسخ للنافذة ، وأول ما شعر به هو ذلك الشيء الدافئ الذي يتحرك عند يده :
- أين أنا - قال بحيرة - وما هذا الشيء ؟!
قالت تاج وهي تبتسم وتقترب منه :
- هذا الشيء هو خادمك الخاص اسمه إكليل
ردد الطفل بهمس خافت : إكليل ؟ !
حرك الفرخ جناحيه وذيله الصغير ورأسه في آن واحد ، وبدا كما لو أنه يريد أن يطير من شدة الفرح ، فقالت تاج : إنه سعيد بعودتك ..
- عودتي ؟؟
- لقد أقلقتنا عليك أيها الولد الأبله هل عرفتني أنا الحكيم الذي جاء معك في الليلة الماطرة من أجل ....
- أيها الحكيم -قالت تاج ، وهي تلكزه بكوعها كما لو أنها تخاف من أن تدعه يتكلم فيتذكر حفيدها كل شيء
- نحن لا نريد أن نتعبه بأشياء لن تفيده !!
نظر الطفل بغرابة نحو الحكيم لبعض الوقت ثم قال :
- لا لم أعرفك من أنت ؟!
*******
صعد الطفل إلى العربة أولاً وفوق كتفه يستريح فرخ طائر العنقاء كما لو أنه يستريح فوق غصن شجرة ..
أما تاج فإنها قد تأخرت عمداً داخل منزل الحكيم لأنها تريد الحديث معه في أمر هام :
- هل أخبرت أحداً بسر جومانا ذاك ؟!
- أخبرت أيوب وطلبت منه أن يخبر زوجها بالأمر
ه لم تقلق تاج فهي تعرف أن أيوب سيحافظ على الوعد الذي قطعه لجومانا قديماً ولن يخبر صديقه بحر بالحقيقة ، ولكنها تشك في أن هذا الحكيم الثرثار حفظ السر ، لذلك فإنها فكرت بجدية في قتله لكي تدفن السر معه ..
3
ولكن في الوقت ذاته لقد قدم لها الحكيم صنيعاً لن تنساه بمساعدتها في شفاء حفيدها ، وهذا ما دفعها لأن تحتار :
- أكون صادقة معك أنا أفكر جدياً بقتلك  السر
- وهل بهذه الطريقة تشكرين الذي يقدم لك المساعدة ؟!
- هذا هو الشيء الوحيد الذي يمنعني من الإقدام على قتلك
- قالت تاج بأسف ثم أضافت  دعني أتفق معك على أمر ، أسمع سأدعك تعيش مقابل أن  تحفظ سر هذا الولد وأن لا تخبر بقصته أحداً هل أنت موافق ؟!
قال الحكيم الذي لم يكن يريد أن يموت :
- أعدك بأن لا أخبر أحداً !!
ثم ولأنها أيضاً لم تكن تريد لبحر أن يعرف بأن ابنه معها فيأتي للمطالبة به قالت :
- ولن تخبر أحدا بأنك رأيت هذا الولد معي
حتى لو كان أبوه ؟!
– ثم أكدت عليه : أي أحد
حرك الحكيم رأسه موافقاً :
- ولن أخبر أحداً بأني رأيته معكِ ، حتى لو كان أبوه !!
وقبل أن تنصرف من أمامه أوقفها متسائلاً :
- متى تحققين على الأمنية ؟!
- هل فكرت بواحدة ؟!
- بالطبع !!
- ما هي أمنتيك ؟!
- أمنيتي هي أن تحققي لي الكثير من الأماني !!
30
- لا تكن سخيفاً لا تستطيع أن تتمنى بهذه الطريقة فكر بأمنية واحدة فقط وسأحققها لك - قالت ذلك ثم غادرت .
حين وصلوا إلى القلعة ونزلوا من العربة التفت الحصان الأبيض نحو الطفل ، وهتف :
- أيها الولد حمداً للحظ على سلامتك !!
5
أما الطفل فإنه التفت لتاج مندهشاً :
- إنه يتكلم مثلنا !!
- هو لا يتكلم مثلنا ولكن أنت بطبيعتك تستطيع فهم لغة الحيوانات والتخاطب معهم بها !!
  أكثر ما كان يؤرقه في تلك الفترة هو أنه لا يتذكر شيئاً عن ماضيه أبداً ، كانت جميع ذكرياته تبدأ منذ الثانية التي فتح فيها عينيه ووجد نفسه في منزل الحكيم ممدداً فوق سرير غير مريح ، إنه يعرف أنه لم يأتي إلى الحياة في تلك اللحظة ، وأنه لا بد من أن تكون لديه حياة أخرى عاشها من قبل ..
ولكن الغريب في الأمر هو أنه كلما حاول أن يتذكر شيئاً كان رأسه يؤلمه :
- ما اسمك ؟!
- قال وهو يشير بإصبعه نحو جدته
- تاج - قالت .
ثم أشار نحو نفسه وسأل : وأنا ؟!
إنه في بداية الخامسة عشرة من عمره وكان الجميع لا ينادونه إلا بالطفل أو بالولد .. هكذا فكرت :
- سوف نفتش لك عن اسم في أقرب وقت أيها الولد
- وهذا الطائر الصغير لماذا يلاحقني أينما ذهبت ؟!
- إنه خادمك وهو الذي ساعد في تحريك النار بداخلك
- ماذا تقصدين بأنه ساعد في تحريك النار بداخلي ؟!
كانت تاج تؤمن بأن من حق حفيدها على الأقل إدراك طبيعة تكوينه البايولوجي لذلك أجابت :
- أنت مخلوق هجين كانت لك أم جنية وأب من الإنس !!
ودت لو أنها تستطيع إخباره عن والدته ولكنها خافت من أن يستعيد ذاكرته إن فعلت ، ويتذكر كل شيء قبل أن تنتهي من تدريبه ..
التفتت نحو الفرخ وأمرته بأن يقترب ولكنه صاح في وجهها دليلاً على أنه يرفض الانصياع لأوامرها فقالت تاج لحفيدها :
أمُره بأن يقترب أريدكما في أمر مهم ..
- ماذا أقول له ؟!
- قل له إكليل تعال إلى هنا ..
- إكليل تعال إلى هنا - تمتم بتردد .
1
اخفض الفرخ العنيد رأسه وحرك جناحيه وذيله دليلاً على الطاعة الكاملة واقترب ..
1
فقالت تاج وهي توزع نظرها بينهما :
أن نجح جسدك في امتصاص رماد العنقاء أيها الولد وأصبحت سيداً لإكليل ، فإنه يجب علي أن أحذركما أنتما الاثنين من شيء مهم ، سوف يعتني كل واحد منكما بالآخر لأن مصيركما بات مرتبطاً إن مات أحدكما
- فسيموت الآخر ..
10
..........
«أنتهى»
« الخوف هو الموت »

في الاسبوع التالي :
كان يجب على تاج أن تبدأ في تدريبة على للقيام بأستخدام قواه الخفية ، ليصبح قادراً على إخراجها والتحكم بها ، لذلك سارعت بإدخاله إحدى غرف القلعة الفسيحة ثم أغلقت الباب خلفهما دون السماح لإكليل بالدخول رغم إصراره على مرافقتهما
- لماذا لا تسمحين له بالدخول ؟ ! - قال متسائلاً
- لأني أريدك اليوم بكامل انتباهك ..
ثم ولأنها تعلم بأن الخوف هو العائق الأكبر الذي قد يواجهه في بدايات التعلم ، والعقبة الوحيدة التي لن ينجح في استخدام قوته الخاصة إلا بعد أن يحطمها ، فإنها تربعت أرضاً وأمرته بالجلوس أمامها ، وقد حرصت على أن تجعل بينهما مسافة سبعة أمتار :
- اجلس هناك .
جلس حيث طلب منه ثم مدت تاج يدها إلى قفص كبير مغطى بستارة بيضاء ، كان الطفل في البداية يحسبه حائطاً من كبر حجمه لذلك فإنه لم ينتبة إلى وجوده إلا في هذه اللحظة ، قالت له قبل أن تكشف الغطاء عما بداخل القفص
- القوة تنبع من القلب يا صغيري لذلك استحق الأسد أن يكون ملكاً للغابة
- ملكاً للغابة ؟!
- إنه لا يخاف شيئاً يذهب نحو الموت كما لو أنه ذاهب لنزهة ، يجب عليك أن تهزم خوفك إن كنت تريد أن تصبح حراً
14
– ثم أضافت : يجب عليك أن لا تدع الخوف يأسرك فأنت لم تأتي إلى هذه الحياة لتكون عبداً !!
4
حرك رأسه دليلاً على الفهم والطاعة وكما لو أنها لم تسمع ذلك الرجاء مدت تاج يدها نحو باب القفص
- جيد ..
قالت تاج ذلك ثم رفعت الستار الأبيض عن القفص فشاهد أفعى سوداء طويلة ضخمة من فصيلة كوبرا الجن ..
1
سألت :
أتعلم ما الذي قد تفعله هذه الأفعى بك لو أنها هجمت عليك ؟!
كان الخوف مسيطراً عليه للحد الذي جعله لا يستطيع أن ينطق .
- سوف تنفث سمها عليك فتقوم بشل حركتك نهائياً لتجد نفسك بعد قليل في بطنها تعاني من الشلل والضيقة ونقص الهواء ، بالإضافة للجروح القاتلة التي ستخلفها أنيابها الحادة على جسدك .
3
كان منظر الأفعى السوداء مرعباً للغاية لها رأس مسطح مثل صفيحة درع إغريقية وعينان باردتان يشع منهما بريق الموت ، ولسان نحيل متشعب أسود اللون تقوم بإخراجه من وقت لآخر بينما تصدر فحيحاً مرعباً ،
أبتلع الطفل ريقاً من الخوف ثم قال :
- لا تدعيها تخرج من قفصها أرجوك !!
وكما لو أنها لم تسمع ذلك الرجاء مدت تاج يدها نحو باب القفص
- لحظة .. ماذا ستفعلين ؟ ! - قاطعها الطفل صارخاً .
- لا شيء - قالت ببرود - فقط سأسمح لها بالخروج
- ولكنها خطيرة !!
- اطمئن الأفاعي تسير خلف حدسها وتتغذى على الأشياء التي تشعر بالخوف
- ثم أضافت : لذلك لا تخف أنت ..
وأعدك بأن لا تقوم بأذيتك !!
- ولكن أنا خائف !!
- استعد إذاً لأنك ستكون وجبتها اللذيذة !!
فتحت باب القفص وما أن فعلت ذلك حتى خرجت الأفعى تزحف على بطنها تتلمس طريقها باتجاهه مستعينة بلسانها الأسود الطويل المتشعب والذي يخرج ويدخل باستمرار من عظمتها اللسانية ..
قرأت تاج في عينيه محاولة للهرب فصاحت عليه تحذره :
- إياك أن تفعل ..

وبعد لحظات كان في استطاعته أن يشعر بحرارة لسانها السام وهي تلمس به جسده مثل عجوز عمياء تتلمس الأشياء بيدها ، طرأت في رأسه  فكرة الهروب مرة أخرى ولكن جاءه التحذير الثاني :
- لا تتحرك
– ثم أردفت :
هذا إذا كنت لا تريد أن ينتهي بك الحال في بطنها !!
لماذا تفعلين هذا بي ؟ - قال بصوت باكٍ
- أنا لم أفعل لك شيئا ًسيئاً .
وبدلًا  من أن تحاول تهدئته وبعث الطمأنينة في قلبه حتى ينجح في هزيمة الخوف سألته :
- هل تعرف ما الذي ستفعله بك ، بعد أن تقوم بألتهامك ؟!
لم تدع له فرصة التفكير بالإجابة وقالت :
ستأخذك إلى أقرب جذع شجرة متين لتقوم بالالتفاف عليه وأنت في بطنها ، حتى تحطم جسدك عظمة عظمة وذلك لكي يسهل عليها هضمك .
- تاج أنا أشعر بالخــــ ...
- لا تفكر بقولها حتى – قاطعته
- كن قوياً أيها الأحمق لا مكان للضعفاء في هذا العالم المتوحش ، مت الآن ولن يذكرك أحد ..
كن شجاعاً وسيروي الجميع قصتك !!
21
لم يكن يعرف ما الذي يجب عليه أن يفعله ولكن ربما وقوفه وجهاً لوجه أمام الموت ، كان الشيء الذي جعله يحاول فعل ما تقوله تاج ، هو لا يريد أن يموت الآن إنه ممتلئ بالحياة ، لذلك بدأ عقله يفكر بهذه الطريقة :
« الخوف يعني : أن تقوم تلك الأفعى بالقضاء علي .... عدم  الخوف يعني : النجاة »
أبقى أعضاءه ساكنة أغمض عينيه وغاص عميقاً داخل نفسه مثل غواص يفتش عن صندوق مفقود في أحد قيعان البحار البعيدة ..
وبينما كان منهمكاً بالتفتيش عن الخوف بداخله إذ لمح شخصاً بشعاً له وجه ضخم تغطيه البثور الكبيرة يصنع ابتسامة تكشف أسناناً صفراء متسوسة ..
وقف الطفل أمامه وقال
- أنت الخوف أليس كذلك ؟!
- ما الذي تريده ؟! – قال الخوف - بلى أنا هو !!
- أريدك أن ترحل من هنا
- اسمع أيها الطفل أنا لا أستطيع أن أعصي لك أمراً
- قال الخوف ثم أضاف :
فأنت في آخر المطاف سيد مشاعرك وتستطيع أن تأمر فأطيع أمرك ولكن دعني أخبرك بشيء ما قبل أن أرحل ، هذه الأفعى السوداء التي أمامك ستمزقك بأنيابها الطويلة قطعة قطعة انظر إلى عينيها وإلى الطريقة التي تحدق فيها بك ، إنها جائعة وأنت وليمة سهلة لها !!
4
انتصر الخوف عليه وكاد الطفل أن يرفع رايته البيضاء مستسلمًا ، ولكن في اللحظة الأخيرة جاء الصوت من الخارج :
- لا تستمع إليه – قالت تاج - لا يوجد شيء يستحق أن نخاف من أجله هذه الحياة لا تغري إلا الجبناء !!
بدا أن كلمات تاج أتت في التوقيت الصحيح الأمر الذي دفعه ليقول :
سأفضل الموت بشجاعة إن كان لا بد لي من الموت ، ارحل أيها الخوف لا مكان لك هنا !!
1
- هه ، كما تشاء !!
هذا ما قاله الخوف باستخفاف قبل أن يستدير ويغادر .
- - هيه أنت - صاح الطفل عليه
- خذ حقائبك معك فليست لك عودة إلى هنا مرة أخرى ..
- لا تكن مغروراً - قال الخوف ببرود ومن غير أن يلتفت
- ستقع في الحب يوماً وحينها سأعود إليك ..
27
طوقت كوبرا الجن جسده وكان في استطاعته أن يشعر بعضلاتها الصلبة وبخشونة الحراشف الدقيقة في جلدها ، وهي تحتك بجسده الهزيل قربت فمها من عند أذنه ثم أطلقت فحيحاً منخفضاً كما لو أنها في تلك اللحظة كانت تقول :
- قل مرحباً للموت أيها الصغير !!
لقد كان بين أحضان الموت ورغم ذلك إلا أنه لم يشعر بالخوف
- تعلم أن تضبط نفسك- قالت تاج
كل الأخطار ستمضي إذا ما كان الصبر معك
استمرت كوبرا الافعى تلف نفسها حول جسده ساعة من الزمن كأنها تأخذ غفوتها هناك وخلال ذلك الوقت كان الطفل قد أبدى انضباطاً عالياً في التركيز وهدوء الأعصاب والحفاظ على مشاعره ،
وحين نجح في تدريبه الأول قالت له تاج :
- اطلب منها أن تحرر جسدك الآن !!
- أيتها الأفعى - قال - حرري جسدي -
- شرط أن تعيدني إلى الغابة - قالت .
- هل تسكنين هناك ؟!
- نعم وأنا حارسة الغابة المظلمة
– ثم أضافت : واسمي تارا
9
عندما قالت كوبرا الأفعى تلك بأن اسمها تارا ، أحس الطفل بأنه قد سمع ذلك الاسم من قبل ولكنه عندما فتش في أدراج ذاكرته ، شعر بالألم في رأس فأوقف عملية التذكر وقال متناسياً الأمر :
- تحرسينها من ماذا ؟!
- من المتطفلين فهذه الرقعة من الأرض لا يسمح لبني البشر بالدخول إليها
- قالت وهي تحرر جسده ، ثم تابعت موضحة :
إنها منطقة خاصة كانت تسكنها قديماً عائلة الأباطرة ، وظل محرماً دخول البشر إليها حتى بعد رحيلهم
- الأباطرة ؟!
– تساءل وكأنه أيضاً سمع بأسم تلك العائلة من قبل ولكنه لا يتذكر .
- إنها العائلة التي كانت تحكم مملكة أبابيل قديماً - قالت تارا .
- وما الذي حدث لهم ؟!
- زال حكمهم
لم تكن تاج تريده أن يعرف أكثر فقاطعت حديثهما :
- يستحسن أن تسرع أيها الولد في إخراج تارا من القلعة كما وعدتها !
قال معترضاً :
- ولكني أريد أن أعرف كيف زال حكمهم !!
- سوف أخبرك لاحقاً
- وقت النوم ؟! - سأل . -
- أخبرتك أكثر من مرة بأنك كبرت على قصص النوم !!
- ولكنني أحبها !! 
- افعل كما أمرتك وخذ تارا إلى الغابة .
فتح الطفل باب الغرفة فسقط إكليل الذي كان يجلس متكئاً في انتظار أن يفتحوا له ..
حمله من على الارض وأجلسه فوق كتفه ثم التفت على الباب نحو تارا وقال قبل أن يهرول مبتعداً :
- اتبعيني !!
- شكرا لأنك وافقت مشاركتي تدريبه اليوم ، لم أكن أعتقد أنك ...
قاطعتها بحزم :
- لماذا تقومين بتدريب الصغير يا تاج ما الذي تخططين له ؟!
- أريده أن يصبح أقوى – أجابت باختصار .
تارا تعرف أنها لا تقول الحقيقة قالت :
- قد يكون في مقدورك فعل أشياء كثيرة ولكن الكذب علي ليس واحداً من تلك الأشياء .
- أنا لا أكذب يا تارا
- ربما لا تكذبين ولكنك أيضا لا تقولين الحقيقة كاملة !!
أخذت تاج نفساً عميقاً إنها تعرف بأنها لا تستطيع الكذب عليها :
- حسناً معك حق هناك سبب آخر ولكنني أرغب في الاحتفاظ به لنفسي
- ثم أضافت بتحدٍ :
هل لديك اعتراض على ذلك ؟!
زحفت تارا مغادرة وهي تقول :
- لا ولكن تذكري أني سأكون دائمًا هناك ، وأني لن أسمح لكِ بأذيته .
8
..........
«أنتهى»
« أنا الذي يصنع ما يقول »

في إحدى الساحات الشاسعة للغابة المظلمة وأمام صخرة كبيرة، كانت تنتصب هناك قالت تاج وهي تصالب يديها وتحادث حفيدها :
- سوف تستطيع فعلها بالتأكيد !!
- ولكن ليست هناك فتحة في تلك الصخرة لكي أستطيع العبور من خلالها للجهة الأخرى !!
+
- أنت لست في حاجة لوجود فتحة لكي تستطيع العبور
- ولكن كيف ؟!
- افعل كما أخبرتك وكفاك تذمراً هذا ما دار بينهما وهي تحاول تعليمه استخدام مهارة العبور
«النفاذ من خلال الأجسام الصلبة» ..
غير أنه لم يكن واثقاً من قدرته على استخدام تلك المهارة ورغم ذلك إلا أنه سوف ينفذ ما هو مطلوب منه ..
تراجع عشر خطوات إلى الوراء ثم راح يركض باتجاه الصخرة بكل سرعته وبدل العبور من خلالها للجهة الأخرى، اصطدم بها ووقع أرضاً ..
تسبب ذلك الاصطدام بفتح جرح عميق في منتصف جبينه تسرب من خلاله الدم إلى عينيه وأنفه، التفت نحوها وقال بشيء من العتاب :
- الم أقل لك بأنني لن أستطيع ؟!
ركض إكليل نحوه ليطمئن عليه وما أن شاهد الجرح حتى صاح بصوته الناعم ..
قال الطفل ليطمئنه : 
- لا تقلق ، أنا بخير .
سدت تاج بيدها فتحة الجرح ومسحت بيدها الأخرى آثار الدم من على وجهه، نظرت إلى عينيه البندقيتي اللون بصرامة كما لو أنها بنظرتها تلك كانت
تعاتبه على اصطدامه بالصخرة..
سألت:
- من أنت ؟!
- الطفل - أجاب ببراءة.
- لم  أقصد اسمك أقصد من تكون !!
رغم بساطة السؤال إلا أنه لم يعرف بماذا يجيب..
قالت تاج:
- إذا كنت فعلاً تريد النجاح في تحقيق أهدافك يجب عليك أولاً أن تعرف نفسك جيداً ..
لهذا دعني أسألك مرة أخرى ، من أنت؟!
5
فكر قليلاً وعندما فشل في التوصل لإجابة قال :
- لا أعرف
- آ آ - قالت تاج بطء وهي تشير بيدها نحو نفسها
- برآ کا داا برآ
3
ثم أعادتها مرة أخرى حتى تعلمه طريقة نطقها:
- آ آ بر آ.. کا د آ  بر آ، وتعني أنا الذي يصنع ما يقول .
حرك رأسه دليلاً على الفهم والطاعة
- والآن أخبرني من أنت؟! – أعادت تاج سؤالها عليه.
آآ- قال وهو يشير بيده نحو نفسه مقلداً
- برآ کا داا برآ..
- هل تستطيع اختراق تلك الصخرة ؟! - سألت .
نعم، أستطيع – أجاب بثقة.
- إذاً - صاحت وهي تصفعه على مؤخرته
– اذهب واصنع ما تقول
1
متناسياً الألم الحارق والذي يسببه له الجرح المفتوح في جبينه، تراجع عدة خطوات إلى الخلف ثم وقبل أن ينطلق لتحقيق هدفه أمامه فارداً جناحيه راسماً بهما علامة قف، كما لو أنه يريد منع سيده من أذية نفسه :
- إن كنت تؤمن بي فابتعد - صاح عليه .
رغم عدم ثقة إكليل التامة به إلا أنه اخفض جناحيه وابتعد عن الطريق ..
نظر نحو الصخرة الكبيرة بإصرار وقبل أن يركض باتجاهها قالت له تاج :
- تنفس عبر فتحتى أنفك اشعر بالهواء وهو يغذي داخلك وعندما تشعر بأنك مستعد انطلق !!
تراجع خطوات إضافية للخلف أغمض عينيه أخذ نفساً عميقاً عبر فتحتي أنفه وأحس بالأكسجين وهو يجري عبر قصبته الهوائية مستقراً في رئتيه مغذياً  بعد ذلك كل خلايا جسده ..
وعندما شعر بأنه مستعد فتح عينيه وقد اصطبغت عينه اليسرى باللون الأحمر القائم ، ثم سمح لقدميه بأن تدفعانه نحو الصخرة .
أما إكليل فإنه أشاح بنظره نحو الجهة الأخرى، إنه لا يرغب في أن يكون شاهداً على تحطم راس سيده، بينما حبست تاج انفاسها وهي تراقب انطلاق حفيدها نحو الصخرة، فرغم ثقتها به وتحفيزها المتواصل له، إلا أنها لم تكن متيقنة تماماً من أنه سوف يكون قادراً على استخدام مهارة العبور خاصته بهذه السرعة !!
2
وعندما جاءت اللحظة التي كان من المفترض أن يصطدم بها في الصخرة ويسقط أرضاً كما حدث معه  في المرة الماضية، استطاع أن يخترقها ويعبر من  خلالها للجهة الأخرى .
عاد إكليل لينظر باتجاه الصخرة حتى يرى ما الذي حدث ولكن عندما لم يجد له أثراً أطلق صوتاً ناعماً يحمل نبرة استفهامية، كأنه يسألها عن المكان
الذي ذهب إليه سيده ..
فتحت تاج فمها لتخبره بالجواب ولكنها قبل أن تتكلم صاح الطفل بكل صوته وهو يكمل طريقه ركضاً بين الأشجار العالية المتشابكة للغابة الظلمة :
- آآبرآ کا دآآ برآ، أنا الذي يصنع ما يقول !!
9
..........
« أنتهى »
متنساش ان الرواية موجودة كاملة في قناة التلجرام والواتساب
« ضيف مفاجأ !! »

تعلم  خلال الثلاث السنوات التي قضاها هو وإكليل عند جدته الكثير من الأشياء المهمة، وكان في استطاعته تعلم المزيد لو لم يطرق ذلك الشخص بوابة القلعة في مساء ذلك اليوم ..
9
حدث هذا عندما كانت تاج تحاول القيام بتعليمه، كيفية التأثير في الأشياء المادية عن بعد ومن غير الاحتكاك المباشر بها ..
الأمر الذي كان سيضاعف من قوته كثيراً لو أنه استطاع إتقان هذه المهارة  بشكل كامل ...
أحضرت له شمعة مطفأة جعلتها بعيدة عنه بحيث لا تستطيع يديه الوصول إليها ثم قالت :
- أشعل النار في فتيلها نظر بغرابة نحو فتيل الشمعة المطفأة وقال مستسلماً :
- لا أستطيع
- توقف عن القول بأنك لا تستطيع .. قل بأنك لا تعرف !!
1
- ما الفرق؟!
- عندما تقول بأنك لا تستطيع فهذا يعني اعتراف بالعجز، ولكن عندما تقول لا أعرف فهذا يعني بأنك تحتاج إلى القليل من العلم حتى تحقق هدفك
9
- ثم أضافت بنبرة قاسية: يجب عليك أن تراقب كلماتك أيها الولد أنها من تحدد مصيرك  !!
1
- حسنا أنا لا أعرف وأريد أن أتعلم !!
- كل شيء تفكر به قابل لأن يتحقق ...
فعقلك لا يستطيع التفكير بالأشياء المستحيلة ..
كل ما ينقصك فقط هو الإيمان بنفسك
4
- الإيمان بنفسي - قال متسائلاً ؟!
- كل ما ينقصك هو الإيمان بنفسك وسترى كيف ينحني  لك العالم كله من أجل أن يحقق لك ما تريد .
8
حرك رأسه دليلاً على الفهم والطاعة .
- والآن حتى تشعل فتيل الشمعة يجب عليك ان تستعين بخيالك
- بخيالي - قال متعجباً من ذلك الكلام - كيف ؟!
- الأهداف تولد أولاً في المخيلة ثم تتحقق في الواقع ..
- لم أفهم !!
- حسنا دعنا نسير خطوة خطوة
– ثم أضافت بصبر: ما الذي تریده ؟!
أشار نحو الأمام بإصبعه وقال:
أن أشعل فتيل تلك الشمعة
- الأمر بسيط تخيله في رأسك يشتعل وسيحدث ذلك فعلا
- هذا كل ما في الأمر ؟!
أومأت تاج له برأسها ..
تخيل الطفل أن فتيل الشمعة يشتعل ولكن لم يحدث شيء في الواقع:
- لقد فعلت كما قلت لي ولم يشتعل الفتيل - أعلن استسلامه .
ضربته على رأسه بقوة وصاحت عليه:
4
- هل كنت تعتقد أن الأمر بهذه البساطة ؟!
وهو يمسك رأسه بيديه من شدة ألم الضربة ويقول :

- لماذا ضربتني ؟!
4
- عليك أن تكون أكثر جدية وأنت تتخيل الأشياء إذا كنت تريدها أن  تتحقق فعلاً
- لماذا تصرخين ؟!
- لأنك أحمق - قالت بصوت منخفض .
- لقد فعلت كما طلبت!!
- لقد كانت خيالاتك سخيفة
- ثم أضافت: يجب أن تشاهد في  خيط الدخان الخفيف وهو يتصاعد من الفتيل، وتشاهد الضوء المتراقص الذي تبعثه إضاءة الشمعة ، يجب عليك أن  تسمع  الصوت الصامت للنار وهي تشتعل  وأن تستنشق بأنفك رائحة الشمع الذائب، هل فهمت؟!
14
أوما الحفيد برأسه ثم راح يتخيل فتيل الشمعة يشتعل، ولكن بالطريقة التي أخبرته بها الجدة ..
4
فاستطأع مشاهدة خيط الدخان الخفيف المتصاعد من الفتيل والضوء الناعس المتراقص المنبعث من الشمعة، واستطاع أن يستنشق رائحة الشمع الذائب ..
وفي المقابل كانت تاج وإكليل يراقبان عن كثب الرأس الأبيض للفتيل وهو يتحول تدريجياً للون الأسود ..
«سينجح» همست تحادث إكليل بصوت منخفض لكي لا تقطع تركيز حفيدها ..
ولكن وقبل أن يتمكن من إشعال الفتيل كان هناك شيء قد حدث قطع عليه تركيزه وذلك عندما سمع أصوات طرق على بوابة القلعة :
- يبدو أن هناك من يطرق الباب - قال .
شعرت تاج بان ثمة أمراً سيئاً على وشك الوقوع :
سأرى من الطارق – ثم أضافت : وأنت واصل تدريبك !!
عندما فتحت بوابة القلعة رأت أمامها الشخص الذي كانت تخاف قدومه ...
لقد جاء بحر !!
32
- هل أستطيع أن أفهم ما الذي يفعله ابني عند امرأة مثلك ؟!
2
- لقد اعتنيت به في الوقت الذي تخلى عنه الجميع بمن فيهم أنت !!
1
- لم أتخلى عنه لقد ذهبت لمطاردة من قتلوا زوجتي !!
- وأين كنت في تلك الأيام التي كانت زوجتك فيها تموت في اليوم ألف مرة بسبب التفكير بك وبغيابك عنها ؟!
1
أصابت بكلماتها تلك جرحاً عميقاً في قلبه مما دفعه يواجه صعوبة شديدة في ضبط أعصابه :
- لم آتي لأشرح لك أسباباً لا تعنيك، جئت لأخذ ابني وأذهب
- ومن سيعتني به ؟!.. أنت ؟!

- أظن أن هذا ليس من شأنك يا ذات الطائر الأحمر !!
- لن يخرج الولد من هنا قبل أن تخبرني
- أريد أن أعرف لماذا تبدي جنية قذرة مثلك اهتماماً بولدي ؟!
- راقب لسانك إن كنت تريده أن يبقى داخل فمك - قالت محذرة
متجاهلاً التهديد:
- هل ستعطيني إياه أم آخذه باستخدام القوة ؟!
بهدوء يدل على ثقة عالية بالنفس ردت عليه :
لن يخرج من هنا قبل أن تخبرني عن الشخص الذي سيعتني به أن صحیح بحر كان فارساً لا يشق له غبار ولكن رغم قوته إلا أنه يجهل تماماً ما الذي قد تفعله به تلك الجنية ، لو أنها قررت استخدام قوتها ضده لهذا
رد عليها قائلاً :
- ومن سيقوم بمنعي ؟ أنتِ ؟!
تجاهلت تاج تلك الاستهانة الواضحة في نبرة صوته وقالت:
- أجب عن سؤالي يا بحر من سيقوم بالاعتناء بالولد ؟!
- ستقوم آيار بالاعتناء به ..
21
- ستدع تلك المرأة المعوقة تعتني بحف ..
- كادت تقول بحفيدي ولكنها تداركت نفسها بآخر لحظة وقالت:  بالولد ؟!
- هذا ليس من شأنك !!
أخذت تاج نفساً عميقاً واستطاعت بعد جهد كبير القيام بضبط أعصابها ، بين إنها تعلم مدى العناد الذي يتمتع به بحر وبأنها إن كانت تريد الاحتفاظ بحفيدها فإنه يجب عليها أن تكون أكثر ليناً في هذا الموقف :
- أعلم بأن فقدانك لزوجتك لم يكن بالأمر الهين
– ثم أضافت بنبرة أكثر لطفاً :
ولكن هذا الولد يا بحر لقد أصبح في الثامنة عشرة من عمره وهو يستحق الكثير من الاهتمام والرعاية، دعه يبقى هنا وأعدك بأني سأقوم برعايته وتعليمه حتى يكبر أكثر
2
- جنية مثلك ما الذي ستقوم بتعليمه لابني ؟!
قالت تاج وهي تفقد أعصابها :
- وأيار تلك أليست ساحرة ؟!
1
- بلى ولكنني أثق بها أما أنت فأنا لا أعرف عنكِ شيئاً !!
53
- أعدك بأنني سأعتني به وتستطيع القدوم في أي وقت لرؤيته
- أسف لا أقبل وعوداً من غرباء
11
- حسناً ربما تكون محقاً في عدم قبولك وعداً من شخص غريب
  وأضافت: ولكن أخبرني على الأقل هل ستكون أنت معه ؟!
  - لا - قال بحر : فأنا قد عدت للعمل مع منظمة الجاثوم مرة أخرى
اتسعت عينا تاج عندما سمعت ذلك الخبر وقالت غير مصدقة:
- بعد أن قتلوا زوجتك ؟!
1
لم يجب وكأنه لم يكن يريد أن يشرح أسباباً يرى أنها لا تعني أحداً غيره قالت تاج غاضبة:
- قلت لي قبل قليل بأنك ذهبت لمطاردة الذين قتلوا جومانا كنت أعتقد أنك ذهبت لتثأر لها، وليس لتجدد ولاءك لهم – ثم رفعت صوتها في وجهه وهي تقول :
هل حدث لرأسك شيء يا بحر ؟!
وبنبرة حزينة كما لو أنه يعترف بأخطائه أمام بابا الكنيسة :
- لقد قتلوها بسبب تهوري كان يجب علي أن أصغي لكلام صديقي أيوب عندما نصحني بأن لا أزور عائلتي، ولكنني أحمق لم أستمع لنصيحته ومن أجل ذلك قتلوها!!
7
- وهل وعدوك بأنهم سيعيدونها للحياة إن عدت للعمل معهم ؟!
- بل قالوا بأنهم سيدعون ابني يعيش
3
- وما هي شروطهم هذه المرة ؟!
- أن أترك الولد عند آيار تهتم به وأعود للعمل معهم
- تقصد ليكون تحت أعينهم فيهددوك به عند الحاجة
2
- المهم هو أن يكون بخير
- هل أنت مقتنع بهذا الكلام ، هل وافقك صديقك أيوب على ذلك ؟!
- لا أعرف عنه شيئاً
- لماذا أين هو ؟!
قال بحر وهو يبتلع رغبتة في البكاء:
- إن كان قد تمكن من النجاة فأظنه عند قبائل الأشاوس
- ما الذي حدث ألم تكن معه ؟!
- بل كنت ضده – قال بندم أضاف بروي القصة :
25
بعد أن قتلوا جومانا اتجهت أنا وأيوب غرباً نحو سلسلة الجبال المحرمة كنا نريد طلب العون من  الأميرة آشاس أميرة مملكة الأشاوس لكي تساعدنا في حرب الثأر ولكن  قبل أن نصل هناك اعترضوا طريقنا مبعوثي ناب الفيل
- ماذا كانوا يريدون ؟!
- أخبروني بأن ناب الفيل يتوعد بقتل ابني إن قمت بأي حركة ضده سراً
-وما  دخل أيوب في الأمر - قالت تاج
- ما الذي فعلته يا بحر ؟!
- بعد أن وافقت على العودة معهم كان أول أمر أتلقاه هو قتل أيوب
- وهل وافقت ؟!
لم يجب فكررت تاج بنفاذ صبر:
- هل وافقت ؟!
- لم يكن لدي خيار آخر – ثم أضاف :
حاولت قتله ولكنه هرب فطارده مبعوثو ناب الفيل وحين عادوا قالوا بأنهم قتلوه.
41
صمتت تاج من الصدمة بينما تابع بنبرة صوت يائسة تشي بعجزه :
- لا أحد يستطيع النجاة من بطش ناب الفيل، حتى أنت يا ذات الطائر  الأحمر لا تستطيعين الوقوف في وجهه إنه لا يغيب عن علمه شيء حتى إنني بدأت أقتنع فعلاً بأنه الرب كما يدعي ، فهو قوي لا يستطيع أحد التغلب عليه ولديه في كل مكان جواسيس ينقلون إليه الأخبار ، ولو أني فكرت مجرد التفكير فقط بتكوين قوة ضده فسيعرف بذلك ويأمر بقتل ابني ولن يستطيع أحد أن يمنعه حينها لذلك كان يجب علي أن أوافق !!
26
لم تعلق تاج ولكنها شتمته بنظرتها ..
7
قال:
- إنه آخر شيء تبقى لي من زوجتي وأنا لا أريد لشيء أن يمسه بمكروه لذلك وافقت على العودة معهم وهذه المرة لن أخالف الأتفاق سأطمئن فقط بأنه أصبح عند آيار وأعود إليهم ولن أرجع لرؤية ابني مهما وسوس لي الحنين
10
- ثم نظر نحو السماء وهتف : هل تسمع يا ناب الفيل، لن أخالف هذه المرة الاتفاق أعدك !!
20
أمسكته من تلابيب ثيابه ثم قربته إليها حتى كاد أنفها يلامس انفه :
- اخفض صوتك أيها الأحمق أنت تقف أمام قلعة جبار الأباطرة ولن يتجرأ ناب فيلك المخنث هذا مجرد التفكير بالاقتراب من هنا !! 
- ماتت جومانا تلك التي من أجلها كنت أتنفس
- قال بنبرة صوت تشي بعمق جرحة
- وأظن أنني خسرت صديقي أيوب ولم يتبقى لي أحد عزيز غير هذا الولد ، أرجوك دعيني أحافظ عليه بالطريقة التي أراها مناسبة أرجوك يا ذات الطائر الأحمر!!
10
مضت بضع لحظات أخرى قبل أن تقوم تاج بإفلات بحر من قبضتها، والعودة لداخل القلعة ..
- إلى أين ستذهبين ؟!
- سأحضر لك الولد..
24
*****
ذهبت إلى حيث الغرفة التي يجلس فيها حفيدها برفقة إكليل ورغم أنها شاهدت فتيل الشمعة يشتعل، إلا أنها لم تكن مسرورة كثيراً بنجاحه في اكتساب تلك المهارة الجديدة ..
نظرت مباشرة إليه وكان من الصعب عليها أن تخبره بأنه سيكون مضطراً للرحيل ولكن لم يكن أمامها خيار آخر :
- والدك هنا
- والدي ؟!
-  نعم وقد جاء ليأخذك
- يأخذني؟!
- نعم إلى امرأة ستقوم بالاعتناء بك ..
- ولكنني أريد البقاء معك
7
– قال وهو يتمسك بها .
- أرجوك لا تجعل هذا الوداع يكون صعباً – قالت تاج بحزن، وهي تبعده عنه
- اسمع الكلام واذهب معه
- وأنتِ ؟!
- لا تقلق سأكون بخير
– ثم أضافت: وسآتي لزيارتك من وقت لآخر ، اتفقنا ؟!
عندما قالت «اتفقنا» ضرب قلبه بقوة وشعر بإحساس لم يستطع في تلك اللحظة تفسيره، لم تكن تلك الكلمة غريبة عليه لقد كان يسمعها دائماً ولكنه الآن وبطريقة غامضة لا يستطيع أن يتذكر ..
- ما بك - سألت - لماذا أصبح وجهك أصفراً هكذا ؟!
تجاهل سؤالها وقال بتردد : اتفقنا !!
سار خلفها وفوق كتفه يجلس فرخ طائر العنقاء، والذي بدا هادئاً غير مبال بالأحداث التي تدور من حوله ..
لم يبدي أي ردة فعل عندما شاهد والده، وربما يكون ذلك بسبب ذاكرته المعطلة إنه يقف الآن أمام رجل غريب بالنسبة إليه لم يسبق له في حياته أن رآه قبل هذه المرة
1
.. قال بحر وهو يتفادي النظر لعيني ابنه واللتان تشبهان عيني جومانا :
- هيا سوف نذهب لمكان آخر..
التفت نحو تاج إنه لا يعرف ماذا يفعل
- إذهب معه - همست وهي تدفع من كتفه - ليس هنالك ما يخيف
- هز رأسه موافقاً وقبل أن يبتعد قال بحر مستغرباً كما لو أنه للتو ينتبه للطائر :
- هذا الطائر ؟!
- أسمه إكليل - قال الطفل - وهو الذي ســ ....
كاد يخبره بكل شيء، ولكن قبل أن يفعل أوقفته تاج مستخدمة مهارة التخاطر خاصتها وقالت له من غير أن يسمع بحر شيئاً : «لا تكمل.. توقف.. يجب ، أن لا يعرف أبوك شيئاً ولم يكمل فقال والده :
- أكمل وهو ماذا ؟!
ثم ولأنه واصل الحفاظ على صمته ولم يتكلم فإن والده لم يشعر بالاطمئنان خصوصاً وأن ذلك الطائر البرتقالي اللون لم يكن يشبه أي نوع من أنواع الطيور التي كان يعرفها قال حاسماً الأمر :
- نحن لن نأخذ هذا الطائر معنا !!
تحدث مع جدته مستخدمًا مهارة التخاطر :
«ماذا أفعل يا تاج ؟!»
-عليك أن تجد طريقة تأخذ فيها إكليل معك
التفت نحو والده وقال :
- أريد الاحتفاظ بهذا الطائر
- صمت قليلاً ثم تابع كما لو أن غريزته  أخبرته بأن يستخدم هذه الحيلة :
أرجوك يا أبي !!
نظر بحر نحو الطائر بشيء من الشك هو ليس مرتاحاً للأمر، ولكنه في الأخير كان تحت تأثير كلمة «أبي» إنها المرة الأولى التي يطلب فيها ابنه شيئاً منه، والمرة الأولى أيضا التي يناديه فيها بتلك الكلمة لهذا قال بعد تردد :
- لا بأس تستطيع الاحتفاظ به..
غادر ثلاثتهم المكان بينما زمجرة تاج بصرير صوت منخفض خرج من تحت أسنانها وهي تشتعل غضبًا :
- لقد حكمت على نفسك بالموت يا حكيم النحس –
ثم أضافت: ولكن قبل أن أصفي حساباتي معك هناك من يجب على رؤيته أولاً ..
المفترض أن تقوم حارسة الغابة المظلمة بقتل بحر في اللحظة التي وطئت فيها أقدامه أرض الغابة فهو كائن بشري في نهاية المطاف، ولكن لأنها لم تفعل ذلك فإن تاج كانت تريد لقاءها من أجل التحقيق معها بشأن هذا التقصير الذي لا يغتفر  ..
وقبل أن تذهب للتفتيش عنها سمعت حفيف جسد يزحف باتجاهها كان قادماً من بين الحشائش الكثيفة .. همست تارا وهي تقترب :
- اعلم بانكِ تريدين رؤيتي لذلك قررت أن آتي إليك بنفسي
- لماذا لم تقومي بقتله عندما دخل حدود الغابة ؟!
- لم استطع
- لماذا؟ - من أجل روح جومانا !!
نشأت كوبر الجن تلك منذ صغرها مع جومانا في قلعة الأباطرة وعلى اختلاف جنسيهما ، إلا أنهما لفرط تعلقهما بعضهما البعض عاشا طوال حياتهما كما لو أنهما أختان ولم يحدث أبداً أن افترقتا إلا عندما قررت جومانا الارتباط ببحر والزواج منه ورغم تعلق تارا الشديد بها إلا أنها احترمت قرارها وابتعدت عنها نهائياً ..
7
كان الغضب الذي في تاج يجعلها تتمنى القيام بقتلها ولكن في الوقت نفسه تعلم بأن الدخول في معركة ضدها تلك لن يكون سهلاً فقد تلقت تارا تدريباتها على يد جبار نفسه الأمر الذي يجعلها غير قابلة للهزيمة بسهولة ..
اختفت تاج من أمامها دون أن تفعل لها شيئاً واتجهت نحو مكان آخر .. ‏
*****
كان الحكيم وقتها مجلس فوق كرسيه الأثير يقرأ في أحد الكتب القديمة على ضوء شمعة مرهقة ..
فجأة سمع صوتاً من الفراغ يقول :
- ألم أقل لك بأن لا تخبر أحداً ؟!
- يا للسماوات هل هناك من يتكلم معي، أم أنني أتوهم ؟!
- ألم أحذرك بالقتل لو أنك فتحت فمك يا حكيم النحس؟!
- ذذ .. ذات الطائر الأحمر ؟!
1
ظهرت تاج أمامه فجأة وقد كان الانزعاج بادياً عليها بغضب ..
راحت تتقدم باتجاهه وقد اصطبغت كلتا عينيها باللون الأسود وكان شعرها الطويل يتحرك من تلقاء نفسه ، كما لو أنها في تلك اللحظة كانت تقف وجهاً لوجه ضد تيار هوائي شديد السرعة
1
- دعيني أشرح لك ...
ظلت تقترب دون أن تعطيه فرصة للحديث فقال مدافعاً :
- لم يكن أمامي خيار كنت مضطراً لقد هددني بالقتل إن لم أخبره !!
10
وعندما بات موته وشيكاً قرر الحكيم أن يستخدم آخر ورقة لديه :
- الحياة - ثم اضاف برعب :
الحياة هي أمنيتي لقد عقدت معكِ اتفاقاً ولا أظن أنكِ ستنكثين وعدكِ لي
5
- تباً لك - صرخت تاج - لقد نجوت من الموت !!
ولكنها قبل أن تغادر من أمامه قالت له كلمات لم يفهم معناها ثم مسحت يدها على وجه ..
2
وعندها شعر الحكيم بأن كل شيء في جسده يتقلص وبات شيئا فشيئاً ، حتى اختفى تماماً ولم يبقى منه سوى ثيابه التي سقطت أرضا ..
ثم وبعد قليل من الوقت كان هناك فأر لديه لحية طويلة نسبياً تشبه لحية عنز فحل خرج من كم ثياب الحكيم وقف على قائمتيه الخلفيتين ينظر إلى تاج لبعض الوقت ثم راح يركض بقدميه ويديه مبتعداً ..
29
.........
« انتهى »
« صحوة ذاكرة » !!

في غرفة ضيقة تضج أركانها بشباك العناكب وجد الطفل نفسه وحيداً برفقة فرخ طائر العنقاء ، بعد أن تركه والده تحت رعاية الساحرة آيار وذهب للعمل مع منظمة الجاثوم ..
1
وبسبب الوحدة أو ربما الحنين والفراغ كان طول الوقت يغمض عينيه ، ويحاول التواصل مع جدته عن طريق مهارة التخاطر : « أنا وإكليل نشعر بالحزن على فراقك ونفتقدك طوال الوقت هل تسمعيني یا تاج ؟! »
4
ولأنه لم يكن يتلقى منها أي إشارة تدل على الاستجابة فإنه كان يكرر عملية التخاطر تلك لأكثر من مرة ، ولا يتوقف أخيراً إلا عندما ينام على نفسه من فرط المحاولات والتعب ..
ثم وفي محاولة أخرى للتواصل معها فإنه لجأ ذات مرة لطريقة أخرى حيث قام بالتحدث مع عصفورة حطت على إفريز النافذة الصغيرة للغرفة :
- أيتها العصفورة سأعطيك شيئاً تأكلينه مقابل أن تذهبي للغابة المظلمة وتخبري تاج بأنني أريد الحديث معها !!
غير أن تلك العصفورة كانت تنظر نحوه بغرابة من غير أن تفهم منه حرفاً واحداً ثم طارت مبتعدة ..
كان الفشل الذي يحصل عليه من وراء تلك المحاولات يضاعف في داخله الشعور بالوحدة والحزن لقد فقد نهائياً مهاراته التي تعلمها من تاج وانطفأت قوته !!
4
مضت أيام كثيرة وهو على تلك الحالة من البؤس والضعف قبل أن  يستيقظ من نومه في منتصف إحدى الليالي الباردة ، بسبب إكليل الذي كان ينظر إلى نقطة محددة في ظلام الغرفة ، ويزمجر بصوت مرتفع مثل كلب حراسة يستشعر قدوم شخص غريب ، قال بكسل :
- لماذا توقظني في هذا الوقت المتأخر من الليل ؟!
لم يتوقف إكليل عن الزمجرة فعرف أنه كان يحاول إخباره بأن ثمة شخصاً آخر معهما في الغرفة قال وهو يزيل اللحاف عن جسده :
- من هنا ؟!
- لم أتوقع أن يستطيع إكليل اكتشافي وأنا متخفية
- قالت تاج ثم تابعت وهي تظهر نفسها : يبدو أن مهاراته بدأت تتطور بشكل جيد
هتف وهو يعانقها :  كنت أعلم بأنك ستأتين !!
صاح طائر العنقاء سعيداً وهو يحرك جناحيه وذيله عندما شاهد سیده يحتضن تاج ، وراح يحشر نفسه بالقوة بينها وبينه ..
22
كان ضوء القمر الناعم والذي يتسلل من خلال النافذة الصغيرة يسمح للجدة برؤية ملامح الحفيد والطائر ، واللذين كان التعب والإرهاق وسوء التغذية واضحاً عليهما :
- يبدو أن أيار تسيئ معاملتكما أيها الصغيران ؟! 
- بعض الشيء كما أن مذاق الطعام هنا سيئ وإكليل لم يأكل شيئاً طوال " الأيام الماضية !!
- عرفت أن هذا سيحدث
- قالت وهي تمد لهما زنبيلاً مليئاً بالطعام .
كان منظرهما وهما يأكلان الطعام بكل تلك الشراهة يدل على أنهما قد وصلا إلى آخر حدود الجوع ، وشعرت تاج بينما تنظر إلى وجه حفيدها وهو يأكل بأن هناك أمراً ما يشغل باله ..
وهذا ما تحققت منه فعلاً بعد قليل فحين فرغ من تناول طعامه ، ومسح فمه بكف يده سألها قائلاً :
- هل أيار هذه أمي ؟!
بانفعال أجابت :
- هذه المرأة المعوقة أمك ؟!
من قال لك ذلك ؟!
6
- هذا هو التفسير الوحيد وإلا فلماذا يتركني أبي معها ويذهب ؟!
- أخبرتك بأن أمك كانت جنية ألم أعلمك كيف تميز بين مخلوق النار عن مخلوق طين ؟!
- بلی
- إذا هل هذه المرأة المعوقة مخلوقة نارية ؟!
- لا أعلم !!
- ماذا تقصد بأنك لا تعلم ؟!
- أشعر بأنني ضعيف جداً !!
- ماذا حدث .. أخبرني ؟!
شرح لها عن كل الأشياء التي يشعر بها وأخبرها بأنه لم يعد قادراً على استخدام شيء من قوته التي علمته إياها ، وحين أنتهى سألت بشك :
- هل أنت واثق مما تقوله ؟!
- إني أشعر كما لو أني فقدت قوتي نهائياً !!
- لا تكن سخيفاً ، لن تزول قوتك بعد أن تحركت في داخلك !!
2
وفي تلك اللحظة بالضبط وقبل أن تبدأ بتشخيص حالته وطرح الاحتمالات التي قد تجعل مخلوقاً هجيناً يفقد فجأة قوته ، ويصبح غير قادر  التي علی استخدامها فتح أحدهم باب الغرفة من غير أن يستأذن :
- ما الذي يجري هنا - سألت أيار - مع من كنت تتحدث ؟!
نظر باتجاه المكان الذي كانت تاج تقف فيه ولكنه لم يجدها ، فعرف أنها تمكنت من الاختفاء قبل أن تكتشف أيار أمرها وأدرك أنه مع قليل من الحيلة فقط سوف يستطيع تجاوز هذا المأزق بسلام قال :
-  لم أكن أتحدث مع أحد ..
- لقد سمعتك بأذني وأنت تتحدث مع أحدهم
– ثم أضافت وهي تشير نحو إكليل بإصبعها الطويل المحشور داخل خاتم نحاسي :
- هل عدت للحديث هذا الشيء أيها المعتوه ؟!
نظر إليها فرخ طائر العنقاء بغضب كان يريد أن يصرخ في وجهها أن يهجم عليها انتقاماً للطريقة السيئة التي توجه فيها الكلام لهما ، ولكنه تذكر أن سيده أمره بضبط النفس وعدم الاندفاع تجنباً للوقوع في المشكلات فتجاهل الأساءة ولم يقم بأي حركة ..
1
لم تكن آيار تعرف أنه هجين لذلك ربما قالت :
- إذا كنت قد عدت للحديث معه فأريد أن أخبرك بأن البشر لا يستطيعون التحدث مع الحيوانات
- ثم أضافت بسخرية: وإذا كان شكلك في المرآة يوحي بأنك خنزير، فهذا لا  يعني أنك حيوان حقيقي وتستطيع التواصل معهم ..
كان يخشى من أن تقوم الساحرة بالنظر للأسفل وتلاحظ زنبيل الطعام الذي أحضرته تاج معها ونسيت أن تأخذه عندما ذهبت، لذلك فانه قال بصوت خافت:
- حسنًا معك حق .. لن أعود للحديث معك !!
8
نظرت إلى عينيه بحدة وبدت كما لو أنها أرادت أن تواصل سخريتها ضده، ولكنها لن تفعل ليس لأنها أشفقت عليه ولكن ربما لأنها لم تجد لذة في إهانة شخص لا يتأثر بإهاناتها ..
أغلقت الباب خلفها وغادرت وعندما تحقق من أنها ابتعدت بما فيه الكفاية فإنه همس في الهواء قائلا :
- لقد ذهبت يا تاج أين أنت ؟!
ولكنها لم تظهر ..
لم يستطع معاودة النوم في تلك الليلة، والسبب هو بطنه الذي كان يصدر أصواتاً يخبره فيها بأنه يريد الذهاب سريعاً لغرفة الخلاء ليقضي حاجته ..
حاول فتح باب الغرفة لكن أيار كانت قد أغلقته بالمزلاج من الخارج، قال يحادث إكليل :
- سأحاول العبور من خلال الحائط !!
تراجع خطوتين إلى الوراء نظر نحو الحائط بتركيز عالٍ ثم راح يركض نحوه محاولاً العبور من خلاله ...
ولكنه لم ينجح في العبور بل ارتطم بالحائط وسقط أرضاً في مكانه :
- لقد زالت قوتي – قال وهو يمسح خيط الدم النازل من عند رأسه.
مع مرور الوقت لم يتمكن من أن يمسك بطنه لمدة أطول فأتجه إلى أكثر زوايا الغرفة خلواً من شباك العناكب، أنزل بنطاله إلى عند ركبته وقضى حاجه هناك ..
8
في مساء اليوم التالي وحين جاء الموعد المعتاد والذي كانت أيار تجلب فيه الطعام السيء المذاق لهما استطاعت بمجرد دخولها الغرفة أن تلتقط رائحة  كريهة حادة ..
قالت وهي تبحث في أرجاء الغرفة:
- ما هذا - وأضافت بعد أن سدت أنفها : ما الذي فعلته ؟!
- آسف - همس بخجل - لم أتمكن من حبس بطني لمدة أطول !!
قامت بجره من عند أذنه نحو غرفة الخلاء صاحت وهي تشير إلى منطقة ممثلثة بالرمل :
- في المرة القادمة تعلم أن تقضي حاجتك هنا يا ابن عقربة الجن ؟!
4
كانت تلك المفردة التي قالتها الساحرة «ابن عقربة الجن» تذكره بشيء ما، لقد سمع تلك الكلمة من قبل إنه متأكد مثل ما هو متأكد الآن من أنه يقف أمامها ...
رفع بصره ونظر في وجهها وقد بدأت ذاكرته في تلك اللحظة ويشكل ضبابي باستعادة الأحداث القديمة شيئاً فشيئاً ، ولكن قبل أن يتذكر كل شيء  بوضوح قالت له بشراسة قاطعة على ذاكرته الطريق :
- لماذا تحدق في بهذه الطريقة ؟!
- لل .. لا شيء، سأعود إلى غرفتي حين عاد إلى غرفته وجد تاج في انتظاره وقد أنهت تنظيف زاوية الغرفة -
- من فضلاته، تمتمت بصوت خفيض :
- أغلق الباب خلفك وتعال .. لدي ما أقوله لك !!
صعد إكليل ليجلس فوق كتف سيده واقترب الأثنان منها ، قالت وقد أكتشفت السبب الذي جعله يفقد قوته ويصبح عاجزاً  عن استخدامها تكلم الأثنان بهمس خافت حتى لا تعرف الساحرة بأمرهما :
- إنه الحزن يا صغيري !!
1
- الحزن ؟!
نعم إنه نقطة ضعفك – ثم أضافت تشرح نظريتها :
انتقالك للعيش هنا قد  تسبب في جعلك تشعر بالحزن وهذا ما جعلك تفقد قوتك
  - وماذا في إمكاني أن أصنع ؟!
قالت ببساطة:
- تخلص من مشاعرك الحزينة تعد لك قوتك !!
- وكيف أتخلص منها ؟!
مدت بدها وأمسكت بكتفه :
- فكر بأولئك الذين يحبونك ويهتمون بك ربما يكون هذا مفيداً في طرد أحزانك !!
3
- ولكن لا أحد يحبني - قال بيأس .
1
- أنا أحبك - قالت بلطف – وإكليل يحبك أيضاً
حرك إكليل جناحيه بينما كان لا يزال مستريحاً فوق كتفه - أرأيت ؟! يقول لك بأنه يحبك !!
6
- وهل الحزن يجعلني أتوهم أشياء لم تحدث من قبل ؟!
لم تفهم فسألت : - ماذا تقصد ؟!
- أشعر بأنني قد التقيت أيار هذه من قبل ولكنني لست متأكداً !!
- هل هذا فقط ما تشعر به - سألت بقلق
- أم أن هناك أشياء أخرى ؟!
- هناك شيء آخر – أجاب بشرود - قبل عدة أيام حلمت بأن هناك مجموعة من الذئاب ، كانت تريد افتراسي في ليلة ممطرة، قفز نحوي أكبرهم ولكن شخصاً ما أنقذني منهم ..
- هل تذكر اسم ذلك الشخص ؟!
- لا أذكر ولكني أعتقد أنه قال لي شيئاً في الحلم
- ماذا قال لك ؟!
استغرق بعض الوقت ليسترجع تفاصيل الحلم :
- كم أنتِ شجاعة أيتها القملة الصغيرة المزعجة ..
هذا ما قاله لي !!
حين سمعت تاج ذلك عرفت أن مفعول شراب النسيان قد بدأ يزول من  عقله ، وأنه لن يمضى عليه الكثير من الوقت حتى يستعيد ذاكرته من جديد
- ويتذكر كل شيء.
- يجب أن أغادر - قالت ، ثم اختفت .
وفعلاً .. لم يمضي الكثير من الوقت، حتى حدث ما تنبأت بحدوثه تاج ، فبعد ثلاثة أيام فقط، وفي ليلة كان القمر فيها بدراً أفاق فجأة من نومه ...
لم يكن إكليل السبب هذه المرة بل كان هناك شيء آخر :
- استيقظ - همس لطائره - انظر نحو النافذة
فتح إكليل عينيه وراح ينظر إلى حيث أمره سيده ..
كان هناك وميض أزرق اللون ينبض من عند النافذة المكسو زجاجها بطبقة ضبابية خفيفة ..
أبعد عن جسده اللحاف وسار نحو النافذة هو وإكليل بحذر شديد مسح الزجاج الضبابي بيده حتى يستطيع الرؤية بوضوح ثم ألقى نظرة على الخارج، وما أن شاهد ذلك المنظر الذي أمامه حتى استيقظ شعر جسده وشعر بتيار كهربائي  يعبر عموده الفقري ..
كانت هناك فتاة تقف في الخارج، يحيط بها شيء يشبه الغيمة ..
وعلى أنه لم يكن يتذكرها بشكل جيد إلا أن عينيها البندقيتي اللون أو الرغم من النظرات الحانية التي تطالعه بها، كانت كافية لأن تجعله يشعر بالحنين لشيء ما ...
وبعد قليل من التردد قام بفتح النافذة ، وما أن فعل ذلك حتى استنشق رائحة الياسمين العابقة في هواء تلك الليلة الباردة ..
فقال من دون تفكير وهو ينظر نحوها:
- أمي ؟!
6
وما أن نطق بتلك الكلمة حتى ابتسم طيف جومانا في وجهه :
- النسيان يؤلم الأموات في قبورهم يا صغيري
- قالت ذلك وهي تختفي شيئاً فشيئاً
31
- لا تنسى من أكون، أنا التي أحبتك دوماً ..
6
عادت إليه الذاكرة من جديد واستطاع أن يتذكر كل الأشياء التي قامت تاج بحجبها عن ذاكرته نظر نحو إكليل بغضب كما لو أنه يتهمه بضلوعه في المؤامرة :
2
- أغرب عن وجهي - قال وهو يشير نحو النافذة .
5
لم يكن يعرف الخطأ الذي فعله بحق سيده ليستحق منه تلك الطردة ، لذلك فإنه لم يتحرك من مكانه وظل واقفاً لبعض الوقت لا يعرف ماذا عليه أن يفعل صاح بوجهه :
- هيا !!
صعد بصعوبة حتى وصل حافة النافذة ثم وقبل أن يقفز إلى الخارج ويبتعد نظر إلى سيده ، وأطلق صوتاً منخفضاً يشبه هديل حمامة تائهة فقال الطفل الذي فهم قصده : لا يهم فلتذهب إلى الجحيم !!
وراح يبتعد بخطوات شديدة البطء وكأنه بذلك يريد أن يعطي مجالاً لسيده حتى يعيد حساباته ..
غير أن سيده لم يتراجع عن قراره ، وظل يراقبه بنظرات قاسية حتى خرج عن مجال الرؤية ..
لم يصل إكليل بعد للسن الذي يستطيع فيه الطيران بشكل جيد أو الدفاع عن نفسه ضد أي خطر قد يواجهه، حتى ولو كان خطراً بسيطاً إنه لا يزال ضعيفاً بسبب صغر سنه وأي مواجهة له مع كلب عادي أو قطة متوحشة من الممكن أن تسبب له خطراً مميتاً ولهذا فإنه كان يختبئ بعد كل خطوتين يخطوهما ويراقب طريقه جيداً ، قبل أن يقوم بأستئناف سيره من جديد ..
12
ثم ولأنه لم يكن يملك أحداً يذهب إليه في تلك الليلة فإنه قرر الذهاب إلى تاج ..
أنه يخاف المشي وحده داخل الغابة المظلمة ولكنه لا يملك خياراً آخر ..
تمكن من الوصول إلى هناك لحظة شروق الشمس وربما بسبب الضوء الباهت الخفيف جداً والذي كان يتسرب بصعوبة شديدة من بين الأوراق الكثيفة للأشجار العالية للغابة المظلمة ، فإن إكليل استطاع كسر حاجز الخوف والدخول ..
كان الضباب العائم في الجو يجعل الرؤية عليه أمراً صعباً ، ورغم أن هناك من كان يقترب منه بحذر شديد إلا أن إكليل استطاع رصد تلك الخطوات فأختبأ داخل فتحة كانت محفورة في جذع إحدى الأشجار ريثما يزول الخطر ..
مضى الكثير من الوقت قبل أن يشعر إكليل بالأمان ويقرر إكمال الطريق ، لكنه ما كان يترك مخبأه ويخطو ثلاث خطوات نحو القلعة حتى شاهد أمامه ذلك الشيء المخيف ، والذي جعله يتمنى من كل قلبه لو أنه ظل مختبًأ في مكانة ولم يخرج ...
لقد كان يقف وجهاً لوجه أمام حيوان اليغور المرقط ، وهو أحد الحيوانات الكاسرة التي سكنت قديماً الغابة المظلمة ...
وقد كان شكله النحيل وقوائمه الأربع الطويلة والمهندسة بشكل رشيق ، تجعل فكرة  الهرب مستحيلة بالنسبة لإكليل ..
أحنى حيوان اليغور المرقط قوائمه الأربع ركز عينيه مباشرة على وجبتة الخفيفة ثم حرك ذيله الطويل وكأنه يعطي لنفسه إشارة الهجوم ، أما إكليل فإنه لم يملك أمام الموت إلا أن يصرخ بكل صوته الناعم الحاد الأشبه بقطة رضيعة تفتش عن ثدي أمها ..
3
هو بالطبع لم يكن يقصد إخافة حيوان اليغور ، ولكنه صرخ لينادي تاج !!
لم تأتي تاج لإنقاذه – ربما لأن الصوت لم يصل إليها - ولكن الغريب في الأمر هو أن إكليل ما كاد ينهي صرخته تلك حتى انكمش ذلك الحيوان الكاسر على نفسه ، وتحولت ملامح وجهه الشرسة لملامح وجه مرعوبة تقهقر إلى الوراء بحذر ثم استدار وهرب بكل سرعته خائفاً !!
1
أكمل إكليل طريقه معتداً بنفسه معتقداً أنه استطاع إخافة حيوان اليغور بصوت صرخته ، ولكن بالطبع كان مخطئاً فلو أنه فقط التفت في تلك اللحظة إلى الوراء ، لشاهد خلفه تارا تقف بكل حزم تنظر بغضب كامن نحو حيوان اليغور حتى خاف وهرب ..
12
عندما وصل لمنتصف الغابة حيث تقع القلعة كان ريشه البرتقالي اللون قد أصبح متسخاً بفعل الأتربة والغبار ، ويلهث من شدة الخوف والخطر وطول المسافة التي قطعها سيراً على الأقدام ، وكان أول من رآه في ذلك الوقت هو سابح الذي أطلق صهيلاً مرتفعاً .
- ما الخطب - قالت تاج وهي تفتح أحد نوافذ القلعة .
سابح وهو يشير بخطم أنفه نحو الأرض :
- أنظري من جاء !!
قفزت من النافذة برشاقة جنية شابة :
- ما الذي جرى هل حدث لسيدك مكروه ؟
- سألت وهي تهزه .
لفرط الإرهاق فان إكليل لم يتفاعل مع ذلك السؤال ، فذهب سابح وقام بتخزين بعض الماء البارد في فمه ،
ثم عاد وقام بسكبه فوق طائر العنقاء ليستعيد وعيه ، سألت :
- لماذا أتيت وحدك وتركت سيدك هناك ؟!
شرح لها ما يريد قوله مستخدماً جناحيه ورأسه وذيله وصيحات يطلقها من وقت لآخر لا تعني شيئاً ، وحين انتهى سأل سابح :
- هل فهمت شيئاً من كل هذه الحركات يا سيدتي ؟!
- أظن - ثم همست قبل أن تختفي : أعتني به في غيابي .

+
......
« أنتهى »
« المقبرة »

كانت السماء معتمة وجميع أهالي قرية الجساسة نيام في تلك اللحظه وحده الطفل من كان مستيقظاً يحوم حول نفسه في المساحة الخالية من الغرفة مثل نمر يحاول الفرار من أقفاص الصيادين ..
1
حاول في البداية الهرب من النافذة لكنها كانت أضيق بكثير من أن يستطيع تمرير جسده منها، حاول فتح باب الغرفة لكنه كان مغلقاً من الخارج بواسطة المزلاج ..
فكر في العبور من خلال الحائط بيد أنه لا يزال حزيناً وبينما هو في تلك الحالة البائسة إذ تذكر أمراً ما، جعله يقفز من مكانه ويهتف كالمجنون :
- أستطيع أن أعيد أمي للحياة !!
لقد تذكر تلك الجملة التي كانت والدته تقولها له دائماً بعد أن تحكي له قصة ما قبل النوم، تلك الجملة التي كان يغمض عينيه عند سماعها ويحلل في عقله كل كلماتها تحليلاً دقيقاً : « تذکر طوال عمرك يا بني أن الرب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه »
7
ثم فكر عقله بهذه الطريقة :
إذا كان الرب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه مثل ما كانت أمي دائماً تقول فأنا أستطيع أن أعيدها للحياة مجدداً لو أني طلبت من الرب ذلك ، أمي لن تكذب علي فقد كانت صادقة معي طيلة حياتها ...
8
لهذا فإنه رفع يديه ودعا بينه وبين نفسه:
- يا رب أعد لي أمي ، أعدها لقيد الحياة !!
3
كرر الدعاء في قلبة عددة مرات وعندما فرغ من دعائة ذاك  ، كان عليه أن يجد طريقة ما ليخرج بها من بيت الساحرة ويذهب إلى المقبرة حيث سوف يجب الرب دعاءه ويجد والدته جومانا في  انتظاره هناك ..
14
وثب قائماً على قدميه ترتسم على وجهة البريء ابتسامة سعيدة تشي بتفاؤله ، لقد بدأ يشعر بالفرح يحل مكان الحزن ويشعر بالنار وهي تشتعل في جسده مجدداً ..
تراجع خطوتين إلى الوراء نظر نحو الحائط بتحد واضح :
- آبر آکادا برآآ ، أنا الذي يصنع ما يقول ثم انطلق نحو الحائط بكل سرعة ..
*****
ولأن الوقت كان متأخراً ولم يكن هناك أحد من سكان القرية مستيقظاً في ذلك الوقت وهو لا يعرف الطريق الذي يجب عليه أن يسلكه للوصول إلى المقبرة فإنه توقف عند إحدى زرائب الحيوان ، ليسأل :
- هل هناك أحد أستطيع سؤاله عن شيء ما ؟!
أجابه صوت قادم من داخل الزريبة :
- هل أنت حمار تائه ؟!
- لا، لست حماراً - أجاب ، -
- أي نوع من الحيوانات أنت إذا؟!
- لست حیواناً !!
- يبدو أنك حمار تائه وسكران ثم استمع لصوتين يتضاحكان فقال :
3
- كنت أريد أن أسأل عن المكان الذي يذهب إليه الميت توقفت أصوات الضحك وبدأ يسمع اصوات حوافر تقترب إليه قادمة من داخل الزريبة :
تساءل ذلك الصوت مرة أخرى
- لماذا تسأل عن و ذلك الشيء  أيها الحمار التائه ؟!
ثم خرج له حمار اسمه سامري له رأس مثلث صغير الحجم وأذنان  طويلتان منتصبتان نحو الأعلى ...
12
توقف سامري قليلاً وهو ينظر باستغراب نحو ذلك الكائن كما لو أنه يريد استيعاب الموقف قال الطفل :
- أرأيت، أنا لست حمار !!
حين شاهد سامري ذلك المخلوق يتحدث إليه نهق بكل صوته وكانهم يجرونه إلى حتفه ، وفي أثناء ذلك النهيق المرتفع جاء صوت آخر من داخل الزريبة يقول :
- ما بك يا سامري هل هجم عليك قطيع من السباع المفترسة ؟!
توقف سامري عن النهيق لحظة :
- إنه بشري يا قمرية تعالي وانظري !!
قالت قمرية:
هذه هي المرة الأولى التي ترى فيها بشراً ؟!
- بل إنها المرة الأولى التي أشاهد فيها بشرياً يستطيع الكلام !!
2
- ماذا تقصد ؟!
- تعالي وستفهمين !!
وعندما جاءت قمرية قالت :
- لماذا يحدق ذلك الجحش البشري فينا بهذه  الطريقة ؟!
تدخل الطفل قائلاً :
جئت أسأل عن شيء !!
صمتت قمرية قليلاً تحاول تفسير قدرة ذلك المخلوق على الحديث بلغتها ، وعندما لم تجد لتلك الظاهرة أي تفسير فإنها نهقت بصوت أعلى من نهيق زوجها في المرة السابقة ، ولم تتوقف إلا حين قام زوجها برفسها في بطنها :
8
- اصمتي يا قمرية ودعينا نفهم !!
تساءلت بخوف:
- ولكن ... كيف يستطيع هذا الجحش البشري أن يتحدث مثلنا ؟!
- لا أملك وقتاً لأشرح لكما فأنا في عجلة من أمري
سألت قمرية بتحفظ:
- هل أضعت الطريق ؟!
- شيء من هذا القبيل - أجاب - أريد أن أعرف إلى أين يذهب الميت بعد موته
  - إلى المسلخة - قال سامري
- إنهم ياخذونه إلى المسلخة حتى يسلخوا جلده ويصنعوا منه الحقائب والثياب و الأحــ ...
9
قاطعت قمرية حديث زوجها :
إنه يقصد شيئاً آخر إنه يريد أن يعرف إلى أين يذهب الميت بعد موته ، والإجابة هي إما أنه يذهب إلى النعيم أو إلى الجحيم ..
3
وهنا تدخلت بومة بيضاء كانت تستريح على غصن شجرة  تشاهد وتسمع ما يحدث :
- إنه يقصد المقبرة أليس كذلك أيها الفتى ؟!
3
ردد الطفل : المقبرة ؟!
- نعم - قالت البومة البيضاء
- حيث يدفن الموتى تحت التراب
قال وكأنه يحادث نفسة :
- نعم أذكر أنه كان هناك الكثير من التراب
- حسناً اتبعني سوف أدلك على المكان ...
« خيبة »

رغم أن القبور كانت كثيرة ومتشابهة تقريباً في العرض والطول إلا أن استطاع تحديد موقع قبر والدته بدقة ومن غير جهد مهتدياً فقط الياسمين التي كانت لا تزال تنبعث من قبرها ...
جلس هناك وجعل ينتظرها وكله يقين بأن الرب سوف يجيب دعاءه ويعيدها إليه
.. سألت البومة البيضاء :
- ما الذي جاء بك إلى المقبرة في مثل هذا الوقت من الليل ؟!
- جئت من أجل أمي ستخرج من هنا بعد قليل ..
2
- لكن الأموات لا يستيقظون
لم يناقشها وظل يحدق بتركيز نحو القبر فقالت البومة البيضاء :
- أخبرني ما الذي يجعلك تعتقد أن أمك سوف تخرج من قبرها ؟!
- لقد كانت تقول لي بأن الرب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه
- وأنت دعوته أن يعيدها للحياة لهذا جئت إلى هنا ، أليس كذلك !!
أومأ لها برأسه ، فسألت :
- هل تسمح لي بالبقاء معك ؟!
1
- ولماذا تريدين البقاء ؟!
لأنه لم يسبق لي من قبل أن رأيت ميتاً يخرج من قبره
19
- لا بأس - تمتم - ابقي
وعندما تأخر الوقت كثيرا وقاربت الشمس على الشروق ولم تعد جومانا إلى الحياة، قالت البومة البيضاء بعد أن بدا أنها ملت الانتظار :
- يجب أن تعود إلى البيت أيها الولد !!
- في الحقيقة نعم هو يجب ان يعود للبيت قبل أن تستيقظ أيار من نومها وتكتشف غيابه نهض الطفل الذي بدا الحزن والإرهاق يظهران عليه بوضوح :
- لا بد أني ارتكبت خطأ ما
- ماذا تقصد؟!
- أمي لا تكذب لقد كانت تؤكد بأنه يجيب أي دعوة
– ثم أردف: لقد طلبت منه أن يعيدها للحياة ولكنه لم يفعل، لا بد أني ارتكبت خطأ
3
‏******
وجد أيار في انتظاره عندما عاد إلى البيت تقف عند عتبة الباب وتمسك بيدها عكازا خشبيا.
2
- كيف استطعت الخروج وباب غرفتك مقفل ؟!
لم يعرف كيف يجيب فقال :
قفزت من النافذة
- مستحيل أنت أكبر حجماً من إطار نافذة غرفتك !!
ولأنه يعلم بأنها لن تصدقه لو أخبرها بالحقيقة فإنه صمت
- لن تتكلم أليس كذلك ؟! - سألت بنفاد صبر .
- أخبرتك لقد خرجت من نافذة الغرفة
- وتكذب علي مرة أخرى ؟!
قالت ذلك ثم بدأت تضربه بالعكاز بقوة، كما لو أنه جرد ألقت عليه القبض في مطبخها متلبساً وهو يسرق قطعة من الجبن، أما هو فإنه لم يبالي بالضربات التي تصبها أيار عليه فقد كان يفكر في شيء آخر :
1
في السبب الذي من أجله لم يجاب دعاءه !!
تمدد لاحقا على أرضية الغرفة غير مبال بالجروح العديدة التي أحدثتها أيار على وجهه وأجزاء متفرقة من جسده ...
14
كان شارداً في المسألة ذاتها ..
ومع طول التفكير وكثرة الاحتمالات العديدة التي توصل إليها فإنه بالأخير لم يقتنع إلا بإجابة واحدة فقط :
- لأن الرب لم يسمعني أصلاً  -قال في نفسه، ثم أضاف: فقد دعوته بقلبي أن أرفع صوتي عالياً حتى يصل دعائي
إليه !!
إنه يتذكر الآن قصة النملة جرسا عندما تكلمت بصوتها المنخفض تأمر بقية أسراب النمل بسرعة الاختباء حتى لا يحطمهم النبي سليمان وجنوده وهم لا يشعرون، يذكر تحديداً أنه سأل أمه في ذلك اليوم عن الكيفية التي استطاع بها النبي سماع صوت النملة الصغيرة، فأجابته حينها بأن الرياح هي من قامت بإيصال صوت النملة ..
لهذا تسلل سعيداً لسطح البيت تسلق الحائط بسرعة قرد ، ثبت قدميه على الحافة رفع رأسه نحو السماء ثم ضم يديه عند فمه مستخدماً إياهما كمكبر صوت وجعل يدعو بكل صوته سامحاً للرياح بأن تحمل دعواته وتنقلها للرب
- اعد لي أمي أيها الرب، أعدها لقيد الحياة !!
6
مستخدمًا قوته الخاصة استطاع الخروج من البيت رغم الاحتياطات العديدة التي وضعتها الساحرة أيار لمنعه من فعل ذلك ..
كان يعدو نحو المقبرة بسرعة فائقة ..
إنه متيقن بأن الرب سيجيب دعوته هذه المرة وبأن والدته سوف تخرج من قبرها وحينها سوف ينفض الغبار والأتربة من عليها ، يحتضنها بقوة ويخبرها بأنه موافق على الذهاب وحده للجد نوفل ليتلقى منه العلوم والمعرفة، مثل ما كانت تريد منه أن يفعل في السابق ثم وبينما هو يركض نحو المقبرة إذ اقتربت منه البومة البيضاء حتى أصبحت تحلق بمحاذاة رأسه :
3
- لقد عدت مجدداً أيها الولد إلى أين أنت ذاهب هذه المرة ؟!
- للقاء أمي
- ألم تأخذ درسا من البارحة ؟!
لقد عرفت الخطأ - قال بثقة .
- أي خطأ ؟!
- سأشرح لك هناك ..
وحين وصل لم يجد والدته في انتظاره مثل ما كان يتوقع فقرر أن يجلس بالقرب من قبرها لعلها تعود في اي لحظة انتظر هذه المرة مدة أطول من البارحة ، وعندما شعر بأن شيئاً لن يحدث فإنه نهش واقفاً ،
قال وهو ينفض الغبار عن ثيابه :
- يبدو أن السماء لا تجيب !!
عادت إليه حالة الحزن مرة أخرى سار نحو البيت بخطوات متثاقلة ، كان باله مشغولاً بالتفكير في السبب الذي من أجله لم يجاب دعاءه هذه المرة ..
لم تشأ البومة البيضاء أن تتركه وهو في هذه الحالة من الحزن فحركت جناحيها ولحقت به :
- سوف تلتقي بها في النعيم !!
- لم أعد واثقاً - قال - لم أعد واثقا بأن هناك نعيماً أصلاً
- لماذا تقول هذا ؟!
ارتجفت ذقنه وهو يقول بصوت أقرب للبكاء :
- إذا كان الرب في السماء فعلاً فلماذا لم يجب دعائي ؟!
8
وقبل أن تعلق البومة البيضاء قال :
دعيني وشأني - ثم راح يركض مبتعداً .
وجد أيار هذه المرة أيضاً تنتظره عند عتبة الباب تحرك فكها مثل ناقة تجتر طعاماً يبدو أنها كانت تخبئ له بصفة في فمها منذ اللحظة التي اكتشفت فيها غيابه عن البيت ، وعندما رأته قادماً من البعيد حكت جدار حلقها بصوت يلبه خوار بقرة حتى تضمن أنها سوف تجمع كل أوساخ فمها في قذيفتها القادمة، وعندما اقترب منها وأصبح في مجال رميها بصقت عليه في وجهه وبدأت تكيل له الضرب بيديها وقدميها ..
4
أما هو فقد جعل يتلقى تلك اللكمات والرفسات وهو يردد في نفسه :
1
- لو كان في السماء لأجاب دعائي ..
1
بعد نصف ساعة توقفت أيار عن ضربه، ولكن ليس إشفاقاً عليه بل لأنها لم تعد ترى مكاناً جديداً تستطيع تسديد ضرباتها إليه، بصقت عليه المرة الثانية
وكأنها بذلك تضع نقطة نهاية سطر ثم غادرت ..
أما هو فإنه نهض من مكانه وسار إلى غرفته بوجه يسيل منه الدم، جلس القرفصاء في إحدى زوايا غرفته صامتاً يفكر في أجوبة تبرر عدم إجابة الرب دعاءه ، ثم توصل في النهاية إلى حل أخير :
- ليس هناك شيء اسمه الرب - تمتم بينه وبين نفسه .
58
.........
« أنتهى »
كشف الحقيقة !!

حين مضت عليه الأيام التالية وهو بخير ولم يجد فرقاً يذكر في حياته ، ازداد يقيناً بعدم وجود الرب ، حتى إنه قال في نفسه ذات مرة ، وهو ينظر إلى السماء الصافية من خلال زجاج نافذة الغرفة :
2
- لو كنت هناك أصلاً لعاقبتني لأني تخليت عنك
ثم ولأن القلوب تموت عندما تفقد الخيط الدقيق الذي يربطها بالسماء ، فإن قلبه مات رغم أنه لا يزال ينبض بالحياة ..
1
تبدل مزاجه وبدأ يتحسس وحشاً ما يولد بداخله ..
1
أصبحت عينه اليسرى حمراء قائمة كالدم، وبات يشعر برغبة شديدة في إيذاء أحدهم ..
7
اتجه نحو الغرفة التي تنام فيها الساحرة ، حاول فتح باب غرفتها ولكنه كان موصداً بالمزلاج ، فقد كانت أيار من ذلك النوع الذي لا يعرف أن يخلد للنوم إلا بعد أن يتأكد أنه في مكان مغلق ..
لم يكن واثقاً من قدرته على استخدام مهارة العبور آنذاك ورغم هذا إلا أنه تراجع إلى الوراء ثم سمح لقدميه بأن تدفعاه نحو  الباب ..
*****
كانت الغرفة مظلمة من الداخل وهناك صوت شخير منتظم ينبعث من فوق السرير أزاح الستائر لكي يسمح لضوء القمر بالعبور ثم تقدم حتى اقترب من أيار ، ومع كل خطوة يخطوها كان يشعر بجسده يصبح أكثر تحجراً وصلابة ويشعر بأن هناك أسياخاً من الحديد تسبح داخل عروق يديه ..
كان جسده حارًا ويتنفس بصعوبة شديدة ويعاني رجفة حادة بأطرافه، إنه  يتعرق بشكل غير طبيعي
ويحس بألم قاسٍ نتيجة لذلك الشيء الغريب الذي يحدث له ...
لم يمضي عليه الكثير من الوقت حتى نظر إلى يديه مستعيناً بضوء القمر الخافت المنبعث من نافذة الغرفة ، فشاهد الجروح التي بدأت تتشقق شيئاً فشي من عند رؤوس أصابعه والمخالب السوداء المعقوفة والحادة التي کانت تخترق اللحم وتنمو إلى الخارج ..
لم يشعر بالخوف أو الغرابة وهو يرى بعد قليل يديه وقد أصبحنا تشبهان يدي وحش خرافي ..
2
وبدا كما لو أن ذلك الشيء الذي حدث معه كان طبيعياً جداً ..
قال بصوت يختلف عن صوته العادي وهو يلكز جسد أيار بأحد مخالبه :

- أنت - ثم أضاف هامساً : استيقظي !!
5
فتحت أيار عينيها متفاجئة بوجوده أمامها ، حاولت أن تستخدم سحرها في الدفاع عن نفسها ولكنه لم يدع لها فرصة إلقاء تعويذة ضده ، فقد باغتها بأن غرس مخالبه في صدرها بقوة لتغوص يده عميقاً في تكتلات الدهون واللحم، ولم يتوقف عن الحفر حتى وصل قلبها ..
« لقد كان ذلك ممتعاً » هذا ما شعر به وهو ينتشل القلب من وراء قفصها الصدري ويشاهد في يده الكتلة الحمراء اللزجة تنبض في الهواء قليلاً تضعف تدريجياً حتى تتوقف في الأخير من تلقاء نفسها ..
31
وما كان أكثر إمتاعاً من كل ذلك بالنسبة إليه، هو عندما تذوق طعم قلبها بطرف لسانه ووجده لذيذاّ وشهياً وصالحاً للأكل ..
22
اتجه بكل سرعته نحو الغابة المظلمة يشق طريقه بغضب نحو قلعة الأباطرة ضارباً بقدسية الغابة المظلمة عرض الحائط ، الأمر الذي ما كانت تارا لتسمح به لولا أن ذلك الصبي هو ابن أعز صديقاتها، صاح عندما أصبح أمام القلعة :
1
- تاج أظهري نفسك !!
ولأنه لم يتلق جواباً على طلبه فإنه صاح مرة أخرى ، بصوت أعلى :
- أين أنتِ يا تاج !!
فتحت تاج نافذة الطابق الثاني رأته وهو يقف أمام القلعة واستطاعت من مكانها ذاك أن تميز رائحة الدم الطازجة والتي تفوح بصراحة من مخالب يده ...
- تنزلين أم أصعد إليك ؟!
- سأنزل ..
هبطت إليه كما طلب منها وتعمدت أن تقف بعيداً عنه بعض الشيء ، حتى تستطيع تفادي هجومه في حال قرر مهاجمتها ..
ثم وفي محاولة لامتصاص غضبه قالت :
- لقد قمت بتحذير والدتك نصحتها بأن لا تحاول اكتشاف الحقي ...
-  کفی - صاح في وجهها مقاطعاً
- لا أريد أن أسمع منكِ شيئًا !!
- لماذا جئت إذا إن كنت لا تريد أن تسمع مني شيئاً ؟!
لأقتلك !!
20
وفي لمح البصر اصطبغت عينه اليسرى باللون الأحمر القاتم ، انطلق نحوها شاهراً في وجهها مخالبه الحادة ذات النهايات المعقوفة حاول إصابتها في أي مكان بجسدها، ولكنها تمكنت من مناورة تلك الضربة في اللحظة الأخيرة ، قالت :
- هل موتي سيجعلك تشعر بالرضا ؟!
لم يتكلم بل استدار حول نفسه ثم قفز باتجاهها ، محاولاً إصابتها للمرة الثانية ولكنها تمكنت من مناورة تلك الهجمة أيضاً :
- لن تستفيد شيئاً لو أنك قتلتني ، لن يعيد لك هذا أمك !!
- لماذا لا تواجهيني ؟!
هل أنت لهذا الحد تشعرين بالخوف والعجز ؟!
هي تعلم بأنه في هذه اللحظة مثل وحش جريح يريد تحطيم أي شيء أمامه ، لأن جرحاً ما ينزف بغزارة من جسده ، وتعلم أيضا بأن الحكمة في مثل هذه المواقف   تتطلب الصبر واتخاذ القرارات السليمة صحيح أنها لا تمتلك خطة واضحة للتعامل مع غضبه ولكنها ستحاول شراء بعض الوقت ريثما يهدأ من تلقاء نفسه ، قالت :
- عرضت عليها الحماية لكنها طلبت مني البقاء بعيـ ...
ومن غير أن يسمح لها بأن تكمل كلامها قاطعها :
- أخبرتك بأني لا أرغب في الاستماع لشيء !!
- لو أنك تسمعني فقط لكنت سأقدم لك معروفاً لن تنساه
بكشفي لك عن الحقيقة
- قالت بهدوء وهي تركز النظر لعينيه .
- إن كنت ترغبين في تقديم معروف لا أنساه ، فتوقفي عن الهرب !!
قام بهجوم ثالث ضدها ولكنها لم تهرب من أمامه هذه المرة وقفت في مكانها ثابتة مثل ما طلب منها ..
وقبل أن يغرز مخالبه في صدرها ، مدت يدها وأمسكت بمعصم يده ثم نظرت إليه بجدية وقالت :
ـ أنا من علمك استخدام هذه القوة يا ولد ، أتظن حقاً أنني لن أستطيع إيقافك ؟!
- لا يكفي ان توقفيني - قال وهو يحاول فك يده من قبضتها : يجب عليكِ التخلص مني لأنك إن لم تفعلي فسأقوم بقتلك يوماً !!
- الشجاع لا يقاتل إن كانت هناك فرصة للسلام
2
- وفري نصائحك لنفسك !!
صاح عليها ثم سدد لها طعنة بمخالب يده الثانية ، ولكنها كانت تتوقع منه تلك الحركة سلفاً ، لهذا استطاعت أن تلقي القبض على معصم يده الآخر، قبل أن ينجح في إنفاذ طعنته لجسدها ، قالت :
- لقد طلبت أمك مني البقاء بعيداً حتى لا يعرف أبوك أنها جنية !!
- أمي ليست جنية !!
- إذا من أين لك كل هذه القوة ؟!
وكيف استطعت التحدث مع الحمارين عند تلك الزريبة ، إن لم تكن أمك جنية أيها الأحمق ؟!
- كيف عرفت بحكاية الحمارين ؟
- سأل بدهشة .
- تلك البومة البيضاء - قالت ببرود - كانت أنا !!
5
- ليس ظريفاً أن تقومي بخداع الآخرين - صاح معترضاً .
- لم أقم بخداعك
قالت ذلك  لا تزال تلقي القبض على يديه، ثم أضافت: كان يجب أن أكون بجانبك وأنت في تلك الحالة، أنت حفيدي وأنا لن أراك تقوم بإيذاء نفسك ولا أتحرك لمساعدتك !!
ظل يحاول تحرير مخالبه من قبضتيها ولكن بدون فائدة ، لقد كانت تحكم القبض عليهما بيد من فولاذ ولا تسمح له بتحريكهما ولو قليلاً ...
يجب عليه أن يفكر بطريقة أخرى للهجوم ، إن كان يريد حقاً تحقيق ما جاء من اجله :
- أنتِ من قام بتحويلي إلى وحش !!
- لو لم تكن أمك جنية لما استطعت تحريك القوة بداخلك .
فتح فمه وتفاجأت تاج بأن أربعة من الأنياب السيفية قد نبتت في فمه ، حاول أن يقوم بغرس أنيابه في عنقها لكنها ضربته برأسها على وجهه حتى تبعده عنها ...
- دعني أعترف لك بشيء – قالت وهي تلهث - أنت أقوى مما ظننت، ولا أعتقد أني سأتمكن من تفادي هجماتك لفترة أطول فإما أن تسمعني بأدب وإلا فسأضطر للرد عليك بهجوم لن تنجو منه !!
بالطبع تاج تكذب فهي لن تستطيع إيذاءه، ليس لأنها جدته بل لأنها تدرك بان تارا تختبئ في تلك اللحظة خلف إحدى الأشجار، تراقب ما يحدث وهي لن تسمح لها بأذيته ..
7
مسح بظهر يده خيطاً من الدم بدأ يسيل من فتحة أنفه هو لا يملك نية للتراجع أو الاستسلام ولكنه في الوقت ذاته فكر في أنه لن يخسر شيئاً لو استمع للكلام الذي تريد تاج إخباره به :
- لتكن كلماتك الأخيرة صادقة - قال باستهانة .
ابتلعت تاج تلك الإهانة وقالت:
- لقد جاءت أمك لزيارتي في إحدى الليالي طلبت مني المساعدة في اكتشاف الحقيقة ، قالت لي بأن قلبها لم يعد في إمكانه احتمال المزيد ، قالت بأنها تريد أن تعرف لماذا كان أبوك يختفي عنها طوال تلك المدة ..
أما أنا فلم أتمكن من رفض طلبها إنها ابنتي على كل حال وكنت أريد أن أفعل اي شيء من أجل تحسين علاقتي بها ..
ذهبت فوراً لتقصي الأخبار ولكنني لم أكن أتخيل أبداً أني سأتوصل لتلك الحقيقة التي اكتشفتها بدأت ذقنها ترتجف من شدة التأثر وهي تكمل حديثها :
- في اليوم التالي جئت لأقوم بتحذيرها لكنها لم تصغي لي !!
ردد بصوت خافت وكأنه بدأ يربط الأحداث :
- لم تصغي لكِ ؟!
- ألم تأمرك بالبحث عن أبوك ؟!
أجاب وهو يتذكر :
- أمرتني بأن أعثر عليه حتى لو كان مختبئاً تحت الأرض !! .
لقد قالت وهي تستعيد ذكرياتها :
- في الماضي البعيد كان والدك بحر يعمل لمصلحة منظمة كبيرة اسمها الجاثوم مهمتها إحداث الخراب والدمار في جميع أنحاء مملكة أبابيل ، كان والدك أحد أهم قادات تلك المنظمة ، غير أنه اعتزلهم نهائياً عندما التقى بوالدتك جومانا ووقع في حبها ..

صمت ولكن عيناه قالت: «ماذا حدث لاحقا ؟!»
- تزوج الاثنان وعاشا لسنوات طويلة في سلام وأمان ، للحد الذي اعتقد أبوك أن منظمة الجاثوم انصرفت عنه ونسيت أمره تماماً ، ولكنه كان مخطئاً بالتأكيد فعندما أصبحت أمك حاملاً بك ، جاء ناب الفيل بنفسه لزيارة  والدك !!
1
شد ذلك الاسم انتباهه فسأل :
- ناب الفيل ؟!
- إنه رئيس منظمة الجاثوم
- وما الذي كان يريده ؟!
- كانت المنظمة في حاجة لبحر وجاء ناب الفيل ليستعيده لصفوفها
- وهل وافق ؟!
-في البداية لم يوافق ولكن ناب الفيل هدده بقتل زوجتة والطفل الذي كان في بطنها والذي هو أنت !!
- وماذا فعل بحر حينها ؟!
كان يعلم بأن ناب الفيل لا يهدد عبثاً وبأنه واحد من أولئك الأشخاص الذين إذا قالوا شيئاً فإنهم يفعلونه ، لهذا فإنه قرر أن يعقد صفقة ..
وحتى تكون تلك الصفقة أكثر جدية فإنهما قاما بإحضار حفنة مليئة بالدم، ثم غمسا أيديهما فيها وتعاهدا
- على ماذا ؟!
- علی أن يعود والدك للعمل معه مقابل أن يتعهد ناب الفيل بتركك أنت وأمك تعيشان بسلام ..
وأطلقا على العهد اسم «ميثاق الدم».
قال مستنتجاً :
هذا يعني أن غياب بحر عن البيت كان من أجل حمايتنا أنا وأمي ؟!
حركت رأسها بأسف ، ثم أضافت :
كان ناب الفيل يعلم بأن لا شيء يفسد قلوب رجاله غير الحب ، لذلك وضع تلك الفتاة الساحرة التي أسمها أيار في منزل واحد مع أبوك  ، حتى تراقب تحركاته وقد أعطاها أمرا بأن تقوم بقتلك أنت وأمك في ثلاث حالات !!
- ثلاث حالات ؟!
- نعم وهي إما أن يتوقف بحر عن العمل مع المنظمة، أو يقرر زيارة عائلته لأي ظرف كان، أو تحاول زوجته اكتشاف الحقيقة ، لذا فإن اللحظة التي أرسلتك فيها أمك للبحث عن والدك، هي ذات اللحظة التي حكم فيها عليكما ناب الفيل بالموت، ولكنك أيها الولد نجوت بأعجوبة ..
زمجر بغضب:
- ناب الفيل !!
- نعم هذا هو اسم الشخص الذي قتل أمك وحاول قتلك
– ثم تجرأت تاج بالاقتراب منه وقالت : والآن انظر إلى عيني وكرر اسمه مرة أخرى!!
نظر إلى عينيها مثل ما طلبت منه و منه وكرر :
ناب الفيل !!
- من أجل هذا أعنيت بك وقمت بتدريبك - قالت معترفة - عدني بالك ستنتقم لها ..
عدني بأن تثأر لموت أمك جومانا !!
- أعدك بذلك - قال بحقد
أبعدت يديها عن رأسه وهمست :
هل أنت مستعد الآن لتسمع النصف الآخر من الحقيقة ؟!
- ما زال هناك نصف آخر ؟!
قالت تاج شيئاً مرعباً :
- الحقيقة التي تخصك أنت، لم تبدأ بعد أيها الولد ...
لم تكن تعرف كيف تشرح الموضوع القادم، إنها بصدد الخطة التي لجأت إليها الساحرة لقتل أمه، وما يجعل الأمر أكثر صعوبة هو أنها ستخبر حفيدها بأنه – وعن غير قصد - كان جزءاً هاماً في إنجاح تلك الخطة قالت :
- كانت أيار تعرف جيدا عادات أهالي قرية الجساسة أيها الولد، لذلك لم تبذل جهداً كبيراً في التخلص من والدتك لقد دست لها السم في جرة ماء صغيرة بنية اللون وطبق طعام أبيض، وقامت بوضعهما عند عتبة باب البيت ثم رحلت قبل أن يراها أحد، ويبدو من أنك عندما رأيت طبق الطعام ذاك وتلك الجرة ظننت مخطئاً أن إحدى جارات أمك قامت بوضعهما لكما هناك ، فقمت بإدخالهما للبيت أليس هذا صحيحا ؟!
قال متذكراً الليلة الأخيرة التي جمعته بوالدته، وقد بدأت المصيبة تطفو على وجهه:
1
- في تلك الليلة طلبت أمي أن أحضر لها كأساً من الماء
- صمت .
- وماذا - سألت - وما الذي حدث أكمل !!
- لقد قمت بصب الماء لها من تلك الجرة المسمومة !!
10
.......
« أنتهى »
« أباطرة أبابيل »

كانت الصدمة التي تلقاها قوية عليه للحد الذي جعله يفكر بالرحيل بعيداً عن قرية الجساسة ، لقد قدم بيده السم لوالدته حين طلبت منه أن يحضر لها بعضاً من الماء ، ورغم أنه لم يكن يعلم بوجود السم في تلك الجرة إلا أنه لن يستطيع أن يغفر لنفسه أنه كان سبباً في قتلها :
- لم اعد أشعر برغبة في البقاء هنا أشعر بأن كل شيء يذكرني بأمي في هذه المنطقة
- ماذا تريد أن تفعل ؟!
- لا أعلم كل ما أعرفه هو أنني أريد أن أعانقك
- قال ذلك، ثم أضاف :
هل أستطيع معانقتك يا تاج أم أنك غاضبة مني ، لأني هاجمتك وكنت سبباً في قتل أمي ؟!
3
- بالتأكيد لم تكن تقصد أيها المسكين
– ثم فتحت ذراعيها له وقالت :
تعال إلى جدتك
8
- أشعر بأن قلبي يتمزق أشعر بأنني حزين جداً !!
2
همست في أذنه بصوت يدعو للتفاؤل وهي تحتضنة :
- مهما كانت أحزانك كبيرة تذكر أن كل شيء سوف يمضي
6
لم يكن واثقاً من الكلام الذي يسمعه من جدته الآن فلفرط حزنه السحيق جداً كان يشعر بأن ذلك الحزن سيرافقه طوال عمره ..
1
قرأت تاج ما كان يفكر به فقالت :
ثق بي كل شيء سيمضي أنت فقط عليك أن تصمد لبعض الوقت ، أن تقاتل من أجل الوقوف مهما اهتزت الأرض من تحت أقدامك !!
- ولكنني أشعر برغبة في السقوط هذه الذكريات ستظل تجرني نحو الأسفل كلما حاولت الارتفاع ، هذه الذكريات ستضع راسي في كيس من  الطحين كلما أردت أخذ أنفاسي ، أنا لا أعرف ماذا أفعل !!
1
نظرت إليه وقالت
- لا تسقط هذا ما يجب عليك أن تفعله
- ثم أضافت : فعندما تسقط سوف يتسابق الجميع نحوك، ليس لكي يساعدوك على النهوض بل لكي يقفوا فوق جئتك ويصبحوا أكثر طولا ..
8
أنت لا تعرف كم يصبح الأشخاص قذرين عندما
یرون شخصاً مكسوراً أيها الولد لهذا احتفظ بأحزانك لنفسك، وأسقط واقفاً إن كان لا بد لك من السقوط .
10
أومأ لها برأسه دليلاً على الفهم والطاعة

- هل أنت مصر على الرحيل الآن - سألت ، ثم أضافت : أستطيع إعطائك سائل النسيان مرة أخرى لو أردت !!
- لا أريد لناب الفيل أن يغيب عن بالي - أجاب .
ابتسم شيء في داخلها عندما سمعت إجابتهة، وقالت :
- سيكون إكليل مفيداً لو أنك تأخذه معك .
- لقد نسيت أمره تماماً - قال متذكراً
- أين هو بالمناسبة ؟!
وحينها طل إكليل برأسه من وراء بوابة القلعة ..

يجب عليه أن يغادر بسرعة إن كان يريد مساعدة نفسه على نسيان الألم ونفض غبار الحزن من على رفوف ذاكرته ، لقد كانت في داخلة رغبة كبيرة للانتقام للحد الذي قد يدفعه لأن يحرق العالم كله ، لأن واحداً من هذا العالم تجرأ على قتل أمه ..
الآن لا يملك مكاناً محدداً للذهاب إليه ، بل سوف يدع الأيام تقوده إلى حيث يجب عليه أن يكون ،
قالت تاج :

- أنت في حاجة لأصدقاء يساعدونك في تحقيق مهمتك القادمة وأضافت باهتمام :
فأنت دائماً معرض للخيانة والغدر، كل شيء قد يخذلك في هذا العالم ، ولكن الشيء الوحيد الذي تستطيع أن تدير له ظهرك، وأنت مطمئن إلى أنه لن يطعنك من الخلف
هم الأصدقاء !!
7
- وكيف أجدهم ؟!
- لا تقلق سوف تسوقهم إليك المصائب فالأصدقاء الذين تتعرف عليهم في الظروف الصعبة، الأصدقاء الذين يبقون معك لآخر الطريق
13
قالت ذلك ثم نظرت إلى عيني حفيدها وأكملت :
وإياك أن تقع في الحب فالشخص الوحيد الذي كان يستحق حبك قد مات هل تفهم ؟! 
14
- أفهم !!
- لا تدع الحب يخدعك فمهما بدا جذاباً وبراقاً في البداية إلا أن نهايتك ستكون قد بدأت في اللحظة التي يتنفس فيها الحب بداخلك ..
4
  ثم أضافت وهي تلقي القبض على عضوه الحساس بيدها ، وتقول :
غداً سوف تستيقظ هذه الدودة التي بين فخذيك ، وسوف تصبح لديك غرائز وشهوات مثل بقية الرجال تجعلك تتلوى في فراشك محمومًا مثل شخص مصاب بالصرع ، خذ حاجتك من النساء ثم احذفهن بعيداً عنك ولا تلتفت لهن أبداً
56
– ولم تفلت عضوه الحساس إلا بعد أن أكد لها بأنه سيفعل كل ما طلبته حمل إكليل ووضعه فوق كتفه نظر نحو جدته وقال :
- سنرحل الآن ..
- عاصف – قالت تاج - سيكون اسمك عاصف !!
2
- عاصف ؟! - ردد بنبرة متساءلة .
قالت تبرر له اختيارها الاسم :
- منذ زمن قديم ومنظمة الجاثوم تمد جذورها في أراضي مملكة أبابيل، ولم يتمكن أحد من إيقافها أو التصدي لها أنت هو الشخص الذي سوف يعصف بهم، يقتلع جذورهم من تربة هذه البلاد ، ويعيد الأمور لمجراها الصحيح لذلك سيكون اسمك عاصف ..
حرك إكليل جناحيه فوق كتفه واستطاع أن يرتفع بضعة أمتار فوق الأرض ويردد :
- عاصف .. عاصف !!
6
- لقد بدأ يتكلم ، هل سمعتيه ؟ لقد قال عاصف !!
1
وقبل أن يغادر الغابة قالت له تاج شيئاً سوف يساعده في ثأره :
- هناك جنية اسمها خيزران هي وحدها من ستساعدك في الانتصار على ناب الفيل ..
4
- جنية اسمها خيزران ؟!
12
مدت تاج يدها عند عنقها انتزعت قلادة كانت تخبئها طوال الوقت أسفل الذي من ثیابها ، نظر عاصف إليها وهو لا يعرف ما الذي تعنيه تلك القلادة ولا السبب الذي من أجله أظهرتها جدته في ذلك التوقيت بالذات ، كانت مصنوعة من سلسلة ذهبية دقيقة تنتهي بصفيحة حجرية غير منتظمة الشكل منقوش عليها
«أباطرة أبابيل» :
4
- ما هذا ؟! - سأل بفضول
قالت وهي تقترب منه وتعلق القلادة في عنقه :
- هذه قلادة الأباطرة ولا يتقلدها إلا فرد من أفراد العائلة .
وما أن انتهت تاج من تعليق القلادة في رقبته حتى شع من حروفها وهج أصفر لم يدم طويلاً حتى انطفأ :
-لماذا تعطيني إياها ؟!
- هذه سوف تساعدك في مقابلة خيزران
- وكيف سأجدها ؟!
- لا تقلق هي من ستجدك ولكن عندما تصبح رجلا ً !!
- لقد أصبحت في الثامنة عشرة من عمري ألست برجل؟!
7
- الرجولة ليست بالعمر
- وكان هذا آخر ما قالته جدته له قبل أن يرحل
هو وإكليل عنها .
5
انطلق عاصف مع إكليل للتفتيش عن أصدقاء يكونون له حلفاء في الأيام القادمة ليساعدوه في أخذ ثأره من ناب الفيل عندما ينجح في العثور عليه ..
1
في هذه الأثناء خرجت تارا من المكان الذي كانت تختبئ فيه خلف احدى الأشجار اقتربت زاحفة ببطء حتى توقفت مباشرة إلى جوار تاج وسألت :
- لماذا لم تخبريه بأن ناب الفيل هو نفسه طاغين ملك مملكة أبابيل ؟!
12
- لو كنت أخبرته بذلك لبحث عن قصر الملك مباشرة، وقام بالهجوم إنه لا يزال أضعف بكثير من تحدي ناب الفيل بمفرده ..
ولكن عندما ينضج قليلاً ويصبح مستعداً سوف ترشده الوزيرة خيزران إلى الطريقة الوحيدة التي يستطيع من خلالها الأخذ بثأره ، وإعادة عرش مملكة أبابيل لجده جبار !!
1
- ربما تكونين محقة في ذلك أنني أشعر بالخوف عليه هل تظنين بأنه سينجو ؟!
- لقد قذفت به لوسط الجحيم وسيحتاج للكثير من الحظ حتى ينجو
صمت الاثنان قليلاً ثم سألت تارا بجرأة غير متوقعة :
- ألن تحزني لو أنه استطاع فعلاً قتل ناب الفيل ؟!
1
ومن غير أن تنظر تاج نحو تارا قالت مجيبة عن ذلك السؤال :
- لم يعد ناب الفيل أخي منذ اللحظة التي انقلب فيها على زوجي جبار وأخذ منه العرش غدراً !!!
105
امتدت بينهما لحظة صمت حتى قاطعتها تاج بسؤال جريء مضاد :
حان دورك لتجيبي أنت بصدق يا تارا
- أنت تعلمين بأني لا أقول غير الصدق
- أعرف أنك لا تكذبين
- اسألي إذاً
لماذا ذهبتِ لزيارة جومانا في تلك الليلة التي ماتت فيها ؟!
لم تجبها وزحفت مبتعدة ..
-
لا تديري لي ظهرك يا تارا أجيبي عن سؤالي، ما هو الشيء الذي دفعك للذهاب لبيت جومانا في الليلة التي ماتت فيها ؟؟
أكملت زحفها نحو الغابة :
- لا أستطيع أن أخبركِ
- ولماذا عساكِ لا تستطيعين ؟!
- لأنني لا أكذب والحقيقة لن تعجبك أبداً !!
2
تارا هي الشخص الوحيد الذي كان يعرف الجزء المتبقي من الحقيقة ذلك الجزء الضئيل الذي لم يكن أحد غيرها في العالم يعرفه وهو ان جومانا قد تناولت من جرة الماء البنية تلك ، وهي تعرف انها جرة ماء مسمومة ...
83
.........
«أنتهى»
« لا تثق بالغرباء » !!

تعدى عاصف حدود الغابة المظلمة ثم بعد ذلك حدود قرية الحساسة ولم يكن يعرف أي الطرق يجب عليه أن يسلك ، ورغم هذا إلا أنه واصل السير غرباً هو واكليل لفترة طويلة جداً حتى اقتربت الشمس للغروب من السماء ، وبدأ الاثنان يشعران بالجوع والعطش :
1
- إكليل انظر هناك – قال وهو يشير نحو البعيد - إنها قافلة !!
كانت هناك قافلة تجارية طويلة فيها العديد من الفيلة الضخمة التي كان بعضها محملاً بصناديق كبيرة ، والبعض الآخر يحمل على متنه فتيات وفتياناً صغاراً يجلسون متحاشرين في هوادج ضخمة كانوا في الطريق بهم نحو سوق الجواري والعبيد ..
1
كانت القافلة ترفع العديد من الرايات الملونة المكتوب عليها «تجارة الشابندر عدنان» بينما تسير متقدمة نحو الأمام يحفها الخدم الذين يحرصون على رفاهية وخدمة التجار المسافرين ، ويحفها أيضاً الحرس المتاجرون لحماية البضائع التجارية من أطماع اللصوص وقطاع الطريق ..
3
- أستطيع أن أشم رائحة شهية منبعثة من تلك الصناديق الكبيرة - قال عاصف، ثم أضاف : لا بد أن فيها الكثير من الطعام الشهي ، أليس كذلك ؟!
- اكليل جائع – قال إكليل بنبرة متوسلة .
- جائع - قال عاصف مصححاً ، وأضاف :
تعال نتسلل إلى هناك نأخذ ما نشاء من الطعام ، ثم نهرب قبل أن يرانا أحد !!
ربما ساعد غروب الشمس عاصف وإكليل كثيراً على أن لا يثيرا انتباه احد وهما يتسللان من مؤخرة القافلة، لداخل أحد صناديق المؤن الغذائية المربوطة بإحكام على ظهر أحد الفيلة، وربما لو أنهما التفتا للخلف وهما يتسللان لصندوق المؤن الغذائية ذاك ، لشاهدا فأراً له لحية طويلة نسبياً تشبه لحية عنز فحل كان يلحق بهما منذ اللحظة التي تعديا فيها حدود قرية الجساسة .
19
ملأ الاثنان يطنيهما من الأكل :
- كما توقعت كان الطعام لذيذاً هنا – قال عاصف منتخماً .
- لذيذ - قال إكليل وهو يتجشأ .
قال صوت آخر معهما في الصندوق :
- هل غادرت قرية الجساسة من أجل أن تملأ بطنك بالطعام ؟!
- من هناك؟ - تساءل عاصف متعجباً .
- فأر - قال إكليل وهو ينظر نحو نقطة معينة في ظلام الصندوق .
- فأر يدخل في مؤخرتك يا طائر البرتقالة أنا لست فأراً أنا الحكيم !!
17
ولأن الصندوق كان مظلماً من الداخل فإن عاصف لم يتمكن من رؤيةالشخص الثالث الذي كان يتكلم معهما، لذلك فانه سأل متعجباً :
- أي حكيم ؟
- الحكيم الذي ساعدك في ليلة المطر !! -
- كف عن الكذب !!
- لا أكذب ، أنا الحكيم ولكن جدتك حولتني لفأر !!
- ولماذا عساها أن تفعل ذلك ؟! 
- جدتك امرأة منحرفة لقد جاءت لمنزلي ليلاً كي تراودني عن نفسي ولكن عندما أخبرتها بأني لا أبادلها الشعور نفسه غضبت مني وحولتني لفأر
41
- صمت الحكيم قليلا ثم أضاف: نساء تافهات !
7
-  كاذب - قال إكليل وكأنه استطاع أن يشم رائحة الكذب في كلامه
- لست كاذباً - رد الحكيم ثم تابع وهو ينظر باتجاه إكليل : هل تعرف من الكاذب ؟ إنها تاج لقد كذبت عليك عندما أخبرتك بأنك فرخ طائر عنقاء ، بينما أنت لست إلا برتقالة متكلمة غبية !!
2
- كفى أنتما الاثنان - قال عاصف ثم أضاف
- لماذا تبعتني إلى هنا ؟!
- أريدك أن تساعدني ..
- بمَّ ؟!
- بأن تعيدني مثل ما كنت سابقاً
- کیف ؟!
أنت مخلوق هجين ومن المؤكد أنك تعرف كيف تفعلها
ـ أنا لا أعرف كيف أقوم بإلغاء التعاويذ !!
عد بي لجدتك إذا واطلب منها أن تفعل هي ذلك
فكر عاصف :
- وماذا سأحصل في المقابل؟!
- كنت أعرف أنك أبله ومتهور ولكن لم أكن أعرف أنك مبتز أيضا !!
6
- لا تغير الموضوع ما الذي سأحصل عليه في المقابل ؟!
- سأحقق لك أمنية ما رأيك؟!
- لو كنت تحقق الأماني لاستطعت إلغاء التعويذة عن نفسك !!
14
- اللعنة عليك أيها المبتز قل لي ما الذي تريده ؟!
تردد قليلاً قبل أن يبوح :
- أريد أن أصبح رجلاً !!
2
الحكيم وهو يضحك ساخراً :
- هذا أغرب طلب سمعته في حياتي!!
قاطعاً عليه سخريته سأل :
- ماذا قلت هل ستساعدني في أن أصبح رجلاً ؟
- ولماذا تريد أن تصبح رجلاً ؟!
- لأن هناك امرأة أريد مقابلتها !!
- وهل أخبرك أحد أيها المنحرف بأنني أعمل قواد نساء؟!
57
- أيها الحكيم لم أعني ذلك الشيء الذي فهمته
3
- وماذا كنت تعني إذا هاه ؟!
- هناك امرأة اسمها خيزران أريد لقاءها في أمر هام !!
- يا سلام وما دخل هذا بذاك؟!
- لن أستطيع لقاءها قبل أن أصبح رجلا ؟!
- وما الذي تريده منها؟!
- أريدها أن تساعدني في أخذ ثأري
- ماذا قلت لي اسمها مرة أخرى ؟!
- خیزران !!
- هل تقصد الجنية خيزران ؟!
- هل تعرفها ؟!
إن صح ما أعتقده فإنه يقال بأنها الوحيدة التي تستطيع أن ترتب لأحد موعداً مع عائلة الأباطرة قال الحكيم ذلك،  ثم أضاف : الجنية خيزران هي وزيرة جدك جبار ملك أبابيل السابق
جدي كان ملكاً ؟!
- ألا تعرف ذلك ؟!
- لم تقل لي جدتي هذه المعلومة من قبل !!
- كان جدك جبار ملكاً لأبابيل وكانت تاج الملكة
- أخفض الحكيم صوته وهو يستعد لقول المعلومة التالية :
الشائعات تقول بأن هناك واحداً من أفراد عائلتكم اسمه طاغين أعلن الانقلاب على الملك جبار، واستطاع بالغدر والخديعة هزيمة جيش أبابيل بأكمله !!
- وكيف حدث ذلك؟!
- لأكون صادقاً معك لا أعرف فأنا لم أكن هناك وقتها
- أجاب ساخراً ثم أضاف بجدية : ولكن ربما تستطيع الجنية خيزران أن تخبرك بالقصة عندما تلتقي بها !!
- وهل ستساعدني أيها الحكيم في أن أصبح رجلاً ؟!
- لا بأس ولكن شرط أن تجعل جدتك تلغي عني التعويذة أولاً !!
3
  - حسناً تعال نرجع للقرية من أجل ذلك .
استعد الجميع لمغادرة صندوق المؤن الغذائية والعودة لقرية الجساسة من أجل أن يطلب عاصف من جدته إلغاء التعويذة عن الحكيم غير أنهم ما كادوا يقومون بفتح باب الصندوق حتى صات قائد حرس القافلة بكل صوتة
- سنتوقف هنا للراحة والتزود بالطعام ونكمل سيرنا فجراً !!
توقفت القافلة عن السير وطوق الحرس تلك المنطقة من جميع الداخل والمخارج حتى يحموا البضائع التجارية بشكل أفضل ..
2
انقسم خدم القافلة لفريقين، ذهب الفريق الأول لنصب الخيام بينما اتجه الفريق الآخر نحو صناديق المؤن الغذائية، حتى ياخدوا منها الطعام، ويجهزوه ثم يقدموه للتجار القافلة ..
كان عدد صناديق المؤن الغذائية خمسة عشر صندوقاً، قام الخدم بفتحها جميعاً باستثناء صندوق وحيد قرروا أن لا يقربوه الليلة، وأن يتركوه كمندون غذاء احتياطي ليوم الغد ..
1
ولكن بعض التجار الذين كانوا لا يزالون يشعرون بالجوع بعد أن أكلوا طالبوا أحد مشرفي القافلة بإحضار المزيد، وبذلك أعطى مشرف القافلة أمرا لأحد الخادم :
- فيروز أحضر كل الطعام من داخل الصندوق الاحتياطي
- ولكن ماذا نترك للغد ، إن قمنا بإفراغ الصندوق الاحتياطي ؟!
- لا تقلق سنحرص على الوصول لسوق الجواري والعبيد ، قبل أن يشعر القافلة بالجوع
أ فيروز هو أحد الخدم الذين انضموا حديثاً للقافلة وهو خادم غريب الأطوار يرتدي ملابس واسعة جداً، لا يتكلم مع أحد يغطي جميع ملامح وجهة باستثناء عينيه مستخدماً شالاً أخضر اللون لا ينزعه أبداً ، وكان من زملائه الخدم يطلقون عليه في الخفاء لقب
«الشاذ جنسيا، والبعض الآخر «الخصي» وذلك لأنه لم يكن يحب الاستماع إليهم أو التفاعل معهم عندما يتحدثون عن النساء ..
38
فتح الخادم باب صندوق الأطعمة الاحتياطي ولم يكن يتوقع أبداً أو  يشاهد ذلك المنظر الذي رآه :
- من أنت ؟! وكيف وصلت إلى هنا أيها الفتى !!
أما عاصف فإنه لم يعطى لذلك الخادم مزيدا من الوقت حتى يصاب بالدهشة لفترة أطول، فقد قفز سريعاً خارج الصندوق حاملاً بين يديه إكليل والحكيم يريد أن يهرب بهما بعيداً ، ولكن قبل أن يحدث ذلك قال له الخادم :
- الحرس يطوقون القافلة ومن المؤكد أنهم سيرونك !!
لم يكترث للتنبيه وواصل ركضه مبتعداً ولكن الخادم حذره: - توقف .. سيقومون ببيعك في سوق الجواري والعبيد إن ، ألقوا القبض عليك ..
لقد كان الخادم محقاً في تحذيره فلو أن الحرس القوا القبض على عاصف لكانوا سوف يسلمونه بالتأكيد لمالك القافلة التجارية الشابندر عدنان، ليقوم بعرضه غداً في سوق الجواري والعبيد حال وصولهم هناك لذلك فإنه توقف في مكانه والتفت إلى الخلف :
- هل تستطيع مساعدتنا في الخروج من هنا ؟!
- نعم أستطيع !!
لم يعجب ذلك الأمر الحكيم، فقال معترضاً :
- لا تثق به سوف يسلمك بنفسه للحرس اهرب یا عاصف !!
1
- ولكن الحق معه أيها الحكيم
- قال عاصف وهو يلقي نظرة حول المكان
- انظر حولك إن الحرس يطوفون القافلة من جميع المخارج ومن المؤكد أننا سوف نثير انتباههم لو أننا حاولنا الهرب !! قال الخادم شارحاً ما يحدث :
- عندما تتوقف القافلة لأخذ قسط من الراحة فإن الخطر يصبح عليها أكبر، لذلك يكثف الحرس من نوبات عملهم خوفاً من أن يقوم قطاع الطريق أو اللصوص باستغلال فترة التوقف وسرقة البضائع
- وما هي الطريقة الأضمن للخروج من هنا ؟!
- عد للداخل أيها الفتى وانتظر حتى تبدأ القافلة في التحرك فجر الغد، عندها يتوزع الحرس على طول القافلة وعرضها ويصبح في إمكانك التسلل هارباً من غير أن تلفت الانتباه إليك ..
- تسلق الحكيم كتف عاصف ثم أمسك بين يدية شحمة أذنه  وصرخ :
- يريدك أن تدخل الصندوق ثم يغلق عليك الباب ويستدعي الحرس لأخذك !!
التفت عاصف نحو طائر العنقاء :
ما رأيك يا إكليل ؟!
نظر الطائر نحو عيني الخادم و كأنه يريد قراءة نواياه من خلالها :
الصندوق - قال .
التفت الحكيم نحو عاصف ثاثراً :
-  هل بلغ بك الجنون لأن تأخذ رأي هذه البرتقالة المتكلمة ؟!
4
- فار غبي - قال إكليل وهو يرسل إليه نظرة غضب .
2
- برتقالة بلهاء متكلمة !!
5
قال عاصف مقرراً :
- سوف ندخل الصندوق حتى تتحرك القافلة فجر الغد وعندها نهرب
- وأضاف وهو ينظر للخادم : نحن نثق بك
- ثق بي - رد بنبرة صادقة .
دخل عاصف ومن معه صندوق الأطعمة الاحتياطي ثم وقبل أن يغلق عليهم الخادم باب الصندوق الخشبي سأل :
- كيف يستطيع هذا الطائر الصغير أن يتكلم مثلنا ؟!
- إنه من فصيلة العنقاء ويمتلك قدراً عالياً من الذكاء للحد الذي يجعله يستطيع فهم لغتنا والتحدث بها ، ولكنه مثل ما ترى لا زال يحتاج لبعض الوقت
حتى يتحدث بشكل أفضل !!
- وماذا بشأن هذا الفأر ؟!
قال الحكيم متذمراً :
- فأر يدخل في مــ ...
7
قاطعه عاصف قبل أن يكمل جملته :
- هذا ليس فأراً إنه إنسان ولكن جدتي حولته لفأر
- جدتك تستطيع تحويل الإنسان لفأر ؟!
- إنها جنية
- أنت جني إذاً - سأل بدهشة .
- ليس تماماً - قال عاصف ثم أضاف : أنا هجین ؟!
5
- هجين؟!
- أمي جنية وأبي بشري
– قال موضحاً ثم تابع: وأنا لست بشرياً تماماً ولا جنياً أيضا أنا بين هذا وذاك أنا مخلوق هجين .
15
كان من المفترض على تاج تعليم حفيدها أن لا يثق بالغرباء وربما لو أنها علمته ذلك لاستطاع تفادي الورطة الكبيرة التي أوقع نفسها فيها الآن ..
4
فبعد أن أغلق الخادم عليهم الباب الخشبي، أخرج من أحد جيوبه قارورة زجاجة بداخلها مادة سائلة نزع عنها الغطاء وغرق بها الصندوق من جميع الاتجاهات ثم ذهب يهرول نحو خيمة الشابندر عدنان ...
8
وقف الخادم الملثم فيروز عند باب الخيمة وهمس :
- أيها الشابندر.. أيها الشابندر هل أنت هنا ؟!
1
قال الشابندر الذي كان يقضي ليلته مع إحدى جواريه الخاصات :
5
- لا- ثم أضاف وهو يلهث كما لو أنه يركض داخل الخيمة :
أنا لست هنا أذهب !!
1
- ولكنني أريد محادثتك في أمر هام
- في الصباح في الصباح
- ولكن الأمر الذي أريدك فيه لا يقبل التأجيل
- صدقني وحتى الأمر الذي أنا فيه لا يقبل التأجيل أيضاً !!
2
- أرجوك لن آخذ من وقتك الكثير
- تباً لك سأفقد تركيزي بهذه الطريقة قل من عندك ماذا تريد !!
2
- لقد ألقيت القبض للتو على فتى هجين وطائر عنقاء وفأر متكلم !!
لم يكمل الخادم الملثم فيروز جملته تلك حتى خرج الشابندر عدنان من باب خيمته وقد أنسته الفرحة أن يضع شيئاً على عضوه الحساس الصغير الأشبه  بغصن شجرة ميت لا حياة فيه ..
20
كان رجلا قصير القامة منتفخ البطن يشبه سمكة اليافوخ :
1
- این هم ؟!
لقد قمت بحبسهم في صندوق المؤن الغذائية الاحتياطي !!
وضع الشابندر قميصاً خفيفاً على جسده أخذ بعض الحرس معه وسارو جميعاً خلف الخادم، والذي راح يقودهم نحو  وضع المكان :
-هناك - همس بحذر وهو يشير لهم نحو الصندوق .
طوق الحرس الصندوق حتى لا يسمحوا لهم بالهرب وعندما فتحوا الباب ، والقوا بحذر نظرة للداخل وجدوا شاباً وطائراً وفأراً وكان ثلاثتهم يغطون في نوم عميق، قال الخادم مبرزاً :
- لقد رششت عليهم بعض الزرنيخ جعلهم يفقدون الوعي
13
- هل قلت زرنيخ ؟!
-  لقد قتلتهم بهذه الطريقة أيها المعتوه !!
- لا تقلق لقد أضفت عليه مسحوق جذور الناردين وهكذا لن يحدث لهم عدا أنهم سينامون طويلاً
- لماذا تحمل معك مثل هذه الأشياء أيها الخادم؟
- تساءل بشك .
لم يعرف ماذا يجب عليه أن يقول ولكنه استدرك في الأخير :
- تحسباً لمثل هذه المواقف يا سيدي الشابندر !!
- أحسنت – قال مبتسماً وهو يخرج من أحد جيوب قميصه زنبيلا بحجم كف اليد، كان ممتلئاً بالمال :
+
- ستكون هذه مكافئتك !!
« العبودية »

عندما جاء الغد وأشرقت شمس سماء مملكة أبابيل فتح عاصف عينه ووجد نفسه مقيد الاطراف داخل قفص من الحديد يشبه اقفاص الحيوانات وعندما تلفت حوله وجد إكليل والحكيم أيضاً مقيدي الأطراف مثله، وكل واحد منهما محبوساً داخل قفص حديدي يناسبه في الحجم والطول :
- أيها الحكيم .. إكليل استيقظا !!
استيقظ إكليل في البداية وما أن انتبه للوضع الذي هم فيه حتى راح يحاول جاهداً تخليص نفسه من الحبس ولكن قضبان القفص الحديدية كانت أقوى بكثير من أن يستطيع اختراقها بمنقاره ، نظر نحو سيده وقال كما لو أنه يعتذر عن تقصيره في الحماية :
- لا أستطيع !!
- لا بأس سنجد حلاً لمشكلتنا هذه
– ثم ولأن الحكيم لم يستيقظ بعد فإنه كرر النداء عليه مرة أخرى :
-أيها الحكيم استيقظ هذا ليس وقت النوم !!
رمش الحكيم بعينيه وهو يتمتم كما لو أنه يشاهد حلماً جميلاً :
- أووه .. دعيني أنام قليلاً يا أمي !!
3
- أنا لست أمك ويجب أن تفيق بسرعة
– ثم أضاف : بهمس عال :
- استيقظ أيها الحكيم استيقظ !!
استيقظ من نومه منزعجاً :
- أول درس يجب عليك أن تتعلمه أيها الأبله لتصبح رجلاً هو أن لا توقظ شخصاً من النوم !!
11
قال ذلك ثم صمت لبعض الوقت وأخذ يقلب بصره في المكان الذي وجد نفسه فيه وعندما أدرك أنه مقيد الأطراف داخل قفص صغير ، وأنه موضوع هو وعاصف وإكليل فوق عربة مسطحة مكشوفة يجرها فيل ضخم
قال مستدركاً :
- لماذا نحن هنا بحق السماء ؟!
- لا بد أن ذلك الخادم هو من فعل هذا بنا !!
لقد أخبرتك بأن لا تثق به ولكنك لم تستمع لكلامي أيها المتهور !!
4
- ما الذي تعتقد أنهم سيفعلونه بنا ؟!
أجاب بسخرية :
- لا شيء سوف يبيعونك فقط في سوق الجواري والعبيد لتصبح صبياً عند أحد الأغنياء ، وسأصلي للسماء كي لا تقع بين يدي رجل منحرف فصبي بمثل جمالك لن يكون مسروراً كثيراً لو أنه وقع بين يدي الشخص الخطأ ، أما
إكليل فسيضعونه في قدر كبيرة ويصنعون منه طبق حساء لذيذ !!
5
فأر غبي  - قال إكليل .
- فأر غبي - قال الحكيم مقلداً .
2
ثم في هذه اللحظة ومن خلف الأقفاص الثلاثة جاءهم صوت يقول :
- آسف لم يكن أمامي خيار آخر !!
عندما التفتوا جمعهم نحو مصدر الصوت، وجدوا أن المتحدث هو ذلك الخادم الملثم نفسه الذي أوقعهم في هذا الفخ ..
أحتج الحكيم :
- ما الذي تريدنا أن نفعله بأسفك هذا ؟!
معاتباً تمتم عاصف :
- لقد وثقنا بك لماذا فعلت هذا معنا ؟!
قال الخادم قبل أن يستدير مغادراً وبريق الحزن يشع من عينيه :
- ليس هناك وقت لأشرح لكم ولكنني جئت لأعتذر
1
عندما اختفى الخادم وسط زحام وغبار القافلة وقف الحكيم يحدق به :
- ما بك أيها الحكيم لماذا تحدق فيه بهذه الطريقة ؟!
قال بصوت جاد :
- ذلك القادم الملثم ..
- ما به
- إنها امرأة !!
8
- لماذا تقول ذلك ؟!
- لأن عيون النساء تتشابه عندما يصيبها الحزن
8
- هل أنت واثق مما تقول ؟!
- ذلك الخادم الملثم امرأة وليس رجلاً – أصر الحكيم .
1
كان السوق ممتلئا حتى آخره بالزبائن عندما وصلت القافلة إلى هناك وحطت بركابها في الأماكن المخصصة لتوقف القوافل ثم ولأختصار الوقت فإن الشابندر عدنان قام بتقسيم تجاره لقسمين ، أرسل قسماً منهم ليبيعوا الأقمشة والجلود والصوف وأواني الخزف المكومة داخل الصناديق ، بينما ذهب هو بنفسه مع القسم الآخر للركن المخصص لبيع الجواري والعبيد ...
اجتمع الكثير من الناس - رجالاً ونساء - أمام مصطبة خشبية مرتفعة قليلاً عن الأرض تشبه خشبة مسرح ،
من أجل أن يشاهدوا ما سيتم عرضه عليها من سلع بشرية ..
كان بعض من احتشد هناك يغلبه الفضول ليس إلا ولا يملكون قدرة الشراء أما البعض الآخر
– وهم الأغنياء والسادة - فإنهم جاؤوا من أماكن
ـ بعيدة جداً ليحصلوا على كل ما يستطيعون شراءه من جواري وعبيد .
كان من المتعارف عليه في ذلك السوق أن المبايعة تتم بأكثر الطرق وضوحاً وشفافية ، ومن أجل ذلك فإن تجار القوافل كانوا يعمدون لنزع الملابس عن جميع جواريهم وعبيدهم قبل أن يقوموا بعرضهم على الزبائن ، حتى يبعدوا عن بضاعتهم تهمة الخداع والغش ..
1
وكان الشخص الذي يملك النية الجادة في الشراء يستطيع فحص الجارية أو العبد قبل إتمام عملية البيع مستخدما كلتا يديه في تقليب بضاعته مالكاً الحق
- كل الحق - بتمرير وإدخال أصابعه حتى في أشد مناطق الجسد حرمة وسرية .
35
- لم أكن أتوقع أن نهايتي ستكون هذه الطريقة - قال الحكيم متذمراً - وأضاف : يا للسخرية سوف نصعد جميعنا على تلك الخشبة اللعينة ويتم عرضنا عليها وكأننا صناديق فاصولياء !!
2
- لا عليك - قال عاصف بهدوء يشي بثقة .
- لديك خطة ؟!
- سوف نهرب بعد أن يتم بيعنا !!
صمت الحكيم قليلاً ثم انفجر بخيبة أمل :
- هل تظن أن الأمر سيكون بهذه السهولة أيها الأبله ؟! سيضعون وشم العبودية على جبينك ، وعندها لن تكون حراً أبداً !!
- وشم العبودية ؟!
لكل عائلة من أغنياء أبابيل شعار خاص يشمون به عبيدهم فإذا رآك أحد حراس المملكة لاحقاً وأنت تملك الوشم على جبينك، فإنه سيعرف أنك عبد هارب وبذلك يستطيع أن يعيدك للعائلة التي هربت منها وربما يحصل على مكافأة مجزية أيضاً !!
سأل عاصف :
- كيف نهرب ونحن في الأقفاص والحرس يطوقون القافلة ؟!
- استخدم قوتك ألست مخلوقاً هجيناً ، ولديك قدرات خاصة ؟!
أم أن جدتك كانت تكذب علي عندما أخبرتني بذلك ؟!
- لم تكن تكذب ولكنني لا أستطيع فعل شيء في هذه اللحظة !!
- ولماذا عساك أن لا تستطيع فعل شيء في هذه اللحظة ؟!
- لأنني عندما أشعر بالحزن أفقد قوتي !!
- يا للسماء ولماذا أنت حزين الآن ؟!
- لأني كنت السبب في قتل أمي !!
صمت الحكيم متأثراً بعض الشيء فصحيح أنه كان يمتلك لساناً طويلاً وقذراً ، ولكنه في الوقت نفسه يمتلك أيضاً قلباً عطوفاً يستطيع بواسطته الشعور بالآخرين والإحساس بمعاناتهم ..
8
فكر قليلاً ثم قال :
- قد تسامح الأم ابنها إن قتلها عمداً لكنها لا تغفر له إن سمح للآخرين بأذيته، لهذا لا تسمح لهم ببيعنا
_ وأضاف برجاء - تصرف -
4
  حاول عاصف أن يحرك النار في عروقه ..
اغمض عينيه وتذكر في تلك اللحظة كل الأشياء التي قامت جدته بتدريبه عليها طيلة السنوات الثلاث .
أستجمع طاقته وبدأت أنفاسه تتغير :
«آبر کآ دآبرآ » ردد تلك التعويلة في نفسه لمرات ومرات ولكن من غير فائدة ..
قال مستسلماً :
- لا أستطيع لقد قتلت أمي !!
« إنقاذ »

انتهى الشابندر عدنان من بيع كل الصبيان الذين أحضرهم معه في القافلة بعد أن قام بعرضهم فوق تلك المصطبة الخشبية ، ثم أردف قائلاً بنبرة فكاهية وبصوت عالٍ حتى بين روح الحماسة في قلوب الزبائن ويستبقيهم للعرض القادم :
- أيها الناس ابقوا لبعض الوقت حتى تنعموا برؤية الجواري اللاتي أحضرتهن لكم من جميع أطراف العالم ، إنهن اللائي لم يخلقن في الأرض إلا من أجل إمتاعكم ، فتيات لسن كباقي الفتيات جمالهن لا ينتهي  دلالهن عجیب نهودهن صافية مثل الحليب، أردافهن علاج يشفي المريض !!
18
ارتفعت الضحكات في ممرات السوق وأصبح المكان فجأة أكثر ازدحاماً ، تمددت الأعناق وشخصت الأبصار وبات الناس أكثر توثبًا لرؤية أولئك الجواري ، اللاتي تحدث عنهن الشابندر !!
ولكن الغريب في الأمر هو أن الخادم الملثم فيروز وقف مترقباً وسط الزبائن ، يريد شراء جارية لنفسيه بالمكافأة التي حصل عليها ..
2
لم يمضي الكثير من الوقت حتى صعدت أول جارية فوق خشبة المسرح وتم بيعها سريعاً بمبلغ يفوق بكثير ثمن أعلى عبد تم بيعه سابقاً ..
صعدت الجارية الثانية والثالثة والرابعة وحدث كل جارية منهن مثل ما حدث مع الأولى حيث تم البيع بسرعة ولصاحب أكبر مبلغ ..
وعندما جاء دور الجارية الخامسة بدأ الكلام يصبح أكثر صخباً بين جوقة الزبائن ، ثم وعلى الرغم من أن طقس مملكة أبابيل كان بارداً طوال فصول السنة الأربعة إلا أن الهواء فجأة أصبح حاراً ، وبدأ جميع من هناك يتصبب عرقاً بسبب الفتنة اللانهائية المنبعثة من تلك الجارية ..
وحده الخادم الملثم هو من كان ينظر نحوها بطريقة مختلفة ..
بدأ الشابندر عدنان بذكر مواصفات الجارية الخامسة قائلاً :
- هذه الجارية اسمها سرابي عمرها سبع عشرة سنة
وهي فتاة بكر لم يسبق لرجل من قبل أن اقترب منها، أسنانها كاملة ومتراصفة مثل أسنان المشط لديها
عمارتان في خديها عندما تتسم قادرتان على إيقاظ كل اشيائك الميتة - غمز بعينه بطريقة خبيثة وهتف : كبار السن من الذكور يفهمون قصدي بالطبع اليس كذلك ؟!
15
انفجر الناس بالضحك وبالذات كبار السن منهم ثم التفت إليها الشابندر عدنان وأمرها بأن تبتسم حتى يشاهد الجميع تينك الغمازتين اللتين تحدث عنهما للتو ، ورغم حزنها الطاغي إلا أنها اغتصبت ابتسامة مزيفة على وجهها خوفاً من العقاب ، أكمل الشابندر :
شعرها بني مثل رحيق النحل ...
بيضاء هي  مثل نُدف الثلج جسدها مشدود كالزجاج نهداها مثل رمانتين ناضجتين ...
2
-تابع بعد ذلك كلامه عن الجارية هبوطاً من الأعلى للأسفل واصفاً مناطق جسدها شبراً شبراً ، وبكلام لا يصلح أن يقال إلا من أجل شيء واحد فقط وهو إثارة الشبق في نفوس  الرجال ، حيث إنه كتاجر ضليع في مجاله يعلم بأن الرجال لا يصبحون كرماء جداً الا فقط عندما تتحرك شهواتهم
- حين انتهى أخيراً من وصف الجارية الخامسة وصفاً دقيقاً - مبالغاً به أحياناً - صاح بصوت عالٍ وهو يقترب للجمهور أكثر ويرفع يديه بإيماءة حماسية :
- والآن أيها الناس .. من يبدأ المزاد ؟!
تهاتف الأغنياء والسادة للمشاركة وكان الخادم الملثم فيروز يضارب معه من وقت لآخر ، رغبة منه في شراء تلك الجارية لنفسه غير أن المبلغ المتواضع الذي بحوزته كان أقل بكثير من المبالغ المرتفعة وغير المعقولة التي وصل إليها المزاد ..
1
وعندما تيقن أخيراً من انه لن يستطيع شراء تلك الجارية، وفقد الأمل - کل الأمل -  في الحصول عليها فإنه تسحب من مكانه وذهب لمكان آخر ذهب نحو الاقفاص الثلاثة المحبوس بداخلها عاصف والحكيم وإكليل :
كان الشابندر عدنان قد خبأهم لآخر فقرة في العرض ..
والذين كان هناك خمسة من الحرس يقومون بحراسة الاقفاص منعاً لحدوث محاولة للهرب اقترب منهم الخادم واخبرهم بأن الشابندر يريدهم في أمر
- إنه يريدكم جميعاً !!
نظر الحرس بعضهم ببعض متعجبين ، سأل أحدهم :
هل أنت واثق أيها الخادم من أنه يريدنا جميعا ؟!
- نعم وقد أرسلني لآخذ مكانكم في الحراسة ريثما تعودون ..
انطلت تلك الحيلة البسيطة عليهم وانصرف الحرس الخمسة جميعهم لرؤية ما يريده الشابندر منهم بعد ما استطاع الخادم نشل مفاتيح الأقفاص من أحدهم دون أن يشعر بخفة يده ..
- هيه أنت أيها الفتى الهجين -
همس الخادم من خلف الأقفاص التفت عاصف نحو مصدر الصوت وعندما رأى المتكلم قال :
- ما الذي جاء بك مرة أخرى أيها الخادم ؟!
- ما رأيك في أن أحررك وأصدقائك من هذا المكان ؟!
تدخل الحكيم متسائلا وهو يخاطب ذلك الخادم على أنه فتاة :
- ولماذا عساكِ ستفعلين هذا معنا أيتها الحلوة ؟!
- ما الذي يجعلك تفترض أنني فتاة ؟!
- سأل الخادم متعجباً .
- لأنني أعرف أنكِ فتاة – قال الحكيم باندفاع ثم أضاف : هيا أنزل بنطالك ودعنا نشاهد إثبات رجولتك إن كان كلامي خطئاً !!
8
أزال الخادم اللثمة الخضراء عن وجهه وقال :
- لقد اختصرتم علي الكثير من الشرح أنت محق أنا فتاة واسمي فيروز سأل الحكيم وقد أذهله جمالها :
- لماذا كنت طوال الطريق تتنكرين بزي الرجال
- ثم أضاف سؤالاً ثانياً :
ولماذا تريدين مساعدتنا في الهرب؟!
تجاهلت فيروز السؤال الأول للحكيم وأجابت على الثاني :
- سوف أساعدكم مقابل أن تسدوا لي خدمة
مستنكراً صرح عاصف :
- وما الذي يضمن لنا أننا لا نتعرض لفخ جديد ؟!
رفعت فيروز أصبعها وأشارت نحو الجارية الخامسة :
هل ترون تلك الجارية هناك والتي يريد الشابندر بيعها ؟!
نظروا إليها جميعاً وعندما شاهدوا جمالها قال الحكيم بحماسة : - يا للسماء أنا مستعد لأدفع عمري كله مقابل ليلة واحدة معها !
بدا على فيروز الضيقة لسماعها ذلك التعليق ولكنها قالت متجاهلة : - سأقوم بتحريركم مقابل أن تمنعوا عملية بيعها سأل عاصف :
وما الذي سوف تستفيدينه من ذلك ؟؟
- لأن تلك الفتاة ابنتي
5
- أوه .. لا .. - قال الحكيم وقد شعر بالحرج :
تلك الليلة التي سأدفع عمري  من أجلها لم أكن أقصد بها أنني كنت أريد أن أفعل معها ذلك الشيء الذي برأسك، فابنتك قبيحة .. أقصد أن أقول بأنها ....
7
قاطعت فیروز كلامه لكي تجنبه الحرج :
- في البداية لم أكن أنوي القيام بتسليمكم للشابندر، ولكن عندما عرفت أنكم مخلوقات استثنائية ، فكرت في أنني ربما قد أجني من وراء تسليمكم مبلغاً كبيراً ، أستطيع من خلاله شراء ابنتي وتخليصها من أن تكون جارية !!
سأل إكليل باهتمام وقد بدا أنه كان مندمجاً مع تلك القصة:
- وماذا حدث بدعها ؟!
6
قال الحكيم مصححاً :
يقصد أن يقول وماذا حدث بعدها !!
أكملت فيروز وهي تنظر نحو الطائر :
المبلغ الذي معي لم يعد كافياً لشرائها
- ثم نظرت نحو عاصف وقالت : لن أحتمل رؤيتهم وهم يبيعون سرابي ويأخذونها بعيداً عني أرجوكم أقبلوا عذري وساعدوني !!
3
قال الحكيم محللاً كل شيء :
- من أجل هذا قررت الانضمام للقافلة والتنكر بزي الرجال ، ومن أجل هذا كنت تحتفظين طوال الطريق بذلك المخدر الذي رششته علينا، كنت تخافين أن ينكشف أمرك لأحدهم فيتهجم عليك من غير أن يكون لديك ما تدافعين به عن نفسك !!
قالت فیروز كاشفة عن دوافعها :
- طوال الطريق كنت أفكر بخطة لإنقاذ ابنتي ولكن ذلك الأمر بدا مستحيلاً بوجود كل أولئك الحرس حول القافلة وانقطاعنا عن الأماكن المأهولة بالسكان ، هل ستقومون بمساعدتي ؟!
لم يتكلم عاصف فقال إكليل وهو ينظر نحوه يحثه على الموافقة :
- وافق
- هيا قل بأنك موافق – هتف الحكيم .
- أنا لست امرأة سيئة كل ما في الأمر هو أنني كن ...
- حررينا من قيودنا - قال عاصف مقاطعاً
- سنعيد لكِ ابنتكِ !!
وعيناها تغرقان بالدموع :
- أنا ممتنة لكم !!
قال الحكيم :
- أسرعي قبل أن يعود الحرس، ويضعوك معنا !!
لم يكن عاصف بعد يستطيع استخدام قوته الخاصة، وذلك بسبب بقايا الحزن التي ما زالت عالقة في قلبه، لذلك يجب عليه أن يفكر هو والحكيم وإكليل بخطة أخرى غير المواجهة يستطيعون من خلالها تشتيت انتباه الحرس وإعادة سرابي لأمها .
+
.......
«أنتهى»
« خادم سيئ » !!

تسلل الحكيم من بين أقدام الناس بحذر حتى لا يقوم أحد بدهسه اختار امرأة كانت ترتدي فستاناً قصيراً وقام بتسلق ساقها العارية بخفة بالغة وصولاً إلى فخذها ثم صعوداً نحو الأعلى حتى أخرج رأسه أخيراً من عند فتحة صدر فستانها ، نظر إليها مبتسماً وهو يتنفس الصعداء ، وقال بنبرة صوت شخص محصور يقضي حاجته خلف شجرة :
2
- يا سلام المكان دافئ هنا ورطب !!
11
صرخت تلك المرأة بكل ما أوتيت من قوة فرغم أنه فأر
- وهذا سبب يكفي لإخافة أي امرأة – إلا أنه بالإضافة لذلك كان يتكلم مثل البشر وله لحية طويلة تشبه لحية عنز فحل ..
تسببت تلك المرأة وبقية النسوة اللاتي خفن من الفأر في ارتباك كبير بين صفوف عامة الناس الأمر الذي بسببه اضطر الحرس للتحرك من أماكنهم حتى يعيدوا ضبط الصفوف ..
وهنا وبحسب الخطة المتفق عليها بين الأصدقاء الثلاثة، يأتي دور إكليل الذي قفز من مكان مرتفع، ورفرف بجناحيه في الهواء موازناً نفسه حتى هبط إلى وجه الشابندر عدنان ..
حاول الشابندر إبعاد ذلك الطائر البرتقالي الذي حجب عن عينيه الرؤية، ولكنه لم يتمكن من فعل هذا إلا بصعوبة بالغة وعندما نجح اخيراً في إبعاد الطائر عن وجهه والتفت للمكان الذي كانت تقف فيه الجارية الخامسة لم يجدها فصاح بأعلى صوته :
- أيها الحرس .. أيها الحرس لقد اختفت الجارية الحقوا بها !!
وعندما نظر لنفسه وجد أن ملابسه أيضاً كانت قد اختفت من فوق جسده ، فقال بخجل بعد أن غطى يديه القصيرتين ما استطاع أن يغطي :
4
-وفتشوا عن ملابسي أيضاً !!
10
لقد استطاع عاصف وسط اضطراب جمهور الناس الذي تسبب في وقوعه الحكيم ، أن يخترق صفوف الحرس برشاقة عالية من غير أن يشعر به أحد واستغل المدة القليلة التي حجب فيها إكليل الرؤية عن عيني التاجر البدين، ليحمل سرابي بين يديه ويهرب بها بعيداً ..
ثم ولأنها لم تكن ترتدي فوق جسدها شيئاً فإنه لم ينسى قبل هروبه أن يأخذ ملابس الشابندر ويغطي بها جسدها.
سألت
- إلى أين تأخذني ؟!
ابتسم عاصف لها وقال :
- لرؤية شخص عزيز ..
4
استطاع الجميع أن يتقابلوا في نقطة الالتقاء التي حددوها عندما وضعوا الخطة، احتضنت فيروز ابنتها سرابي وبكت كثيراً غير مصدقة أنها استطاعت
أخيراً استعادتها :
+
- لقد شعرت بأنهم انتزعوا قلبي من مكانه عندما هجم أولئك الرجال على قريتنا وقاموا باختطافك !!
- لماذا لم تؤثر فيهم توسلاتي بأن يعيدوني إليكِ يا أمي ؟!
- لأن الرجال لا يملكون قلوباً في صدورهم يا ابنتي لكن لا تحزني سأكون معكِ ولن أسمح لأحد بأن يأخذك مني مرة أخرى !!
قال إكليل متدخلاً وكأنه استطاع سماع أصوات قادمة : - الحرس !!
هتف الحكيم :
- يجب أن نبتعد من هنا بسرعة الحرس قادمون !!
وقبل أن يبتعدوا عن ذلك المكان لمع شيء حاد في السماء كان متجها مباشرة نحو عاصف، انتبهت إليه فيروز ولكن الوقت لم يسعفها لتحذيره أو إبعاده عن مجال السهم ..
ثم وفي غمضة عين انفجرت الدماء في كل مكان
وأصيب الجميع بالصدمة ، والذعر :
- أمي - صاحت سرابي !!
2
وهنا وفي هذه اللحظة وبينما كان السهم مغروساً في جسد فيروز كان الحرس الذين عددهم خمسة يطوقونهم من جميع  الاتجاهات خيم صمت رهيب على المكان
1
- للحد الذي كانت فيه نبضات القلوب تسمع وهي تنبض بخوف من وراء الصدور – لم يشعر عاصف حينها بالحزن بل بالغضب تحولت عينه اليسرى للون الأحمر القاتم وبدأ يشعر بصلابة أطرافه وبالحرارة تغزو جسده وبأن هناك أسياخاً من الحديد تسبح في عروقه ..
للحظة شعر أولئك الحرس الخمسة وهم يشاهدون التحول المرعب للفتى الهجين برغبة شديدة في البكاء والاعتذار عما فعلوه ، ولكن سوف يتعلمون الآن الشيء الذي فاتهم أن يدركوه في سنواتهم الماضية، وهو أن هناك نوعاً من الأخطاء لا يصلح معها الاعتذار أو الندم ..
انقض عليهم عاصف مثل ذئب مسعور يهاجم قن دجاج ..
وحين انتهى منهم وعاد مرة أخرى ليطمئن على صحة فيروز ، صاحت سرابي في وجهه بخوف وهي تحتضن والدتها على الأرض:
- أرجوك أيها الوحش لا تؤذنا !!
2
لستُ وحشاً - قال.
- أرجوك ابتعد - كررت بتوسل .
قال الحكيم بعد أن شاهد خطورة الإصابة :
- لا فائدة ستموت .
صرخ عاصف عليه وكأنه يتهمه بالتقصير:
- حاول أن تفعل شيئاً لتساعدها !!
- أتظن أنني لو كنت أستطيع فعل شيء لتأخرت ؟!
لقد اخترق نصل السهم صدرها مسبباً أضراراً أكبر بكثير من أن أستطيع أو يستطيع أي أحد إصلاحها أيها الأبله !!
- انت لست إلا فأراً قذراً لا تصلح لشيء !!
قال ذلك من شدة الهياج والغضب ثم تحولت عينه اليسرى للون الأحمر مجدداً ، وقد خرجت قوته من مجال سيطرته وبات وجوده يهدد جميع من هناك - كان ثائر للحد الذي ربما تدفعه ثورته لقتل أي أحد من غير أن شعر نفسه - وكان الحكيم يدرك تلك النقطة جيداً لهذا فإنه فكر في حل سريع يستطيع بواسطته حماية الجميع من تهوره، هتف :
- هل ستقتلنا نحن  أيضاً مثل ما قتلت أمك من قبل ؟!
11
ما أن سمع عاصف تلك الجملة حتى امتلأ قلبه بالأحزان، فاختفت الأنياب والمخالب وأصبحت عينه اليسرى طبيعية، هرول مبتعداً عن المكان الذي كانوا يقفون فيه فقالت فيروز تناديه :
- أرجوك لا تذهب توقف عاصف مكانه غير انه لم يلتفت إلى الخلف ولذلك ربما لأنه يكن يريد لأحد منهم رؤية الدموع المحتشدة في عينيه، تكلمت فيروز بصعوبة بالغة بسبب السهم المغروس في صدرها :
- التفت خلفك يا عاصف !!
- أستطيع سماعك من غير أن التفت
- ولكنني أريد رؤية وجهك قبل أن أرحل
- لا ترحلي - قال وهو يلتفت إليها باكياً ، ثم أضاف :
لماذا لم تدعي السهم يقتلني؟  لماذا تلقيتيه بدلاً عني ؟
لماذا فعلت هذا بنفسك ؟! 
- لأنني لا أستطيع حماية أبنتي مثلك
- صمتت فيروز قليلاً بسبب الألم ثم  تابعت :
هل ترد لي هذا الدين وتحمي ابنتي بروحك يا عاصف؟!
7
لم يجب عليها فقالت فيروز :
- تكلم فأنا لا أملك وقتاً كافياً لأسمع جوابك !!
لم يعلق وظل صامتاً يغالب دموعه فقال الحكيم بنفاد صبر : - تكلم سوف تموت المرأة ..
اقترب إكليل من فيروز ومسح لها بريشه الناعم حبات العرق المتقاطر من وجهها ، همس :
- أنا أحميها
ثم طار واستقر فوق كتف سرابي و اضاف : بروحي
2
وقف الحكيم على قائمتيه الخلفيتين ثم مد يديه مثل فقير يطلب صدقة :
- وأنا كذلك يا فيروز سأحميها بروحي ..
ثم وقبل أن تغمض فيروز عينيها بلحظات قليلة جداً وترحل إلى الأبد وضع عاصف يده عند قلبه و هتف بصوته كله كما لو أنه جندي يؤدي قسماً أمام قائده :
- أعدكِ يا فيروز .. أعدكِ بأن أحميها بروحي !!
17
*****
بعد موت فيروز بقليل وبينما كان الجميع يشعرون بالحزن والأسف عليها، استطاع إكليل ان يرصد وقع أقدام كثيرة تقترب منهم فقفز من فوق كتف سرابي ، وحرك جناحيه مرتفعاً في الجو ليتحقق أكثر من مصدر ذلك الصوت . حام في الهواء مرتين ثم هبط عائداً إليهم :
- حرس كثير قادمون !!
هتف الحكيم :
عاصف دعنا نبتعد من هذا المكان !!
مد عاصف يداً نحو سرابي :
هيا تعالي معنا !!
صاتت سرابي :
أبعد يدك عني أيها الوحش !!
22
همس لها إكليل برجاء :
تعالي سرابي معنا !!
توسل إليها الحكيم :
أرجوكِ يجب أن نتحرك بسرعة !!
وهكذا هرب الجميع من ذلك المكان، تجنباً للوقوع في اشتباك مباشر مع حرس القافلة، ولكنهم لم يبتعدوا كثيراً حتى شاهدوا قرية بطريقهم ففكروا بأنهم قد يستطيعون الأختباء فيها ريثما يزول الخطر عنهم ما أن دخلوا للقرية حتى صادفهم رجل مسن كان للتو خارجاً من بيته له لحية بيضاء طويلة ووجه عليه أمارات الطمأنينة والوقار يتوكأ على عصا خشبية وظهره منحني للأمام قليلاً ، قال بصوت فيه بحة عميقة وكأن الكثير من الغبار كان عالقاً  وقتها بحباله الصوتية :
- من ماذا تهربون يا أبنائي ؟!
الحرس - قال عاصف - إنهم يتبعوننا !!
2
- وماذا يريدون منكم ؟! - سأل الرجل المسن
- يريدون إلقاء القبض علينا حتى يبيعونا !!
- ولماذا عساهم يريدون بيعكم ؟!
1
- لأننا هربنا من سوق الجواري والعبيد
- وأين هم؛؟!
قال الحكيم متدخلاً  وبحدة :
- لو أنك استمريت بالتحقيق معنا قليلاً، فسوف تشاهدهم أمامك بعد قليل وهم يلقون القبض علينا ويجروننا من أمامك جرًا – ثم أضاف : هل ستساعدنا أم نواصل الهرب ؟!
3
- هذا الفأر يستطيع الكلام ؟!
- هذا الفأر يستطيع أيضاً أن يركل لك مؤخرتك العجوزة أيها الرجل الخرف !!
15
سمعوا أصوات خطوات تقترب :
- ادخلوا سأخبئكم لبعض الوقت - قال الرجل المسن .
توقف الحرس عنده ليسألوه :
- أنت أيها الرجل هل رأيت غرباء في هذه القرية، صبي وفتاة وطائر برتقالي اللون وفأر عفن ؟!
4
كاد الحكيم أن يعلق ولكن عاصف سد فمه
8
- نعم لقد شاهدتهم - قال ذلك ثم أضاف وهو يشير نحو أحد الاتجاهات : لقد ذهبوا من هنا
*******
أغلق الرجل المسن باب البيت ثم قال وهو ينظر بلطف نحوهم : - لا تخافوا لقد رحلوا يا أبنائي
قال عاصف وهو يتنفس الصعداء ويستعد للمغادرة :
- شكرا لك. . لن ننسى لك صنيعك هذا
- لماذا العجلة ؟! اقضوا الليلة هنا وغداً واصلوا سيركم إن أردتم
لم يكن أحد فيهم يشعر بالتعب ولكن عاصف يدرك أن الخطر ما زال يحوم حولهم وأن هناك احتمالاً كبيراً ،
بأن يقوم حرس القافلة الليلة بنصب فخ لهم خارج القرية، قال وهو يحرك رأسه موافقاً :
- نقضي الليلة هنا وغداً نستأنف طريقنا عند الصباح
أعطاهم غرفة خاصة لهم وطلب منهم أن يصرفو الخجل عنهم وأن  يتصرف كل واحد منهم كما لو أنه في منزله الخاص ثم ولكي يضفي عليهم مزيداً من الخصوصية، فإنه لم يمكث طويلاً معهم ...
1
اقترب الحكيم من عاصف بخجل إنه يعرف الجرح الذي تسبب به عندما قال له:
«هل ستقتلنا نحن أيضاً مثل ما قتلت أمك من قبل»
لذلك فإنه سأل بندم :
- هل أنت غاضب مني ؟!
- لم تقل ذلك إلا من أجل حماية الآخرين لهذا لست غاضباً
منك
شعر الحكيم بالكثير من الفرح حين سمع ذلك الرد ثم قال وكأنه يقدم لعاصف عربون صداقة :
- أتعلم ؟! سأبقى معك حتى تعثر على الجنية خيزران وتحقق ثأرك ..
- حقاً ؟!
أومأ له برأسه وأضاف :
- ولكن بعدها ستطلب من جدتك أن تلغي عني التعويذة اتفقنا ؟!
ابتسم عاصف عندما سمع كلمة اتفقنا وقال :
اتفقنا !!
9
بعد منتصف الليل بقليل، طرق الرجل المسن باب الغرفة عليهم، يحمل بين يديه طبقاً كبيراً فيه ما لذ وطاب من الطعام و قال مبتسماً وهو يدخل :
2
- لا بد أنكم قضيتم يوماً صعباً وأنكم تشعرون بالجوع يا أبنائي !!
1
لم تكن سرابي تشعر برغبة في الأكل بسبب موت والدتها، ولكنها قالت مجاملة : كم أنت رجل طيب
تسلق الحكيم جسد عاصف ثم استقر عند كتفه وهمس :  - لقد أحسنت صنعاً بقبولك هذه الدعوة
الشخص الوحيد الذي لم يكن مرتاحاً لهذا الأمر هو إكليل فقد كان طيلة الوقت يراقب تصرفات الرجل المسن بحذر شديد ويتمتم في نفسه من وقت لآخر بكلام لا يسمعه أحد اقترب عاصف منه وهمس :
- ما بك ؟!
-  كاذب ، كاذب !!
4
هذا ما قاله إكليل ثم قفز في الهواء وهاجم الرجل المسن مما تسبب في إسقاط صحن الطعام من بين يديه ، كان الرجل المسن أضعف بكثير من أن يقاوم الهجوم الشرس الذي شنه عليه الطائر من غير مبرر ، الشيء الذي جعل عاصف  يصرخ بكل صوته مدافعاً عنة :
- توقف ، إكليل .. توقف
لو يصغي إكليل للأمر مما اضطر عاصف لأن يتدخل مستخدماً القوة في إيقافه، أمسكه من ذيله وضرب به عرض الحائط ليتلقى ضربة قوية على رأسه ويسقط أرضاً ..
1
ذهب عاصف يركض نحو الرجل المسن :
- هل أنت بخير يا جداه ؟!
- اطمئن يا بني أنا بخير - همس بألم .
ضحك الحكيم بصوت منخفض فلكزته سرابي بإصبعها وهمست : - لماذا تضحك؟!
- لا شيء ولكن أضحكتني كلمة جداه تلك التي قالها عاصف !!
التفت عاصف، نحو إكليل :
- ما خطبك ؟! أتفعل هذا مع الأشخاص الذين يقدمون لنا المساعدة ؟!
كاد يدافع عن نفسه ولكن عاصف قاطع فرصته في
الكلام :
- لا أريد أن أسمع منك شيئاً اغرب عن وجهي !!
3
كان الجميع ينظرون نحو إكليل بعين التأنيب والشفقة الأمر الذي دفعه لأن يخفض رأسه بأنكسار ثم يحرك جناحيه ويغادرهم من النافذة وحدها سرابي التي على الرغم من عدم قبولها ذلك التصرف غير المبرر والذي قام به إكليل إلا أنها وقفت بصفه بعد أن غادر الغرفة :
- لماذا طردته ؟!
- لأنه أخطأ !!
- حتى لو أنه أخطأ لا يجوز لك أن تعامله بهذه الطريقة
- هل أعجبكِ ما صنع ؟!
- لا ولكنه لايزال صغيراً ولا يدرك ما يفعل !!
- يجب عليه أن يتعلم إطاعة أوامري وأن لا يتصرف من تلقاء نفسه
التفتت سرابي نحو الرجل المسن وقالت وهي تحني رأسها :
- أعتذر لك يا جداه بالنيابة عما فعله إكليل بك !!
ضحك الحكيم مرة ثانية لسماع كلمة جداه فصاحت سرابي عليه
- أيها الحكيم !!
كتم الحكيم أنفاسه لفرط الخوف وهمس :
- آسف .
قال الرجل المسن بلطف وهو ينظر نحوها :
- عذركِ مقبول يا ابنتي
- وأنت - قالت وهي تنظر نحو عاصف - أنت شخص بلا رحمة ثم نهضت من مكانها لتغادر الغرفة فحاول منعها :
- لا تلحقِ بإكليل يجب عليه أن يعرف بأن العقاب سيكون جزاء، في كل مرة يعصي فيها أمري !!
قالت وهي متجهة نحو الباب ومن غير أن تلتفت إليه :
- إذا كنت وحشاً فلا تطلب من الآخرين أن يصبحوا مثلك
قال عاصف بحدة وغضب :
- لستُ وحشاً ولكنه أخطأ !!
وهنا التفتت نحوه وهي تمسك بمقبض باب الغرفة وتقول : يجب أن تقرر يا عاصف إذا ما كنت تعتبره خادماً أم صديقاً ؟!
سكت بعدم اكتراث ولم يجب ،
فصاحت عليه أجب عن سؤالي !!
تدخل الحكيم بخوف هامسًا
اجب عن سؤالها أرجوك لقد بدأت أشعر بالخوف من هذه الفتاة
2
- صديق - أجاب.
أدارت مقبض الباب وقالت قبل أن تغادرو :
كان يجب عليك أن تستمع لتبريره إذا حتى لو كنت واثقاً من أن ما فعله كان خاطئاً !!
غادرت سرابي الغرفة للبحث عن إكليل بينما علق الحكيم : - الفتيات بطبعهن يمتلكن عقولاً مثل عقول الحمير لكن أشكالهن جميلة وهذا ما يشفع لهن !!
36
استغرقت سرابي بعض الجهد حتى وجدت إكليل ..
كان يجلس حزيناً فوق غصن إحدى الأشجار العالية مثل ملك معزول : «وجدتك» قالت بلطف وهي تنظر إليه مبتسمة، ثم رفعت يدها الناعمة البيضاء الحلوة نحوه وقالت : تعال، هبط إكليل عن الغصن الذي كان يجلس عليه واستقر فوق يدها :
- لماذا جئتِ؟ - همس .
قالت وهي تربت على ريشه الناعم البرتقالي :
- لأنني لن أتركك وحيداً وأنت بهذه الحالة .
- أنا خادم سيء !!
- لست خادماً يا إكليل أنت صديقنا
- لا أنا خادم سيئ !!
- لقد أخبرني عاصف للتو بأنه يعتبرك صديق لنا !!
بدهشة وعدم تصديق :
هو قال؟!
أومأت له برأسها مؤكدة :
نعم هو الذي قال ذلك
- أنا سيئ - قال بحزن - لقد أغضبت صديقي !!
- لماذا هاجمت الرجل المسن ؟!
+
.......
«أنتهى»
« الثقة »

مضى من الليل وسرابي وإكليل لم يعودا من الخارج بعد لذلك بدأ القلق يتسرب شيئاً فشيئاً لقلب عاصف غير انه كتم مخاوفه تلك نفسه وظل مكانه جالساً ينظر بأتجاه الباب وينتظر عودتهما بفارغ الصبر ..
1
فقال الحكيم الذي استطاع قراءة ما يدور في عقله :
- لقد طال غيابهما أليس كذلك ؟!
بتكبر أجاب : لا يهم
- أعرف أنك مهتم !!
مضت لحظة صمت قصيرة بينما حاول عاصف التظاهر فيها باللامبالاة حتى قال الحكيم :
- انظر لقد عادا أخيراً !!
- حقاً ؟! – هتف عاصف وهو ينظر باتجاه الباب
قال الحكيم بسخرية وقد نجح في نصب الكمين له :
- يبد وأنك حقا لست مهتماً لأمرهما !!
صمت عاصف ولم يعلق بينما قال الحكيم :
- اسمع .. أنت شخص أبله كلانا يعرف ذلك ولكن أرجوك لا تكن أبلهاً أكثر من اللازم أريدك أن تتعلم أن لا تدع الغضب يعميك عن فعل الصواب ..
حرس القافلة ما زالوا يبحثون عنا وأنت لا تعرف ما الذي قد يحدث لسرابي وإكليل في الخارج لذا دعنا نذهب للاطمئنان عليها !!
- سنطمئن عليها من بعيد - قال وهو ينهض ، ثم أضاف :
- ولكن من غير أن تجعلهما يشعران بنا !!
في بداية الأمر بحثا حول البيت وعندما لم يجدا لهما أثراً قررا أن يوسعا نطاق البحث أكثر فافترقا وذهب كل واحد منهما في اتجاه ، ثم وبعد أن مضت أكثر من ساعة ونصف الساعة من التفتيش المتواصل عادا والتقيا في النقطة التي كانا قد أفترقا بها ...
سأل عاصف بقلق :
- هل وجدت شيئاً ؟!
- لا لقد بحثت في كل مكان
– أجاب الحكيم ثم اقترح : دعنا نرفع أصواتنا بالنداء
- سرابي، إكليل هل تسمعاننا ؟! – هتف عاصف والحكيم .
وبسبب ، تلك الضوضاء التي أحدثاها اجتمع حولهما سكان القرية واقترب الرجل المسن منهما:
- ما الذي حدث ؟!
- لقد اختفى كل من سرابي وإكليل يا جداه !!
- غير معقول – تمتم الرجل المسن بقلق وأضاف :
هل من الممكن أن يكونا قد رحلا بسبب سوء التفاهم الذي حدث بينكم ؟!
1
قال الحكيم مستبعداً ذلك الاحتمال :
- من المستحيل أن يفعلا ذلك !!
- أخاف يا جداه أن يكون هناك شيء سيئ قد وقع لهما !!
- لا تجزع لن يحدث لأحد منكم مكروه وأنتم ضيوف قريتنا قال الرجل المسن ثم صات وهو يرفع كلتا يديه عالياً يتوسل المساعدة :
- يا أهالي القرية هل شاهد أحد منكم الفتاة والطائر ؟!
خرج واحد من صفوف أهالي القرية كان نحيفاً يشبه هيكلاً عظمياً له عينان واسعتان مثل عيني بومة وملامح وجه شخص ملفوف حول عنقه حبل مشنقة :
- الحرس - ثم أضاف والجزع يتسلق حبال صوته :
لقد أخذهم حرس القافلة شاهدتهم وهم يلقون عليهما القبض أسفل الشجرة !!
4
نظر عاصف والحكيم بعضهما في وجه بعض وقد بدت الكارثة واضحة عليهما :
لا يوجد وقت – هتف الحكيم - يجب أن نتحرك بسرعة
1
تكلم الرجل المسن
- هل أنتما في حاجة للمساعدة ؟! أنا ورجال قريتي في خدمتكم !!
15
- شكراً لقد قدمت لنا أكثر بكثير مما كنا نأمل يا جداه .
******
أنطلق الأثنان لإنقاذ سرابي وإكليل ولكن قبل أن يتجاوزا حدود تلك القرية ظهر لهما شاب في الطريق :
- ما أسهل الكذب عليكما - قال ذلك الشاب .
توقف عاصف ونظر إليه :
- ما الذي تقصده ؟!
- هل صدقت كلام الرجل المسن ؟!
- نعم أنا أنا أثق به !!
- لم يعد هناك أحد يستحق الثقة في هذا الوقت
1
تدخل الحكيم :
من أنت وما الذي تريده ؟!
أقترب منهما ذلك الشخص وقال :
أنا أحد سكان القرية اسمي جاسر وتستطيعان مناداتي بالشمالي !!
3
- سأل عاصف بتحدٍ :
وما الذي تريده أيها الشمالي ؟!
- أريد إخبار كما بأن أهالي القرية هم من قاموا باختطاف الفتاة والطائر
1
تمتم عاصف غير مصدق :
- لقد أكد لنا الرجل المسن بأن ...
قاطعه الشمالي :
- الرجل المسن هو بالذات من أمر بأختطافهما !!
كان من الصعب عليهما تصديق ذلك الخبر ..
1
قال الحكيم :
- لنفترض بأنك لا تكذب لماذا سيقوم بأختطافها ؟!
لا تقل لي لأنه أعجب بجمال سرابي وبأنه يريدها لنفسه فذلك الرجل المسن لم يعد يستطيع استخدام
مزراب بطنه إلا لتصريف المياء لا أكثر
- ثم غمز بعينه وأضاف :
أنت تفهم ما أعنيه بالطبع !!
قال الشمالي موضحاً السبب :
- لأنهم يعبدون الأصنام وفي كل شهر يتقربون منها بذبح القرابين
تساءل عاصف :
- وما دخل هذا باختطاف سرابي وإكليل ؟!
فأجاب الحكيم الذي بدا أنه كان مطلعاً على تلك الأمور : - لأنهم لن يجدوا أجمل من سرابي وأكثر ندرة من إكليل حتى يتقربوا  بهما لآلهتهم !!
- ها أنت ذا قد بدأت تستخدم عقلك أيها الفأر !!
تمتم الحكيم بكلام لم يسمعه أحد بينما قال عاصف :
- وأنت ما مصلحتك من إخبارنا بهذا الخبر، لماذا تخون أهالي قريتك ؟!
- لأنني أحترم العقل - وتابع موضحاً :
أنا لا أومن بتلك الأصنام إنها في آخر المطاف أشياء يخلقها أبناء قريتي بأياديهم ثم يتخذونها آلهة يعبدونها ..
- جرب الشمالي عبادة الأصنام عندما كان أصغر سناً ولكن في إحدى المرات هبت رياح شديدة أسقطت كل الأصنام أرضاً وحطمتها فعرف حينها أنه يعبد الشيء الخطأ ، جرب عبادة النار ولكن في أحد الأيام وبينما كان خاشعاً في عبادتة إذ مر عن طريق المصادفة كلب أجرب تبول على النار وأطفأها ، حاول أن يعبد نجم الشمس ولكن مع الأيام لم تعجبه فكرة أن يغرب الإله من السماء ويشرق في اليوم التالي ..
11
ومع الوقت توقف عن محاولاته وأصبح يتأمل في الطبيعة محاولاً أن يعثر و بأستخدام عقله فقط ، على الرب الذي خلق كل الأشياء من حوله، فقد كان
- الشمالي يعتقد في قرارة نفسه بأنه لم يأتي إلى الأرض عن طريق المصادفة وبأنه لم يخلق في هذا العالم عبثاً ..
- يجب أن تتحركا سريعاً إن كنتما تريدان إنقاذ الفتاة والطائر !!
كان في مثل عمر عاصف تقريباً ، له ملامح شخص مشرد وعينان ناعستان ولديه ذقن مرقشة بحبات شعر ثابتة خفيفة لونها أخضر، وكان يرتدي ثياباً واسعة بيضاء قصيرة، ويعلق على ظهره سيفاً طويلاً يشبه سيوف الساموراي ملوناً مقبضه بالأسود والذهبي .
8
قال عاصف :
- سأثق بك !!
2
- لا تثق بي - قال الشمالي ثم أضاف :
ففي هذا الوقت لم يعد هناك أحد يستحق الثقة ...
قاطع الحكيم حديثهما الدرامي :
- ثقا بي سيموت كلا من إكليل وسرابي وأنتما تتحدثان عن الثقة أيها الأبلهان !!
15
*****
عندما وصلوا للساحة الخلفية للقرية والتي كان من المفترض - حسب كلام الشمالي - أنها المكان الذي ينصب فيه أهالي القرية آلهتهم شاهدوا منظراً غريباً حيث كان جميع سكان القرية مجتمعين حول نار كبيرة ، بعضهم يلطم صدره بيديه و آخرون يلطمون أنفسهم بسلاسل حديدية وبعضهم يطوف حول صنم ضخم منتصب في وسط الساحة :
6
-انظرا هناك – قال الحكيم وهو يشير نحو مكان محدد .
نظر الاثنان نحو المكان الذي أشار إليه الحكيم وقد أصابهما الفزع عندما شاهدوا ذلك المنظر ..
حيث الرجل المسن يقوم بسن سيفه بقطعة حديدية خشنة حتى يجعل نصله حاداً ، وكانت سرابي تركع بالقرب من قدميه مقيدة يداها للخلف وهي معصوبة العينين بربطة قماشية ، وبالقرب منها وعلى بعد خطوات شاهدوا إكليل محبوساً داخل قفص ..
رفع الرجل المسن السيف بكلتا يديه استعداداً لقص رأسها ..
- لقد تأخرنا - قال الشمالي وهو يمسك بمقبض سيفه .
- أنا الذي يصنع ما يقول ..
همس عاصف بينه وبين نفسه بينما كانت عينه اليسرى تتحول تدريجياً  للون الأحمر القاتم ، ثم فجأة انطلق نحو النقطة التي يقف فيها الرجل المسن
بسرعة تشبه عبور صوت في الفراغ ..
- ما هذا - قال الشمالي مدهوشاً وهو يرى تلك السرعة.
- هذا عاصف – قال الحكيم بثقة .
4
وقبل أن يقطع نصل السيف رقبة سرابي الممدودة ، كانت هناك خمسة مخالب حادة قد انغرست في بطن الرجل المسن مخترقة جدار معدته نافذة من
ظهره للجهة الأخرى، نظر عاصف إليه وهمس :
- لو كان هذا رباً يا جداه لقام بحمايتك مني !!
34
سقط الرجل المسن متأثراً بجراحه وسقط معه سيفه ..
مد عاصف يده الثانية غير المتسخة بالدماء ، وأزال العصبة القماشية عن عيني سرابي وما أن نظر إليها حتى تذكر النبوءة القديمة للخوف عندما قال له :
((لا تكن مغروراً ستقع في الحب يوماً وسأعود)) لقد شعر بأن الخوف عاد ليسكن داخله ويهمس له بنظرة المنتصر: - ألم أقل لك بأني سأعود ؟!
10
أطال النظر في عينيها العميقتين مثل محيط لم يسبق لأحد من قبل أن أكتشف قاعه المظلم :
- لن أدع مكروهاً يصيبك مرة أخرى – قال .
6
ثم ومن غير أن ينتبه كان هناك رجل ضخم البنية طويل القامة من أهالي القرية قد تسلل خلسة وأخذ السيف الذي سقط من يد الرجل المسن، ثم رفعه عالياً ونزل به على رأسه فصات إكليل يحذره :
- انتبه !!
لم يكن عاصف يريد أن يموت في تلك اللحظة ، ليس فقط لأنه لم ينتقم بعد ممن قتلوا والدته، ولكن هذه المرة كان هناك سبب إضافي آخر يدفعه للحياة اسمه
« سرابي»
37
«لا أريد أن أموت الآن» هذا ما قاله في قلبه وهم ينظر للسيف المتجه بسرعة نحوه من غير أن يستطيع فعل شيء ، أغلق عينية كتم أنفاسه شد أعصابه وأستعد لتذوق كعكة الموت ...
*****
ولكن الحياة كان لها رأي آخر في ذلك المشهد فقبل أن يشق السيف رأس عاصف بلحظة كان هناك سيف آخر يشبه سيوف الساموراي ملوناً مقبضه بالأسود والذهبي ، تدخل معترضاً ليصد الموت .
11
- ما زال الوقت مبكراً على أن تغادرنا يا صديقي
- قال الشمالي ذلك وهو يصد، بسيفه الخطر ،
11
ثم أضاف الحكيم الذي يقف على كتفه :
افتح عينيك يا عاصف لا تخف نحن معك !!
2
فتح عينيه غير مصدق الأمر الذي حصل للتو فقد كان بينه وبين المـوت مسافة لا تدع له فرصة للتفاؤل بالنجاة، سأله الشمالي ساخراً وهو يقاوم بصعوبة ذلك السيف الضاغط عليه :
1
- لا أحب قطع تأملات أحد ولكن هل ستظل مندهشاً لوقت طويل
هتف الحكيم :
تصرف أيها الأبلة !!
ألتف عاصف على ذلك الرجل الضخم البنية الطويل القامة أطبـق علـى رأسه الكبير بكلتا يديه، ثم عوجه بحركة سريعة متعاكسة أدت لكسر حاد في الرقبة تسببت في وفاته مباشرة ...
نظر عاصف نحو الشمالي وقال :
لقد كنت مخطئًا !!
- في ماذا ؟!
- يبدو أنه لا يزال هناك أشخاص يستحقون الثقة في هذا الوقت
أستطاع عاصف مستخدمًا أحد مخالبه الحادة في معالجة القفل الحديدي للقفص المحبوس بداخله إكليل ، وحين أخرجه من هناك تقدم لـه باعتذار شديد للطريقة التي تعامل بها معه سابقاً ...
فقال إكليل سعيداً :
- قبلت اعتذارك !!
ساخراً تمتم الحكيم :
- أتمنى أن تقبل اللغة اعتذارك أيضاً يا إكليل !!
6
ظلت سرابي صامتة لا تتكلم لبعض الوقت ربما بسبب الخـوف الـذي أصابها، والأحداث المرعية التي مرت بها ...
قال إكليل الذي انتبه للأمر:
سرابي بخير ؟!
- لا تقلق أنا بخير - أجابت بلطف .
التفت عاصف نحو أهالي القرية وقال يحادث الشمالي :
ــــ ما رأيك في قليل من اللهو ؟!
- ماذا تنوي أن تفعل ؟!
- أن نلقن هؤلاء درساً لا ينسونه !!
ولكن الشمالي الذي لم تعجبه تلك الفكرة قال :
- هل تعتقد أنني سأراك تقاتل أهالي قريتي بينما أتفرج عليك ؟!
تدخل الحكيم:
- ماذا هل ستقف ضدنا ؟!
- بل مع الحق، قد أكون ساعدتكم في الخروج من هذه الورطة لكني لم أفعل ذلك إلا بعد أن تأكدت من أن الحق معكم .
- إنهم يستحقون الموت - هتف عاصف بغضب .
- الذي يستحق الموت، قد نال عقابه
– قال وهو يشير برأس سيفه نحو جثة الرجل المسن
- أما هؤلاء فلا ذنب لهم في اختطاف سرابي وإكليل لهذا
يجب علينا أن نتجنب الاشتباك معهم ...
- معه حق دعنا نتجنب الاشتباك معهم يا عاصف !!
نظر نحو رجال القرية الذين كان الغضب يسيطر عليهم :
- حتى لو أننا تجنبنا فكرة الهجوم عليهم ، سيقومون هم بالهجوم علينا .
- نهرب من أمامهم إذاً – رد الشمالي.
- هل معنى هذا أنك ستنضم إلينا ؟!
- يبدو أنني مضطر لذلك – وأضاف مبرراً :
فلن يكون مرحباً بي هنا بعد الذي فعلته بكبيرهم ولكن أخبرني إلى أي مكان أنتم ذاهبون ؟!
- للانتقام ممن قتل أمي – وزمجر بحقد : للقضاء على ناب الفيل !!
- هل قلت ناب الفيل ؟!
- أتعرفه ؟!
إنه أخطر رجل في أبابيل إنه رئيس منظمة الجاثوم !!
- إذا كنت خائفاً تستطيع عدم موافقتنا !!
- بل سأتي معكم !!
قطعت سرابي عليهما الحديث :
- تستطيعان إكمال أحاديثكما بينما نحن نهرب !!
1
- معهما حق – أيدها الحكيم الذي شعر بإقتراب الخطر
– يجب أن نهرب بسرعة إذ كنا لا نريد الانخراط في حرب مع هؤلاء الناس .
وهكذا خضع عاصف لرغبة الشمالي وأعطى أمراً بالانسحاب فأستطاع الأصدقاء الخمسة الهرب بعيداً من هناك، دون إراقة قطرة دم زائدة ...
25
.......
« أنتهى »
بعد مشوار طويل من السير المتواصل ليل نهار صادف الأصدقاء الخمسة خانًا للمسافرين ذات عدة طوابق ، ينهض عند ناصية الطريق كان بناؤه مصنوعاً من خشب الأشجار وتفوح من أعطافه رائحة الغابات القديمة فاقترح الحكيم عليهم أن يتوقفوا عنده قليلاً ليأخذوا فيه قسطا من الراحة ...
2
لم يكن عاصف يريد إضاعة المزيد من الوقت بالتوقف المتكرر وكاد أن يرفض الاقتراح ولكن منظر سرابي التي بدا عليها الإرهاق من طـول المشي وقلة الشراب والأكل والراحة ، أجبره على الموافقة :
- حسناً، ولكننا سنكمل سيرنا غداً عند شروق الشمس !!
1
دخل الأصدقاء الخان توجهوا نحو طاولة الاستقبال، والتي كانت تقف خلفها امرأة بدينة بدت من منظرها المتكبر أنها صاحبة الخان :
- هل يوجد لديكم مكان نرتاح فيه حتى للغد - سأل عاصف .
قالت بجلافة وهي تمعن النظر في الحكيم وإكليل :
- أيها الفتى نحن لا نستقبل الحيوانات في هذا النزل
كاد الحكيم أن يعلق ولكن عاصف أغلق فمه وتمتم في أذنه :
- لا تتكلم أيها الحكيم حتى لا تتسبب لنا في ذلك بالمتاعب !!
قال الشمالي وهو يخرج من ثيابه كيساً به بعض النقود المعدنية :
- سندفع أجراً مضاعفاً إذا ما سمحت بإستقبال الفأر والطائر !!
ترددت قليلاّ قبل أن تبدي موافقتها :
- أحرصوا على أن لا توسخ هذه الحيوانات المكان بقاذوراتها
وضع الشمالي قطعتين ذهبيتين فوق طاولة الاستقبال : - لا تقلقي هذا لن يحدث - ثم أضاف ممازحاً :
فهذه الحيوانات مدربة جيداً على قضاء حاجتها في الاماكن المخصصة لها !!
همس الحكيم متذمراً :
- نعم نقضي حاجتنا داخل فمك أيها المتعجرف !!
8
بدهشة قالت مالكة الخان :
- هل قال هذا الفأر شيئاً ؟!
- لا إنها تخيلات فقط - قال عاصف وهو يحكم قبضته على فم الحكيم وأضاف ليخرج من الموضوع :
هلا أخذتينا للغرفة ؟! ‏
*****
كان جناحاً واسعاً ذاك الذي خصصه مالكة الخان لعاصف وأصدقائه مقابل المبلغ السخي الذي دفعوه لها ..
لذلك فإنهم عندما أصبحوا داخل الجناح لم يشعروا بأنهم محاصرون بالمساحة ، أو كثرة العدد ذهب الشمالي ليجلس عند النافذة وأخذ ينظر في القمر ويتأمل فيه كعادته بصمت محاولاً أن يتوصل الأسئلة الفلسفية الكثيرة التي تسبح داخل عقله ..
أقترب الحكيم من عاصف وطلب الحديث معه على انفراد فذهب الاثنان لآخر نقطة في الجناح بحيث يستطيعان الكلام من غير أن يستمع أحد لما يقولانه ..
أما سرابي المرهقة بسبب الأحداث الصعبة التي حدثت معها مؤخراً ، فإنها تمددت فوق السرير بجوار إكليل ووضعت يدها فوق ريشه البرتقالي الناعم وكأنها صبية تحتضن لعبتها المفضلة، ثم أغلقت عينيها ونامت ..
الحكيم يحادث عاصف همس :
ما الذي ستفعله ؟؟
- بشأن هذه الفتاة ؟!
- لا ، أقصد الشمالي - ثم أضاف بحدة :
نعم سرابي ومن غيرها
- ما بها ؟!
- ما الذي ستفعله بشأنها ؟!
- سأحميها بروحي كما وعدت والدتها !!
- ألم تسمع ماذا قاله الشمالي عندما كنا في القرية؟!
- ماذا قال ؟!
- ألم يقل بأن ناب الفيل الذي تسعى خلفه هو رئيس الجاثوم ؟!
- بلى وهذا ليس شيئاً جديداً فأنا أعرف هذه المعلومة من قبل
- ولماذا لم تخبرني بها هل كنت تخبئها لي كمفاجأة ؟!
- نسيت .. وها أنت عرفت هل تريد أن تنسحب ؟!
- لا
- إذا ما الذي تريده ؟!
- هذه الفتاة
- تقصد سرابي ؟!
- هل أنت أبله؟! نعم أقصد سرابي !!
3
- توقف عن التحدث بالألغاز وتكلم بوضوح !!
- مهمتك القادمة لن تكون سهلة بالنسبة لفتاة مثلها
- وماذا تقترح ؟! نتركها خلفنا ونذهب؟!
- ولماذا تظن أنني اقترحت عليك الدخول لهذا الخان منذ البداية؟!
- ظننت أنك متعب وتريد أن ترتاح قليلاً !!
- لا لست متعبا! ولكنني اقترحت ذلك لكي نتخلص من سرابي !!
4
لم يعجب ذلك الكلام عاصف فهمس غاضباً :
- ألم تكن معنا عندما وعدت والدتها فيروز بأنني سأحميها بروحي ؟!
- بلى كنت معكم وقد وعدتها أنا أيضاً بأن أحميها إن كنت تذكر !!
- لماذا اسمعك تقول هذا الكلام الغريب إذاً ؟!
- أقوله من أجل أن أحميها - ثم أضاف موضحاً :
ثأرك عند رئيس منظمة الجاثوم إنها أخطر منظمة في أبابيل ، وهذه الفتاة لن تستطيع مقاومة الخطر القادم هل تستطيع أن تخبرني ما الذي ستقدمه لها لو أنك اشتبكت مع تلك المنظمة المرعبة ؟!
- سأحميها بالطبع !!
- بماذا ؟! بأنيابك أم بأظافرك الناعمة التي تخرجها وقت غضبك ؟!
- لا تقلل من شأن قوتي أيها الحكيم !!
- أنا لا أقلل من شأن أحد أعلم بأنك قوي جداً ولكن لكل واحد منا سبب يدفعه للتضحية من أجله ، أنا أريد أن أخوض هذه المغامرة معك في سبيل أن تساعدني لاحقاً في إزالة هذه التعويذة التي أصابتني بها جدتك عليها اللعنة ، أنت تريد الانتقام ممن كانوا سبباً في قتل والدتك ..
إكليل سيأتي معنا لأن مصيركما أصبح مرتبطاً والشمالي سيرافقنا لأنه بات مشرداً ولا يملك مكاناً آخر يذهب إليه، ولكن هذه الفتاة لا تملك سبباً يدفعها للتضحية من أجله لهذا لا تكن متهوراً وتقحمها في مصائبك ، دعها تذهب في سلام !!
1
فكر لبعض الوقت في الكلام الذي استمع إليه للتو وأدرك أن ما يقوله الحكيم هو الصواب، فسرابي لا تملك دافعاّ يجعلها تضحي بحياتها من أجله وبالإضافة لذلك فإنها أضعف بكثير من أن تستطيع مواصلة هذه المغامرة
قال وكأنه بدأ يقتنع بالأمر :
1
- وماذا سيحدث لها إن استيقظت في الغد ولم تجدنا ؟!
- سوف تتساءل قليلا عن المكان الذي ذهبنا إليه ، سوف  تنتظرنا لبعض الوقت معتقدة أننا سنعود إليها وعندما يطول انتظارها، ستغادر هذا الخان وتبحث عن حياة أخرى لها هذا كل ما في الأمر !!
1
- ما الأمر؟ – قطع الشمالي عليهما حوارهما - ما بكما وكأنكما تخططان لشيء مهم ؟!
همس عاصف :
- الحكيم يقول بأن علينا ترك سرابي هنا، والمغادرة من دونها .
قال الشمالي والذي فهم الهدف من وراء ذالك الاقتراح :
- يريد أن يجنبها الأخطار القادمة !!
- هل هذا يعني أنك موافق ؟!
5
- لا أعلم يا عاصف هذا الأمر يعود لتقديرك للموقف ولكني أريد أن أخبرك بشيء ، ربما يساعدك في اتخاذ قرارك ، وهو أنك إن كنت فعلاً تسعى خلف ناب الفيل فهذا يعني أن هناك خطراً كبيراً على حياة سرابي
تسلق الحكيم حتى وصل كتف الشمالي وقال بحماس :
- أقسم لك أيها العاقل إنك لو كنت فتاة لكنت الآن أعرض عليك الزواج !!
22
أكمل الشمالي يقول :
- ولكن هذا لا يعني أني أوافق الحكيم في كل ما قاله فأنا لا أحب الذين ينسحبون من الحياة فجأة بدون أستئذان إن كنت ستغادر هذا المكان من غير اصطحابها معك ، فأنا أقترح عليك أن تخبرها بالأمر قبل مغادرتك
- ثم وجه كلامه نحو الحكيم الذي كان يجلس فوق كتفه : أرجو أن لا تغضب من كلامي ولكنني أقول ما يمليه علي العقل .
1
طبع الحكيم قبلة على خده وقال :
- ورغم ذلك لا تقلق لو كنت فتاة لكنت الآن أعرض عليك الزواج !!
35
بعد تفكير طويل اقتنع عاصف بالأقتراح الذي قدمه الحكيم ، ولكنه لم يقتنع أبداً بأقتراح الشمالي فهو لن يستطيع أن يوقظ سرابي من نومها من أجل أن يقول لها بأنهم قرروا فجأة الرحيل عنها وتركها خلفهم :
سوف ننسحب من غير أن تخبرها بشيء !!
- في هذه الحالة – قال الشمالي، وهو يخرج كيس النقود من جيبه ويتابع : سنترك هذا المبلغ هنا ربما يكون مفيداً لها عندما تستيقظ ولا تجد أحداً منا ...
1
وقبل أن يرحلوا تذكر عاصف شيئاً :
- أين إكليل ؟!
أشار الحكيم بخطم أنفه نحو السرير الذي تنام فوقه سرابي وقال :
- إنه نائم هناك معها – وأضاف : لم أكن أعرف أن طائر البرتقالة هذا زير نساء !!
4
اقترب عاصف منه بحذر حتى لا يوقظ سرابي عن طريق الخطأ :
- إكليل، أستيقظ - همس .
فتح إكليل عينيه نظر نحوه وسأل: ماذا ؟!
- سنغادر
- وسرابي ؟!
- سنتركها خلفنا
- لا - قال إكليل : لن تترك سرابي !!
كانت تلك هي المره الأولى التي يعصي فيها أمراً يوجهه إليه عاصف :
- لا أملك وقتاً لأشرح لك الأسباب ولكنني أمرك بأن تتحرك فوراً !!
قال الحكيم متدخلاً :
- هل وقعت في حبها يا طائر البرتقالة ؟!
1
نظر نحوه بغضب إنه يشعر بأنه هو السبب وراء هذا الاقتراح، وكاد يهاجمه فعلاً لولا ان سرابي أستيقضت  تلك اللحظة :
- ماذا هناك - تساءلت بتكاسل - لماذا كل هذه الجلبة  تظاهر الجميع بأن لا شيء يحدث، قال عاصف :
لا شيء كنا فقط نريد أن.. آآ.. نريد أن 
– لم يكن يعرف بماذا يجيب ، فقال : قل شيئاً أيها الشمالي !!
أما الشمالي الذي لم يكن معتاداً على الكذب فإنه قال :
- سيخبرها الحكيم بكل شيء فهو صاحب الفكرة !!
- حسناً سأقول الحقيقة – ثم نظر الحكيم نحوها لبعض الوقت، وقد أخجله جمالها من قول الحقيقة، فقال :
- آآ .. نحن فقط كنا نريد أن تأخذ إكليل لكي نقوم بتحميمه فهو لم يستحم منذ فترة طويلة هيا يا إكليل تعال معنا !!
3
قالت سرابي ببراءة وهي تشم رائحة ريش إكليل :
- ولكن رائحته جميلة !!
الأنثى لم تأتي لهذه الأرض إلا من أجل أن تقع جميع الكائنات في فخاخ حبها ربما لهذا السبب شعر إكليل بأنه ينتمي لسرابي ، وبأنه لا يريد - بل لا يستطيع - أن يتركها ويذهب بعيداً عنها ..
عندما تأكد عاصف والحكيم والشمالي أن خطتهم باءت بالفشل ، فإنهم قرروا الأنسحاب ليفكروا بخطة بديلة ولكنهم قبل أن يذهبوا مدت سرايي يدها وأمسكت بيد عاصف وقالت بلطف :
- لا تذهب أرجوك لن أستطيع أن أنام بهذه الطريقة !!
شعر بتيار كهربائي يصعق قلبه عندما أمسكت بيده :
- حاولي أن تنامي، لن نزعجك مرة أخرى - قال بتوتر .
1
- لن أستطيع !!
- لماذ ا؟!
- لا أستطيع النوم بسهولة بعد أن يوقظني أحدهم
وماذا تريدين مني أن أفعل حتى تستطيعي النوم مرة أخرى ؟!
- لماذا لا تحكي لي حكاية فبهذه الطريقة سأنام بسرعة؟!
1
تدخل الحكيم قائلاً :
-أسمعيني يا سرابي نحن جئنا هنا بسبب مهمة صعبة نريد القيام بها ، ولم نأتي إلى هنا من أجل أن نقوم بدور المربيات لأحد حاولي أن تنامي من تلقاء نفسك ..
هيا يا عاصف دعنا نذهب - ثم أضاف وهو يغمز بعينه : لكي نجد خطة بديلة نستطيع من خلالها القيام بتحميم إكليل ، فأنا لم أعد أستطيع احتمال رائحته أكثر من ذلك !!
جلس على طرف السرير، مرر يده الخشنة على شعرها الناعم - كما كانت امه تفعل في أزمنة سابقة
- نظر مباشرة إلى عينيها ، وهو الذي لم تكن لديه خبرة في مجابهة العيون ثم همس لها بحنو :
- منذ وقت طويل .. طويل جداً .. كان هناك جيش كبير من البشر والجن والطير والرياح، كانوا جميعاً يسيرون خلف رجل واحد اسمه النبي سليمان ..
5
كان ذلك الجيش الكبير يعبر من خلال وادٍ ضخم أسمه وادي النمل فصاحت آنذاك نملة صغيرة اسمها جرسا تأمر بقية أفراد النمل بالدخول إلى مساكنهم قبل أن يحطمهم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون ..
وحين سمع النبي سليـــ...
قاطع الحكيم القصة هامساً :
- حسناً لقد نامت هيا خذ إكليل ودعنا نذهب !!
وهنا التفت عاصف نحو الحكيم وقال :
- لن أذهب وأترك هذه الفتاة خلفي !!
2
- ولكنها قد تموت معنا ما الذي جرى لعقلك أيها الأبله ؟!
الأبله هو الذي يغادر فتاة قطع لها وعداً بالحماية !!
5
- هل أنت متأكد مما تقوله ؟! سأل الشمالي :
أوما عاصف برأسه مؤكداً ، ثم قال بثقة :
. سأبقى معها وأحميها بروحي، ولن أتركها أبداً .
23
وما أن أنتهى من جملته الأخيرة تلك حتى توهجت قلادة الأباطرة المعلقة في عنقه، وبات ينبعث من خلال أحرفها شعاع أصفر قوي يظهر واضحاً من خلف ثيابه ، ولم يلبثوا كثيراً من الوقت حتى سمعوا صوتاً معهم في جناح الخان كان أشبة بصوت طاحونة هواء قديمة يقول :
- لقد أصبحت رجلاً !!
16
ثم ومن اللاشيء ظهرت في الهواء أمرأة سمراء لها شعر غجري أحمر اللون قصير، ترتدي فستاناً طويلاً ضيقاً على جسدها الفاتن النحيل، تمسك في يدها بعصا طويلة تشبه صولجانات الملوك .
2
- من أنتِ ؟! - قال عاصف متوثباً .
- خيزران - قالت المرأة - أنا الوزيرة خيزران .
22
.......
« انتهى»
« شرط » !!

لقد فهم الآن أن الرجولة ليست في التقدم بالعمر بل إنها بالأفعال فعندما وضعته الأقدار قبل قليل أمام طريقين إما الهرب بعيداً أو الوفاء بالوعد ، كانت الأقدار في الحقيقة تضعه أمام خيارين إما أن يهرب من المسؤولية ويظل جباناً طوال عمره صغيراً في غين نفسه، وإما أن يأخذ المسؤولية على عاتقه ويصبح رجلاً !!
2
  كان الجميع مدهوشين من منظر تلك الجنية، حتى إن الدهشة أنتقلت لسرابي النائمة فأستيقظت مفزوعة وهي تهمس بخوف :
«من هذه المراة »
فهمس إكليل :
« خيزران »
أما الحكيم فإنه التصق من الرهبة في مكانه وكأنه سقط في بركة من  الطين المتحرك ، وحده الشمالي من بقي متماسكاً وسط هيبة ذلك المشهد قالت خيزران :
- ما الذي تريده يا ابن عائلة الأباطرة
الانتقام - قال - الانتقام ممن قتل أمي
- وهل تعلم من قتلها
- ناب الفيل !!
- وهل تعلم من يكون ناب الفيل هذا ؟!
قال الحكيم متطفلاً :
- رئيس منظمة الجاثوم
التفت خيزران إليه وقالت :
- لم يوجه أحد السؤال إليك !!
16
ضحك الحكيم من شدة الخوف وقال :
-  آسف
عادت خیزران تنظر لعاصف وتسأله :
- هل تعلم من يكون ناب الفيل ؟!
- رئيس منظمة الجاثوم - قال .
وهنا قالت خيزران :
- وهل تعلم أيضاً بأنه هو نفسه طاغين ملك مملكة أبابيل ؟!
تضاعف الخوف بقلوب الأصدقاء عندما سمعوا تلك المعلومة فالوقوف طاغين يعني الموت - الأكيد - ولكن لم يتكلم  أخد منهم او يعبر عما كان يشعر به في تلك اللحظة خوفاً من غضب الجنية خيزران ..
قال عاصف الذي أحس بتلك المشاعر السلبية التي أصابت أصدقاءه :
- سأقتص منه حتى لو اضطررت لقتاله وحدي !!
لحظات من الصمت امتدت بينهم حتى همست سرابي :
- لن تكون وحدك يا عاصف أنا معك !!
23
لم تبدي خيزران غضباً من تدخل سرابي ذاك ،
فقال الحكيم :
- أيتها الجنية خيزران انظري لقد تكلمت سرابي !!
15
- أصمت أنت !!
14
ضحك الحكيم مرة ثانية من الخوف ، وقال :
-حسناً  آسف !!
9
نظرت نحو عاصف وقالت :
- حتى تنجح في قهر ناب الفيل فإنه يجب عليك أن تقنع الأباطرة في التحالف معك
- وكيف أقنعهم ؟!
- تذهب وتتحدث إليهم !!
- وأين هم ؟!
- في مدينة وبار
- مدينة وبار ؟!
2
- إنها مدينة تحت الأرض تختبئ فيها عائلة الأباطرة
-يختبئون ؟! تسائل عاصف متعجباً - يختبئون من ماذا ؟!
  - من طاغين لانه يريد القضاء عليهم .
- و كيف تريدين مني أن أطلب المساعدة منهم وهم يخافون منه ؟
-  إن طاغين يمر حالياً بأضعف فترات ملكه هناك انقسامات كبيرة في صفوف جيشة بسبب الظلم الذي يمارسه في حقهم، كما أن أغلب مدن وقرى مملكه أبابیل أصبحت تعاني الفقر والحاجة بسبب الأنتهاكات التي تمارسها الجاثوم في حقهم لهذا فهناك أمل بأن تستطيع التغلب عليه لو أنك نجحت في إقناع عائلة الأباطرة بالتحالف معك ...
- ولماذا يريد القضاء عليهم ؟!
- إنهم الملوك الشرعيون لأبابيل، وهو يريد القضاء عليهم حتي لا يستيقظوا من غفلتهم يوماً ، ويقرروا استعادة ما كان لآبائهم وأجدادهم
1
- وإذا كانوا هم الطريقة الوحيدة لتحقيق ثأري فلماذا طلبت مني تاج البحث عنكِ أنتِ وليس هم ؟
- لأنني الوحيدة التي تستطيع أن ترتب لك موعداً معهم !!
- حسناً - قال بحماس - وأنا أريد أن ترتبي لي موعداً معهم
- لقاءهم لن يكون بهذه السهولة !!
-ماذا تعنين
- هناك شرط يجب عليك أن توافق علية أولاً !!
- أي شرط ؟!
- لا أستطيع إخبارك به يجب أن توافق عليه قبل أن تعرفه
1
- كيف تريدين مني أن أوافق على شيء لا أعرفه ؟!
- إن كنت تريد تحديد موعد للقاء عائلة الأباطرة فيجب عليك أن توافق على الشرط قبل أن تعرف ما هو
9
– ثم أضافت وكأنها تقوم بتنبيهه :
- ويجب عليك أيضاً أن تعلم بأنك في حال وافقت على سماع الشرط فإنك لن تستطيع الانسحاب منه أبداً
- وماذا سيحدث لو أني انسحبت ؟!
- ستموت حينها ويموت معك جميع أصدقائك !!
بدا عاصف متردداً لا يعرف كيف يتصرف قال :
لو أن الموت سيكون لي وحدي لكنت وافقت من غير تفكير ، ولكن لن أحمل أصدقائي طاقـ ...
قاطعت سرابي كلامة هامسة :
وافق يا عاصف لن نخذلك !!
3
همس إكليل والشمالي في ذات الوقت :
-  وافق
لم يتكلم الحكيم لأنه كان خائفاً من أن يقول شيئاً فتغضب عليه الجنية خيزران، ولكن عندما نظر إليه الجميع ينتظرون قراره فإنه هز رأسه وهو ينظر نحو عاصف وكأنه يريد أن  يقول له ...« وافق »
كانت تلك الروح الحماسيه العالية والتضحية الكبيرة التي قدمها الأصدقاء إليه كفيلتين بأن تجعلاه يتخذ قراراً نهائياً بشأن ذلك الأمر، فقال وهو ينظر نحو الجنية خيزران :
-أنا موافق ، ما هو الشرط ؟!
- ستعرف بعد قليل
قالت ذلك ثم ضربت الأرض بعصاها ثلاث مرات فأنشقت الأرضية الخشبية لغرفة الخان، وخرجت منها شيطانة قصيرة نحيلة تقف على قدمين تغطي صدرها وعانتها بأقمشة خفيفة تعكس ما خلفها، كان شكلها يشبه الإنسان تماماً ، إلا أن لون بشرتها يميل للزرقة قليلاً وأذنيها كانتا أطول بشيء بسيط من الشكل الطبيعي للأذن البشرية ..
3
قالت بصوت يشبه عزف ناي :
- هل قامت سيدتي الوزيرة بطلبي ؟!
قالت خيزران وهي تشير بعصاها نحو عاصف :
- هذا الولد يا روزانا ..
1
- ما به ؟!
- إنه عاصف ابن جومانا ابنة سيدك جبار الأباطرة
ركعت على ركبة واحدة أحنت رأسها للأسفل :
- خدامتك روزانا أيها الأمير عاصف حفيد الملكة تاج والملك جبار الأباطرة
قالت الجنية خيزران :
- أميرك عاصف يرغب في مقابلة عائلته
4
- ولكن يجب ان يوافق سمو الأمير على الشرط أولاً يا سيدتي الوزيرة
- لقد أخبرني بأنه موافق
- عذراً - قالت روزانا - أريد سماع ذلك بنفسي
- أنا موافق على الشرط - قال عاصف متدخلاً .
- وهل تعرف ما الذي سيحدث لك حال انسحبت من الشرط ؟!
- نعم أعرف - أجاب .
قالت وكأنها تريد أن تتحقق بنفسها :
- وما الذي سيحدث ؟!
- الموت لي ولأصدقائي .
أمتدت بينهما لحظة صمت طويلة وكأن الشيطانة روزانا تريد بفترة  الصمت تلك أن تعطي فرصة لعاصف حتى ينسحب، ثم ولكي تقوم بشراء بعض الوقت لتمنحه فرصة التفكير أكثر فإنها قالت :
- لا أستطيع أن أقول له الشرط يا سيدتي الوزيرة .
- لماذا؟ - سألت خیزران .
- ذلك الفأر هو السبب - قالت وهي تشير نحو الحكيم .
- ما به؟ - سأل عاصف .
- يفكر بأفكار قذرة تجاهي
25
كادت الجنية خيزران أن تسدد له ضربة مستخدمة العصا التي بيدها، ولكن الشمالي وسرابي وإكليل حاوطوا الحكيم مستعدين لتلقي الضربة بدلًا عنه فقال عاصف متفاخراً وهو يخفض بيده عصاها :
- بمثل هؤلاء الأصدقاء أستطيع القضاء على العالم كله لو أردت !!
4
قال الشمالي موجهاً كلامه للحكيم :
- هلا صرفت أفكارك القذرة عن الشيطانة روزانا ؟!
1
- هل أصبحت تغار أيها الشمالي منذ الآن؟ - قال الحكيم ممازحًا .
صاتت سرابي في وجهه :
- أيها الحكيم هذا ليس وقت المزاح !!
- قال إكليل :
فأر غبي
- حسناً ، حسناً سأغمض عيني وأفكر بشيء مقرف حتى أصرف أفكاري عنها - أغمض عينيه وقال:
- سأفكر بتاج !!
8
التفت عاصف نحو الشيطانة وقال بإصرار
- ما هو الشرط ؟!
وعندما بدا لها أنه لن يتراجع عن رأيه، فإنها قالت مستسلمة :
- الشرط هو أن تقتل البشري الذي تزوج والدتك جومانا ثم تقوم بتقديم دمه لعائلة الأباطرة !!
72
لفرط صعوبة الشرط فإن عاصف لم يستوعبه في البداية، فتدخلت الجنية خيزران قائلة باختصار :
- الشرط هو أن تقتل أبوك بحر !!
- لا يمكن أن أوافق !! لا يمكن أن أقتل أبي !!
8
فقال الجنية خيزران :
- ستموت إذاً أنت وأصدقاؤك تحولت عينه اليسرى للون الأحمر القاتم وبرزت مخالبه من رؤوس أصابعه، ثم وبلمح البصر وجه طعنة قاتلة لها اخترقت جسدها ونفذت من الجهة الأخرى، ولكن خيزران لم تمت بل لم يبد عليها أن تلك الطعنة أثرت فيها بأي شكل من الأشكال، قالت بهدوء لا يناسب حساسية الموقف :
- ليست كل الأمور تحل بالقتال يا عاصف !!
سحب مخالبه من جسدها وقال بغضب:
- لن أنفذ هذا الشرط !!
- سيكون لديك فرصة حتى غروب الشمس، وبعدها تموت أنت وأصدقاؤك إن لم تنفذ الشرط !!
قالت الجنية خيزران ذلك ثم اختفت دون أن تضيف شيئاً آخر
تدخل الشمالي متسائلاً وهو ينظر نحو الشيطانة روزانا :
- هل هذه الطريقة الوحيدة التي ستضمن لعاصف مساعدة عائلة الأباطرة ؟!
- بل هذه الطريقة الوحيدة التي ستجعلهم يوافقون على مقابلته.
سأل عاصف :
- ماذا تعنين ؟!
- أعني أن تقديم دم والدك لن يضمن لك موافقتهم على طلبك
- هل هذا يعني أنهم قد يرفضون طلبي؟!
- ربما - قالت.
تساءلت سرابي :
- أليست هناك طريقة للانسحاب؟!
- لا - أجابت - إما تنفيذ الشرط أو موت الجميع
- حسناً اسمعوا أنا لست مستعداً للموت
- قال الحكيم ، ثم أضاف :
- لقد وافقت على القدوم إلى هنا معك يا عاصف من أجل مساعدتك في لقاء خيزران وتحقيق ثأرك ثم إلغاء هذه التعويذة عني، ولم آتي معك لأموت بهذه الطريقة الرخيصة !!
2
قالت سرابي معاتبة :
- أيها الحكيم ما هذا الكلام !!
علق إكليل :
- جبان !!
- لست جباناً ولكني أحب الحياة كثيراً للحد الذي ربما يجعلني أبدو كالجبان في أعينكم – ثم التفت نحو عاصف وصات عليه: قل شيئاً لا تبقى صامتاً
- وعندما صمت عاصف ولم يتكلم، فإن الحكيم التفت نحو الشمالي :
قل شيئاً أنت أيها العاقل !!
- لا أريد أن أموت قبل أن أعرف الرب - همس الشمالي معترفاً .
- هذا هو الشمالي الذي أحبه وأثق بعقله - ثم أضاف : وأعدك بأنك لو رافقتني لقرية الجساسة فسأطلب من تاج أن تحولك لفتاة وأتزوجك، ثم نفتش أنا وأنت عن الرب سوياً !!
41
- اصمت أيها الحكيم فأنا لم أكمل كلامي بعد – قال الشمالي - أنا لا أريد أن أموت وأظن أن لا أحد في هذه الغرفة يريد أن يموت أيضاً ، ولكننا جميعنا قد طلبنا من عاصف أن يوافق على الشرط أليس كذلك يا سرابي ألم  تطلبي من عاصف يوافق ؟! وأنت يا إكليل ألم تطلب منه أن يوافق ؟! وأنا أيضاً طلبت منه أن يوافق، وأنت أيها الحكيم ألم تحرك رأسك طالباً منه أن يوافق ؟!
همس متذمراً :
- ليتني أصبت بالشلل قبل أن أحرك رأسي !!
3
أكمل الشمالي :
- هل تتخلى عنه بعد أن أخبرناه بأننا سنكون معه ؟!
قالت سرابي :
- لا لن تتخلى عنه .
قال إكليل :
- لا !!
- نعم . - قال الحكيم وعندما نظروا إليه جميعاً باستياء أردف مستدركاً : أقصد أن أقول نعم  معكم حق لن نتخلى عنه ..
3
اقتربوا جميعهم من عاصف وقالوا له بأنهم لن يتخلوا عنه وبأنهم سيقفون معه في أي قرار يراه مناسبًا ، وبأنه إن كان لا يريد الإقدام على قتل والده فإنهم مستعدون للتضحية من أجله !!
وهنا قال عاصف بعد أن شاهد دعم أصدقاء له :
- أيتها الشيطانة
- أمرك يا سمو الأمير - أحنت روزانا رأسها .
- سأقتل بحر وأقدم دمه لعائلة الأباطرة !!
14
وحينها مدت يدها في الهواء نحوهم وقالت :
- تعالوا إذاً أخذكم للمكان الذي يقيم فيه بحر حتى
تساعدوا الأمير في إنجاز المهمة قبل غروب الشمس .
24
.......
« أنتهى »
متنساش ان الرواية موجودة كاملة في قناة التلجرام والواتساب
« وصية » !!

بعد أن انتقلت بهم الشيطانة روزانا من الخان الذي كانوا يقيمون فيه وجدوا انفسهم فجأة وقد أصبحوا يقفون في ساحة داخلية لبيت كان تعبق من حيطانه الطينية بقايا من رائحة ياسمين غابرة ..
تلفت عاصف حول نفسه بتأثر بها شديد وكأن ذلك المكان قد أصابه في قلبه بمخالب الحنين :
- هذا هو البيت الذي كنت أقيم فيه مع أمي، لماذا جئت بنا إلى هنا ؟!
- لأن والدك أصبح يقيم فيه يا سمو الأمير
- بحر يقيم هنا - سأل بدهشة – وأين هو الآن ؟!
أشارت للغرفة التي كان عاصف ووالدته قديمًا يخلدان للنوم فيها:
- إنه نائم هناك - ثم أضافت قبل أن تختفي :
بعد أن تنتهي من مهمتك أمسك قلادة الأباطرة بيدك، واضرب الأرض بقدمك اليسرى ثلاث مرات آتي إليك
- تسحب عاصف نحو الغرفة وعندما ألقى نظرة من خلال النافذة وجد والده وقد كان نائماً فوق فراش النوم، يحتضن بكلتا يديه الوسادة البيضاء ذاتها التي أعطته إياها جومانا قبل أعوام :
- أشعر بأنني لن أستطيع فعلها - همس -
- كيف سأحتمل نظرته لي وأنا أقتله ؟!
3
قال الحكيم:
لست مضطراً لأن تنظر إليه في عينيه !!
- ما الذي تقصده - سأل بعقل مشتت .
همس الشمالي موضحاً :
- الحكيم يقصد أن تجهز عليه بينما هو نائم !!
- ولكنه أبي كيف تريدان مني أن أقتله وهو نائم ؟!!
سأل الحكيم :
- وهل من البر أن تقتله وهو مستيقظ ؟!
44
بعد لحظات من الصمت تكلم الشمالي مؤيداً :
- ربما يكون الحكيم صائباً اقتله وهو نائم فتجنب بذلك نصف صعوبة المهمة
لم يفضل قتل والده مستخدماً قوته الخاصة لذلك فإنه مد يده لسيف الشمالي ، سحبه من غمده وهو يردد مثل الذي يهذي وهو سكران :
- أقتلة وهو نائم فأتجنب بذلك نصف صعوبة المهمة .
فتح باب الغرفة بحذر وسار الجميع خلفه حتى يقوموا بمساندته في مهمته القادمة، غير أن سرابي فضلت انتظارهم بالخارج وعدم الدخول معهم للغرفة ذلك لأنها
- حسب قولها - لن تحتمل رؤية عاصف وهو يقوم بقتل والده !!
3
كتم الأصدقاء أنفاسهم وهم يسيرون بعضهم خلف بعض على رؤوس أصابعهم مثل أربع نملات يخططون لسرقة حبات سكر متناثرة فوق بلاط مطبخ ..
8
وحين أصبح عاصف أخيراً يقف بالقرب من والده شعر ، بأنه أضعف بكثير من أن يفعلها وفكر بالانسحاب ولكته تذكر وقتها أن الموت سيكون مصيرة ومصير أصدقائه حال انسحابه .
قام برفع السيف عالياً مستخدمًا كلتا يديه، ولكن قبل أن يقوم يقتل والده سمع طيف صوت يقول له يتوسل :
- أرجوك لا تفعل !!!
لقد كان واثقاً من أن ذلك الصوت الذي استمع إليه للتو كان صوت والدته جومانا نظر يميناً وشمالاً يفتش بعينيه عنها في أركان الغرفة وعندما لم يجد لها أثرا همس بشوق :
- أمي ؟!
- لمَ توقفت - همس الحكيم .
- الصوت - قال عاصف وهو شارد الذهن .
سأل الشمالي:
- أي صوت؟!
- ألم تسمعوا للتو صوتاً ما ؟!
همس الحكيم بنفاد صبرة :
- لم نسمع شيئاً أنجز مهمتك قبل أن يفيق والدك !!
- أنا سمعت - قال إكليل - أرجوك لا تفعل !!
- هل رأيتم لقد كنت متأكداً !!
قال الشمالي:
- يبدو أنك تتوهم
احتج عاصف
- لقد استمع إليه إكليل مثلي !!
- ألم تقل بأن مصيرك أصبح مرتبطاً بمصير إكليل ؟!
أوما عاصف برأسه فقال الشمالي :
- ربما من أجل ذلك استطاع أن يستمع للوهم الذي استمعت إليه !!
عاد ليرفع السيف عاليا مرة أخرى بكلتا يديه بعد أن أقتنع ..
أخذ يحدق في والده بتردد وأنتظر لبعض الوقت قبل أن ينزل عليه بالسيف ويقتله كما لو أنه يريد بانتظاره ذاك أن يستمع مرة ثانية لطيف صوت أمه همس الحكيم :
- هيا يا عاصف ماذا تنتظر؟!
- أشعر بأنني لا أستطيع – قال وهو لا يزال يرفع السيف عالياً .
ثم وفي تلك اللحظة بالضبط تكلم شخص آخر في الغرفة، ولكن هذه المرة لم يكن وهماً فالجميع استطاعوا سماع الصوت وهو يقول :
- افعلها يا ولدي - لقد كان بحر .
8
صحيح أن الماضي المشترك بينهما لم يكن جيداً على الإطلاق وصحيح أيضاً أن عاصف كان يعتقد أنه لا يحمل أي مشاعر حب تجاه والده ، ولكنه اكتشف للتو أنه كان مخطئاً في اعتقاده ، فما كاد يستمع لصوته حتى عرف إلى أي حد هو يحبه ..
أفلت السيف من كل يديه، وارتمى في حضنه ،وفي المقابل كان بحر سعيداً بهذا اللقاء ، ممتناً من اللحظة التي جعله يحقق آخر أمنية في قلبه وهي أن يحضن أبنه الوحيد ولو لمرة واحدة في حياته كلها قال :
4
- عندما وصلني خبر مقتل أيار عدت لرؤيتك ولكني لم أجدك في بيتها ، سألت عنك جميع من في القرية ولكن بدون فائدة ، حتى تاج قالت بأنها لا تعرف عنك شيئاً ، اعتقدت أن مكروهاً قد أصابك يا ولدي وأني سأفقدك إلى الأبد !!!
لم يكن هناك وقت للتظاهر بالجهل فلم يتبقى أمامهم إلا ساعات قليلة جداً وتقوم الجنية خيزران بقتل عاصف وأصدقائه إن لم ينجزوا المهمة قبل غروب الشمس لذلك سأل بجرأة :
- هل ما زلت تعمل مع منظمة الجالوم يا أبي ؟!
1
ما قال بحر:
- من أخبرك بهذا الأمر ؟!
- لقد أخبرتني تاج بكل شيء .
- تلك المرأة الحقيرة - قال بحر مستاء .
- هل لهذه الدرجة لم تكن أمي تعني لك شيئاً يا أبي ؟!
- لماذا تقول ذلك؟!
- لماذا عدت للعمل معهم بدلاً من الانتقام؟!
أخذ بحر نفساً عميقاً قبل أن يجيب قائلاً :
- صدقني لقد حاولت في السابق أن أثار لأمك ولكن ناب القيل أرسل لي رسلاً يهددونني بقتلك إن قمت بحركة واحدة ضده، خفت عليك يا ولدي لذلك وجدت نفسي مضطراً لأن أعقد معه صفقة جديدة
- أي صفقة هذه ؟!
- أن أعود للعمل مع الجاثوم مقابل أن تعيش بسلام
- وما الذي حدث بشأن صديقك أيوب ؟!
- عندما عقدت الصفقة معهم وعدت للانضمام إليهم، كان أول أمر أصدره لي أولئك الرسل هو القيام بقتل أيوب لكي أثبت للمنظمة ولائي وطاعتي !!
- وهل فعلتها يا أبي هل قتلت صديقك ؟!
- سال غير مصدق .
- لحسن الحظ استطاع أن يهرب من أمامي في اللحظة الأخيره ولكن فرسان المنظمة قاموا بمطاردته وعندما عادوا قالوا بأنهم قتلوه - ثم أضاف والأمل يشع في عينيه :
- لكنني أعرف أنهم لم يفعلوا !!
- وما الذي يجعلك متأكد ؟!
- قلبي يحدثني بأن أيوب لا يموت بتلك البساطة
4
- وأين تظنه الآن إن كان لا يزال حياً ؟!
- أظن أنه يختبئ في سلسلة الجبال المحرمة
- سلسلة الجبال المحرمة ؟!
- إنها المنطقة الوحيدة في أبابيل التي لا تجرؤ منظمة الجاثوم الدخول إليها .
1
- لماذا
- بسبب قبائل الأشاوس التي تسكن تلك الجبال وتسيطر عليها
– ومن أين لهم كل تلك القوة التي تمنعهم من الاقتراب منهم ؟!
- العلم يا بني - قال بحر - تلك القبائل لديها العلم والقوة إنها قبائل ليست عادية ، هم ليسوا بشراً ولا جناً ولا شياطين أو سحرة إنها قبائل عريقة من سلالة القناطير وهم أصدقاء أوفياء لي ولأيوب
استرعت تلك الكلمة «القناطير» على انتباه عاصف ولكنه سأل عن شيء آخر :
- ألم يحاول ناب الفيل أن يخضعهم لسيطرته ؟!
- بالطبع حاول - قال بحر - وقامت حروب كثيرة من أجل أن يسيطر عليهم ويستفيد من علمهم وقوتهم ، ولكنهم كانوا أقوى بكثير من أن يستطيع إخضاعهم، لذلك وحقناً للدماء أقنعته أنا وأيوب بترك قبائل الأشاوس وشأنها
‏- وأقتنع !!‏
- لا لم يقتنع ولكنه تظاهر بذلك لكي يحفظ ماء وجهه
- وكيف أصبحت تلك القبائل صديقة لكما ؟!
- بعد أن عرف أشاس أميرة قبيلتهم بأمر وسلطتنا تلك وبأنني أنا وأيوب من اقنع ناب الفيل بأيقاف الحرب قامت بأعتبارنا صديقين لهم وأقسمت لنا أمام نفر من كبراء افراد قبيلتها على أنها لن تنسى ما صنعناه من أجلهم وأنها سوف تدين لنا بذلك المعروف إلى الأبد
- ولكن منظمة الجاثوم يا أبي ....
قاطعه والده منزعجاً من تلك الأسئلة الكثيرة
- لماذا كل هذا الاهتمام بمنظمة الجاثوم يا ولدي ؟!
قال عاصف بصراحة :
- لأني أريد قتل ناب الفيل !!
أعترض بحر مندفعاً :
- إياك أن تفكر في هذا !!
- لقد قتل المرأة التي أحبتك !!
- ثم أردف بحقد :
- ماتت أمي وهي تردد اسمك ..
ألا يكفيك هذا للثأر ؟!
- يكفي يا ولدي ولكنك لا تزال صغيراً على الموت !!
- ما قيمة الحياة إن كنا سنحياها بجبن ؟!
- أنا لست جباناً ولكني أحبك ولا أريد أن أفقدك مثل ما فقدت أمك من قبل - صمت بحر قليلاً  ثم أردف :
- إن كنت قد جئت إلى هنا من أجل أن تقتلني فافعل فأنا لا تهمني الحياة كثيراً ولكن أرجوك ابتعد عن ناب الفيل، إنه أخطر بكثير مما تظن ..
صمت ولم يعلق بينما أكمل والده متوسلاً :
- عدني بأنك سوف تبتعد عن ناب الفيل !!
- ولكن أمي يا أبي ...
- أمك لن تكون راضية عنك وهي تشاهدك ترمي بنفسك للموت حتى ولو كان من أجل الانتقام لها !!
1
صمت عاصف متأثراً بالجملة الأخيرة التي قالها والده .. هل حقاً لن تكون والدته جومانا راضية عنه، وهي تشاهده من العالم الآخر يجابه الأخطار من أجل الثأر !
2
هزه بحر بقوة وصرخ بوجهه :
- عدني بأن تصرف فكرة الثأر عن رأسك !!
*****
كاد أن يقطع وعداً له بالتوقف عن الثأر لولا ذلك السهم المنطلق بسرعة البرق والذي اخترق نافذة الغرفة واستقر نصلة في قلب والده ...
أصيب الجميع بالفاجعة بينما ظل بحر متماسكاً ثابتاً مثل شجرة عتيقة لا تصرخ مهما أنشب الحطابون فيها أنصل فؤوسهم ...
سقط على ركبتيه أرضاً من غير أن يلتفت حتى إلى الخلف لمحاولة رؤية الشخص الذي أطلق عليه السهم ، أدخل يده المرتعشة في ثيابه وأخرج من أحد جيوبه السرية رقعة ورق بردي قديمة كانت مطوية بعناية فائقة ثم همس بلطف وهو يمدها نحو أبنه و ويقول :
- هل تذكر يا بني ؟!
فتح رقعة ورق البردي فشاهد الرسمة التي رسمها والده قبل سنوات طويلة له ولأنه كان فيها عاصف أصغر سناً وأقصر طولاً وممثلاً بالسعادة والحياة يقف بجوار والدته الجميلة ذات الشعر الطويل مبتسماً تشع من عينيه نظرات الأمل والتفاؤل
- وكأنك رسمتها لنا البارحة - قال بحنين .
أعاد بحر طي ورقة البردي ووضعها في جيبه كما لو أنه كان يريد أخذها معه للعالم الآخر :
- أنا آسف لأن هناك شيئاً ما في هذه الدنيا حرمك مني ، ولكنني كنت مجبراً على أن أبتعد من أجل حمايتك أنت وأمك - تنهد بحر وهو يقول متابعاً :
- آه يا ولدي لقد كنت مغرماً بك طوال عمري ، ولقد أحبتك كما لو لم أحبب في حياتي شيئاً قط !!
- أرجوك لا تمت - قال عاصف .
- صديقي أيوب - همس بحر .
- أن صادفته يوماً فلتنقل إليه حبي وأسفي ولتخبره بأنني أعرف أنه سيغفر لي - صمت قليلاً كأنه يصارع الموت، ثم تابع بصعوبة بالغة : سيغفر لي من غير أن أقدم له عذراً فهو الذي أخبرني ذات مرة بأن الأصدقاء ليسوا بحاجة للأعتذار !!
15
ثم فجأة فاحت في الغرفة رائحة ياسمين قوية استطاع الجميع ان يلتقطوها، رفع بحر عينيه نحو سقف الغرفة وابتسم بحياء مثل مراهق وقعت عيناه مصادفة على عيني الفتاة التي يحبها، وقال قبل أن يغادر :
- أمك تقرنك السلام وتخبرك أيضاً بأنها أحبتك كما لو لم  في حياتها
-  لفرط الغضب فإن عين عاصف اليسرى تحولت للون الأحمر القاتم ، وأنطلق هو وإكليل للتفتيش عن القاتل ..
3
دخلت سرابي الغرفة في تلك اللحظة والفجيعة واضحة على ملامح وجهها قالت باكية :
- لقد رأيت المرأة التي أطلقت السهم عبر النافذة ؟!
سأل الشمالي متعجباً :
- كانت امرأة؟!
- وكانت متقدمة بالعمر ولكني لم أتمكن من رؤيتها بشكل جيد !!
22
صاح الحكيم في وجهها :
- لماذا لم تصرخي أو تحاولي إيقافها ؟!
قالت سرابي وبكاؤها يزداد حدة :
- لا أعلم لقد شعرت بأن هناك أياد خفية كانت تقيد أطرافي تمنعني من الكلام أو الحركة !!
طاف أرجاء قرية الجساسة شبراً شبراً للبحث عن الشخص الذي أطلق السهم على والده وكان إكليل في الوقت ذاته يحلق على ارتفاع شاهق من
أجل الحصول على رؤية أفضل :
- إكليل هل لمحت شيئاً - صاح عاصف .
- لا شيء - قال إكليل .
- تعال نذهب لرؤية تاج لا بد أنها ستفيدنا في هذا الأمر !!
10
*****
عندما أصبح أمام القلعة صاح منادياً على جدته ، حتى استجابت :
- لم يخطر في بالي ابداً أني سوف أراكما اليوم _
قالت ذلك وهي تفتح البوابة - انظر إليك يا عاصف من يراك الآن لا يصدق أنك في أواخر الثامنة عشرة من عمرك فقط - ثم هتفت وهي ترفع رأسها وتنظر للسماء :
- وانت يا إكليل لقد أصبحت أكبر من ذي قبل، وأصبح في إمكانك التحليق لمسافات عالية !!
1
راح يخبرها بأختصار وعجل عن كل الأشياء التي حدثت معه هو وإكليل منذ اللحظة التي غادرا فيها الغابة ، وإلى اللحظة التي وقفا فيها أمامها الآن ولكنه لم يخبرها عن سرابي بالطبع لحاجة في نفسة أما تاج فإنها كانت تستمع إليه وفي الوقت ذاته تتأمل تفاصيل وجهه الجميل وشاربه الخفيف وحبات الشعر الخضراء التي غطت خديه مثل عشب حديقة ثابت ، وتلك العينين البندقيتين واللتين أصبحتا أكثر قسوة وجاذبية ، كان طوله الفارع الذي حصل عليه مؤخراً وعضلات جسده المفتولة توحي بأنه شاب في الخامسة والعشرين وليس فقط في أواخر الثامنة عشرة من عمره وعندما فرغت من تأمل حفيدها راحت تنظر لإكليل الذي أصبح ريشه البرتقالي الناعم مرقشاً بحبات ريش حمراء داكنة تشي باقتراب موعد بلوغه ..
وعندما انتهى عاصف نن كلامه وأنتهت هي من تأملاتها سألت :
- وماذا ستفعل هل ستحقق الشرط وتقتل أبوك ؟!
- كنت سأفعل في بداية الأمر ولكنني بدلت رأيي !!
- ماذا تعني بأنك بدلت رأيك؟!
– ثم أردفت، بأنفعال :
-  ستقتلك خيزران وتقتل معك أصدقاءك أيها المتهور !!
- لقد مات أبي فعلاً هناك من قام بقتله - باح بألم .
- ألم تفعلها أنت ؟! - سألت بغرابة .
- لا لقد فعلها شخص آخر وقد جئت إليك حتى أعرف من هو !!
- وهل يهمك كثيراً أن تعرف هوية الشخص الذي قام بقتل والدك ؟!
ألا تشكر حظك لأن ذلك الشخص المجهول أنجز لك ما كنت ستعجز أنت عن تنفيذه ؟!
3
تخيل لو أن والدك لم يمت ها ؟!
لكانت الشمس سوف تغرب من السماء بعد قليل ، وتأتي خيزران لقتلك أنت وأصدقائك !!
كنت أنا وأصدقائي مستعدين للموت بدلاً عنه !!
- والآن أبوك مات وانتهى الأمر ولست في حاجة للموت أنت وأصدقاؤك بدلاً عن أحد
- ربما تكونين محقة ولكنني سأنفذ وصيته الأخيرة على الأقل
- أي وصية؟!
- لقد أوصاني بصرف فكرة الثأر عن رأسي
بهدوء يشي باقتراب كارثة سألت تاج :
-  هو أوصاك بذلك ؟!
أومأ لها برأسه فسألت :
-ولماذا عساه يوصيك بهذه الوصية الغريبة ؟!
- لأنه يخاف على سلامتي
- وهل قطعت له وعداً ؟!
- لقد مات قبل أن أقطع له الوعد
ثم سألته مثل أم تتظاهر بالطيبة لكي تجر ابنها من لسانه: - وهل كنت فعلاً ستقطع له ذلك الوعد يا حبيب جدتك ؟!
1
- نعم - قال .
وهنا أمسكته من تلابيب ثيابه وقامت بتعليقه في الهواء بواسطة يد واحدة ثم قامت بصفعه على وجهه مستخدمة اليد الأخرى ، حاول إكليل مهاجمتها
1
ولكن عاصف أمره بأن لا يفعل :
- أبقى مكانك إكليل !!
صرخت تاج منفعلة ولعابها يتطاير على وجهه :
- هل تترك ثأر أمك أيها الجبان ؟!
لم يتكلم و ألتزم الصمت بينما أكملت بغضب :
- أبعد كل الذي قمت بفعله من أجلك تقول بأنك تريد أن تستسلم ؟!
= لم أستسلم ولكنها وصية أبي !!
- أبوك شخص تافه وحقير
- لا تسبيه يا تاج !!
- بل وأتبرز فوق جثته أيضاً !!
3
فقد عاصف السيطرة على أعصابه ولم يعد قادراً على التحكم بنفسه بعد سماعه تلك الإهانة، وفجأة تحولت عينه اليسرى للون الأحمر القاتم واستطاع
التخلص من قبضتها مستخدمًا قوته، ثم ولكي يتحقق من انتقامه منها سيكون قاضياً فإنه نظر نحو إكليل وصاح :
- بكل قوتك !!
ما أن تلقى الطائر الأمر بالهجوم حتى ضرب الهواء بجناحيه وانطلق مندفعاً نحوها ، ولكن قبل أن يصل إليها اعترضت تارا طريقه :
- مهلاً أيها الشجاع !!
أحتج عاصف :
- هل ستقفين ضدنا یا تارا ؟!
- وهل أصبحتم صفين يا أفراد عائلة الأباطرة حتى أقف في صف ضد آخر ؟! هل انتهوا أعداؤكم حتى تنتقل الحرب بينكم ؟!
قال مبرراً سبب ثورته :
- لقد شتمت والدي الميت !!
بعناد:
- اللعنة على أبوك !!
2
- راقبي لسانك يا تاج - صات بنبرة مهددة
- راقبيه فلن تمنعني تارا من قتلك في المرة القادمة !!
- أتترك الذي قتل أمك حراً طليقاً وتأتي لفرد عضلاتك على جدتك المسكينة ، هل من أجل هذا قمت برعايتك وبالاهتمام بك ؟! هل غضبت مني عندما قلت لك بأنني سأتبرز فوق جثة والدك ؟! ما رأيك بأنني سأكررها أمامك مرة أخرى ؟! نعم يا عاصف سأتبرز فوق جثة والدك ، وأبصق على وجهه وعلى وجه كل من يحاول منعك من أخذ ثأرك !!
لم يحتمل تلك الإهانات المتابعة لذلك أنطلق نحوها مستأنفاً الهجوم في الوقت ذاته حرك إكليل جناحيه وارتفع عالياً في الهواء مبتعداً من مجال دفاعات تارا ، ثم هبط من السماء بكل سرعة نحو تاج ...
ولكن قبل أن يلتحم الجميع وتبدأ المعركة  قالت تارا شيئاً كان من شأنه أن يقلب الطاولة رأساً على عقب
- وإذا قلت لك بأن ناب الفيل هو نفسه من قام بقتل والدك ؟!
10
توقف مكانه عندما سمع ذلك الكلام، وأمر إكليل بإيقاف الهجمة وهو يعرف بان تارا لا تكذب أبداً ، ورغم ذلك إلا أنه هتف معترضاً
- مستحيل لقد كان يحذرني من الوقوف بوجهه فلماذا يقوم ناب الفيل بقتله ؟!
- إنها صفقة أخرى !!
- هل في كل مرة يحدث بها شيء غير مفهوم تقولون لي  صفقة ؟!
- جواسيس ناب الفيل ينتشرون في كل أرجاء مملكة أبابيل وقد نقلوا إليك سعيك في الثأر منه، وأنك قد تقوم بتحريك عائلة الأباطرة ضده فطلب من والدك أن يصرف فكرة الثأر عن رأسك !!
- أخبريني بشيء يصدقه العقل يا تارا !!
- الحقيقة أحياناً تكون أصعب من أن يصدقها العقل يا عاصف فعلاً
2
- ولكن والدي نجح بصرف فكرة الثأر عن رأسي فلماذا يقتله ناب الفيل في الأخير ؟!
1
أجابت:
- لكي يصبح الأمر أكثر تأثيرا عليك
- ثم تابعت تشرح كلامها : لكي يوهمك بأن تلك وصية والدك الأخيرة فيضمن أنك لن تخالفها طوال حياتك أبداً !!
اختفت أنيابه ومخالبه، ثم هتف بصوت باكٍ
- كم من المرات يجب أن أقتلك يا ناب الفيل ؟!
اقتربت تاج منه بلطف :
- هذا ما كنت أريد قوله لك ولكني خفت أن لا تصدقني
تمتم عاصف :
فعلاً لم أكن لأصدق هذا الكلام لو لم تقله تارا
- وماذا ستفعل الآن - سألت .
- مواصلة الثأر - أجاب .
- يجب عليك أن تسرع في استدعاء روزانا قبل غروب الشمس إذاً !!
أومأ عاصف لها برأسه ثم سار هو وإكليل عائدين نحو البيت ليطلبوا من الشيطانة روزانا أخذهم اللقاء عائلة الأباطرة ولكن قبل أن يبتعد الاثنان قالت
اتاج :
- ابحث عن أيوب !!
توقف مكانه وأرسل نظرة نحو جدته من فوق كتفه :
- لمَّ ؟!
- إن كان حياً فإنه سيكون مفيداً لك في معركتك القادمة !!
- تقصدين قبائل الأشاوس ؟!
- هل تعرف عن تلك القبائل شيئاً ؟!
- حدثني أبي عنهم قبل موته ، أخبريني كيف أستطيع إيجاد أيوب ؟!
- إذا ذهبت غرباً لآخر حدود مملكة أبابيل فستجد سلسلة طويلة من الجبال السوداء الشاهقة والتي يغرب خلفها نجم الشمس تلك هي الجبال المحرمة التي تسكنها قبائل الأشاوس !!
- ثم أضافت :
- وإذا كان الحظ حليفك فإنك ستجده هناك !!
بعد أن غادر عاصف وإكليل المكان التفتت تاج نحو تارا وسألت :
- لماذا كذبت عليه ؟!
13
لم تقل تارا شيئاً وزحفت عائدة نحو الغابة كررت سؤالها : - لماذا قلت له بأن ناب الفيل هو من قام بقتل والده ؟!
3
- من أجل حمايته - قالت تارا ثم أضافت وهي تكمل زحفها نحو الغابة :
- كنت أعرف أنك ستقومين بقتله لو أنه صمم على تنفيذ وصية والده وعدم الأخذ بالثأر ..
7
كان يجب علي أن أكذب عليه حتى أحميه منكِ !!

13
.........
+
« أنتهى »
« خطة »

أخذ عاصف قطعة من ثياب والده العابقة برائحة دمه ثم اجتمع هو وأصدقاؤه في ساحة البيت الداخلية ، أخرج قلادة الأباطرة من تحت ثيابه وأمسكها بيده ثم ضرب الأرض بقدمه اليسرى ثلاث مرات انشقت الأرض وخرجت لهم الشيطانة روزانا سألت وهي تنحني أحتراماً :
2
- هل أنجز سمو الأمير المهمة ؟!
قال بألم وهو يمد لها قطعة القماش :
- هذا هو الدم ..
لعقت الشيطانة بلسانها قطعة القماش وقالت :
- وأين جثة والدك ؟!
- لماذا تسألين عنها؟!
- أن أتحقق بنفسي من أنه مات
2
ذهبت لتتحقق بنفسها من أن بحر قد فارق الحياة فعلاً فمن المؤكد أن عائلة الأباطرة سوف يسألونها عن ذلك الأمر لاحقاً ويتحققون مما إذا كانت لقد رأت الجثة بنفسها أم لا ..
وحين فعلت وتحققت من أنه مات فعلاً عادت مرة أخرى لعاصف وقالت بأدب :
- ستختار شخصاً واحداً من أصدقاءك ليرافقك للقاء عائلتك
تقدم الحكيم واثقاً وقال يخاطب البقية :
- لن نتأخر عليكم سنعود سريعاً بعد انتهائنا من لقاء الأباطرة .
10
ولكن عاصف الذي كان قد قرر شيئاً آخر فإنه قال :
- سرابي !!
17
سأل الحكيم ببراءة :
- ما بها ؟!
- هي من سترافقني .
- من سيرافقك ؟! - تساءل بدهشة .
- ستبقى أيها الحكيم هنا فلديك ما تقوم به من أجلي !!
ولكن الحكيم لم يقل شيئاً بسبب الغضب، فقال عاصف :
- أنا أحتاج لحكمة عقلك هنا أكثر بكثير من أي مكان آخر
- هل تظن أنك ستضحك على بهذه الكلمات أيها المتملق ؟!
ابتسم بلطف وهو يقول متسائلاً كما لو أنه يريد مصالحته :
- أنا أثق برأيك أيها الحكيم هل فعلاً ترى أنني متملق ؟!
- الحقيقة لا - قال الحكيم بنبرة صادقة
- أنت فقط أبله ومتهور !!
- هل أستطيع أن أثق بك ؟!
نظر إليه الحكيم بعدم رضا ثم قال بعد لحظات :
- أنت تعلم بأنك تستطيع أن تثق دائماً بي !!
قال عاصف يشرح لهم الخطة بعد أن اجتمعوا حوله :
- سوف تصعد أنت أيها الحكيم على متن إكليل وتذهبان معاً بأتجاه الغرب لآخر حدود مملكة أبابيل حتى تجدا سلسلة من الجبال السوداء الشاهقة والتي يغرب خلفها نجم الشمس !!
سأل الحكيم بجدية :
- هل تقصد الجبال المحرمة التي تسكنها قبائل الأشاوس
- هل تعرفها ؟!
- بالطبع - ثم أضاف ممازحاً وهو يضحك :
- لقد سمعت ولدك يتحدث عنها قبل أن يموت
5
وعندما نظر إليه الجميع بأستياء فإنه قال مستعيداً جديته :
- وما الذي تريده منا أن نفعله هناك يا ترى ؟!
- أريد منكما أن تفتشا عن أيوب
- أواثق من أننا سنجده ؟! – تساءل بخوف
- ماذا إن لم نعثر عليه ؟!
- حينها ستخفض احتمالية أنتصارنا في الحرب !!
قرأ إكليل الخوف في عيني الحكيم الحكيم لكنه لم يعلق، وقال متسائلاً :
- ماذا نقول لأيوب؟!
- ستقولان له بأن القملة الصغيرة المزعجة تريد منك المساعدة
1
سأل الحكيم :
- وماذا يعني  هذا الكلام بحق السماء ؟!
-  أخبراه بذلك فقط وهو سيفهم !!
- وبعد أن صعد الحكيم فوق ظهر إكليل وانطلقا غرباً نحو سلسلة الجبال المحرمة ، التفت عاصف نحو الشمالي وقال :
- وأنت أيها الشمالي ستأخذ جثة أبي وتدفنها في مقابر القرية ثم تعود لهذا البيت من أجل انتظار عودة الحكيم وإكليل ، أما أنا وسرابي فإننا سنذهب الآن ونعود إليكم بعد الانتهاء من لقاء الأباطرة ..
- لك ذلك - قال الشمالي وهو يهم بالمغادرة .
استوقفه عاصف:
- سوف تدفنه بجوار قبر أمي !!
- كيف لي أن أعرف قبر أمك من بين كل المقابر ؟!
- عندما تصل هناك ستقودك إليه رائحة الياسمين
- ولكن قد يكون هناك من هو مدفون بجوار قبرها ؟!
- وحينها ستقتلع الجثة من تحت الأرض وتضع جثة أبي مكانها !!
18
*****
تمسكت سرابي بثياب عاصف بينما مد هو يده ممسكاً بيد روزانا :
- هل أنت مستعد يا سمو الأمير ؟!
- أكثر من أي وقت مضى !!
انشقت أرض ساحة البيت الداخلية وهبطت الشيطانة روزانا برفقة عاصف وسرابي متجهة بهما نحو مدينة وبار المفقودة للقاء عائلة الأباطرة صحيح أن مهمة إقناع تلك العائلة لن تكون سهلة ولكن عاصف كان يشعر بالتفاؤل أكث من أي وقت مضى ليس لثقته بنفسه بل لأن سرابي كانت معه !!
41
.......
« أنتهى »
متنساش ان الرواية موجودة كاملة في قناة التلجرام والواتساب
« أسرار ... »

في صباح اليوم التالي :
ذهب جواسيس منظمة الجاثوم للملك طاغين وأخبروه بأن عاصف وأصدقاءه اختفوا عن مجال مراقبتهم وبأنه لم يتبقى منهم في قرية الجساسة غير شخص واحد فقط اسمه الشمالي فقال ناب الفيل محاولاً أن يتظاهر بالثبات وعدم الاكتراث أمام حاشيته :
- كيف غابوا عنكم وأنتم تعرفون أي مصيبة يخططون لها ؟!
تقدم قائد الجواسيس وقد كان مارداً ضخماً اسمه مراقب :
- في البداية كانوا جميعهم داخل بيت بحر ولكنهم فجأة اختفوا
- هذا التقصير لن أغفره لك - قال ثائراً .
- لم يحدث منا أي تقصير يا جلالة الملك ولكننا فعلاً لا تملك تفسيراً للذي حدث - قال مراقب ثم أضاف وكأنه تذكر أمراً :
- يقول أحد المعاونين بأنه شاهد طائراً ضخماً يطير من ذلك البيت متجهاً نحو الغرب، وإذا كان كلامه صحيحاً فهذا يعني أن ذلك الطائر هو العنقاء صديق عاصف !
1
-  أنا لا يهمني العنقاء يهمني أن أعرف إلى أين ذهب عاصف !
في تلك اللحظة ومن اللاشيء ظهرت عميدة قرية الساحرات شواهر في وسط قاعة الملك وهي تقول،:
- الذي يخشاه جلالتكم قد حصل وانتهى الأمر
التفت إليها الملك طاغين باهتمام :
- ما الذي تقصدينه يا شواهر أفصحي ؟!
- اقتربت شواهر من العرش، أحنت رأسها احتراماً وقالت ..
-  أقصد أن عاصف ذهب للقاء عائلتة !
وثب من فوق عرشة كما لو ان حشرة لدغته :
- بالتأكيد لكي يقنع الأباطرة بالتحالف معه في حربه ضدي !!
- لسنا واثقين ولكن هذا هو السبب الوحيد الذي قد يدفعه للذهاب إليهما
- كيف سمحت له بالذهاب لماذا لم تمنعوه بالقوة
- خیزران - قالت شواهر :
- لقد كانوا تحت حماية الجنية خيزران وزيرة
الأباطرة، لذلك لم تتمكن من استخدام القوة ضدهم وبالكاد کنا نستطيع استراق السمع !!
قال معاتباً نفسه :
- كان يجب علينا أن نقتله منذ الوقت الذي بدأ فيه بالتحرك ضدنا !!
تكلم المارد مراقب بعد أن طلب الإذن بالحديث :
- لقد قمنا بتقديم اقتراح بقتل الفتى ولكن لم توافقوا عليه جلالتكم
- هل أصبح لديك لسان يا مراقب الكلب حتى تعاتبني؟!
+
- لا - أجاب بخوف - لم أكن أقصد !!
- إذاً أقفل فمك اللعين هذا ولا تسمعني صوتك !!
أطرق مراقب برأسه للأسفل وصمت ..
بدأ طاغين يحوم حول نفسه بتوتر شديد، يفكر في حل للورطة التي وجد في نفسه فيها ..
5
هو يتوق منذ زمن طويل للقضاء على عائلة الأباطرة ويعرف بأنه متفوق عسكرياً عليهم ، ولكنه لم يكن من أولئك الذين يفضلون المواجهات المباشرة ، بل كان يفضل دائماً كسب جولاته عن طريق الخديعة والمفاجأة لكي يكون انتصاره مضموناً ..
تكلم أحد مستشاريه :
- لماذا لا نتحدث مع بحر بشأن ابنه يا سيدي؟!
- أحسنت أيها المستشار - هتف الملك معجباّ بالاقتراح ثم أصدر أمراً : أرسلوا لبحر من يخبره بأنني أريد لقاءه بسرعة هيا !!
قالت شواهر :
لا فائدة لقد قُتل
- ومن الذي قتلة ؟!

- أختك الكبرى
22
بهدوء بدل على تعجبه :
- ولماذا قد تفعل تاج مثل هذا الأمر لماذا تقدم على قتله ؟!
7
لأنه كان على وشك أن يقنع ابنه يصرف فكرة الثأر عن رأسه
وحينها ثار طاغين غاضباً وبدأ يحطم كل ما تصل إليه يداه ويصرخ :
- هذه المرأة مجنونة وهي لن تكف عن مضايقتي حتى تنفذ ما برأسها !!
مزق الستائر وكسر كل ما هو مصنوع من الفخار والزجاج وقام بطرد مستشاريه ركلاً من القاعة وعندما لم يعد هناك شيء آخر يستطيع تفريغ غضبة فيه، فإنه هدأ قليلاً
سار عائداً للجلوس فوق عرشه بخطوات بائسة حزينة تشبه خطوات رجل ثمل  قاموا بطرده من الحانة بعد أن تسبب بالكثير من المشاكل للزوار، نظر نحو شواهر وقال كمن يزيح عن صدره حملاً ثقيلاً :
- في البداية قامت تاج بقتل أبنتها جومانا والآن تقوم بقتل بحر اللعنة على تلك الأخت العاهرة ...
164
*****
صحيح أن الساحرات كن يعرفن بأغلب الأحداث التي تقع في مملكة أبابيل بسبب الشياطين الذين ينقلون لهن كل كبيرة وصغيرة ..
إلا أن عميدة قرية الساحرات شواهر لم تكن تعرف بأن تاج هي من قامت حقاً بقتل ابنتها جومانا:
- ظننت أن الساحرة أيار هي من قامت بقتلها بناء على أوامرك ؟!
5
- الأباطرة لا يموتون بسم  عادي ، السم الوحيد الذي قد يقضي عليهم هو سم الأفعى تارا
– ثم أضاف ساخراً : أما السم الذي أعدته ساحرتك أيار فكان سم من الممكن أن يكون رائعاً من أجل تنظيف البطن لا أكثر !!
36
- ولكن أنا واثقة من أن هذا ما حدث جلالتك فقد نقلت إلينا الشياطين أن جومانا في ليلتها الأخيرة أحتست كأس ماء من تلك الجرة المسمومة كان السبب في القضاء عليها !!
- هذا ما تعرفينه ويعرفه شياطينك - ثم أردف :
- ولكن ما حدث فعلاً هو أن أختي تاج تدخلت من غير أن ينتبه إليها أحد ووضعت في تلك الجرة قطرة من سم الأفعى تارا ، وبهذا كانت هي السبب الرئيسي في قتل جومانا وليس أحد آخر .
9

- وما الذي قد يدفعها لفعل شيء فظيع كهذا ؟!
- لكي تتخلص من ابنتها وتستطيع أخذ الولد
35
- ولماذا كانت ترغب في أخذه لتلك الدرجة ؟!
- لتحاربني به
2
- ولماذا هو بالذات ؟!
- لأنه يمتلك عقل البشر وقوة الجن فلا يستطيع أحد أن يقهره أبداً
صمتت الساحرة شواهر مندهشة من ذلك المكر الذي تتمتع به تاج بينما أكمل طاغين :
- تريد تاج أن تنتقم مني لأنني سرقت عرش زوجها جبار إنها تريد أن تعيد الملك إليه لكي تؤكد له بأنها لم تساعدني في المؤامرة ضده
5
- صمت قليلاً ثم تابع :
- هذا الولد ثأره الحقيقي ليس عندي بل عند جدته ..
14
- ما رأيك في أن تدس إليه من يخبره بالحقيقة ؟!
- لن يصدق فقد غسلت تاج عقله وانتهى الأمر
1
وبعد أن هدأ قليلا نظر نحو مراقب وسأل :
- وذلك الطائر اللعين ألم تعرفوا إلى أين ذهب بالتحديد ؟!
- لسنا واثقين كل ما نعرفه هو أنه اتجه غرباً
- هل قلت بأنه اتجه غرباً ؟! - تساءلت شواهر .
2
أكد لها مراقب :
- هذا ما قاله المعاون الذي يدعي أنه لمح ذلك الطير
- إذاً ذهب ليطلب المساعدة من الأشاوس
فقال طاغين غير مكترث بالأمر :
- يعتقدون بأنهم سيجدون أيوب مساكين لا يعرفون أنه شبع موتاً !!
10
- عندما سوف يصل العنقاء لهناك ولا يجده، ستقوم قبائل الأشاوس بقتلة - قالت ذلك شواهر بنبرة ذات مغزى ثم وعندما أدركت أن وجودها لم يعد ضرورياً فإنها أحنت رأسها بأدب وطلبت من الملك أن يأذن لها بالانصراف ولكنه استوقفها :
- أريد استعداداً كاملاً في قرية الساحرات فقد تقوم الحرب بأي لحظة
- ثق جلالتك بأننا مستعدات في أي وقت – قالت ذلك وهي تختفي أستدعى الملك وزير الحرب جرمي وشرح له الأخطار التي تحيط بهم وطلب منه أن يعمل في الأيام القادمة على استعدادات جيش مملكة أبابيل ومنظمة الجاثوم، وأمره بأن يرسل المبعوثين في طلب التحالفات مع الممالك المجاورة وحين غادر جرمي لينفذ الأمر نظر الملك طاغين نحو المارد مراقب وقال بتردد يشي بأنه كان يخطط لأمر جلل :
- هل قلت لي بأن واحداً فقط من أصدقاء عاصف هو من تبقى في قرية الجساسة ؟!
- نعم يا سيدي وأسمه الشمالي
- أحضره لي !!
في المساء :
قام الشمالي بغسل جثة بحر وخياطة مكان الجرح ، ثم حملها نحو مقابر قرية الجساسة ..
وفعلاً ما أن وصل إلى هناك حتى قادته رائحة الياسمين لقبر جومانا والغريب في الأمر هو أنه وجد الحفرة التي بجوارها جاهزة كما لو أن جومانا بنفسها هي من قامت بإعداده سلفاً لأستقبال زوجها فيها ..
4
ما أن انتهى من دفن جثة بحر حتى غادر عائداً نحو البيت من أجل انتظار عودة الحكيم وإكليل ، ولكن بينما هو في الطريق إذ شعر بأن هناك من يقوم بمراقبته من خلف الأشجار ، وربما بسبب انخفاض ضوء الشمس التي أوشكت على الغروب فإنه لم يكن في مقدوره التأكد من حقيقة ما كان يشعر به ، أكمل سیره عائداً نحو البيت وهو يضع يده على مقبض السيف تحسباً لأي طارئ ثم فجأه ومن غير مقدمات قام سبعة وثلاثون فارساً بتطويقه من جميع الجهات شاهرين سيوفهم بوجهه ، تقدم إليه أحدهم وسأل :
- انت الشمالي أليس كذلك ؟
-سحب سيفه من عمده وسأل :
- من أنت
- ما الذي تريده ؟؟
- ناب الفيل طلب لقاءك ...
لم يُسلم نفسه لهم بسهولة ولكنهم كانوا أكثر بكثير من أن يستطيع مقاومتهم وحده الذلك فإنهم استطاعوا أخذه بالقوة بعد أن أشبعوه ضرباً وأفقدوه الوعي ...
3
ورغم أنهم أخذوه وهو فاقد للوعي إلا أنه كان يتمتم بين
وقت وآخر قائلاً :
- سوف يقتص منكم عاصف أيها القوادون !!
37
لم يشهد أحد من أهالي قرية الجساسة ذلك الأمر الذي حدث مع الشمالي، غير حمارين كانا يراقبان ما يجري من بين التشققات الخشبية لحائط لو يشهد إحدى الزرائب :
3
- إلى أين تظن أنهم سوف يأخذونه ؟!
- سألت قمرية زوجها سامري وأجاب قائلاً :
- أظن أنهم سيأخذونه للمسلخة لكي يسلخوا جلده ويصنعوا منه الحقائب والثياب والأحذية !!
39
.......
+
« أنتهى »
« مملكة الأشاوس »

على ارتفاع يزيد عن ألف قدم راح إكليل يحلق في السماء العالية ، حامل فوق ظهره الحكيم متجهاً به نحو سلسلة الجبال المحرمة التي تسكنها وتسيطر عليها قبائل الأشاوس أملاً في لقاء أيوب كي ينقلا إليه الرسالة التي كلفهما عاصف بنقلها ..
ثم وبينما هما في الطريق إذ قال إكليل متسائلاً عن سبب خوف الحكيم :
- لماذا خفت
- لم أخف
1
- قرأت الخوف في عينيك وأنا أعرف قراءة اليعون
- العيون - قال مصححاً ثم أضاف ساخراً :
- ليتك تعرف كيف تتكلم،!!
2
- لماذا خفت ؟! - كرر السؤال .
أجاب بعد صمت قصير :
- لأن عاصف لم يكن متأكداً مما إذا كان أيوب سيكون هناك أم لا .
- وماذا في ذلك ؟!
- أنت لا تعرف شيئاً عن تلك القبائل لذلك لا تشعر بالقلق من ذهابك إليهم أما أنا فقد قرأت عنهم كلاماً يدعو للخوف ، إنهم أقوياء جداً ولم يسبق لأحد من قبل أن استطاع هزيمتهم ، حتى إنه يشاع بأنهم أقوى من سكن أرض ..
- نسألهم عن أيوب فقط - قال كما لو أنه لا يري سبباً يستحق الخوف .
- لو ذهبنا إلى هناك ولم نجده عندهم فسيقتلوننا لأنهم لا يثقون بالغرباء ، قال مبرراً سبب خوفه .
صمت إكليل قليلا ثم سأل :
-لماذا ؟؟
- ألم تسمعني أيها الأبله عندما قلت بأنهم لا يثقون بالغرباء ؟!
- لماذا لم تخبر عاصف أقصد ؟!
- لاني لو فعلت فلريما كان سيأمر بإلغاء المهمة .
ثم وبينما إكليل لا يزال يحلق نحو الغرب إذ لمح سلسلة من الجبال الشاهقة والتي كانت الشمس تستعد للغروب من خلفها فعرف أنه وصل المكان المطلوب :
﴿ تمسك سنرتفع﴾ ، قال ذلك ثم زاد من علو ارتفاعه لكي يستطيع عبور قمم الجبال ، ولكنه ما كاد أن يتجاوزها ويصبح في المجال تلك المنطقة حتى اعترض طريقه أحد أفراد قبائل الاشاوس وقد كان مخلوقاً ضخماً أسود غريب الشكل لديه جسد حصان مجنح ويملك رأس وجذع أنسان متضخم العضلات  ، يمسك في إحدى يديه سيف متوهجاً ويسأل بصوت ثقيل :
- ما الذي جاء بكما لهذه المنطقة ؟!
بدأ إكليل يشعر في تلك اللحظة بأن هناك سائلاً دافئاً يتسرب من جسدا الحكيم عليه فهمس قائلاً :
- ما الذي فعلته أيها الحكيم ما هذا الشيء الذي أشعر به في ظهري ؟!
- أسف لم أتمكن من السيطرة على مثانتي !!
20
- ما الذي تتهامسان به أنتما الاثنان - صرخ القنطور عليهما .
- ههه لا شيء مهم لا تشغل بالك بأمورنا التافهة – قال الحكيم مرتعداً ، ثم أضاف هامساً  في أذن إكليل :
- يا للسماء أشعر بأني بدأت أفقد السيطرة على منطقة أخرى !!
18
- انتبه أيها الحكيم لا تفعلها !!
- إني أحاول الإمساك بها ولكنها تنزلق رغماً عني
- قال الحكيم، ثم أضاف إكليل هل سبق لك وأن رأيت في أحد كوابيسك من قبل شيئاً مخيفاً مثل هذا المخلوق ؟!
2
اقترب القنطور منهما بسرعة خاطفة ثم ورغم الضخامة التي اكتسبها إكليل مؤخراً ، إلا أن ذلك القنطور استطاع إلقاء القبض على جسده كاملاً مستخدم فقط قبضه يد واحدة .
- لم تجيبا عن سؤالي ما الذي جاء بكما إلى هنا ؟! - سأل القنطور .
قال إكليل :
- نبحث عن أيوب !!
تمهل القنطور قليلاً عند سماعه الاسم ثم قال :
- لا يوجد أحد هنا بهذا الاسم !!
تكلم الحكيم من داخل قبضة القنطور :
- يبدو أننا أخطأنا العنوان إذاً .. هل تسمح لنا بالمغادرة ؟!
- بكل سرور !!
- أنت فعلاً شخص مهذب ليت القناطير كلهم مثلك !!
3
- ستغادران الحياة بأكملها !!
12
قال ذلك القنطور ثم بدأ يشد قبضته على إكليل والحكيم قاصداً أن يقتلهما خنقاً ..
حاول إكليل الفكاك من ذلك المأزق إلا أن القبضة كانت مني محكمة للحد الذي يجعله لا يستطيع تحريك اي جزء من جسده ، وعندما اقتربت النهاية وأصبح الاثنان في ورطة حقيقية قال إكليل بثقة :
- أيها الحكيم تشبت بي جيداً !!
- ماذا ستفعل ؟!
بدأ إكليل يشعر بحرارة تحرق جسده من الداخل ويشعر برجفة شديدة تضرب أعماقه ، وفجأة تحولت عينه اليمنى للون الأحمر القاتم مثل اللون الذي تتحول إليه عين عاصف اليسرى وقت الغضب ثم فتح منقاره واستطاع بطريقة لا يملك لها تفسيراً أن يخرج دفعة من اللهب أحرق بها قبضة القنطور ...
تحرر إكليل وأستطاع الطيران بعد أن تحول ريشه للون الأحمر بشكل كامل ... هتف الحكيم :
- اهرب بكل سرعتك !!
حاول أن يهرب بكل سرعته ولكن أفراداً كثيراً من قبائل الأشاوس الذين كانت لهم أجساد أحصنة مجنحة وجذوع ورؤوس بشرية كانوا قد حاصروه من جميع الاتجاهات مصوبين عليه السيوف والسهام والفؤوس والرماح المتوهجة المضيئة ، قال إكليل وقد أصبح لسانه أكثر طلاقة وفصاحة بها .
- لم نأتي لأذية أحد لماذا لا تدعوننا نذهب بسلام ؟؟
تقدمت منهما قنطورة عجوز جسدها السفلي وجناحاها بيضاء اللون ، كان لوجهها تفاصيل الأنسان تماماً باستناء أذنيها التين كانا تشبهان اذني حيوان الوشق الطويلتين ، شعرها أشيب ولديها بطن متراخ بعض الشيء غير أنه بدا جيداً بالنسبة لعمرها المتقدم ، كانت تشد ثدييها المترهلين بواسطة حمالات مصنوعة من الأعشاب وتمسك في يدها رمحاً متوهجاً قالت :
4
- هذه الجبال حُرمت منذ القديم على غير الأشاوس وأصدقائهم !!
- لقد جئنا نبحث عن صديقنا ولم نأتي لأي غرض آخر أيتها السيدة !!
تلفتت العجوز حول نفسها ثم قالت وقد بدا أنها شعرت بالخجل :
- هل ناديني بالسيدة أيها الطائر المهذب ؟!
- نعم فأنتِ سيدة حسناء أيضاً
- كف عن ذلك أنت تخجلني - قالت بدلع لا يلاءم حساسية الموقف .
7
همس الحكيم في أذن إكليل :
-  كنت أعرف أنك زير نساء - ثم أضاف : ولكن لم أكن أعرف أنك زير قناطير !!
18
عرف إكليل بنفسه :
- اسمي إكليل وهذا صديقي الحكيم قالت العجوز بشيء يشبه المرح :
- وأنا اسمي جهيمة !!
- بهیمه ؟؟  - تساءل الحكيم متعجباً وهو يضحك
- لماذا بحق السماء يكون اسمك بهيمة ؟!
10
نظر جميع القناطير نحوه بغضب بينما همس إكليل له قائلاً :
- سنلاقي حتفنا بسبب لسانك الطويل !!
قالت جهيمة وهي تستعيد جديتها :
- من هو الشخص اللي جئتما للسؤال عنه ؟!
- عن صديق نظن أنه يقيم عندكم أجاب إكليل
- هل هو قنطور ؟!
- بل غوريلا !!
4
فقال أحد القناطيرة :
هل تسخر منها أيها الفار ؟!
بأستياء تمتم الحكيم :
- هؤلاء القوم لا يملكون حس الدعابة
4
قال إكليل :
- بل هو إنسان واسمه أيوب
حكت جهيمة رأسها بطرف أصبعها وكأنها تفتش في ذاكرتها بينما كان واضحاً من ردة فعل بقية القناطير، أنهم لا يعرفون أحدا بذلك الاسم
- بيدو أننا سنموت - همس الحكيم ،
ولكن جهيمة قالت وكأنها تذكرت شيئاً :
- ربما تقصد ان ذلك الكائن البشري الأسود صديق أميرة قبيلتنا آشاس ؟!
هتف إكليل والحكيم في الوقت نفسه :
- إنه صديقنا الذي تبحث عنه !!
اقتادتهما جهيمة جواً حتى وصلت بهما عند فتحة كهف مظلم ، يحرسه سبعة من القناطير ذوي الشعور واللحي الطويلة وقد كانوا مختلفين عن المخلوقات التي رأوها قبل قليل ، فهؤلاء القناطير كانوا أكثر تعملقاً وقوة وكل واحد منهم كان لديه في ظهره أربعة أجنحة بدت أطول وأقدر على الطيران واحد والسرعة ..
2
- توقفي - قال أحد حراس الكهف معترضاً الطريق
- من هؤلاء ؟!
- يقولان أنهما صديقا أيوب - وهمست موضحة :
- صديق الأميرة
فتح القنطور مجالاً لهما بالعبور دون أن يعلق فأكمل الجميع سيرهم
- بلادنا تقع هناك . قالت وهي تشير بيدها نحو فوهة الكهف .
سأل الحكيم متعجباً
أنتم تقيمون داخل كهف ؟!
- بل هذه بوابة بلادنا
كانت المفاجأة كبيرة بالنسبة للحكيم وإكليل فما أن تجاوزا فوهة ذلك کهفه حتى وجدا بلاد أخرى كبيرة عامرة تشرق فيها الشمس ، رغم غروبها التام عن سماء مملكة أبابيل في ذلك التوقيت كانت بلاداً شاسعة خضراء جبلية تكثر فيها المروج والغابات والأنهار ...
وما كان يجعلها أكثر جمالاً وروعة هي تلك البيوت المتراصفة المنحوتة في الجبال العالية والتي زادت القصور في إطلالتها ...
سألت جهيمة :
- هل تستطيع التحليق لمسافات شاهقة أيها العنقاء ؟!
قال إكليل الذي لم يجرب قدراته الجديدة بعد بلوغه :
- أظن
1
- حاول أن تتبعني إذاً ..
طارت جهيمة عالياً يتبعها إكليل حتى تجاوزت السحب البيضاء المتراكمة، وأكملت تحليقها في طبقات الجو العليا وصولاً لأعلى قمة جبل في تلك البلاد كلها ..
وعندما وصلا إلى هناك كان الإرهاق قد أصاب إكليل ب الارتفاع الشاهق وتيارات الهواء المضادة، أما الحكيم فإن مزاجه بدا متعكراً ومنظره يشي بتعبه
- ما بك أيها الحكيم ؟!
- أشعر بأن رأسي يتصدع من الداخل يا إكليل !!
- إنه الضغط - قالت جهيمة - بسبب الأرتفاع العالي .
قال بغضب :
- لماذا جئت بنا إلى هنا ؟!
أشارت بيدها نحو الأمام وقالت :
- هذا قصر أميرتنا آشاس وصديقكما أيوب يقيم هُنا 
1
نظر الحكيم نحو المكان الذي أشارت إليه ولكنه لم يرى شيئاً بسبب الضباب العائم في الجو :
- يبدو أن التقدم في العمر أصاب رأسكِ بالخرف !!
قالت وقد أزعجها أن يذكر لها أحد مسألة التقدم في العمر :
- يبدو أن هناك فاراً يريد مغادرة هذه البلاد من غير لسانه .
- يبدو أن هناك فاراً سيدخل في مــ ...
19
- مهلاً أيها الحكيم
- قاطعه إكليل وهو يشير بجناحه - إنها محقة هناك
قصر كبير وراء الضباب .
سارت جهيمة بهما عبر أروقة القصر المضاءة بواسطة القناديل المشتعلة باللهب والمعلقة على الحيطان الصخرية ، حتى توقفت بهما أمام غرفة صخرية كان بابها مصنوعاً من ستار قماشي، نقرت الأرض بحافرها ثلاثاً حتى تحرك ذلك الستار وخرج لهم من خلفه شخص أسود اللون كان له طول وعرض لا ينبغي لمخلوق بشري أن يمتلكهما هتف الحكيم قائلاً :
- ايوب !!
سألت جهيمة وهي تشير بيدها نحوهما :
- هذان الاثنان يقولان بأنهما صديقان لك ؟!
لم يتعرف أيوب عليهما إنها المرة الأولى التي يشاهدهما فيها :
- هذا ليس صحيحاً – قال ذلك ثم أغلق الباب وعاد لداخل الغرفة،
نظرت إليهما جهيمة بغضب :
- هل كنتما تكذبان علي؟!
- لا لم نكن نكذب - قال إكليل - دعينا نشرح لك الأمر !!
- لا أريد أن تشرح لي شيئاً !!
قالت ذلك وهي تلقي عليها القبض وتجرهما بعيداً عن تلك الغرفة ، وفي محاولة أخيرة لإنقاذ الموقف استطاع الحكيم أن يخرج رأسه من قبضتها  ويهتف عالياً
بأتجاه الغرفة :
- القملة الصغيرة المزعجة تريد منك المساعدة يا أيوب !!
5
ثم وقبل أن تبتعد بهما جهيمة فتح أيوب الباب وقال :
- لحظة يا جهيمة لحظة واحدة !!
توقفت جهيمة مكانها وقال أيوب متعجباً :
- هل قال أحدكما بأن القطة الصغيرة المزعجة تريد مني المساعدة ؟؟
1
-  أنا قلت ذلك
- من أنت أيها الفار
- أنا لست فأرا أنا الحكيم !!
- أي حكيم ؟!
- حكيم قرية الجساسة هل نسيتني أيتها الغوريلا الضخمة؟؟
وحين نطق لفظ «الغوريلا ابتسم أيوب متذكراً » !!
4
*****
وبعد أن شرحا له الموقف بأكمله وأخبراه بحاجة عاصف إليه فاجئهما أيوب بأن قال:
- لقد اعتزلت الحرب
سأل الحكيم :
- تترك ابن صديقك يواجه الموت وحده ؟!
- لم يعد بحر صديقي بعد انقلابه علي ومحاولته قتلي !!
- ولكن عاصف يحتاجك !!
-وأنا أحتاج أن أكون وحيداً
تدخل إكليل قائلاً :
- لقد أرسلنا إليك وهو يثق بأنك ستقف معه !!
- اسمعا أنتما .. أنا لا شأن لي بأحد لقد اعتزلت الحرب وانتهى الأمر !!
سأل الحكيم :
هل هذا آخر كلام لديك ؟؟
سار أيوب عائداً نحو غرفته وهو يقول :
- من الأفضل أن تغادرا هذه البلدة سريعاً وتنسيا أمر لقائكما بي ثم وقبل أن يزيح الستار ويدخل غرفته تكلم إكليل :
- بحر ينقل إليك حبه وأسفه
توقف أيوب مكانه وقال من غير أن يلتفت :
- محاولة جيدة أيها الطائر ولكن هل تعتقد أنك ستغير رأيي بهذه الكذبة !!
- هو لا يكذب إنها فعلاً آخر وصية له قبل أن يموت - قال الحكيم التفت أبوب وأمارات الفجيعة في وجهه :
- مات بحر ؟!
1
- مقتولاً - قال إكليل .
- هل قال شيئاً آخر - سأل أيوب .
- نعم - أجاب الحكيم ، وأضاف :
- قال بأنه لا يقدم لك اعتذاراً فأنت الذي علمته أن الأصدقاء ليسوا بحاجة للأعتذار !!
1
وحينها فقط تيقن أيوب أن صديق عمره قد مات ..

14
.........
« أنتهى »
« جبار الأباطرة »

أنتقل عاصف وسرابي لساحة كبيرة حيث كان جميع كبراء عائلة الأباطر يجلسون هناك في مسرح مدرج دائري الشكل مضاء بالنار من جميع الجهات
يشبه أحد المدرجات الرومانية القديمة الطراز ...
+
كان الجميع ينظر إلية بفضول و ويتهامسون فيما بينهم متسائلين عن السبب الذي جاء ذلك الحفيد من أجلة
همس عاصف متسائلاً :
- روزانا من كل هؤلاء ؟!
- هؤلاء هم كبراء عائلتك يا سمو الأمير
- ولماذا ينظرون إلي بهذه الطريقة ؟!
- يتساءلون عن سبب قدومك - ثم أضافت :
- لا تهتما بهم واتبعاني
أمتثل عاصف وسرابي لطلب الشيطانة روزانا وسارا خلفها لمنتصف الساحة حيث كان في انتظارهما هناك شخصان يجلسان خلف منبر صخري مرتفع ..
كان أحد ذيك الشخصين معروفاً بالنسبة إليهما وهي الوزيرة خيزران ولكن الشخص الآخر الجالس بجوارها لم يسبق لهما أن شاهداه من قبل ، ورغم هذا إلا أن عاصف كان ينتابه شعور قوي يصل لدرجة اليقين يخبره بأن ذلك الشخص هو جده جبار الأباطرة ..
كان مهيباً ضخم البنية أصلع الرأس ذقنه مرقشة بحبات شعر بيضاء وله شارب أبيض طويل ينتهي طرفاه بعققتين نحو الأعلى ، يملك عينين ناعستين فيهما بريق جذاب وملامح وجه باردة تبدو غير مكترثة بشيء، ورغم تقدمه في العمر إلا أنه بدا في كامل صحته وقوته وانتباهه
همست لهما روزانا  بينما أكملت سيرها نحو المنبر الصخري لتقدم قطعة القماش الملطخة بدم بحر ...
تناولت خيزران منها قطعة القماش تلك ولعقت بطرف لسانها الدم العالق فيها، ثم سالت بصوت منخفض :
- هل تحققت بنفسك ؟؟
- رأيته بعيني وهو غارق بدمه
- حسناً - همست خيزران وهي تعيد إلى الشيطانة قطعة القماش وتقول :
- مرريها على كبراء العائلة فرداً فرداً حتى يتحققوا بأنفسهم من أن الذي أخذ منهم أبنتهم أصبح الآن ميتاً ..
وهنا تكلم جبار قائلاً وهو ينظر نحو عاصف :
- لا تخف اقترب أيها الفتى وأخبرنا لماذا طلبت مقابلتنا ؟؟
أمسك عاصف يد سرابي ثم سار بها متقدماً نحو الأمام :
- جئت أطلب مساعدتكم
- صمت قليلاً ليعطي كلماته القادمة أكبر قدر من القوة ، ثم أردف بصرامة :
- في القضاء على ناب الفيل !!
خلق عاصف بطلبه ذاك اضطراباً شديداً بين كبراء عائلة الأباطرة فلم يتوقع احد أن يكون ذلك هو السب الذي دفع ابن جومانا للمجيء من أجله .
أما جبار الذي بدا وكأن لديه علم مسبق بأمر ذلك الطلب فإنه تلقاه ببرود شديد وهو يضرب المنبر الصخري بقبضة يده الضخمة :
- هدوء أيها السادة
2
- ثم نظر نحو حفيده وسأل :
- ولماذا عساك تريد القضاء عليه أيها الفتى ؟!
- لأنه قتل جومانا أبنتك !!
اختار كلماته تلك بعناية ..
معتقداً أنه سينجح في التأثيؤ على جده ويقنعه أكثر بالتحالف معه غير أنه تفاجأ عندما سمع الرد :
- ولكن هذا لا يعني عائلة الأباطرة في شيء فلماذا تظن أننا قد نساعدك في طلبك ؟!
- أليست جومانا أبنتك
- ثم نظر حوله، أليست فرداً منكم ؟!
-  لم تعد كذلك - قال جبار بسكينة تشي بعدم اكتراثه ثم تابع : لقد تخلت منذ زمن طويل عن كونها فرداً ينتمي لعائلة الأباطرة
- الا تحبها ؟! - سأل بسذاجة .
- لا - قال جبار بشكل قاطع .
لم يستسلم عاصف وقال :
- هل هذا يعني أنك لم تحزن عندما عرفت بأمر موتها؟!
خيم السكون على القاعة بينما واصل استجوابه :
- هل هذا يعني أنك لم تشعر برغبة ولو بسيطة في الانتقام ممن قتلها ؟؟
ثم سأل سؤالاً آخر، من غير ان يعطي له فرصة للإجابة :
- هل هذا يعني أن الزمان لو عاد بك قليلاً إلى الوراء ، فإنك لم تكن لتحاول حمايتها من الموت ؟!
رغم قوة الأسئلة والنبرة العدائية التي كان يوجهها إليه عاصف إلا أن جبار بدا عليه من خلال النظر إلى ملامح وجهه بأنه يحسن جيداً ضد أعصابه ،
فصرخ عليه عاصف :
- لقد أخبروني بأنك شجاع ولكني أراك تختبئ كالجبان وراء صمتك !!
4
- عاد الأضطراب مجدداً يعم أرجاء القاعة ولو لم يكن كبراء عائلة الأباطرة حاضرين في ذلك الوقت لما كان أحد منهم سوف يصدق أن هناك من ظل حياً بعد أن رفع صوته في وجه جبار ونعته بالجبان، ارتفعت اليد الضخمة
مجدداً وضربت المنبر الصخري :
4
- هدوء أيها السادة - ثم قال بسكينة :
- أخبرتك بأن جومانا لم تعد من عائلتنا ، وهذا يعني أن أمرها لم يعد يعني ، ولو أن الزمن يعود بي للوراء قليلاً مثل ما قلت، لكنت سوف ..
قاطعه قبل أن ينهي كلامه :
- كفاك كذباً ، أرجوك لا تكمل – ثم أضاف بنبرة باكية :
- لا تقل لي بأنك لو عرفت بالأمر فإنك لم تكن لتحاول حمايتها فلا يوجد هناك شيء في الدنيا يقنعني بأنك فعلاً لم تكترث لشأنها !!

10
........
2
«أنتهى»
متنساش ان الرواية موجودة كاملة في قناة التلجرام والواتساب
« خطأ فادح »

وكخطوة أخيرة قبل اشتعال فتيل الحرب ، عاد عاصف وسرابي مع الشيطانة روزانا لقرية الجساسة من أجل رؤية الحكيم وإكليل والشمالي وإخبارهم بأنهما نجحا في الحصول على مساعدة الأباطرة ولكن عندما ظهر في البيت لم يجد أحداً بأنتظاره فأثاره ذلك الأمر :
- أين هم كان يجب عليهم أن يكونوا هنا في هذه اللحظة ؟!
3
- ششش - همست الشيطانة روزانا وهي تضع يدها عند فمها في إشارة لعاصف بأن يصمت ، ثم أغمضت عينيها وركزت جميع حواسها عند أذنها وحين تأكدت من الأمر فتحت عينيها وقالت :
- القرية
سألت سرابي :
- ما بها ؟!
-تضج بجواسيس ناب الفيل يبدو أنه عرف فعلاً بأمر زيارة سمو الأمير لعائلته وأصدر أمراً بالقبض عليه
– ثم اقترحت وهي تنظر باتجاه عاصف :
دعنا  نرجع قبل أن يكتشف أحدهم أمر وجودنا !!
- لا أستطيع – قال - فربما يكون أصدقاؤنا في خطر !
- يجب أن تختار يا سمو الأمير بين أصدقاءك وبين العودة لجدك جبار حتى تقود حربك بنفسك
- سوف أختار الخيار الثالث - قال بتحدٍ .
- ما هو ؟! - سألت .
وهنا تداخلت سرابي والتي كانت تعرف كيف يفكر:
- سوف يذهب للتفتيش عنهم وحين ينتهي سيعود ليقود حربه
- ستكون في خطر مميت لو أن أحداً من أولئك الجواسيس اكـ ...
قاطعها عاصف :
- لا أستطيع أن أغادر من غير أصدقائي حتى لو كلفتي ذلك إلغاء المهمة بأكملها ..
*****
بدأ عاصف وسرابي في طرح جميع الاحتمالات الممكنة لغياب الأصدقاء، وتوصلا في الأخير إلى أن الحكيم وإكليل يملكان حجة غياب مقبولة بسبب المسافة البعيدة لسلسلة الجبال المحرمة، ولكن اختفاء الشمالي كان هو الشيء المقلق لهما وخصوصاً بعد امتلاء القرية بالجواسيس فأقترحت سرابي التالي :
- لماذا لا نتفقد آخر موقع ذهب إليه الشمالي ؟!
- تقصدين مقابر القرية ؟!
- نعم فربما نجد هناك خيطاً يقودنا إليه !!
التفت عاصف نحو روزانا وسأل :
- هل تستطيعين أخذنا لهناك ؟!
- لا أستطيع فأنا لا أملك أوامر بذلك !!
- سأذهب لتفقد الأمر بنفسي إذاً - قال ، ثم التفت يحادث سرابي : 
- ابقي هنا تحت رعاية زوزانا، ريثما أذهب وأعود وإياك أن تغادري هذا المكان مهما حدث هل تفهمين ؟!
- سآتي معك - قالت ضاربة بكلامه عرض الحائط .
1
- ألم تسمعي روزانا وهي تقول بأن القرية ليست آمنة ؟!
- وهذا ما يجعلني أصر على مرافقتك  - قالت بعناد .
- لست مستعداً لأن أعرض حياتك للخطــ ..
- لم يكمل جملته تلك لأن سرابي تجاهلت كلامه واتجهت نحو الباب أدارت المقبض ثم التفتت إليه
وقالت :
- هل ستأتي أم أذهب للبحث عنه وحدي؟!
3
*****
كانت الشيطانة محقة في توقعاتها فقرية الجساسة تعج بالكثير من الجواسيس الذين يمشطون الطرقات ذهاباً وإياباً للتفتيش عن عاصف ...
- لا تقولي بأنك خائفة ؟!
4
- ألا يحق لي أن أخاف ؟!
- لا يحق لك وأنا معكِ !!
21
شعرت سرابي بالخطر فقالت بتوتر :
- إنهم يملؤون طرقات القرية !!
أحست بالخجل من ذلك الكلام وقالت لتغير الموضوع :
- دعنا نواصل السير
واصل الاثنان السير بأتجاه المقبرة متسللين بحذر شديد عبر دروب القرية الوعرة حتى لا يتم اكتشاف أمرهما، مهتديين بضوء القمر في الرؤية ..
1
ثم وبينما هما يسيران إذ صادفا ثلاثة من الجواسيس في طريقهما وكاد أن اكتشاف أمرهما ولكن لحسن الحظ كانت هناك زريبة خشبية بالقرب منهما فاستطاع عاصف أن يدخل إليها بسرعة وأن يسحب معه سرابي قبل أن يلاحظهما أحد ..
ما أن أصبحا في الداخل حتى جعل عاصف يرسل نظراته نحو أولئك الجواسيس من خلال التشققات الصغيرة لخشب حائط الزريبة وعندما اطمأن إلى أنهم لم يلاحظوه – أو هكذا ظن في البداية – التفت نحو سرابي ليطمئن عليها، فشاهد أمامه حمارين ينظران إليه بحب ويقولان له في نفس اللحظه كما لو أنهما يرددان أنشودة :
- لقد كبرت أيها الجحش البشري وأصبحت حماراً فحلاً !!
30
*****
  عانقهما عاصف عناقاً قوياً يشي بفرحته للقائهما ، ثم أخبرهما بأنه جاء للبحث عن صديقه، وما أن عرف سامري بسبب مجيئه حتى قال له بأنه وزوجته شاهدا ليلة البارحة أشخاصاً على ظهور أحصنتهم يوقفون شاباً ما ويأخذونه معهم بالقوة
- هل تعرف ما اسم ذلك الشاب ؟!
- لا أعرف فقد كانوا يتحدثون معه بلغة البشر
- كيف كان شكله ؟!
- لا أذكر فالبشر جميعهم متشابهون في الأشكال ، ولا أستطيع أن أميز واحداً عن آخر وأنت لولا رائحتك النتنة التي ما زالت عالقة بك وأذكرها لما كنت أنا وزوجتي تعرفنا عليك !!
2
- كان طويلاً بعض الشيء – قالت قمرية وهي تحاول أن تتذكر : يرتدي ثياباً واسعة بيضاء يعلق سيفاً على ظهره وكان يبدو شجاعاً جداً وهو يحاربهم وحده رغم أنهم كانوا يفوقونه عدداً وعدة !!
- هل حاربهم وحده ؟!
- وقد أشبعوه ضرباً وأخذوه معهم !!
أصيب بالفجيعة عندما سمع ذلك الخبر والتفت نحو سرابي ليترجم لها ما قاله الحمارين ولكن سرابي كانت مشغولة بشيء آخر فقد كانت تراقب الجواسيس الثلاثة من خلال التشققات الصغيرة في الحائط الخشبي للزربية
وتبدو قلقه ومتوترة .
- ما بك ؟!
- أحد الجواسيس يحدق باتجاهنا – أجابته بتوتر .
ألصق عاصف أذنه بحائط الزريبة مصيخاً للسمع لما يحدث بالخارج ،  واستطاع يستمع لأحد أولئك الجواسيس الثلاثة وهو يقول لصديقيه الآخرين
- أقسم لكما إنني لمحت شيئاً يدخل تلك الزريبة !!
- هل أنت واثق ؟! فنحن لم نلمح شيئا – قال الاثنان الأخرين
- سأتحقق من الأمر بنفسي – قال الجاسوس وهو يسير نحو الزريبة .
همست قمرية تحادث عاصف :
- اختبئ أنت وهذا الذكر الذي معك قبل أن يراكما الجاسوس !!
- هذا لیس ذكراً يا قمرية إنها أنثى !!
- وكيف لي أن أعرف وهي ترتدي كل هذه الأقمشة فوق جسدها!؟
2
- هذا الكلام غير مهم - قطع سامري عليهما النقاش
- تعالا معنا سوف نخبئكما
- لا -همس عاصف :
- فهؤلاء هم من أخذوا الشمالي ويجب أن أعرف منهما إلى أين ذهبوا به – ثم نظر نحو سرابي وقال :
-اذهبي معهما سيساعدانك في الاختياء، ريثما أنتهي ..
دخل الجاسوس الزربية الخشبية وقد انقضت مدة طويلة على بقائه بالداخل دون أن يخرج بنتيجة الأمر الذي أثار شكوك زميليه الآخرين، صاحا عليه أكثر من مرة ولكنه لم يجبهما فقررا الذهاب لتفقده ..
وما أن دخل الجاسوسان إلى هناك حتى سمح لهما ضوء القمر الخافت المتسلل بخفة من بين التشققات الخشبية لجدار الزريبة بأن يشاهدا أمامهما كائناً طويلا وضخماً يشبه وحشاً خرافياً تشع إحدى عينيه بلون أحمر قاتم ، حاول كل واحد منهما النجاة ولكن الموت كان أسرع إذ قتل ذلك الوحش أحدهما وأبقى على الآخر ..
- أرجوك لا تقتلني - قال الجاسوس متوسلاً .
- لن أفعل إذا أجبتني
- سأجيبك يا سيدي عن أي شيء !!
- اين ذهبتم بالشمالي ؟!
- ولن تقتلني بعد أن أخبرك ؟!
ـ أعدك بالأمان
مضغ الجاسوس ريقاً من الخوف وهو يقول :
-  طلبه الرئيس فأخذناه له
أمسكه عاصف من تلابيب ثيابه وصرخ بوجهه :
- وماذا بعد ؟!
- ‏صدقني هذا كل ما أعرفه
- هل هو حي أم ميت ؟!
- لقد وعدتني بالأمان يا سيدي !!
- ولن أخلف وعدي ، أجبني هل هو حي أم ميت ؟!
قال الجاسوس :
- لقد قتله ناب الفيل !!
23
هزه عاصف بقوة حتى كاد يقتله :
- اللعنة عليك ما الذي تقوله أنت ؟!
- هذا ما حدث وأنا لا ذنب لي !!
اقتربت سرايي :
- دعه يا عاصف لقد أعطيته وعداً بالأمان !!
لقد أصبح لديه ثأر ثالث سيحارب العالم كله من أجل أخذه صحيح أنه لم يعرف الشمالي منذ مدة طويلة ، ولكن بعض الصداقات لا تحتاج لعمر طويل حتى تؤتي ثمارها كان الشمالي صديقاً وفياً لا يمكن للحياة مهما امتدت أن تعوضه عنه ...
2
أراد أن يقتل الجاسوس لكنه في الأخير تركه يذهب وفاء للوعد الذي قطعه له ، غير أنه سيكتشف بعد قليل أنه ارتكب خطأ فادحا حين سمح له بالذهاب ..
11
فقد عرف ذلك الجاسوس من خلال سرابي ،
قبل قليل باسمه – أن ذلك الشاب هو نفسه الشخص المطلوب الذين يفتشون عنه منذ مدة ..
ذهب الجاسوس يركض بكل سرعته في طرقات القرية ، متجهاً نحو المارد مراقب قائد فرقة الجواسيس ..

2
........
+
« أنتهى »
« أعتراف »

بعد أن عرفا ماذا حل بالشمالي تسلل الاثنان عائدين نحو البيت حيث الشيطانة روزانا بأنتظار عودتهما ..
1
في البداية لم يشعر عاصف بشيء ولكن الشك بدأ يتسرب لقلب سرابي بعد أن لاحظت اختفاء الجواسيس من الطرقات فجأة والسهولة التي كانا يسيران بها في دروب القرية همست :
- ألا تلاحظ شيئاً غريباً ؟!
- ماذا
- الطرقات تكاد تكون خالية ؟!
- وهل كنت تريدينها مليئة بالجواسيس ؟!
- لا ولكن أخاف من أن يكون خلف هذا الاختفاء المفاجي أمر ما
- لا تقلقي - همس يطمئنها - لقد اقتربنا من البيت !!
1
انعطف الاثنان يمينا ثم سارا عبر زقاق ترابي ضيق ينتهي بمدخل الحي الذي يقع فيه البيت ولكنهما ما كادا يتعديانه بخطوات قليلة حتى حاوطت فرقة الجواسيس عليهما المكان من جميع الاتجاهات وأمروهما بعدم التحرك ..
اقترب المارد مُراقب منهما وهو يقول :
- لم أكن أعرف أن صيدك سيكون بهذه السهولة
قال عاصف وهو يخفي سرابي بيده خلف ظهره :
- من أنت وما الذي تريده ؟!
2
- اسمي مراقب وأريد منكما أن تأتيا معنا
مسح بعينية المكان مفتشاً عن مخرج قد يستطيع أن يهرب هو وسرابي من خلاله ، ولكن الكثير جداً من الجواسيس يحاوطون المكان ولا يدعون له فرصة ولو صغيرة للتفكير بالهرب
لا تعب نفسك - قال مراقب - لن تستطيع مهما حاولت !!
بدأ يفكر بالمواجهة ولكنه مالبق كثيراً حتى ركل تلك الفكرة بعيداً عن رأسه ، ليس لأن فرقة الجواسيس كانوا أكثر فقط وليس لأنه يدرك أستحالة التغلب عليهم بمفرده ولكن لأن سرابي سوف تكون أول من يتعرض
للخطر في حال قرر الأشتباك :
- سآتي معكم - قال مستسلماً - ولكن هذه الفتاء لا شأن لكم بها
- الذين لا يملكون فرصة للمقاومة لا يضعون شروطاً
- أنا من تبحثون عنه هذه الفتاة لا دخل لها
- سآتي معك - قالت سرابي .
12
- أصمتي أنتِ - أسكتها عاصف ، ولكنها عائدت:
- متى ستفهم أننا جميعا في مركب واحد ؟!
1
- لست ذاهباً لكي أقضي وقتاً ممتعاً هناك !!
- معك للجحيم !!
4
- وما دخلك أنتِ لتواجهي الموت معي هل تظنين أن الموت لعبة ؟!
لأني .. لأنني - ترددت قليلاً ثم قالت :
- لأنني أهتم بك !!
- وأنا لا أريدك أن تتعرضي للخطر لأنني أحبكِ !!
33
علق مراقب ساخراً :
واقع في الحب ومنظرك يدعو للشفقة
3
- من أخبرك بأن الحب يجعل منظر الشخص يدعو للشفقة ؟؟
- منظرك الذي يوحي بأنك قد تبلل ثيابك من الخوف هو من أخبرني
- أنا لست خائفاً منك أو من أعوانك الذين معك
- أعرف - قال مراقب - أنت خائف على هذه الفتاة التي تواريها خلف ضهرك وتحاول حمايتها ، وهذا بالضبط ما يدعو للشفقة ، تخيل لو أنها ليست معك ألم تكن لتقاتل في هذه اللحظة وتموت شجاعاً كما يموت الأبطال بدلاً
من أن نأخذك لناب الفيل وتموت هناك ذليلاً كما تموت الخراف ؟!
1
لم يتكلم عاصف وظل صامتاً أكمل مراقب حربه النفسية :
- حتى أنها لا تحبك !!
- اسكت أنت - صاحت سرابي منفعلة .
- أثبتي له خطأ كلامي .. انظري إليه وقولي بأنك تحبينه !!
11
نظر عاصف نحوها فأشاحت بنظرها للبعيد مما أكد له أنها لا تحبه ...
3
- معها حق في أنها لا تحبك فأنت مخلوق مختلف عنها
- واصل حربه النفسية :
- ولماذا عساها تقع في حب مخلوق مختلف عنها كلياً وحش قد يغضب منها يوما ويأكلها بأنيابه أو يمزقها بمخاليه مثل ورقة إنها تعلم بأنك لا تصلح لشيء غير أن تكون كلب حراسة لها ، أما تقرر هي الوقوع في الحب فإنها ستختار شخصاً من جنسها البشري !!
همست سرابي في أذنه :
- لا تستمع إليه إنه يريد فقط أن ..
قاطعها عاصف قبل أن تكمل :
- لن أكون حزيناً لو أنها أحبت مخلوقاً بشرياً المهم أن تكون سعيدة !!
6
- هراء تقوله لتواسي به نفسك - قال مراقب ببرود .
- أنت أصغر من أن تعرف كيف يكون الحب الحقيقي .
- بلي أعرف - قال بسخرية - يكون من طرف واحد مثل قصة الحب التي تعيشها أنت !!
1
- أنا أحبها للحد الذي أريدها فيه أن تكون سعيدة وآمنة ، نعم أتمنى من كل قلبي لو أنني كنت ذلك الشخص المحظوظ الذي سيوفر لها كل ما تحتاج إليه ولكن لو كانت سعادتها مع شخص آخر فسأكون مبتهجاً وسعيداً وراضياً من أجلها !!
19
لم يعرف مراقب كيف يرد فصاح :
- هل ستأتيان معنا أم نستخدم القوة في أخذكما ؟!
كان الوضع خطيراً فقد يتم إلغاء كل شيء في حال استطاع المارد مراقب القبض عليهما ، ولكن بدوا أنه لا يوجد طريق آخر غير الاستسلام ، كاد عاصف ان يفتح فمه ليقول بأنهما سيأتيان معهم طوعاً دون الحاجة لاستخدام القوه ولكن قبل أن يتكلم كان هناك من يتخاطر معه في تلك اللحظة :
- أصمد مكانك أنا وتارا في الطريق إليك ... فأبتسم !!
14
- أسعيد لأنك ستأتي معنا – سأل مراقب وهو يشاهد الابتسامة .
- بل سعید لأنك لن تغادر هذه القرية حياً !! ..
- ماذا تعني هل اخترت المواجهة ؟!
- بالضبط
- لن تستطيع مواجهتنا وحدك !!
- من قال بأني سأقوم بمواجهتكم وحدي ؟!
- هل ستقاتلنا أنت وهذه البشرية الضعيفة إذاً ؟!
تحولت عينه اليسرى للون الأحمر القاتم ، وقال :
- انظر خلفك يأتك الجواب !!
وعندما نظر المارد مراقب وجميع الجواسيس للخلف شاهدوا في الهواء مرأة لها شعر غجري أسود اللون يتخلله بعض خصل الشيب الرمادية، وبشرة بيضاء مشدودة مثل جلد حصان سباق تمتلك ملامح وجه هادئة تشبه وقت غروب الشمس ..
تقف بجوارها كوبرا جن سوداء شكلها مخيف لها رأس
سطح مثل صفيحة درع إغريقية وعينان باردتان يشع منهما بريق الموت ، ولسان نحيل متشعب لونه مثل لون جلدها تقوم بإخراجه من وقت لأخر بينما تصدر فحيحاً مرعباً ...
*****
أستعد عاصف للمشاركة ولكن تارا اقترحت شيئاً آخر :
- خذ الفتاة بعيداً من هنا وأنا وتاج سنتكفل بالأمر حملها بين ذراعيه ولكن قبل أن يغادر تكلمت جدته :
- لماذا لم تخبرني عن أمر هذه الفتاة ؟!
- لأني كنت أعرف أنك ستغضبين مني لو أني أخبرتك !!
- هل فعلاً تحبها ؟!
- نعم أحبها !!
- تباً لك ما أغباك ألم يثمر فيك تعليمي ؟!
- لقد حدث الأمر رغماً عني !!
- ألم أعلمك أن تأخذ حاجتك من النساء ثم تحذفهن بعيداً ؟!
- سرابي ليست كبقية النساء !!
- وما الفرق ؟! أليس لديها ثديان وفرج ؟!
42
- تاج ما هذا الكلام ؟!
- أخبرني ما الذي يجعلها غير بقية النساء ؟!
وهنا قال عاصف :
- ما رأيك في أن نترك أمر هؤلاء الجواسيس جانباً ، ونتعارك أنا وأنتِ ؟! هل تريدين ذلك ؟! هل هذا ما جئت إلى هنا من أجله ؟!
2
تدخلت تارا :
- معه حق دعينا ننتهي من هؤلاء الجواسيس أولاً
- سأتفاهم معك بعد أن ننتهي من أمر هؤلاء الحمقى أيها الأحمق الغبي !!
قالت ذلك تاج ثم بدأت المعركة وقد شكلت هي وتارا ثنائياً لا يقهر في مواجهة الجواسيس ، بينما قام عاصف بإبعاد سرابي عن ساحة القتال وربما كان انشغال تاج وتارا في العراك هو السبب الذي جعلهما تغفلان عن ملاحظة المارد مراقب وهو يتسلل ذاهباً خلف عاصف ..
1
*****
عاصف وهو يحمل سرابي ويركض بها نحو البيت :
- سأطمئن عليك عند روزانا ثم أعود لمساعدة تاج وتارا
- سوف تكونان بخير لا تعد إليهما !!
- لست أنا الذي يترك أصدقاءه خلف ظهره ويهرب
- أعرف لكن أخاف عليك من الاشتباك في تلك المعركة !!
2
وهو لا يزال يحملها بين يديه وينعطف بها يميناً :
- وفري خوفكِ للوقت الذي تبدأ فيه القتال ضد ناب الفيل !!
- وهل ستشارك معهم في القتال ؟!
- وهل كنتِ تظنين أنني سأقف متفرجاً بينما يأخذ الآخرون بثأري ؟!
صحت قليلا وكأنها كانت مترددة في إخباره بالأمر الذي تفكر به :
- سأخبرك بشيء عن تاج عندما نصل للبيت - قالت متشجعة .
- أعرف ما الذي ستقولينه لي
- حقاً تعرف ؟!
- أنكِ تتساءلين لماذا كانت غاضبة بشأنك قبل قليل ؟!
- هناك شيء آخر - ترددت قليلاً ، ثم باحت :
- أظن أنها هي المرأة التي - يبدو رأيتها تطلـ ..
كادت أن تخبره بأن تاج هي تلك المرأة التي رأتها تطلق السهم من عند النافذة وتقوم بقتل والده ، ولكنها قبل أن تكشف له عن السر كانت هناك قذيفة قوية قد وجهت لرأس عاصف من الخلف، جعلته يفقد توازنه ويسقط أرضاً .. لم يلتفت ليرى مصدر الضربة، بل قفز نحو سرابي ليتحقق من أنها بخير قال لها وهو يجد صعوبة في البقاء متوازناً :
- هل تأذيتٓ ؟!
رفعت رأسها لتخبره أنها بخير ، ولكنها ما كادت تنظر باتجاهه حتى صاحت :
- انتبه خلفك !!
لم يتمكن عاصف من الألتفاف فقد أصابته قذيفة أخرى في الجزء الخلفي من رأسه، جعلته يسقط فاقداً وعيه ..
تشجعت سرابي وراحت تهاجم مراقب وحدها ولكنه استطاع بكل سهولة أن يطبق عليها من عند عنقها ويرفعها عالياّ ساداّ عليها بقبضته مجرى التنفس ..
حاولت أن تستنجد بعاصف ولكنه كان لا يزال فاقداّ الوعي ولم ينتبه عليها وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة ..
3
معلقة في الهواء بواسطة ذراع المارد مراقب تحاول تخليص عنقها من حصار قبضة يده ولكن من غير فائدة ..
حركت بؤبؤي عينيها لتنظر نحو عاصف الممدد أرضاً مدت إليه بدا وكأنها تريد لمسه لآخر مره في حياتها ، ولكن يدها كانت أقصر بكثير من أن تصل إلى وجهتها .. أغمضت عينيها استعداداً للرحيل قرات في الظلام أمها فيروز وهي نظر إليها مبتسمة وتقول :
- لقد اشتقت إليكِ يا ابنتي
- وأنا أيضا اشتقت إليك يا أمي
- تعالي معي قالت ذلك ثم أمسكتها من يدها وسارت بها في فضاء مظلم ينتهي ببقعة ضوء بيضاء تشبه بقعة ضوء صغيرة في نهاية نفق مظلم
14
- إلى أين؟!
- حيث أصبحت أسكن ..
لكن قبل أن تبتعد الأثنتان كثيراً ، توقفت سرابي لحظة وكأنها تذكرت أمراً مهما قالت وهي تفلت يد أمها :
- لحظة أريد أن أقول لعاصف شيئاً قبل أن أذهب معك !!
فتحت عينيها بصعوبة وهي لا تزال معلقة في الهواء بواسطة ذراع المارد مراقب ..
كان جسدها قد أصبح عاجزاً تماماً بسبب نقص الأكسجين ولا طاقة فيه لمزيد من المقاومة، كل ما استطاعت فعله هو أن تعيد تحريك بؤبؤي عينيها نحو عاصف وتقول له بصوت مختنق :
- أحب .. أحبك عاصف أنا أحبك !!
7
وفي تلك اللحظة فقط فتح عينيه وكأن تلك الكلمة استطاعت أن توقظه من سباته العميق ..
8
اختفى من مكانه ليظهر فجأة خلف المارد مراقب غرس أنيابه السيفية في عنقه مما جعله يفلت سرابي من قبضة يده ..
أشتبك الأثنان في معركة ضارية كان فيها عاصف أقوى بكثير من أي مرة خاض فيها نزالاً من قبل ، ورغم ذلك إلا أنه لم يتمكن من إيقاف مراقب واستمرت المعركة بينهما لبعض الوقت حتى جاءت تاج – دعه لي يا عاصف
– قالت وهي تأخذ مكانه في القتال .
تنحى عاصف جانباً وذهب ليري سرابي التي كانت ممددة أرضاً لا تتحرك قام بهزها من كتفها ولكن دون فائدة ، همس لها عند أذنها بهدوء كما لو أنه يحاول إقناعها بشيء ما : «سرابي لا تموتي !!» ولكنها لم تستجب، فأمسك رأسها بكلتا يديه وصاح :
- أرجوك لا تذهبي قولي شيئاً سرابي، سرابي، سرابي !!
اقتربت منه تارا وقالت :
- أعطها قبلة الحياة
10
- ماذا
- يجب أن يصل الهواء إلى أعضائها الداخلية وإلا فستفقدها !!
شعر عاصف بالغرابة وهو يسمع ذلك الكلام قالت تارا :
- ستموت الفتاة بسرعة انفخ في فمها !!
وضع شفتيه على شفتي سرابي أغمض عينيه بسبب الخجل ربما، وجعل ينفخ الهواء ببطء في فمها
2
- لمرة .. ولمرتين .. ولثلاث مرات
- حتى بدأ صدرها في التحرك ارتفاعاً وانخفاضاً
«هذا يكفي» قالت تارا، ولكن عاصف لم يكتفي وظلت شفتاه ملتصقتين بشفتيها ..
- عاصف هذا يكفي - كررت تارا، ولكنه لم يتوقف، فصاحت تاج عليه بعد أن انتهت من أمر المارد مراقب:
- هذا يكفي أيها الأحمق لقد أصبحت فتاتك بخير !!
2
فتحت سرايي عينيها بعد أن بدأت تستعيد وعيها :
- ما الذي حدث ؟!
قال وهو يحتضنها :
- لقد ظننت أنني سأخسرك
أجابت وهي تلف يداً على عنقه :
- لن تخسرني أبداً
2
قالت تاج بنبرة صوت تدل على أنها
ليست راضية عما يحدث :
- هل تريدان منا أن نغادر لنفسح لكما المجال أكثر ؟!
22
شعرت سرابي بالخجل فحررت عنق
عاصف بينما قالت تارا :
- يجب أن يأتي جيش الأباطرة في أسرع وقت فالأخبار لن تلبث طويلاً حتى تصل طاغين ، وحينها سيأمر كل جيوشه ضدنا
سأل عاصف :
- أين تتوقعين أن تكون المعركة يا تارا ؟؟
- أظن أنها ستكون هنا في قرية الحساسة – ثم سألت :
- هل ستشارك قبائل الأشاوس معنا ؟!
- لا أعلم فالحكيم وإكليل لم يعودا من هناك بعد !!
علقت تاج :
- سنحتاج لمعجزة حقيقية لتنتصر في حال امتنعت قبائل الأشاوس عن المشاركة
بدأ عاصف بالتوتر من ذلك الكلام فقد اقترب موعد المعركة فعلاً ولم يرجع إكليل والحكيم من هناك بعد ، ماذا سيحدث له ولحلفائه إن كانوا أقل قوة وقدرة من المواجهة ؟!..
1
أمسكت سرابي يده وقالت :
- لا تقلق كل شيء سيكون بخير !!
لم يعلق وسار بصمت وشرود نحو بيوت قرية الجساسة
- إلى أين - سألت
- لإخلاء القرية من السكان يجب أن نقلص خسائرنا بأكبر قدر ممكن
نهضت سرابي المتعبة وسارت خلفه تتبعه باذلة جهداً كبيرا في التوازن :
- مهلا سآتي معك ..
تساءلت تارا بلطف :
- إنها تحبه كثيراً أليس كذلك يا تاج ؟!
- أعدك بأن لا يستمر هذا الحب طويلاً !!
27
التفتت تارا نحوها وتساءلت بقلق :
- ما الذي تخططين لفعله هذه المرة ؟!
11
- لا شيء - قالت تاج وصمتت ..

11
........
« أنتهى »
« وقت الموت »

قاد جبار جيش الأباطرة من خلال البوابة التي فتحتها لهم الشيطانة روزانا وبدأ المقاتلون في التدفق إلى أرض الجساسة ممتطين صهوات خيول الحرب المجنحة ، واحتاج الجيش وقتاً طويلاً حتى استطاع العبور بشكل كامل لتصبح القرية لاحقاً أشبه بخلية نحل حية ..
3
قامت خيزران بتوزيع الجيش إلى خمسة أقسام رئيسية :
- رأس وميمنة وميسرة وقلب ومؤخرة
9
وكانت تردد بصوت عالٍ ، من  وقت لآخر بينما تقوم بإنزال القوات منازلها :
« لا تتوقف عن القتال، حتى تسقط أرضاً وتموت !!»
والمقاتلون كلهم من غير استثناء يرددون خلفها :
- لا نتوقف عن القتال، حتى نسقط أرضاً ونموت !!
أما جبار فقد كان طوال الوقت يحاول تجنب لقاء زوجته تاج ، ويحاول كلما صادفها في طريق أن يذهب من طريق آخر ولكن في إحدى المرات قالت له تاج قبل أن يستدير ويصد عنها :
- متى ستعترف بأنك كنت مخطئاً في الحكم علي يا جبار ؟!
التفت إليها وقال كمن يعتذر :
- طاغين آلمني كثيراً يا تاج
- ولماذا تعاقبني بذنب غيري ؟!
- ألم تكوني أنتِ من كان يخبرني بأنه لا يسعى للأنقلاب ضدي ؟!
- لقد كنت ضحية مثلك وقد كذب علي أخي طاغين مثل ما كذب عليك - ثم أضافت وهي تحني رأسها احتراماً وتقديراً وتكمل حديثها بنبرة صادقة :
- ولكن انظر إلى اليوم يا مولاي، أنا في صفوف جندك استعد التضحية بنفسي من أجل أن تستعيد ملكك وعرشك
أومأ لها برأسه دليلاً على رضاه ثم همس :
- بعد أن نستعيد الملك نعود للعيش في جزيرة الأرباب حيث قصر مملكة أبابيل مثلما كنا فيها مضى - ثم أضاف مداعباً وهو يربت على شعرها : وربما نرزق بمولود ذكر يكون نائباً لعرش أبيه ..
20
شعرت بالكثير من السعادة لسماعها ذلك الخبر وابتسمت مثل طفلة يخبرها والدها بأنه سيقوم باصطحابها للسوق لشراء الحلوى بعد الانتهاء اداء واجباتها اليومية، قالت بأمل :
5
- هل تظن أن أساطير قد يعود عندما يصله خبر استعادتك الملك ؟!
- ذلك الولد العاق - قال جبار، ثم بغضب :
- ما حاجتي به في الرخاء إن لم يكن عوناً لي في الشدة ؟!
قام عاصف بإدخال سرابي الغرفة القديمة التي كان ينام فيها مع أمه :
- ستبقين هنا ريثما تنتهي هذه الحرب !!
- ولكن الجميع سيشاركون معك لماذا أنا الوحيدة التي لن تساعدك ؟!
2
أمسك رأسها بكلتا يديه وقال :
- بقاؤك بأمان لهو أكبر مساعدة قد تقدمينها لي لذا أرجوك كوني بخير !!
- وأنت - قالت برجاء - هل تعدني أن تكون بخير ؟!
- لا أستطيع أن أعدك بذلك !!
- لماذا تقول هذا ؟!
- إنها حرب كبيرة تلك التي نستعد لخوضها ولا أحد يستطيع أن يضمن الخروج منها

- كنت على الأقل تستطيع أن تقدم لي وعداً زائفاً بالعودة بدلاً من هذا الكلام المخيف !!
- لم أعتد على تقديم وعود زائفة - ثم أردف : هل ستصغين لطلبي ؟!
لم تكن راضية ولكنها في الأخير أومأت برأسها موافقة ، ثم وقبل أن يغادرها ليأخذ مكانه في الجيش أطال النظر إلى عينيها اللامعين مثل بحيرة صافية ، والقلقتين مثل عيني سنجاب مرعوب ، تأمل تفاصيل وجهها الجميل كما لو أنه يريد الاحتفاظ له بنسخة من ملامحها في ادراج ذاكرته فيظل يتذکرها دائماً حتى لو انه مات في المعركة ..
طبع قبلة على جبينها ثم قال :
- أحبكِ
1
صمت ينظر إليها معتقداً أنها قد تبادله تلك الكلمة ولكنه كان مخطئاً
- سانتظرك حتى تعود من حربك سليماً حتى أقولها لك
- قالت برجاء .
- أعدك إذاً بأن أبذل قصارى جهدي حتى أعود إليكِ - قال بشغف .
1
لم تشرق شمس اليوم التالي حتى جاءت عيون الأباطرة تسعى من أقاصي قرية الجساسة ، تنقل إليهم الأخبار بأقتراب جيش الأعداء :
- سيدي جبار إن طاغين يقود جيشاً ضارياً باتجاهنا ، إنهم كثر ولم يسبق أن شاهدنا جيوشاً بتلك الضخامة والعناد من قبل !!
التفت جبار نحو عاصف :
- لماذا تأخرت قبائل الأشاوس عن الوصول ؟!
- لا أعرف - أجاب بحيرة - لم يصلنا ردهم بعد !!
-  لم يصلك ماذا ؟! – قال مصعوقاً، وأضاف: هل هذا يعني أنك لا تعرف إن كانوا سيشاركون معنا أم لا ؟!
لم يجب وظل صامتاً فصرخ عليه جده
- أجبني لعنتك الآلهة !!
- لقد أرسلت لطلب التحالف معهم ولكن لم يصلني ردهم بعد !!
- ولماذا أخبرتنا بأنك قد حصلت بالفعل على موافقتهم هل كنت تكذب ؟!
- ظنت أنني سأحصل عليها !!
- كنت ؟! هل تعتقد أن الحرب دعابة أيها المتهور لتقول ظننت ؟! تجعلني أشارك بكل أفراد العائلة ، ثم تقول بأنك ظننت ؟! أي قائد حرب أبلة أنت ؟! لقد ساندتك بالجميع حتى إنني أحضرت النساء للمشاركة ..
ستقضي علينا أيها المتهور !!
تدخلت الوزيرة :
- دعنا ننسحب يا مولاي ما زال أمامنا متسع من الوقت !!
- لن نستطيع يا خيزران يلزمنا الكثير من الوقت حتى ينسحب كامل الجيش ، وقد يصل طاغين في أي لحظة وحينها ستكون فرصة سهلة بالنسبة له لكي يقتل الذين لم يتمكنوا من الانسحاب
- ننجو يبعضنا أفضل من أن نهلك جميعاً يا سيدي !!
- لقد تبعوني إلى هنا لأنهم يثقون بي – ثم تابع بحسم : ولن أهرب واترك خلفي واحداً من أفراد العائلة يواجه الموت وحده !!
- ماذا ستفعل إذاً ؟؟
- لا خيار أمامنا غير الحرب - قال جبار ثم ضرب خاصرة حصانة بقدم ليخفق الحصان بأجنحته ويرتفع عالياً عن الأرض، ثم هتف ملوحاً بقبضة يده  الضخمة وهو ينظر نحو أفراد جيشه « النصر للأباطرة » فردد جميع المقاتلين خلفه : «النصر للأباطرة »
لم يمضي وقت طويل حتى بدأ الجميع يسمعون رفرفة أجنحة في الهواء قادمة من البعيد جعلت الأرض تهتز من تحت أقدامهم، وعندما نظروا باتجاه الأفق شاهدوا في الهواء جيشاً استطاعت مقدمته فقط أن تحجب نجم الشمس من السماء :
- لقد وصل الموت .
6
.......
« أنتهى »
« الحرب .. » !!


أصطف الجيشان بعضهما مقابل بعض وقد كانت جيوش طاغين وحلفائه من الممالك المجاورة ، تفوق بكثير الأعداد المتواضعة لجيش الأباطرة اقتربت ساعة البدء إذا وبدأت الهزيمة تطوف فوق الرؤوس كتب طاغين رسالة ختمها بختم مملكة ابابیل وكلف رسولاً يحملها ..
سار الرسول مقترباً حتى توقف على مقربة من جيش الأباطرة ثم صات بطريقة مستقرة وهو يلوح برفعة الجلد :
- جئت احمل رسالة من جلالة الملك إلى المدعو جبار الأباطرة
كانت تلك الإهانة بالنسبة لجبار تعني بداية الحرب ..
تقدم نحو الرسول فوق صهوة حصان الحرب المجنح :
- ماذا لديك ؟!
همس الرسول وهو يمد إليه رقعة الجلد المطوية :
- جئت أحمل إليك ولأفراد عائلتك الحياة !!
فتح رقعة الجلد المطوية وقرأ ما جاء فيها :
« سلم لنا عاصف » تنتهي هذه الحرب، كانت صفقة بسيطة وسهلة وقد جاءت في التوقيت الصحيح ولكنها وصلت ليد الشخص الخطأ، فصحيح أن التقدم في العمر جعل جبار الأباطرة أكثر ميلاً للسلام والرخاء والهدوء، وبات في مقدوره تقديم تنازلات كثيرة مقابل حياة آمنة له ولأفراد عائلته ولكن التقدم بالعمر لم يصل به بعد لأن يصبح نذل ..
طوى رقعة الجلد بعد أن فرغ من قراءة ما جاء فيها، وأرسل نظرة خاطفة نحو طاغين المتحصن خلف جنوده .. المبتسم الواثق من نجاح صفقته ثم نظر نحو الرسول وتمتم :
- بل جئت تحمل إلينا الذل والعار
ثم فجأه رفع قبضته الضخمة عالياً وهتف :
- النصر للأباطرة
وقام بقطع رأس الرسول معلناً بذلك اندلاع الحرب !!
5
*****
اشتبك الجيشان في ملحمة كبرى كانت تعني لكلا الطرفين البقاء أو الفناء ، لم يشارك طاغين في القتال وظل متحصناً خلف جوقة من خيرة ساحراته المقاتلات يراقب بثقة أحداث سير المعركة، بينما كان جبار في  الطرف الآخر يحارب بكل ما يستطيع من قوة ..
أبلت تاج و تارا بلاء حسناً هذه المرة أيضاً كثنائي لا يقهر في القتال معاً ، أما عاصف فإنه كان يحارب بكل بسالة، وهو يشق طريقه نحو الأمام متجهاً لقلب جيش العدو .
كانت المعركة تسير بشكل غير متكافئ تقريباً
-بل غير متكافئ نهائياً - فقد كانت الكفة ترجح دائماً لمصلحة طاغين وحلفائه - فبالإضافة للقوة الكاسحة - كان تعداد جيشه كبيراً جداً للحد الذي يهجم فيه أحياناً عشرة من جنوده أو أكثر ، على فرد واحد فقط من مقاتلي جيش الأباطرة .
رغم الهزيمة الساحقة التي كانت ستلحق بعاصف وحلفائه عاجلاً أم آجلاً إلا أنهم لم يستسلموا وواصلوا القتال بكل شجاعة ..
لاحظ جبار حفيده المتهور ، وهو يقاتل شاقاً طريقه لقلب جيش الخصم فعرف الخطة التي يفكر بها ..
زحف مقترباً منه وصات عليه قائلاً :
- إلى أين تخال نفسك ذاهباً أيها المتهور ؟!
قال عاصف وهو مستمر في القتال :
- لإنهاء هذه الحرب !!
- وكيف ستقوم بإنهائها ؟؟
- بقتل طاغين !!
- وهل تظن أن قتله سيكون بهذه البساطة ؟!
- لا أعرف ولكني سأخبرك بعد أن أجرب !!
5
- هل ترا الساحرات اللاتي يصطفون حوله ؟!
إن أضعف ساحرة منهن تستطيع أن تهزمك بسهولة !!
3
- يجب ان يقوم أحدنا بقتله لأننا إن لم نفعل سنهلك جميعاً !!
اقتربت منهما خيزران قاطعه عليهما الجدل تنقل إليهما تقرير سير المعركة :
- بدأ جيش طاغین يطوقنا من الجهة اليمنى !!
- مصيبة - قال جبار - لو استطاع جیشه تطويقنا فستكون هزيمتنا ساحقة !!
سأل عاصف الذي لم تكن لديه خبرة في إدارة المعارك :
- ماذا تقترحين أن نفعل يا خیزران ؟!
- يجب أن تجد طريقة لنكسير بها ذلك الطوق قبل أن يتمدد ويلتف على کامل جيشنا !!
صحيح أن جبار كان يقاتل بشراسة منذ بداية المعركة غير انه أيضاً كان يحاول أن يبقي نفسه آمناً قدر المستطاع وذلك لكي يصبح في مقدوره تسلم الملك في حال حدثت المعجزة وأنتصروا ..
ولكنه الآن يدرك أن الهزيمة ستلخق بأفراد عائلتة إن لم يتصرف بسرعة وينقذ الموقف ، نظر نحو خيزران وقال :
- احمي ظهري !!
- ماذا ستفعل !؟
- سأكسر الطوق قبل أن يتمدد
- هذه ليست فكرة جيدة يا سيدي
- لو لم أفعلها فسيموت الجميع ولن ينجو منا أحد !!
- في جميع الأحوال سنموت جميعاً .. فلتبقى أنت لآخر المعركة
- لكي أموت مرتين ؟!
مرة بالحزن على موت الجميع ومرة على يد طاغين
كادت خیزران تقول شيئاً ولكن جبار أسكتها :
- إنه آخر طلب أطلبه منكِ احمي ظهري !!
قال ذلك ثم ركل خاصرة حصان الحرب المجنح بكعيبي قدميه، وانطلق نحو ذراع الطوق الأيمن لجيش العدو ..
وما هي إلا لحظات حتى نجح وحده في إيقاف زحفهم عن التقدم وجعل يجندلهم واحدًا تلو الآخر انتبهت تاج لذلك فصعقت :
- ما الذي يفعله جبار هناك ؟!
- لقد حاولت منعه - قالت خيزران .
- يجب أن نخرجه - تمتمت بينها وبين نفسهت ثم نظرت نحو تارا وهتفت :
- أستعدي سوف نقدم المساعدة لجبار !!
- لا - قالت تارا بشكل قاطع - يجب علينا أن لا نترك أماكننا فبهذه الطريقة سوف تعم الفوضى ويجد الأعداء ثغرة في قلب جيشنا ليهجموا علينا من خلالها !!
- فليذهب جيشنا للبراز المهم هو أن لا يموت جبار !!
5
فقالت خيزران متدخلة :
- التزمي بمكانك يا تاج !!
2
- هل وصل بك الحمق لتصدري لي أمراً يا خيزران ، هل نسيتي من أنا ؟!
3
- لم أنسى ولكن أتمنى أن لا تنسي أنتِ أيضاً أن سلامة الجيش وأفراده مسؤوليتي !!
- ولماذا لم تمنعي جبار من الذهاب إلى هناك ؟!
- لقد عصى أمري وذهب !!
- تفرجي على إذا وأنا أعصي أمرك وأذهب !!
كادت تاج تذهب، ولكن تارا أوقفتها :
- لن يكون جبار مسروراً وهو يراك إلى جانبه !!
- ولكنه سيموت إن لم نقدم له المساعدة !!
- لقد اختار مصيره !!
- أنا سأذهب - قال عاصف متدخلاً .
- لا - منعته خيزران - سقوطك أنت وسيدي جبار في وقت واحد يعني سقوط الجيش بأكمله !!
لم يتمكن أحد من الذهاب لمساندة جبار وبقي وحيداً
يصد بمهارة عاليه كل من يحاول الوقوف بوجهه ، قتل الكثير - الكثير - منهم حتى أن - جرمي - وزير حرب الملك طاغين لم يتمكن من الصمود أمامه لدقائق معدودة، وهو الذي كان يعد واحداً  من أشد المقاتلين بأساً وقوة وعندما طفح الكيل وأصبح وجود جبار هناك يشكل عائقاً حقيقياً فإن طاغين قام باستدعاء عميدة
قرية الساحرات شواهر وقال :
- جبار لن يموت إلا غدراً .
5
فأومات له برأسها وذهبت .

.......
+
« أنتهى »
« أنتصار »

كان الجميع منشغلين بالقتال عندما سمعوا صيحة كانت النفخ في الصور ، وعندما التفتوا نحو مصدرها شاهدوا جبار وقد اخترق ظهره رمح طويل مُسنن أسود اللون يشتعل رأسه بلهب بنفسجي وقد نفذ من الجهة الأخرى لجسده ..
7
وبالرغم من أن تلك الضربة كانت القاضية إلا أنه لم يسقط وظل يحارب بعدها أيضاً ، غير أنه كان من الواضح جداً للجميع أن دفاعاته انخفضت لحد كبير ، وأنه لن يصمد كثيراً حتى يسقط وينتهي !!
1
كان الموقف يتطلب تدخلاً سريعاً لتحسين الروح المعنوية لمقاتلي الأباطرة ، فمنظر كبيرهم جبار وذلك الرمح المشتعل رأسه بلهب بنفسجي مغروس بجسده قد نجح في إحباط معنويات الجيش القتالية وبث الرعب في قلوبهم حتى إن تاج – وهي تاج - لم تفعل شيئاً عدا أنها اكتفت بالسقوط أرضاً على ركبتيها من هول الفاجعة ، وأمسكت رأسها بكلتا يديها ثم همست بصوت منخفض : « جبار ؟! » الوحيد الذي لم يقف مكتوف اليدين هو عاصف، فقد قذف بنفسه بكل تهور للمكان الذي يقف فيه جده ، من غير ان يحسب حساباً للعواقب تكالبت الأعداء عليه ولكنه استطاع بأستخدام الحقد المتفجر في قلبه أن يقف في وجههم لبعض الوقت متحدياً
1
- ما الذي جاء بك أيها المتهور - سأل بصوت مرهق .
- لكي أخرجك من هنا !!
- اتركني واذهب ، أستطيع أن أحمي ظهرك لبعض الوقت هيا !!
- لن أترك لهم شرف قتلك - قال عاصف بعناد
- ذلك الفتى - همست خیزران بأستياء تحادث نفسها وهي تشاهد عاصف يقذف نفسه للتهلكه - تلفتت حولها وكأنها تبحث عن حل لإخراجه من هناك ، هتفت منادية :
- أيتها الشيطانة روزانا !!
جائت الشيطانة روزانا تلبي النداء :
- سيدتي؟!
- أذهبي لتأمين خروج آمن العاصف وسيدك جبار
- أمرك قفزت الشيطانة لحزام الموت من أجل محاولة تأمين الخروج الآمن لهما ..
وفعلاً نجحت الخطة لحد كبير فقد تمكنت من مشاغلة الأعداء لبعض الوقت ، ريثما يقوم عاصف بإخراج جده المصاب من تلك المنطقة ولكن قبل أن تكتمل خطة الخروج الآمن ويشكل نهائي امسكت الساحرة شواهر رمحاً آخر كان رأسه مشتعلاً بنار بنفسجية وبدأت في تصويبه نحو هدفها الثاني ...
انتبهت إليها الوزيرة خيزران ولكنها لم تتمكن من صنع شيء، فقد كانت الأخرى منشغلة في صد الأعداء ، وكل ما استطاعت فعله في تلك اللحضة أنها تمنت من كل قلبها أن يحدث شيء - أي شيء - يمنع ذلك الرمح من إصابة عاصف ..
2
أرجعت الساحرة شواهر يدها الممسكة بالرمح للوراء بقدر ما تستطيع حتى يكون اندفاعه قاتلاً ، أغمضت عيناً وصوبت بالعين الأخرى على الهدف عضت على لسانها مستخدمة لثتها الخالية من الأسنان ، أخذت نفساً عميقاً بواسطة أنفها الكبير ثم وقبل أن تقذف الرمح ذاك باتجاه عاصف، حدث شيء ما لم يكن أحد يتوقع حدوثه ..
فقد اندلعت فجأة من السماء نار حارقة قضت دفعة واحدة على الساحرة شواهر ..
2
نظر الجميع لمصدر اللهب فشاهدوا طائراً ضخماً أحمر اللون له من جناحان طويلان وذيل يشبه ذيل الطاووس، وكان يستريح على متنه فأر يمتلك لحية طويلة تشبه لحية عنز فحل :

- يا سلام رائحة شواء لذيذ - قال الحكيم وهو يستنشق رائحة الحريق المنبعثة من جسد الساحرة شواهر المتفحم والملقى أرضاً ، ثم أضاف وهو ينظر نحو الجثث التي ملأت ساحة المعركة :
- يبدو أننا تأخرنا كثيراً عن الاحتفال !!
19
*****
صحیح ان عاصف، كان مفجوعاً بسبب الإصابة التي تعرض لها جده ولكنه لم يستطع منع نفسه من أن يبتسم عندما شاهد أخيراً صديقيه إكليل والحكيم واطمأن إلى أنهما بخير ، كما أنه لم يستطع أيضاً إخفاء انبهاره عندما نظر للبعيد وشاهد قبائل القناطير التي تغطي بأعدادها الضخمة مغرب السماء ومشرقها وهم يحلقون بأجنحتهم خلف أميرتهم آشاس في استعراض عسكري مهيب !!
11
انشق أحد القناطير عن السرب وراح يحلق مقترباً من النقطة التي يقف فيها عاصف ، ثم وبعد قليل تبين أن هناك كائناً بشرياً أسود اللون يجلس على متنه ، ورغم أن الكائن ذلك كان يمتلك طولاً وعرضاً لا ينبغي لمخلوق بشري أن يمتلكهما ، إلا أنه بدا ضئيلاً جداً وهو يستريح فوق جذع القنطور ..
أبتسم كاشفاً عن أسنان ناصعة البياض بينها من واحدة ذهبية اللون، وقال بلطف كأنه بلاعب طفلاً صغيراً :
- لا تزالين حمقاء أيتها القملة الصغيرة المزعجة !!
6
فقال عاصف بأمتنان ودموع الفرح تتسلق حباله الصوتية :
- خفت أن لا تأتي !!
- الرجل الأسود لا يتخلى عن صديقه - ثم ذهب ليأخذ مكانه . 
15
أحدثت تلك التعزيزات فرقاً كبيراً في ميزان المعركة ، فقد بدأت قوات طاغين وحلفائه تنحسر وتتراجع للوراء ، بعد أن كانت تزحف متقدمة نحو الأمام من غير أن يستطيع أحد إيقافها ..
هتف عاصف يحادث الحكيم الذي كان يجلس على متن إكليل :
- أريدك أن تذهب للبقاء بجوار سرابي
1
- لن اذهب لمكان سأبقى لأحارب معك
- ولكنك لن تستطيع فعل شيء هنا فأنت لست إلا فــــ ...
صمت مستدركاً فداحة خطئه ، ففقز الحكيم من فوق ظهر إكليل واستقر علی کتف عاصف وهمس :
- سيكون من دواعي سروري ان اخبرك لاحقاً في مكان من جسدك سيدخل هذا الفأر أيها الأبله !!
4
- لم أكن أقصد - قال معتذراً – لا تغضب مني !!
- هذا ليس وقتاً أغضب فيه منك - وأضاف : سأبقى لأقاتل معك
- ولكنك لن تستطيع بجسدك هذا أن تفعل شيئاً !!
- على الأقل أستطيع أن أكون عينيك الخلفيتين !!
*****
شيئاً فشيئاً بدأ حلفاء طاغين في الانسحاب من أرض المعركة عندما بدؤوا يدركون الخسارة، وربما هذه الثغرات التي تسبب فيها انسحاب الحلفاء هي ماساعدت مقاتلي الأباطرة وقبائل الأشاوس على تطويق جيش الأعدتء وضربهم  في وقت واحد ومن جميع الأتجاهات لم يمضي الكثير من الوقت حتى بانت الهزيمة وشيكة على طاغين خصوصاً بعد أن انسحب حلفاءه ومات أكثر من نصف تعداد جيشه ، ونخفضت معنويات النصف الآخر لمستويات متدنية ..
ثم وعندما أصبحت الهزيمة شيئاً لا مفر منه، فإنه أعطى أمرا لجوقة ساحراته بأن يأخذنه بعيداً عن ساحة القتال ..
وبعد أن بات النصر أكيداً لعاصف وحلفائه رأت تاج أن مغادرتها موقعها لن تؤثر كثيراً على سير المحركة وهكذا فإنها انسحبت تدريجياً من هناك ذاهبة لمكان آخر ، وكانت في انسحابها حريصة كل الحرص على أن لا ينتبة إليها أحد ..
5
وفعلاً لم ينتبه إليها أحد – أو هكذا ظلت هي ــ غير أنها بالتأكيد كانت مخطئة في ظنونها فبعد أن غادرت أرض المعركة ، زحفت تارا نحو الموقع الذي كان يقاتل فيه عاصف ، وقالت تحادثه :
- أريدك في أمر مهم !!
- تكلمي
- ليس هنا - وأضافت بثبات فلنذهب لمكان آمن تقهقر عاصف والحكيم وإكليل من مواقعهم وذهبو خلفها
1
سال عاصف :
- ماذا هناك؟!
- لماذا جاءا معك؟! - قالت تنظر بأتجاه الحكيم وإكليل، ثم أردفت:
- أريدك على انفراد
قال عاصف :
- تكلمي ليس هنالك أحد غريب أنا لا أخبئ عنهما شيئاً.
قالت تارا بثيرة تشي بأقتراب مصيبة :
- تاج !!
- ما بها؟!
صمتت قليلاً وامتد صمتها ذاك أكثر من الحد المسموح به في مثل هذه المواقف ، كانت تنظر طوال الوقت لعيني عاصف كما لو أنها تحاول معرفة إذا ما كان الوقت سيكون مناسباً لقول السر الذي ائتمنتها عليه جومانا أم لا ..
- أسمعك - قال عاصف بنفاد صبر - ما بها تاج ؟!
قالت تارا أخيراً :
- منذ وقت طويل .. طويل جداً .. كان هناك طفل صغير وأم تحبه .. تحبه جداً ، كانا يعيشان في كوخ بعيد بعيد جداً ، ذات يوم رحلت تلك الأم عن ابنها الصغير وتركت له عند صديقتها سراً خطيراً ، خطيراً جداً
- ثم أضافت :
- ألا تعني لك هذه الأحجية شيئاً ؟!
تذكر عاصف تلك الكلمات التي قالتها له أمه في الليلة ذاتها التي ماتت :
- أذكرها ولكن كيف وصلت لك وكيف عرفت بشأنها ؟!
- أنا هي الصديقة التي تركت أمك عندها ذلك السر الخطير جداً !!
- ماذا تعنين ؟!
وهنا قالت تارا :
- لقد حان الوقت يا عاصف لتعرف كل شيء

12
........
+
« أنتهى »
« ثأر مزيف » !!

ذهبت تاج نحو البيت الذي تختبئ فيه سرابي أتجهت مباشرة نحو الغرفة التي سابقاً كانت جومانا تنام فيها هي وطفلها ، فهو المكان الوحيد في العالم الذي قد يخبئ عاصف في اشد أغراضة الثمينة ...
1
أزالت اللحاف من فوق الأرضيه فوجدتها هناك مكومة حول نفسها مثل قنفذ تنظر إليها بعينين ممتلئتين بالرجاء والخوف :
- هل انتهت الحرب - سألت سرابي - هل عاصف بخير؟
- لن يكون بخير إلا إذا أختفيت انتِ .
4
- ما الذي تعنيه
يجب أن يتزوج عاصف من إحدى فتيات الأباطرة حتى يصحح الخطأ الذي اقترفته والدته قبل سنين طويلة ووجودك على وجه هذه الأرض سيمنع ذلك !!
- أنه يحبني
- ومن أجل ذلك أن تختفي من هذه الحياه
1
- ولكن هذا لن يغير شيئا فعاصف سيظل يحبني حتى بعد أن أموت !!
1
- القليل من الوقت كفيل بأن يجعله ينساك نهائياً صدقيني
- لا - قالت غير مصدقة - أنت لا تعرفين عاصف !!
نظرت تاج بعين الشفقة نحوها وقالت كمن يعطف على مسكين :
- يبدو أنكِ أنتِ التي لا تعرفين الرجال يا عزيزتي، دعيني أخبرك بمعلومة صغيرة عنهم - قالت تاج ، ثم أضافت :
- إنهم مخلوقات أنانية جداً لا يحبون إلا أنفسهم ، فبعد أن تموتي لن يظل عاصف حزيناً عليك طويلاً ، بل سيقع في حب أول امرأة تفتح له قلبها فهكذا هم الرجال لا شيء ينسيهم فتاة أحبوها ، إلا فتاة أخرة يقعون في حبها ..
7
- كذب !!
اقتربت منها بخطوات تشي بشر وهي تقول :
- للأسف لن تعيشي طويلاً حتى تختبري تلك الحقيقة بنفسك !!
أحكمت سرابي الغطاء على نفسها وكأنها تتخذ من الغطاء درعاً تحتمي به ، أغمضت عينيها وانتظرت حدوث المعجزة ..
تقدمت تاج منها أكثر أخرجت من جيبها خنجراً حاداً سرقته من أحد فرسان المنظمة، عندما كانت تقاتل في أرض المعركة فقد كانت تريد أن يبدو موت سرابي كما لو أن أحد فرسان الجاثوم هو من قام بفعلها ...
8
رفعت الخنجر عالياً ثم وقبل أن تغرسه في جسدها حدثت المعجزة ، إذ حطمت تارا باب الغرفة وزحفت بسرعة بالغة حتى وقفت بوجه تاج :
- توقفي - قالت تارا.
7
بعينين سوداوين قالت تاج: 
- ما الذي جاء بك ؟!
+
- لأمنعك عن قتل المزيد من الأشخاص الخطأ !!
وجهت الخنجر نحوها وقالت :
- سأقتلك إن كان هذا ما ينقص خطتي لكي تنجح !!
5
- أعرف أنك ستفعلين أي شيء لإنجاح خطتك - قالت تارا ، ثم أضافت: أليس لهذا السبب قمتي بقتل بحر وقمتي من قبل بقتل ابنتك جومانا ؟!
1
- لا لم أقتل أبنتي جومانا - قالت تاج بثبات لتداري ارتباكها .
- بلى فعلت - أصرت تارا - كنت تعرفين أنه لا سبيل لك لأخذ ابنها ، إلا ان تتخلصي من أمه كنت تعرفين أنه هو الوحيد الذي قد ينجح بتحقيق أهدافك بالقضاء على أخيك طاغين ، وإثبات أنك لست متآمرة معه للانقلاب ضد عرش الأباطرة وبالتالي تستطيعين استعادة مكانتك في قلب زوجك جبار !!
28
- لا - نفت تاج - هذا ليس صحيحاً !!
- أنتِ تعرفين أن ما أقوله صحيح - قالت تارا - قوة الجن عقل البشر هذا هو الشيء الأخير الذي كان ينقصك لأكتمال الخطة غطيتِ جسده برماد العنقاء وهو لا يزال في غيبوبته، وأنت تعلمين جيداً بأن ذلك الشيء
الممكن أن يكون كافياً لقتله ولكنك لم تبالي بذلك ، هذا لأنك يا تاج لا تهتمين إلا بمصالحك الخاصة !!
-  ما تقولينه هو سخافات لا أساس لها من الصحة !!
أكملت تارا متجاهلة إنكارها :
كنت طوال الوقت تخدعين عاصف تقولين له بأن ناب القيل هو من قتل أمه ، وكنتِ طوال الوقت أيضاً تحاولين منعه من الوقوع في الحب، وكل ما فعلتيه أنتِ منذ البداية حتى الآن لم يكن إلا بدافع حبك لجبار
13
- ألا يحق لي أن أثبت لجبار أنني لم أساعد في الانقلاب على عرشه ألا يحق لي أن أثبت براءتي ؟!
3
- بلي يحق لك بالطبع ولكنك تجاوزت حدودك كثيراً !!
- لست أنتِ من ترسمين الحدود يا تارا !!
- لماذا تصرين على قتل الفتاة والتسبب لعاصف بصدمة لن يشفى منها طوال عمره ؟!
- إنه أحمق لا يعرف مصلحة نفسه
- دعيه يختار ما يراه مناسبًا
- يجب أن يصحح خطأ والدته !!
قالت سرابي متدخلة : 
- ولماذا يتوجب عليه تصحيح خطأ لم يقم هو بارتكابه ؟!
قالت تارا قاطعة على تاج الحق في الإجابة :
- ليس هذا هو السبب الوحيد الذي تريد قتلك من أجله يا سرابي !!
تساءلت سرابي ببراءة :
- هناك سبب آخر ؟!
- لأنك الوحيدة التي كنت شاهدة عليها وهي تقتل بحر
- ثم أضافت : وفي الحقيقة كانت تريد قتلك في ساحة البيت الداخلية تلك اللحظة، ولكنها تعلم بأن ذلك الشيء كان من الممكن التسبب في انهيار عاصف مما قد يجعله يقوم بالغاء الحرب بأكملها فقررت تأجيل التخلص منك لوقت آخر صاحت سرابي بحقد :
- أنتِ قاتلة يا تاج ، قاتلة !!
  - اخرسي - أسكتتها تاج بغضب ثم قالت تتوعدها :
- سيأتي دورك في الموت أيتها البشرية القذرة ولكن بعد أن أنتهي من القضاء على هذه الافعى التي تحب دائماً إدخال نفسها في الشؤون التي لا تخصها !!
فقالت تارا :
- أنا هنا بأمر من جومانا !!
أثارت تلك الكلمة اندهاش تاج فسألت :
- ماذا تعنين بأنك هنا بأمر من جومانا ؟!
2
تمهلت تارا قليلاً كما لو أنها تعد قدر حساء على
حرارة نار هادئة :
- ألا تريدين أن تعرفي لماذا ذهبت للقاء جومانا قبل موتها ؟!
صمتت تاج ولكن عينيها صاحت :
- أخبريني !!
- ذهبت لأخبرها عن أمر السم في تلك الجرة .. فأخبرتني جومانا بأنها ستشرب منها !!
- ما الذي تقولينه أنتِ ؟!
- تساءلت بذهول .
قالت تارا تٌسيط اللثام عن النصف الأول للحقيقة
- لقد ماتت جومانا وهي تعرف أنكِ وضعتي سمي لها في الجرة !!
- أنتِ تكذبين !!
- انظري إلى عيني يا تاج أنت تعرفين أنني أقول الحقيقة !!
- لماذا شربت من الجرة إذا إن كانت تعرف أنها ستموت ؟!
- لكي تحمي ابنها - قالت تارا - كانت تعرف أنك قد تفعلين أي شيء متهور لكي تأخذيه منها وكانت تخاف من أن تواصل منعك من أخذه فيدفعك البأس في نهاية المطاف للتخلص منها ومنه معاً !!
- كذب - قالت تاج - هذا كذب !!
ثم كشفت تارا من نصف الآخر للحقيقة عن الأحجية التي قامت جومانا بتلقينها لأبنها قبل موتها بلحظات على شكل قصة قصيرة غير مكتملة الأركان وأخبرته بأنه في يوم من الأيام هو من سيكمل الجزء الناقص منها ويصنع نهايتها بنفسه ...
- هل تريدين أن تعرفي ماذا أوصتني جومانا قبل أن تموت ؟!
- ماذا؟ - سألت لاهثة
ـ أوصتني بأن أنتظر ابنها حتى يكبر ويشتد عوده ويصبح قوياً ثم أخبره في الوقت المناسب بالحقيقة حتى يأخذ بثأره – قالت تارا، ثم أردفت : ولكن هذه المرة يأخذ بثأره من الشخص الصحيح، والذي هو أنتِ !!!
4
صاحت تاج وهي ترخي دفاعاتها تماماً وتستعد للهجوم عليها : سأقتلك قبل أن تخبريه !!
- لقد أخبرتني بكل شيء وانتهى الأمر وها أنا اليوم أصنع نهاية القصة بنفسي !!
18
قال عاصف ذلك وهو يطعن تاج من الخلف بمخالب يقطر من نهاياتها سم تارا ويضيف قائلاً :
«هذه من أجلك يا جومانا»
1
ثم طعنها بمخالب يده الثانية كان أيضاً يقطر من نهاياتها السم : «وهذه من أجلك يا بحر» ..
1
سقطت تاج على ركبتيها وهي تلتفت نحو حفيدها غير مصدقة ما يحدث ، والتي انحنى عاصف عليها وهمس في أذنها قائلاً :
- قلت لك ذات مرة بأنه لا يكفي أن توقفيني بل يجب عليك التخلص مني وإلا فسأقتلك يوماً !!
4
نظرت إليه تاج بصمت سحيق كان أبلغ من ألف كلمة عتاب ..
- آآآه يا جدتي - تمتم بصوت خفيف - علمتيني كل شيء .. كل شيء إلا شيئاً واحداً مهماً وهو أن أشد الطعنات ألماً لا تأتي إلا من أقرب الأشخاص إلينا تخيلي أنني كنت طوال الوقت أطارد ثاراً مزيفاً ، ولم أكن أعرف أن دمك هو ثأري الحقيقي اذهبي إلى الجحيم ولا تنسي أن تحجزي مكاناً هناك حتى تستقبلي فيه أخاكِ طاغين ، عندما أنتهي من حربي وأرسله مكللاً بالهزيمة إليك !!
- ويلك من جبار – قالت وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة .
- لا تقلقي .. فهو من أعطاني الأمر بقتلك .
وبعد أن ماتت تاج بلحظات صرخ الحكيم بصوت عالٍ متألماً وكأن شيئاً ما حاداً كان يقطع أجزاءه ويمزقها ..
سقط أرضاً لفرط الوجع الذي يشعر به ، ثم فجأة بدأت لحيته التي تشبه لحية عنز فحل ووبر جسده بالتساقط شيئاً فشيئاً ..
أحس الجميع بالقلق عليه ولم يعودوا يعرفوا ما الذي يحصل له أو ما الذي يستطيعون فعله أجله ، قال :
- لقد ماتت من غير أن تلغي التعويذة ويبدو أنني سأموت معها تدخلت
تارا بقلق :
- كان يجب علينا فك التعويذة عنه قبل أن نقوم بقتل تاج !!
- لا تمت - صاح عاصف وهو يشعر بالذنب - إياك أن نموت !!
قال الحكيم :
- سامحني على كل مرة كدت أن أخذلك فيها !!
وعاصف يعض شفتيه ويغالب دموعه :
- أسامحك بالتأكيد !!
والحكيم ينظر نحة إكليل :
- وأنت سامحني على كل كلمة جرحتك فيها بلساني أيها الأبله !! إ
كليل وهو يكتشف للتو مدى حبه للحكيم :
- أسامحك !!
ثم نظر نحو سرابي :
- أنتِ أيضاً سامحيني فقد كنت طوال الوقت أتخيلك في رأسي ترقصين لي ، وتقولين ما رأيك برقصي أيها الحكيم
18
- وعندما لاحظ ردة فعلها التي تدل على أنها غير راضية، فإنه قال : سامحيني فأنت لا تعرفين إلى أي مدى قد تصبح فيه عقول الرجال فاسدة أحياناً !!
- أسامحك - قالت .
- فلتسامحوني، ولترأف السماء بحالي !!
قال ذلك ثم أغمض عينيه وتوقف صدره عن الحركة ..
15
نظر إليه الجميع بحزن بالغ، لقد فقدوا صديقاً عزيزاً عليهم وشخصاً طيب القلب رغم بذاءة لسانه :
- الوداع أيها الحكيم - قالوا جميعاً ...
3
ثم ما هي إلا لحظات قلية بعد ذلك حتى جاءت سحابة بيضاء تشبه رغوة حليب ساخن غطت جسد الفار وبدأت تلك السحابة في التوسع والتضخم والاستطالة حتى إنها أصبحت تغطي نصف مساحة الغرفة ، وعندما بدأت تلك السحابة أخيراً في الانقشاع ظهر لهم جسد رجل بشري طويل ونحيل مثل ساق قصب سكر لديه شعر منفوش غير مصنف يجعل منظره العام أشبه بمكنسة أوساخ ..
لديه لحية تشبه لحية عنز فحل ، وكان شاربه الحليق هو الأمر الذي أكسب أنفه بروزاً متقدماً ..
قالت تارا مندهشة :
- لقد زالت عنه التعويذة
همس عاصف :
- أيها الحكيم هل تسمعني ؟!
رمش بعينيه لعدة مرات قبل أن يفتحهما غير مصدق بأنه لا يزال حياً نظر إلى يديه وأطراف جسده البشري ، تحسس وجهه بأنامله كما لو أنه يريد التحقق اكثر من أن التعويذة اختفت عنه ، ، وأنه لم يكن يحلم في تلك اللحظة هتف :
- لقد عاد جسدي !!
لم يهتم الحكيم لجسده العاري والذي بات منظره يشبه جسد سلحفاة عجوز خرجت للتو من صدفتها ، بل راح يرقص سعيداً في الغرفة محتفلاً بإلغاء التعويذة ، أما عاصف وسرابي وإكليل فإنهم من شدة الفرح جعلوا يشاركونه الرقص احتفالًا بعودته للحياة !!

9
.......
« أنتهى »
« تنفيذ الحكم »

أنتهت الحرب أخيراً بأنتصار عاصف وحلفائه ولم يتبقى عليهم فقط غير اقتحام قصر مملكة أبابيل ، وخلع الملك المتحصن بساحراته المقاتلات في الداخل ..
وعلى الرغم من هيئة جبار التي أصبحت قريبة من هيئة شخص ميت ، والمنظر المخيف للرمح الذي كان مخترقاً جسده ويشتغل رأسه بنار بنفسجية ، إلا أنه أصر على الوقوف حتي آخر لحظة والمشاركة في اقتحام القصر مع المقاتلين ..
6
اعترض عاصف :
- يجب أن ترتاح يا جدي !!
- هل ظننت أنني سرابي حتى تأمرني فأطيع أمرك ؟!
- قال جبار مداعيًا، ثم أضاف بصوت جاد : لقد شاركت معك في بدء هذه الحرب وسأقوم بمشاركتك في إنهائها !!
ممتطين صهوات خيول الحرب المجنحة الضخمة اجتاز عاصف وحلفاؤه البحر متجهين نحو جزيرة الأرباب حيث المكان الذي ينتصب فيه قصر مملكة أبابيل ..
حاوطت القوات القصر من جميع الجهات، غير مكترثين بالساحرات اللائي كن يربضن فوق الأسوار العالية الارتفاع لقتل أي شخص يخطو نحو القصر خطوة واحدة ..
صاح عاصف وهو يلتفت نحو جيشه :
- أريد طاغين حياً !!
فصاحت بعده الأميرة آشاس لأتباعها الذين
لا يطيعون غيرها :
- ابن صديقنا بحر يريد طاغين حياً !!
2
وعندما تأكد من أن تعليماته وصلت لجميع أفراد الجيش ، فإنه رفع يده عالياً ثم أشار بها نحو القصر معلناً بدء عملية الاقتحام ..
استطاع حلفاؤه دخول القصر بسرعة ومن غير سقوط ضحية واحدة ، رغم المقاومة الشرسة التي أيدتها الساحرات ضدهم ..
ثم وفي غصون وقت قصير، استطاع نفر من القناطير القاء القبض على طاغين وإحضاره حياً ..
*****
وفي الساحة الخارجية الفسيحة الممتدة أمام قصر مملكة أبابيل ، والتي قام فيها طاغين سابقاً بإعدام أعيان قرية الجساسة عندما جاؤوا إليه بقيادة شيخهم همام ..
ركع الملك المخلوع تحت قدمي عاصف مهزوماً ذليلاً قزماً مثل نهاية كل خائن ..
2
فنظر الجميع نحو عاصف في انتظار أن يقوم بقتله معلناً انتهاء الحرب ..
وفعلاً كاد عاصف يقتله ولكن طاغين همس قائلاً :
- إن فعلتها فإنك لن تعرف مكان صديقك الشمالي !!
2
- هل الشمالي لا يزال حياً ؟! - تساءل عاصف بلهفة .
- وهل كنت تظن أنني قد أحرق ورقتي الأخيرة بهذه السهولة ؟!
- أخبرني أين هو ؟!
- أخبرني أنت أولاً ما الذي قد تدفعه لي مقابل ذلك ؟!
- أي شيء - ثم أضاف متردداً : ولكن إياك أن تفكر بالحياة !!
- افعلها وخلصني إذاً ، فلن تعرف مكانه قبل أن تعطيني وعداً بالحياة
- لقد طلبت ثمناً باهظاً - صاح عليه وهو يهزه من ثيابه .
- وصديقك الشمالي يستحق - قال ببرود ، وأضاف بفحيح هامس : - ما رأيك يا ابن جومانا حياة مقابل حياة أليس هذا عادل ؟!
بدأ عاصف أنه كان يفكر بالأمر بجدية الشيء الذي لم يعجب أبدا جده جبار ، فقال بحزم : اقتله
رفع يده وأشار بها نحو أصدقائه – إكليل والحكيم وسرابي - ثم قال : - لو قمت بقتله يا جدي فإني لن أستطيع أن أرفع رأسي في وجوه هؤلاء أبداً !!
- هل تتركه حياً بعد الذي فعله بنا ؟!
- أعرف أنه ضرب من الجنون - تمتم بشرود - وأننا في هذه الحرب خسرنا الكثير بسببه ولكنني حتى أجد صديقي الشمالي فأنا لا أملك حلاً آخر غير أن أدفع له ما يريده !!
1
تدخلت الوزيرة خيزران :
- لماذا لا نبحث عن صديقك بأنفسنا ؟!
- لن تجدوه - قال طاغين متدخلاً - ولو أن الحظ حالفكم ووجدتموه بعد سنين طويلة فإنه سيكون حينها قد أصبح هيكلاً عظمياً !!
قال عاصف وهو ينظر نحو جده :
- نحن لا نملك خياراً آخر !!
فقال جبار رافضاً :
- لن أسمح له بمغادرة هذا المكان حيًا !!
ثم تقدم نحو طاغين ليقتله غير أن عاصف وقف بوجهه: - إن حاولت قتله فإنك تحاول قتل الشمالي وهذا ما لن أسمح به !!
أصطف جيش الأباطرة خلف جبار في إعلان واضح وصريح لقيام حرب جديدة ، فتحرك أيوب والأميرة آشاس وخلفها جميع قبائل الأشاوس مصطفين خلف عاصف معلنين بذلك استعدادهم الكامل للوقوف معه، قال جبار موجهاً كلامه لأميرة القناطير :
- هل ستقفين ضدنا یا آشاس ؟!
- نحن لا ندين لكم بشيء – قالت الأميرة ، ثم أضافت : ولكننا ندين لبحر بالكثير ونحن لن نسمح لأحد أياً كان بأذية ابنه !!
2
تدخلت تارا في المنتصف بين الجيشين :
- هل ترضون بي حكماً ؟!
- لا أمانع فأنا أثق بحكمتك - قال جبار .
- وأنت ؟! - سألت وهي تنظر نحو عاصف .
- أومأ لها برأسه موافقاً
فنظرت نحو جبار وقالت بحيادة :
- فلتبدأ أنت !؟
- لقد أخذ طاغين العرش بالخيانة وأهاننا لزمن طويل قتل الكثير من أفراد عائلتنا غدراً وجعلنا طوال تلك الي السنين الفائته نعاني أنعدام الأمن والأستقرار ...
1
أنه جعلنا نسكن الغابة كحيوانات مشردة تخاف كل يوم شباك الصياد ، يكفي أنه جعلنا نسكن جوف الأرض كحشرات تخاف الموت دهساً بالحذاء إنه يستحق الموت بدون رحمة - ثم رددت الأباطرة خلف كبيرها قائلين :
- إنه يستحق الموت بدون رحمة !!
نظرت تارا نحو عاصف، وقالت :
- تكلم .
قال عاصف :
- أنه أخو تاج وهذا سبب كافي لقتله .
قالت تارا :
- إذاً فأنت تريد قتله ؟!
- بالطبع أريد ذلك فبسببه عشت زمناً طويلاً من غير أب وعاشت أمي زمناً طويلاً من غير زوجها الذي تحيه ولكن هناك فرق بين الأشياء التي تريدها ، والأشياء التي نستطيع أو لا نستطيع القيام بها
- ثم أضاف موضحاً وهو يوزع نظره بالتساوي على الجميع : - أنا أريد قتله ولكن لا أستطيع لأني إن قمت بقتله فهذا يعني أني أقوم بقتل صديقي الشمالي ثبت نظره على جده جبار وأكمل يقول :
- لقد كان الاتفاق واضحاً منذ البداية يا جدي أن أعطيك المُلك مقابل مشاركتك الحرب معي، واليوم أعطيك المُلك الذي وعدتك به أما طاغين فإنه لي أفعل به ما أشاء ..
صمتت تارا تفكر في حجة الطرفين وكان الأثنان محقين في الكلام الذي قالاه ، وربما جبار هو الأقرب للحق فطاغين يجب أن يموت ولكن ليس بسبب الأفعال التي اقترفها في الماضي فقط ، بل منعاً للكوارث التي قد يفعلها في المستقبل من أجل استعادة الملك مرة أخرى ، غير أنها في الأخير مالت لأبن صديقتها جومانا ،
3
وقالت بحزم :
- يأخذ جبار المُلك ، ويفعل عاصف بطاغين ما يشاء !!
بدأ من ملامح جبار أنه لم يوافق على الأمر،  فأستبقت الاميرة آشاس الأحداث قائلة :
- ويحك يا جبار لقد رضيت بتارا حكماً هل تريد مخالفة الحكم ؟!
قال جبار مستعيراً الكلام الذي قاله حفيده قبل قليل :
- هناك فرق بين الأشياء التي نريدها والأشياء التي نستطيع أو لا نستطيع القيام بها
1
– ثم أضاف قبل أن  يستدير ويرحل :
- أنا أريد مخالفة الحكم ولكنني لا أستطيع .. ليس ضعفاً بل لأنني لم أعتد أن أقول كلاماً ثم أرجع فيه !!
نظر عاصف نحو طاغين وقال :
- أنا أعطيك وعداً بالحياة مقابل أن تعيد لي صديقي الشمالي !!
1
ابتسم طاعين ولمعت عيناه بخبث :
- هذا هو العدل - قال .
قادهم طاغين عبر الأنفاق والسراديب ، والممرات السرية والتي قامت بحفرها له الساحرات - فيما مضى - باستخدام التعاويذ البالغة الخطورة والتي كانت بالتأكيد سوف تتسبب بمقتل أي شخص يحاول العبور منها دون أن يكون ملماً بالكمائن والفخاخ المزروعة فيها ..
توقف طاغين بهم أخيراً عند زنزانة لا تتسع لأكثر من شخص واحد كان يجلس متربعاً في منتصفها شاب هزيل يرتدي ثيابا بيضاء واسعة متسخة ، وقد بدا عليه الجوع والعطش والإرهاق وأثار تعذيب ورغم ذلك إلا أنه كان هادئاً هو يغمض عينيه ويبتسم كما لو أنه يراقب وردة تتفتح ..
+
- أيها الشمالي- همس الأصدقاء له .
ابتسم وهو لا يزال مغمض عينيه ثم قال شيئاً غريباً :
- لقد وجدت الرب !!
8
.......
«أنتهى»
« الغدر »

لم تدم فترة حكم الملك جبار كثيراً فقد تدهورت حالته الصحية لمستويات منخفضة جداً ، وذلك بعد ان اجتمع أطباء الجن من أقاصي الأرض وقرروا إخضاعه لعملية جراحية طارئة يقومون فيها بنزع الرمح السحري الأسود ذي الرأس المشتعل بلهب بنفسجي من جسده ..
3
في البداية اعترض الحكيم على ذلك القرار قائماً بأنه قرأ في أحد الكتب في القديمة كلاماً مفاده أن ذلك الرمح السحري لا يبدأ مفعوله إلا بعد أن يقو أحدهم بانتزاعه من جسد المصاب به ...
ولكن رئيس أطباء الجن وهو جن طاعن في السن اسمه نوار تصدى للحكيم :
- أنتم بنو البشر تحبون حشر أنوفكم الطويلة في الأشياء التي لا تفهمو فيها.
2
لم يكن الوقت مناسباً للرد ..
لذلك نظر الحكيم نحو جبار وقال :
- لا تدعهم ينتزعون ذلك الرمح من جسدك - ثم أضاف بنبرة توسل : أرجوك !!
قال رئيس أطباء الجن متدخلاً :
-هذا أمر لا يعنيك .
- سلامة الملك أمر يعني الجميع - رد عليه الحكيم من غير أن يلتفت .
- اسمعني أيها البشري الفضولي مهما بلغت بك الأمور فإن سلامة الملك لن تهمك كما تهمنا، فنحن أبناء جنسه أما أنت لا واهتمامك كله مبني لمصلحة – ثم أضاف نوار مؤكداً : المصلحة فقط ...
2
- هل أنهيت كلامك ؟! - قال ملتفتاً إليه .
- هو ذاك
- إذا اسمعني أيها الجني الأبله ، لقد خضنا معاً في الأيام الماضية حرباً مستحيلة كدنا جميعنا نفقد أرواحنا فيها ..
قاتلنا إلى جوار بعض بكل قوة حتى انتزعنا النصر من بين أنياب الهزيمة لقد حدث ذلك حين كنت والحمقى الذين معك تحكون مؤخراتكم في بيوتكم آمنين فلا تحاول أن تهتم بشأن جبار أكثر مني !!
وعندما اشتد الحوار بينهما كان لزاماً على الملك أن يتدخل:
أيها الحكيم - ثم تابع بصوت واهن : فلن أبقى طوال عمري أحمل هذا الرمح في جسدي .
- سنجد لك حلاً ولكن دعنا ننتظر لبعض الوقت !!
تدخل نوار ساخراً :
- نجد له حلاً في كتبكم القديمة التي لا تصلح لشيء ؟!
2
- بل عند قبائل الأشاوس فقد وصلوا المراحل متقدمة من العــــ ...
قاطعه جبار :
- إنهم يعتبرون أنفسهم خارج حكمي وأنا لن أطلب منهم شيئاً .
- هذا ليس وقت الكبرياء !! - صاح .
قال رئيس أطباء الجن مبديًا استياءه :
- عجبي لا ينتهي كيف ترفع صوتك بوجه الملك ؟!
نظر الحكيم نحو جبار محاولاً إقناعه :
- لن تخسر شيئاً لو أننا طلبنا منهم المساعدة !!
شعر الأطباء ومعهم رئيسهم بالإهانة ، فقالوا :
- نطلب من جلالتكم أن تختار بيننا وبين هذا البشري الجاهل !!
فهمس جبار للحكيم بلطف :
- أشكر لك اهتمامك ولكن دعهم يفعلوا ما يرونه مناسبًا !!
صاح الحكيم مقهوراً :
- إنهم أبقار لا يفهمون شيئاً يا جبار !!
2
قاطعه الملك بحدة :
- أيها الحكيم أنت تنسى كثيرا من أكون !!
- اسف - قال وهو يخفض رأسه معتذراً .
- لا بأس ، انصرف الآن ودعهم يكملوا عملهم !!
تمتم في أذن نوار قبل أن ينصرف :
سأقتلك بحذائي إن حدث شيء لجلالته !!
8
*****
كان كبراء الأباطرة مجتمعين في مجلس الحكم ، عندما جاءهم رئيس أطباء الجن نوار ليعلن لهم أنه سوف يبدأ هو وفريقه بإجراء عملية انتزاع الرمح ..
طلبت منه الوزيرة خيزران الحضور معهم، ولكن نوار أكد لها أن حضورها لن يكون ضرورياً وأنها قد تشاهد هناك أشياء سوف تتمنى  لاحقاً لو أنها لم تشاهدها
2
- ريما تكون محقاً – قالت خيزران، وأضافت بحزن :
- فأنا لن أتحمل رؤية سيدي وهو بين الحياة والموت !!
- هذا ما قصدته – قال بأدب .
  تكلم أحد كبراء عائلة الأباطرة وكان اسمه بركام :
- هل هناك ما نستطيع تقديمه لكي نضمن سلامة الملك ؟!
- الهدوء يا سيد بركام - قال بوجه خاشع - أطلب منكم ومن الجميع الموجودين في القصر إلتزام الهدوء التام ريثما ننهي عملنا ، فنحن في حاجة لأكبر قدر من التركيز ولا نريد لأي شيء أن يتسبب في تشتيت انتباهنا !!
1
فقالت الوزيرة خيزران وهي تنصرف :
- سأتكفل أنا بذلك !!
- أيتها الوزيرة – أوقفها نوار قبل أن تذهب
- ماذا هناك - تساءلت .
قال بنبرة صادقة :
- تمني لنا حظاً موفقاً
أومأت له خيزران بحزن وقالت :
- ابذلوا كل ما تستطيعون
*****
في إحدى القاعات الفسيحة للقصر الملكي والبعيدة جداً عن احتمال حدوث أي صخب ممكن الوقوع ، كان الملك جبار ممدداً فوق سرير مريح ، يتنفس بعمق هواء مملكة أبابيل المتسلل مع أشعة الشمس عبر النوافذ الطويلة المفتوحة .. تحلق أطباء الجن حوله بالقلق الطبيعي الذي يسبق قيام أي عملية خطيرة ..
اقترب نوار منه واستأذن بأدب :
- جلالتك ؟!
حرك جبار رأسه آذناً له بالكلام
- سوف نحقن جسدك بمادة ستفقدك الوعي لبعض الوقت
- لا داعي لذلك أستطيع تحمل الألم
فأجاب هامساً وهو يقترب من الملك خطوة إضافية :
- غيابك عن الوعي سوف يساعدنا في أداء عملنا بشكل أفضل ، فلن يستطيع الأطباء العمل تحت وطأة نظراتك لهم ..
9
فكر الملك قليلاً ثم قال متفهماً :
- وهل سأغيب كثيراً ؟!
- إلى أن ننجح في استخراج الرمح من جسدك فقط .
لا بأس - قال واهياً لهم الإذن في بدء عملهم .
وبعد أن حقنوه بالمادة المخدرة انتظروا قليلاً حتى اطمأنوا إلى أنه فقد للوعي تماماً وأنه لم يعد يشعر بالأشياء التي تدور حوله ، بعد ذلك أغلقوا للنوافذ وأسدلوا الستائر وأوصدوا الباب بالمزلاج ليطمئنوا أكثر إلى أن أحداً يفاجئهم وهم في وسط عملهم ، ثم أشعلوا الكثير من الشموع في أرجاء القاعة لتوفير إضاءة جيدة ، وعندما أصبح الجو مهيئاً للعمل فإن رئيس أطباء الجن
همس قائلاً :
3
- افتحوا السرداب
ذهب نفر من الجن لنقطة محددة بعلامة سرية في أحد حيطان تلك القاعة وقاموا بالطرق عليها سبع مرات ، بعد ذلك اهتز الحائط ثم أنقسم لقسمين ليخرج منه شخص ما يخفي رأسه بغطاء ولا يظهر من ملامح وجهه شيء إلا عيناه الزرقاوان ..
6
قال وهو يتقدم نحو الملك الممد فوق
السرير والفاقد للوعي :
- كيف سارت الأمور؟!
رد علیه نوار :
- كاد الحكيم أن يعطل خطتنا ويقنعه بالاستعانة بقبائل الأشاوس !!
5
- لا تهتم لذلك المعتوه - قال ذلك الشخص، ثم أردف : اعملوا الآن على التخلص من جبار أولاً ، فهو الشيء الوحيد الذي قد يفسد علينا خطتنا القادمة ..
- نقتله ؟! - سأل رئيس أطباء الجن .
أجاب ذلك الشخص :
- لا فحينها سيبدو الأمر كما لو أنه خطة مديرة .
- ماذا نفعل إذاً ؟!
- دعوه يمت ببطء فنحن لسنا في عجلة من أمرنا - ثم أضاف ساخراً : كما أنني أتوق شوقاً لمعرفة من سيختار جبار لولاية عرش أبابيل من بعده، وإذا قتلناه الآن فإنه سوف يفوتنا معرفة ذلك !!
- أمرك - قال رئيس أطباء الجن وهو يحني رأسه .
استدار ذلك الشخص وسار عائداً للمكان الذي جاء منه وهو يتمتم : ربما أملك جيشاً أواجه به الأباطرة ولكن القتال ليس الوسيلة الوحيدة للإنتصار .
- متى تعطينا ما وعدتنا به يا سيدي ؟!
عندما أستعيد المُلك يا نوار .. عندما أستعيد المُلك !!
1
- وكيف سوف تستعيده وأنت لا تملك جيشاً ؟!
- بالحب قال طاغين ذلك بابتسامة خبيثة ومن غير أن يفسر معني كلامه ثم دفع بجسده مغادراً من السرداب السحري والذي كان ضمن الأنفاق السراديب والممرات السرية التي لا يعلم أحد بوجودها والتي حفرتها له الساحرات في القصر عندما كان ملكاً ، وغاب عن بال عائلة الأباطرة الملكية لاحقاً أن تفتش عنها بسبب المصيبة التي يمر بها كبيرهم جبار ..
15
*****
بعد ساعات طويلة أعلن الأطباء أنهم استطاعوا انتزاع الرمح ولكن ولسوء الحظ انتشر السحر في جسد الملك بطريقة لم يتمكنوا من إيقافها ، كما صرح نوار بأنه يشعر بالكثير من الندم لأنه لم يستمع لكلام الحكيم عندما نصحهم بالتمهل وعدم الاستعجال ، كما أخبرهم بحزن شديد أن الملك جبار لن يكون في مقدوره أن يعيش لأكثر من ثلاثة أيام ..
لاحقاً عندما أفاق جبار من غيبوبته ونقلوا إليه الخبر لم يجزع كثيراً أو يحزن بل كان متماسكاً وثابتاً كما لو أن ذلك الأمر لا يعنيه ، كل ما فعله تلك أن أصدر أمراً باجتماع عاجل في يوم الغد لكبراء عائلة الأباطرة ، وطالب بحضور عاصف وأصدقائه الاجتماع ..

1
.......
« أنتهى »
« زوجاً .. وزوجة »

في صباح اليوم التالي كان كبراء عائلة الأباطرة بالإضافة للوزيرة خيزران وعاصف وسرابي وإكليل والحكيم والشمالي ، جميعهم متحلقين بشكل دائري منتظم تاركين مسافة خمسة أمتار بينهم وبين الملك الممدد فوق السرير والذي كان يستعد للفظ أنفاسه الأخيرة :
- ما يعزيني هو أنني سأموت وأنا مطمئن بأن مملكتي وشعبي وعائلتي بخير - ثم التفت نحو عاصف وأضاف معاتباً : غير أني كنت سأكون أكثر اطمئناناً لو أنك قتلت طاغين ..
أقترب عاصف حتى جلس عند رأسه ، وهمس بنبرة صوت معتذرة : - كان موته يا جدي يعني خسارة الشمالي - ثم أضاف ليطمئنه : كما أن طاغين لم يعد لديه جيش يقاتلنا به ، وما عاد وجوده خطراً علينا
متجاهلاً ذلك الكلام ، همس جبار بلهجة مترددة تشي بقلقه : - أنت لا تعرف طاغين – ثم أردف متمتماً :
- ليتك قتلته .
2
لم يجادل الحفيد في الأمر أكثر ، كل ما فعله هو أنه امسك بيده الضخمة وكأنه كان يريد أن يتشبث به لكي لا يستطيع الموت أخذه للعالم الآخر ..
نظر جبار في وجوه كبراء العائلة فرداً فرداً ثم مرر بصره نحو الحكيم ، وإكليل ، والشمالي ، وابتسم بشيء من اللطف وهو ينظر باتجاه سرابي ، وأخيراً رما ببصره على وجه الوزيرة خيزران و قال :
- أعرف أن لديك ما تقولينه .
قالت متلعثمة :
- سأشتاق إليك كثيراً يا سيدي .
1
- أوه يا عزيزتي خيران وأنا سأشتاق إليكم أيضاً - قال جبار بشجن ثم أضاف : ولكن ليس هذا ما كنت تريدين قوله أليس كذلك ؟!
1
مضغت الوزيرة خيزران ريقاً من الخجل وقالت :
- جرت العادة أن ينصب الملك ولياً لعرشه حتى إذا - ثم صمتت الوزيرة خيزران وكأن الكلام خانها في تلك اللحظة ، فأكمل جبار الحديث عنها قائلاً : حتى إذا مات تولى نائبه الملك من بعده ، أليس هذا ما كنت تريدين قوله ؟!
أومات خيزران برأسها موافقة .
1
- وهذا ما طلبت الاجتماع بكم من أجله قال ذلك ثم أعاد مرة أخرى النظر في وجوه كبراء العائلة وكأنه في تلك اللحظة يختار الأصلح لكي يصبح من بعده ملكاً ، إنه يثق بأنه يستطيع انتقاء أي احد منهم لقيادة المرحلة القادمة وهو مطمئن على أن حبيبته أبابيل ستكون بخير ،
قال بنبرة جادة :
- لم يحدث أن عصامي أحد منكم من قبل ولا أرغب في يعصيني أحد منكم في رغبتي الأخيرة هذه .
لم يتكلم منهم أحد وكأنهم بصمتهم ذلك يعاهدونه على عدم عصيان رغبته الأخيرة ..
ثم ومن دون مقدمات وبطريقة تشبه عادات القدر في إنزال الأحكام الغير متوقعة ، نظر الملك جبار فجأة نحو عاصف وقال :
- أنت - ثم أردف بحزم : ستكون الملك !!
أصيب الجميع بالدهشة لسماعهم ذلك القرار فعاصف هو آخر شخص كان من الممكن أن يتم اختياره ملكاً قادماً لأبابيل ..
فبالإضافة لكونه مخلوقاً هجيناً ــ وهذا يعني أنه ليس شخص  ينتمي بشكل كامل لعائلة الأباطرة الملكية -
فهو طائش ومندفع و متهور للغاية ..
3
غير أن جبار كان يرى فيه شيئاً آخر قال :
- أريدك أن تعتبر الشعب أصدقاءك يا عاصف أن تحميهم بكل قلبك من أي خطر قد يواجهونه في المستقبل تماماً مثل ما كنت طوال الوقت وتحمي إكليل والحكيم في المعركة ، مثل ما قذفت بنفسك للموت من أجلي، مثل ما
تنازلت عن قتل طاغين لكي تضمن سلامة صديقك الشمالي ، مثل ما تحب سرابي وتخاف عليها أريدك أن تحب أبابيل وتحب شعبها .
- ولكني يا جدي أنا لا أصلح أن أكون الملك !!
- الذي يعرف كيف يكون صديقاً جيداً ، سيكون ملكاً رائعاً !!
4
لم يعلق عاصف فقال جبار :
- هذا آخر طلب يطلبه منك جدك العجوز أيها الولد .
صمت عاصف دليلاً على موافقته بينها أكمل جبار كما لو أنه يوصيه : - أريد منك وعداً بأن تحافظ على هذه الأرض وتؤمن للجميع الرخاء والسلام والازدهار !!
وضع يده على قلبه كما فعل أمام فيروز حين وعدها بحماية ابنتها : - أعدك بأن أحافظ على هذه الأرض ، وأن أؤمن للجميع الرخاء والسلام والازدهار.
نظر جبار لكبراء العائلة وقال :
- أريد أن أسمع منكم بأنكم قبلتموه ملكاً حتى أغادر وأنا مطمئن ..
رغم الحيرة التي ما زالت في نفوسهم ، إلا أن كبراء العائلة لم يعصوا الأمر الأخير لكبيرهم، وأعطوا لعاصف «قسم ملوك أبابيل» السمع والطاعة الرخاء والشدة ، في العدل والظلم ، في السلم والحرب ، في الوفاء والخيانة ، في الحياة والموت !!
*****
بعد أن انتهت مراسم تنصيب الملك الجديد ، فإن جبار طلب من حفيده أن يقترب كما لو أنه يريد إخباره بسر خطير :
- لو عاد الزمان للوراء يا عاصف لكنت في الحقيقة سأحمي ابنتي جومانا من الأخطار بكل قوتي - ثم أضاف بغصة : أتعلم ؟! لا شيء أشد رعبًا من أن تتظاهر بالثبات ، بينما داخلك يتحطم قطعة قطعة لقد بكيت كثيراً عندما وصلني خبر موتها، لكن بصفتي كبير العائلة فإني احترمت القانون وتظاهرت بأن لا شيء حدث !!
9
صمت قليلاً للحد الذي أعتقد معه عاصف بأن جده أنهي كلامه، ولكن جبار لم ينتهي وأكمل معترفاً : أقسمت بيني وبين نفسي أن أثأر لها عندما أعرف الفاعل وتحين الفرصة، لذلك عندما قامت تارا بإخباري في ساحة المعركة بالحقيقة أعطيتكما الإذن يقتل تاج ..
- هل ما زلت تحب جومانا يا جدي ؟! - سأله بطريقة مباغتة .
فأجاب بصراحة تليق باللحظات الأخيرة لشخص مثله :
- عندما سألتني سابقاً أمام كبراء العائلة إذا ما كنت أحب جومانا أم لا ، قلت لك «لا» حتى لا أثير حفيظتهم بينما في الحقيقة كنت أقصد ألف ألف نعم !!
8

أصاب الذهول قلب عاصف عندما سمع تلك الإجابة التي تشبه تماماً ، آخر شيء قالته جومانا له قبل أن تغمض عينيها وتموت ، كان حينها طفلًا خائفاً ..
ولفرط ما كان يرفض فكرة أن تذهب أمه وتتركه وحيداً في هذا العالم المخيف ، فإنه لم يستوعب خبر موتها وذهب ليجلب للحكيم كل النقود التي يملكونها في ذلك الوقت من أجل أن يشفيها من الموت واليوم يصبح ذلك الطفل التائه المشرد المكسور ملكاً لأبابيل ..
ولكن الأمر الأكثر خطورة من كل ذلك هو أنه للتو فقط أدرك بأن كل الأحداث التي وقعت معه منذ ولادته وحتى اليوم كان يعرفها سلفاً فقد طالعها
حرفاً حرفاً ، كلمة كلمة ، سطراً سطراً ، حدثاً حدثاً وذلك عندما كان طفلا يحدق بخشوع راهب في العينين البندقيتين اللون لوالدته وهو يقرأ فيها البداية والنهاية !!
- أنتِ أيضاً اقتربي .
- قال جبار وهو ينظر باتجاه سرابي ، اقتربت منه مثلما
طلب منها :
- ربما كنتِ محقة فيما قلته تلك المرة ..
لقد أخطأنا بحق جومانا كثيراً عندما تخلينا عنها .. فالحب شيء لا تملك سلطة منعه أو حدوثه ثم قال مردداً كلامها :
إنه كالمطر ولا أحد يستطيع إيقاف المطر !!
ابتسمت لسماعها ذلك الكلام بينما أكمل جبار لها قائلاً :
- لا أعلم إن كان ما سأفعله بعد قليل سيكون صحيحاً أم لا ، ولكنني واثق أنه سيغضب الكثير من كبراء عائلة الأباطرة ، غير أننا يجب علينا تصحيح أخطائنا عندما تتيح لنا الأقدار فرصة تصحيحها ، أليس كذلك يا سرابي ؟!
أومأت برأسها وهي تضم يديها بخجل وحزن ، بينما أثارت تلك الكلمات التي قالها جبار الفضول في نفوس الجميع وباتوا يتساءلون فيما بينهم وبهمس خافت عن الشيء الذي سيفعله الملك ..
قال جبار وهو ينظر لعاصف :
- ضع يدك في يدها .. اقترب عاصف من سرابي وأمسك يدها ..
حاول الملك جبار أن يستوي في جلسته كما لو أنه يعلن احترامه للشيء الذي هو بصدد القيام به ، أخذ نفساً عميقاً وصمت لبعض الوقت حتى يضفي للمشهد هيبته ..
هو لا يعرف الصيغة الصحيحة ولا الكلمات المنمقة والتي
يجب أن تقال في مثل هذه المناسبات، لذلك فإنه قال بشكل مباشر جداً ومختصر
- أعلنكما زوجاً وزوجة !!
30
أغضب ذلك الأمر كبراء العائلة فقد كانوا يتوقعون أن يتزوج ملكهم القادم واحدة من فتياتهم للحفاظ على السلالة الملكية داخل عائلة الأباطرة ولكن ها هو جبار يكسر القانون بشكل لا يمكن إصلاحه ويعلن زواج حفيده الملك القادم من مخلوقة بشرية عادية ، كما لو أنه بذلك الفعل أراد أن يكفر عن خطأه السابق عندما لم يكسر القانون ووافق على التخلي عن ابنته جومانا عندما قررت الزواج من بحر ..
ثم وحين لمح الاعتراض بادياً في وجوهه كبراء الأباطرة ، فإنه قال :
« لا قوانين تقف أمام سطوة الحب » ..
13
لقد فعل جبار أشياء كثيرة في حياته تدعو للفخر غير أن مباركته لزواج عاصف وسرابي - المخلوقين المختلفين واللذين يحب كل واحد منهما الآخر - كانت هي أكثر الأشياء التي سيفخر بأنه فعلها قبل أن يغادر الحياة ...
نظر أخيراً نحو حفيده باحترام شديد وقال مستأذناً بجدية : - والآن اسمح لي بالانصراف يا مولاي الملك عاصف
1
- وأغمض عينية إلى الأبد ..
31
.......
« أنتهى »
« النهاية »

« بعد سنة واحدة »
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لم تكن طفلة عادية أبداً فهي لم تخرج من رحم والدتها باكية مثل بقية المواليد ، بل خرجت صامتة تقلب بصرها في الأشياء مدهوشة ، كما لو أنها تفاجأت بوجود كوكب آخر غير الكوكب المظلم الضيق الذي كانت تعيش فيه ..
4
حملها عاصف بين يديه برفق ولم يكن بعد قد لاحظ فيها شيئاً يثير الدهشة أو الغرابة ، ولكنه عندما ضمها إليه ليضع قبلته عليها أكتشف المفاجأة ..
حيث كانت رائحة الياسمين هناك في انتظاره عالقة على جسد طفلته الملطخ بدماء الولادة ، وعندما قرب وجهها أكثر من مجال أشعة الشمس كانت دهشته أعظم وأعظم عندما شاهد بريق عينيها البندقيتي اللون ..
- ما بك ؟! - سألت سرابي المتعبة .
- لا ، لا شيء ، لا شيء ..
هذا ما قاله شارداً وهو يدقق النظر بعمق في تفاصيل وجه الطفلة كما لو أنه جواهرجي عتيق يتفحص بالعدسة المكبرة حجراً ثميناً عليه ..
1
تمتم بينه وبين نفسه وهو لا يزال يحدق فيها بعدم تصديق :
- لا يمكن أن تكون هذه مجرد مصادفة .
- هل ابنتنا بها شيء ؟! - تساءلت سرابي بخوف - لقد بدأت تقلقني .
- لقد استجاب الرب دعائي - تمتم - لقد أعاد لي أمي حية .
10
عندما استنشق رائحة ابنته العابقة برائحة الياسمين وشاهد لون بريق عينيها  البندقيتين اللون ، شعر بأنه يحمل أمه جومانا بين يديه وفهم أخيراً درسه الأخير
وهو أن الرب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه مثل ما كانت والدته تقول ، ولكن  في التوقيت الصحيح :
- إنه الحقيقة الوحيدة وكل الأشياء زائفة - همس .
لقد آمن للتو بأن الرب كان هناك منذ البداية ، وبأنه الذي كان طوال مغامرته يحميه ويصد عنه الأخطار ويكتب له الحياة في كل لحظة موت وشيكة ، من أجل أن يخبره في النهاية عن أصدق قصة عرفها التاريخ :
2
« منذ وقت طويل .. طويل جداً .. كانت السماء وما زالت وستظل دائماً تجيب .. »
4

*****
ثم وبينما كانت الطفلة لا تزال ساكنة بين يدي والدها إذ وقعت عيناها على والدتها المستلقية فوق السرير الملكي ، والغارقة في عرقها اللانهائي فانتفض جسدها الصغير اللزج مثل سمكة زينة صغيرة أخرجوها للتو من حوضها المائي ..
2
زحفت سرابي على مؤخرتها بصعوبة بالغة حتى أسندت ظهرها على رأس السرير ، غطت بطرف اللحاف عري ثدييها الممثلثين بالحليب ، رفعت يديها المرتجفتين في الهواء وقالت :
7
- دعني أراها - ثم تساءلت :
-  هل هي بصحة جيدة يا عاصف ؟!
- إنها بخير - قال وهو ينحني ليضعها برفق بين يديها .
عندما أصبحت بين يدي والدتها مدت أصابعها الصغيرة نحو خصلة نافرة من شعرها البني الناعم ، وألقت عليه القبض بقوة لا تتوافر لدى طفلة في مثل عمرها ، ثم وبينما هي تمسك بخصلة شعرها النافرة تلك اذ جعلت تتدبر بصمت وخشوع راهبة في عينيها السوداوين كما لو أنها تلك اللحظة كانت تقرأ فيها البداية والنهاية ..
15

‏*****
وعندما فرش الليل عباءته على سماء مملكة أبابيل ، واختبأ القمر خلف سحب الليل الرمادية المتراكمة ليأخذ غفوته هناك من غير أن يزعجه تطفل أحد .
أغلق الملك عاصف بوابة جناحه الملكي ، أطفأ الشموع والقناديل المعلقة على الحائط  ثم اقترب من زوجته وطفلته الصغيرة « جومانا » ..
2
تمدد بجوارهما فوق السرير وجعل يحكي لهما قصة من تلك القصص التي كانت والدته قديماً ترويها له ..
وحين انتهت الحكاية اقترب من ابنته بلطف وقال لها في أذنها الشيء الذي من خلاله ستعرف في السنين القادمة أن قصة ما قبل النوم انتهت وأن موعد النوم قد حان :
- تذكري طوال عمركِ يا بنيتي أن الرب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه ثم صمت قليلاً كما لو أنه يتخيلها تسأله قائلة : «أي دعوة يا أبي ؟! » فأجاب هو وسرابي في اللحظة ذاتها ، ومن غير تخطيط مسبق :
- نعم أي دعوة !!
48
.......
1
« أنتهت القصة »

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-